بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
الكتاب: تفسير مقاتل بن سليمان المؤلف: مقاتل بن سليمان الجزء: 1 الوفاة: 150 المجموعة: مصادر التفسير عند السنة تحقيق: أحمد فريد الطبعة: الأولى سنة الطبع: 1424 - 2003م المطبعة: لبنان/ بيروت - دار الكتب العلمية الناشر: دار الكتب العلمية ردمك: ملاحظات: سورة الفاتحة بسم الله الرحمن الرحيم قال: حدثنا عبيد الله، قال: وحدثني أبي، عن الهذيل، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، قال: قال: فاتحة الكتاب مدنية. قال: حدثنا عبيد الله، قال: وحدثني أبي، عن الهذيل، عن مقاتل، عن الضحاك، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ' فاتحة الكتاب مدنية '. سورة فاتحة الكتاب سبع آيات كوفية، وهي مدنية، ويقال: مكية (1). * * تفسير سورة الفاتحة من آية [1 - 4] * (الحمد لله) * (2)، يعنى الشكر لله، * (رب العالمين) * [آية: 2]، يعني الجن والإنس، مثل قوله: * (ليكون للعالمين نذيرا) * [الفرقان: 1]، * (الرحمن الرحيم) * [آية: 3]، إسمان رفيقان، أحدهما أرق من الآخر * (الرحمن) *، يعني المترحم، * (الرحيم) *، يعني المتعطف بالرحمة، * (ملك يوم الدين) * [آية: 4]، يعني يوم الحساب، كقوله سبحانه: * (أئنا لمدينون) * [الصافات: 53]، يعني لمحاسبون، وذلك أن ملوك الدنيا يملكون في الدنيا، فأخبر سبحانه أنه لا يملك يوم القيامة أحد غيره، فذلك قوله تعالى: * (والأمر يومئذ لله) * [الانفطار: 19].
24 تفسير سورة الفاتحة من آية [5 - 7] * (إياك نعبد) *، يعني نوحد، كقوله سبحانه في المفصل: * (عابدات) * [التحريم: 5]، يعني موحدات، * (وإياك نستعين) * (1) [آية: 5] على عبادتك، * (اهدنا الصراط المستقيم) * (2) [آية: 6]، يعني دين الإسلام؛ لأن غير دين الإسلام ليس بمستقيم، وفي قراءة ابن مسعود: أرشدنا، * (صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) * (3)، يعني دلنا على طريق الذين أنعمت عليهم،
25 يعني النبيين الذين أنعم الله عليهم بالنبوة، كقوله سبحانه: * (أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين) * [مريم: 58]، * (غير المغضوب عليهم) *، يعني دلنا على دين غير اليهود الذين غضب الله عليهم، فجعل منهم القردة والخنازير، * (ولا الضالين) * [آية: 7]، يقول: ولا دين المشركين، يعني النصارى. قال: حدثنا عبيد الله، قال: حدثني أبي، عن الهذيل، عن مقاتل، عن مرثد، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ' يقول الله عز وجل: قسمت هذه السورة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: * (الحمد لله رب العالمين) *، يقول الله عز وجل: شكرني عبدي، فإذا قال: * (الرحمن الرحيم) *، يقول الله: مدحني عبدي، فإذا قال: * (مالك يوم الدين) *، يقول الله: أثنى علي عبدي، ولعبدي بقية السورة، وإذا قال: * (وإياك نستعين) *، يقول الله: هذه لعبدي إياي يستعين، وإذا قال: * (اهدنا الصراط المستقيم) *، يقول الله: فهذه لعبدي، وإذا قال: * (صراط الذين أنعمت عليهم) *، يقول الله: فهذه لعبدي، * (ولا الضالين) *، فهذه لعبدي ' (1). قال: حدثنا عبيد الله، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا الهذيل، عن مقاتل، قال: إذا قرأ أحدكم هذه السورة فبلغ خاتمتها، فقال: * (ولا الضالين) *، فليقل: آمين، فإن الملائكة تؤمن، فإن وافق تأمين الناس، غفر للقوم ما تقدم من ذنوبهم.
26 قال: حدثنا عبيد الله، قال: حدثني أبي، قال: حدثني هذيل، عن وكيع، عن منصور، عن مجاهد، قال: لما نزلت فاتحة الكتاب رن إبليس. قال: حدثنا عبيد الله، قال: حدثني أبي، عن صالح، عن وكيع، عن سفيان الثوري، عن السدى، عن عبد خير، عن علي، رضي الله عنه، في قوله عز وجل: * (سبعا من المثاني) * [الحجر: 87] قال: هي فاتحة الكتاب. * *
27 سورة البقرة سورة البقرة مدنية، وهي مائتان وثمانون آية وعشر وست آيات كوفية تفسير سورة البقرة من آية [1 - 2] * (ألم) * (1) [آية: 1] * (ذلك الكتاب) *، وذلك أن كعب بن الأشرف، وكعب بن أسيد، لما دعاهما النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، قالا: ما أنزل الله كتابا من بعد موسى، تكذيبا به، فأنزل الله عز وجل في قولهما: * (آلم (1) ذلك الكتاب) *، بمعنى هذا الكتاب الذي كفرت به اليهود، * (لا ريب فيه) 6، يعني لا شك فيه أنه من الله جاء، وهو أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم، ثم قال: هذا القرآن * (هدى) * من الضلالة * (للمتقين) * [آية: 2] من الشرك. تفسير سورة البقرة من آية [2 - 5] ثم نعتهم، فقال سبحانه: * (الذين يؤمنون بالغيب) *، يعني يؤمنون بالقرآن أنه من الله تعالى جاء، وهو أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم، فيحلون حلاله ويحرمون حرامه، ويعملون بما فيه، * (ويقيمون الصلاة) * المكتوبة الخمس، يعني يقيمون ركوعها وسوجودها في مواقيتها، * (ومما رزقناهم) * (من الأموال) * (ينفقون) * [آية: 3]، يعني الزكاة المفروضة نظيرها في لقمان، فهاتان الآيتان نزلتا في مؤمني أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين.
28 ثم ذكر مؤمني أهل التوراة، عبد الله بن سلام وأصحابه، منهم: أسيد بن زيد، وأسد بن كعب، وسلام بن قيس، وثعلبة بن عمر، وابن يامين، وأسمه سلام، فقال: * (والذين يؤمنون) *، يعني يصدقون * (بما أنزل إليك) * يا محمد من القرآن أنه من الله نزل، * (وما أنزل من قبلك) * على الأنبياء، يعني التوراة والإنجيل والزبور، * (وبالآخرة هم يوقنون) * [آية: 4]، يعني يصدقون بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال بأنه كائن، ثم جمعهم جميعا، فقال سبحانه: * (أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) * [آية: 5]. فلما سمع أبو ياسر بن أخطب اليهودي بهؤلاء الآيات، قال لأخيه جدى بن أخطب: لقد سمعت من محمد كلمات أنزلهن الله على موسى بن عمران، فقال جدى لأخيه: لا تعجل حتى تتثبت في أمره، فعمد أبو ياسر وجدى ابنا أخطب، وكعب بن الأشرف، وكعب بن أسيد، ومالك بن الضيف، وحيى بن أخطب، وسعيد بن عمرو الشاعر، وأبو لبابة بن عمرو، ورؤساء اليهود، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال جدى للنبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا القاسم، أخبرني أبو ياسر بكلمات تقولهن آنفا، فقرأهن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال جدى: صدقتم، أما * (ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) *، فنحن هم، وأما * (والذين يؤمنون بما أنزل إليك) * فهو كتابك، * (وما أنزل من قبلك) *، فهو كتابنا، * (وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) *، فأنتم هم قد آمنتم بما أنزل إليكم وإلينا، وآمنتم بالجنة والنار، فآيتان فينا وآيتان فيكم. ثم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ننشدك بالله أنها نزلت عليك من السماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ' أشهد بالله أنها نزلت علي من السماء '، فذلك قوله سبحانه في يونس: * (ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي) * [يونس: 53]، يعني ويستخبرونك أحق هو؟ قل: * (إي وربي) *، ويعني بلى وربي إنه لحق. فقال جدى: لئن كنت صادقا، فإنكم تملكون إحدى وسبعين سنة، ولقد بعث الله عز وجل في بني إسرائيل ألف نبي كلهم يخبرون عن أمتك ولم يخبرونا كم تملكون حتى أخبرتنا أنت الآن، ثم قال جدى لليهود: كيف ندخل في دين رجل منتهى ملك أمته إحدى وسبعون سنة، فقال عمر بن الخطاب، رضوان الله عليه: وما يدريك أنها إحدى وسبعون سنة؟ فقال جدى: أما ألف
29 في الحساب فواحد، واللام ثلاثون، والميم أربعون سنة، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال جدي: هل غير هذا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم ' نعم، * (المص كتاب أنزل إليك) * ' [الأعراف: 1، 2]. فقال جدي: هذه أكبر من الأولى، ولئن كنت صادقا: فإنكم تملكون مائتي سنة واثنتين وثلاثين سنة، ثم قال: هل غير هذا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ' * (الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) * ' [هود: 1]، فقال جدي: هذه أكبر من الأولى والثانية، وقد حكم وفصل، ولئن كنت صادقا، فإنكم تملكون أربعمائة سنة وثلاثا وستين سنة، فاتق الله ولا تقولن إلا حقا، فهل غير هذا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ' * (المر تلك آيات الكتاب) * ' [الرعد: 1]، فقال جدي: لئن كنت صادقا، فإنكم تملكون سبعمائة سنة وأربعا وثلاثين سنة، ثم إن جدي قال: الأن لا نؤمن بما تقول، ولقد خلطت علينا فما ندري بأي قولك نأخذ، وأيما أنزل عليك نتبع، ولقد لبست علينا حتى شككنا في قولك الأول، ولولا ذلك لاتبعناك. قال أبو ياسر: أما أنا فأشهد أن ما أنزل على أنبيائنا حق، وأنهم قد بينوا لنا ملك هذه الأمة، فإن كان محمد صادقا فيما يقول، ليجمعن له هذه السنون كلها، ثم نهضوا من عنده، فقالوا: كفرنا بقليله وكثيره، فقال جدي لعبد الله بن سلام وأصحابه: أما تعرفون الباطل فيما خلط عليكم؟ فقالوا: بلى نعرف الحق فيما يقول، فأنزل الله عز وجل في كفار اليهود بالقرآن: * (ألم الله لا إله إلا هو الحي) * الذي لا يموت، * (القيوم) * يعني القائم على كل شيء، * (نزل عليك الكتاب) * يا محمد * (بالحق) * لم ينزل باطلا، * (مصدقا لما بين يديه) *، يقول سبحانه: قرآن محمد يصدق الكتب التي كانت قبله، * (وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس) * يعني لبني إسرائيل من الضلالة، ثم قال عز وجل * (وأنزل الفرقان) * [آل عمران: 1 - 4]، يعني قرآن محمد بعد التوراة والإنجيل، يعني بالفرقان المخرج من الشبهات والضلالة، نظيرها في الأنبياء، * (ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان) * [الأنبياء: 48]، يعني المخرج. وفي البقرة * (وبينات من الهدى والفرقان) * [البقرة: 185]. * (إن الذين كفروا بآيات الله) *، اليهود كفروا بالقرآن، يعني هؤلاء النفر المسلمين وأصحابهم، * (لهم عذاب شديد والله عزيز) * في ملكه وسلطانه، * (ذو انتقام) * [آل عمران: 4] من أهل معصيته
30 وأنزلت أيضا في اليهود في هؤلاء النفر وما يحسبون من المتشابه، * (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب) * [آل عمران: 7]. فأما المحكمات، فالآيات الثلاث اللاتي في الأنعام: * (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم) *، إلى قوله سبحانه: * (لعلكم تتقون) * [الأنعام: 151 - 153]، فهن محكمات ولم ينسخهن شيء من الكتاب، وإنما سمين أم الكتاب؛ لأن تحريم هؤلاء الآيات في كل كتاب أنزله الله عز وجل. * (وأخر متشابهات) *، يعني: (آلم) * () * (آلمص) * () * (الر) * () * (المر) *، شبهوا على هؤلاء النفر من اليهود كم تملك هذه الأمة من السنين، * (فأما الذين في قلوبهم زيغ) *، يعني ميل عن الهدى، وهم هؤلاء اليهود، * (فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة) *، يعني الكفر، * (وابتغاء تأويله) *، يعني منتهى كم يملكون. يقول الله عز وجل: * (وما يعلم تأويله إلا الله) *، يعني كم تملك هذه الأمة من السنين، * (والراسخون في العلم) *، يعني عبد الله بن سلام وأصحابه، * (يقولون آمنا به)، يعني بالقرآن كله، * (كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب) * [آل عمران: 7] يعني من كان له لب أو عقل. ثم قال ابن صلام وأصحابه: * (ربنا لا تزغ قلوبنا) * كما أزغت قلوب اليهود * (بعد إذ هديتنا) * إلى الإسلام، * (وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب) * [آل عمران: 8]. فآيتان من أول هذه السورة نزلتا في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين والأنصار والآيتان اللتان تليانهما نزلتا في مشركي العرب، وثلاث عشرة آية في المنافقين من أهل التوراة تفسير سورة البقرة من آية [6 - 7] * (إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) * [آية: 6]
31 يعني لا يصدقون، (* (ختم الله على قلوبهم) *، يعني طبع الله على قلوبهم، فهم لا يعقلون الهدى، * (وعلى سمعهم) *، يعني آذانهم، فلا يسمعون الهدى، * (وعلى أبصارهم غشاوة) *، يعني غطاء فلا يبصرون الهدى، * (ولهم عذاب عظيم) *، [آية: 7]، يعني وافر لا انقطاع له. نزلت هاتان الآيتان في مشركي العرب، منهم: شيبة وعتبة ابنا ربيعة، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام، اسمه عمرو، وعبد الله بن أبي أمية، وأمية بن خلف، وعمرو بن وهب، والعاص بن وائل، والحارث بن عمرو، والنضر بن الحارث، وعدي بن مطعم بن عدي، وعامر بن خالد، أبو البحتري بن هشام. تفسير سورة البقرة من آية [8 - 9] ثم رجع إلى المنافقين، فقال عز وجل: * (ومن الناس من يقول ءامنا بالله وباليوم الآخر) *، يعني صدقنا بالله بأنه واحد لا شريك له، وصدقنا بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال بأنه كائن، فكذبهم الله عز وجل، فقال: * (وما هم بمؤمنين) * [آية: 8]، يعني بمصدقين بالتوحيد ولا بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال. * (يخادعون الله) * حين أظهروا الإيمان بمحمد، وأسروا التكذيب، * (والذين ءامنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون) * [آية: 9]، نزلت في منافقي أهل الكتاب اليهود، منهم: عبد الله بن أبي بن سلول، وجد بن قيس، والحارث بن عمرو، ومغيث بن قشير، وعمرو بن زيد، فخدهم الله في الآخرة حين يقول في سورة الحديث * (ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا) * [الحديد: 13]، فقال لهم استهزاء بهم كما استهزؤوا في الدنيا بالمؤمنين حين قالوا: آمنا وليسوا بمؤمنين، وذلك قوله عز وجل: * (إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم) * [النساء: 142]، أيضا على الصراط حين يقال لهم: * (ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا) *
32 تفسير سورة البقرة من آية [10 - 11] * (في قلوبهم مرض) *، يعني الشك وبمحمد، نظيرها في سورة محمد: * (أم حسب الذين في قلوبهم مرض) * [محمد: 29] يعني الشك. * (فزادهم الله مرضا) *، يعني شكا في قلوبهم، * (ولهم عذاب أليم) *، يعني وجيع في الآخرة، * (بما كانوا يكذبون) * [آية: 10] لقولهم: * (آمنا بالله وباليوم الآخر) *، وذلك أن عبد الله بن أبي المنافق قال لأصحابه: انظروا إلي وإلى ما أصنع، فتعلموا مني وانظروا دفعي في هؤلاء القوم كيف أدفعهم عن نفسي وعنكم، فقال أصحابه: أنت سيدنا ومعلمنا، ولولا أنت لم نستطع أن نجتمع مع هؤلاء، فقال عبد الله بن أبي لأبي بكر الصديق وأخذ بيده: مرحبا بسيد بني تميم بن مرة، ثاني اثنين، وصاحبه في الغار وصفيه من أمته، الباذل نفسه وماله. ثم أخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال: مرحبا بسيد بني عدي بن كعب، القوي في أمر الله، الباذل نفسه وماله، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب، فقال: مرحبا بسيد بني هاشم، غير رجل واحد اختصه الله بالنبوة لما علم من صدق نيته ويقينه، فقال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: ويحك يا ابن أبي، اتق الله ولا تنافق، وأصلح ولا تفسد، فإن المنافق شر خليقة الله، وأخبثهم خبثا، وأكثرهم غشا، فقال عبد الله بن أبي بن سلول: يا عمر مهلا: فوالله لقد آمنت كإيمانكم، وشهدت كشهادتكم، فافترقوا على ذلك. فانطلق أبو بكر وعمر وعلي، رحمة الله عليهم، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبروه بالذي قاله عبد الله، فأنزل الله عز وجل على نبيه: * (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين) *، * (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض) *، يعني لا تعملوا في الأرض بالمعاصي، * (قالوا إنما نحن مصلحون) * [آية: 11]، يعني مطيعين. تفسير سورة البقرة من آية [12 - 13]
33 يقول الله سبحانه: * (ألا إنهم هم المفسدون) *، يعني العاصين، * (ولكن لا يشعرون) * [آية: 12] بأنهم مفسدون، * (وإذا قيل لهم ءامنوا كما ءامن الناس) * نزلت في منذر بن معاذ، وأبي لبابة، ومعاذ بن جبل، وأسيد، قالوا لليهود: صدقوا بمحمد إنه نبي، كما صدق به عبد الله بن سلام وأصحابه، فقالت اليهود: * (قالوا أنؤمن) *، يعني نصدق، * (كما ءامن السفهاء) *، يعني الجهال، يعنون عبد الله بن سلام وأصحابه، يقول الله عز وجل ردا عليهم: * (ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون) * [آية: 13] بأنهم السفهاء. تفسير سورة البقرة من آية [14 - 15] ثم أخبر عنهم، فقال سبحانه: * (وإذا لقوا الذين ءامنوا) *، يعني صدقوا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، * (قالوا) * لهم: * (ءامنا) * صدقنا بمحمد، * (وإذا خلوا إلى شياطينهم) *، يعني رؤساء اليهود: كعب بن الأشرف وأصحابه، * (قالوا) * لهم: * (إنا معكم) * على دينكم، * (إنما نحن مستهزءون) * [آية: 14] بمحمد وأصحابه، فقال الله سبحانه: * (الله يستهزئ بهم) * في الآخرة إذا ضرب بينهم وبين المؤمنين بسور له باب على الصراط، فيبقون في الظلمة حتى يقال لهم: * (ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا) * [الحديد: 13] فهذا من الاستهزاء بهم، ثم قال سبحانه: * (ويمدهم) * ويلجهم * (في طغيانهم يعمهون) * [آية: 15]، يعني في ضلالتهم يترددون. تفسير سورة البقرة آية [16] ثم نعتهم، فقال سبحانه: * (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى) 6، وذلك أن اليهود وجدوا نعت محمد النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة قبل أن يبعث، فآمنوا به وظنوا أنه من ولد إسحاق، عليه السلام، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم من العرب من ولد إسماعيل، عليه
34 السلام، كفروا به حسدا، واشتروا الضلالة بالهدى، يقول: باعوا الهدى الذي كانوا فيه من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث، بالضلالة التي دخلوا فيها بعدما بعث من تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم فبئس التجارة، فذلك قوله سبحانه: * (فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين) * [آية: 16] من الضلالة. تفسير سورة البقرة آية [17] ثم ضرب الله للمنافقين مثلا، فقال عز وجل: * (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله) * طفئت ناره، يقول الله عز وجل: مثل المنافق إذا تكلم بالإيمان كان له نور بمنزلة المستوقد نارا يمشي بضوئها ما دامت ناره تتقد، فإذا ترك الإيمان كان في ظلمة كظلمة من طفئت ناره، فقام لا يهتدي ولا يبصر، فذلك قوله سبحانه: * (ذهب الله بنورهم) *، يعني بإيمانهم، نظيرها في سورة النور: * (ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور) * [النور: 40]، يعني به الإيمان، وقال سبحانه في الأنعام: * (وجعلنا له نورا يمشي به في الناس) * [الأنعام: 122]، يعني يهتدي به الذين تكلموا به، * (وتركهم في ظلمات) *، يعني الشرك، * (لا يبصرون) * [آية: 17] الهدى. تفسير سورة البقرة من آية [18 - 19] ثم نعتهم، فقال سبحانه: * (صم) * لا يسمعون، يعني لا يعقلون، * (بكم) * خرس لا يتكلمون بالهدى، * (عمي) 6 فهم لا يبصرون الهدى حين ذهب الله بنورهم، يعني بإيمانهم، * (فهم لا يرجعون) * [آية: 18] عن الضلالة إلى الهدى، ثم ضرب للمنافقين مثلا، فقال سبحانه: * (أو كصيب من السماء) *، يعني المطر، * (فيه ظلمات ورعد وبرق) * مثل المطر مثل القرآن، كما أن المطر حياة الناس، فكذلك القرآن حياة لمن آمن به، ومثل الظلمات، يعني الكافر بالقرآن، يعني الضلالة التي هم فيها، ومثل الرعد ما خوفوا به من الوعيد في القرآن، ومثل البرق الذي في المطر مثل الإيمان، وهو النور الذي في القرآن، * (يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق) *، يقول: مثل المنافق إذا سمع القرآن، فصهم أذنيه كراهية للقرآن، كمثل الذي جعل أصبعيه في أذنيه من شدة الصواعق، * (حذر الموت) *، يعني مخافة الموت، يقول: كما كره الموت من الصاعقة، فكذلك
35 يكره الكافر القرآن، فالموت خير له من الكفر بالله عز وجل والقرآن، * (والله محيط بالكافرين) * [آية: 19]، يعني أحاطه علمه بالكافرين. تفسير سورة البقرة آية [20] ثم قال سبحانه: * (يكاد البرق) * الذي في المطر * (يخطف أبصارهم) *، يعني يذهب بأبصارهم من شدة نوره، يقول سبحانه: مثل الإيمان إذا تكلم به المنافق مثل نور البرق الذي يكاد أن يذهب بأبصارهم، * (كلما أضاء لهم) * البرق * (مشوا فيه) *، يقول: كلما تكلموا يالإيمان مضوا فيه، يقول: ويضئ لهم نورا يهتدون به، * (وإذا أظلم عليهم) * البرق، أي ذهب ضوءه، * (قاموا) * في ظلمة لا يبصرون الهدى، * (ولو شاء الله لذهب بسمعهم) * فلا يسمعون * (وأبصارهم) * فلا يرون أبدا عقوبة لهم، * (إن الله على كل شيء قدير) * [آية: 20] من ذلك وغيره. تفسير سورة البقرة من آية [21 - 22] * (يا أيها الناس اعبدوا ربكم) *، يعني المنافقين واليهود وحدوا ربكم، * (الذي خلقكم) * ولم تكونوا شيئا، * (والذين من قبلكم) * من الأمم الخالية * (لعلكم) *، يعني لكي * (تتقون) * [آية: 21] الشرك وتوحدوا الله عز وجل إذا تفكرتم في خلقكم وخلق الذين من قبلكم، ثم دل على نفسه بصنعه ليوحدوه وذكرهم النعم، فقال سبحانه: اعبدوا ربكم * (الذي جعل لكم الأرض فراشا) *، يعني بساطا، * (والسماء بناء) *، يعني سقفا، * (وأنزل من السماء ماء) *، يعني المطر، * ( فأخرج به) *، يقول: فأخرج بالمطر من الأرض أنواعا * (من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا) *، يقول: لا تجعلوا مع الله شركاء، * (وأنتم تعلمون) * [آية: 22] أن هذا الذي ذكر كله من صنعه، فكيف تعبدون غيره؟.
36 تفسير سورة البقرة آية [23] قالت اليهود، منهم: رفاعة بن زيد، وزيد بن عمرو: ما يشبه هذا الكلام الوحي، وإنا لفي شك منه، فأنزل الله عز وجل: * (وإن كنتم في ريب) *، يعني في شك، * (مما نزلنا) * من القرآن * (على عبدنا) *، يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، * (فأتوا بسورة من) * الله * (مثله) *، يعني مثل هذا القرآن، * (وادعوا شهداءكم) * [آية: 23]، يقول: واستعينوا بالآلهة التي تعبدون * (من دون الله إن كنتم صادقين) * [آية: 23] بأن محمدا صلى الله عليه وسلم يقول من تلقاء نفسه. تفسير سورة البقرة آية [24] ثم يقول سبحانه: * (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا) *، يعني تجيئوا به، فيها تقديم تقديمها، ولن تفعلوا ذلك، فإن تفعلوا فأتوا بسورة من مثل هذا القرآن، فلم يجيبوه وسكتوا، يقول الله سبحانه: * (فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة) *، وتلك الحجارة تحت الأرض الثانية مثل الكبريت تجعل في أعناقهم إذا اشتعلت فيها النار احترقت عامة اليوم، فكان وهجها على وجوههم، وذلك قوله سبحانه: * (أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب) *، يعني شدة العذاب * (يوم القيامة) * [الزمر: 24]. ثم قال: * (أعدت للكافرين) * [آية: 24] بالتوحيد يخوفهم الله عز وجل، فلم يخافوا، فقالوا من تكذيبهم: هذه النار وقودها الناس، فما بال الحجارة، فرق المؤمنون عند التخويف. تفسير سورة البقرة آية [25] فأنزل الله عز وجل: * (وبشر الذين ءامنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار) *، يعني البساتين، * (كلما رزقوا منها من ثمرة) * كلما أطعموا منها
37 من الجنة من ثمرة، * (رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل) *، وذلك أن لهم في الجنة رزقهم فيها بكرة وعشيا، فإذا أتوا بالفاكهة في صحاف الدر والياقوت في مقدار بكرة الدنيا وأتوا بالفاكهة غيرها على مقدار عشاء الدنيا، فإذا نظروا إليه متشابه الألوان، قالوا: هذا الذي رزقنا من قبل، يعني أطعمنا بكرة، فإذا أكلوا وجدوا طعمه غير الذي أتوا به بكرة، فذلك قوله سبحانه: * (وأتوا به متشابها) *، يعني يشبه بعضه بعضا في الألوان، مختلفا في الطعم، * (ولهم فيها أزواج مطهرة) * خلقن في الجنة مع شجرها وحللها، مطهرة من الحيض والغائط والبول والأقذار كلها، * (وهم فيها خالدون) * [آية: 25] لا يموتون. تفسير سورة البقرة من آية [26 - 27] * (إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا) *، وذلك أن الله عز وجل ذكر العنكبوت والذباب في القرآن، فضحكت اليهود، وقالت: ما يشبه هذا من الأمثال، فقال سبحانه: * (إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا) *، يعني أن الله عز وجل لا يمنعه الحياء أن يصف للخلق مثلا، * (ما بعوضة فما فوقها فأما الذين ءامنوا) *، يعني يصدقون بالقرآن، * (فيعلمون أنه) *، أي هذا المثل هو * (الحق من ربهم وأما الذين كفروا) * بالقرآن، يعني اليهود، * (فيقولون ماذا أراد الله بهذا) * الذي ذكر * (مثلا) *، إنما يقوله محمد من تلقاء نفسه وليس من الله، فأنزل الله عز وجل: * (يضل به) 6، أي يضل الله بهذا المثل * (كثيرا) * من الناس، يعني اليهود، * (ويهدي به) *، أي بهذا المثل * (كثيرا) * من الناس، يعني المؤمنين، * (وما يضل به) *، أي
38 بهذا المثل * (إلا الفاسقين) * [آية: 26]، يعني اليهود. ثم أخبر فقال سبحانه: * (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه) *، فنقضوا العهد الأول، ونقضوا ما أخذ عليهم في التوراة أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا، وأن يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكفروا بعيسى وبمحمد، عليهما السلام، وآمنوا ببعض الأنبياء وكفروا ببعض، * (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض) * يعني ويعملون فيها بالمعاصي، * (أولئك هم الخاسرون) * [آية: 27] في العقوبة، يعني اليهود، ونظيرها في الرعد: * (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل) * من إيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، * (ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار) * [الرعد: 25]. تفسير سورة البقرة من آية [28 - 29] * (كيف تكفرون بالله) * بأنه واحد لا شريك له، * (وكنتم أمواتا) *، يعني نطفا * (فأحياكم) *، يعني فخلقكم، وذلك قوله سبحانه: * (يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي) * [الروم: 19]، * (ثم يميتكم) * عند إحيائكم، * (ثم يحييكم) * من بعد الموت يوم القيامة، * (ثم إليه ترجعون) * [آية: 28]، فيجزيكم بأعمالكم، فأما اليهود، فعرفوا وسكتوا، وأما المشركون، فقالوا: أئذا كنا ترابا، من يقدر أن يبعثنا من بعد الموت؟ فأنزل الله عز وجل: * (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا) * من شئ * (ثم استوى إلى السماء) فبدأ بخلقهن، وخلق الأرض * (فسواهن) *، يعني فخلقهن * (سبع سماوات) *، فهذا أعظم من خلق الإنسان، وذلك قوله سبحانه: * (لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس) * [غافر: 57]، * (وهو بكل شئ) * من الخلق * (عليم) * [آية: 29] بالبعث وغيره. تفسير سورة البقرة آية [30] * (وإذا) *، يعني وقد * (قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) *، وذلك
39 أن الله عز وجل خلق الملائكة والجن قبل خلق الشياطين والإنس، وهو آدم، عليه السلام، فجعلهم سكان الأرض، وجعل الملائكة سكان السماوات، فوقع في الجن الفتن والحسد، فاقتتلوا، فبعث الله جندا من أهل سماء الدنيا، يقال لهم: الجن، إبليس عدو الله منهم، خلقوا جميعا من نار، وهم خزان الجنة رأسهم إبليس، فهبطوا إلى الأرض، فلم يكلفوا من العبادة في الأرض ما كلفوا في السماء، فأحبوا القيام في الأرض، فأوحى الله عز وجل إليهم: إني جاعل في الأرض خليفة سواكم ورافعكم إلي، فكرهوا ذلك؛ لأنهم كانوا أهون الملائكة أعمالا، * (قالوا أتجعل فيها) *، يقول، أتجعل في الأرض * (من يفسد فيها) *، يعني من يعمل فيها بالمعاصي * (ويسفك الدماء) * بغير حق كفعل الجن، * (ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) *، يقول: نحن نذكرك بأمرك، كقوله سبحانه: * (ويسبح الرعد بحمده) * [الرعد: 13]، يعني يذكره بأمره، ونقدس لك ونصلي لك ونعظم أمرك. * (قال) * الله سبحانه: * (إني أعلم ما لا تعلمون) * [آية: 30] إن في علمي أنكم سكان السماء، ويكون آدم وذريته سكان الأرض، ويكون منهم من يسبح بحمدي ويعبدني، فخلق آدم، عليه السلام، من طين أحمر وأبيض من السبخة والعذبة، فمن ثم نسله أبيض وأحمر وأسود مؤمن وكافر، فحسد إبليس تلك الصورة، فقال للملائكة الذين هم معه: أرأيتم هذا الذي لم تروا شيئا من الخلق على خلقته، إن فضل علي ماذا تصنعون؟ قالوا: نسمع ونطيع لأمر الله، وأسر عدو الله إبليس في نفسه، لئن فضل آدم عليه لا يطيعه وليستزنه، فترك آدم طينا أربعين سنة مصورا، فجعل إبليس يدخل من دبره ويخرج من فيه، ويقول: أنا نار وهذا طين أجوف، والنار تغلب الطين ولأغلبنه، فذلك قوله عز وجل: * (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين) * [سبأ: 20]، يعني قوله يومئذ: لأغلبنه، وقوله: لأحتنكن، يعني لأحتوين على ذريته إلا قليلا، فقال للروح: ادخلي هذا الجسد، فقالت: أي رب، أين تدخلني هذا الجسد المظلم؟ فقال الله تبارك وتعالى: ادخليه كرها، فدخلته كرها، وهي لا تخرج منه إلا كرها، ثم نفخ فيه الروح من قبل رأسه، فترددت الروح فيه حتى بلغت نصف جسده موضع السرة، فجعل للقعود، فذلك قوله تعالى: * (وكان الإنسان عجولا) * [الإسراء: 11]، فجعلت الروح تتردد فيه حتى بلغت أصابع الرجلين، فأرادت أن تخرج منها، فلم تجد منفذا، فرجعت إلى الرأس، فخرجت من المنخرين، فعطس عند ذلك
40 لخروجها من منخريه، فقال: الحمد لله، فكان أول كلامه، فرد ربه عز وجل: يرحمك الله، لهذا خلقتك، تسبح بحمدي وتقدس لي، فسبقت رحمته لآدم عليه السلام. تفسير سورة البقرة آية [31] * (وعلم آدم الأسماء كلها) * ثم إن الله تبارك وتعالى حشر الطير والدواب وهوام الأرض كلها، فعلم آدم، عليه السلام، أسماءها، فقال: يا آدم، هذا فرس، وهذا بغل، وهذا حمار، حتى سمى له كل دابة وكل طير باسمه، * (ثم عرضهم على الملائكة)، ثم عرض أهل تلك الأسماء على الملائكة الذين هم في الأرض، * (فقال أنبئوني) *، يعني أخبروني * (بأسماء هؤلاء)، يعني دواب الأرض كلها * (إن كنتم صادقين) * [آية: 31] بأني جاعل في الأرض من يفسد فيها ويسفك الدماء. تفسير سورة البقرة آية [32] * (قالوا) * قالت الملائكة: * (سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم) * [آية: 32]. قال: حدثنا عبيد الله، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا الهذيل، قال: قال مقاتل: قال الله عز وجل لهم: كيف تدعون العلم فيما لم يخلق بعد ولم تروه وأنتم لا تعلمون من ترون. تفسير سورة البقرة آية [33] * (قال) * الله عز وجل لآدم: * (يا آدم أنبئهم بأسمائهم) *، يقول: أخبر الملائكة
41 بأسماء دواب الأرض والطير كلها، ففعل، قال الله عز وجل: * (فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب) * ما يكون في * (السماوات والأرض وأعلم ما تبدون) *، يعني ما أظهرت الملائكة لإبليس من السمع والطاعة لرب * (و) * أعلم * (ما كنتم تكتمون) * [آية: 33]، يعني إبليس وحده ما كان أسر إبليس في نفسه من المعصية لله عز وجل في السجود لآدم. تفسير سورة البقرة آية [34] ثم قال: * (وإذ) *، يعني وقد * (قلنا للملائكة) * الذين خلقوا من مارج من نار السموم * (اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس) * وحده، فاستثنى لم يسجد * (أبى واستكبر) *، يعني وتكبر عن السجود لآدم، وإنما أمره الله عز وجل بالسجود لآدم لما علم الله منه، فأحب أن يظهر ذلك للملائكة ما كان أسر في نفسه، قال: * (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) * [الأعراف: 12]، * (وكان) * إبليس * (من الكافرين) * [آية: 34] الذين أوجب الله عز وجل لهم الشقاء في علمه، فمن ثم لم يسجد. تفسير سورة البقرة آية [35] * (وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة) *، يعني حواء خلقا يوم الجمعة، * (وكلا منها رغدا حيث) *، يعني ما * (شئتما) *، وإذا شئتما من حيث شئتما، * (ولا تقربا هذه الشجرة) *، يعني السنبلة، وهي الحنطة، * (فتكونا من الظالمين) * [أية: 35] لأنفسكما. تفسير سورة البقرة آية [36] * (فأزلهما الشيطان عنها) *، يقول سبحانه: فاستزلهما الشيطان عنها، يعني عن الطاعة، وهو إبليس، * (فأخرجهما مما كانا فيه) * من الخير في الجنة، * (وقلنا اهبطوا) * منها، يعني آدم وحواء وإبليس بوحي منه، فهبط آدم بالهند، وحواء بجدة، وإبليس
42 بالبصرة، وهي الأيلة، وهبط آدم في واد اسمه نوذ في شعب يقال له: سرنديب، فاجتمع آدم وحواء بالمزدلفة، فمن ثم جمع لاجتماعهما بها، ثم قال: * (بعضكم لبعض عدو) *، فإبليس لهما عدو، وهما إبليس عدو، ثم قال: * (ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين) * [آية: 36]، يعني بلاغا إلى منتهى آجالكم الموت. تفسير سورة البقرة من آية [37 - 38] وهبط إبليس قبل آدم، * (فتلقىءادم من ربه كلمات) * بعدما هبط إلى الأرض يوم الجمعة، يعني بالكلمات أن قال: رب، أكان هذا شئ كنت قدرته علي قبل أن تخلقني، فسبق لي به الكتاب أني عاملة، وسبقت لي منك الرحمة حين خلقتني؟ قال: نعم يا آدم، قال: يا رب، خلقتني بيدك، فسويتني ونفخت من روحك، فعطست فحمدتك، فدعوت لي برحمتك، فسبقت رحمتك إلى غضبك؟ قال: نعم يا آدم، قال: أخرجتني من الجنة، وأنزلتني إلى الأرض يا رب، إن تبت وأصلحت ترجعني إلى الجنة؟ قال الله عز وجل له: نعم يا آدم، فتاب آدم وحواء يوم الجمعة، فعند ذلك قالا: * (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) * [الأعراف: 23]. * (فتاب) * الله عز وجل * (عليه) * يوم الجمعة، * (إنه هو التواب الرحيم) * [آية: 37] لخلقه، * (قلنا اهبطوا منها جميعا) *، يعني من الجنة جميعا، آدم، وحواء، وإبليس، فأوحى الله إليهم بعدما هبطوا، * (فإما يأتينكم) *، يعني ذرية آدم، فإن يأتيكم يا ذرية آدم * (مني هدى) *، يعني رسولا وكتابا فيه البيان، ثم أخبر بمستقر من اتبع الهدى في الآخرة، قال سبحانه: * (فمن تبع هداي) *، يعني رسولي وكتابي، * (فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * [آية: 38] من الموت. تفسير سورة البقرة آية [39] * (ثم أخبر بمستقر من ترك الهدى، فقال: * (والذين كفروا) * (برسلي) * (وكذبوا بآياتنا) * (القرآن) * (أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) * [آية: 39] لا يموتون. تفسير سورة البقرة آية [40]
43 * (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم) *، يعني أجدادهم، فكانت النعمة حين أنجاهم من آل فرعون، وأهلك عدوهم، وحين فرق البحر لهم، وحين أنزل عليهم المن والسلوى، وحين ظلل عليهم الغمام بالنهار من حر الشمس، وجعل لهم عمودا من نور يضيء لهم بالليل إذا لم يكن ضوء القمر، وفجر لهم اثنى عشر عينا من الحجر، وأعطاهم التوراة فيها بيان كل شيء، فدلهم على صنعه ليوحدوه عز وجل. * (وأوفوا بعهدي) *، يعني اليهود، وذلك أن الله عز وجل عهد إليهم في التوراة أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وأن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالنبيين والكتاب، فأخبر الله عز وجل عنهم في المائدة، فقال: * (ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي) * بمحمد صلى الله عليه وسلم * (وعزرتموهم) *، يعني ونصرتموهم * (وأقرضتم الله قرضا حسنا) * [المائدة: 12]، فهذا الذي قال الله: * (وأوفوا بعهدي) * الذي عهدت إليكم في التوراة، فإذا فعلتم ذلك * (أوف) * لكم * (بعهدكم) 6، يعني المغفرة والجنة، فعاهدهم إن أوفوا له بما قال المغفرة والجنة، فكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبعيسى، عليه السلام، فذلك قوله سبحانه: * (لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار) * [المائدة: 12]، فهذا وفاء الرب عز وجل لهم، * (وإياي فارهبون) * [آية: 40]، يعني وإياي فخافون في محمد صلى الله عليه وسلم، فمن كذب به فله النار. تفسير سورة البقرة آية [41] ثم قال: * (وآمنوا بما أنزلت مصدقا) * نزلت في كعب بن الأشرف وأصحابه رؤوس اليهود، يقول: صدقوا بما أنزلت من القرآن على محمد مصدقا * (لما معكم) * يقول: محمد تصديقه معكم أنه نبي رسول، * (ولا تكونوا أول كافر به) * يعني محمدا، فتتابع اليهود كلها على كفر به، فلما كفروا تتابعت اليهود كلها، أهل خيبر، وأهل فدك، وأهل قريظة وغيرهم على الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، ثم قال لرءوس اليهود: * (ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا) *، وذلك أن رؤوس اليهود كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة، وكتموا
44 أمره عن سفلة اليهود، وكانت للرؤساء منهم مأكلة في كل عام من زرعهم وثمارهم، ولو تابعوا محمدا صلى الله عليه وسلم لحبست تلك المأكلة عنهم، فقال الله لهم: * (ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا) *، يعني بكتمان بعث محمد صلى الله عليه وسلم عرضا قليلا من الدنيالا مما تصيبون من سفلة اليهود، ثم خوفهم * (وإياي فاتقون) * [آية: 41] في محمد، فمن كذب به فله النار. تفسير سورة البقرة آية [42] ثم قال لليهود: * (ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق) *، وذلك أن اليهود يقرون ببعض أمر محمد ويكتمون بعضا ليصدقوا في ذلك، فقال الله عز وجل: ولا تخلطوا الحق بالباطل، نظيرها في آل عمران والأنعام: * (ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) * [الأنعام: 82]، يعني ولم يخلطوا بشرك * (وتكتموا الحق) *، أي ولا تكتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم * (وأنتم تعلمون) * [آية: 42] أن محمدا نبي ونعته في التوراة تفسير سورة البقرة آية [43] وقال لليهود: * (وأقيموا الصلاة) * في مواقيتها * (وآتوا الزكاة) *، يعني وأعطوا الزكاة من أموالكم، * (واركعوا مع الراكعين) * [آية: 43]، يعني اليهود صلوا مع المصلين، يعني مع المؤمنين من أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وسلم. تفسير سورة البقرة من آية [44 - 46] * (أتأمرون الناس بالبر) *، وذلك أن اليهود قالوا لبعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: إن محمدا حق فاتبعوه ترشدوا، فقال الله عز وجل لليهود: * (وتنسون أنفسكم) *، يعني أصحاب محمد، * (وتنسون أنفسكم) *، يقول: وتتركون أنفسكم فلا تتبعوه، * (وأنتم تتلون الكتاب) *، يعني التوراة فيها بيان أمر محمد ونعته، * (أفلا تعقلون) * [آية: 44] أنتم فتتبعونه. ثم قال: * (واستعينوا) * على طلب الآخرة * (بالصبر) * على الفرائض، * (والصلاة) * الخمس حافظوا عليها في مواقيتها، * (وإنها لكبيرة) *، يعني حين صرفت القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة، فكبر ذلك على اليهود منهم، جدي بن أخطب،
45 وسعيد بن عمرو الشاعر وغيرهم، ثم استثنى، فقال: * (إلا على الخاشعين) [آية: 45]، يعني إلا على المتواضعين من المؤمنين، لم يكبر عليهم تحويل القبلة، ثم نعت الخاشعين، فقال: * (الذين يظنون) * يعني يعلمون يقينا * (أنهم ملاقوا ربهم) *، يعني في الآخرة، * (وأنهم إليه راجعون) * [آية: 46] فيجزيهم بأعمالهم. تفسير سورة البقرة آية [47] * (يا بني إسرائيل) *، يعني اليهود بالمدينة، * (اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم) *، يعني أجدادكم، والنعمة عليهم حين أنجاهم من آل فرعون، فأهلك عدوهم، والخير الذي أنزل عليهم في أرض التيه، وأعطاهم التوراة، ثم قال: * (وأني فضلتكم على العالمين) * [آية: 47]، يعني عالمي ذلك الزمان، يعني أجدادهم من غير بني إسرائيل. تفسير سورة البقرة آية [48] ثم خوفهم، فقال: * (واتقوا يوما لا تجزي نفس) *، يقول: لا تغني نفس كافرة * (عن نفس شيئا) * من المنفعة في الآخرة، * (ولا يقبل منها) *، يعني من هذه النفس الكافرة، * (شفاعة ولا يؤخذ منها عدل) *، يعني فداء، كفعل أهل الدنيا بعضهم من بعض، ثم قال: * (ولا هم ينصرون) * [آية: 48]، يقول: ولا هم يمنعون من العذاب. تفسير سورة البقرة آية [49] ثم ذكرهم النعم ليوحدوه، فقال سبحانه: * (وإذ نجيناكم) *، يعني أنقذناكم * (من آل فرعون) *، يعني أهل مصر، * (يسومونكم سوء العذاب) *، يعني يعذبونكم شدة العذاب، يعني ذبح الأبناء واستحياء النساء؛ لأن فرعون أمر بذبح البنين في حجور أمهاتهم، ثم بين العذاب، فقال: * (يذبحون أبناءكم) * في حجور أمهاتهم، * (ويستحيون نساءكم) *، يعني قتل البنين وترك البنات، قتل منهم فرعون ثمانية عشر طفلا مخافة أن يكون فيهم مولود يكون هلاكه في سببه، يقول الله عز وجل: * (وفي ذلكم) *، يعني فيما يخبركم من قتل الأبناء وترك البنات * (بلاء) *، يعني نقمة * (من ربكم عظيم) * [آية: 49] فاذكروا فضله عليكم حين أنجاكم من آل فرعون.
46 تفسير سورة البقرة آية [50] * (وإذ فرقنا بكم البحر) * وذلك أنه فرق البحر يمينا وشمالا كالجبلين المتقابلين كل واحد منهما على الآخر، وبينهما كوى من طريق إلى طريق، ينظر كل سبط إلى الآخر ليكون آنس لهم، * (فأنجيناكم) * من الغرق * (وأغرقنا آل فرعون) *، يعني أهل مصر، يعني القبط * (وأنتم تنظرون) * [آية: 50] أجدادهم يعلمون أن ذلك حق، وكان ذلك من النعم. تفسير سورة البقرة من [آية 51 - 52] * (وإذ واعدنا موسى) *، يعني الميعاد * (أربعين ليلة) *، يعني ثلاثين من ذي القعدة وعشر ليال من ذي الحجة، فكان الميعاد الجبل؛ ليعطى التوراة، وكان موسى، عليه السلام، أخبر بني إسرائيل بمصر، فقال لهم: إذا خرجنا منها أتيناكم من الله عز وجل بكتاب يبين لكم فيه ما تأتون وما تتقون، فلما فارقهم موسى مع السبعين، واستخلف هارون أخاه عليهم، اتخذوا العجل، فذلك قوله سبحانه: * (ثم اتخذتم العجل من بعده) *، يقول: من بعد انطلاق موسى إلى الجبل * (وأنتم ظالمون) * [آية: 51]، وذلك أن موسى قطع البحر يوم العاشر من المحرم، فقال بنو إسرائيل: وعدتنا يا موسى أن تأتينا بكتاب من ربنا إلى شهر، فأتنا بما وعدتنا، فانطلق موسى وأخبرهم أنه يرجع إلى أربعين يوما عن أمر ربه عز وجل، فلما سار موسى فدنا من الجبل، أمر السبعين أن يقيموا في أصل الجبل، وصعد موسى الجبل، فكلم ربه تبارك اسمه، وأخذ الألواح فيها التوراة، فلما مضى عشرون يوما، قالوا: أخلفنا موسى العهد، فعدوا عشرين يوما وعشرين ليلة، فقالوا: هذا أربعون يوما، فاتخذوا العجل، فأخبر الله عز وجل موسى بذلك على الجبل، فقال موسى لربه: من صنع لهم العجل؟ قال: السامري صنعه لهم، قال موسى لربه: فمن نفخ فيه الروح؟ قال الرب عز وجل: أنا، فقال موسى: يا رب السامري سنع لهم العجل فأضلهم، وصنعت فيه الخوار، فأنت فتنت قومي، فمن ثم قال الله عز وجل: * (فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري) * [طه: 85]، يعني الذين خلفهم مع هارون سوى السبعين حين أمرهم بعبادة العجل. فلما نزل موسى من الجبل إلى السبعين، أخبرهم بما كان، ولم يخبرهم بأمر العجل،
47 فقال السبعون لموسى: نحن أصحابك جئنا معك ولم نخالفك في أمر، ولنا عليك حق، فأرنا الله جهرة، يعني معاينة، كما رأيته، فقال موسى: والله ما رأيته، ولقد أردته على ذلك فأبى، وتجلى للجبل فجعله دكا، يعني فصار دكا، وكان أشد منى وأقوى، فقالوا: إنا لا نؤمن بك ولا نقبل ما جئت به حتى تريناه معاينة، فلما قالوا ذلك أخذتهم الصاعقة، يعني الموت عقوبة، فذلك قوله سبحانه: * (فأخذتكم الصاعقة) * [البقرة: 55]، يعني الموت، نظيرها: * (وخر موسى صعقا) * [الأعراف: 143]، يعني ميتا، وكقوله عز وجل: * (فصعق من في السماوات) * [الزمر: 68]، يعني فمات * (وأنتم تنظرون) *، يعني السبعين. ثم أنعم الله عليهم فبعثهم، وذلك أنهم لما صعقوا قام موسى يبكي، وظن أنهم إنما صعقوا بخطيئة العجل، فقال عز وجل في سورة الأعراف: * (رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا) * [الأعراف: 155]، وقال: يا رب، ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم وقد أهلكت أخبارهم، فبعثهم الله عز وجل لما وجد موسى من أمرهم، فذلك قوله سبحانه: * (ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون) * [آية: 52]، يقول: لكي تشكروا ربكم في هذه النعمة، فبعثوا يوم ماتوا، ثم انصرفوا مع موسى راجعين، فلما دنوا من العسكر على ساحل البحر، سمعوا اللغط حول العجل، فقالوا: هذا قتال في المحلة، فقال موسى، عليه السلام: ليس بقتال، ولكنه صوت الفتنة، فلما دخلوا المعسكر رأى موسى ماذا يصنعون حول العجل، فغضب وألقى الألواح، فانكسر منها لوحان، فارتفع من اللوح بعض كلام الله عز وجل، فأمر بالسامري فأخرج من محلة بني إسرائيل، ثم عمد إلى العجل فبرده بالمبرد وأحرقه بالنار، ثم ذراه في البحر، فذلك قوله: * (لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا) * [طه: 97]. فقال موسى: إنكم ظلمتم، أي ضررتم، أنفسكم باتخاذكم العجل إلها من دون الله سبحانه وتعالى، فتوبوا إلى بارئكم، يعني خالقكم، وندم القوم على صنيعهم، فذلك قوله سبحانه: * (ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا) *، يعني أشركوا بالله عز وجل، * (قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين) [الأعراف: 149]، فقالوا: كيف لنا بالتوبة يا موسى، قال: اقتلوا أنفسكم، يعني يقتل بعضكم بعضا، كقوله سبحانه في النساء: * (ولا تقتلوا أنفسكم) *، يقول: لا يقتل بعضكم بعضا، * (إن الله كان بكم رحيما) * [النساء: 29]، يعني ذلك القتل والتوبة خير لكم عند بارئكم، يعني عند خالقكم.
48 قالوا: قد فعلنا، فلما أصبحوا أمر موسى، عليه السلام، البقية الأثنى عشر ألفا الذين لم يعبدوا العجل أن يقتلوهم بالسيف والخناجر، فخرج من كل بني أب على حدة من منازلهم، فقعدوا بأفنية بيوتهم، فقال بعضهم لبعض: هؤلاء إخوانكم أتوكم شاهرين السيوف، فاتقوا الله واصبروا، فلعنة الله على رجل حل جيوبه، أو قام من مجلسه، أو اتقى بيد أو رجل، أو حار إليهم طرفة عين، قالوا: آمين، فقتلوهم من لدن طلوع الشمس إلى انتصاف النهار يوم الجمعة، وأرسل الله عز وجل عليهم الظلمة حتى لا يعرف بعضهم بعضا، فبلغت القتلى سبعين ألفا، ثم أنزل الله عز وجل الرحمة، فلم يحد فيهم السلاح، فأخبر الله عز وجل موسى، عليه السلام، أنه قد نزلت الرحمة، فقال لهم: قد نزلت الرحمة، ثم أمر موسى المنادي فنادى: أن ارفعوا سيوفكم عن إخوانكم، فجعل الله عز وجل القتلى شهداء، وتاب الله على الأحياء، وعفى عن الذين صبروا للقتل، فلم يقتلوا، فمن مات قبل أن يأتيهم موسى، عليه السلام، على عبادة العجل دخل النار، ومن هرب من القتل لعنهم الله، فضربت عليهم الذلة والمسكنة، فذلك قوله: * (سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا) * [الأعراف: 152]، وذلك قوله سبحانه: * (وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب) [الأعراف: 167]، " فكان الرجل يأتي نادى قومه وهم جلوس، فيقتل من العشرة ثلاثة ويدع البقية، ويقتل الخمسة من العشرين، ومن كتب عليهم الشهادة ويبقى الذين لم يقض لهم أن يقتلوا، فذلك قوله عز وجل: * (ثم عفونا عنكم) *، فلم نهلككم جميعا * (من بعد ذلك) *، يعني بعد العجل * (لعلكم) *، يعني لكي * (تشكرون) * [البقرة: 52] ربكم في هذه النعم، يعني العفو، فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم، وذلك قوله سبحانه في الأعراف: * (والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها)، يعني من بعد عبادة العجل * (وآمنوا) *، يعني وصدقوا بأن الله واحد لا شريك له، * (إن ربك من بعدها لغفور رحيم) * [الأعراف: 153] لذو تجاوز عنهم رحيم بهم عند التوبة. تفسير سورة البقرة آية [53] * (وإذ آتينا موسى الكتاب) *، يعني التوراة، * (والفرقان) *، يعني النصر حين فرق بين الحق والباطل، ونصر موسى وأهلك فرعون، نظيرها في الأنفال قوله سبحانه:
49 * (وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان) *، يعني يوم النصر، * (يوم التقى الجمعان) * [الأنفال: 41]، فنصر الله عز وجل المؤمنين وهزم المشركين، * (لعلكم تهتدون) * [آية: 53] من الضلالة بالتوراة، يعني بالنور. تفسير سورة البقرة من آية [54 - 57] * (وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم) * [آية: 54]، * (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون) * [آية: 55]، * (ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون) * [آية: 56]. * (وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم) *، وذلك أن موسى، عليه السلام، قالت له بنو إسرائيل وهم في التيه: كيف لنا بالأبنية، وقد نزلنا في القفر، وخرجنا من العمران من حر الشمس، فظلل الله عز وجل عليهم الغمام الأبيض يقيهم حر الشمس، ثم إنهم سألوا موسى، عليه السلام، الطعام، فأنزل الله عليهم طعام الجنة، وهو * (المن والسلوى) *، أما المن، فهو الترنجبين، فكان ينزل بالليل على شجرهم أبيض كالثلج، حلو مثل العسل، فيغدون عليه كل إنسان صاع لكل ليلة، فيغدون عليه فيأخذون ما يكفيهم ليومهم، ذلك لكل رجل صاع، ولا يرفعون منه في غد، ويأخذون يوم الجمعة ليومين؛ لأن السبت كان عندهم لا يشخصون فيه ولا يعملون، كان هذا لهم في التيه، وتنبت ثيابهم مع أولادهم، فأما الرجال، فكانت ثيابهم عليهم لا تبلى ولا تنخرق ولا تدنس. وأما السلوى، فهو الطير، وذلك أن بني إسرائيل سألوا موسى اللحم وهم في التيه، فسأل موسى ربه عز وجل، فقال الله: لأطعمنهم أقل الطير لحما، فبعث الله سبحانه السماء، فأمطرت لهم السلوى وهي السمانا، وجمعتهم ريح الجنوب، وهي طير حمر تكون في طريق مصر، فأمطرت قدر ميل في عرض الأرض، وقدر رمح في السماء
50 بعضه على بعض، فقال الله عز وجل لهم: * (كلوا من طيبات) *، يعني من حلال، كقوله: * (فتيمموا صعيدا طيبا) * [المائدة: 6]، يعني حلالا طيبا في غير مأثم، وإذا وجدوا الماء فهو حرام، فمن ثم قال: * (طيبا) *، يعني حلالا من * (ما رزقناكم) * من السلوى، ولا تطغوا فيه، يعني تعصوا الله في الرزق فيما رزقكم، ولا ترفعوا منه لغد، فرفعوا وقددوا مخافة أن ينفذ، ولو لم يفعلوا لدام لهم ذلك، فقددوا منه ورفعوا فدود وتغير ما قدروا منه وما رفعوا فعصوا ربهم، فذلك قوله سبحانه: * (وما ظلمونا) *، يعني وما ضرونا، يعني ما نقصونا من ملكنا بمعصيتهم شيئا حين رفعوا وقددوا منه في غد، * (ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) * [آية: 57]، يعني أنفسهم يضرون، نظيرها في الأعراف قوله سبحانه: * (من طيبات ما رزقناكم) * [الأعراف: 160] إلى آخر الآية. تفسير سورة البقرة من آية [58 - 59] * (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية) * يعني إيلياء وهم يومئذ من وراء البحر، * (فكلوا منها حيث شئتم رغدا) *، يعني ما شئتم، وإذ شئتم، وحيث شئتم، * (وادخلوا الباب سجدا) *، يعني باب إيلياء سجدا، فدخلوا متحرفين على شق وجوههم، * (وقولوا حطة) *، وذلك أن بني إسرائيل خرجوا مع يوشع بن نون بن اليشامع بن عميهوذ بن غيران بن شونالخ بن إفراييم بن يوسف، عليه السلام، من أرض التيه إلى العمران حيال أريحا، وكانوا أصابوا خطيئة، فأراد الله عز وجل أن يغفر لهم، وكانت الخطيئة أن موسى، عليه السلام، كان أمرهم أن يدخلوا أرض أريحا التي فيها الجيارون، فلهذا قال لهم: * (وقولوا حطة) *، يعني بحطة حط عنا خطايانا. ثم قال: * (نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين) * [آية: 58] الذين لم يصيبوا خطيئة، فزادهم الله إحسانا إلى إحسانهم، فلما دخلوا إلى الباب، فعل المحسنون ما أمروا به، وقال الآخرون: هطا سقماثا يعنون حنطة حمراء، قالوا: ذلك استهزاء وتبديلا، لما أمروا به، فدخلوا مستقلين، فذلك قوله عز وجل: * (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا) *، يعني عذابا * (من السماء) * كقوله
51 في سورة الأعراف: * (قال قد وقع عليكم من ربكم رجس) * [الأعراف: 71]، يعني عذابا، ويقال: الطاعون، ويقال: الظلمة شبه النار، * (بما كانوا يفسقون) * [آية: 59]، وأهلك منهم سبعون ألفا في يوم واحد عقوبة لقولهم: هطا سقماثا، فهذا القول ظلمهم. تفسير سورة البقرة من آية [60 - 61] * (وإذ استسقى موسى لقومه) *، وهم في التيه، قالوا: من أين لنا شراب نشرب؟ فدعا موسى، عليه السلام، ربه أن يسقيهم، فأوحى الله عز وجل إلى موسى، عليه السلام: * (فقلنا اضرب بعصاك الحجر) *، وكان الحجر خفيفا مربعا، فضربه، * (فانفجرت منه) * من الحجر * (اثنتا عشرة عينا) *، فرووا بإذن الله عز وجل، وكانوا اثنى عشر سبطا، لكل سبط من بني إسرائيل عين تجري على حدة، لا يخالطهم غيرهم، فذلك قوله سبحانه: * (قد علم كل أناس مشربهم) *، يعني كل سبط مشربهم، يقول الله عز وجل: * (كلوا) * من المن والسلوى، * (واشربوا) * من العيون، وهو * (من رزق الله) * حلالا طيبا، فذلك قوله سبحانه: * (كلوا من طيبات ما رزقناكم) *، * (ولا تعثوا في الأرض) *، يقول: لا تعلوا ولا تسعوا في الأرض * (مفسدين) * [آية: 60]، يقول: لا تعملوا في الأرض بالمعاصي، فرفعوا من المن والسلوى لغد، فذلك قوله سبحانه: * (ولا تطغوا فيه) * [طه: 81]، يقول: لا ترفعوا منه لغد، وكان موسى صلى الله عليه وسلم إذا ظعن حمل الحجر معه، وتنصب العيون منه. ثم إنهم قالوا: يا موسى، فأين اللباس؟ فجعلت الثياب تطول مع أولادهم، وتبقى على كبارهم، ولا تمزق ولا تبلى ولا تدنس، وكان لهم عمود من نور يضئ لهم بالليل إذا ارتحلوا وغاب القمر، فلما طال عليهم المن والسلوى، سألوا موسى نبات الأرض،
52 فذلك قوله عز وجل: * (وإذ قلتم يا موسى) * في التيه * (لن نصبر على طعام واحد) *، يعني المن والسلوى، * (فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها) *، يعني الثوم، * (وعدسها وبصلها) *، فغضب موسى، عليه السلام، * (قال أتستبدلون الذي هو أدنى) *، يقول: الذي هو دون المن والسلوى من نبات الأرض * (بالذي هو خير) *، يعني المن والسلوى، فقال موسى: * (اهبطوا مصرا) * من الأمصار، * (فإن لكم ما سألتم) * من نبات الأرض، * (وضربت عليهم الذلة) *، يعني على اليهود الذلة، وهي الجزية، * (والمسكنة) *، يعني الفقر، * (وباءو بغضب من الله) *، يعني استوجبوا غضب الله عز وجل، * (ذلك) * الذل والمسكنة الذي نزل بهم * (بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله) *، يعني القرآن، * (ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) * [آية: 61] في أديانهم. * (تفسير سورة البقرة آية [62] * (إن الذين آمنوا والذين هادوا) *، يعني اليهود، * (والنصارى والصائبين) *، وهم قوم يصلون للقبلة، يقرءون الزبور ويعبدون الملائكة، وذلك أن سلمان الفارسي كان من جند سابور، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسلم، وذكر سلمان أمر الراهب وأصحابه، وأنهم مجتهدون في دينهم يصلون ويصومون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ' هم في النار '، فأنزل الله عز وجل فيمن صدق منهم بمحمد صلى الله عليه وسلم: وبما جاء به: * (إن الذين آمنوا) *، يعني صدقوا، يعني أقروا وليسوا بمنافقين، * (والذين هادوا والنصارى والصابئين) * * (من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا) *، يقول: من صدق منهم بالله عز وجل، بأنه واحد لا
53 شريك له، وصدق بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال، بأنه كائن، * (فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم) * من نزول العذاب، * (ولا هم يحزنون) * [آية: 62] عند الموت، يقول: إن الذين آمنوا، يعني صدقوا بتوحيد الله تعالى، ومن آمن من الذين هادووا ومن النصارى ومن الصابئين، من آمن منهم بالله واليوم الآخر فيما تقدم إلى آخر الآية. تفسير سورة البقرة آية [62] * (وإذ أخذنا ميثاقكم) * في التوراة، وأن تعملوا بما فيها، فلما قرأوا التوراة وفيها الحدود والأحكام، كرهوا أن يقروا بما فيها، رفع الله عز وجل عليهم الجبل ليرضخ به رؤوسهم، وذلك قوله سبحانه: * (ورفعنا فوقكم الطور) *، يعني الجبل، فلما رأوا ذلك أقروا بما فيها، فذلك قوله: * (وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم) * [الأعراف: 171]، * (خذوا ما ءاتيناكم بقوة) *، يقول: ما أعطيناكم من التوراة بالجد والمواظبة عليه، * (واذكروا) * يقول: احفظوا " * (ما فيه) * من أمره ونهيه ولا تضيعوه * (لعلكم تتقون) * [آية: 63]، يقول: لكي تتقوا المعاصي تفسير سورة البقرة من آية [64 - 65] * (ثم توليتم) * يقول: أعرضتم * (من بعد ذلك) * عن الحق من بعد الجبل، * (فلولا فضل الله عليكم ورحمته) *، يعني نعمته لعاقبكم، و * (لكنتم) * (في الآخرة) * (من الخاسرين) * [آية: 64] في العقوبة. * (ولقد علمتم) *، يعني اليهود * (الذين اعتدوا منكم في السبت) *، فصادوا فيه السمك، وكان محرما عليهم صيد السمك يوم السبت، فأمهلهم الله سبحانه بعد صيد السمك سنين، ثم مسخهم الله قردة، فذلك قوله: * (فقلنا لهم) * (بوحي) * (كونوا قردة خاسئين) * [آية: 65]، يعني صاغرين. تفسير سورة البقرة آية [66]
54 * (فجعلناها نكالا) * لبني إسرائيل * (لما بين يديها) *، يقول: أخذناهم بمعاصيهم قبل صيد الحيتان، * (وما خلفها) * ما استنوا من سنة سيئة، فاقتدى بها من بعدهم، فالنكال هي العقوبة، ثم مسخهم الله عز وجل في زمان داود، عليه السلام، قردة ثم حذر هذه الأمة، فقال سبحانه: * (وموعظة للمتقين) * [آية: 66]، يعني تعظهم يا محمد أن ريكبوا ما ركبت بنو إسرائيل من المعاصي، فيستحلوا محرما أو صيدا في حرم الله، أو تستحلوا أنتم حراما لا ينبغي فينزل بكم من العقوبة مثل ما نزل بالذين استحلوا صيد السمك يوم السبت. تفسير سورة البقرة آية [67] * (وإذ قال موسى لقومه) * يا بني إسرائيل، * (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) * بأرض مصر قبل الغرق، وذلك أن أخوين كانا في بني إسرائيل، فقتلا ابن عم لهما ليلا بمصر ليرثاه، ثم حملاه فألقياه بين القريتين. قال: حدثنا عبيد الله، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا الهذيل، عن مقاتل، عن أبي مليكة، عن ابن عباس، رضي الله عنه، أنه قال: قاسوا ما بين القريتين، فكانتا سواء، فلما أصبحوا أخذوا أهل القرية، فقالوا: والله ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا، قالوا: يا موسى، ادع لنا ربك يطلع على القاتل إن كنت نبيا كما تزعم، فدعا موسى ربه عز وجل، فأتاه جبريل، عليه السلام، فأمره بذبح بقرة، فقال لهم، موسى: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة، فتضربوه ببعضها فيحيا، فيخبركم بقاتله، واسم المقتول عاميل، فظنوا أنه يستهزئ بهم، فقالوا: نسألك عن القاتل لتخبرنا به، فتأمرنا بذبح بقرة استهزاء بنا، فذلك قولهم لموسى: * (قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) * [آية: 67]، يعني من المستهزئين، فعلموا أن عنده علم ذلك.. تفسير سورة البقرة من آية [68 - 71]
55 * (قالوا) * يا موسى، * (ادع لنا ربك) *، أي سل لنا ربك * (يبين لنا ما هي قال إنه يقول) *، إن ربكم يقول: (إنها بقرة لا فارض ولا بكر) *، يعني ليست بكبيرة ولا بكر، أي شابة، * (عوان بين ذلك) *، يعني بالعوان بين الكبيرة والشابة، * (فافعلوا ما تؤمرون) * [آية: 68]، فانطلقوا ثم رجعوا إلى موسى، * (قالوا ادع لنا ربك) *، أي سل ربك * (يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها) *، يعني صافية اللون نقية * (تسر) *، يعني تعجب، * (الناظرين) * [آية: 69]، يعني من رآها، فشددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ' إنما أمروا ببقرة، ولو عمدوا إلى أدنى بقرة لأجزأت عنهم، والذي نفس محمد بيده، لو لم يستثنوا ما بينت لهم آخر الأبد '. فانطلقوا ثم رجعوا * (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا) * تشكل * (وإنا إن شاء الله لمهتدون) * [آية: 70]، لو لم يستثنوا لم يهتدوا لها أبدا، فعند ذلك هموا أن يفعلوا ما أمروا، ولو أنهم عمدوا إلى الصفة الأولى فذبحوها لأجزأت عنهم. * (قال إنه يقول) *، أي قال موسى: إن الله يقول: * (إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض) *، يقول: ليست بالذلول التي يعمل عليها في الحرث، * (لا تسقي الحرث) * يقول: ليست بالذلول التي يسقى عليها بالسواقي الماء للحرث، * (مسلمة) *، يعني صحيحة * (ولا شية فيها) *، يقول: لا وضح فيها، يقول: ليس فيها سواد ولا بياض ولا حمرة، * (قالوا آلآن) * (يا موسى) * (جئت بالحق) *، يقول: الآن بينت لنا الحق، فانطلقوا حتى وجدوها عند امرأة اسمها نوريا بنت رام، فاستاموا بها، فقالوا لموسى: إنها لا تباع إلا بملء مسكها ذهبا، قال موسى: لا تظلموا، انطلقوا اشتروها بما عز وهان، فاشتروها بملء مسكها ذهبا، * (فذبحوها) *، فقالوا لموسى: قد ذبحناها، قال: خذوا منها عضوا فاضربوا به القتيل، فضربوا القتيل بفخذ البقرة اليمنى، فقام القتيل وأوداجه تشخب دما، فقال: قتلني فلان وفلان، يعني ابني عمه، ثم وقع ميتا، فأخذا فقتلا، فذلك قوله سبحانه * (فذبحوها) * * (وما كادوا يفعلون) * [آية: 71]. تفسيرسورة البقرة من آية [72 - 74]
56 * (وإذ قتلتم نفسا فادارءتم فيها) *، فاختلفتم في قتلها، فقال أهل هذه القرية الأخرى: أنتم قتلتموه، وقال الآخرون: أنتم قتلتموه، فذلك قوله سبحانه: * (والله مخرج ما كنتم تكتمون) * [آية: 72]، يعني كتمان قتل المقتول، * (فقلنا اضربوه ببعضها كذلك) *، يقول: هكذا * (يحي الله الموتى ويريكم آياته) *، فكان ذلك من آياته وعجائبه، * (لعلكم) * يقول: لكي * (تعقلون) * [آية: 73]، فتعتبروا في البعث، وإنما فعل الله ذلك بهم؛ لأنه كان في بني إسرائيل من يشك في البعث، فأراد الله عز وجل أن يعلمهم أنه قادر على أن يبعث الموتى، وذلك قوله سبحانه، * (لعلكم تعقلون) * فتعتبروا في البعث فقالوا: نحن لم نقتله، ولكن كذب علينا، فلما كذبوا المقتول، ضرب الله لهم مثلا، وذلك قوله سبحانه: * (ثم قست قلوبكم) * في الشدة، فلم تطمئن، يعني تلين، حتى كذبتم المقتول، ثم قال: * (من بعد ذلك) *، يعني من بعد حياة المقتول، * (فهي كالحجارة) * فشبه قلوبهم حين لم تلن بالحجارة في الشدة، ثم عذر الحجارة وعاب قلوبهم، فقال: فهي كالحجارة في القسوة، * (أو أشد قسوة) *، ثم قال: * (وإن من الحجارة) * ما هي ألين من قلوبهم، فمنها * (لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما) *، يعني ما * (يشقق) *، يعني يتصدع، * (فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط) *، يقول: من بعض الحجارة الذي يهبط من أعلاه، فهؤلاء جميعا * (من خشية الله) * يفعلون ذلك، وبنو إسرائيل لا يخشون الله، ولا ترق قلوبهم كفعل الحجارة، ولا يقبلون إلى طاعة ربهم، ثم وعدهم، فقال عز وجل: * (وما الله بغافل عما تعملون) * [آية: 74] من المعاصي تفسير سورة البقرة آية [75] * (أفتطمعون) * أي النبي صلى الله عليه وسلم وحده، * (أن يؤمنوا لكم) *، أن يصدقوا قولك يا محمد، يعني يهود المدينة، * (وقد كان فريق منهم) * على عهد موسى، عليه السلام، * (يسمعون كلام الله) *، وذلك أن السبعين الذين اختارهم موسى حين قالوا: * (أرنا
57 الله جهرة) *، فعاقبهم الله عز وجل وأماتهم عقوبة، وبقي موسى وحده يبكي، فلما أحياهم الله سبحانه، قالوا: قد علمنا الآن أنك لم تر ربك، ولكن سمعت صوته، فأسمعنا صوته، قال موسى: أما هذا فعسى، قال موسى: يا رب، إن عبادك هؤلاء بني إسرائيل يحبون أن يسمعوا كلامك، فقال: من أحب منهم أن يسمع كلامي فليعتزل النساء ثلاثة أيام، وليغتسل يوم الثالث، وليلبس ثيابا جددا، ثم ليأتي الجبل فأسمعه كلامي. ففعلوا ذلك، ثم انطلقوا مع موسى إلى الجبل، فقال لهم موسى: إذا رأيتم السحابة قد غشيت ورأيتم فيها نورا، وسمعتم فيها صوتا، فاسجدوا لربكم، وانظروا ما يأمركم به فافعلوا، قالوا: نعم، فصعد موسى، عليه السلام، الجبل، فجاءت الغمامة، فحالت بينهم وبين موسى، ورأوا النور، وسمعوا صوتا كصوت الصور، وهو البوق، فسجدوا، وسمعوه وهو يقول: إني أنا ربكم، لا إله إلا أنا الحي القيوم، وأنا الذي أخرجتكم من أرض مصر بيد رقيقة وذراع شديد، فلا تعبدوا إلها غيري، ولا تشركوا بي شيئا، ولا تجعلوا لي شبها، فإنكم لن تروني، ولكن تسمعون كلامي، فلما أن سمعوا الكلام، ذهبت أرواحهم من هول ما سمعوا، ثم أفاقوا وهم سجود، فقالوا لموسى، عليه السلام: إنا لا نطيق أن نسمع كلام ربنا، فكن بيننا وبين ربنا، فليقل لك وقل أنت لنا، قال موسى: يا رب، إن بني إسرائيل لم يطيقوا أن يسمعوا كلامك، فقل لي وأقل لهم، قال الله عز وجل: نعم ما رأوا. فجعل الله عز وجل يأمر موسى، ثم يخبرهم موسى، ويقولون: سمعنا ربنا وأطعنا، فلما فرغ من أمره ونهيه، ارتفعت السحابة، وذهب الصوت، فرفع القوم رؤوسهم، ورجعوا إلى قومهم، قيل لهم: ماذا أمركم به ربكم ونهاكم عنه؟ فقال بعضهم: أمرنا بكذا وكذا، ونهانا عن كذا وكذا، وقال آخرون: واتبع في آخر قوله: إن لم تستطيعوا ترك ما نهاكم عنه، فافعلوا ما تستطيعون، فذلك قوله سبحانه: * (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم) *، يعني طائفة من بني إسرائيل، * (يسمعون كلام الله * (ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه) *، وفهموه، * (وهم يعلمون) * [آية: 75] أنهم حرفوا الكلام. تفسير سورة البقرة آية [76]
58 * (وإذا لقوا الذين ءامنوا قالوا ءامنا) *، يعني صدقنا بمحمد، عليه السلام، بأنه نبي، وذلك أن الرجل المسلم كان يلقى من اليهود حليفه أو أخاه من الرضاعة، فيسأله: أتجدون محمدا في كتابكم، فيقولون: نعم، إن نبوة صاحبكم حق، وإنا نعرفه، فسمع كعب بن الأشرف، وكعب بن أسيد، ومالك بن الضيف، وجدي بن أخطب، فقالوا لليهود في السر: أتحدثون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بما فتح الله لكم، يعني بما بين لكم في التوراة من أمر محمد صلى الله عليه وسلم، فذلك قوله تعالى: * (وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم) *، يعني ليخاصموكم * (به عند ربكم) باعترافكم أن محمدا، عليه السلام، نبي ثم لا تتابعوه، * (أفلا تعقلون) * [آية: 76]، يعني أفلا ترون أن هذه حجة لهم عليكم. تفسير سورة البقرة من آية [77 - 78] فقال الله عز وجل: * (أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون) * في الخلا * (وما يعلنون) * [آية: 77] في الملاء، فيقول بعضهم لبعض: أتحدثونهم بأمر محمد صلى الله عليه وسلم، أولا يعلمون حين قالوا: إنا نجد محمدا في كتابنا وإنا لنعرفه، * (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني) *، يقول: من اليهود من لا يقرأ التوراة إلا أن يحدثهم عنها رؤوس اليهود، * (وإن هم إلا يظنون) * [آية: 78] في غير يقين ما يستيقنون به، فإن كذبوا رؤوس اليهود أو صدقوا تابعوهم باعترافهم، فليس لهم بالتوراة علم إلا ما حدثوا عنها. تفسير سورة البقرة آية [79] * (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم) *، سوى نعت محمد، عليه السلام، وذلك أن رؤوس اليهود بالمدينة محوا نعت محمد صلى الله عليه وسلم من التوراة، وكتبوا سوى نعته، وقالوا لليهود سوى نعت محمد، * (ثم يقولون هذا) * النعت * (من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا) *، يعني عرضا يسيرا مما يعطيهم سفلة اليهود كل سنة من زروعهم وثمارهم، يقول: * (فويل لهم مما كتبت أيديهم) *، يعني في التوراة من تغيير نعت محمد صلى الله عليه وسلم، * (وويل لهم مما يكسبون) * [آية: 79] من تلك المآكل على التكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولو تابعوا محمدا، عليه السلام، إذا لحبست عنهم تلك المآكل.
59 تفسير سورة البقرة آية [80] * (وقالوا) *، يعني اليهود * (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) *؛ لأنا أبناء الله وأحباؤه، يعني ولد أنبياء الله، إلا أربعين يوما التي عبد آباؤنا فيها العجل، * (قل أتخذتم عند الله عهدا) *، فعلمتم بما عهد إليكم في التوراة، فإن كنتم فعلتم * (فلن يخلف الله عهده أم تقولون) *، يعني بل تقولون * (على الله ما لا تعلمون) * * (آية: 80]، فإنه ليس بمعذبكم إلا تلك الأيام، فإذا مضت تلك الأيام مقدار كل يوم ألف سنة، قالت الخزنة: يا أعداء الله، ذهب الأجل وبقي الأبد، وأيقنوا بالخلود. تفسير سورة البقرة من آية [81 - 82] * (فلما قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة، أكذبهم الله عز عز وجل، فقال: * (بلى) * يخلد فيها * (من كسب سيئة) *، يعني الشرك، * (وأحاطت به خطيئته) * حتى مات على الشرك، * (فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) * [آية: 81]، يعني لا يموتون، ثم بين مستقر المؤمنين، فقال: * (والذين ءامنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون) * [آية: 82] لا يموتون. تفسير سورة البقرة من آية [83 - 84] * (وإذ) *، يعني ولقد * (أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا) *، يعني برا بهما * (وذي القربى واليتامى) *، يعني ذوي القرابة صلته، * (والمساكين) * واليتيم أن تصدق عليه وابن السبيل، يعني الضيف أن تحسن إليه، * (وقولوا للناس حسنا) *، يعني حقا، نظيرها في طه قوله عز وجل: * (ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا) * [طه: 86] يعني حقا، وقوله: * (وقولوا للناس حسنا) *، يعني * (للناس) * أجمعين صدقا في محمد وعن الإيمان.
60 * (وأقيموا الصلاة) *، يعني أتموا الصلاة لمواقيتها، * (وآتوا) * وأعطوا * (الزكاة ثم توليتم) *، يعني أعرضتم عن الإيمان، فلم تقروا ببعث محمد صلى الله عليه وسلم * (إلا قليلا منكم وأنتم معرضون) * [آية: 83]، يعني ابن سلام، وسلام بن قيس، وثعلبة بن سلام، وقيس ابن أخت عبد الله بن سلام، وأسيد وأسد ابني كعب، ويامين، وابن يامين، وهم مؤمنو أهل التوراة. * (وإذ أخذنا ميثاقكم) * في التوراة، يعني ولقد أخذنا ميثاقكم في التوراة (لا تسفكون دماءكم) *، يقول: لا يقتل بعضكم بعضا، * (ولا تخرجون أنفسكم) *، يعني لا يخرج بعضكم بعضا * (من دياركم ثم أقررتم) * بهذا * (وأنتم تشهدون) * [آية: 84] أن هذا في التوراة. تفسير سورة البقرة آية [85] * (ثم أنتم هؤلاء) * معشر اليهود بالمدينة * (تقتلون أنفسكم) *، يعني يقتل بعضكم بعضا، * (وتخرجون فريقا) *، يعني طائفة * (منكم من ديارهم تظاهرون) *، يعني تعاونون * (عليهم بالإثم) *، يعني بالمعصية * (والعدوان) *، يعني بالظلم، ومكتوب عليهم في التوراة أن يفدوا أسراهم فيشتروهم إذا أسرهم أهل الروم في القتال إن كان عبدا أو أمة، يقول الله عز وجل: * (وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب) *، يقول: تصدقون ببعض ما في التوراة لمن يقتل، والإخراج من الديار، فهو محرم عليكم إخراجهم، * (وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي) *، يعني الهوان * (في الحياة الدنيا) *، فكان خزي أهل قريظة القتل والسبي، وخزي أهل النضير الجلاء والنفي من منازلهم وجناتهم التي بالمدينة إلى أذرعات وأريحا من أرض الشام، فكان هذا خزيا لهم وهوانا لهم، * (ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب) *، يعني رؤوس اليهود، يقول: هم أشد كذابا، يعني رؤوس اليهود من أهل ملتهم؛ لأنهم أول من كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم من اليهود، ثم أوعدهم، فقال: * (وما الله بغافل عما تعملون) * [آية: 85].
61 تفسير سورة البقرة آية [86] ثم نعتهم فقال سبحانه: * (أولئك الذين اشتروا) *، يعني اختاروا * (الحياة الدنيا بالآخرة) *، يقول: باعوا الآخرة بالدنيا مما يصيبون من سفلة اليهود من المآكل، * (فلا يخفف عنهم العذاب) * في الآخرة * (ولا هم ينصرون) * [آية: 86]، يعني ولا هم يمنعون من العذاب. تفسير سورة البقرة من آية [87 - 88] * (ولقد آتينا موسى الكتاب) *، يقول: أعطينا موسى التوراة، * (وقفينا من بعده) *، يقول: وأتبعنا من بعد موسى * (بالرسل) * إلى قومهم، * (وآتينا عيسى ابن مريم البينات) *، يقول: وأعطينا عيسى ابن مريم العجائب التي كان يصنعها من خلق الطير، وإبراء الأكمه والأبرص، وأحياء الموتى بإذن الله، ثم قال سبحانه: * (وأيدناه بروح القدس) *، يقول: وقوينا عيسى بجبريل، عليهما السلام، فقالت اليهود عند ذلك: فجئنا يا محمد بمثل ما جاء به موسى من الآيات كما تزعم، يقول الله عز وجل: * (أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم) *، يعني اليهود، * (استكبرتم) * يعني تكبرتم عن الإيمان برسولي، يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، * (ففريقا كذبتم) *، يعني طائفة من الأنبياء كذبتم بهم، منهم عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، * (وفريقا تقتلون) * [آية: 87]، يعني وطائفة قتلتموهم، منهم زكريا، ويحيى، والأنبياء أيضا، فعرفوا أن الذي قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم حق فسكتوا. * (وقالوا) * للنبي صلى الله عليه وسلم: * (قلوبنا غلف) *، يعني في غطاء، ويعنون في أكنة عليها الغطاء، فلا تفهم ولا تفقه ما تقول يا محمد، كراهية لما سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: ' إنكم كذبتم فريقا من الأنبياء وفريقا قتلتم '، فإن كنت صادقا فأفهمنا ما تقول، يقول الله عز وجل: * (بل لعنهم الله بكفرهم) * فطبع على قلوبهم، * (فقليلا ما يؤمنون) * [آية: 88]، يعني بالقليل بأنهم لا يصدقون بأنه من الله، وكفروا بما سواه مما جاء به
62 محمد صلى الله عليه وسلم، فذلك قوله عز وجل في النساء: * (فلا يؤمنون إلا قليلا) * [النساء: 155]، وإنما سمى اليهود من قبل يهوذا بن يعقوب تفسير سورة البقرة آية [89] * (ولما جاءهم كتاب من عند الله) *، يعني قرآن محمد صلى الله عليه وسلم، * (مصدق لما معهم) * في التوراة بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم وقرآنه في التوراة، نزلت في اليهود، منهم: أبو رافع، وابن أبي الحقيق، وأبو نافع، وغرار، * (وكانوا من قبل) * أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم رسولا * (يستفتحون على الذين كفروا) *، نظيرها في الأنفال: * (إن تستفتحوا) * [الأنفال: 19]، يعني إن تستنصروا بخروج محمد صلى الله عليه وسلم على مشركي العرب: جهينة، ومزينة، وبني عذرة، وأسد، وغطفان، ومن يليهم، كانت اليهود إذا قاتلوهم قالوا: اللهم إنا نسألك باسم النبي الذي نجده في كتابنا تبعثه في آخر الزمان أن تنصرنا، فينصرون عليهم، فلما بعث الله عز وجل محمدا صلى الله عليه وسلم من غير بني إسرائيل كفروا به وهم يعرفونه، فذلك قوله سبحانه: * (فلما جاءهم) * محمد * (ما عرفوا) * أي بما عرفوا من أمره في التوراة، * (كفروا به فلعنة الله على الكافرين) * [آية: 89]، يعني اليهود. تفسير سورة البقرة آية [90] * (بئسما اشتروا به أنفسهم) *، يقول: بئسما باعوا أنفسهم بعرض يسير من الدنيا مما كانوا يصيبون من سفلة اليهود من المأكل في كل عام، ثم قال: * (أن يكفروا بما أنزل الله) * من القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، * (بغيا) *، يعني حسدا لمحمد، إذ كان من العرب، يقول الله عز وجل: * (أن ينزل الله من فضله) * من النبوة والكتاب، * (على من يشاء من عباده) صلى الله عليه وسلم يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، ثم قال سبحانه: * (فباءو بغضب على غضب) *، يقول: استوجبوا بغضب من الله حين كفروا بعيسى صلى الله عليه وسلم على غضب بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، * (وللكافرين) * من اليهود * (عذاب مهين) * [آية: 90]، يعني الهوان.
63 تفسير سورة البقرة آية [91] ثم قال: * (وإذا قيل لهم) *، يعني اليهود، منهم: أبو ياسر، والنعمان بن أوفى، * (ءامنوا) *، يعني صدقوا * (بما أنزل الله) * من القرآن على محمد، * (قالوا نؤمن بما أنزل علينا) *، يعني التوراة، * (ويكفرون بما وراءه) *، يعني بما بعد التوراة الإنجيل والفرقان، * (وهو الحق) *، يعني قرآن محمد * (مصدقا لما معهم) *، يقول تصديقا لمحمد بما أنزل الله عليه من القرآن مكتوبا عندهم في التوراة، * (قل) * لهم يا محمد: * (فلم تقتلون أنبياء الله) *، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا اليهود إلى الإيمان، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: آتنا بالآيات والقربان كما كانت الأنبياء تجئ بها إلى قومهم، يقول الله سبحانه: فقد كانت الأنبياء تجئ إلى آبائهم، فكانوا يقتلونهم، فقال الله عز وجل: قل يا محمد فلم تقتلون أنبياء الله من قبل، يقول: فلم قتلتم أنبياء الله * (من قبل) *، يعني آباءهم، وقد جاءوا بالآيات والقربان، * (إن كنتم مؤمنين) * [آية: 91]، يعني إن كنتم صادقين بأن الله عهد إليكم في التوراة ألا تؤمنوا بالرسول حتى يأتيكم بقربان تأكله النار، فقد جاءوا بالقربان، فلم قتلتموهم، يعني أباءهم. تفسير سورة البقرة آية [92] ثم قال لمحمد صلى الله عليه وسلم: قل لليهود: * (ولقد جاءكم موسى بالبينات)، يعني بالآيات التسع، * (ثم اتخذتم العجل) * (إلها) * (من بعده) *، يعني من بعد انطلاق موسى إلى الجبل، * (وأنتم ظالمون) * [آية: 92] لأنفسكم. تفسير سورة البقرة آية [93] * (وإذ أخذنا ميثاقكم) *، يعني وقد أخذنا ميثاقكم في التوراة، يعني اليهود، يعني على أن تعبدوا الله، وتشركوا به شيئا، وأن تؤمنوا بالكتاب والنبيين، * (ورفعنا فوقكم الطور) *، حين لم يقبلوا التوراة، قال موسى: يا رب، إن عبادك لم يقبلوا
64 كتابك، وعصوا أمرك، فأمر الله عز وجل الملائكة وجبريل، فرفعوا من الأرض المقدسة جبلا فوق رؤوسهم، فحال الجبل بينهم وبين السماء، فقال موسى، عليه السلام، لبني إسرائيل: إن لم تقبلوا التوراة طرح هذا الجبل، فيرضخ به رءوسكم، وكان الجبل منهم قدر ميل، فلما رأوا ذلك قبلوها، فذلك قوله سبحانه: * (وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم) * [الأعراف: 171]، خذوا ما ءاتيناكم بقوة) *، يعني ما آتيناكم من التوراة بالجد والمواظبة عليه، فرجع الجبل إلى مكانه، فقال موسى لبني إسرائيل: * (واسمعوا) *، يقول: اسمعوا ما في التوراة من الحدود، والأحكام، والشدة * (قالوا سمعنا) * بذلك الذي تخوفنا به من أمر الجبل، * (وعصينا) * أمرك، فلا نتبع ما جئتنا به من الشدة في التوراة، والعجل كان أرفق بنا، وأهون علينا مما جئتنا به من الشدة، يقول الله عز وجل: * (وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم) *، قال لهم موسى: أن تحبوا شيئا دونه يعدل حبه في قلوبكم، كحب الله خالقكم، * (قل بئسما يأمركم به إيمانكم أن كنتم مؤمنين) * [آية: 93]، كما تزعمون. تفسير سورة البقرة آية [94] ثم أخبر أنه حين رفع الجبل عليهم والبحر من ورائهم، خافوا الهلكة، فقبلوا التوراة، * (قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة) *، يعني الجنة، وذلك أن اليهود قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، وأن الله لن يعذبنا، فقال الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم: قل لهم * (إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة) * * (من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين) * [آية: 94]، يقول: فأحبوا الموت إن كنتم أولياء الله وأحباؤه، وأنكم في الجنة، قال الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم * (وأسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت) * [الأعراف: 163]، ألم أمسخهم قردة بمعصيتهم. تفسير سورة البقرة آية من [95 - 96] ثم أخبر عنهم بمعصيتهم، فقال: * (ولن يتمنوه أبدا) *، يعني ولن يحبوه أبدا، يعني
65 الموت، * (بما قدمت أيديهم) * من ذنوبهم وتكذيبهم بالله ورسوله، * (والله عليم بالظالمين) * [آية: 95]، يعني اليهود، فأبوا أن يتمنوه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ' لو تمنوا الموت ما قام منهم رجل من مجلسه حتى يغصه الله عز وجل بريقه فيموت '، * (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا) *، أي وأحرص الناس على الحياة من الذين أشركوا، أي مشركي العرب، * (يودأحدهم) *، يعني اليهود، * (لو يعمر) * في الدنيا * (ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر) * فيها * (والله بصير بما يعملون) * [آية: 96]، فأبوا أن يتمنوه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ' لو تمنوا الموت ما قام منهم رجل من مجلسه حتى يغصه الله عز وجل بريقه فيموت '. تفسير سورة البقرة من آية [97 - 98] فقالت اليهود: إن جبريل لنا عدو، أمر أن يجعل النبوة فينا، فجعلها في غيرنا من عداوته إيانا، فأنزل الله عز وجل: * (قل من كان عدوا لجبريل) *، يعني اليهود، * (فإنه نزله على قلبك بإذن الله) *، يقول جبريل، عليه السلام: تلاه عليك ليثبت به فؤادك، يعني قلبك، نظيرها في الشعراء قوله سبحانه: * (نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين) * [الشعراء: 193، 194]، ثم قال: * (مصدقا لما بين يديه) *، يعني قرآن محمد صلى الله عليه وسلم يصدق الكتب التي كانت قبله، * (وهدى) *، أي وهذا القرآن هدى من الضلالة، * (وبشرى) * لمن آمن به من المؤمنين، * (للمؤمنين) * [آية: 97]. * (من كان عدوا لله وملائكته ورسله) *، يعني بالملائكة جبريل، ورسله يعني محمدا وعيسى صلى الله عليه وسلم، كفرت اليهود بهم وبجبريل وبميكائيل، يقول الله عز وجل: * (وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين) * [آية: 98]، يعني اليهود. تفسير سورة البقرة من آية [99 - 100] * (ولقد أنزلنا إليك آيات بينات)، يعني القرآن، ثم قال: * (بينات) *، يعني ما فيه من الحلال والحرام، * (وما يكفر بها) *، يعني بالآيات، * (إلا الفاسقون) * [آية: 99]، يعني اليهود.
66 ثم قال سبحانه: * (أوكلما عاهدوا عهدا) * بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم * (نبذه فريق منهم) * من اليهود، * (بل أكثرهم لا يؤمنون) * [آية: 100]، يعني لا يصدقون بالقرآن أنه من الله جاء. تفسير سورة البقرة آية [101] * (ولما جاءهم) *، يعني اليهود، * (رسول من عند الله) *، يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، * (مصدق لما معهم) *، يعني يصدق محمدا أنه نبي رسول معهم في التوراة، * (نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب) *، يعني جعل طائفة من اليهود * (كتاب الله) *، يعني ما في التوراة من أمر محمد، * (وراء ظهورهم) *، فلم يتبعوه ولم يبينوه للناس، * (كأنهم لا يعلمون) * [آية: 101] بأن محمدا رسول نبي؛ لأن تصديقه معهم، نزلت في كعب ابن الأشرف، وكعب بن أسيد، وأبي ياسر بن أخطب، وسعيد بن عمرو والشاعر، ومالك بن الضيف، وحيي بن أخطب، وأبي لبابة بن عمرو. تفسير سورة البقرة آية [102] * (واتبعوا) *، يعني اليهود، * (ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) *، يعني ما تلت الشياطين على عهد سليمان وفي سلطانه، وذلك أن طائفة من الشياطين كتبوا كتابا فيه سحر، فدفنوه في مصلى سليمان حين خرج من ملكه، ووضعوه تحت كرسيه، فلما توفي سليمان، استخرجوا الكتاب، فقالوا: إن سليمان تملككم بهذا الكتاب به كانت تجئ الريح، وبه سخرت الشياطين، فعلموه الناس، فأبرأ الله عز وجل منه سليمان، * (وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر) *، فتركت اليهود كتاب الأنبياء واتبعوا ما قالت من السحر، * (وما أنزل على الملكين ببابل
67 هاروت وماروت) *، أي واتبعوا ما أنزل على الملكين، يعني هاروت وماروت، وكانا من الملائكة مكانهما في السماء واحد، ثم قال: ببابل، أي وهما ببابل، وإنما سميت بابل؛ لأن الألسن تبلبلت بها حين ألقى إبراهيم صلى الله عليه وسلم في النار ثم قال: * (وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر) *، وذلك أن هاروت وماروت يصنعان من السحر الفرقة، * (فيتعلمون منهما) * بعد قولهما: * (فلا تكفر) * إذا وصفا فيتعلمون منهما * (ما يفرقون به بين المرء وزوجه) *، والفرقة أن يؤخذ الرجل عن امرأته، يقول الله عز وجل: * (وما هم بضارين) *، يعني السحرة، * (به من أحد) *، يعني بالسحر من أحد، * (إلا بإذن الله) * في ضره، * (ويتعلمون ما
68 يضرهم) *، فيتعلمون السحر من الشياطين، والفرقة من هاروت وماروت، * (ولا ينفعهم) * (ثم قال) * (ولقد علموا لمن اشتراه) *، يقول: لقد علمت اليهود في التوراة لمن اختار السحر * (ما له في الآخرة من خلاق) *، يقول: ما له في الآخرة من نصيب، نظيرها في براءة قوله سبحانه: * (فاستمتعتم بخلاقكم) * [التوبة: 69]، وكقوله: * (أولئك لا خلاق لهم في الآخرة) * [آل عمران: 77]، يعني نصيب، * (ولبئس ما شروا) *، يقول: باعوا * (به أنفسهم) * (من السحر) * (لو) *، يعني إن * (كانوا يعلمون) * [آية: 102]، ولكنهم لا يعلمون. كان أبو صالح يروي عن الحسن في قوله تعالى: * (وما أنزل على الملكين ببابل) *، قال: وكان هاروت وماروت مطيعين لله عز وجل، هبطا بالسحر ابتلاء من الله لخلقه، وعهد إليهما عهدا أن لا يعلما أحدا سحرا حتى يقولا له مقدمة: * (إنما نحن فتنة) *، يعني محنة وبلوى، * (فلا تكفر) *، فإذا أبى عليهما إلا تعليم السحر، قالا له: اذهب إلى موضع كذا وكذا، فإنك إذا أتيته وفعلت كذا وكذا، كنت ساحرا. تفسير سورة البقرة من آية [103 - 104] ثم قال لليهود: * (ولو أنهم ءامنوا) *، يعني صدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، * (واتقوا) * (الشرك) * (لمثوبة من عند الله) *، يقول: لكان ثوابهم عند الله * (خير) * من السحر والكفر * (لو) *، يعني إن * (كانوا يعلمون) * [آية: 103]، نظيرها في المائدة: * (قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله) * [المائدة: 60]، يعني ثوابا. * (الذين ءامنوا لا تقولوا راعنا) *، وذلك أن المؤمنين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: راعنا سمك، كقولهم في الجاهلية بعضهم لبعض، وراعنا في كلام اليهود الشتم، فلما سمعت ذلك اليهود من المشركين أعجبهم، فقالوا مثل ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رجل من الأنصار، وهو سعد بن عبادة الأنصاري لليهود: لئن قالها رجل منكم للنبي صلى الله عليه وسلم لأضربن عنقه، فوعظ الله عز وجل المؤمنين، فقال: * (يا أيها الذين ءامنوا لا تقولوا) * للنبي صلى الله عليه وسلم: * (راعنا) * * (و) * (لكن) * (وقولوا انظرنا) *، قولوا للنبي صلى الله عليه وسلم اسمع منا، ثم قال:
69 * (واسمعوا) * ما تؤمرون به، * (وللكافرين) * يعني اليهود، * (عذاب أليم) * [آية: 104]، يعني وجيعا. تفسير سورة البقرة آية [105] * (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب) *، منهم: قيس بن عمرو، وعازار بن ينحوم، وذلك أن الأنصار دعوا خلفاءهم من اليهود إلى الإسلام، فقالوا للمسلمين: ما تدعون إلى خير مما نحن عليه، وددنا أنكم على هدى، وأنه كما تقولون، فكذبهم الله سبحانه، فقال: * (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب) * * (ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته) *، يعني دينه الإسلام، * (من يشاء) *، نظيرها في هل أتى: * (يدخل من يشاء في رحمته) * [الإنسان: 31]، يعني في دينه الإسلام، فاختص المؤمنين، * (والله ذو الفضل العظيم) * [آية: 105]، فاختصهم لدينه. تفسير سورة البقرة آية [106] * (ما ننسخ من آية أو ننسها) *، يعني نبدل من آية فنحولها فيها تقديم، يقول: * (نأت بخير منها) *، يقول: نأت من الوحي مكانها أفضل منها لكم وأنفع لكم، ثم قال: * (أو مثلها) *، يقول: أو نأت بمثل ما نسخنا أو ننسها، يقول: أو نتركها كما هي، فلا ننسخها، وذلك أن كفار مكة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنما تقولت أنت يا محمد هذا القرآن من تلقاء نفسك، قلت كذا وكذا، ثم غيرت فقلت كذا وكذا، فأنزل الله عز وجل يعظم نفسه تبارك اسمه: * (ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير) * [آية: 106]، من الناسخ والمنسوخ قدير. تفسير سورة البقرة من آية [107 - 109]
70 * (ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض) *، يحكم فيهما ما يشاء، ويأمر بأمر، ثم يأمر بغيره، ثم قال سبحانه: * (وما لكم من دون الله من ولي) *، يعني قريب ينفعكم، * (ولا نصير) * [آية: 107]، يعني ولا مانع يمنعكم من الله لقولهم: إن القرآن ليس من الله، وإنما تقوله محمد صلى الله عليه وسلم من تلقاء نفسه، نظيرها في براءة قوله سبحانه: * (وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير) * [التوبة: 74]، وقال عز وجل في النحل: * (وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون) * [النحل: 101] أنك لن تقول إلا ما قيل لك. * (أم تريدون أن تسئلوا رسولكم) *، يعني يقول: تريدون أن تسألوا محمدا أن يريكم ربكم جهرة، * (كما سئل موسى من قبل) * محمد، يعني كما قالت بنو إسرائيل لموسى: * (أرنا الله جهرة) *، * (ومن يتبدل) *، يعني من يشتر * (الكفر بالإيمان) *، يعني اليهود، * (فقد ضل سواء السبيل) * [آية: 108]، يعني قد أخطأ قصد طريق الهدى، كقوله سبحانه في القصص: * (عسى ربي أن يهديني سواء السبيل) * [القصص: 22]، يعني قصد الطريق. * (ود كثير من أهل الكتاب) *، وذلك أن نفرا من اليهود، منهم: فنحاص، وزيد بن قيس، بعد قتال أحد، دعوا حذيفة، وعمارا إلى دينهم، وقالوا لهما: إنكما لن تصيبا خيرا للذي أصابهم يوم أحد من البلاء، وقالوا لهما: ديننا أفضل من دينكم، ونحن أهدى منكم سبيلا، قال لهم عمار: كيف نقض العهد فيكم؟ قالوا: شديد، قال عمار: فإني عهدت ربي أن لا أكفر بمحمد أبدا، ولا أتبع دينا غير دينه، فقالت اليهود: أما عمار، فقد ضل وصبأ عن الهدى بعد إذ بصره الله، فكيف أنت يا حذيفة؟ ألا تبايعنا؟ قال حذيفة: الله ربي، ومحمد نبيي، والقرآن إمامي، أطيع ربي، وأقتدي برسولي، وأعمل بكتاب الله ربي حتى يأتيني اليقين على الإسلام، والله السلام ومنه السلام، فقالوا: وإله موسى، لقد أشربت قلوبكم حب محمد، فقال عمار: ربي أحمده، وربي أكرم محمدا، ومنه اشتق الجلالة، إن محمدا أحمد هو محمد.
71 ثم أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبراه، فقال: ' ما رددتما عليهما؟ '، فقالا: قلنا: الله ربنا، ومحمد رسولنا، والقرآن إمامنا، الله نطيع، وبمحمد نقتدي، وبكتاب الله نعمل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ' أصبتما أخا الخير، وأفلحتما '، فأنزل الله عز وجل يحذر المؤمنين: * (ود كثير من أهل الكتاب) *، * (لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق) * في التوراة أن محمدا نبي، ودينه الإسلام، ثم قال سبحانه: * (فاعفوا واصفحوا) *، يقول: اتركوهم واصفحوا، يقول: وأعرضوا عن اليهود، * (حتى يأتي الله بأمره) *، فأتى الله عز وجل بأمره في أهل قريظة القتل والسبي، وفي أهل النضير الجلاء والنفي من منازلهم وجناتهم التي بالمدينة إلى أذرعات وأريحا من أرض الشام، * (إن الله على كل شيء قدير) * [آية: 109]، من القتل والجلاء قدير. تفسير سورة البقرة من آية [110 - 111] * (وأقيموا الصلاة) *، يقول: وأتموها لمواقيتها، * (وآتوا الزكاة) *، يقول: آتوا زكاة أموالكم، * (وما تقدموا لأنفسكم من خير) * في الصدقة، ثم قال: * (تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير) * [آية: 110]، * (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان) * على ديننا، * (هودا أو نصارى) *، يقول الله سبحانه: * (تلك أمانيهم) *، يقول: تمنوا على الله، فقال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: * (قل هاتوا برهانكم) *، يعني حجتكم من التوراة والإنجيل * (إن كنتم صادقين) * [آية: 111] بما تقولون. تفسير سورة البقرة من آية [112 - 113] فأكذبهم الله عز وجل، فقال: * (بلي) * لكن يدخلها * (من أسلم وجهه لله) *، يعني أخلص دينه لله، * (وهو محسن) * في عمله، * (فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * [آية: 112] عند الموت، * (وقالت اليهود) *، يعني ابن صوريا وأصحابه، * (ليست النصارى على شيء) * من الدين، فمالك يا محمد والنصارى اتبع ديننا، * (وقالت
72 النصارى ليست اليهود على شيء) * من الدين، فمالك يا محمد واليهود، اتبع ديننا، يقول الله عز وجل: * (وهم يتلون الكتاب) *، يقول: وهم يقرءون التوراة والإنجيل، يعني يهود المدينة ونصارى نجران، * (كذلك) *، يعني هكذا، * (قال الذين لا يعلمون) * بتوحيد ربهم، يعني مشركي العرب أن محمدا وأصحابه ليسوا على شيء من الدين، يقول الله: * (مثل قولهم) *، يعني مثل ما قالت اليهود والنصارى بعضهم لبعض، فذلك قوله سبحانه في المائدة: * (فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة) * [المائدة: 14]، يقول: * (فالله يحكم بينهم يوم القيامة) *، يعني بين مشركي العرب وبين أهل الكتاب، * (فيما كانوا فيه) * (من الدين) * (يختلفون) * [آية: 113]. تفسير سورة البقرة آية [114] * (ومن أظلم) *، نزلت في الطياخوس بن ببليس الرومي ومن معه من أهل الروم، يقول: فلا أحد أظلم * (ممن منع) *، يعني نصارى الروم * (مساجد الله) *، يعني بيت المقدس أن يصلي فيه، * (أن يذكر فيها اسمه) *، يعني التوحيد، * (وسعى في خرابها) *، وذلك أن الروم ظهروا على اليهود، فقتلوهم وسبوهم وخربوا بيت المقدس، وألقوا فيه الجيف، وذبحوا فيه الخنازير، ثم كان على عهد الروم الثانية ططسر بن سناباتوس، ويقال: اصطفانوس، فقتلهم وخرب بيت المقدس، فلم يعمر حتى بناه المسلمون في زمان عمر بن الخطاب، رضوان الله عليه، يقول الله عز وجل: * (أولئك) *، يعني أهل الروم * (ما كان) * (ينبغي) * (لهم أن يدخلوها) *، يعني الأرض المقدسة إذ بعث محمد صلى الله عليه وسلم * (إلا خائفين) *، فلا يدخل بيت المقدس اليوم الرومي إلا خائفا متنكرا، فمن قدر عليه منهم، فإنه يعاقب، ثم أخبر عن أهل الروم، فقال: * (لهم في الدنيا خزي) *، يعني الهوان إن لم تقتل مقاتلتهم وتسب ذراريهم بأيدي المسلمين في ثلاث مدائن: قسطنطينية، والرومية، ومدينة أخرى وهي عمورية، فهذا خزيهم في الدنيا، * (ولهم في الآخرة عذاب عظيم) * [آية: 114] من النار تفسير سورة البقرة من آية [115 - 117]
73 * (ولله المشرق والمغرب) *، وذلك أن ناسا من المؤمنين كانا في سفر، فحضرت الصلاة في يوم غيم، فمنهم من صلى قبل المشرق، ومنهم من صلى قبل المغرب، وذلك قبل أن تحول القبلة إلى الكعبة، فلما طلعت الشمس عرفوا أنهم قد صلوا لغير القبلة، فقدموا المدينة، فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فأنزل الله عز وجل: * (ولله المشرق والمغرب) *، * (فأينما تولوا) * تحولوا وجوهكم في الصلاة، * (فثم وجه الله) * فثم الله، * (إن الله واسع) *، لتوسيعه عليهم في ترك القبلة حين جهلوها، * (عليم) * [آية: 115] بما نووا، وأنزل الله عز وجل: * (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب) * [البقرة: 177] إلى آخر الآية. * (وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه) *، إنما نزلت في نصارى نجران السيد والعاقب ومن معهما من الوفد قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فقالوا: عيسى ابن الله، فأكذبهم الله سبحانه وعظم نفسه، تعالى عما يقولون، فقال: * (بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون) * [آية: 116]، يعني لله، يعني من فيهما، يعني عيسى صلى الله عليه وسلم، وغيره عبيده، وفي ملكه، ثم قال: قانتون، يعني مقرون بالعبودية، ثم عظم نفسه، فقال: * (بديع السماوات والأرض) * ابتدعهما ولم يكونا شيئا، * (وإذا قضى أمرا) * في علمه أنه كائن، * (فإنما يقول له كن فيكون) * [آية: 117]، لا يثنى قوله كفعل المخلوقين، وذلك أن الله عز وجل، قضى أن يكون عيسى صلى الله عليه وسلم في بطن أمه من غير أب، فقال له، كن، فكان. تفسير سورة البقرة من آية [118 - 120] * (وقال الذين لا يعلمون) * بتوحيد ربهم، يعني مشركي العرب للنبي صلى الله عليه وسلم، * (لولا) * يعنون هلا * (يكلمنا الله) * يخبرنا بأنك رسوله، * (أو تأتينا آية) * كما كانت الأنبياء تأتيهم الآيات تجئ إلى قومهم، يقول الله: * (كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم) *، يقول: هكذا قالت بنو إسرائيل من قبل مشركي العرب، فقالوا
74 في سورة البقرة، والنساء لموسى: * (أرنا الله جهرة) * [النساء: 153]، وأتوا بالآيات وسمعوا الكلام فحرفوه، فهل هؤلاء إلا مثل أولئك، فذلك قوله سبحانه: * (تشابهت قلوبهم) *، ثم قال: وإن كذب مشركو العرب بمحمد، * (قد بينا الآيات) *، أي فقد بينا الآيات، فذلك قوله سبحانه في العنكبوت: * (بل هو آيات) *، يعني بيان أمر محمد آيات * (بينات) * [العنكبوت: 49]، يعني واضحات في التوراة أنه أمي لا يقرأ الكتاب ولا يخط بيمينه، * (لقوم يوقنون) * [آية: 118]، يعني مؤمني أهل التوراة. * (إنا أرسلناك بالحق) *، يقول: لم نرسلك عبثا لغير شئ، * (بشيرا ونذيرا) *، بشيرا بالجنة ونذيرا من النار، * (ولا تسئل عن أصحاب الجحيم) * [آية: 119]، فإن الله قد أحصاها عليهم، * (ولن ترضى عنك اليهود) * من أهل المدينة، * (ولا النصارى) * من أهل نجران، * (حتى تتبع ملتهم) *، وذلك أنهم دعوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى دينهم وزعموا أنهم على الهدى، فأنزل الله عز وجل: * (قل) * لهم: * (إن هدى الله) *، يعني الإسلام * (هو الهدى) *، ثم حذر نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال: * (ولئن اتبعت أهواءهم) *، يعني أهل الكتاب على دينهم * (بعد الذي جاءك من العلم) *، وعلم البيان، * (ما لك من الله من ولي) *، يعني قريب فينفعك * (ولا نصير) * [آية: 120]، يعني ولا مانع. تفسير سورة البقة آية [121] ثم ذكر مؤمني أهل التوراة، عبد الله بن سلام وأصحابه، فقال عز وجل: * (الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته) *، يعني أعطيناهم التوراة، * (يتلونه) *، يعني نعت محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة، * (حق تلاوته) * في التوراة ولا يحرفون نعته، * (أولئك يؤمنون به) *، يقول: أولئك يصدقون بمحمد، يعني عبد الله بن سلام وأصحابه، ثم قال: * (ومن يكفر به) *، يعني بمحمد من أهل التوراة، * (فأولئك هم الخاسرون) * [آية: 121] في العقوبة. تفسير سورة البقرة من آية [122 - 123] * (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين) * [آية:
75 122]، يعني عالمي ذلك الزمان، يعني عالمي أجدادهم، يعني بالمن والسلوى والحجر والغمام. * (واتقوا يوما) *، يعني أخشوا يوما يوم القيامة * (لا تجزي نفس) كافرة * (عن نفس) * (كافرة) * (شيئا) * من المنفعة، * (ولا يقبل منها عدل) *، يعني فداء، * (ولا تنفعها شفاعة) *، يعني شفاعة نبي ولا شهيد ولا صديق، * (ولا هم ينصرون) * [آية: 123]، يعني يمتنعون من العذاب تفسير سورة البقرة آية [124] * (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات) *، يعني بذلك كل مسألة في القرآن مما سأل إبراهيم من قوله: * (رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات) * [البقرة: 126]، ومن قوله: * (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم) * [البقرة: 128]، وحين قال: * (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك) * [البقرة: 129]، وحين قال لقومه حين حاجوه: * (إني برئ مما تشركون) * [الأنعام: 78]. وحين قال: * (إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا) * [الأنعام: 79]، وحين ألقى في النار، وحين أراد ذبح ابنه، وحين قال: * (رب هب لي من الصالحين) * [الصافات: 100]، وحين سأل الولد، وحين قال: * (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام) * [إبراهيم: 35]، وحين قال: * (فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم) * [إبراهيم: 37]، وحين قال: * (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم) * [البقرة: 127]، وما كان نحو هذا في القرآن، وما سأل إبراهيم فاستجاب له، * (فأتمهن) *، ثم زاده الله مما لم يكن في مسألته، * (قال إني جاعلك للناس إماما) * في الدين يقتدى بسنتك، * (قال) * إبراهيم: يا رب، * (ومن ذريتي) * فاجعلهم أئمة، * (قال) * الله: إن في ذريتك الظلمة، يعني اليهود والنصارى، * (لا ينال عهدي الظالمين) * [آية: 124]، يعني المشركين من ذريتك، قال: لا ينال طاعتي الظلمة من ذريتك، ولا أجعلهم أئمة، أنحلها أوليائي وأجنبها أعدائي. تفسير سورة البقرة آية [125]
76 * (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس) * يقولون: يثوبون إليه في كل عام ليقضوا منه وطرا، ثم قال: * (وأمنا) * لمن دخله وعاذ به في الجاهلية، ومن أصاب اليوم حدا ثم لجأ إليه أمن فيه حتى يخرج من الحرم، ثم يقام عليه ما أحل بنفسه، ثم قال: * (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) *، يعني صلاة، ولم يؤمروا بمسحه ولا تقبيله، وذلك أنه كان ثلاثمائة وستون صنما في الكعبة، فكسرها النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: * (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي) * من الأوثان، فلا تذرا حوله صنما ولا وثنا، يعني حول البيت * (للطائفين) * بالبيت من غير أهل مكة، * (والعاكفين) *، يعني أهل مكة مقيمين بها، * (والركع السجود) * [آية: 125] في الصلوات. تفسير سورة البقرة آية [126] * (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا) *، يعني مكة، فقال الله عز وجل: نعم، فحرمه من الخوف، * (وارزق أهله) * من المقيمين بمكة، * (من الثمرات من آمن منهم بالله) *، يعني من صدق منهم بالله * (واليوم الآخر) * وصدق بالله أنه واحد لا شريك له، وصدق بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال، فأما مكة، فجعلها الله أمنا، وأما الرزق، فإن إبراهيم اختص بمسائلته الرزق للمؤمنين، * (قال ومن كفر فأمتعه) *، أي قال الله عز وجل: والذين كفروا أرزقهم أيضا مع الذين آمنوا، ولكنها لهم متعة من الدنيا، * (قليلا ثم أضطره) * ألجئه إن مات على كفره * (إلى عذاب النار وبئس المصير) * [آية: 126]. تفسير سورة البقرة من آية [127 - 129]
77 * (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيات وإسماعيل) *، يعني أساس البيت الحرام الذي كان رفع ليالي الطوفان على عهد نوح، فبناه إبراهيم وإسماعيل على ذلك الأصل، وأعانهم الله عز وجل بسبعة أملاك على البناء ملك إبراهيم، وملك إسماعيل، وملك هاجر، والملك الموكل بالبيت، وملك الشمس، وملك القمر، وملك آخر، فلما فرغا من بناء البيت، قالا: * (ربنا تقبل منا) *، يعني بناء هذا البيت الحرام، * (إنك أنت السميع العليم) * [آية: 127] لدعائهما: * (ربنا تقبل منا) *. ثم قالا: * (ربنا واجعلنا مسلمين لك) *، يعني مخلصين لك، * (ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا) *، يعني علمنا مناسكنا، نظيرها: * (بما أراك الله) * [النساء: 105]، يعني بما علمك الله، ونظيرها: * (ولما يعلم الله) * [آل عمران: 142]، يعني يرى الله، ونظيرها أيضا: * (ويرى الذين أوتوا العلم) * [سبأ: 6]، يعني ويعلم، ونظيرها: * (فليعلمن الله الذين صدقوا) *، يعني وليرين الله، * (وليعلمن الكاذبين) * [العنكبوت: 3]، يعني ويرى. * (وأرنا مناسكنا) * فنصلي لك، * (وتب علينا) *، يعني إبراهيم وإسماعيل أنفسهما، * (إنك أنت التواب الرحيم) * [آية: 128]، ففعل الله عز وجل ذلك به، فنزل جبريل عليه السلام، فانطلق بإيراهيم صلى الله عليه وسلم إلى عرفات وإلى المشاعر ليريه ويعلمه كيف يسأل ربه، فلما أراه الله المناسك والمشاعر، علم أن الله عز وجل سيجعل في ذريتهما أمة مسلمة، كما سألا ربهما، فقالا عند ذلك: * (ربنا وابعث فيهم) *، يعني في ذريتنا * (رسولا منهم) *، يعني محمد صلى الله عليه وسلم، * (يتلوا عليهم آياتك) *، يعني يقرأ عليهم آيات القرآن، * (ويعلمهم الكتاب) *، يقول: يعلمهم ما يتلى عليهم من القرآن، ثم قال: * (والحكمة) *، يعني الموعظة التي في القرآن من الحلال والحرام، * (ويزكيهم) *، يعني ويطهرهم من الشرك والكفر، * (إنك أنت العزيز الحكيم) * [آية: 129]، فاستجاب الله له في سورة الجمعة، فقال: * (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته) * [الجمعة: 2] إلى آخر الآية. تفسير سورة البقرة من آية [130 - 134]
78 * (ومن يرغب عن ملة إبراهيم، وذلك أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجرا إلى الإسلام، فقال لهما: ألستما تعلمان أن الله عز وجل قال لموسى: إني باعث نبيا من ذرتة إسماعيل يقال له: أحمد، يحيد أمته عن النار، وأنه ملعون من كذب بأحمد النبي، وملعون من لم يتبع دينه؟ فأسلم سلمة، وأبى مهاجر، ورغب عن الإسلام، فأنزل الله عز وجل: * (ومن يرغب عن ملة إبراهيم) *، يعني الإسلام، ثم استثنى، * (إلا من سفه نفسه) *، يعني إلا من خسر نفسه من أهل الكتاب، * (ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه) *، يعني إبراهيم، يعني اخترناه بالنبوة والرسالة في الدنيا، * (وإنه) * * (في الآخرة لمن الصالحين) * [آية: 130] * (إذ قال له ربه أسلم) *، يقول: أخلص، * (قال أسلمت) *، يعني أخلصت * (لرب العالمين) * [آية: 131]، ووصى بها) *، يعني بالإخلاص * (إبراهيم بنيه) * الأربعة: إسماعيل، وإسحاق، ومدين، ومداين، ثم وصى بها يعقوب بنيه يوسف وإخواته اثنى عشر ذكرا بنيه، * (ويعقوب يا بني) *، أي فقال يعقوب لبنيه الاثني عشر: * (إن الله) * عز وجل * (اصطفي) *، يعني اختار * (لكم الدين) *، يعني دين الإسلام، * (فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) * [آية: 132]، يعني مخلصون بالتوحيد، * (أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت) *، وذلك أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد، ألست تعلم أن يعقوب يوم مات أوصى بنيه بدين اليهودية، فأنزل الله عز وجل: * (أم كنتم شهداء إذا حضر يعقوب الموت) *، قال الله عز وجل: إن اليهود لم يشهدوا وصية يعقوب لبنيه، * (إذ قال لبنيه) * يوسف وإخوته: * (ما تعبدون من بعدي) * أي بعد موتي، * (قالوا نعبد إلاهك وإله آبائك) * * (إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون) *
79 [آية: 133]، يعني مخلصون له بالتوحيد. يقول: * (تلك أمة) *، يعني عصبة، * (قد خلت لها ما كسبت) *، من العمل، يعني الدين، يعني إبراهيم وبنيه، ويعقوب وبنيه، ثم قال لليهود، * (ولكم ما كسبتم) * من الدين، * (ولا تسألون عما كانوا يعملون) * [آية: 134] أولئك تفسير سورة البقرة من آية [135 - 141] * (وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا) *، وذلك أن رؤوس اليهود كعب بن الأشرف، وكعب بن أسيد، وأبا ياسر بن أخطب، ومالك بن الضيف، وعازارا، وإشماويل، وخميشا، ونصارى نجران السيد، والعاقب ومن معهما، قالوا للمؤمنين: كونوا على ديننا، فإنه ليس دين إلا ديننا، فكذبهم الله تعالى، فقال: * (قل بل) * الدين * (ملة إبراهيم) *، يعني الإسلام، ثم قال: * (حنيفا) *، يعني مخلصا، * (وما كان من المشركين) * [آية: 135]، يعني من اليهود والنصارى. ثم أمر الله عز وجل المؤمنين، فقال: * (قولوا ءامنا بالله) * بأنه واحد لا شريك له، * (وما أنزل إلينا) *، يعني قرآن محمد صلى الله عليه وسلم، * (وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب
80 والأسباط) *، وهم بنو يعقوب يوسف وإخوته، فنزل على هؤلاء صحف إبراهيم، قال: * (وما أوتي موسى) *، يعني التوراة، * (و) * (ما أوتي) * (وعيسى) *، يعني الإنجيل، يقول: ما أنزل على موسى وعيسى وصدقنا، * (وما أوتي النبيون من ربهم) *، وأوتي داود وسليمان الزبور، * (لا نفرق بين أحد منهم) *، فنؤمن ببعض النبيين ونكفر ببعض، كفعل أهل الكتاب، * (ونحن له مسلمون) [آية: 136]، يعني مخلصون، نظيرها في آل عمران. يقول الله سبحانه: * (فإن ءامنوا بمثل ما ءامنتم به) *، يقول: فإن صدق أهل الكتاب بالذي صدقتم به يا معشر المسلمين من الإيمان بجميع الأنبياء والكتب، * (فقد اهتدوا) * من الضلالة، * (وإن تولوا) *، أي وإن كفروا بالنبيين وجميع الكتب، * (فإنما هم في شقاق) *، يعني في ضلال واختلاف، نظيرها: * (وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد) * [البقرة: 176]، يعني لفي ضلال واختلاف؛ لأن اليهود كفروا بعيسى ومحمد، صلى الله عليهما وسلم، وبما جاءا به، وكفرت النصارى بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، فلما نزلت هذه الآية قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على اليهود والنصارى، فقال: ' إن الله عز وجل أمرني أن أوصي بهذه الآية، فإن أنتم آمنتم، يعني صدقتم بالنبي صلى الله عليه وسلم والكتاب، فقد اهتديتم، وإن توليتم وأبيتم عن الإيمان، فإنما أنتم في شقاق '. فلما سمعت اليهود ذكر عيسى صلى الله عليه وسلم، قالوا: لا نؤمن بعيسى، وقالت النصارى: وعيسى بمنزلتهم مع الأنبياء، ولكنه ولد الله، يقول: إن أبوا أن يؤمنوا بمثل ما آمنتم به، * (فسيكفيكهم الله) * يا محمد، يعني أهل الكتاب، ففعل الله عز وجل ذلك، فقتل أهل قريظة، وأجلى بني النضير من المدينة إلى الشام، * (وهو السميع العليم) * [آية: 137]، لقولهم للمؤمنين: * (كونوا هودا أو نصارى تهتدوا) *، ثم قال: * (العليم) * بما قالوا: قل لهم: * (صبغة الله) * التي صبغ الناس عليها، * (ومن أحسن من الله صبغة) *، يعني الإسلام؛ لقولهم للمؤمنين: اتبعوا ديننا، فإنه ليس دين إلا ديننا، يقول الله عز وجل: دين الله، ومن أحسن من الله دينا؟! يعني الإسلام، * (ونحن له عابدون) * [آية: 138]، يعني موحدون. * (قل أتحاجوننا في الله) *، يقول: أتخاصموننا في الله، * (وهو ربنا وربكم) *، فقال لهم: * (ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون) * [آية: 139]، يقول: لنا ديننا
81 ولكم دينكم، يعني أن يهود أهل المدينة ونصارى أهل نجران قالوا للمؤمنين: إن أنبياء الله كانوا منا من بني إسرائيل، فكانوا على ديننا، فأنزل الله عز وجل يكذبهم: * (أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط)، وإنما سموا الأسباط؛ لأنه ولد لكل واحد منهم أمة من الناس، * (كانوا هودا أو نصارى قل) لهم يا محمد: * (أأنتم أعلم) * بدينهم * (أم الله)، ثم قال عز وجل: * (ومن أظلم) *، يقول: فلا أحد أظلم * (ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون) [آية: 140]، فكتموا تلك الشهادة التي عندهم، وذلك أن الله عز وجل بين أمر محمد في التوراة والإنجيل، وكتموا تلك الشهادة التي عندهم، وذلك قوله: * (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس) * [آل عمران: 187]، يعني أمر محمد صلى الله عليه وسلم. فلما قالوا: إن إبراهيم وبنيه، ويعقوب وبنيه كانوا على ديننا، قال الله تعالى: * (تلك أمة) *، يعني عصبة، يعني إبراهيم وبنيه ويعقوب وبنيه، * (قد خلت)، يعني قد مضت، * (لها ما كسبت)، يعني من العمل، يعني من الدين، * (ولكم) * معشر اليهود والنصارى، * (ما كسبتم) * من العمل، يعني من الدين، * (ولا تسألون عما كانوا يعملون) * [آية: 141] أولئك. تفسير سورة البقرة من آية [142 - 143] * (سيقول السفهاء من الناس) *، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا بمكة يصلون ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي، فلما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء ليلا، أمر بالصلوات الخمس، فصارت الركعتان للمسافر، وللمقيم أربع ركعات، فلما هاجر إلى المدينة لليلتين خلتا من ربيع الأول، أمر أن يصلي نحو بيت المقدس؛ لئلا يكذب به أهل الكتاب إذا صلى إلى غير قبلتهم مع ما يجدون من نعته في التوراة، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قبل بيت المقدس من أول مقدمة المدينة سبعة عشر شهرا، وصلت الأنصار قبل بيت المقدس سنتين قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت الكعبة أحب القبلتين إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال
82 لجبريل، عليه السلام: ' وددت أن ربي صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها '، فقال جبريل، عليه السلام: إنما أنا عبد مثلك لا أملك شيئا، فاسأل ربك ذلك، وصعد جبريل إلى السماء، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبريل، عليه السلام، بما سأل. فأنزل الله عز وجل في رجب عند صلاة الأولى قبل قتال بدر بشهرين: * (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره)، ولما صرفت القبلة إلى الكعبة، قال مشركو مكة: قد تردد على أمره واشتاق إلى مولد آبائه، وقد توجه إليكم وهو راجع إلى دينكم، فكان قولهم هذا سفها منهم، فأنزل الله عز وجل: * (سيقول السفهاء من الناس) *، يعني مشركي مكة، * (ما ولاهم)، يقول: ما صرفهم * (عن قبلتهم) * الأولى * (التي كانوا عليها قل) يا محمد * (لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) [آية: 142]، يعني دين الإسلام، يهدي الله نبيه والمؤمنين لدينه. * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) *، وذلك أن اليهود منهم مرحب، ورافع، وربيعة قالوا لمعاذ: ما ترك محمد قبلتنا إلا حسدا، وإن قبلتنا قبلة الأنبياء، ولقد علم محمد أنا عدل بين الناس، فقال معاذ: إنا على حق وعدل، فأنزل الله عز وجل في قول معاذ: * (وكذلك) *، يعني وهكذا، * (جعلناكم أمة وسطا) *، يعني عدلا، نظيرها في ن والقلم، قوله سبحانه: * (قال أوسطهم) * [القلم: 28]، يعني أعدلهم، وقوله سبحانه: * (من أوسط ما تطعمون أهليكم) * [المائدة: 89]، يعني أعدل، فقول الله: * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) *، يعني أمة محمد تشهد بالعدل في الآخرة بين الأنبياء وبين أممهم، * (لتكونوا شهداء على الناس)، يعني على الرسل هل بلغت الرسالة عن ربها إلى أممهم، * (ويكون الرسول)، يعني محمد صلى الله عليه وسلم * (عليكم شهيدا) *، يعني على أمته أنه بلغهم الرسالة. * (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها) *، يعني بيت المقدس، * (إلا لنعلم)، إلا لنرى * (من يتبع الرسول) *، يعني محمدا صلى الله عليه وسلم على دينه في القبلة ومن يخالفه من اليهود، * (ممن ينقلب على عقبيه) *، يقول: ومن يرجع إلى دينه الأول، * (وإن كانت لكبيرة)، يعني القبلة حين صرفها عن بيت المقدس إلى الكعبة، فعظمت على اليهود، ثم استثنى
83 فقال: * (إلا على الذين هدى الله) * فإنه لا يكبر عليهم ذلك، * (وما كان الله ليضيع إيمانكم) *، وذلك أن حيي بن أخطب اليهودي وأصحابه قالوا للمسلمين: أخبرونا عن صلاتكم نحو بيت المقدس، أكانت هدى أم ضلالة، فوالله لئن كانت هدى لقد تحولتم عنه، ولئن كانت صلالة لقد دنتم الله بها فتقربتم إليه بها، وإن من مات منكم عليها مات على الضلالة. فقال المسلمون: إنما الهدى ما أمر الله عز وجل به، والضلالة ما نهى الله عنه، قالوا: فما شهادتكم على من مات منكم على قبلتنا؟ وكان قد مات قبل أن تحول القبلة إلى الكعبة: أسعد بن زرارة بن عدس بن عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار بن مالك ابن الخزرج، من بني النجار، ومات البراء بن معرور بن صخر بن سنان بن عبيد بن عدي بن سلمة بن سعد بن علي بن شاردة بن زيد بن جشم بن الخزرج، من بني سلمة، وكانا من النقباء، ومات رجال، فانطلقت عشائرهم، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: توفي إخواننا وهم يصلون إلى القبلة الأولى، وقد صرفك الله عز وجل إلى قبلة إبراهيم، عليه السلام، فكيف بإخواننا، فأنزل الله عز وجل: * (وما كان الله ليضيع إيمانكم) *، يعني إيمان صلاتكم نحو بيت المقدس، يقول: لقد تقبلت منهم، * (إن الله بالناس لرءوف) *، يعني يرق لهم، * (رحيم) * [آية: 143] حين قبلها منهم قبل تحويل القبلة. تفسير سورة البقرة من آية [144 - 150]
84 * (قد نرى تقلب وجهك في السماء) *، يعني نرى أنك تديم نظرك إلى السماء، * (فلنولينك) *، يعني لنحولنك إلى * (قبلة ترضاها) *؛ لأن الكعبة كانت أحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من بيت المقدس، * (فول) *، يعني فحول * (وجهك شطر) *، يعني تلقاء * (المسجد الحرام وحيث ما كنتم) * من الأرض * (فولوا وجوهكم شطره) *، يعني فحولوا وجوهكم في الصلاة تلقاءه، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في مسجد بني سلمة، فصلى ركعة، ثم حولت القبلة إلى الكعبة، وفرض الله صيام رمضان، وتحويل القبلة، والصلاة إلى الكعبة قبل بدر بشهرين، وحرم الخمر قبل الخندق. * (وإن الذين أوتوا الكتاب) *، يعني أهل التوراة، وهم اليهود، منهم الحميس بن عمرو، قال: يا محمد، ما أمرت بهذا الأمر، وما هذا إلا شيء ابتدعته، يعني في أمر القبلة، فأنزل الله عز وجل: * (وإن الذين أوتوا الكتاب) *، يعني أهل التوراة، * (ليعلمون أنه الحق من ربهم) *، بأن القبلة هي الكعبة، فأوعدهم الله، فقال: * (وما الله بغافل عما يعملون) * [آية: 144]، يعني عما يعملون من كفرهم بالقبلة، * (ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب) *، يعني اليهود، ينحوم بن سكين، ورافع بن سكين، ورافع ابن حريملة، ومن النصارى أهل نجران السيد والعاقب، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ائتنا بآية نعرفها كما كانت الأنبياء تأتي بها، فأنزل الله عز وجل: * (ولئن أتيت) *، يقول: ولئن جئت يا محمد * (الذين أوتوا الكتاب) * * (بكل آية ما تبعوا قبلتك)، يعني الكعبة، * (وما أنت بتابع قبلتهم) *، يعني بيت المقدس، ثم قال: * (وما بعضهم بتابع قبلة بعض) *، يقول: إن اليهود يصلون قبل المغرب لبيت المقدس، والنصارى قبل المشرق، فأنزل الله عز وجل يحذر نبيه صلى الله عليه وسلم ويخوفه: * (ولئن اتبعت أهواءهم)، فصليت إلى قبلتهم * (من بعد ما جاءك من العلم)، يعني البيان، * (إنك إذا لمن الظالمين) [آية: 145]. * (الذين ءاتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم) *، يعني اليهود منهم: أبو ياسر بن أخطب، وكعب بن الأشرف، وكعب بن أسيد، وسلام بن صوريا، وكنانة بن أبي الحقيق، ووهب بن يهوذا، وأبو نافع، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لم تطوفون بالكعبة، وإنما هي حجارة مبنية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ' إنكم لتعلمون أن الطواف بالبيت حق، فإنه هو القبلة مكتوب في التوراة والإنجيل، ولكنكم تكتمون ما في كتاب الله من الحق وتجحدونه، فقال ابن صوريا: ما كتمنا شيئا مما في كتابنا، فأنزل الله عز وجل: * (الذين ءاتيناهم الكتاب) *، يقول: أعطيناهم التوراة، * (يعرفونه) *، أي يعرفون البيت الحرام أنه القبلة،
85 * (كما يعرفون أبناءهم) * * (وإن فريقا منهم) *، يعني طائفة من هؤلاء الرؤوس * (ليكتمون الحق) *، يعني أمر القبلة * (وهم يعلمون) * [آية: 146] أن البيت هو القبلة. ثم قال سبحانه: * (الحق من ربك) * يا محمد إن القبلة التي وليناكها هي القبلة، * (فلا) *، يعني لئلا * (تكونن) * يا محمد * (من الممترين) * [آية: 147]، يعني من الشاكين أن البيت الحرام هو القبلة، * (ولكل وجهة هو موليها) *، يقول: لكل أهل ملة قبلة هم مستقبلوها، يريدون بها الله عز وجل، * (فاستبقوا الخيرات) *، يقول: سارعوا في الصالحات من الأعمال، * (أين ما تكونوا) * من الأرض أنتم وأهل الكتاب، * (يأت بكم الله جميعا) * يوم القيامة، * (إن الله على كل شيء قدير) * [آية: 148] من البعث وغيره قدير. * (ومن حيث خرجت) *، يقول: ومن أين توجهت من الأرض، * (فول وجهك شطر المسجد الحرام)، يقول: فحول وجهك في الصلاة تلقاء المسجد الحرام، * (وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون) * [آية: 149]، * (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام) *، يعني الحرم كله، فإنه مسجد كله، * (وحيث ما كنتم) * من الأرض، * (فولوا وجوهكم شطره) *، يعني فحولوا وجوهكم تلقاءه، ثم قال: * (لئلا يكون للناس عليكم حجة) *، يعني اليهود في أن الكعبة هي القبلة، ولا حجة لهم عليكم في انصرافكم إليها، ثم استثنى، فقال: * (إلا الذين ظلموا منهم) *، يعني من الناس، يعني مشركي العرب، وذلك أن مشركي مكة قالوا: إن الكعبة هي القبلة، فما بال محمد تركها وكانت لهم في ذلك حجة، يقول الله عز وجل: * (فلا تخشوهم) * أن يكون لهم عليكم حجة في شيء غيرها، * (واخشوني) * في ترك أمري في أمر القبلة، ثم قال عز وجل: * (ولأتم نعمتي عليكم) * في انصرافكم إلى الكعبة وهي القبلة، * (ولعلكم) * ولكي * (تهتدون) * [آية: 150] من الضلالة، فإن الصلاة قبل بيت المقدس بعد ما نسخت الصلاة إليه ضلالة. قال: حدثنا عبيد الله بن ثابت، قال: حدثنا أبي، قال الهذيل، عن ليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الجهم مرثد، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: إنكم ستفتحون قسطنطينية والرومية وحمقلة. قال: حدثنا عبيد الله، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا الهذيل، عن ابن لهيعة، عن أبي قبيل، عن عبد الله بن عمرو، قال: إنكم ستفتحون
86 رومية، فإذا دخلتموها فأدخلوا كنيستها الشرقية، فعدوا سبع بلاطات وأقلعوا الثامنة، وهي بلاطة حمراء، فإن تحتها عصا موسى، وإنجيل عيسى، وحلي إيلياء، يعني بيت المقدس، هذا خزيهم في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب النار. قال: حدثنا عبيد الله، قال: حدثني أبي، عن الهذيل بن حبيب، عن مقاتل، قال: كل من ملك القبط يسمى قيطوس، وكل من ملك الروم يسمى قيصر، وكل من ملك الفرس يسمى كسرى. تفسير سورة البقرة من آية [151 - 152] * (كما أرسلنا فيكم رسولا منكم) *، يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، * (يتلوا عليكم آياتنا) * القرآن * (ويزكيكم) *، يعني ويطهركم من الشرك والكفر، * (ويعلمكم الكتاب) *، يعني القرآن، * (والحكمة) *، يعني الحلال والحرام، * (ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون) * [آية: 151]، إذا فعلت ذلك بكم، * (فاذكروني) *، يقول: فاذكروني بالطاعة * (أذكركم) * بخير، * (واشكروا لي ولا تكفرون) * [آية: 152]، يقول: اشكروا الله عز وجل في هذه النعم لا تكفروا بها لقوله: * (كما أرسلنا فيكم رسولا منكم) * إلى آخر الآية. تفسير سورة البقرة من آية [153 - 157] * (يا أيها الذين ءامنوا استعينوا بالصبر والصلاة) *، يقول: استعينوا على طلب الآخرة بالصبر على الفرائض والصلوات الخمس في مواقيتها نحو الكعبة، حين عيرتهم اليهود بترك قبلتهم، * (إن الله مع الصابرين) * [آية: 153] على الفرائض والصلاة، * (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات) *، نزلت في قتلى بدر من المسلمين، وهم أربعة عشر
87 رجلا من المسلمين، ثمانية من الأنصار، وستة من المهاجرين، فمن المهاجرين: عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، وعمير بن نضلة، وعقيل بن بكير، ومهجع ابن عبد الله مولى عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وصفوان بن بيضاء، فهؤلاء ستة من المهاجرين، ومن الأنصار: سعد بن خيثمة بن الحارث بن النخاط بن كعب بن غنم بن أسلم بن مالك بن الأوس، ومبشر بن عبد المنذر، ويزيد بن الحارث، وعمر بن الحمام، ورافع بن المعلى، وحارثة بن سراقة، ومعوذ بن عفراء، وعوف بن عفراء، وعما ابنا الحارث بن مالك بن سوار، فهؤلاء ثمانية من الأنصار. وذلك أن الرجل كان يقتل في سبيل الله، فيقولون: مات فلان، فأنزل الله عز وجل: * (ولا تقولوا) * معشر المؤمنين * (لمن يقتل في سبيل الله أموات) * * (بل أحياء) * مرزوقون في الجنة عند الله، ثم قال سبحانه: * (ولكن لا تشعرون) * [آية: 154] بأنهم أحياء مرزوقون، ومساكن أرواح الشهداء سدرة المنتهى في جنة المأوى، * (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع) *، يعني القحط، * (ونقص من الأموال والأنفس والثمرات) *، يعني قحط المطر، * (وبشر الصابرين) * [آية: 155] على هذه البلية بالجنة. ثم نعت أهل المصيبة، فقال: * (الذين إذا أصابتهم مصيبة) *، يعني فيما ذكر من هذه الآية، * (قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون) * [آية: 156]، * (أولئك عليهم صلوات من ربهم) *، يعني مغفرة، كقوله سبحانه: * (وصل عليهم) *، يعني استغفر لهم، * (إن صلاتك) *، يعني استغفارك * (سكن لهم) * [التوبة: 103]) * (من ربهم) * (ورحمة وأولئك هم المهتدون) * [آية: 157] للاسترجاع. تفسير سورة البقرة آية [158] * (إن الصفا والمروة من شعائر الله) *، وذلك أن الحمس، وهم: قريش، وكنانة، وخزاعة، وعامر بن صعصعة، قالوا: ليست الصفا والمروة من شعائر الله، وكان على الصفا صنم يقال له: نائلة، وعلى المروة صنم يقال له: يساف في الجاهلية، قالوا: إنه
88 حرج علينا في الطواف بينهما، فكانوا لا يطوفون بينهما، فأنزل الله عز وجل: * (إن الصفا والمروة من شعائر الله) *، يقول: هما من أمر المناسك التي أمر الله بها، * (فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما) *، يقول: لا حرج عليه أن يطوف بينهما لقولهم: إن علينا حرجا في الطواف بينهما، ثم قال سبحانه: * (ومن تطوع خيرا) * بعد الفريضة، فزاد في الطواف، * (فإن الله شاكر عليم) * [آية: 158] لأعمالكم عليم بها، وقد طاف إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة. تفسير سورة البقرة من آية [159 - 163] * (إن الذين يكتمون) *، وذلك أن معاذ بن جبل، وسعد بن معاذ، وحارثة بن زيد، سألوا اليهود عن أمر محمد صلى الله عليه وسلم وعن الرجم وغيره فكتموهم، يعني اليهود، منهم: كعب ابن الأشرف، وابن صوريا، * (ما أنزلنا من البينات) *، يعني ما بين الله عز وجل في التوراة، يعني الرجم والحلال والحرام، * (والهدى) *، يعني أمر محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة، فكتموه الناس، يقول الله سبحانه: * (من بعد ما بيناه) *، يعني أمر محمد صلى الله عليه وسلم، * (للناس في الكتاب) *، يعني لبني إسرائيل في التوراة، وذلك قوله سبحانه في العنكبوت: * (وما يجحد بآياتنا) *، أي بمحمد صلى الله عليه وسلم * (إلا الظالمون) * [العنكبوت: 49]، يعني المكذبون بالتوراة، وهم * (أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) * [آية: 159]، وذلك أن الكافر يضرب في قبره فيصيح ويسمع صوته الخليقة كلهم، غير الجن والإنس، فيقولون: إنما كان يحبس عنا الرزق بذنب هذا، فتلعنهم الخليقة، فهم اللاعنون. ثم استثنى مؤمني أهل التوراة، فقال سبحانه: * (إلا الذين تابوا) * من الكفر
89 * (وأصلحوا) * العمل * (وبينوا) * أمر محمد صلى الله عليه وسلم للناس، * (فأولئك أتوب عليهم) *، يعني أتجاوز عنهم، * (وأنا التواب الرحيم) *، [آية: 160]، ثم ذكر من مات من اليهود على الكفر، فقال: * (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله و) * لعنة * (والملائكة و) * لعنة * (والناس أجمعين) * [آية: 161]، يعني المؤمنين جميعا، * (خالدين فيها) *، يعني في اللعنة، واللعنة النار، * (ولا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون) * [آية: 162]، لا يناظر بهم حتى يعذبوا. ثم قال لأهل الكتاب: * (وإلاهكم إله واحد) *، يقول: ربكم رب واحد، فوحد نفسه تبارك اسمه، * (لا إله إلا هو الرحمن الرحيم) * [آية: 163]. تفسير سورة البقرة آية [164] * (إن في خلق السماوات والأرض) *، وذلك أن كفار مكة قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ائتنا بآية، اجعل لنا الصفا ذهبا، فقال الله سبحانه: * (إن في خلق السماوات والأرض) * * (واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري) *، يعني السفن التي * (في البحر بما ينفع الناس) * في معايشهم، * (وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به) *، يعني بالماء * (الأرض بعد موتها) * يبسها، * (وبث فيها) *، يعني وبسط، * (من كل دابة وتصريف الرياح) * في العذاب والرحمة، * (والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون) * [آية: 164]، فيما ذكر من صنعه فيوحدوه. تفسير سورة البقرة من آية [165 - 167] * (ومن الناس) *، يعني مشركي العرب، * (من يتخذ من دون الله أندادا) *، يعني شركاء، وهي الآلهة، * (يحبونهم كحب الله) *، يقول: يحبون آلهتهم كما يحب الذين
90 آمنوا ربهم، ثم قال سبحانه: * (والذين ءامنوا أشد حبا لله) * منهم لآلهتهم، ثم أخبر عنهم، فقال: * (ولو يرى) * محمد يوم القيامة * (الذين ظلموا) *، يعني مشركي العرب ستراهم يا محمد في الآخرة * (إذ يرون العذاب) فيعلمون حينئذ * (أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب) * [آية: 165]، ثم أخبر سبحانه عنهم، فقال: * (إذ تبرأ الذين اتبعوا) *، يعني القادة، * (من الذين اتبعوا) *، يعني الأتباع، * (ورأوا العذاب) *، يعني القادة والأتباع، * (وتقطعت بهم الأسباب) * [آية: 166]، يعني المنازل والأرحام التي كانوا يجتمعون عليها من معاصي الله، ويتحابون عليها في غير عبادة الله، انقطع عنهم ذلك وندموا. * (وقال الذين اتبعوا) *، أي الأتباع: * (لو أن لنا كرة) *، يعني رجعة إلى الدنيا، * (فنتبرأ منهم) * من القادة، * (كما تبرءوا منا) * في الآخرة، وذلك قوله سبحانه: * (ثم يوم القيامة يكفر) *، يعني يتبرأ * (بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا)، * (كذلك) * يقول: هكذا * (يريهم الله أعمالهم) *، يعني القادة والأتباع * (حاسرات عليهم) *، يعني ندامة، * (وما هم بخارجين من النار) * [آية: 167]. تفسير سورة البقرة من آية [168 - 171] * (يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا) *، يعني مما حرموا من الحرث والأنعام، نزلت في ثقيف، وفي بني عامر بن صعصعة، وخزاعة، وبني مدلج، وعامر والحارث ابني عبد مناة، ثم قال سبحانه: * (ولا تتبعوا خطوات الشيطان) *، يعني تزيين الشيطان في تحريم الحرث والأنعام، * (إنه لكم عدو مبين) * [آية: 168]، يعني بين، * (إنما يأمركم بالسوء) *، يعني بالإثم، * (والفحشاء) *، يعني وبالمعاصي؛ لأنه لكم عدو مبين، * (وأن تقولوا على الله) * بأنه حرم عليكم * (ما لا تعلمون) * [آية: 169] أنتم أنه حرمه. ثم أخبر عنهم، فقال: * (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله) * من القرآن في تحليل ما
91 حرموه، * (قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه ءاباءنا) * من أمر الدين، فإن آباءنا أمرونا أن نعبد ما كانوا يعبدون، قل يا محمد: * (أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا) * من الدين * (ولا يهتدون) * [آية: 170] به أفتتبعونهم، ثم ضرب لهم مثلا، فقال سبحانه: * (ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق) *، يعني الشاة والحمار، * (بما لا يسمع إلا دعاء ونداء) *، يعني مثل الكافر كمثل البهيمة إن أمرت أن تأكل أو تشرب سمعت صوتا ولا تعقل ما يقال لها، فكذلك الكافر الذين يسمع الهدى والموعظة إذا دعى إليها، فلا يعقل ولا يفهم بمنزلة البهيمة، يقول: * (صم) *، فلا يسمعون الهدى، * (بكم) *، فلا يتكلمون بالهدى، * (عمي) *، فلا يبصرون الهدى، * (فهم لا يعقلون) * [آية: 171] الهدى. تفسير سورة البقرة من آية [172 - 173] * (يا أيها الذين ءامنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) * من تحليل الحرث والأنعام، يعني بالطيب الحلال، * (واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون) * [آية: 172]، ولا تحرموا ما أحل الله لكم من الحرث والأنعام، ثم بين ما حرم، فقال: * (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله) *، يقول: وما ذبح للأوثان، * (فمن اضطر) * إلى شيء مما حرم الله * (غير باغ) * استحلاله، * (ولا عاد) *، يعني ولا معتديا لم يضطر إليه، * (فلا إثم عليه) * في أكله، * (إن الله غفور) * لما أكل من الحرام في الاضطرار، * (رحيم) * [آية: 173]، إذ رخص لهم في الاضطرار، مثلها في الأنعام، والمضطر يأكل على قدر قوته. تفسير سورة البقرة من آية [174 - 176] * (إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب) *، يعني التوراة أنزلت في رؤوس اليهود، منهم: كعب بن الأشرف، وابن صوريا، كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة
92 * (ويشترون به ثمنا قليلا) *، يعني عرضا من الدنيا، ويختارون على الكفر، بمحمد ثمنا قليلا، يعني عرضا من الدنيا يسيرا مما يصيبون من سفلة اليهود من المآكل كل عام، ولو تابعوا محمدا لحبست عنهم تلك المآكل، فقال الله تعالى ذكره: * (أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم) *، يقول: ولا يزكي لهم أعمالهم، * (ولهم عذاب أليم) *، [آية: 174]، يعني وجيع. ثم أخبر عنهم، فقال سبحانه: * (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى، يعني باعوا الهدى الذي كانوا فيه من إيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث بالضلالة التي دخلوا فيها بعدما بعث محمد، ثم قال: * (والعذاب بالمغفرة) *، أي اختاروا العذاب على المغفرة، * (فما أصبرهم على النار) * [آية: 175]، يقول: أي شيء جرأهم على عمل يدخلهم النار، فما أصبرهم عليها إلا أعمالهم الخبيثة، * (ذلك) * العذاب الذي نزل بهم في الآخرة * (بأن الله نزل الكتاب) *، يعني القرآن، * (بالحق) *، يقول: لم ينزل باطلا لغير شيء، فلم يؤمنوا به، * (وإن الذين اختلفوا في الكتاب) *، يعني في القرآن، * (لفي شقاق بعيد) * [آية: 176]، يعني لفي ضلال بعيد، يعني طويل. تفسير سورة البقرة آية [177] * (ليس البر أن تولوا وجوهكم) *، يعني ليس التقوى أن تحولوا وجوهكم في الصلاة * (قبل) *، يعني تلقاء * (المشرق والمغرب) *، فلا تفعلوا ذلك، * (ولكن البر من ءامن بالله) *، يعني صدق بالله بأنه واحد لا شريك له، * (واليوم الآخر) *، يعني وصدق بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال بأنه كائن * (والملائكة) *، أي وصدق بالملائكة، * (والكتاب والنبيين وءاتي المال) *، يعني وأعطى المال * (على حبه) له أعطى * (ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) *، يعني والضيف نازل عليك * (و) * أعطى * (والسائلين وفي الرقاب) *، فهذا تطوع، ثم قال سبحانه: * (وأقام الصلاة) * المكتوبة * (وءاتى) * وأعطى * (الزكاة) * المفروضة * (والموفون بعهدهم إذا عاهدوا) * فيما
93 بينهم وبين الناس، * (والصابرين في البأساء والضراء)، يعني الفقر، والضراء يعني البلاء، * (وحين البأس) *، يعني وعند القتال هم صابرون، * (أولئك الذين صدقوا) * في إيمانهم، * (وأولئك هم المتقون) * [آية: 177]. تفسير سورة البقرة من آية [178 - 179] * (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى) * إذا كان عمدا، وذلك أن حيين من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل، وكانت بينهم قتلى وجرحى، حتى قتل العبيد والنساء، فلم يأخذ بعضهم من بعض الأموال حتى أسلموا، وكان أحد الحيين له طول على الآخر في العدد والأموال، فحلفوا ألا نرضى حتى يقتل بالعبد منا الحر منهم، وبالمرأة منا الرجل منهم، فأنزل الله عز وجل: * (الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى) *، فسوى بينهم في الدماء، وأمرهم بالعدل فرضوا، فصارت منسوخة نسختها الآية التي في المائدة قوله سبحانه: * (وكتبنا) * فيما قضينا * (عليهم فيها أن النفس بالنفس) * [المائدة: 54]، يعني النفس المسلم الحر بالنفس، المسلم الحر، والمسلمة الحرة بالمسلمة الحرة، * (فمن عفى له من أخيه شيء) *. ثم رجع إلى أول الآية في قوله سبحانه: * (كتب عليكم القصاص في القتلى) * إذا كان عمدا إذا عفى ولي المقتول عن أخيه القاتل ورضي بالدية، * (فاتباع بالمعروف) *، يعني الطالب ليطلب ذلك في رفق، ثم قال للمطلوب: * (وأداء إليه بإحسان) *، يقول: ليؤدي الدية إلى الطالب عفوا في غير مشقة ولا أذى، * (ذلك) * العفو والدية * (تخفيف من ربكم) * إذ جعل في قتل العمد العفو والدية، ثم قال: * (ورحمة) *، يعني وتراحموا، وكان الله عز وجل حكم على أهل التوراة أن يقتل القاتل، ولا يعفى عنه، ولا يقبل منه الدية، وحكم على أهل الإنجيل العفو، ولا يقتل القاتل بالقصاص، ولا يأخذ ولي المقتول الدية. ثم جعل الله عز وجل التخفيف لأمة محمد صلى الله عليه وسلم إن شاء ولي المقتول قتل القاتل، وإن شاء عفا عنه، وإن شاء أخذ منه الدية، فكان لأهل التوراة أن يقتل قاتل الخطأ والعمد
94 فرخص الله عز وجل لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فذلك قوله سبحانه في الأعراف: * (ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) * [الأعراف: 157] من التشديدات، وهم أن يقتل قاتل العمد ولا يعفى عنه، ولا يؤخذ منه الدية، ثم قال: * (فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم) * [آية: 178]، يعني وجيع،، فإنه يقتل، ولا يؤخذ منه دية، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ' لا عفو عمن قتل القاتل بعد أخذ الدية، وقد جعل الله له عذابا أليما '. ثم قال سبحانه: * (ولكم في القصاص حياة) *، يعني بقاء يحجز بعضكم عن بعض * (يا أولي الألباب) *، يعني من كان له لب أو عقل، فذكر القصاص، فيحجزه الخوف عن القتل، * (لعلكم) *، يعني لكي * (تتقون) * [آية: 179] الدماء مخافة القصاص. تفسير سورة البقرة آية [180 - 182] * (كتب عليكم) *، يعني فرض عليكم، نظيرها: * (كتب عليكم القتال) * [البقرة: 216]، يعني فرض، نظيرها أيضا: * (ما كتبناها) *، يعني ما فرضناها * (عليهم) * [الحديد: 27]، يعني الرهبانية، * (إذا حضر أحدكم الموت إن ترك) * بعد موته * (خيرا) *، يعني المال، * (الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف) *، يعني تفضيل الوالدين على الأقربين في الوصية، وليوص للأقربين بالمعروف. والذين لا يرثون يقول الله عز وجل تلك الوصية * (حقا على المتقين) * [آية: 180]، فمن لم يوص لقرابته عند موته، فقد ختم عمله بالمعصية، ثم نزلت آية الميراث بعد هذه الآية، فنسخت للوالدين، وبقيت الوصية للأقربين الذين لا يرثون، ما بينه وبين ثلث ماله، * (فمن بدله بعدما سمعه) *، يقول: من بدل وصية الميت، يعني الوصي والولي بعدما سمعه من الميت، فلم يمض وصيته، * (فإنما إثمه على الذين يبدلونه) *، عني الوصي والولي وبرئ منه الميت، * (إن الله سميع) * لوصية الميت * (عليم) * [آية: 181] بها. ثم قال: * (فمن خاف) *، يعني الوصي * (من موص) *، يعني الميت * (جنفا) * ميلا
95 عن الحق خطأ، * (أو إثما) * تعمدا للجنف، أي إن جار الميت في وصيته عمدا أو خطأ، فلم يعدل، فخاف الوصي أو الولي من جور وصيته، * (فأصلح بينهم) * بين الورثة بالحق والعدل، * (فلا إثم عليه) * حين خالف جور الميت، * (إن الله غفور) * للمصلح * (رحيم) * [آية: 182] به إذا رخص في مخالفة جور الميت. تفسير سورة البقرة من آية [183 - 184] * (يا أيها الذين ءامنوا كتب عليكم الصيام) *، وذلك أن لبيد الأنصاري من بني عبد الأشهل كبر فعجز عن الصوم، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما على من عجز عن الصوم، فأنزل الله عز وجل: * (يا أيها الذين ءامنوا كتب عليكم الصيام) *، يعني فرض عليكم، نظيرها: * (كتب عليكم القتال) *، يعني فرض عليكم القتال، * (كما كتب) *، يعني كما فرض * (على الذين من قبلكم) *، يعني أهل الإنجيل، * (لعلكم تتقون) * [آية: 183]، يعني لكي تتقون الطعام والشراب والجماع، فمن صلى العشاء الآخرة أو نام قبل أن يصلي العشاء الآخرة، حرم عليه ما يحرم على الصائم. وكان ذلك على الذين من قبلنا * (أياما معدودات) * وهي دون الأربعين، فإذا كانت فوق الأربعين فلا يقال لهم: * (معدودات) *، * (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية)، أي ومن كان يطيق الصوم، وليس بمريض ولا مسافر، فإن شاء صام وإن شاء أفطر، وعليه فدية * (طعام مسكين) *، لكل مسكين نصف صاع حنطة، * (فمن تطوع خيرا) *، فزاد على مسكين فأطعم مسكينين أو ثلاثة مكان كل يوم، * (فهو خير له) من أن يطعم مسكينا واحدا، ثم قال: * (وأن تصوموا خير) *، يعني ولأن تصوموا خير * (لكم) * من الطعام * (إن كنتم تعلمون) * [آية: 184]، وكان المؤمنون قبل رمضان يصومون عاشوراء ولا يصومون غيره، ثم أنزل الله عز وجل صوم رمضان بعد، فنسخ الطعام، وثبت الصوم، إلا على من لا يطيق الصوم، فليفطر وليطعم مكان كل يوم مسكينا نصف صاع حنطة. تفسير سورة البقرة آية [185]
96 ثم بين لهم أي شهر يصومون، فقال عز وجل: * (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرءان) *، من اللوح المحفوظ في عشرين شهرا، وأنزل به جبريل، عليه السلام، عشرين سنة، ثم قال سبحانه: * (هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان) *، يعني في الدين من الشبهة والضلالة، نظيرها في آل عمران [الآية: 4]: * (وأنزل الفرقان) *، يعني المخرج من الشبهات، * (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) *، فواجب عليه الصيام، ولا يطعم، * (ومن كان) * منكم * (مريضا أو على سفر) *، فلم يصم، فإذا برئ المريض من مرضه، * (فعدة) * فليصم عدة * (من أيام أخر) *، إن شاء صام متتابعا، وإن شاء متقطعا، وهكذا المسافر، * (يريد الله بكم اليسر) *، يعني الرفق في أمر دينكم حين رخص للمريض والمسافر في الفطر، * (ولا يريد بكم العسر) *، يعني الضيق في الدين، فلو لم يرخص للمريض والمسافر، كان عسرا، ثم قال عز وجل: * (ولتكملوا العدة) * يعني تمام الأيام المعدودات، * (ولتكبروا) *، يعني لكي تعظموا * (الله على ما هداكم) * من أمر دينه، * (ولعلكم) *، يعني لكي، * (تشكرون) * [آية: 185] ربكم في هذه النعم إذ هداكم لأمر دينه. تفسير سورة البقرة آية [186] ثم قال سبحانه: * (وإذا سألك عبادي عني) *، وذلك أنه كان في الصوم الأول أن الرجل إذا صلى العشاء الآخرة، أو نام قبل أن يصليها، حرم عليه الطعام والشراب والجماع، كما يحرم بالنهار على الصائم، ثم إن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، صلى العشاء الآخرة، ثم جامع امرأته، فلما فرغ ندم وبكا، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: يا نبي الله، إني أعتذر إلى الله عز وجل، ثم إليك من نفسي هذه الخاطئة واقعت أهلي بعد الصلاة، فهل تجد لي رخصة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ' لم تك جديرا بذلك يا عمر '، فرجع حزينا، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم صرمة بن أنس بن صرمة بن مالك، من بني
97 عدي بن النجار عند العشاء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ' يا أبا قيس، ما لك طليحا؟ '، فقال: يا رسول الله، ظللت أمس في حديقتي، فلما أمسيت أتيت أهلي، وأرادت المرأة أن تطعمني شيئا سخنا، فأبطأت علي بالطعام، فرقدت فأيقظتني وقد حرم علي الطعام، فأمسيت وقد أجهدني الصوم. واعترف رجال من المسلمين عند ذلك بما كانوا يصنعون بعد العشاء، فقالوا: ما توبتنا ومخرجنا مما علمنا، فأنزل الله عز وجل: * (وإذا سألك عبادي عني) * * (فإني قريب) *، أي فأعلمهم أني قريب منهم في الاستجابة، * (أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي) * بالطاعة، * (وليؤمنوا بي) *، يعني وليصدقوا بي، فإني قريب سريع الإجابة أجيبهم * (لعلهم يرشدون) * [آية: 186]، يعني لكي يهتدون. تفسير سورة البقرة آية [187] ثم قال: * (أحل لكم ليلة الصيام) * رخصة للمؤمنين بعد صنيع عمر، رضي الله عنه، * (الرفث) *، يعني الجماع، * (إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن) *، يقول: هن سكن لكم، وأنتم سكن لهن، * (علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم) *، يعني عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، في جماع امرأته، * (فتاب عليكم) *، يعني فتجاوز عنكم، * (وعفا عنكم) *. قوله سبحانه: * (تختانون أنفسكم) * بالمعصية، نظيرها: * (فخانتاهما) * [التحريم: 10]، فخالفتاهما، يعني بالمعصية، وكقوله سبحانه: * (ولا تزال تطلع على خائنة منهم) * [المائدة: 13]، يعني على معصية، * (وعفا عنكم) *، يقول: ترككم فلم يعاقبكم، * (فالآن باشروهن)، يعني جامعوهن من حيث أحللت لكم الجماع الليل كله، * (وابتغوا) * (من نسائكم) * (ما كتب الله لكم) * من الولد، يعني واطلبوا ما قضى لكم وأنزل في صرمة بن أنس، * (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط
98 الأسود) *، حتى يتبين لكم وجه الصبح، يعني بياض النهار من سواد الليل، * (من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل) *، والخيط الأبيض يعني أول بياض الصبح، الضوء المعترض قبل المشرق، والخيط الأسود أول سواد الليل، * (ولا تباشروهن) *، نزلت في علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وعمار بن ياسر، وأبي عبيدة بن الجراح، كان أحدهم يعتكف، فإذا أراد الغائط من السحر رجع إلى أهله بالليل، فيباشر ويجامع امرأته ويغتسل ويرجع إلى المسجد، فأنزل الله عز وجل: * (ولا تباشروهن) * * (وأنتم عاكفون في المساجد) *، يقول: لا تجامعوا النساء ليلا ولا نهارا ما دمتم معتكفين، ثم قال عز وجل: * (تلك حدود الله) * المباشرة تلك معصية الله، * (فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته) *، يعني أمره * (للناس) * وأمر الاعتكاف، * (لعلهم) *، يعني لكي * (يتقون) * [آية: 187] المعاصي في الاعتكاف. تفسير سورة البقرة آية [188] * (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) *، يعني ظلما، وذلك أن امرأ القيس بن عابس، وعبدان بن أشوع الحضرمي اختصما في أرض، فكان امرؤ القيس المطلوب، وعبدان الطالب، فلم يكن لعبدان بينة، وأراد امرؤ القيس أن يحلف، فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم: ' * (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا) * ' [آل عمران: 77]، يعني عرضا يسيرا من الدنيا، إلى آخر الآية، فلما سمعها امرؤ القيس كره أن يحلف، ولم يخاصمه في أرضه، وحكمه فيها، فأنزل الله عز وجل: * (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) * * (وتدلوا بها إلى الحكام) *، يقول: لا يدلين أحدكم بخصومة في استحلال مال أخيه، وهو يعلم أنه مبطل، فذلك قوله سبحانه: * (لتأكلوا فريقا) *، يعني طائفة، * (من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون) * [آية: 188] أنكم تدعون الباطل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ' إنما أنا بشر مثلكم، فلعلى بعضكم أعلم بحجته، فأقضى له وهو مبطل '. ثم قال عليه السلام: ' أيما رجل قضيت له بمال امرئ مسلم، فإنما هي قطعة من نار جهنم أقطعها، فلا تأكلوها '. تفسير سورة البقرة آية [189]
99 قوله سبحانه: * (يسئلونك عن الأهلة) *، نزلت في معاذ بن جبل، وثعلبة بن غنمة، وهما من الأنصار، فقال معاذ: يا رسول الله، ما بال الهلال يبدو مثل الخيط، ثم يزيد حتى يمتلئ فيستوي، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ، فأنزل الله عز وجل: * (يسئلونك عن الأهلة) * * (قل هي مواقيت للناس) * في أجل دينهم، وصومهم، وفطرهم، وعدة نسائهم، والشروط التي بينهم إلى أجل، ثم قال عز وجل: * (والحج) *، يقول: وقت حجهم والأهلة مواقيت لهم، وذلك قوله سبحانه: * (وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها) *، وذلك أن الأنصار في الجاهلية وفي الإسلام كانوا إذا أحرم أحدهم بالحج أو بالعمرة، وهو من أهل المدن، وهو مقيم في أهله لم يدخل منزله من باب الدار، ولكن يوضع له سلم إلى ظهر البيت فيصعد فيه، وينحدر منه، أو يتسور من الجدار، وينقب بعض بيوته، فيدخل منه ويخرج منه، فلا يزال كذلك حتى يتوجه إلى مكة محرما، وإذا كان من أهل الوبر دخل وخرج من وراء بيته. * (وأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل يوما نخلا لبني النجار، ودخل معه قطبة بن عامر بن حديدة الأنصاري من بني سلمة بن جشم من قبل الجدار، وهو محرم، فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من الباب وهو محرم، خرج قطبه من الباب، فقال رجل: هذا قطبة خرج من الباب وهو محرم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ' ما حملك أن تخرج من الباب وأنت محرم؟ '. قال: يا نبي، رأيتك خرجت من الباب وأنت محرم، فخرجت معك، وديني دينك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ' خرجت لأني من أحمس '، فقال قطبة للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت أحمسيا فإني أحمسي، وقد رضيت بهديك ودينك، فاستننت بسنتك، فأنزل الله في قول قطبة بن عامر للنبي صلى الله عليه وسلم: * (وليس البر) *، يعني التقوى، * (بأن تأتوا البيوت من ظهورها) * * (ولكن البر من اتقى) * الله واتبع أمره، ثم قال عز وجل: * (وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله) * ولا تعصوه يحذركم * (لعلكم) *، يقول: لكي * (تفلحون) * [آية: 189]، والحمس قريش، وكنانة، وخزاعة، وعامر بن صعصعة، الذين لا يسلون السمن ولا يأكلون الأقط ولا يبنون الشعر والوبر. تفسير سورة البقرة من آية [190 - 193]
100 وقوله سبحانه: * (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم) *، وذلك أن الله عز وجل نهى النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن الشهر الحرام أن يقاتلوا في الحرم إلا أن يبدأهم المشركون بالقتال، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بينا هو وأصحابه معتمرون إلى مكة في ذي القعدة، وهم محرمون عام الحديبية، والمسلمون يومئذ ألف وأربعمائة رجل، فصدهم مشركو مكة عن المسجد الحرام وبدأوهم بالقتال، فرخص الله في القتال، فقال سبحانه: * (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم) * * (ولا تعتدوا) * فتبدأوا بقتالهم في الشهر الحرام وفي الحرم، فإنه عدوان، * (إن الله لا يحب المعتدين) * [آية: 190]، ثم قال سبحانه: * (واقتلوهم حيث ثقفتموهم) *، يعني أين أدركتموهم في الحل والحرم، * (وأخرجوهم) * من مكة * (من حيث أخرجوكم) *، يعني من مكة، * (والفتنة أشد من القتل) *، يعني الشرك أعظم عند الله عز وجل جرما من القتل، نظيرها: * (ألا في الفتنة سقطوا) * [التوبة: 49]، يعني في الكفر وقعوا، فلما نزلت: * (واقتلوهم حيث ثقفتموهم) *، أنزل الله عز وجل بعد: * (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام) *، يعني أرض الحرم كله، فنسخت هذه الآية، ثم رخص لهم، * (حتى يقاتلوكم فيه) *، يعني حتى يبدءوا بقتالكم في الحرم، * (فإن قاتلوكم) * فيه، * (فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين) * [آية: 191] إن بدأوا بالقتال في الحرم أن يقاتلوا فيه. ثم قال سبحانه: * (فإن انتهوا) * عن قتالكم ووحدوا ربهم، * (فإن الله غفور) * لشركهم * (رحيم) *) [آية: 192] بهم في الإسلام، نظيرها في الأنفال: * (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) * [الأنفال: 39] إلى آخر الآية: ثم قال: * (وقاتلوهم) * أبدا * (حتى لا تكون فتنة) *، يقول: حتى لا يكون فيهم شرك فيوحدوا ربهم ولا يعبدوا غيره، يعني مشركي العرب خاصة، * (ويكون) *، يعني ويقوم * (الدين لله) *، فيوحدوه ولا يعبدوا غيره، * (فإن انتهوا) * عن الشرك ووحدوا ربهم، * (فلا عدوان) *، يعني فلا سبيل * (إلا على الظالمين) * [آية: 193] الذين لا يوحدون ربهم، نظيرها في القصص: * (فلا عدوان علي) * [القصص: 28]، يعني فلا سبيل علي. تفسير سورة البقرة آية [194]
101 * (الشهر الحرام بالشهر الحرام) *، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين ساروا إلى مكة محرمين بعمرة، ومن كان معه عام الحديبية، لست سنين من هجرته إلى المدينة، فصدهم مشركو مكة، وأهدى أربعين بدنة، ويقال: مائة بدنة، فردوه وحبسوه شهرين لا يصل إلى البيت، وكانت بيعة الرضوان عامئذ، فصالحهم النبي صلى الله عليه وسلم على أن ينحر الهدى مكانه في أرض الحرم ويرجع في يدخل مكة، فإذا كان العام المقبل خرجت قريش من مكة، وأخلوا له مكة ثلاثة أيام، ليس مع المسلمين سلاح إلا في غمده، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم توجه من فوره ذلك إلى خيبر، فافتتحها في المحرم، ثم رجع إلى المدينة، فلما كان العام المقبل، وأحرم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعمرة في ذي القعدة وأهدوا. ثم أقبلوا من المدينة، فأخلى لهم المشركون مكة ثلاثة أيام، وأدخلهم الله عز وجل مكة، فقضوا عمرتهم ونحروا البدن، فأنزل الله عز وجل: * (الشهر الحرام) * الذي دخلتم فيه مكة هذا العام * (بالشهر الحرام) *، يعني الذي صدوكم فيه العام الأول، * (والحرمات قصاص) *، يعني اقتصصت لك منهم في الشهر الحرام، يعني في ذي القعدة كما صدوكم في الشهر الحرام، وذلك أنهم فرحوا وافتخروا حين صدوا النبي صلى الله عليه وسلم عن المسجد الحرام، فأدخله الله عز وجل من قابل، ثم قال سبحانه: * (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه) *، وذلك أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أهلوا إلى مكة محرمين بعمرة، فخافوا ألا يفي لهم المشركون بدخول المسجد الحرام، وأن يقاتلوهم عنده، فأنزل الله عز وجل: * (فمن اعتدى عليكم) * فقاتلكم في الحرم، * (فاعتدوا عليه) *، يقول: فقاتلوهم فيه، * (بمثل ما اعتدى عليكم) * فيه، * (واتقوا الله) *، يعني المؤمنين، ولا تبدءوهم بالقتال في الحرم، فإن بدأ المشركون فقاتلوهم، * (واعلموا أن الله) * في النصر * (مع المتقين) * [آية: 194]، الشرك، فخبرهم أنه ناصرهم. تفسير سورة البقرة آية [195] قوله سبحانه: * (وأنفقوا في سبيل الله) *، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين ساروا من المدينة إلى مكة محرمين بعمرة في العام الذي أدخله الله عز وجل مكة، فقال ناس من العرب منازلهم حول المدينة: والله ما لنا زاد، وما يطعمنا أحد، فأمر الله عز وجل بالصدقة عليهم، فقال سبحانه: * (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) *، أي ولا تكفوا أيديكم
102 عن الصدقة فتهلكوا. وقال رجل من الفقراء: يا رسول الله، ما نجد ما نأكل، فبأي شيء نتصدق، فأنزل الله عز وجل: * (وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) *، فإن أمسكتم عنها فهي التهلكة، * (وأحسنوا) * النفقة في سبيل الله، * (إن الله يحب المحسنين) * [آية: 195]، يعني من أحسن في أمر النفقة في طاعة الله. تفسير سورة البقرة من آية [196 - 197] * (وأتموا الحج والعمرة لله) * من المواقيت، ولا تستحلوا فيهما ما لا ينبغي لكم، فريضتان واجبتان، ويقال: العمرة هي الحج الأصغر، وتمام الحج والعمرة المواقيت والإحرام خالصا لا يخالطه شيء من أمر الدنيا، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يشركون في إحرامهم، فأمر الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن يتموهما لله، فقال: * (وأتموا الحج والعمرة لله) *، وهو ألا يخلطوهما بشيء، ثم خوفهم أن يستحلوا منهما ما لا ينبغي، فقال سبحانه في آخر الآية: * (واعلموا أن الله شديد العقاب) * * (فإن أحصرتم) *، يقول: فإن حبستم كقوله سبحانه: * (الذين أحصروا في سبيل الله) * [البقرة: 273]، يعني حبسوا، نظيرها أيضا: * (وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا) * [الإسراء: 8]، يعني محبسا يقول: إن حبسكم في إحرامكم بحج أو بعمرة كسر أو مرض أو عدو عن المسجد الحرام، * (فما استيسر من الهدي) *، يعني فليقم محرما مكانه ويبعث ما استيسر من الهدى أو بثمن الهدى، فيشتري له الهدى، فإذا نحر الهدى عنه، فإنه يحل من إحرامه مكانه، ثم قال: * (ولا تحلقوا رءوسكم) * في الإحرام، * (حتى يبلغ الهدي محله) *، يعني حتى يدخل الهدى مكة، فإذا نحر الهدى حل من إحرامه، * (فمن كان منكم مريضا) *، وذلك أن كعب بن عجرة الأنصاري كان محرما بعمرة عام الحديبية، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم على مقدم رأسه
103 قملا كثيرا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ' يا كعب، أيؤذيك هوام رأسك؟ '، قال: نعم يا نبي الله، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلق، فأنزل الله عز وجل في كعب: * (فمن كان منكم مريضا) * * (أو به أذى من رأسه) *، فحلق رأسه، * (ففدية من صيام) *، فعليه فدية صيام ثلاثة أيام إن شاء متتابعا، وإن شاء متقطعا، * (أو صدقة) * على ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من حنطة، * (أو نسك) *، يعني شاة أو بقرة أو بعيرا ينحره، ثم يطعمه المساكين بمكة، ولا يأكل منه، وهو بالخيار، إن شاء ذبح شاة أو بقرة أو بعيرا، فأما كعب، فذبح بقرة. * (فإذا أمنتم) * من الحبس من العدو عن البيت الحرام، * (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) *، يقول: وهو يريد الحج، فإن دخل مكة وهو محرم بعمرة في غرة شوال، أو ذي القعدة، أو في عشر من ذي الحجة * (فما استيسر من الهدي) *، يعني شاة فما فوقها يذبحها فيأكل. منها ويطعم، فقال أبو هريرة، وسلمان، وأبو العرباض للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لا نجد الهدى، فلنصم ثلاثة أيام، فأنزل الله عز وجل فيهم: * (فمن لم يجد) * الهدى فليصم، * (فصيام ثلاثة أيام في الحج) *، في عشر الأضحى في أول يوم من العشر إلى يوم عرفة، فإن كان يوم عرفة يوم الثالث، تم صومه، ثم قال: * (وسبعة) *، يعني ولتصوموا سبعة أيام * (إذا رجعتم) * من منى إلى أهليكم، * (تلك عشرة كاملة) *، فمن شاء صام في الطريق، ومن شاء صام في أهله، إن شاء متتابعا، وإن شاء متقطعا، ثم قال: * (ذلك) * التمتع * (لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب) * [آية: 196]، يعني من لم يكن منزله في أرض الحرم كله، فمن كان أهله في أرض الحرم، فلا متعة عليه ولا صوم. ثم قال عز وجل: * (الحج أشهر معلومات) *، يقول: من أحرم بالحج، فليحرم في شوال، أو في ذي القعدة، أو في عشر ذي الحجة، فمن أحرم في سوى هذه الأشهر، فقد أخطأ السنة، وليجعلها عمرة، ثم قال: * (فمن فرض) *، يقول: فمن أحرم * (فيهن الحج) *، أي الحج، * (فلا رفث) *، يعني فلا جماع، كقوله سبحانه: * (أحل لكم ليلة الصيام الرفث)، يعني الجماع * (إلى نسائكم) * [البقرة: 187]، * (ولا فسوق) *، يعني ولا سباب، * (ولا جدال في الحج) *، يعني ولا مراء، كقوله سبحانه: * (ما يجادل في آيات الله) * [غافر: 4]، يعني ما يمارى حتى يغضب وهو محرم، أو يغضب صاحبه وهو محرم، فمن فعل ذلك فليطعم مسكينا، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في حجة
104 الوداع، فقال: ' من لم يكن معه هدى فليحل من إحرامه، وليجعلها عمرة '، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا أهللنا بالحج، فذلك جدالهم للنبي صلى الله عليه وسلم. ثم قال عز وجل: * (وما تفعلوا من خير)، يعني ما نهى من ترك الرفث والفسوق والجدال، * (يعلمه الله) *، فيجزيكم به، ثم قال عز وجل: * (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى) *، وذلك أن ناسا من أهل اليمن وغيرهم كانوا يحجون بغير زاد، وكانوا يصيبون من أهل الطريق ظلما، فأنزل الله عز وجل: * (وتزودوا) * من الطعام ما تكفون به وجوهكم عن الناس وطلبهم، وخير الزاد التقوى، يقول الله تبارك اسمه: التقوى خير زاد من غيره، ولا تظلمون من تمرون عليه، * (واتقون) * ولا تعصون * (يا أولي الألباب) * [آية: 197]، يعني يا أهل اللب والعقل، فلما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم: ' تزودوا ما تكفون به وجوهكم عن الناس، وخير ما تزودتم التقوى '. تفسير سورة البقرة آية [198] * (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم) *، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يحجون منهم الحاج والتاجر، فلما أسلموا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن سوق عكاظ وسوق منى وذي المجاز في الجاهلية كانت تقوم قبل الحج وبعد الحج، فهل يصلح لنا البيع والشراء في أيام حجنا قبل الحج وبعد الحج، فأنزل الله عز وجل: * (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم) *، في مواسم الحج، يعني التجارة، فرخص الله سبحانه في التجارة، * (فإذا أفضتم من عرفات) * بعد غروب، * (فاذكروا الله) * تلك الليلة * (عند المشعر الحرام) *، فإذا أصبحتم، يعني بالمشعر حيث يبيت الناس بالمزدلفة، فاذكروا الله، * (واذكروه كما هداكم) * لأمر دينه، * (وإن كنتم من قبله) * من قبل أن يهديكم لدينه * (لمن الضالين) * [آية: 198]، يعني عن الهدى. تفسير سورة البقرة آية [199 - 202]
105 * (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) *، وذلك الحمس، قريش، وكنانة، وخزاعة، وعامر بن صعصعة، كانوا يبيتون بالمشعر الحرام، ولا يخرجون من الحرم خشية أن يقتلوا، وكانوا لا يقفون بعرفات، فأنزل الله عز وجل فيهم يأمرهم بالوقوف بعرفات، فقال لهم: * (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) *، يعني ربيعة، واليمن كانوا يفيضون من عرفات قبل غروب الشمس، ويفيضون من جمع إذا طلعت الشمس، فخالف النبي صلى الله عليه وسلم في الإفاضة، * (واستغفروا الله) * لذنوبكم، * (إن الله غفور) * لذنوب المؤمنين، * (رحيم) * [آية: 199] بهم. * (فإذا قضيتم مناسككم) * بعد أيام التشريق، * (فاذكروا الله كذكركم آباءكم، وذلك أنهم كانوا إذا فرغوا من المناسك وقفوا بين مسجد منى وبين الجبل يذكر كل واحد منهم أباه ومحاسنه، ويذكر صنائعه في الجاهليو أنه كان من أمره كذا وكذا، ويدعو له بالخير، فقال الله عز وجل: * (فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله) *، كذكر الأبناء الآباء، فإني فعلت ذلك الخير إلى آبائكم الذين تثنون عليهم، ثم قال سبحانه: * (أو أشد) *، يعني أكثر * (ذكرا) * لله منكم لآبائكم، وكانوا إذا قضوا مناسكهم قالوا: اللهم أكثر أموالنا، وأبناءنا، ومواشينا، وأطل بقاءنا، ونزل علينا الغيث، وأنبت لنا المرعى، وأصحبنا في سفرنا، وأعطنا الظفر على عدونا، ولا يسألون ربهم عن أمر آخرتهم شيئا، فأنزل الله تعالى فيهم: * (فمن الناس من يقول ربنا آتنا) *، يعني أعطنا * (في الدنيا) *، يعني هذا الذي ذكر، فقال سبحانه: * (وما له في الآخرة من خلاق) * [آية: 200]، يعني من نصيب، نظيرها في براءة: * (فاستمتعوا بخلاقهم) * [التوبة: 69]، يعني بنصيبهم، فهؤلاء مشركو العرب. فلما أسلموا وحجوا دعوا ربهم، فقال سبحانه: * (ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) * [آية: 201]، أي دعوا ربهم أن يؤتيهم * (في الدنيا حسنة) *، يعني الرزق الواسع، وأن يؤتيهم * (وفي الآخرة
106 حسنة) *، فيجعل ثوابهم الجنة، وأن يقيهم * (عذاب النار) *. ثم أخبر عنهم، فقال: * (أولئك لهم نصيب مما كسبوا) *، يقول: حظ من أعمالهم الحسنة، * (والله سريع الحساب) * [آية: 202]، يقول: كأنه قد كان، فهؤلاء المؤمنون. تفسير سورة البقرة آية [203 - 206] * (واذكروا الله في أيام معدودات) * إذا رميتم الجمار، يعني أيام التشريق، والأيام المعلومات يعني يوم النحر ويومين من أيام التشريق بعد النحر، فكان عمر، رضي الله عنه ، يكبر في قبته بمنى، فيرفع صوته، فيسمع أهل مسجد منى فيكبرون كلهم حتى يرتج منى تكبيرا، * (فمن تعجل في يومين) *، يعني بعد يوم النحر بيومين، يقول: من تعجل فنفر قبل غروب الشمس، * (فلا إثم عليه) *، يقول: فلا ذنب عليه، يقول: ذنوبه، مغفورة، فمن لم ينفر حتى تغرب الشمس فليقم إلى الغد يوم الثالث، فيرمي الجمار، ثم ينفر مع الناس، قال: * (ومن تأخر) * إلى يوم الثالث حتى ينفر الناس، * (فلا إثم عليه) *، يقول: لا ذنب عليه، يقول: ذنوبه مغفورة، ثم قال: * (لمن اتقى) * قتل الصيد، * (واتقوا الله) *، ولا تستحلوا قتل الصيد في الإحرام، * (واعلموا) * يخوفهم * (أنكم إليه تحشرون) * [آية: 203] في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم نظيرها في المائدة: * (وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما واتقوا الله الذي إليه تحشرون) * [المائدة: 96] فيجزيكم بأعمالكم. * (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا) *، نزلت في الأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب بن أبي سلمة الثقفي، وأمه اسمها ريطة بنت عبد الله بن أبي قيس القرشي، من بني عامر بن لؤي، وكان عديد بني زهرة، وكان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيخبره أنه يحبه ويحلف بالله على ذلك، ويخبره أنه يتابعه على دينه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه ذلك
107 ويدنيه في المجلس، وفي قلبه غير ذلك، فأنزل الله عز وجل: * (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا) * * (ويشهد الله على) * ما يقول: يعني يمينه التي حلف بالله، و * (ما في قلبه) * أن الذي يقول حق * (وهو ألد الخصام) * [آية: 204]، يقول: جدلا بالباطل، كقوله سبحانه: * (وتنذر به قوما لدا) * [مريم: 97]، يعني جدلاء خصماء. ثم أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال: * (وإذا تولى) *، يعني إذا توارى وكان رجلا مانعا جريئا على القتل، * (سعى في الأرض) * بالمعاصي؛ * (ليفسد فيها) *، / يعني في الأرض، * (ويهلك الحرث والنسل) *، يعني كل دابة، وذلك أنه عمد إلى كديس بالطائف إلى رجل مسلم، فأحرقه وعقر دابته، * (والله لا يحب الفساد) * [آية: 205]، * (وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم) *، يعني الحمية، نظيرها في ص آية: 2 قوله سبحانه: * (بل الذين كفروا في عزة وشقاق) * يعني حمية بالإثم، * (فحسبه جهنم) * شدة عذاب، * (ولبئس المهاد) * [آية: 206]، وكان الأخنس يسمى أبي بن شريق، من بني زهرة بن كعب بن لؤي بن غالب، وإنما سمي الأخنس؛ لأنه يوم بدر رد ثلاثمائة رجل من بني زهرة عن قتال النبي صلى الله عليه وسلم، وقال لهم: إن محمدا ابن أختكم، وأنتم أحق من كف عنه، فإن كان نبيا لم نقتله، وإن كان كاذبا كنتم أحق من كف عنه، فخنس بهم، فمن ثم سمي الأخنس. تفسير سورة البقرة من آية [207 - 210] * (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله) *، وذلك أن كفار مكة أخذوا عمارا، وبلالا، وخبابا، وصهيبا، فعذبوهم لإسلامهم حتى يشتموا النبي صلى الله عليه وسلم، فأما صهيب بن سنان مولى عبد الله بن جدعان القرشي، وكان شخصا ضعيفا، فقال لأهل مكة: لا تعذبوني، هل لكم إلى خير؟ قالوا: وما هو؟ قال: أنا شيخ كبير، لا
108 يضركم إن كنت معكم أو مع غيركم، لئن كنت معكم لا أنفعكم، ولئن كنت مع غيركم لا أضركم، وإن لي عليكم لحقا لخدمتي وجواري إياكم، فقد علمت أنكم إنما تريدون مالي، وما تريدون نفسي، فخذوا مالي واتركوني وديني غير راحلة، فإن أردت أن ألحق بالمدينة فلا تمنعوني، فقال بعضهم لبعض: صدق، خذوا ماله فتعاونوا به على عدوكم، ففعلوا ذلك، فاشترى نفسه بماله كله غير راحلة، واشترط ألا يمنع عن صلاة، ولا هجرة. فأقام بين أظهرهم ما شاء، ثم ركب راحلته نهارا حتى أتى المدينة مهاجرا، فلقيه أبو بكر، رضي الله عنه، فقال: ربح البيع يا صهيب، فقال: وبيعك لا يخسر، فقال أبو بكر، رضي الله عنه: قد أنزل الله فيك: * (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله) * * (والله رؤوف بالعباد) * [آية: 207]، يعني للفعل فعل الرومي صهيب بن سنان مولى عبد الله بن جدعان بن عمرو بن سعيد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي. قال عبد الله بن ثابت: سمعت أبي يقول: سمعت هذا الكتاب من أوله إلى آخره من الهذيل أبي صالح، عن مقاتل بن سليمان ببغداد درب السدرة سنة تسعين ومائة، قال: وسمعته من أوله إلى آخره قراءة عليه في المدينة في سنة أربع ومائتين، وهو ابن خمس وثمانين سنة، رحمنا الله وإياهم. * (يا أيها الذين ءامنوا ادخلوا في السلم كافة) *، وذلك أن عبد الله بن سلام، وسلام بن قيس، وأسيد وأسد ابنا كعب، ويامين بن يامين، وهم مؤمنوا أهل التوراة، استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في قراءة التوراة في الصلاة، وفي أمر السبت، وأن يعملوا ببعض ما في التوراة، فقال الله عز وجل: خذوا سنة محمد صلى الله عليه وسلم وشرائعه، فإن قرآن محمد ينسخ كل كتاب كان قبله، فقال: * (ادخلوا في السلم كافة) *، يعني في شرائع الإسلام كلها، * (ولا تتبعوا خطوات الشيطان) *، يعني تزيين الشيطان، فإن السنة الأولى بعدما بعث محمد صلى الله عليه وسلم ضلالة من خطوات الشيطان، * (إنه لكم عدو مبين) * [آية: 208]، يعني بين. * (فإن زللتم) *، يعني ضللتم عن الهدى وفعلتم هذا * (من بعد ما جاءتكم البينات)، يعني شرائع محمد صلى الله عليه وسلم وأمره، ثم حذرهم عقوبته، فقال: * (فاعلموا أن الله
109 عزيز) * في نقمته، * (حكيم) * [آية: 209] حكم عليهم العذاب، * (هل ينظرون) *، يعني ما ينظرون، * (إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام) *، يعني كهيئة الضبابة أبيض، * (والملائكة) * في غير ظلل في سبعين حجابا من نور عرشه والملائكة يسبحون، فذلك قوله: * (ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا) * [الفرقان: 25]، يعني وليس بسحاب، ثم قال سبحانه: * (وقضي الأمر) *، يعني وقع العذاب، * (وإلى الله ترجع الأمور) * [آية: 210]، يقول: يصير أمر الخلائق إليه في الآخرة. تفسير سورة البقرة آية [211] * (سل بني إسرائيل) *، يعني يهود المدينة، * (كم ءاتيناهم من آية بينة) *، يعني كم أعطيناهم من آية بينة، يعني حين فرق بهم البحر، وأهلك عدوهم، وأنزل عليهم المن والسلوى والغمام والحجر، فكفروا برب هذه النعم حين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، فذلك قوله سبحانه: * (ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته) *، فخوفهم عقوبته بقوله: * (فإن الله شديد العقاب) * [آية: 211] إذا عاقب. تفسير سورة البقرة آية [212] * (زين للذين كفروا الحياة الدنيا) *، وما بسط لهم فيها من الخير، نزلت في المنافقين عبد الله بن أبي وأصحابه، * (ويسخرون من الذين ءامنوا) * في أمر المعيشة بأنهم فقراء، نزلت في عبد الله بن ياسر المخزومي، وصهيب بن سنان، من بني تيم بن مرة، وبلال بن رباح مولى أبي بكر، رضي الله عنه، وخباب بن الأرت مولى ابن أم بهار الثقفي حليف بني زهرة، وسالم مولى أبي حذيفة، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، وعبد الله بن مسعود، وأبي هريرة الدوسي، وفي نحوهم من الفقراء، يقول الله عز وجل: * (والذين اتقوا) * الشرك، يعني هؤلاء النفر، * (فوقهم) *، يعني
110 فوق المنافقين والكافرين * (يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب) * [آية: 212]، حين يبسط للكافرين الرزق، ويقدر على المؤمنين يقول: ليس فوقي ملك يحاسبني، أنا الملك أعطي من شئت بغير حساب حين أبسط للكافرين في الرزق وأقتر على المؤمنين. تفسير سورة البقرة آية [213] * (كان الناس) *، يعني أهل السفينة، * (أمة واحدة) *، يعني على ملة الإسلام وحدها، وذلك أن عبد الله بن سلام خاصم اليهود في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، * (فبعث الله النبيين) * إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، ولوط بن حران بن آزر، فبعثهم الله * (مبشرين) * بالجنة، * (ومنذرين) من النار، * (وأنزل معهم الكتاب بالحق) *، يعني صحف إبراهيم؛ * (ليحكم بين الناس) *؛ ليقضي الكتاب * (فيما اختلفوا فيه) * من الدين، فدعا بها إبراهيم وإسحاق قومهما، ودعا بها إسماعيل جرهم، فآمنوا به، ودعا بها يعقوب أهل مصر، ودعا بها لوط سدوم وعامورا وصابورا ودمامورا، فلم يسلم منهم غير ابنتيه ريتا وزعوتا، يقول الله عز وجل: * (وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه) *، يعني أعطوا الكتاب، * (من بعد ما جاءتهم البينات)، يعني البيان، * (بغيا بينهم) *، يقول: تفرقوا بغيا وحسدا بينهم، * (فهدى الله الذين ءامنوا لما اختلفوا فيه)، يقول: حين اختلفوا في القرآن، * (من الحق بإذنه) *، يعني التوحيد، * (والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) * [آية: 213]، يعني دين الإسلام؛ لأن غير دين الإسلام باطل. تفسير سورة البقرة آية [214] ثم بين للمؤمنين أن لا بد لهم من البلاء والمشقة في ذات الله، فقال سبحانه: * (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة) *، نظيرها في آل عمران قوله سبحانه: * (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله) * [آل عمران: 142]، وفي العنكبوت: * (ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) * [العنكبوت: 1، 2]، وذلك أن
111 المنافقين قالوا للمؤمنين في قتال أحد: لم تقتلون أنفسكم وتهلكون أموالكم، فإنه لو كان محمد بيننا لم يسلط عليكم القتل، فرد المؤمنون عليهم، فقالوا: قال الله: من قتل منا دخل الجنة، فقال المنافقون: لم تمنون أنفسكم بالباطل؟ فأنزل الله عز يوم أحد: * (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة) *، نزلت في عثمان بن عفان وأصحابه، رحمهم الله. يقول الله عز وجل: * (ولما يأتكم مثل) *، يعني سنة، * (الذين خلوا من قبلكم) * من البلاء، يعني مؤمني الأمم الخالية، ثم أخبر عنهم ليعظ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال سبحانه: * (مستهم) *، يعني أصابتهم * (البأساء) *، يعني الشدة، وهي البلاء، * (والضراء) *، يعني البلاء، * (وزلزلوا)، يعني وخوفوا * (حتى يقول الرسول) * وهو اليسع * (والذين ءامنوا معه) *، وهو حزقيا الملك حين حضر القتال ومن معه من المؤمنين، * (متى نصر الله) *، فقال الله عز وجل: * (ألا إن نصر الله قريب) * [آية: 214]، يعني سريع، وإن ميشا بن حزقيا قتل اليسع، واسمه أشعيا. تفسير سورة البقرة آية [215] * (يسئلونك ماذا ينفقون) من أموالهم، وذلك أن الله أمر بالصدقة، فقال عمرو بن الجموح الأنصاري من بني سلمة بن جشم بن الخزرج، قتل يوم أحد، رضي الله عنه، قال: يا رسول الله، كم ننفق؟ وعلى من ننفق؟ فأنزل الله عز وجل في قول عمرو: كم ننفق؟ وعلى من ننفق؟: * (يسئلونك ماذا ينفقون) من الصدقة، * (قل ما أنفقتم من خير) * من مال، كقوله سبحانه * (إن ترك خيرا) * [البقرة: 180]، يعني مالا، * (فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل) *، فهؤلاء موضع نفقة أموالكم، * (وما تفعلوا من خير) * من أموالكم، * (فإن الله به عليم) * [آية: 215]، يعني بما أنفقتم عليم. وأنزل في قول عمرو: يا رسول الله، كم ننفق من أموالنا؟ وعلى من ننفق؟ قول الله عز وجل: * (قل العفو) *، يعني فضل قوتك، فإن كان الرجل من أصحاب الذهب والفضة أمسك الثلث وتصدق بسائره، وإن كان من أصحاب الزرع والنخل أمسك ما يكفيه في سنته وتصدق بسائره، وإن كان ممن يعمل بيده أمسك ما يكفيه يومه ذلك وتصدق بسائره، فبين الله عز وجل ما ينفقون في هذه الآية، فقال: * (قل العفو) *،
112 يعني فضل القوت، * (كذلك) * يعظكم هكذا * (يبين الله لكم الآيات) *، يعني أمر الصدقات، * (لعلكم تتفكرون) * [البقرة: 219]، يقول لكي تتفكروا في أمر الدنيا، فتقولون: هي دار بلاء، وهي دار فناء، ثم تتفكروا في الآخرة فتعرفون فضلها، فتقولون: هي دار خير، ودار بقاء، فتعملون لها في أيام حياتكم، فهذا التفكر فيهما، فشق على الناس حين أمرهم أن يتصدقوا بالفضل، حتى نزلت آية الصدقات في براءة، فكان لهم الفضل وإن كثر إذا أدوا الزكاة. تفسير سورة البقرة آية [216] * (قوله سبحانه: * (كتب عليكم القتال) *، يعني فرض عليكم، كقوله: * (كتب عليكم الصيام)، يعني فرض، * (وهو كره لكم) *، يعني مشقة لكم، * (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم) *، فيجعل الله عاقبته فتحا وغنيمة وشهادة، * (وعسى أن تحبوا شيئا) *، يعني القعود عن الجهاد، * (وهو شر لكم) *، فيجعل الله عاقبته شر، فلا تصيبون ظفرا ولا غنيمة، * (والله يعلم وأنتم لا تعلمون) * [آية: 216]، أي والله يعلم من ذلك ما لا تعلمون. تفسير سورة البقرة آية [217] * (يسئلونك عن الشهر الحرام) *، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب على سرية في جمادى الآخرة قبل قتال بدر بشهرين، على رأس ستة عشر شهرا، بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فلما ودع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاضت عيناه، ووجد من فراق النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن عقد له اللواء، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم وجده، بعث مكانه عبد الله ابن جحش الأسدي من بني غنم بن دودان، وأمه عمة النبي صلى الله عليه وسلم أميمة بنت عبد المطلب، وهو حليف لبني عبد شمس، وكتب له كتابا، وأمره أن يتوجه قبل مكة، ولا يقرأ الكتاب حتى يسير ليلتين، فلما سار عبد الله ليلتين، قرأ الكتاب، فإذا فيه: سر باسم الله
113 إلى بطن نخلة، على اسم الله وبركته، ولا تكرهن أحد من أصحابك على السير، وامض لأمري ومن اتبعك منهم، فترصد بها عير قريش، فلما قرأ الكتاب استرجع عبد الله، واتبع استرجاعه بسمع وطاعة الله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم. ثم قال عبد الله لأصحابه: من أحب منكم أن يسير معي فليسر، ومن أحب أن يرجع فليرجع، وهم ثمانية رهط من المهاجرين: عبد الله بن جحش الأسدي، وسعد بن أبي وقاص الزهري، وعتبة بن غزوان المزني حليف لقريش، وأبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وسهل بن بيضاء القرشي، ويقال: سهل من بني الحارث بن فهد، وعامر بن ربيعة القرشي من بني عدي بن كعب، وواقد بن عبد الله التميمي، فرجع من القوم سعد ابن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان، وسار عبد الله ومعه خمسة نفر وهو سادسهم، فلما قدموا لبطن نخلة بين مكة والطائف، حملوا على أهل العير، فقتلوا عمر بن الحضرمي القرشي، قتله واقد بن عبد الله التميمي، رماه بسهم، فكان أول قتيل في الإسلام من المشركين، وأسروا عثمان بن عبد الله بن المغيرة، والحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة المخزومي، فغديا بعد ذلك في المدينة، وأفلتهم نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي على فرس له جواد أنثى، فقدم مكة من الغد، وأخبر الخبر مشركي مكة، وكرهوا الطلب؛ لأنه أول يوم من رجب، وسار المسلمون بالأسارى والغنيمة حتى قدموا المدينة، فقالوا: يا نبي الله، أصبناالقوم نهارا، فلما أمسينا رأينا هلال رجب، فما ندري أصبناهم في رجب أو في آخر يوم من جمادى الآخرة. وأقبل مشركو مكة على مسلميهم، فقالوا: يا معشر الصباة، ألا ترون أن إخوانكم استحلوا القتال في الشهر الحرام، وأخذوا أسارانا وأموالنا، وأنتم تزعمون أنكم على دين الله، أفوجدتم هذا في دين الله حيث أمن الخائف، وربطت الخيل، ووضعت الأسنة، وبدأ الناس لمعاشهم، فقال المسلمون: الله ورسوله اعلم، وكتب مسلمو مكة إلى عبد الله بن جحش أن المشركين عابونا في القتال، وأخذ الأسرى والأموال في الشهر الحرام، فاسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألنا في ذلك متكلم، أو أنزل الله بذلك قرآنا، فدفع عبد الله بن جحش الأسدي الكتاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: * (يسئلونك عن الشهر الحرام) * * (قتال فيه قل قتال فيه كبير) *، ولم يرخص فيه القتال. ثم قال: * (وصد عن سبيل الله)، يعني دين الإسلام، * (وكفر به) * أي وكفر
114 بالله * (و) * صد عن * (والمسجد الحرام وإخراج أهله منه) * من عند المسجد الحرام، فذلك صدهم، وذلك أنهم أخرجوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة، * (أكبر عند الله) *، فهذا أكبر عند الله من القتل والأسر وأخذ الأموال، ثم قال سبحانه: * (والفتنة) *، يعني الإشراك الذي أنتم فيه * (أكبر) * عند الله * (من القتل) *، ثم أخبر عز وجل عن رأى مشركي العرب في المسلمين، فقال سبحانه: * (ولا يزالون يقاتلونكم) *، يعني مشركي مكة * (حتى يردوكم) يا معشر المؤمنين * (عن دينكم) * (الإسلام) * (إن استطاعوا) *، ثم خوفهم، فقال: * (ومن يرتدد منكم عن دينه) * الإسلام، يقول: ومن ينقلب كافرا بعد إيمانه، * (فيمت وهو كافر فأولئك حبطت) *، يعني بطلت * (أعمالهم) * الخبيثة، فلا ثواب لهم * (في الدنيا و) * (لا في) * (والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) * [آية: 217]، يعني لا يموتون. تفسير سورة البقرة آية [218] فكتب عبد الله بن جحش إلى مسلمي أهل مكة بهذه الآية، وكتب إليهم أن عيروكم، فعيروهم بما صنعوا، وقال عبد الله بن جحش وأصحابه: أصبنا القوم في رجب، فنرجو أن يكون لنا أجر المجاهدين في سبيل الله، فأنزل الله عز وجل: * (إن الذين ءامنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمت الله والله غفور رحيم) * [آية: 218]. * (الذين ءامنوا والذين هاجروا) * (إلى المدينة) * (وجاهدوا) * (المشركين) * (في سبيل الله أولئك يرجون رحمت الله) *، يعني جنة الله، نظيرها في آل عمران قوله سبحانه: * (وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله) * [آل عمران: 107]، يعني ففي جنة الله؛ لقولهم للنبي صلى الله عليه وسلم: هل لنا أجر المجاهدين في سبيل الله. * (والله غفور رحيم) *؛ لاستحلالهم القتل والأسر والأموال في الشهر الحرام، فكانت هذه أول سرية، وأول غنيمة، وأول خمس، وأول قتيل، وأول أسر كان في الإسلام، فأما نوفل بن عبد الله الذي أفلت يومئذ، فإنه يوم الخندق ضرب بطن فرسه ليدخل الخندق على المسلمين في غزوة الأحزاب، فوقع في الخندق، فتحطم هو وفرسه، فقتله الله تعالى، وطلب المشركون جيفته بثمن، فقال صلى الله عليه وسلم: ' خذوه، فإنه خبيث الجيفة، خبيث الدية '.
115 تفسير سورة البقرة من آية [219 - 220] * (يسئلونك عن الخمر والميسر) *، يعني القمار، نزلت في عبد الرحمن بن عوف، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، ونفر من الأنصار، رضي الله عنهم، وذلك أن الرجل كان يقول في الجاهلية: أين أصحاب الجزور، فيقوم نفر، فيشترون الجزور، فيجعلون لكل رجل منهم سهم، ثم يقرعون، فمن خرج سهمه يبرأ من الثمن، حتى يبقى آخرهم رجلا، فيكون ثمن الجزور كله عليه وحده، ولا حق له في الجزور، ويقتسم الجزور بقيتهم بينهم، فذلك المسير، قال سبحانه: * (قل فيهما إثم كبير) *، في ركوبهما؛ لأن فيهما ترك الصلاة، وترك ذكر الله عز وجل، وركوب المحارم، ثم قال سبحانه: * (ومنافع للناس) *، يعني بالمنافع اللذة والتجارة في ركوبهما قبل التحريم، فلما حرمهما الله عز وجل، قال: * (وإثمهما) * بعد التحريم، * (أكبر من نفعهما) * قبل التحريم، وأنزل الله عز وجل تحريمهما بعد هذه الآية بسنة، والمنفعة في الميسر أن بعضهم ينتفع به، وبعضهم يخسر، يعني المقامر، وإنما سمي الميسر؛ لأنهم قالوا: يسروا لنا ثمن الجزور، يقول الرجل: افعل كذا وكذا. * (ويسئلونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون) * [آية: 219]، * (في الدنيا والآخرة ويسئلونك عن اليتامى) *، وذلك أن الله عز وجل أنزل في أموال اليتامى: * (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا) * [النساء: 10]، فلما نزلت هذه الآية، أشفق المسلمون من خلطة اليتامى، فعزلوا بيت اليتيم وطعامه وخدامه على حدة مخافة العذر، فشق ذلك على المسلمين، وعلى اليتامى اعتزالهم، فقال ثابت بن رفاعة للنبي صلى الله عليه وسلم: قد سمعنا ما أنزل الله عز وجل في اليتامى فعزلناهم، والذي لهم، وعزلنا الذي لنا، فشق ذلك علينا وعليهم، وليس كلنا يجد سعة في عزل اليتيم وطعامه وخادمه، فهل يصلح لنا خلطتهم، فيكون البيت والطعام واحد والخدمة وركوب الدابة، ولا نرزأهم شيئا، إلا أن نعود عليهم بأفضل منه، فأنزل الله عز وجل في قول ثابت بن رفاعة الأنصاري:
116 * (ويسئلونك عن اليتامى) * (قل إصلاح لهم خير) *، يقول: ما كان لليتيم في صلاح، فهو خير أن تفعلوه. ثم قال سبحانه: * (إن تخالطوهم) * في المسكن والطعام والخدمة وركوب الدابة، * (فإخوانكم) *، فهم إخوانكم، * (والله يعلم المفسد)، لمال اليتيم، * (من المصلح) * لماله، * (ولو شاء الله لأعنتكم)، يقول: لآثمكم في دينكم، نظيرها في براءة قوله سبحانه: * (عزيز عليه ما عنتم) * [التوبة: 128]، يقول: ما أثمتم، فحرم عليكم خلطتهم في الذي لهم، كتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير، فلم تنتفعوا بشيء منه، * (إن الله عزيز) * في ملكه * (حكيم) * [آية: 220]، يعني ما حكم في أموال اليتامى. تفسير سورة البقرة آية [221] * (ولا تنكحوا المشركات) *، نزلت في أبي مرثد الغنوي، واسمه أيمن، وفي عناق القرشية، وذلك أن أبا مرثد كان رجلا صالحا، وكان المشركون أسروا أناسا بمكة، وكان أبو مرثد ينطلق إلى مكة مستخفيا، فإذا كان الليل أخذ الطريق، وإذا كان النهار تعسف الجبال؛ لئلا يراه أحد، حتى يقدم مكة، فيرصد المسلمين ليلا، فإذا أخرجهم المشركون للبراز، تركوهم عند البراز والغائط، فينطلق أبو مرثد، فيجعل الرجل منهم على عنقه حتى إذا أخرجه من مكة كسر قيده بفهر ويلحقه بالمدينة، كان ذلك دأبه، فانطلق يوما حتى انتهى إلى مكة، فلقيته عناق، وكان يصيب منها في الجاهلية، فقالت: أبا مرثد، ما لك في حاجة، فقال: إن الله عز وجل قد حرم الزنا. فلما أيست منه أنذرت به كفار مكة، فخرجوا يطلبونه، فاستتر منهم بالشجر، فلم يقدروا عليه، فلما رجعوا احتمل بعض المسلمين حتى أخرجه من مكة، فكسر قيده، ورجع إلى المدينة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بالخبر، فقال: والذي بعثك بالحق، لو شئت أن آخذهم وأنا مستتر بالشجرة لفعلت، فقال له الني صلى الله عليه وسلم: اشكر ربك أبا مرثد، إن الله عز وجل حجزهم عنك، فقال أبو مرثد: يا رسول الله، إن عناق أحبها، وكان بيني وبينها
117 في الجاهلية، أفتأذن لي في تزويجها، فإنها لتعجبني، فأنزل الله عز وجل: * (ولا تنكحوا المشركات) * * (حتى يؤمن) *، يصدقن بتوحيد الله، * (ولأمة مؤمنة) *، يعني مصدقة بتوحيد الله، * (خير من مشركة ولو أعجبتكم) *؛ لقوله: إنها لتعجبني، * (ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون) * [آية: 221]. تفسير سورة البقرة آية [222] * (ويسئلونك عن المحيض قل هو أذى)، يعني قذر، نزلت في عمرو بن الدحداح الأنصاري، من قضاعة، فلما نزلت هذه الآية لم يؤاكلوهن في إناء واحد، وأخرجوهن من البيوت والفرش كفعل العجم، فقال ناس من العرب للنبي صلى الله عليه وسلم: قد شق علينا اعتزال الحائض، والبرد شديد، فإن آثرناهم بالثياب هلك سائر البيت، وإن آثرنا أهل البيت هلكت النساء بردا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ' إنكم لم تؤمروا أن تعزلوهن من البيوت، إنما أمرتم باعتزال الفرج إذا حضن، ويؤتين إذا طهرن ' وقرأ عليهم: * (فاعتزلوا النساء في في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن)، يعني يغتسلن، * (فإذا تطهرن) *، يعني اغتسلن من المحيض، * (فأتوهن من حيث أمركم الله) *، أي يؤتين غير حيض في فروجهن التي نهى عنها في الحيض، * (إن الله يحب التوابين) * من الذنوب، * (ويحب المتطهرين) [آية: 222] من الأحداث والجنابة والحيض. تفسير سورة البقرة آية [223] * (نساؤكم حرث لكم) *، وذلك أن حيي بن أخطب ونفرا من اليهود قالوا للمسلمين: إنه لا يحل لكم جماع النساء إلا مستلقيات، وإنا نجد في كتاب الله عز وجل أن جماع المرأة غير مستلقية ذنبا عند الله عز وجل، فقال المسلمون لرسول الله: إنا كنا في الجاهلية وفي الإسلام نأتي النساء على كل حال، فزعمت اليهود أنه ذنب عند الله عز وجل إلا مستلقيات، فأنزل الله عز وجل: * (نساؤكم حرث لكم) *، يعني مزرعة للولد، * (فأتوا حرثكم أنى شئتم) * في الفروج، * (وقدموا لأنفسكم) * (من الولد) * (واتقوا الله) *
118 يعظكم، فلا تقربوهن حيضا، ثم حذرهم، فقال سبحانه: * (واعلموا أنكم ملاقوه) *، فيجزيكم بأعمالكم، * (وبشر المؤمنين) * [آية: 223]، يعني المصدقين بأمر الله ونهيه بالجنة. تفسير سورة البقرة من آية [224 - 225] * (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم) *، نزلت في أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، وفي ابنه عبد الرحمن، حلف أبو بكر، رضي الله عنه، ألا يصله حتى يسلم، وذلك أن الرجل كان إذا حلف، قال: لا يحل إلا إبرار القسم، فأنزل الله عز وجل: * (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم) *، يقول: لا يحلف على ما هو في معصية إلا يصل قرابته، وذلك أن الرجل يحلف أن لا يدخل على جاره، ولا يكلمه، ولا يصلح بين إخوانه، والرجل يريد الصلح بين الرجلين، فيغضبه أحدهما أو يتهمه، فيحلف المصلح أن لا يتكلم بينهما، قال الله عز وجل: لا تحلفوا ألا تصلوا القرابة: * (أن تبروا وتتقوا) * الله * (وتصلحوا بين الناس) *، فهو خير لكم من وفاء باليمين في معصية الله، * (والله سميع) * لليمين؛ لقولهم: حلفنا عليها، * (عليم) * [آية: 224]، يقول: عالم بها، كان هذا قبل أن تنزل الكفارة في المائدة. * (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) *، وهو الرجل يحلف على أمر يرى أنه فيه صادق وهو مخطئ، فلا يؤاخذه الله بها، ولا كفارة عليه فيها، فذلك العفو، ثم قال عز وجل: * (ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) *، يعني بما عقدت قلوبكم من المأثم، يعني اليمين الكاذبة التي حلف عليها، وهو يعلم أنه فيها كاذب، فهذه فيها كفارة، * (والله غفور)، يعني ذا تجاوز عن اليمين التي حلف عليها، * (حليم) * [آية: 225]، حين لا يوجب فيها الكفارة. تفسير سورة البقرة من آية [226 - 227] ثم نزلت الكفارة في سورة المائدة، فبين فيها * (للذين يؤلون) *، يعني يقسمون * (من نسائهم) *، فهو الرجل يحلف أن لا يقرب امرأته، * (تربص أربعة أشهر فإن فاءو) *، يعني
119 فإن رجع في يمينه فجامعها قبل أربعة أشهر، فهي امرأته، وعليه أن يكفر عن يمينه، * (فإن الله غفور) * لهذه اليمين، * (رحيم) * [آية: 226] به، إذ جعل الله عز وجل الكفارة فيها؛ لأنه لم يكن أنزل الكفارة في المائدة، ثم نزلت بعد ذلك الكفارة في المائدة. * (وإن عزموا الطلاق) *، يعني فإن حققوا * (الطلاق) *، يعني أنفذوا في السراح، فلم يجامعها أربعة أشهر بانت منه بتطليقه، * (فإن الله سميع) * ليمينه، * (عليم) * [آية: 227]، يعني عالم بها. تفسير سورة البقرة آية [228] * (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) *، يعني ثلاث حيض إذا كانت ممن تحيض، * (ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن) * من الولد، * (إن كن يؤمن بالله) *، يعني يصدقن بالله بأنه واحد لا شريك له، * (واليوم الآخر) *، يصدقن بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال بأنه كائن، ثم قال عز وجل: * (وبعولتهن أحق بردهن في ذلك) *، يقول: الزوج أحق برجعتها وهي حبلى، نزلت في إسماعيل الغفاري وفي امرأته لم تشعر بحبلها، ثم قال سبحانه: * (إن أرادوا إصلاحا) *، يعني بالمراجعة فيما بينهما، فعمد إسماعيل فراجعها وهي حبلى، فولدت منه، ثم ماتت ومات ولدها، * (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف) *، يقول: لهن من الحق على أزواجهن مثل ما لأزواجهن عليهن، ثم قال سبحانه: * (وللرجال عليهن درجة) *، يقول: لأزواجهن عليهن فضيلة في الحق وبما ساق إليها من الحق، * (والله عزيز) * في ملكه، * (حكيم) * [آية: 228]، يعني حكم الرحمة عليها في الحبل. تفسير سورة البقرة من آية [229 - 232]
120 ثم نسختها الآية التي بعدها، فأنزل الله بعد ذلك بأيام يسيرة، فبين للرجل كيف يطلق المرأة، وكيف تعتد، فقال: * (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف) *، يعني بإحسان، * (أو تسريح بإحسان) *، يعني التطليقة الثالثة في غير ضرار، كما أمر الله سبحانه في وفاء المهر، * (ولا يحل لكم) * إذا أردتم طلاقها * (أن تأخذوا مما ءاتيتموهن شيئا) *، وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته، أخرجها من بيته، فلا يعطيها شيئا من المهر، ثم استثنى ورخص، فقال سبحانه: * (إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله) *، يعني أمر الله عز وجل فيما أمرهما، وذلك أن تخاف المرأة الفتنة على نفسها، فتعصى الله فيما أمرها زوجها، أو يخاف الزوج أن لم تطعه امرأته أن يعتدى عليها، يقول سبحانه: * (فإن خفتم) *، يعني علمتم، * (ألا يقيما) *، يعني الحاكم، * (حدود الله) *، يعني أمر الله في أنفسهما إن نشزت عليه، * (فلا جناح عليهما) *، يعني الزوج والزوجة، * (فيما افتدت به) * من شيء، يقول: لا حرج عليهما إذا رضيا أن تفتدى منه ويقبل منها الفدية ثم يفترقا، وكانت نزلت في ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري من بني الحارث بن الخزرج، وفي امرأته أم حبيبة بنت عبد الله بن أبي رأس المنافقين، وكان أمهرها حديقة فردتها عليه، واختلعت منه، فهي أول خلعة كانت في الإسلام، ثم قال: * (تلك حدود الله) *، يعني أمر الله فيهما، * (فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله) *، يقول: ومن يخالف أمر الله إلى غيره، * (فأولئك هم الظالمون) * [آية: 229] لأنفسهم. ثم رجع إلى الآية الأولى في قوله: * (الطلاق مرتان) * * (فإن طلقها) * بعد التطليقتين تطليقة أخرى، سواء أكان بها حبل أم لا، * (فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره) * فيجامعها، فنسخت هذه الآية الآية التي قبلها في قوله عز وجل * (وبعولتهن أحق بردهن في ذلك) *، ونزلت * (فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره) * في تميمة بنت وهب بن عتيك النقرى، وفي زوجها رفاعة بن عبد الرحمن بن الزبير، وتزوجها عبد الرحمن بن
121 الزبير القرظي، يقول: * (فإن طلقها) * الزوج الأخير عبد الرحمن، * (فلا جناح عليهما) *، يعني الزوج الأول رفاعة، ولا على المرأة تميمة، * (أن يتراجعا) * بمهر جديد ونكاح جديد، * (إن ظنا) *، يعني إن حسبا، * (أن يقيما حدود الله) * أمر الله فيما أمرهما، * (وتلك حدود الله) *، يعني أمر الله في الطلاق، يعني ما ذكر من أحكام الزوج والمرأة في الطلاق وفي المراجعة، * (يبينها لقوم يعلمون) * [آية: 230]. * (وإذا طلقتم النساء) * واحدة، * (فبلغن أجلهن) *، يعني انقضاء عدتهن من قبل أن تغتسل من قرئها الثالث، * (فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف) *، يعني بإحسان من غير ذرار، فيوفيها المهر والمتعة، نزلت في ثابت بن ياسر الأنصاري في الطعام والكسوة وغير ذلك، فقال سبحانه: * (ولا تمسكوهن ضرارا) *، وذلك أنه طلق امرأته، فلما أرادت أن تبين منه راجعها، فما زال يضارها بالطلاق ويراجعها، يريد بذلك أن يمنعها من الزواج لتفتدي منه، فذلك قوله سبحانه: * (لتعتدوا) *، وكان ذلك عدوانا، * (ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه، ولا تتخذوا آيات الله هزوا) *، يعني استهزاء فيما أمر الله عز وجل في كتابه من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، ولا تتخذوها لعبا، * (واذكروا) *، يعني واحفظوا * (نعمت الله عليكم) * بالإسلام، * (و) * احفظوا * (وما أنزل) * الله * (عليكم من الكتاب) *، يعني القرآن * (والحكمة) * والموعظة التي في القرآن من أمره ونهيه، يقول: * (يعظكم به) *، يعني بالقرآن، * (واتقوا الله) *، يعظكم فلا تعصوه فيهن، ثم حذرهم، فقال: * (واعلموا أن الله بكل شيء) * من اعمالكم * (عليم) * [آية: 231]، فيجزيكم بها. * (وإذا طلقتم النساء) * تطليقة واحدة، * (فبلغن أجلهن) *، يقول: انقضت عدتهن، نزلت في أبي البداح بن عاصم بن عدي الأنصاري، من بني العجلان الأنصاري، وهو حي من قضاعة، وفي امرأته جمل بنت يسار المزني، بانت منه بتطليقه، فأراد مراجعتها، فمنعها أخوها، وقال: لئن فعلت لا أكلمك أبدا، أنكحتك وأكرمتك وآثرتك على قومي فطلقتها، وأجحفت بها، والله لا أزوجكها أبدا، فقال الله عز وجل، يعني معقل: * (فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن)، يعني فلا تمنعوهن أن يراجعهن أزواجهن، * (إذا تراضوا بينهم بالمعروف)، يعني بمهر جديد ونكاح جديد، * (ذلك) * الذي ذكر من النهى ألا يمنعها من الزوج ذلك، * (يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر)، يعني يصدق بالله بأنه واحد لا شريك له، ويصدق بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال، فليفعل ما
122 أمره الله عز وجل من المراجعة، * (ذلكم أزكى لكم) *، يعني خير لكم من الفرقة، * (وأطهر) * لقلوبكم من الريبة، * (والله يعلم) * حب كل واحد منهما لصاحبه، * (وأنتم لا تعلمون) * [آية: 232] ذلك منهما. فلما نزلت هذه الآية، قال صلى الله عليه وسلم: ' يا معقل، إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر، فلا تمنع أختك فلانا '، يعني أبا البداح، قال: فإني أنا أؤمن بالله واليوم الآخر، وأشهدك أني قد أنكحته. تفسير سورة البقرة آية [233] * (والوالدات يرضعن أولادهن) *، يعني إذا طلقن، * (حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة) *، يعني يكمل الرضاعة، وليس الحولان بالفريضة، فمن شاء أرضع فوق الحولين، ومن شاء قصر عنهما، ثم قال: * (وعلى المولود له) * إذا طلق امرأته وله ولد رضيع ترضعه أمه، فعلى الأب رزق الأم والكسوة، * (رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها) *، يعني إلا ما أطاقت من النفقة والكسوة، ثم قال سبحانه: * (لا تضار والدة بولدها) *، يقول: لا يجعل بالرجل إذا طلق امرأته أن يضارها، فينزع منها ولدها وهي لا تريد ذلك، فيقطعه عن أمه، فيضارها بذلك بعد أن ترضى بعطية الأب من النفقة والكسوة. ثم ذكر الأم، فقال: * (ولا مولود له بولده) *، يعني لا يجمل بالمرأة أن تضار زوجها وتلقى إليه ولدها، ثم قال في التقديم: * (وعلى الوارث مثل ذلك) *، يقول: وعلى من يرث اليتيم إذا مات الأب مثل ما على الأب من النفقة والكسوة لو كان حيا، فلا يضار الوارث الأم، وهي بمنزلة الأب إذا لم يكن لليتيم ماله، * (فإن أرادا فصالا عن تراض منهما
123 وتشاور) *، يقول: واتفقا، * (فلا جناح عليهما) *، يعني لا حرج ما لم يضار أحدهما صاحبه أن يفصلا الولد قبل الحولين، والأم أحق بولدها من المرضع إذا رضيت من النفقة والكسوة بما يرضي به غيرها، فإن لم ترض الأم بما يرضى به غيرها من النفقة، * (فلا جناح عليهما)، يقول عز وجل: فلا جناح على الوالد أن يسترضع لولده، ويسلم للظئر أجرها، ولا كسوة لها، ولا رزق، وإنما هو أجرها، قوله سبحانه: * (وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم) لأمر الله في المراضع، * (ما ءاتيتم بالمعروف) *، يقول: ما أعطيتم الظئر من فضل على أجرها * (واتقوا الله) * ولا تعصوه فيما حذركم الله في هذه الآية من أمر المضارة والكسوة والنفقة للأم وأجر الظئر، ثم حذرهم، فقال: * (واعلموا أن الله بما تعملون بصير) * [آية: 233]. تفسير سورة البقرة آية [234] * (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا) * من يوم يموت زوجها، * (فإذا بلغن أجلهن) *، يعني إذا مضى الأجل مما ذكر في هذه الآية، * (فلا جناح عليكم) * في قراءة ابن مسعود: * (لا حرج عليهن '، * (فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف) *، يعني لا حرج على المرأة إذا نقضت عدتها أن تتشوف وتتزين وتلتمس الأزواج، * (والله بما تعملون خبير) * [آية: 234] من أمر العدة. تفسير سورة البقرة آية [235] * (ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء) *، يعني لا حرج على الرجل أن يقول للمرأة قبل أن تنقضي عدتها: إنك لتعجبينني، وما أجاوزك إلى غيرك، فهذا التعريض، * (أو أكننتم في أنفسكم) *، فلا جناح عليكم أن تسروا في قلوبكم
124 تزويجهن في العدة * (علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا) *، يعني الجماع في العدة، ثم استثنى، فقال: * (إلا أن تقولوا قولا معروفا) * عدة حسنة، نظيرها في النساء: * (وقولوا لهم قولا معروفا) * [النساء: 8]، يعني عدة حسنة، فتقول: وهي في العدة، إنه حبيب إلى أن أكرمك وأن آتى ما أحببت ولا أجاوزك إلى غيرك، * (ولا تعزموا عقدة النكاح) *، يعني ولا تحققوا عقدة النكاح، يعني لا تواعدوهن في العدة، * (حتى يبلغ الكتاب أجله) *، يعني حتى تنقضي عدتها، ثم خوفهم، فقال سبحانه: * (واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم)، يعني ما في قلوبكم من أمورهن، * (فاحذروه)، أي فاحذروا أن ترتكبوا في العدة ما لا يحل، * (واعلموا أن الله غفور)، يعني ذا تجاوز لكم، * (حليم) * [آية: 235] لا يعجل بالعقوبة. تفسير سورة البقرة آية [236] * (لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة) *، يقول: وإن لم تسموا لهن المهر، فلا حرج في الطلاق في هذه الأحوال كلها، وهو الرجل يطلق امرأته قبل أن يجامعها ولم يسم لها مهرا، فلا مهر لها، ولا عدة عليها، ولا المتعة بالمعروف ويجبر الزوج على متعة هذه المرأة التي طلقها قبل أن يسمى لها مهرا، وليس بمؤقت، نزلت في رجل من الأنصار تزوج امرأة من بني حنيفة، ولم يسم لها مهرا، ثم طلقها قبل أن يمسها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ' هل متعتها بشيء '؟، قال: لا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ' متعها بقلنسوتك، أما إنها لا تساوي شيئا، ولكن أحببت أن أحيي سنة '، فذلك قوله عز وجل: * (ومتعوهن على الموسع قدره) * في المال، * (وعلى المقتر قدره) * في المال، * (متاعا بالمعروف) * وليس بمؤقت، وهو واجب، * (حقا على المحسنين) * [آية: 236]. تفسير سورة البقرة آية [237] ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم كساه ثوبين بعد ذلك، فتزوج امرأة فأمهرها أحد ثوبيه، ثم قال سبحانه: * (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن) *، يعني من قبل الجماع، * (وقد فرضتم لهن) * من المهر * (فريضة فنصف ما فرضتم) عليكم من المهر، ثم استثنى،
125 فقال: * (إلا أن يعفون) *، يعني إلا أن يتركن، يعني المرأة تترك نصف مهرها، فتقول المرأة: أما إنه لم يدخل بي ولم ينظر لي إلى عورة، فتعفو عن نصف مهرها وتتركه لزوجها، وهي بالخيار، ثم قال: * (أو بعفوا الذي بيده عقدة النكاح)، يعني الزوج، فيوفيها المهر كله، فيقول: كانت في حبالي ومنعتها من الأزواج، فيعطيها المهر كله، وهو بالخيار، ثم قال: * (وأن تعفوا) *، يعني ولأن تعفوا، * (أقرب للتقوى) *، يعني المرأة والزوج كلاهما أمرهما أن يأخذا بالفضل في الترك، ثم قال عز وجل: * (ولا تنسوا) *، يعني المرأة والزوج، يقول: لا تتركوا * (الفضل بينكم) في الخير حين أمرها أن تترك نصف المهر للزوج، وأمر الزوج أن يوفيها المهر كله، * (إن الله بما تعملون بصير) * [آية: 237]، يعني بصيرا أن ترك أو وفاها. تفسير سورة البقرة من آية [238 - 239] * (حافظوا على الصلوات) * الخمس في مواقيتها، * (والصلاة الوسطى) *، يعني صلاة العصر، * (وقوموا لله قانتين) [آية: 238] في صلاتكم، يعني مطيعين، نظيرها: * (وكانت من القانتين) [التحريم: 12]، يعني من المطيعين، وكقوله سبحانه: * (إن إبراهيم كان أمة قانتا) * [النحل: 120]، يعني مطيعا، وكقوله سبحانه: * (قانتات) * [النساء: 34]، يعني مطيعات، وذلك أن أهل الأوثان يقومون في صلاتهم عاصين، قال الله: قوموا أنتم مطيعين، * (فإن خفتم) * العدو فصلوا، * (فرجالا أو ركبانا) *، يقول: على أرجلكم أو على دوابكم، فصلوا ركعتين حيث كان وجهه إذا كان الخوف شديدا، فإن لم يستطع السجود، فليومئ برأسه إيماء، وليجعل السجود أخفض من الركوع، ولا يجعل جبهته على شيء، ثم قال سبحانه: * (فإذا أمنتم) العدو، * (فاذكروا الله) *، يقول: فصلوا لله، * (كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون) * [آية: 239].
126 تفسير سورة البقرة من آية [240 - 242] * (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول) *، يعني بالمتاع أن ينفق عليها في الطعام والكسوة سنة ما لم تتزوج، قال: * (غير إخراج)، يقول: لا تخرج من بيت زوجها سنة وهي كارهة، * (فإن خرجن) * إلى أهلهن طائعة قبل الحلول، فلا نفقة لها، فعدتها ثلاثة قروء، يقول: * (فلا جناح عليكم) * في قراءة ابن مسعود: ' فلا جناح عليهن '، * (في ما فعلن في أنفسهن من معروف) *، يعني بالمعروف، يعني أن تتشوف وتتزين وتلتمس الأزواج، * (والله عزيز حكيم) * [آية: 240]، عزيز في ملكه، حكيم فيما حكم من النفقة حولا، نزلت في حكيم بن الأشرف، قدم الطائف ومات بالمدينة وله أبوان وأولاد، فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم الميراث الوالدين، وأعطى الأولاد بالمعروف، ولم يعط امرأته شيئا. غير أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالنفقة عليها في الطعام والكسوة حولا، فإن كانت المرأة من أهل المدر، التمست السكنى فيما بينها وبين الحول، وإن كانت من أهل الوبر نسجت ما تسكن فيه إلى الحول، فكان هذا قبل أن تنزل آية المواريث، ثم نزل: * (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا) * نسخت هذه الحول، ثم أنزل الله عز وجل آية المواريث، فجعل لهن الربع والثمن، فنسخت نصيبها من الميراث نفقة سنة، ثم قال: * (وللمطلقات) * اللاتي دخل بهن * (متاع بالمعروف) *، يعني على قدر مال الزوج، ولا يجبر الزوج على المتعة؛ لأن لها المهر كامل، * (حقا على المتقين) * [آية: 241] أن يمتع الرجل امرأته، * (كذلك يبين الله لكم آياته) *، يقول: هكذا يبين الله لكم أمره في المتعة، * (لعلكم)، يعني لكي * (تعقلون) *، [آية: 242]. تفسير سورة البقرة من آية [243 - 245]
127 * (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم) * من بني إسرائيل * (ألوف) * ثمانية آلاف، * (حذر الموت) *، يعني حذر القتل، وذلك أن نبيهم حزقيل بن دوم، وهو ذو الكفل بن دوم، ندبهم إلى قتال عدوهم، فأبوا عليه جبنا عن عدوهم واعتلوا، فقالوا: إن الأرض التي نبعث إليها لنقاتل عدونا، هي أرض يكون فيها الطاعون، فأرسل الله عز وجل عليهم الموت، فلما رأوا أن الموت كثر فيهم، خرجوا من ديارهم فرارا من الموت، فلما رأى ذلك حزقيل، قال: اللهم رب يعقوب وإله موسى، قد ترى معصية عبادك، فأرهم آية في أنفسهم حتى يعلموا أنهم لن يستطيعوا فرارا منك، فأمهلهم الله عز وجل حتى خرجوا من ديارهم، وهي قرية تسمى دامردان. فلما خرجوا قال الله عز وجل لهم: * (فقال لهم الله موتوا) * عبرة لهم، فماتوا جميعا وماتت دوابهم كموت رجل واحد ثمانية أيام، فخرج إليهم الناس، فعجزوا عن دفنهم حتى حظروا عليهم وأروحت أجسادهم، * (ثم) * إن الله عز وجل * (أحياهم) * بعد ثمانية أيام وبهن نتن شديد، ثم إن حزقيل بكى إلى ربه عز وجل، فقال: اللهم رب إبراهيم وإله موسى، لا تكن على عبادك الظلمة كأنفسهم، واذكر فيهم ميثاق الأولين، فسمع الله عز وجل، فأمره أن يدعوهم بكلمة واحدة، فقاموا كقيام رجل واحد كان وسنانا فاستيقظ، فذلك قوله عز وجل: * (إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون) * [آية: 243] رب هذه النعمة حين أحياهم بعدما أراهم عقوبته، ثم أمرهم عز وجل أن يرجعوا إلى عدوهم فيجاهدوا، فذلك قوله: * (موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس) * أنه أحياهم بعدما أماتهم، * (ولكن أكثر الناس لا يشكرون) *. وقوله سبحانه: * (وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع)؛ لقولهم: إن الأرض التي نبعث إليها فيها الطاعون * (عليم) * [آية: 244] بذلك، حتى إنه ليوجد في ذلك السبط من اليهود ريح كريح الموتى، وكانوا ثمانية آلاف * (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا) * طيبة بها نفسه محتسبا، * (فيضاعفه له) * (بها) * (أضعافا كثيرة) *، نزلت في أبي الدحداح، وأسمه عمر بن الدحداح الأنصاري، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
128 ' من تصدق بصدقة، فله مثلها في الجنة '، قال أبو الدحداح: إن تصدقت بحديقتي فلي مثلها في الجنة؟ قال: ' نعم '، قال: وأم الدحداح معي؟ قال: ' نعم '، فال: والصبية؟ قال: ' نعم '. وكان له حديقتان، فتصدق بأفضلهما واسمها الجنينة، فضاعف الله عز وجل صدقته ألفي ألف ضعف، فذلك قوله عز وجل: * (أضعافا كثيرة) * * (والله يقبض ويبصط) *، يعني يقتر ويوسع، * (وإليه ترجعون) * [آية: 245] فيجزيكم بأعمالكم، فرجع أبو الدحداح إلى حديقته، فوجد أم الدحداح والصبية في الحديقة التي جعلها صدقة، فقام على باب الحديقة، وتحرج أن يدخلها، وقال: يا أم الدحداح، قالت له: لبيك يا أبا الدحداح، قال: إني قد جعلت حديقتي هذه صدقة، واشترطت مثلها في الجنة، وأم الدحداح معي، والصبية معي، قالت: بارك الله لك فيما اشتريت، فخرجوا منها، وسلم الحديقة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: كم من نخلة مدلا عذوقها لأبي الدحداح في الجنة لو اجتمع على عذق منها أهل منى أن يقلوه ما أقلوه. تفسير سورة البقرة آية [246] * (قوله سبحانه: * (ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى) *، وذلك أن كفار بني إسرائيل قهروا مؤمنيهم، فقتلوهم وسبوهم وأخرجوهم من ديارهم وأبنائهم، فمكثوا زمانا ليس لهم ملك يقاتل عدوهم، والعدو بين فلسطين ومصر، * (إذ قالوا لنبي لهم) * فقالوا لنبي لهم، عليه السلام، اسمه اشماويل، وهو بالعربية إسماعيل بن هلقابا، واسم أمه حنة، وهو من نسل هارون بن عمران أخو موسى: * (ابعث لنا ملكا نقاتل) * عدونا * (في سبيل الله قال) * (لهم نبيهم) * (هل عسيتم إن) * بعث الله لكم ملكا و * (كتب) *، يعني وفرض * (عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب) * أي فلما فرض، كقوله سبحانه: * (كتب عليكم الصيام) *، يعني فرض عليكم، * (عليهم القتال) *، يعني على بني إسرائيل، * (تولوا إلا قليلا منهم) *، يعني كره القتال العصابة الذين وقفوا
129 في النهر، * (والله عليم بالظالمين) * [آية: 246]، يعينهم لقولهم: * (لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده) *، وكان القليل أصحاب الفرقة ثلاثمائة وثلاثة عشر عدد أصحاب بدر. تفسير سورة البقرة آية [247] وقال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر: ' إنكم على عدد أصحاب طالوت '، * (وقال لهم نبيهم) * إسماعيل: * (إن الله) * عز وجل * (قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك) *، يعني من أين يكون له الملك * (علينا) *، وليس طالوت من سبط النبوة ولا من سبط الملوك، وكان طالوت فيهم حقير الشأن دون، * (ونحن أحق بالملك منه) *، منا الأنبياء والملوك، وكانت النبوة في سبط لاوى بن يعقوب والملوك في سبط يهوذا بن يعقوب، * (ولم يؤت) * طالوت * (سعة من المال) * أن ينفق علينا، * (قال) * لهم نبيهم إسماعيل: * (إن الله) * عز وجل * (اصطفاه عليكم) *، يعني اختاره، كقوله سبحانه: * (إن الله اصطفى لكم الدين) *، يعني اختاره، * (وزاده بسطة في العلم والجسم) *، وكان أعلم بني إسرائيل، وكان طالوت من سبط بنيامين، وكان جسيما عالما، وكان اسمه شارل بن كيس، وبالعربية طالوت بن قيس، وسمي طالوت لطوله، * (والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع) بعطية الملك * (عليم) * [آية: 247] بمن يعطيه الملك. تفسير سورة البقرة آية [248] فلما أنكروا أن يكون طالوت عليهم ملكا، * (وقال لهم نبيهم إن آية ملكه) * أنه من الله * (أن يأتيكم التابوت) * الذي أخذ منكم، * (فيه
130 سكينة من ربكم) *، ورأس كرأس الهرة، ولها جناحان، فإذا صوتت عرفوا أن النصر لهم، فكانوا يقدمونها أمام الصف، * (وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون) *، يعني بالبقية رضراضا من الألواح وقفير من في طست من ذهب وعصا موسى، عليه السلام، وعمامته، وكان التابوت يكون مع الأنبياء إذا حضروا القتال قدموه بين أيديهم يستفتحون به على عدوهم، فلما تفرقت بنو إسرائيل وعصوا الأنبياء، سلط الله عز وجل عليهم عدوهم، فقتلوهم وغلبوهم على التابوت، فدفنوه في مخرأة لهم، فابتلاهم الله عز وجل بالبواسير، فكان الرجل إذا تبرز عند التابوت أخذه الباسور، ففشى ذلك فيهم فهجروه، فقالوا: ما ابتلينا بهذه إلا بفعلنا بالتابوت، فاستخرجوه، ثم وجهوه إلى بني إسرائيل على بقرة ذات لبن، وبعث الله عز وجل الملائكة، فساقوا العجلة، فإذا التابوت بين أظهرهم، فذلك قوله سبحانه، * (تحمله الملائكة) *، يعني تسوقه الملائكة، * (إن في ذلك) *، يعني في رد التابوت، * (لآية لكم إن كنتم مؤمنين) [آية: 248]، يعني مصدقين بأن طالوت ملكه من الله عز وجل. وكان التابوت من عود الشمشار التي تتخذ منه الأمشاط الصفر مموه بالذهب، فلما رأوا التابوت أيقنوا بأن ملك طالوت من الله عز وجل، فسمعوا له وأطاعوا، وكان موسى عليه السلام، ترك التابوت في التيه قبل موته عند يوشع بن نون، ثم إن طالوت تجهز لقتال جالوت، وقال النبي إسماعيل لطالوت: إن الله عز وجل سيبعث رجلا من أصحابك فيقتل جالوت، وأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم درعا، فقال لطالوت: من صلحت هذه الدرع عليه، لم تقصر عليه، ولم تطل، فإنه قاتل جالوت، فاجعل لقاتله نصف ملكك ونصف مالك. فبلغ ذلك داود النبي صلى الله عليه وسلم وهو يرعى الغنم في الجبل فاستودع غنمه ربه جل وعز، فقال: آتي الناس وأطالع أخوتي، وهم سبعة من طالوت، وانظر ما هذا الخبر، فمر داود، عليه السلام، على حجر، فقال: يا داود خذني، فأنا حجر هارون الذي به قتل كذا وكذا، فارم بي جالوت الجبار، فأقع في بطنه، فأنفذ من جانبه الآخر، فأخذه فألقاه في مخلاته، ثم مر بحجر آخر، فقال له: يا داود خذني، فأنا حجر موسى الذي قتل بي كذا وكذا، فارم بي جالوت، فأقع في قلبه فأنفذ من الجانب الآخر، فألقاه في مخلاته، ثم مر بحجر آخر، فقال: يا داود خذني، فأنا الذي أقتل جالوت الجبار، فأستعين بالريح فتلقى البيضة فأقع في دماغه فأقتله، فأخذه فألقاه في مخلاته.
131 ثم انطلق حتى دخل على طالوت، فقال: أنا قاتل جالوت بإذن الله، وكان داود، عليه السلام، رث المنظر، هبير، دوير، فأنكر طالوت أن يقتله داود، عليه السلام، فقال داود: تجعل لي نصف ملكك ونصف مالك إن قتلت جالوت الجبار؟ قال طالوت: لك ذلك عندي، وأزوجك ابنتي، ولن يخفى علي إن كنت أنت صاحبه، قد أتاني قومي كلهم يزعم أنه يقتله، وقد أخبرني إسماعيل أن الله يبعث له رجلا من أصحابي فيقتله، فالبس هذا الدرع، فلبسها داود، عليه السلام، فطالت عليه، فانتفض فيها، فتقلص منها وجعل داود يدعو الله عز وجل، ثم انتفض فيها، فتقلص منها، ثم انتفض فيها الثالثة فاستوت عليه، فعلم طالوت أنه يقتل جالوت. تفسير سورة البقرة آية [249] * (فلما فصل طالوت بالجنود) *، وهم مائة ألف إنسان، فسار في حر شديد، * (فلما فصل طالوت بالجنود) * * (قال إن الله) * عز وجل * (مبتليكم بنهر) * بين الأردن وفلسطين، * (فمن شرب منه فليس مني) *، يقول: ليس معي على عدوى، كقول إبراهيم، عليه السلام: * (فمن تبعني فإنه مني) * [إبراهيم: 36]، يعني معي، * (ومن لم يطعمه فإنه مني) *، فإنه معي على عدوى، ثم استثنى، فقال: * (إلا من اغترف غرفة بيده) *، الغرفة يشرب منها الرجل وخدمه ودابته ويملأ قربته، ووصلوا إلى النهر من مفازة، وأصابهم العطش، فلما رأى الناس الماء ابتدروا فوقعوا فيه، * (فشربوا منه إلا قليلا منهم) *، والقليل ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، عدة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر. * (فلما جاوزه)، أي جاوز النهر * (هو) *، يعني طالوت، * (والذين ءامنوا معه) *، وكلهم مؤمنون، فقال العصاة الذين وقعوا في النهر: * (قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده) *، فرد عليهم أصحاب الغرفة، * (قال الذين يظنون) *، يعني الذين يعلمون، كقوله سبحانه: * (وظن أنه الفراق) * [القيامة: 28]، يعني وعلم،
132 وكقوله عز وجل: * (فظنوا أنهم مواقعوها) * [الكهف: 53]، وكقوله عز وجل: * (ألا يظن أولئك) * [المطففين: 4]، أي ألا يعلم * (أنهم ملاقوا الله) *؛ لأنهم قد طابت أنفسهم بالموت، * (كم من فئة) *، يعني جند * (قليلة) * عددهم، * (غلبت فئة كثيرة) * عددهم * (بإذن الله والله مع الصابرين) [آية: 249]، يعني بني إسرائيل في النصر على عدوهم، فرد طالوت العصاة وسار بأصحاب الغرفة حتى عاينوا العدو. تفسير سورة البقرة من آية [250 - 252] * (ولما برزوا) * (لقتال) * (لجالوت وجنوده) *، قال أصحاب الغرفة: * (قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا) *، يعني ألق، أصبب علينا صبرا، كقوله سبحانه: * (أفرغ)، يعني أصبب، * (عليه قطرا) * [الكهف: 96]، * (وثبت أقدامنا) عند القتال حتى لا تزول، * (وانصرنا على القوم الكافرين) * [آية: 250]، يعني جالوت وجنوده، وكانوا يعبدون الأوثان، فاستجاب الله لهم، وكانوا مؤمنين، أصحاب الغرفة في العصاة. فلما التقى الجمعان وطالوت في قلة وجالوت في كثرة، عمد داود، عليه السلام، فقام بحيال جالوت، لا يقوم ذلك المكان إلا من يريد قتال جالوت، فجعل الناس يسخرون من داود حين قام بحيال جالوت، وكان جالوت من قوم عاد عليه بيضة فيها ثلاثمائة رطل، فقال جالوت: من أين هذا الفتى؟ ارجع ويحك، فإني أراك ضعيفا، ولا أرى لك قوة، ولا أرى معك سلاحا، ارجع فإني أرحمك، فقال داود، عليه السلام: أنا أقتلك بإذن الله عز وجل، فقال جالوت: بأي شيء تقتلني؟ وقد قمت مقام الأشقياء، ولا أرى معك سلاحا إلا عصاك هذه، هلم فاضربني بها ما شئت، وهي عصاه التي كان يرد بها غنمه، قال داود: أقتلك بإذن الله بما شاء الله.
133 فتقدم جالوت ليأخذه بيده مقتدرا عليه في نفسه، وقد صارت الحجارة الثلاثة حجرا واحدا، فلما دنا جالوت من داود، أخرج الحجر من مخلاته، وألقت الريح البيضة عن رأسه، فرماه فوقع الحجر في دماغه حتى خرج من أسفله، وانهزم الكفار، وطالوت ومن معه وقوف ينظرون، فذلك قوله سبحانه: * (فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت) * بحذافة فيها حجر واحد، وقتل معه ثلاثون ألفا، وطلب داود نصف مال طالوت ونصف ملكه، فحسده طالوت على صنيعه وأخرجه، فذهب داود حتى نزل قرية من قرى بني إسرائيل وندم طالوت على صنيعه، فقال في نفسه: عمدت إلى خير أهل الأرض بعثه الله عز وجل لقتل جالوت فطردته، ولم أف له، وكان داود، عليه السلام، أحب إلى بني إسرائيل من طالوت. فانطلق في طلب داود، فطرق امرأة ليلا من قدماء بني إسرائيل تعلم اسم الله الأعظم، وهي تبكي على داود، فضرب بابها، فقالت: من هذا؟ قال: أنا طالوت، فقالت: أنت أشقى الناس وأشرهم، هل تعلم ما صنعت؟ طردت داود النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أمره من الله عز وجل، وكانت لك آية فيه من أمر الدرع وصفة أشماويل وظهوره على جالوت، وقتل الله عز وجل به أهل الأوثان فانهزموا، ثم غذرت بداود وطردته، هلكت يا شقي، فقال لها: إنما أتيتك لأسألك ما توبتي؟ قالت: توبتك أن تأتي مدينة بلقاء فتقاتل أهلها وحدك، فإن افتتحتها، فهي توبتك، فانطلق طالوت، فقاتل أهل بلقاء وحده، فقتل وعمدت بنو إسرائيل إلى داود، عليه السلام، فردوه وملكوه، ولم يجتمع بنو إسرائيل لملك قط غير داود، عليه السلام، فكانوا اثنى عشر سبطا، لكل سبط ملك بينهم، فذلك قوله تبارك وتعالى: * (فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت) *. * (وءاتاه الله الملك) *، يعني ملكه اثنا عشر سبطا، * (والحكمة)، يعني الزبور، * (وعلمه مما يشاء) *، علمه صنعة الدروع، وكلام الدواب والطير، وتسبيح الجبال، * (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض) *، يقول الله سبحانه: لولا دفع الله المشركين بالمسلمين، لغلب المشركون على الأرض، فقتلوا المسلمين، وخرجوا المساجد والبيع والكنائس والصوامع، فذلك قوله سبحانه: * (لفسدت الأرض) *، يقول: لهلكت الأرض نظيرها: * (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها) * [النمل: 34]، يعني أهلكوها، * (ولكن الله ذو فضل على العالمين) * [آية: 251]
134 في الدفع عنهم. * (تلك آيات الله) *، يعني القرآن، * (نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين) * [آية: 252]. تفسير سورة البقرة آية [253] * (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله) *، وهو موسى صلى الله عليه وسلم، ومنهم من اتخذه خليلا، وهو إبراهيم صلى الله عليه وسلم، ومنهم من أعطى الزبور، وتسبيح الجبال والطير، وهو داود صلى الله عليه وسلم، ومنهم من سخرت له الريح والشياطين، وعلم منطق الطير، وهو سليمان صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص، ويخلق من الطين طيرا، وهو عيسى صلى الله عليه وسلم، فهذه الدرجات، يعني الفضائل، قال تعالى: * (ورفع بعضهم درجات) * على بعض، * (وآتينا) *، يقول: وأعطينا * (عيسى ابن مريم البينات) *، يعني ما كان يصنع من العجائب وما كان يحيي من الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص ويخلق من الطين. ثم قال: * (وأيدناه بروح القدس) *، يقول سبحانه: وقويناه بجبريل، عليه السلام، ثم قال: * (ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم) *، يعني من بعد عيسى وموسى، وبينهما ألف نبي، أولهم وآخرهم عيسى، * (من بعد ما جاءتهم البينات) *، يعني العجائب التي كان يصنعها الأنبياء، * (ولكن اختلفوا) *، فصاروا فريقين في الدين، فذلك قوله سبحانه: * (فمنهم من ءامن) *، يعني صدق بتوحيد الله عز وجل، * (ومنهم من كفر) * بتوحيد الله، * (ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد) * [آية: 253]، يعني أراد ذلك. تفسير سورة البقرة آية [254] * (يا أيها الذين ءامنوا أنفقوا مما رزقناكم) * من الأموال في طاعة الله * (من قبل أن يأتي يوم لا بيع) * يقول: لا فداء فيه، * (فيه ولا خلة) * فيه ليعطيه بخلة ما بينهما، * (ولا شفاعة) * للكفار فيه كفعل أهل الدنيا بعضهم في بعض فليس في الآخرة شيء من ذلك * (والكافرون هم الظالمون) * [آية: 254].
135 تفسير سورة البقرة آية [255] * (الله لا إله إلا هو الحي) * الذي لا يموت، * (القيوم) * القائم على كل نفس، * (لا تأخذه سنة) *، يعني ريح من قبل الرأس، فيغشى العينين، وهو وسنان بين النائم واليقظان، ثم قال جل ثناؤه: * (لا تأخذه سنة) * * (ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض) * من الخلق عبيده، وفي ملكه الملائكة، وعزيز، وعيسى ابن مريم، وغيره ممن يعبد، * (من ذا الذي يشفع عنده) * من الملائكة * (إلا بإذنه) *، يقول: إلا بأمره، وذلك قوله سبحانه: * (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) * [الأنبياء: 28]، * (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) *، يقول: ما كان قبل خلق الملائكة، وما كان بعد خلقهم، ثم قال: * (ولا يحيطون) *، يعني الملائكة، * (بشيء من علمه إلا بما شاء) * الرب فيعلمهم، ثم أخبر عن عظمة الرب جل جلاله، فقال سبحانه: * (وسع كرسيه السماوات والأرض) * كلها كل قائمة، * (ولا يؤده حفظهما) *، يقول: ولا يثقل عليه، ولا يجهده حملها. * (وهو العلي العظيم) * [آية: 255] الرفيع فوق كل خلقه العظيم، فلا أعظم منه شيء، يحمل الكرسي أربعة أملاك لكل ملك أربعة وجوه، أقدامهم تحت الصخرة التي تحت الأرض السفلى، مسيرة خمس مائة عام، وما بين كل أرض مسيرة مائة عام، ملك وجهه على صورة الإنسان، وهو سيد الصور، وهو يسأل الرزق للآدميين، وملك وجهه على صورة سيد الأنعام يسأل الرزق للبهائم وهو الثور، لم يزل الملك الذي على صورة الثور على وجهه كالغضاضة منذ عبد العجل من دون الرحمن عز وجل، وملك وجهه على صورة سيد الطير، وهو يسأل الله عز وجل الرزق للطير وهو النسر، وملك على صورة سيد السباع، وهو يسأل الرزق للسباع وهو الأسد. تفسير سورة البقرة آية [256] * (لا إكراه في الدين) * لأحد بعد إسلام العرب إذا أقروا بالجزية، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم
136 كان لا يقبل الجزية إلا من أهل الكتاب، فلما أسلمت العرب طوعا وكرها قبل الخراج، من غير أهل الكتاب، فكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنذر بن ساوى، وأهل هجر، يدعوهم إلى الإسلام، فكتب: ' من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل هجر، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: إن من شهد شهادتنا، وأكل من ذبيحتنا، واستقبل قبلتنا، ودان بديننا، فذلك المسلم الذي له ذمة الله عز وجل، وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أسلمتم فلكم ما أسلمتم عليه، ولكم عشر التمر، ولكم نصف عشر الحب، فمن أبى الإسلام، فعليه الجزية '. فكتب المنذر إلى النبي صلى الله عليه وسلم: إني قرأت كتابك إلى أهل هجر، فمنهم من أسلم، ومنهم من أبى، فأما اليهود والمجوس، فأقروا بالجزية، وكرهوا الإسلام، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم منهم بالجزية. فقال منافقوا أهل المدينة: زعم محمد أنه لم يؤمر أن يأخذ الجزية إلا من أهل الكتاب، فما باله قبل من مجوس أهل هجر، وقد أبى ذلك على آبائنا وإخواننا حتى قاتلهم عليه، فشق على المسلمين قولهم، فذكروه للنبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل: * (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم) * آخر الآية [المائدة: 105]، وأنزل الله عز وجل: * (لا إكراه في الدين) * بعد إسلام العرب. قد تبين الرشد من الغي) *، يقول: قد تبين الضلالة من الهدى، * (فمن يكفر بالطاغوت) *، يعني الشيطان، * (ويؤمن بالله) *، بأنه واحد لا شريك له، * (فقد استمسك بالعروة الوثقى) *، يقول: أخذ الثقة، يعني الإسلام، التي * (لا انفصام لها) *، يقول: لا انقطاع له دون الجنة، * (والله سميع) * (لقولهم) * (عليم) * [آية: 265] به. تفسير سورة البقرة آية [257]. * (والله ولي الذين ءامنوا) *، يعني ولي المؤمنين بالله عز وجل، * (يخرجهم من الظلمات إلى النور) *، يعني من الشرك إلى الإيمان، نظيرها في إبراهيم: * (أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور) * [إبراهيم: 5]؛ لأنه سبق لهم السعادة من الله تعالى في علمه، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم، أخرجهم الله سبحانه من الشرك إلى الإيمان، ثم قال: * (والذين كفروا) *، يعني اليهود، * (أولياؤهم الطاغوت) *، يعني كعب بن
137 الأشرف، * (يخرجونهم)، يعني يدعونهم * (من النور إلى الظلمات) *، نظيرها في إبراهيم قوله سبحانه: * (أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور) * [إبراهيم: 5]، ثم قال: يدعونهم من النور الذي كانوا فيه من إيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث إلى كفر به بعد أن بعث، وهي الظلمة، * (أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) * [آية: 257]، يعني لا يموتون. تفسير سورة البقرة آية [258] * (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه) *، وهو نمروذ بن كنعان بن ريب بن نمروذ ابن كوشى بن نوح، وهو أول من ملك الأرض كلها، وهو الذي بنى الصرح ببابل، * (أن ءاتاه الله) *، يقول: أن أعطاه الله * (الملك) *، وذلك أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين كسر الأصنام سجنه نمروذ، ثم أخرجه ليحرقه بالنار، فقال لإبراهيم، عليه السلام: من ربك * (إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت) *، وإياه أعبد ومنه أسأل الخير، * (قال) * نمروذ * (أنا أحيي وأميت) *، قال له إبراهيم: أرني بيان الذي تقول، فجاء برجلين فقتل أحدهما، واستحيا الآخر، وقال: كان هذا حيا فأمته وأحييت هذا ولو شئت قتلته، * (قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت) * (الجبار) * (الذي كفر) * بتوحيد الله عز وجل، يقول: بهت نمروذ الجبار، فلم يدر ما يرد على إبراهيم. ثم إن الله عز وجل سلط على نمروذ بعوضة، بعدما أنجا الله عز وجل إبراهيم من النار، فعضت شفته، فأهوى إليها، فطارت في منخره، فذهب ليأخذها فدخلت خياشيمه، فذهب يستخرجها، فدخلت دماغه، فعذبه الله عز وجل بها أربعين يوما، ثم مات منها، وكان يضرب رأسه بالمطرقة، فإذا ضرب رأسه سكنت البعوضة، وإذا رفع عنها تحركت، فقال الله سبحانه: وعزتي وجلالي لا تقوم الساعة حتى أتي بها، يعني الشمس من قبل المغرب، فيعلم من يرى ذلك أنى أنا الله قادر على أن أفعل ما شئت، ثم
138 قال سبحانه: * (والله لا يهدي القوم الظالمين) * [آية: 258] إلى الحجة، يعني نمروذ، مثلها في براءة: * (وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين) * [التوبة: 19] إلى الحجة. تفسير سورة البقرة آية [259] * (أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها) *، يعني ساقطة على سقوفها، وذلك أن بخت نصر سبا أهل بابل، وفيهم عزير بن شرحيا، وكان من علماء بني إسرائيل، وأنه ارتحل ذات يوم على حمار أقمر، فمر على قرية تدعى سابور على شاطئ دجلة بين واسط والمدائن، وكان هذا بعد ما رفع عيسى ابن مريم، فربط حماره في ظل شجرة، ثم طاف في القرية، فلم ير فيها ساكنا، وعامة شجرها حامل، فأصاب من الفاكهة والعنب والتين. ثم رجع إلى حماره، فجلس يأكل من الفاكهة، وعصر من العنب، فشرب منه، فجعل فضل الفاكهة في سلة، وفضل العصير في الزق، فلما رأى خراب القرية وهلاك أهلها، * (قال أنى يحي هذه الأرض) *، يعني أهل هذه القرية [(بعد موتها) * بعد هلاكها، لم يشك في البعث، ولكنه أحب أن يريه الله عز وجل كيف يبعث الموتى كما سأل إبراهيم، عليه السلام، ربه عز وجل: * (أرني كيف تحيي الموتى) * [البقرة: 260]. فلما تكلم بذلك عزير، أراد الله عز وجل أن يعلمه كيف يحييها بعد موتها، * (فأماته الله) * عز وجل وأمات حماره * (مائة عام) *، فحيى والفاكهة والعصير موضوع عنده، * (ثم بعثه) * الله عز وجل في آخر النهار بعد مائة عام، لم يتغير طعامه وشرابه، فنودي في السماء * (قال كم لبثت) * يا عزير ميتا، * (قال لبثت يوما) *، فالتفت فرأى الشمس، فقال: * (أو بعض يوم قال) * (له) * (بل لبثت مائة عام) * ميتا، ثم أخبره ليعتبر، فقال سبحانه: * (فانظر إلى طعامك) *، يعني الفاكهة في السلة،
139 * (وشرابك) *، يعني العصير، * (لم يتسنه) *، يقول لم يتغير طعمه بعد مائة عام، نظيرها في سورة محمد صلى الله عليه وسلم: * (من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه) * [محمد: 15]، فقال: سبحان الله، كيف لم يتغير طعمه؟. ونظر إلى حماره، وقد ابيضت عظامه، وبليت وتفرقت أوصاله، فنودي من السماء: أيتها العظام البالية اجتمعي، فإن الله عز وجل منزل عليك روحا، فسعت العظام بعضها، إلى بعض، الذراع إلى العضد، والعضد إلى المنكبين والكتف، وسعت الساق إلى الركبتين، والركبتان إلى الفخذين، والفخذان إلى الوركين، والتصق الوركان بالظهر، ثم وقع الرأس على الجسد، وعزير ينظر، ثم ألقى على العظام العروق والعصب، ثم رد عليه الشعر، ثم نفخ في منخره الروح، فقام الحمار ينهق عند رأسه، فاعلم كيف يبعث أهل هذه القبور بعد هلاكهم وبعث حماره بعد مائة عام كما لم يتغير طعامه وشرابه، وبعث بعد طوال الدهر ليعتبر بذلك، فذلك قوله سبحانه: * (فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه) *، يعني لم يتغير طعمه، كقوله في سورة محمد صلى الله عليه وسلم: * (من ماء غير آسن) *. * (وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس) *، يعني عبرة؛ لأنه بعثه شابا بعد مائة سنة، * (وانظر إلى العظام) *، يعني عظام الحمار، * (كيف ننشزها) *، يعني نحييها، نظيرها: * (أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون) * [الأنبياء: 21]، يعني يبعثون الموتى، * (ثم نكسوها لحما فلما تبين له) *، يعني لعزير كيف يحيي الله الموتى، خر لله ساجدا، * (قال أعلم أن الله على كل شيء قدير) * [آية: 259]، يعني من البعث وغيره، فرجع عزير إلى أهله، وقد هلكوا، وبيعت داره وبنيت فردت عليه، وانتسب عزير إلى أولاده، فعرفوه وعرفهم، وأعطى عزير العلم من بعد ما بعث بعد مائة عام. تفسير سورة البقرة آية [260] * (وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى) *، وذلك أنه رأى جيفه حمار على شاطئ البحر تتوزعه دواب البر والبحر والطير، فنظر إليها ساعة، ثم قال: * (رب أرني كيف تحي الموتى) * * (قال أولم تؤمن) * يا إبراهيم، يعني قال: أو لم تصدق بأني
140 أحيي الموتى يا إبراهيم * (قال بلى) * صدقت * (ولكن ليطمئن قلبي) * ليسكن قلبي بأنك أريتني الذي أردت * (قال فخذ أربعة من الطير) * قال: خذ ديكا وبطة وغرابا وحمامة فاذبحهن يقول: قطعهن، ثم خالف بين مفاصلهن وأجنحتهن * (فصرهن إليك) * بلغة النبط صرهن قطعهن، واخلط ريشهن ودماءهن، ثم خالف بين الأعضاء والأجنحة واجعل مقدم الطير مؤخر طير آخر، ثم فرقهن على أربعة أجبال * (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم أدعهن يأتينك سعيا) * فيها تقدم فدعاهن فتواصلت الأعضاء والأجنحة، فأجابته جميعا ليس معهن رؤوسهن، ثم وضع على أجسادهن، ففقت البطة، وصوت الديك، ونعق الغراب، وقرقر الحمام يقول: خذهن فصرهن وادعهن يسعين على أرجلهن عند غروب الشمس. * (واعلم أن الله عزيز حكيم) * [آية: 260]، فقال: عند ذلك أعلم أن الله عزيز في ملكه حكيم، يعني حكم البعث يقول: كما بعث هذه الأطيار الأربعة من هذه الجبال الأربعة، فكذلك يبعث الله عز وجل الناس من أرباع الأرض كلها ونواحيها، وكان هذا بالشام، وكان أمر الطير قبل أن يكون له ولد، وقبل أن تنزل عليه الصحف، وهو ابن خمس وسبعين سنة. تفسير سورة البقرة من آية [261 - 262] * (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله) *، يعني في طاعة الله عز وجل،
141 * (كمثل حبة أنبتت) * يقول: أخرجت * (سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع) * لتلك الأضعاف * (عليم) * [آية: 261]. بما تنفقون. * (الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * [آية: 262] عند الموت نزلت في عثمان بن عفان، رضي الله عنه، في نفقته في غزاة تبوك وفي شرائه رومه ركية بالمدينة، وتصدقه بها على المسلمين، وفي عبد الرحمن بن عوف الزهري، رضي الله عنه، حين تصدق بأربعة آلاف درهم مثقال كل درهم وكان نصف ماله. تفسير سورة البقرة آية [263] * (قول معروف) *، يعني قول حسن، يعني دعاء الرجل لأخيه المسلم إذا جاء وهو فقير يسأله فلا يعطيه شيئا يدعو بالخير له، * (ومغفرة) *، وتجاوز عنه، * (خير من صدقة) * يعطيه إياها * (يتبعها أذى) *، يعني المن، * (والله غني) * عما عندكم من الصدقة، * (حليم) * [أية: 263] حين لا يعجل بالعقوبة على من يمن بالصدقة ويؤذي فيها المعطي. تفسير سورة البقرة آية [264] * (يا أيها الذين ءامنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) * يقول: يمن بها فإن ذلك أذى لصاحبها وكل صدقة يمن بها صاحبها على المعطى، فإن المن يبطلها، فضرب الله عز وجل، مثل لذلك: * (كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله) * يقول: ولا يصدق بأنه واحد لا شريك له. * (واليوم الآخر) * يقول: ولا يصدق بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال أنه كائن، فمثله، يعني مثل الذي يمن بصدقته، كمثل مشرك أنفق ماله في غير إيمان، فأبطل شركه
142 الصدقة كما أبطل المن والأذى صدقة المؤمن، ثم أخبر عمن من بها على صاحبه، فلم يعط عليها أجرا ولا ثوابا، ثم ضرب الله عز وجل لهما مثلا فقال: في مثله: * (فمثله كمثل صفوان) *، يعني الصفا، * (عليه تراب فأصابه وابل) *، يعني المطر الشديد، * (فتركه صلدا) *، يقول: ترك المطر الصفا صلدا نقيا أجرد، ليس عليه تراب، فكذلك المشرك الذي ينفق في غير إيمان، وينفق رئاء الناس، وكذلك صدقة المؤمن إذا من بها. * (وذلك قوله سبحانه: * (لا يقدرون على شيء مما كسبوا) *، يقول: لا يقدرون على ثواب شيء مما أنفقوا يوم القيامة وذلك قوله عز وجل: * (مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على) * (ثواب) * (شيء) * [إبراهيم: 18] يوم القيامة، كما لم يبق على الصفا شيء من التراب حين أصابه المطر الشديد، * (والله لا يهدي القوم الكافرين) * [آية: 264]. تفسير سورة البقرة آية [265] ثم ذكر نفقة المؤمن الذي يريد بنفقته وجه الله عز وجل، ولا يمن بها، فقال سبحانه: * (ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم) *، يعني وتصديقا من قلوبهم، فهذا مثل نفقة المؤمن التي يريد بها وجه الله عز وجل، ولا يمن بها * (كمثل جنة بربوة) *، يعني بستان في مكان مرتفع مستو، تجري من تحتها الأنهار * (أصابها) *، يعني أصاب الجنة * (وابل) *، يعني المطر الكثير الشديد، * (فآتت أكلها) *، يقول: أضعفت ثمرتها في الحمل * (ضعفين) *، فكذلك الذي ينفق ماله لله عز وجل من غير أن يضاعف له نفقته إن كثرت أو قلت، كما أن المطر إذا اشتد، أو قل أضعف ثمرة الجنة حين أصابها وابل، * (فإن لم يصبها وابل فطل) *، أي أصابها عطش من المطر، وهو الرذاذ مثل الندى، * (والله بما تعملون) *، يعني بما تنفقون * (بصير) * [آية: 265].
143 تفسير سورة البقرة آية [266] * (أيود أحدكم أن تكون له جنة) *، هذا مثل ضربه عز وجل لعمل الكافر، جنة * (من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء) *، يعني عجزة لا حيلة لهم، * (فأصابها إعصار فيه نار) *، يعني ريح فيها نار، يعني فيها سموم حارة، * (فاحترقت) *، يقول: مثل الكافر كمثل شيخ كبير له بستان فيه من كل الثمرات، وله ذرية أولاد صغار، يعني عجزة لا حيلة لهم، فمعيشته ومعيشة ذريته من بستانه، فأرسل الله عز وجل على بستانه السموم الحارة، فأحرقت بستانه، فلم يكن له قوة من كبره أن يدفع عن جنته، ولم تستطع ذريته الصغار أن يدفعوا عن جنتهم التي كانت معيشتهم منها حين احترقت، ولم يكن للشيخ قوة أن يغرس مثل جنته، ولم يكن عند ذريته خير، فيعودون به على أبيهم عندما كان أحوج إلى خير يصيبه، ولا يجد خيرا، ولا يدفع عن نفسه عذابا، كما لم يدفع الشيخ الكبير، ولا ذريته عن جنتهم شيئا حين احترقت، ولا يرد الكافر إلى الدنيا فيعتب، كما لا يرجع الشيخ الكبير شابا، فيغرس جنة مثل جنته، ولم يقدم لنفسه خيرا، فيعود عليه في الآخرة، وهو أحوج ما يكون إليه كما لم يكن عند والده شيئا فيعودون به على أبيهم، ويحرم الخير في الآخرة عند شدة حاجته إليه، كما حرم جنته عندما كان أحوج ما يكون إليها عند كبر سنة وضعف ذريته، * (كذلك)، يعني هكذا * (يبين الله لكم الآيات) *، يعني يبين الله أمره، * (لعلكم) *، يقول: لكي * (تتفكرون) * [آية: 266] في أمثال الله عز وجل فتعتبروا. تفسير سورة البقرة آية [267] * (يا أيها الذين ءامنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم) *، يقول: أنفقوا من الحلال مما رزقناكم من الأموال الفضة والذهب وغيره، * (ومما أخرجنا لكم من الأرض) *، وأنفقوا من طيبات الثمار والنبات، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الناس بالصدقة قبل أن تنزل آية
144 الصدقات، فجاء رجل بعزق من تمر عامته حشف، فوضعه في المسجد مع التمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ' من جاء بهذا؟ '، فقالوا: لا ندري، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلق العزق، فمن نظر إليه قال: بئس ما صنع صاحب هذا، فقال الله عز وجل: * (ولا تيمموا الخبيث) *، يقول: ولا تعمدوا إلى الحشف من التمر الردئ من طعامكم للصدقات، * (منه تنفقون ولستم بآخذيه) *، يعني الردئ بسعر الطيب لأنفسكم، يقول: لو كان لبعضكم على بعض حق لم يأخذ دون حقه، ثم استثنى، فقال: * (إلا أن تغمضوا فيه) *، يقول: إلا أن يهضم بعضكم على بعض حقه، فيأخذ دون حقه، وهو يعلم أنه ردئ، فيأخذه على علم، * (واعلموا أن الله غني) * عما عندكم من الأموال، * (حميد) * [آية: 267] عند خلقه في ملكه وسلطانه. تفسير سورة البقرة آية [268] ثم قال سبحانه: * (الشيطان يعدكم الفقر) *، عند الصدقة، ويأمركم أن تمسكوا صدقتكم، فلا تنفقوا فلعلكم تفتقرون، * (ويأمركم بالفحشاء) *، يعني المعاصي، يعني بالإمساك عن الصدقة، * (والله يعدكم) * عند الصدقة * (مغفرة منه) * لذنوبكم ويعدكم * (وفضلا) *، يعني الخلف من صدقتكم، فيجعل لكم الخلف بالصدقة في الدنيا ويغفر لكم الذنوب في الآخرة، * (والله واسع) * لذلك الفضل * (عليم) * [آية: 268] بما تنفقون، وذلك قوله سبحانه في التغابن: * (إن تقرضوا الله قرضا حسنا) * [التغابن: 17]، يعني به الصدقة محتسبا طيبة بها نفسه، يضاعفه لكم في الدنيا، ويغفر لكم بالصدقة في الآخرة. تفسير سورة البقرة من آية [269 - 270]
145 * (يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة) *، يقول: ومن يعط الحكمة، وهي علم القرآن والفقه فيه، * (فقد أوتي خيرا كثيرا) *، يقول: فقد أعطى خيرا كثيرا، * (وما يذكر) * فيما يسمع، * (إلا أولوا الألباب) * [آية: 269]، يعني أهل اللب والعقل، ثم قال: * (وما أنفقتم من نفقة) * من خير من أموالكم في الصدقة، * (أو نذرتم من نذر) * في حق، * (فإن الله يعلمه) *، يقول: فإن الله يحصيه، * (وما للظالمين من أنصار) * [آية: 270]، يعني للمشركين من مانع من النار. تفسير سورة البقرة آية [271] قوله سبحانه: * (إن تبدوا الصدقات) *، يقول: إن تعلنوها، * (فنعما هي وإن تخفوها) *، يعني تسروها، * (وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم) * من العلانية، وأعظم أجرا يضاعف سبعين ضعفا، * (ويكفر عنكم) * بصدقات السر والعلانية، * (من سيئاتكم) * من ذنوبكم، يعني ذنوبكم أجمع، ومن هاهنا صلة، وكل مقبول السر والعلانية، * (ويكفر عنكم من سيئاتكم) * * (والله بما تعملون خبير) * [آية: 271]. تفسير سورة البقرة آية [272] * (ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء) *، نزلت في المشركين؛ لأنه يأمر بالصدقة عليهم من غير زكاة، نزلت في أسماء بنت أبي بكر، رضي الله عنه، سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن صلة جدها أبي قحافة، وعن صلة امرأته، وهما كافران، فكأنه شق عليه صلتهما، فنزلت: * (ليس عليك هداهم) *، يعني أبا قحافة، * (ولكن الله يهدي من يشاء) * إلى دينه الإسلام، * (وما تنفقوا من خير) *، يعني المال، * (فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير) * يعني
146 المال، * (يوف إليكم) *، يعني توفر لكم أعمالكم، * (وأنتم لا تظلمون) * [آية: 272] فيها. تفسير سورة البقرة [آية 273] ثم بين على من ينفق، فقال: النفقة * (للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله) *، يقول: حبسوا، نظيرها: * (فإن أحصرتم) * [البقرة: 196]، يعني حبستم، وأيضا: * (وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا) * [الإسراء: 8]، يعني محبسا، * (الذين أحصروا) * حبسوا أنفسهم بالمدينة في طاعة الله عز وجل، فهم أصحاب الصفة. قال: حدثنا عبيد الله، عن أبيه، عن هذيل بن حبيب، عن مقاتل بن سليمان، منهم ابن مسعود، وأبو هريرة، والموالي أربعمائة، رجل لا أموال لهم بالمدينة، فإذا كان الليل آووا إلى صفة المسجد، فأمر الله عز وجل بالنفقة عليهم، * (لا يستطيعون ضربا في الأرض) *، يعني سيرا، كقوله سبحانه: * (وإذا ضربتم في الأرض) * [النساء: 101]، يعني إذا سرتم في الأرض، يعني التجارة، * (يحسبهم الجاهل) * بأمرهم وشأنهم * (أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم) *، يعني بسيما الفقر عليهم لتركم المسألة، * (لا يسئلون الناس إلحافا) * فيلحفون في المسألة، * (وما تنفقوا من خير) *، يعني من مال، كقوله عز وجل: * (إن ترك خيرا) * [البقرة: 180]، يعني مالا للفقراء أصحاب الصفة، * (فإن الله به عليم) * [آية: 273]، يعني بما أنفقتم عليم. تفسير سورة البقرة آية [274] * (الذين ينفقون أموالهم) * في الصدقة * (باليل والنهار سرا وعلانية) *، نزلت في علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، لم يملك غير أربعة دراهم، فتصدق بدرهم ليلا، وبدرهم نهارا، وبدرهم سرا، وبدرهم علانية، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ' ما حملك على ذلك؟ '، قال: حملني أن أستوجب من الله الذي وعدني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ' ألأن لك ذلك '، قال: فأنزل الله عز وجل فيه: * (الذين ينفقون أموالهم باليل والنهار سرا
147 وعلانية) * * (فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * [آية: 274] عند الموت. تفسير سورة البقرة آية [275] * (الذين يأكلون الربا) * استحلالا، * (لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) * في الدنيا، وذلك علامة أكل الربا، * (ذلك) * الذي نزل بهم يوم القيامة، * (بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا) *، فأكذبهم الله عز وجل، فقال: * (وأحل الله البيع وحرم الربا) *، فكان الرجل إذا حل ماله فطلبه، فيقول المطلوب: زدني في الأجل، وأزيدك على مالك، فيفعلان ذلك، فإذا قيل لهم: إن هذا ربا، قالوا: سواء زدت في أول بيع أو في آخره عند محل المال، فهما سواء، فذلك قوله سبحانه: * (إنما البيع مثل الربا) *. فقال الله عز وجل: * (وأحل الله البيع وحرم الربا) * () * (فمن جاءه موعظة من ربه) *، يعني البيان في القراءة، * (فانتهى) * عن الربا، * (فله ما سلف) *، يقول: ما أكل من الربا قبل التحريم، * (وأمره إلى الله) * بعد التحريم وبعد تركه، إن شاء عصمه من الربا، وإن شاء لم يعصمه، قال: * (ومن عاد) * فأكله استحلالا لقولهم: * (إنما البيع مثل الربا) *، يخوف أكله الربا في الدنيا أن يستحلوا أكله، فقال: * (فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) * [آية: 275] لا يموتون. تفسير سورة البقرة آية [276] ثم قال سبحانه: * (يمحق الله الربا) *، فيضمحل وينقص، * (ويربي الصدقات) *، يعني ويضاعف الصدقات، * (والله لا يحب كل كفار أثيم) * [آية: 276] بربه عز وجل. تفسير سورة البقرة آية [277] * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة) * المكتوبة في مواقيتها،
148 * (وآتوا الزكاة) *، يعني وأعطوا الزكاة من أموالهم، * (لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * [آية: 277]. تفسير سورة البقرة آية [278 - 281] * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله) * ولا تعصوه، * (وذروا) *، يعني واتقوا * (ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين) * [آية: 278] نزلت في أربعة أخوة من ثقيف: مسعود، وحبيب، وربيعة، وعبد ياليل، وهم بنو عمرو بن عمير بن عوف الثقفي، كانوا يداينون بني المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وكانوا يربون لثقيف، فلما أظهر الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم على الطائف، اشترطت ثقيف أن كل ربا لهم على الناس فهو لهم، وكل ربا للناس عليهم فهو موضوع عنهم، فطلبوا رباهم إلى بني المغيرة، فاختصموا إلى عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية، كان النبي صلى الله عليه وسلم استعمله على مكة، وقال له: ' أستعملك على أهل الله '. وقالت بنو المغيرة: أجعلنا أشقى الناس بالربا وقد وضعه عن الناس؟ فقالت ثقيف: إنا صالحنا النبي صلى الله عليه وسلم أن لنا ربانا، فكتب عتاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة بقصة الفريقين، فأنزل الله تبارك وتعالى بالمدينة، * (يا أيها الذين آمنوا) *، يعني ثقيفا، * (اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا) * الآية؛ لأنه لم يبق غير رباهم، * (إن كنتم مؤمنين) *، فأقروا بتحريمه، * (فإن لم تفعلوا) * وتقروا بتحريمه * (فأذنوا) *، يعني فاستيقنوا * (بحرب من الله ورسوله) *، يعني الكفر، * (وإن تبتم) * من استحلال الربا وأقررتم بتحريمه، * (فلكم رؤوس أموالكم) * التي أسلفتم لا تزدادوا، * (لا تظلمون) * أحدا إذا لم تزدادوا على أموالكم، * (ولا تظلمون) * [آية: 279] فتنقصون من رؤوس أموالكم. فبعث النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية إلى عتاب بن أسيد بمكة، فأرسل عتاب إلى بني عمرو بن عمير، فقرأ عليهم الآية، فقالوا: بل نتوب إلى الله عز وجل، ونذر ما بقي من الربا، فإنه لا يدان لنا بحرب الله ورسوله، فطلبوا رؤوس أموالهم إلى بني المغيرة، فاشتكوا العسرة،
149 فقال الله عز وجل: * (وإن كان) المطلوب * (ذو عسرة) * من القوم، يعني بني المغيرة * (فنظرة إلى ميسرة) *، يقول: فأجله إلى غناه، كقوله سبحانه: * (أنظرني إلى يوم يبعثون) * [الأعراف: 14]، يقول: أجلني، * (وأن تصدقوا) * به كله على بني المغيرة وهم معسرون، فلا تأخذونه، فهو * (خير لكم) * من أخذه، * (إن كنتم تعلمون) * [آية: 280]، * (واتقوا يوما) * يخوفهم * (ترجعون فيه إلى الله ثم توفى)، يعني توفى * (كل نفس) * بر وفاجر ثواب * (ما كسبت) * من خير وشر، * (وهم لا يظلمون) * [آية: 281] في أعمالهم، وهذه آخر آية نزلت من القرآن، ثم توفي النبي صلى الله عليه وسلم بعدها بتسع ليال. تفسير سورة البقرة آية [282] * (يا أيها الذين ءامنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) *، يعني اكتبوا الدين والأجل، * (وليكتب) * الكاتب بين البائع والمشتري، * (بينكم كاتب بالعدل) * يعدل بينهما في كتابه، فلا يزداد على المطلوب، ولا ينقص من حق الطالب، * (ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله) * الكتابة، وذلك أن الكتاب كانوا قليلا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: * (فليكتب) * الكاتب، * (وليملل) * على الكاتب * (الذي عليه الحق) *، يعني المطلوب، ثم خوف المطلوب، فقال عز وجل: * (وليتق
150 الله ربه ولا يبخس منه شيئا) *، يعني ولا ينقص المطلوب من الحق شيئا، كقوله عز وجل: * (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) * [الأعراف: 85]. * (فإن كان الذي عليه الحق سفيها) *، يعني جاهلا بالإملاء، * (أو ضعيقا) *، يعني أو عاجزا أو به حمق، * (أو لا يستطيع أن يمل هو) *، لا يعقل الإملاء لعيه، أو لخرسه، أو لسفهه، ثم رجع إلى الذي له الحق، فقال سبحانه: * (فليملل وليه) *، يعني ولي الحق، فليملل هو * (بالعدل) *، يعني بالحق، ولا يزداد شيئا ولا ينقص، كما قال للمطلوب قبل ذلك، وأمر كليهما بالعدل، ثم قال سبحانه: * (واستشهدوا) * على حقكم * (شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء) *، يقول: ولا يشهد الرجل على حقه إلا مرضيا إن كان الشاهد رجلا أو امرأة. ثم قال: * (أن تضل) * المرأة، يعني أن تنسى * (إحداهما) * (الشهادة) * (فتذكر إحداهما) * (الشهادة) * (الأخرى) *، يقول: تذكرها المرأة الأخرى التي حفظت شهادتهما، ثم قال سبحانه: * (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) *، يقول: إذا ما دعى الرجل ليستشهد على أخيه، فلا يأب إن كان فارغا، ثم قال: * (ولا تسئموا) *، يقول: ولا تملوا، وكل شيء في القرآن تسأموا، يعني تملوا، * (أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا) *، يعني قليل الحق وكثيره، * (إلى أجله) *؛ لأن الكتاب أحصى للأجل وأحفظ للمال، * (ذلكم) *، يعني الكتاب، * (أقسط) *، يعني أعدل * (عند الله وأقوم) *، يعني أصوب * (للشهادة وأدنى ألا ترتابوا) *، يعني وأجدر ألا تشكوا، نظيرها: * (ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة) * [المائدة: 108]، أي أجدر، ونظيرها في الأحزاب: * (ذلك أدنى) *، يعني أجدر * (أن تقر أعينهن) * [الأحزاب: 51]، في الحق والأجل والشهادة إذا كان مكتوبا. ثم رخص في الاستثناء، فقال: * (إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم) *، وليس فيها أجل، * (فليس عليكم جناح) *، يعني حرج، * (ألا تكتبوها) *، يعني التجارة الحاضرة، إذا كانت يدا بيد على كل حال، * (وأشهدوا) *، على حقكم * (إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد) *، يقول: لا يعمد أحدكم إلى الكاتب والشاهد فيدعوهما إلى الكتابة والشهادة ولهما حاجة، فيقول: اكتب لي، فإن الله أمرك أن تكتب
151 لي، فيضاره بذلك، وهو يجد غيره، ويقول للشاهد وهو يجد غيره: اشهد لي على حقي، فإن الله قد أمرك أن تشهد على حقي، وهو يجد غيره من يشهد له على حقه، فيضاره بذلك، فأمر الله عز وجل أن يتركا لحاجتهما ويلتمس غيرهما، * (وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم) *، يقول: وإن تضاروا الكاتب والشاهد وما نهيتم عنه، فإنه إثم بكم، ثم خوفهم، فقال سبحانه: * (واتقوا الله) * ولا تعصوه فيهما، * (ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم) * [آية: 282] من أعمالكم عليم. تفسير سورة البقرة آية [283] ثم قال: * (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة) *، يقول: إذا لم يكن الكاتب والصحيفة حاضرين، فليرتهن الذي عليه الحق من المطلوب، * (فإن أمن بعضكم بعضا) * في السفر، فإن كان الذي عليه الحق أمينا عند صاحب الحق، فلم يرتهن منه لثقته به وحسن ظنه، * (فليؤد) * ذلك * (الذي اؤتمن أمانته) *، يقول: ليرد على صاحب الحق حقه حين ائتمنه ولم يرتهن منه، ثم خوفه الله عز وجل، فقال: * (وليتق الله ربه) *، يعني الذي عليه الحق. ثم رجع إلى الشهود، فقال: * (ولا تكتموا الشهادة) * عند الحاكم، يقول: من أشهد على حق، فليشهد بها على وجهها كما كانت عند الحاكم، فلا تكتموا الشهادة، قال: * (ومن يكتمها) * ولا يشهد بها عند الحاكم، * (فإنه ءاثم قلبه والله بما تعملون) * من كتمان الشهادة وإقامتها * (عليم) * [آية: 283]. تفسير سورة البقرة آية [284] * (لله ما في السماوات وما في الأرض) * من الخلق عبيدة وفي ملكه، يقضي فيهم ما يريد، * (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه) *، يقول: إن تلنوا بألسنتكم ما في قلوبكم من ولاية الكفار والنصيحة أو تسروه، * (يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء
152 ويعذب من يشاء والله على كل شيء) * من العذاب والمغفرة * (قدير) * [آية: 284]. فلما نزلت هذه الآية، قال المسلمون: يا رسول الله، إنا نحدث أنفسنا بالشرك والمعصية، أفيحاسبنا الله بها ولا نعملها؟ فأنزل الله عز وجل في قولهم في التقديم: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) *، يقول: لا يكلفها من العمل إلا ما أطاقت، * (لها ما كسبت) * من الخير وما عملته وتكلمت به، * (وعليها ما اكتسبت) من الإثم، فنسخت هذه الآية قوله سبحانه: * (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) *، قال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: ' إن الله عز وجل تجاوز عن أمتي ما حدثوا به أنفسهم ما لم يعملوه أو يتكلموا به '. تفسير سورة البقرة آية [285] قوله سبحانه: * (ءامن الرسول بما أنزل إليه من ربه) *، يقول: صدق محمد بما أنزل إليه من ربه من القرآن، ثم قال: * (والمؤمنون كل ءامن بالله) *، يقول: كل صدق بالله بأنه واحد لا شريك له، * (و) * صدق ب * (وملائكته وكتبه ورسله) *، يقول: لا يكفر بأحد من رسله، فكل هذه الرسل صدق بهم المؤمنون، * (لا نفرق بين أحد من رسله) * كفعل أهل الكتاب، آمنوا ببعض الكتب وببعض الرسل، فذلك التفريق، فأما اليهود، فآمنوا بموسى وبالتوراة، وكفروا بالإنجيل والقرآن، وأما النصارى، فآمنوا بالتوراة والإنجيل وبعيسى صلى الله عليه وسلم، وكفروا بالإنجيل والقرآن، وأما النصارى، فآمنوا بالتوراة والإنجيل وبعيسى صلى الله عليه وسلم، وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن، * (وقالوا) *، فقال المؤمنون بعد ذلك: * (سمعنا) * قول ربنا في القرآن، * (وأطعنا) * أمره، ثم قال لهم بعدما أقروا بالنبي صلى الله عليه وسلم والكتب: أن * (غفرانك ربنا) *، يقول: قولوا: وأعطنا مغفرة منك يا ربنا، * (وإليك المصير) * [آية: 285]، يقول: المرجع إليك في الآخرة. تفسير سورة البقرة آية [286]
153 ثم قال سبحانه: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) *، يقول: لا يكلفها من العمل إلا ما أطاقت، * (لها ما كسبت) * من الخير وما عملت أو تظلمت به، * (وعليها ما اكتسبت) * من الإثم، ثم علم جبريل النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: * (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) *، يقول: إن جهلنا عن شيء أو أخطأنا، فتركنا أمرك، قال الله عز وجل: ذلك لك، ثم قال: * (ربنا ولا تحمل علينا إصرا) *، يعني عهدا، * (كما حملته على الذين من قبلنا) * ما كان حرم عليهم من لحوم الإبل، وشحوم الغنم، ولحوم كل ذي ظفر، يقول: لا تفعل ذلك بأمتي بذنوبها كما فعلته ببني إسرائيل، فجعلتهم قردة وخنازير، قال الله تعالى: ذلك لك. ثم قال: * (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا) *، يقول: واعف عنا من ذلك، * (واغفر لنا) *، يقول: وتجاوز عنا، عن ذنوبنا من ذلك كله واغفر، * (وارحمنا أنت مولانا) *، يقول: أنت ولينا، * (فانصرنا على القوم الكافرين) * [آية: 286]، يعني كفار مكة وغيرها إلى يوم القيامة، قال الله تعالى: ذلك لك، فاستجاب الله عز وجل له، ذلك فيما سأل وشفعه في أمته، وتجاوز لها عن الخطايا والنسيان وما استكرهوا عليه، فلما نزلت قرأهن النبي صلى الله عليه وسلم على أمته، وأعطاه الله عز وجل هذه الخصال كلها في الآخرة، ولم يعطها أحدا من الأمم الخالية. قال: حدثنا عبيد الله بن ثابت، قال: حدثني الهذيل، عن مقاتل، قال: بلغني أن الله عز وجل كتب كتابا قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام، فهو عنده على العرش، فأنزل منه لآيتين ختم بهما سورة البقرة: * (آمن الرسول) * إلى آخرها، فمن قرأها في بيته لم يدخله الشيطان ثلاثة أيام ولياليهن. قال: حدثنا عبيد الله، قال: حدثني أبي، عن الهذيل أبي صالح، عن مقاتل بن سليمان في قوله: * (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له) [البقرة: 245]، قال: فقال أبو الدحداح: يا رسول الله، إن تصدقت بصدقة، أفلى مثلها في الجنة؟ قال: ' نعم '، قال: والصبية معي؟ قال: ' نعم '، قال: وأم الدحداح معي؟ قال: ' نعم '، قال: وكان له حديقتان، إحداهما تسمى الجنة، والأخرى الجنينة، وكانت الجنينة أفضل من
154 الجنة، قال: يا رسول الله، أشهد بأني قد تصدقت بها على الفقراء، أو بعتها من الله ورسوله، فمن يقبضها؟ قال: وجاء إلى باب الحديقة، فتحرج أن يدخلها، إذ جعلها لله ورسوله، فصاح: * يا أم الدحداح هداك الهادي * إلى سبيل القصد والرشاد * * بيني من الحائط الذي بالوادي * فقد مضى قرضا إلى التناد * * أقرضته الله على اعتماد * طوعا بلا من ولا ارتداد * * إلا رجاء الضعف في الميعاد * فودعي الحائط وداع العاد * * واستيقني وفقت للرشاد * فارتحلي بالفضل والأولاد * * إن التقى والبر خير زاد * قدمه المرء إلى المعاد * فأجابته: ربح بيعك، والله لولا شرطك ما كان لك منه إلا مالك، وأنشأت تقول: * مثلك أحيا ما لديه ونصح * وأشهر الحق إذا لحق وضح * * قد منح الله عيالي ما صلح * بالعجوة السوداء والزهر البلح * * والله أولى بالذي كان منح * مع واجب الحق ومع ما قد سرح * * والعبد يسعى وله ما قد كدح * طول الليالي وعليه ما اجترح * قال: ثم خرجت وجعلت تنفض ما في أكمام الصبيان، وتخرج ما في أفواههم، ثم خرجوا وسلموا الحديقة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ' كم نخلة لأبي الدحداح مدلا عذوقها في الجنة، لو اجتمع على عذق منها أهل منى أن يقلوه ما أقلوه '. * *
155 سورة آل عمران مدنية كلها، وهي مائتا آية باتفاق بسم الله الرحمن الرحيم تفسير سورة آل عمران آية من [1 - 3] قال: حدثنا عبيد الله، حدثني أبي، عن الهذيل، عن مقاتل، أنه اجتمعت نصارى نجران، فمنهم السيد والعاقب، فقالوا: نشهد أن عيسى هو الله، فأنزل الله عز وجل تكذيبا لقولهم: * (ألم) * [آية: 1]، يخبره أنه * (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) * [آية: 2]، يعني الحي الذي لا يموت، * (القيوم) *، يعني القائم على كل نفس بما كسبت، * (نزل عليك الكتاب) * يا محمد * (بالحق) *، لم ينزله باطلا، يعني القرآن، * (مصدقا لما بين يديه) * من الكتاب، يقول: محمد، عليه السلام، مصدق للكتب التي كانت قبله، * (وأنزل التوراة) * على موسى، * (والإنجيل) * [آية: 3] على عيسى. [آية 4] * (من قبل) * هذا القرآن، ثم قال: * (التوراة والإنجيل) * هما * (هدى للناس) *، يعني لبنى إسرائيل من الضلالة.
156 قال سبحانه: * (وأنزل الفرقان) *، يعني القرآن بعد التوراة والإنجيل، والفرقان يعني به المخرج في الدين من الشبهة والضلالة، فيه بيان كل شيء يكون إلى يوم القيامة، نظيرها في الأنبياء: * (ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان) * [الأنبياء: 48]، يعني المخرج من الشبهات، وفي البقرة: * (وبينات من الهدى والفرقان) * [البقرة: 185]، ثم قال سبحانه: * (إن الذين كفروا بآيات الله) *، يعني القرآن، وهم اليهود كفروا بالقرآن، منهم: حيي، وجدي، وأبو ياسر بنو أخطب، وكعب بن الأشرف، وكعب بن أسيد، وزيد بن التابوه وغيرهم، * (لهم عذاب) * في الآخرة * (شديد والله عزيز ذو انتقام) * [آية: 4]، يعني عزيز في ملكه، منيع شديد الانتقام من أهل مكة، هذا وعيد لمن خالف أمره. تفسير سورة آل عمران من آية [5 - 6] * (أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء) * [آية: 5]، يعني شئ من أهل السماء، ولا من أهل الأرض، كل ذلك عنده، * (هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء) *، نزلت في عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم، خلقه من غير أب، ذكرا وأنثى، سويا وغير سوى، * (لا إله إلا هو العزيز) * في ملكه، * (الحكيم) * [آية: 6] في أمره، نزلت هذه الآية في قولهم، وما قالوا من البهتان والزور لعيسى صلى الله عليه وسلم. تفسير سورة آل عمران [آية 7] ثم قال سبحانه: * (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات) *، يعمل بهن، وهن الآيات التي في الأنعام قوله سبحانه: * (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا) * إلى ثلاث آيات آخرهن: * (لعلكم تتقون) * [الأنعام: 151 - 153]، يقول: * (هن أم الكتاب) *، يعني أصل الكتاب؛ لأنهن في اللوح المحفوظ مكتوبات، وهن محرمات على الأمم كلها في كتابهم، وإنما تسمين أم الكتاب؛ لأنهن مكتوبات في جميع الكتب التي أنزلها الله تبارك وتعالى على جميع الأنبياء، وليس من أهل دين إلا وهو يوصي بهن.
157 ثم قال عز وجل: * (وأخر متشابهات) *، * (ألم) * * (المص) * * (المر) * * (الر) *، شبه على اليهود كم تملك هذه الأمة من السنين، والمتشابهات هؤلاء الكلمات الأربع، * (فأما الذين في قلوبهم زيغ) *، يعني ميل عن الهدى، وهو الشك، فهم اليهود، * (فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة) *، يعني ابتغاء الكفر، * (وابتغاء تأويله) *، يعني منتهى ما يكون وكم يكون، يريد بذلك الملك، يقول الله عز وجل: * (وما يعلم تأويله إلا الله) *، كم يملكون من السنين، يعني أمة محمد، يملكون إلى يوم القيامة، إلا أياما يبتليهم الله عز وجل بالدجال. ثم استأنف، فقال: * (والراسخون في العلم) *، يعني المتدارسون علم التوراة، فهم عبد الله بن سلام وأصحابه من مؤمني أهل التوراة، * (يقولون ءامنا به كل من عند ربنا) *، يعني قليله وكثيره من عند ربنا، * (وما يذكرإلا أولوا الألباب) * [آية: 7]، فما يسمع إلا أولو الألباب، يعني من كان له لب وعقل، يعني ابن سلام وأصحابه، فيعلمون أن كل شيء من هذا وغيره من عند الله. تفسير سورة آل عمران من [آية 8 - 9] قال ابن سلام وأصحابه: * (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا) *، لا تمل قلوبنا، يعني لا تحول قلوبنا عن الهدى بعدما هديتنا كما أزغت اليهود عن الهدى، * (وهب لنا من لدنك رحمة) *، يعني من عندك رحمة، * (إنك أنت الوهاب) * [آية: 8] للرحمة، ثم قال ابن سلام وأصحابه: * (ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه) *، يعني ليوم القيامة، * (إن الله لا يخلف الميعاد) * [آية: 9] في البعث بأنك تجمع الناس في الآخرة. تفسير سورة آل عمران [آية 10] * (إن الذين كفروا) *، يعني اليهود خاصة، نزلت في كعب بن الأشرف. * (لن تغني عنهم) *، يعني لا * (أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار) * [آية: 10]، يعني اليهود.
158 تفسير سورة آل عمران آية [11] * (كدأب ءآل فرعون) *، يعني كأشباه آل فرعون في التكذيب، * (والذين من قبلهم) * من الأمم الخالية قبل آل فرعون والأمم الخالية قبل آل فرعون: قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم إبراهيم، وقوم لوط، وقوم شعيب، * (كذبوا بآياتنا) *، يعني بأنهم كذبوا أيضا بالعذاب في الدنيا بأنه غير نازل بهم، * (فأخذهم الله بذنوبهم) *، يعني في الدنيا، فعاقبهم الله، * (والله شديد العقاب) * [آية: 11]، يعني إذا عاقب. تفسير سورة آل عمران من [آية 12 - 13] * (قل للذين كفروا) * من أهل مكة يوم بدر، * (ستغلبون وتحشرون إلى جهنم) * في الآخرة، * (وبئس المهاد) * [آية: 12]، يقول: بئسما مهدوا لأنفسهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للكفار يوم بدر: ' إن الله غالبكم، وسوف يحشركم إلى جهنم '، فقال أبو جهل: يا ابن أبي كبشة، هل هذا إلا مثل ما كنت تحدثنا به، وقوله سبحانه: * (قد كان لكم آية في فئتين) *، وذلك أن بني قينقاع من اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بعد قتال بدر يوعدونه القتال كما قتل كفار مكة يوم بدر، فأنزل الله عز وجل: * (قد كان لكم آية) * معشر اليهود، يعني عبرة * (في فئتين) * * (التقتا) * فئة المشركين وفئة المؤمنين يوم بدر، التقتا * (فئة تقاتل في سبيل الله) *، وهو النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم بدر، * (وأخرى كافرة) *، أبو جهل والمشركين، * (يرونهم مثليهم) *، رأت اليهود أن الكفار مثل المؤمنين في الكثرة، * (رأي العين) *، وكان الكفار يومئذ سبعمائة رجل، عليهم أبو جهل، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، بين كل أربعة بعير، ومعهم فرسان، أحدهما مع أبي مرثد الغنوي، والآخر مع المقداد بن الأسود الكندي، ومعهم ستة أدراع، والمشركون ألف رجل، سبعمائة دراع، عليهم أبو جهل، وثلاثمائة حاسر، ثم حبس الأخنس بن شريق ثلاثمائة رجل من بني زهرة عن قتال
159 النبي صلى الله عليه وسلم، فبقى المشركون في سبعمائة رجل. يقول الله تعالى: * (والله يؤيد بنصره) *، يعني بنصره * (من يشاء) *، فينصره الله عز وجل القليل على الكثير، * (إن في ذلك) *، يعني يقوى في نصرهم، نصر المؤمنين وهم قليل، وهزيمة الكفار وهم كثير، * (لعبرة لأولي الأبصار) * [آية: 13]، يعني الناظرين في أمر الله عز وجل وطاعته لعبرة وتفكرا لأولي الأبصار، حين أظهر الله عز وجل القليل على الكثير. تفسير سورة آل عمران [آية 14] * (زين للناس) *، يعني الكفار، * (حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة) *، يعني المال الكثير * (من الذهب والفضة) *، فأما الذهب، فهو ألف دينار ومائتا دينار، والفضة ألف ومائتا مثقال، * (والخيل المسومة) *، يعني السائمة، وهي الراعية، * (والأنعام) *، وهي الإبل والبقر والغنم، * (والحرث ذلك) * الذي ذكر في هذه الآية، * (متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب) * [آية: 14]، يعني حسن المرجع، وهي الجنة. تفسير سورة آل عمران [آية 15] * (قل) * للكفار: * (أؤنبئكم بخير من ذلكم) *، يعني ما ذكره في هذه الآية * (للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار) *، وذلك أن العيون تجري من تحت البساتين، * (خالدين فيها) * لا يموتون، * (وأزواج مطهرة) * من الحيض والغائط
160 والبول والبزاق والمخاط ومن القذر كله، * (ورضوان من الله) * أكبر، يعني رضي الله عنهم ، * (والله بصير بالعباد) * [آية: 15]، يعني بأعمالهم. تفسير سورة آل عمران [آية 16 - 17] ثم أخبر سبحانه عن فعلهم، فقال: * (الذين يقولون ربنا إننا ءامنا فأغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار) * [آية: 16]، ثم نعت أعمالهم، فقال: الجنة هي ل * (الصابرين) * على أمر الله وفرائضه، * (والصادقين) * بكتاب الله ورسله، * (والقانتين) *، يعني المطيعين لله، * (والمنافقين) * أموالهم في حق الله، * (والمستغفرين بالأسحار) * [آية: 17]، يقول: المصلين لله بالأسحار، يعني المصلين من آخر الليل. تفسير سورة آل عمران [آية 18] قوله سبحانه: * (شهد الله) *، وذلك أن عبد الله بن سلام وأصحابه مؤمني أهل التوراة، قالوا لرءوس اليهود: إن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودينه الحق، فاتبعوه، فقالت اليهود: ديننا أفضل من دينكم، فقال الله تبارك وتعالى: * (شهد الله) * * (أنه لا اله إلا هو الملائكة) * يشهدون بها، * (وأولوا العلم) * بالتوارة ابن سلام وأصحابه يشهدون أنه لا إله إلا هو، ويشهدون أن الله عز وجل * (قائما بالقسط) *، يعني قائم على كل شيء بالعدل، * (لا إله إلا هو العزيز الحكيم) * [آية: 18] في أمره. تفسير سورة آل عمران [آية 19] شهدوا * (إن الدين) *، يعني التوحيد * (عند الله الإسلام) *، ثم قال: * (وما اختلف الذين أوتوا الكتاب) *، يعني اليهود والنصارى في هذا الدين، * (إلا من بعد ما جاءهم العلم) *، يعني بيان أمر محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كانوا مؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم من قبل أن يبعث رسولا، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم من ولد إسماعيل، تفرقوا * (بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله) *، يعني القرآن، يعني اليهود، ثم خوفهم، * (فإن الله سريع الحساب) * [آية: 19]، كأنه قد جاء.
161 تفسير سورة آل عمران [آية 20] * (فإن حاجوك) *، يعني اليهود خاصموك يا محمد في الدين، * (فقل أسلمت وجهي لله) *، يقول: أخلصت ديني لله، * (ومن اتبعن) * على ديني فقد أخلص، * (وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين) *، يعني أهل التوراة والإنجيل، اليهود والنصارى، * (أأسلمتم) *، والاسلام اسم مشتق من اسم الله عز وجل، أمر الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم ان يدعوهم إلى الإسلام، فقال: أسلمت، يعني أخلصت، يقول: * (فإن أسلموا) *، يعني فإن أخلصوا له، يعني لله عز وجل بالتوحيد، * (فقد اهتدوا) * من الضلالة، * (وإن تولوا) *، يقول فإن أبوا أن يسلموا، * (فإنما عليك البلاغ) *، يعني بلاغ الرسالة، * (والله بصير بالعباد) * [آية: 20] بأعمال العباد. تفسير سورة آل عمران [آية 21] * (إن الذين يكفرون بآيات الله) *، يعني بالقرآن، وهم ملوك بني إسرائيل من اليهود ممن لا يقرأ الكتاب، * (ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس) *، يعني بالعدل بين الناس من مؤمني بني إسرائيل من بعد موسى، * (فبشرهم) * يا محمد * (بعذاب أليم) * [آية: 21]، يعني وجيع، يعني اليهود؛ لأن هؤلاء على دين أوائلهم الذين قتلوا الأنبياء والآمرين بالقسط. تفسير سورة آل عمران [آية 22 - 23] ثم قال عز وجل: * (أولئك الذين) * فعلوا ذلك * (حبطت) *، يعني بطلت * (أعمالهم) *، فلا ثواب لهم، * (في الدنياو) * لا في * (والآخرة) *؛ لأن أعمالهم كانت في غير طاعة الله عز وجل، * (وما لهم من ناصرين) * [آية: 22]، يعني من مانعين يمنعونهم من النار، * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب) *، يعني أعطوا حظا من التوراة، يعني اليهود: كعب بن الأشرف، وكعب بن أسيد، ومالك بن
162 الضيف، ويحيى بن عمرو، ونعمان بن أوفى، وأبو ياسر بن أخطب، وأبو نافع بن قيس، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: ' أسلموا تهتدوا، ولا تكفروا '، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: نحن أهدى وأحق بالهدى منكم، ما أرسل الله نبيا بعد موسى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ' لم تكذبون وأنتم تعلمون أن الذي أقول حق، فأخرجوا التوراة نتبع نحن وأنتم ما فيها، وهي بينكم، فإني مكتوب فيها أني نبي ورسول '، فأبوا ذلك، فأنزل الله عز وجل فيهم: * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب) * * (يدعون إلى كتاب الله) *، يعني التوراة، * (ليحكم بينهم) *، يعني ليقضي بينهم، * (ثم يتولى) *، يعني يأبى * (فريق) *، يعني طائفة * (منهم وهم معرضون) * [آية: 23]. تفسير سورة آل عمران [آية 24 - 25] * (ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار) * بان العذاب واجب عليهم، فيها تقديم لقولهم: * (إلا أياما معدودات) *، يعني الأربعين يوما التي عبد آباؤهم فيها العجل؛ لأنهم قالوا إنهم أبناء الله وأحباؤه، يقول: * (وغرهم في دينهم) * عفو الله * (ما كانوا يفترون) * [آية: 24]، يعني الذين كذبوا لقولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه، خوفهم الله، فقال: * (فكيف) * بهم * (إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه) *، يعني يوم القيامة لا شك فيه بأنه كائن، * (ووفيت) * * (كل نفس) * بر وفاجر * (ما كسبت) * من خير أو شر، * (وهم لا يظلمون) * [آية: 25] في أعمالهم. تفسير سورة آل عمران [آية 26 - 27] * (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك) *، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل ربه عز وجل أن يجعل له ملك فارس والروم في أمته، فنزلت: * (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك) * * (من تشاء) *، يعني محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته، * (وتنزع الملك ممن تشاء) *، يعني الروم وفارس، * (وتعز من تشاء) * محمدا وأمته، * (وتذل من تشاء) *، يعني الروم وفارس،
163 * (بيدك الخير إنك على كل شيء) * من الملك والعز والذل * (قدير) * [آية: 26]، * (تولج اليل في النهار وتولج النهار في اليل) *، يعني ما تنقص في الليل داخل في النهار، حتى يصير الليل تسع ساعات والنهار خمس عشرة ساعة، فذلك قوله سبحانه: * (يكور الليل على النهار ويكور) *، يعني يسلط * (النهار على الليل) * [الزمر: 5]، وهما هكذا إلى أن تقوم الساعة. قوله سبحانه: * (وتخرج الحي من الميت) *، فهو الناس والدواب والطير، خلقهم من نطفة وهي ميتة، وخلق الطير من البيضة وهي ميتة، * (وتخرج الميت من الحي) *، يعني يخرج الله عز وجل هذه النطفة من الحي، وهم الناس والدواب والطير، * (وترزق من تشاء بغير حساب) * [آية: 27]، يقول سبحانه: ليس فوقي ملك يحاسبني، أنا الملك أعطى من شئت بغير حساب، لا أخاف من أحد يحاسبني. تفسير سورة آل عمران [آية 28] قوله سبحانه: * (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين) *، نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره، كانوا يظهرون المودة لكفار مكة، فنهاهم الله عز وجل عن ذلك، * (ومن يفعل ذلك) *، فيتخذونهم أولياء من غير قهر، * (فليس من الله في شيء) *، ثم استثنى تعالى، فقال: * (إلا أن تتقوا منهم تقاة) *، فيكون بين أظهرهم فيرضيهم بلسانه من المخافة، وفي قلبه غير ذلك، ثم خوفهم، فقال: * (ويحذركم الله نفسه) *، يعني عقوبته في ولاية الكفار، * (وإلى الله المصير) * [آية: 28] في الأخرة، فيجزيكم بأعمالكم. تفسير سورة آل عمران [آية 29 - 31] * (قل) * لهم يا محمد: * (إن تخفوا ما في صدوركم) *، يعني إن تسروا ما في قلوبكم
164 من الولاية للكفار، * (أو تبدوه) *، يعني أو تظهروا ولايتهم، يعني حاطب وأصحابه، * (يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض والله على كل شيء) *، من المغفرة والعذاب * (قدير) * [آية: 29]، نظيرها في آخر البقرة، ثم خوفهم ورغبهم، فقال: * (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا) *، يعجل لها كل خير عملته، ولا يغادر منه شيء، * (وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا) *، يعني أجلا بعيدا بين المشرق والمغرب، * (ويحذركم الله نفسه) *، يعني عقوبته في عمل السوء، * (والله رؤوف بالعباد) * [آية: 30]، يعني بربهم، حين لا يعجل عليهم بالعقوبة، لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم كعبا وأصحابه إلى الإسلام، قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، ولنحن أشد حبا لله مما تدعونا إليه، فقال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: * (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني) * على ديني، * (يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم) * ما كان في الشرك، * (والله غفور رحيم) * [آية: 31] ذو تجاوز لما كان في الشرك، رحيم بهم في الإسلام. تفسير سورة آل عمران [آية 32] * (قل) * لليهود * (أطيعوا الله والرسول فإن تولوا) *، يعني أعرضوا عن طاعتهما، * (فإن الله لا يحب الكافرين) * [آية: 32]، يعني اليهود. تفسير سورة آل عمران [آية 33 - 34] * (إن الله اصطفىءادم ونوحا) *، يعني اختار من الناس لرسالته آدم ونوحا، * (وآل إبراهيم) *، يعني إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، والأسباط، ثم قال: * (وآل عمران) *، يعني موسى، وهارون، ذرية آل عمران اختارهم للنبوة والرسالة * (على العالمين) * [آية: 33]، يعني عالمي ذلك الزمان. وهي * (ذرية بعضها من بعض) *، وكل هؤلاء من ذرية آدم، ثم من ذرية نوح، ثم من ذرية إبراهيم، * (والله سميع عليم) * [آية: 34]، لقولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه، ونحن أشد حبا لله، عليهم بما قالوا، يعني اليهود. تفسير سورة آل عمران [آية 35]
165 [آية 35] * (إذ قالت امرأة عمران) * بن ماثانا، اسمها حنة بنت فاقوز، وهي أم مريم، وهي حبلى، لئن نجاني الله عز وجل ووضعت ما في بطني، لاجعلنه محررا، وبنو ماثان من ملوك بني إسرائيل من نسل داود، عليه السلام، والمحرر الذي لا يعمل للدنيا ولا يتزوج، ويعمل للآخرة، ويلزم المحراب، فيعبد الله عز وجل فيه، ولم يكن يحرر في ذلك الزمان إلا الغلمان، فقال زوجها: أرأيت إن كان الذي في بطنك أنثى؟ والأنثى عورة، كيف تصنعين؟ فاهتمت لذلك، فقالت حنة: * (رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم) * [آية: 35] لدعائهما، العليم بنذرهما، يعنى بالتقبل والاستجابة لدعائهما. تفسير سورة آل عمران [آية 36] * (فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى) *، والأنثى عورة، فيها تقديم، يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: * (والله أعلم بما وضعت) *، ثم قالت حنة: * (وإني سميتها مريم) *، وكذلك كان اسمها عند الله عز وجل، * (وإني أعيذها بك وذريتها) *، يعني عيسى * (من الشيطان الرجيم) * [آية: 36]، يعني الملعون، فاستجاب الله لها، فلم يقربها ولا ذريتها شيطان، وخشيت حنة ألا تقبل الأنثى محررة، فلفتها في خرق ووضعتها في بيت المقدس عند المحراب، حيث يدرس القراء، فتساهم القوم عليها؛ لأنها بنت إمامهم وسيدهم، وهم الأحبار من ولد هارون أيهم يأخذها. قال زكريا، وهو رئيس الأحبار: أنا آخذها، أنا أحقكم بها؛ لأن أختها أم يحيى عندي، فقال القراء: وإن كان في القوم من هو أقرب إليها منك؟ فلو تركت لأحق الناس بها لتركت لأمها، ولكنها محررة، ولكن هلم نتساهم عليها، من خرج سهمه فهو أحق بها، فاقترعوا، فقال الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم: * (وما كنت لديهم) *، يعني عندهم فتشهدهم، * (إذ يلقون أقلامهم) *، حين اقترعوا ثلاث مرات بأقلامهم التي كانوا يكتبون بها الوحي أيهم يكفلها؟ أيهم يضمها؟ فقرعهم زكريا فقبضها، ثم قال الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم: * (وما كنت لديهم إذ يختصمون) * [آل عمران: 44] في مريم، فذلك قوله: * (وكفلها زكريا) *.
166 تفسير سورة آل عمران من [آية 37 - 38] * (فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا) *، يقول: رباها تربية حسنة في عبادة وطاعة لربها، فبنى لها زكريا محرابا في بيت المقدس، وجعل بابه وسطه، لا يصعد إليه أحد إلا بسلم، واستأجر لها ظئرا ترضعها حتى تحركت، فكان يغلق عليها الباب ومعه المفتاح، لا يأمن عليها أحدا، يأتيها بطعامها ومصالحها، وكانت إذا حاضت أخرجها إلى منزله، فتكون مع أختها أيليشفع بنت عمران، وهي مريم بنت عمران، أم يحيى، فإذا طهرت ردها إلى محراب بيت المقدس، وكان زكريا يرى عندها العنب في الشتاء الشديد البرد، فيأتيها به جبريل، عليه السلام من السماء، * (وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال) * لها زكريا: * (يا مريم أنى لك هذا) *، يعني من أين هذا في غير حينه؟ * (قالت) * هذا الرزق * (هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب) * [آية: 37]. فطمع عند ذلك زكريا في الولد، فقال: إن الذي يأتي مريم بهذه الفاكهة في غير حينها لقادر أن يصلح لي زوجتي ويهب لي منها ولدا، فذلك قوله: * (هنالك) *، يعني عند ذلك * (دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك) *، يعني من عندك، * (ذرية طيبة) *، تقيا زكيا، كقوله: * (واجعله ربي رضيا) * [مريم: 6]، * (إنك سميع الدعاء) * [آية: 38]، فاستجاب الله عز وجل، وكانا قد دخلا في السن. [آية 39] * (فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب) *، فبينما هو يصلي في المحراب، حيث يذبح القربان، إذا برجل عليه بياض حياله، وهو جبريل، عليه السلام، فقال: * (أن الله يبشرك بيحيى) *، اشتق يحيى من أسماء الله عز وجل، * (مصدقا بكلمة من الله) *، يعني
167 من الله عز وجل، وكان يحيى أول من صدق بعيسى، عليهما السلام، وهو ابن ثلاث سنين، قوله الأول وهو ابن ستة أشهر، فلما شهد يحيى ان عيسى من الله عز وجل، عجبت بنو إسرائيل لصغره، فلما سمع زكريا شهادته، قام إلى عيسى فضمه إليه، وهو في خرقة، وكان يحيى أكبر من عيسى بثلاث سنين، يحيى وعيسى ابنا خالة، ثم قال الله سبحانه: * (وسيدا) *، يعني حليما، * (وحصورا) * لا ماء له، * (ونبيا من الصالحين) * [آية: 39]، والحصور الذي لا حاجة له في النساء. تفسير سورة آل عمران [آية 40] فلما بشر زكريا بالولد، قال لجبريل، عليه السلام في المخاطبة: * (قال رب أنى) *، يعني من أين * (يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر) *، يقول ذلك تعجبا؛ لأنه كان قد يبس جلده على عظمه من الكبر، * (قال) * جبريل، عليه السلام، * (كذلك) *، يعني هكذا قال ربك، إنه يكون لك ولد، * (الله يفعل ما يشاء) * [آية: 40]، أن يجعل ولدا من الكبير والعاقر؛ لقوله: * (وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر) *. تفسير سورة آل عمران [آية 41] * (قال رب اجعل لي آية) *، يعني علما للحبل، * (قال ءايتك) * إذا جامعتها على طهر فحبلت، فإنك تصبح لا تستنكر من نفسك خرسا ولا سقما، ولكن تصبح لا تطيق الكلام، * (ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا) *، يعني إلا إشارة يومىء بيده، أو برأسه من غير مرض، ولم يحبس لسانه عن ذكر الله عز وجل، ولا عن الصلاة، فكذلك قوله سبحانه: * (واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار) * [آية: 41]، يقول: صل بالغداة والعشى، فأتى امرأته على طهرها فحملت، وكان آية الحبل أنه وضع يده على صدرها، فحملت فاستقر الحمل في رحمها، فحبلت بيحيى، فأصبح لا
168 يستطيع الكلام، فعرف أن امرأته قد حبلت، فولدت يحيى، عليه السلام، فلم يعص الله قط. تفسير سورة آل عمران من [آية 42 - 43] * (وإذ قالت الملائكة) *، وهو جبريل، عليه السلام، وحده: * (يا مريم) *، وهي في المحراب، * (إن الله اصطفاك) *، يعني اختارك، * (وطهرك) * من الفاحشة والألم، * (واصطفاك) *، يعني واختارك، * (على نساء العالمين) * [آية: 42] بالولد من غير بشر، * (يا مريم اقنتي لربك) *، يعني لربك، * (واسجدي واركعي مع الراكعين) * [آية: 43]، يعني مع المصلين في بيت المقدس. تفسير سورة آل عمران [آية 44] * (ذلك) * أن الذي ذكر في هؤلاء الآيات، * (من أنباء الغيب) *، يعني حديثا من الغيب لم تشهده يا محمد، فذلك قوله: * (نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم) * في القرعة، * (أيهم يكفل مريم) *، يعني يضم مريم إلى نفسه، * (وما كنت لديهم) * يا محمد، * (إذ يختصمون) * [آية: 44] في مريم، يعني القراء أيهم يكفلها. تفسير سورة آل عمران [آية 45 - 46] * (إذ قالت الملائكة يا مريم) *، وهو جبريل وحده، عليه السلام، * (إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها) *، يعني مكينا عند الله عز وجل، * (في الدنيا والآخرة) * فيها تقديم، * (ومن المقربين) * [آية: 45] عند الله في الآخرة، * (ويكلم الناس في المهد) *، يعني حجر أمه في الخرق طفلا، * (و) * يكلمهم * (وكهلا) *، يعني إذا اجتمع قبل أن يرفع إلى السماء، * (ومن الصالحين) * [آية:
169 تفسير سورة آل عمران من [آية 47 - 48] * (قالت ربي أنى) *، يعني من أين * (يكون لي ولد ولم يمسسني بشر) *، يعني الزوج، * (قال كذلك الله يخلق ما يشاء) *، ويخلق من يشاء، فشاء أن يخلق ولدا من غير بشر، لقولها: * (ولم يمسسني بشر) *، * (إذا قضى أمرا) * كان في علمه أن يكون عيسى في بطن مريم من غير بشر، * (فإنما يقول له كن فيكون) * [آية: 47] لا يثنى، * (ويعلمه الكتاب) *، يعني خط الكتاب بيده بعدما بلغ أشده، وهو ابن ثماني عشرة سنة، والمرأة بعدما تبلغ الحيض، * (والحكمة) *، يعني الحلال والحرام والسنة، * (والتوراة والإنجيل) * [آية: 48]. تفسير سورة آل عمران [آية 49] ويجعله * (ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم) *، يعني بعلامة، ثم بين الآية، * (أني أخلق لكم) *، يعني أجعل لكم * (من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا) *، فخلق الخفاش * (بإذن الله) *؛ لأنه أشد الخلق، إنما هو لحم وشئ يطير بغير ريش فطار بإذن الله، * (وأبرئ الأكمه) * الذي ولدته أمه أعمى، الذي لم ير النور قط، فيرد الله بصره، * (و) * أبرىء * (والأبرص) *، فيبرأ بإذن الله، * (وأحي الموتى بإذن الله) *، قتعيش، ففعل ذلك وهم ينظرون، وكان صنبعة هذا آية من الله عز وجل بأنه نبي ورسول إلى بني إسرائيل، فأحيا سام بن نوح بن لمك من الموت بإذن الله، فقالوا له: إن هذا سحر، فأرنا آية نعلم أنك صادق. وقال عيسى صلى الله عليه وسلم: أرأيتم إن أنا أخبرتكم * (وأنبئكم بما تأكلون) * في بيوتكم من الطعام، فيها تقديم * (وما تدخرون في بيوتكم) *، يعني وما ترفعون في غد، تعلمون أني صادق؟ قالوا: نعم، قال عيسى صلى الله عليه وسلم: فلان أكلت كذا وكذا. وشربت كذا وكذا، وأنت يا فلان أكلت كذا، وكذا، وأنت يا فلان، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، يقول
170 الله عز وجل: * (إن في ذلك لآية) *، يعني لعلامة، * (لكم) * فيما أخبرتكم به * (إن كنتم مؤمنين) * [آية: 49]، يعني مصدقين بعيسى بأنه رسول. [تفسير سورة آل عمران آية 50] * (ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون) * * (ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم) * من اللحوم، والشحوم، وكل ذي ظفر، والسمك، فهذا البعض الذي أحل لهم غير السبت، فإنهم يقومون عليه فوضع عنهم في الإنجيل ذلك، * (وجئتكم بآية من ربكم) * بعلامة من ربكم، يعني العجائب التي كان يصنعها الله، * (فاتقوا الله) *، يعني فوحدوا الله، * (وأطيعون) * [آية: 50] فيما آمركم به من النصيحة، فإنه لا شريك له. [تفسير سورة آل عمران من آية [51 - 52] وقال لهم عيسى صلى الله عليه وسلم: * (إن الله ربي وربكم فاعبدوه) *، يعني فوحدوه، * (هذا صراط مستقيم) * [آية: 51]، يعني هذا التوحيد دين مستقيم، وهو الإسلام، فكفروا، * (فلما أحس) *، يعني فلما رأى * (عيسى منهم الكفر) *، يعني من بني إسرائيل، كقوله عز وجل: * (هل تحس منهم من أحد) * [مريم: 98]، يعني هل ترى منهم من؟ فمر عيسى صلى الله عليه وسلم على الحواريين، يعني على القصارين غسالى الثياب، * (قال من أنصاري إلى الله) *، يعني من يتبعني مع الله، كقوله: * (فأرسل إلى هارون) * [الشعراء: 13]، يعني معي هارون، وكقوله سبحانه: * (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) * [النساء: 2]، يعني مع أموالكم، * (قال الحواريون نحن أنصار الله ءامنا بالله) *، يعني بتوحيد الله، * (وأشهد) * يا عيسى * (بأنا مسلمون) * [آية: 52]، يعني مخلصين بتوحيد الله عز وجل. [تفسير سورة آل عمران آية 53] ثم قالوا: * (ربنا ءامنا بما أنزلت) *، يعني صدقنا بالإنجيل الذي أنزلت على عيسى، * (واتبعنا الرسول) *، يعني عيسى على دينه، * (فاكتبنا مع الشاهدين) * [آية: 53]، يقول: فاجعلنا مع الصادقين، نظيرها في المائدة، هذا قول الحواريين
171 [تفسير سورة آل عمران من آية 54 - 55] * (ومكروا ومكر الله) *، وذلك أن كفار بني إسرائيل عمدوا إلى رجل، فجعلوه رقيبا على عيسى ليقتلوه، فجعل الله شبه عيسى على الرقيب، فأخذوا الرقيب فقتلوه وصلبوه، وظنوا أنه عيسى، ورفع الله عز وجل عيسى إلى سماء الدنيا من بيت المقدس ليلة القدر في رمضان، فذلك قوله سبحانه: * (ومكروا) * بعيسى ليقتلوه، يعني اليهود، * (ومكر الله) * بهم حين قتل رقيبهم وصاحبهم، * (والله خير الماكرين) * [آية: 54]، يعني أفضل مكرا منهم. * (إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي) *، فيها تقديم، يقول: رافعك إلى من الدنيا، ومتوفيك حين تنزل من السماء على عهد الدجال، يقول: إني رافعك إلي الآن ومتوفيك بعد قتل الدجال، يقول: رافعك إلي في السماء، * (ومطهرك من الذين كفروا) *، يعني اليهود وغيرهم، * (وجاعل الذين اتبعوك) * على دينك يا عيسى، وهو الإسلام، * (فوق الذين كفروا) *، يعني اليهود وغيرهم، وأهل دين عيسى هم المسلمون فوق الأديان كلها * (إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم) * في الآخرة * (فأحكم) *، يعني فأقضى * (بينكم) *، يعني بين المسلمين وأهل الأديان * (فيما كنتم فيه) * من الدين * (تختلفون) * [آية: 55]، وهو الإسلام، فأسلمت طائفة وكفرت طائفة. [تفسير سورة آل عمران من آية 56 - 58] ثم أخبر الله عز وجل عن منزلة الفريقين في الآخرة، فقال: * (فأما الذين كفروا) *، يعني كفار أهل الكتاب، * (فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا) *، يعني القتل أو الجزية، * (و) * في * (والآخرة) * عذاب النار، * (وما لهم من ناصرين) * [آية: 56]، يعني من مانعين يمنعونهم من النار، * (وأما الذين ءامنوا وعملوا الصالحات) *، يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم، * (فيوفيهم أجورهم) *، يعني فيوفوا أجورهم في الآخرة، * (والله لا يحب الظالمين
172 * (ذلك) * الذي ذكره الله عز وجل في هذه الآيات * (نتلوه عليك) * يا محمد * (من الآيات) *، يعني من البيان * (والذكر الحكيم) * [آية: 58]، يعني المحكم من الباطل. [تفسير سورة آل عمران من آية 59 - 60] * (إن مثل عيسى عند الله) *، وذلك أن وفد نصارى نجران قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، منهم السيد، والعاقب، والأسقف، والرأس، والحارث، وقيس، وابنيه، وخالد، خليد، وعمرو، فقال السيد والعاقب، وهما سيدا أهل نجران: يا محمد، لم تشتم صاحبنا وتعيبه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ' ما صاحبكم؟ '، قالوا: عيسى ابن مريم العذراء البتول، قال أبو محمد بن ثابت، قال: العذراء البتول، المنقطعة إلى الله عز وجل، لقوله عز وجل: * (وتبتل إليه تبتيلا) * [المزمل: 8]. قالوا: * (فأرنا فيما خلق الله عبدا مثله يحيى الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص، ويخلق من الطين طيرا، ولم يقولوا: بإذن الله، وكل آدمي له أب، وعيسى لا أب له، فتابعنا في أن عيسى ابن الله ونتابعك، فإما أن تجعل عيسى ولدا وإما إلها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ' معاذ الله أن يكون له ولد، أو يكون معه إله '، فقالا للنبي صلى الله عليه وسلم: أنت أحمد؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم ' أنا أحمد، وأنا محمد '، فقالا: فيم أحمد؟ قال: ' أحمد الناس عن الشرك '، قالا: فإنا نسألك عن أشياء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ' لا أخبركم حتى تسلموا فتتبعوني '، قالا: أسلمنا قبلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ' إنكما لم تسلما، حجزكما عن الإسلام ثلاثة: أكلكما الخنزير، وشربكما الخمر، وقولكما: إن لله عز وجل ولدا '. فغضبا عند ذلك، فقالا: من أبو عيسى؟ ائتنا له بمثل، فانزل الله عز وجل: * (إن مثل عيسى عند الله) * * (كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) * [آية: 59]، هذا الذي قال الله في عيسى هو * (الحق من ربك فلا تكن من الممترين) * [آية: 60] يا محمد، يعني من الشاكين في عيسى أنه مثله كمثل آدم، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ليس كما تقول، ما هذا له بمثل. تفسير سورة آل عمران من آية [61 - 63]
173 فأنزل الله عز وجل: * (فمن حاجك فيه) *، يعني فمن خاصمك في عيسى * (من بعد ما جاءك من العلم) *، يعني من البيان من أمر عيسى، يعني ما ذكر في هذه الآيات، * (فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل) *، يعني تخلص الدعاء إلى الله عز وجل، * (فنجعل لعنت الله على الكاذبين) * [آية: 61]، * (إن هذا) * الذي ذكرته في عيسى، * (لهو القصص الحق) *، والذي تقولون هو الباطل، * (وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز) * في ملكه * (الحكيم) * [آية: 62] في أمره، حكم عيسى في بطن أمه. * (فإن تولوا) *، يعني فإن أبوا إلا أن يلاعنوا، * (فإن الله عليم بالمفسدين) * [آية: 63] في الأرض بالمعاصي. تفسير سورة آل عمران آية [64] قال الله عز وجل: * (قل) * لهم يا محمد: * (يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء) *، يعني كلمة العدل، وهي الإخلاص، * (بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا) * من خلقه، * (ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله) *؛ لأنهم اتخذوا عيسى ربا، * (فإن تولوا) *، يعني فإن أبوا التوحيد، * (فقولوا) * لهم أنتم: * (اشهدوا بأنا مسلمون) * [آية: 64]، يعني مخلصين بالتوحيد، فقال العاقب: ما نصنع بملاعنته شيئا، فوالله لئن كان كاذبا ما ملاعنته بشئ، ولئن كان صادقا لا يأتي علينا الحول حتى يهلك الله الكاذبين. قالوا: يا محمد، نصالحك على ألا تغزونا ولا تخيفنا ولا تردنا عن ديننا، على أن نؤدي إليك ألف حلة في صفر، وألف حلة في رجب، وعلى ثلاثين درعا من حديد عادية، فصالحهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، فقال: ' والذي نفس محمد بيده، لولا عنوني ما حال الحول، ويحضرني منهم أحد، ولأهلك الله الكاذبين '، قال عمر، رضي الله عنه: لو لاعنتهم بيد من كنت تأخذ، قال: ' آخذ بيد على، وفاطمة، والحسن، والحسين، عليهم السلام، وحفصة، وعائشة، رحمهما الله.
174 تفسير سورة آل عمران آية [65 - 67] * (يا أهل الكتاب لم تحاجون) *، يعني تخاصمون * (في إبراهيم) *، وذلك أن رؤساء اليهود: كعب بن الأشرف، وأبا ياسر، وأبا الحقيق، وزيد بن التابوه، ونصارى نجران، يقولون: إبراهيم أولى بنا، والأنبياء منا كانوا على ديننا، وما تريد إلا أن نتخذك ربا كما اتخذت النصارى عيسى ربا، وقالت النصارى: ما تريد بأمرك إلا أن نتخذك ربا كما اتخذت اليهود عزيرا ربا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ' معاذ الله من ذلك، ولكني أدعوكم إلى أن تعبدوا الله جميعا، ولا تشركوا به شيئا '، فأنزل الله عز وجل: * (يا أهل الكتاب لم تحاجون) *، يعني تخاصمون * (في إبراهيم) *، قتزعمون أنه كان على دينكم، * (وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده) *، أي بعد موت إبراهيم، * (أفلا تعقلون) * [آية: 65]. * (هأنتم هؤلاء حاججتم) *، يعني خاصمتم * (فيما لكم به علم) * مما جاء في التوراة والإنجيل، * (فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم) * بما ليس في التوراة والإنجيل، * (والله يعلم) * أن إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا، * (وأنتم لا تعلمون) * [آية: 66] أنه ما كان يهوديا ولا نصرانيا، ثم أخبر الله عز وجل، فقال: * (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا) *، يعني حاجا * (مسلما) *، يعني مخلصا، * (وما كان من المشركين) * [آية: 67]، يعني من اليهود ولا من النصارى. تفسير سورة آل عمران آية [68 - 69] ثم قال: * (إن أولى الناس بإبراهيم) * لقولهم: إنه كان على دينهم، * (للذين اتبعوه) * على دينه واقتدوا به، * (وهذا النبي والذين آمنوا) *، يقول: من اتبع محمدا صلى الله عليه وسلم على دينه، ثم قال الله عز وجل: * (والله ولي المؤمنين) * [آية: 68] الذين يتبعونهما على دينهما، * (ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم) *، يعني يستنزلونكم عن دينكم
175 الإسلام، * (وما يضلون) *، يعني وما يستنزلون * (إلا أنفسهم وما يشعرون) * [آية: 69]، إنما يضلون أنفسهم، فنزلت في عمار بن ياسر، وحذيفة بن اليمان، وذلك أن اليهود جادلوهما ودعوهما إلى دينهم، وقالوا: إن ديننا أفضل من دينكم، ونحن أهدى منكم سبيلا، فنزلت: * (ودت طائفة من أهل الكتاب) * إلى آخر الآية. تفسير سورة آل عمران آية [70 - 74] ونزلت: * (يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله) *، يعني القرآن * (وأنتم تشهدون) * [آية: 70] أن محمدا رسول الله، ونعته معكم في النوراة، * (يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق) *، يعني لم تخلطون الحق * (بالباطل وتكتمون الحق) *، وذلك أن اليهود أقروا ببعض أمر محمد صلى الله عليه وسلم وكتموا بعضا * (وأنتم تعلمون) * [آية: 71] أن محمدا نبي ورسول صلى الله عليه وسلم. * (وقالت طائفة من أهل الكتاب) *، كعب بن الأشرف، ومالك بن الضيف اليهوديان لسلفة اليهود * (ءامنوا بالذي أنزل على الذين ءامنوا) *، يعني صدقوا بالقرآن، * (وجه النهار واكفروا ءاخره) * أول النهار، يعني صلاة الغداة، وإذا كان العشى قولوا لهم: نظرنا في التوراة، فإذا النعت الذي في التوراة ليس بنعت محمد صلى الله عليه وسلم، فذلك قوله سبحانه: * (واكفروا ءاخره) *، يعني صلاة العصر، فلبسوا عليهم دينهم لعلهم يشكون في دينهم، فذلك قوله: * (لعلهم يرجعون) *، [آية: 72]، يعني لكي يرجعوا عن دينهم إلى دينكم. وقالا لسفلة اليهود: * (ولا تؤمن وا إلا لمن تبع دينكم) *، فإنه لن يؤتى أحد من الناس مثل ما أوتيتم من الفضل والتوراة والمن والسلوى والغمام والحجر، اثبتوا على دينكم، وقالوا لهم: لا تخبروهم بأمر محمد صلى الله عليه وسلم فيحاجوكم، يعني فيخاصموكم عند ربكم، قالوا ذلك حسدا لمحمد صلى الله عليه وسلم، لأن تكون النبوة في غيرهم، فأنزل الله عز وجل: (قل إن
176 الهدى هدى الله أن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل) * يا محمد * (إن الفضل) *، يعني الإسلام والنبوة * (بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع) * لذلك * (عليم) * [آية: 73] بمن يؤتيه الفضل، * (يختص برحمته) *، يعني بتوبته، * (من يشاء) *، فاختص الله عز وجل به المؤمنين، * (والله ذو الفضل) *، يعني الإسلام * (العظيم) * [آية: 74] على المؤمنين. تفسير سورة آل عمران آية [75 - 76] * (ومن أهل الكتاب) *، يعني أهل التوراة، * (من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك) *، يعني عبد الله بن سلام وأصحابه، * (ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك) *، يعني كفار اليهود، يعني كعب بن الأشرف وأصحابه، يقول: منهم من يؤدي الأمانة ولو كثرت، ومنهم من لا يؤديها ولو ائتمنته على دينار لا يؤده إليك، * (إلا ما دمت عليه قائما) * عند رأسه مواظبا عليه تطالبه بحقك، * (ذلك) * استحلالا للأمانة، * (بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين) *، يعني في العرب * (سبيل) *، وذلك أن المسلمين باعوا اليهود في الجاهلية، فلما تقاصهم المسلمون في الإسلام، قالوا: لا حرج علينا في حبس أموالهم؛ لأنهم ليسوا على ديننا يزعمون أن ذلك حلال لهم في التوراة، فذلك قوله عز وجل: * (ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) * [آية: 75] أنهم كذبة، وأن في التوراة تحريم الدماء والأموال الا بحقها، ولكن أمرهم بالإسلام وأداء الأمانة وأخذ على ذلك ميثاقهم، فذلك قوله سبحانه: * (بلى من أوفى بعهده) * الذي أخذه الله عليه في التوراة وأدى الأمانة، * (واتقى) * محارمه، * (فإن الله يحب المتقين) * [لآية: 76]، يقول: الذين يتقون استحلال المحارم. تفسير سورة آل عمران آية [77 - 78]
177 * (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا) *، يعني عرضا من الدنيا يسيرا، يعني رؤوس اليهود، * (أولئك لا خلاق لهم في الآخرة) *، يعني لا نصيب لهم في الآخرة، * (ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم) * بعد العرض والحساب، * (ولهم عذاب أليم) * [آية: 77]، يعني وجيع. * (وإن منهم) *، يعني من اليهود * (لفريقا) *، يعني طائفة، منهم: كعب بن الأشرف، ومالك بن الضيف، وأبو ياسر، وجدى بن أخطب، وشعبة بن عمرو، يلوون ألسنتهم بالكتاب) *، يعني باللي التحريف بالألسن في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، * (لتحسبوه من الكتاب) *، يعني التوراة، يقول الله عز وجل: * (وما هو من الكتاب) * كتبوا يعني في من التوراة غير نعت محمد صلى الله عليه وسلم ومحوا نعته، * (ويقولون هو) * هذا النعت * (من عند الله وما هو من عند الله) *، ولكنهم كتبوه، * (ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) * [آية: 78] أنهم كذبة، وليس ذلك نعت محمد صلى الله عليه وسلم. تفسير سورة آل عمران آية [79 - 81] * (ما كان لبشر) *، يعني عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم، * (أن يؤتيه الله) *، يعني ان يعطيه الله * (الكتاب) *، يعني التوراة والإنجيل، * (والحكم) *، يعني الفهم، * (والنبوة ثم يقول للناس) *، يعني بني إسرائيل، * (كونوا عبادا لي من دون الله ولكن) *، يقول لهم: * (كونوا ربانيين) *، يعني متعبدين لله عز وجل، * (بما كنتم تعلمون الكتاب) *، يعني التوراة والإنجيل، * (وبما كنتم تدرسون) * [آية: 79]، يعني تقرءون. * (ولا يأمركم ان تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا) *، يعني عيسى، وعزير، ولو أمركم بذلك لكان كفرا، فذلك قوله: * (أيأمركم بالكفر) *، يعني بعبادة الملائكة والنبيين، * (بعد إذ أنتم مسلمون) * [أية: 80]، يعني مخلصين له بالتوحيد، فقال: الإصبغ بن زيد
178 وكردم بن قيس، أيامرنا بالكفر بعد الإيمان، فأنزل الله عز وجل: * (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين) *، على أن يعبدوا الله، ويبلغوا الرسالة إلى قومهم، ويدعوا الناس إلى دين الله عز وجل، فبعث الله موسى ومعه التوراة إلى بني إسرائيل، فكان موسى أول رسول بعث إلى بني إسرائيل، وفي التوراة بيان أمر محمد صلى الله عليه وسلم، فأقروا به، * (لما) *، يعني للذي * (ءاتيتكم) *، يعني بني إسرائيل * (من كتاب) *، يعني التوراة، * (وحكمة) *، يعني ما فيها من الحلال والحرام، * (ثم جاءكم) *، يعني بني إسرائيل، * (رسول) *، يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، * (مصدق لما معكم) *، يعني تصديق محمد صلى الله عليه وسلم لما معكم في التوراة، * (لتؤمنن به) *، يعني لتصدقن به إن بعث، * (ولتنصرنه) *، إذا خرج، يقول عز وجل لهم: * (قال أأقررتم) * بمحمد في التوراة بتصديقه ونصره، * (وأخذتم على ذلكم إصري) *، يقول: وقبلتم على الإيمان بمحمد عهدي وميثاقي في التوراة، * (قالوا أقررنا) *، يقول الله: * (قال فاشهدوا) * على أنفسكم بالإقرار، يقول الله عز وجل: * (وأنا معكم) *، أي إقراركم بمحمد صلى الله عليه وسلم * (من الشاهدين) * [آية: 81]. تفسير سورة آل عمران آية [82 - 83] ثم قال: * (فمن تولى بعد ذلك) *، يعني فمن أعرض عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد إقراره في التوراة، * (فأولئك هم الفاسقون) * [آية: 82]، يعني العاصين، * (أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات) *، يعني الملائكة، * (والأرض) *، يعني المؤمنين، * (طوعا) *، ثم قال سبحانه: * (وكرها) *، يعني أهل الأديان، يقولون: الله هو ربهم، وهو خلقهم، فذلك إسلامهم، وهم في ذلك مشركون، * (وإليه يرجعون) * [آية: 83].
179 تفسير سورة آل عمران آية [84 - 85] ثم أنزل الله عز وجل في آل عمران: إن لم يؤمن أهل الكتاب بهذه الآية التي في البقرة، وأمر المؤمنين أن يقرءوها، فنزل: * (قل ءامنا بالله) *، يعني صدقنا بتوحيد الله، * (وما أنزل علينا) *، يعني الإقرار بمحمد صلى الله عليه وسلم، * (وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى) *، يعني وما أعطى موسى، * (وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم) *، يقول: لا نكفر ببعض ونؤمن ببعض، * (ونحن له مسلمون) * [آية: 84]، يعني مخلصين، * (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) * [آية: 85]، نزلت في طعمة بن أبيرق الأنصاري من الأوس من بني صقر، ارتد عن الإسلام ولحق بكفار مكة. تفسير سورة آل عمران آية [86 - 89] * (كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات) *، يعني البيان، * (والله لا يهدي) * إلى دينه * (القوم الظالمين) * [آية: 86]، * (أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله و) * لعنة * (والملائكة والناس أجمعين) * [آية: 87]، يعني والعالمين كلهم، * (خالدين فيها) * في اللعنة، مقيمين فيها، * (يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون) * [آية: 88]، يعني لا يناظر بهم العذاب، نزلت في اثني عشر رجلا ارتدوا عن الإسلام، وخرجوا من المدينة كهيئة البداة، ثم انصرفوا إلى طريق مكة، فلحقوا بكفار مكة، منهم: طعمة بن أبيرق الأنصاري، ومقيس بن ضبابة الليثي، وعبد الله بن أنس بن خطل من بني تيم بن مرة القرشي، ووجوج بن الأسلت الأنصاري، وأبو عامر بن النعمان الراهب، والحارث بن سويد بن الصامت الأنصاري من بني عمرو بن عوف أخو الجلاس بن سويد بن الصامت.
180 ثم إن الحارث ندم فرجع تائبا من ضرار، ثم أرسل إلى أخيه الجلاس: إني قد رجعت تائبا، فسل النبي صلى الله عليه وسلم هل لي من توبة وإلا لحقت بالشام؟ فانطلق الجلاس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره فلم يرد عليه شيئا، فأنزل الله عز وجل في الحارث، فاستثنى: * (إلا الذين تابوا) *، فلا يعذبون * (من بعد ذلك) *، يعني من بعد الكفر، * (وأصلحوا) * في العمل فيما بقي، * (فإن الله غفور) * لكفره، * (رحيم) * [آية: 89] به فيما بقي. تفسير سورة آل عمران آية [90 - 92] فبلغ أمر الحارث الأحد عشر الذين بمكة، فقالوا: نقيم بمكة ما أقمنا ونتربص بمحمد الموت، فإذا أردنا المدينة فسينزل فينا ما نزل في الحارث ويقبل منا ما يقبل منه، فأنزل الله عز وجل فيهم: * (إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا) *، قالوا: نقيم بمكة كفارا، فإذا أردنا المدينة، فسينزل فينا كما نزل في الحارث، * (لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون) * [آية: 90]. ثم أخبرهم عنهم وعن الكفار وما لهم في الآخرة، فقال عز وجل: * (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار) *، فيود أحدهم أن يكون له ملء الأرض ذهبا، يقدر على أن يفتدى به نفسه من العذاب لافتدى به، * (فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به) * ما قبل منه، * (أولئك لهم عذاب أليم) *، وله عذاب، وجميع نظيرها في المائدة، * (وما لهم من ناصرين) * [آية: 91]، يعني من مانعين يمنعونهم من العذاب. قوله سبحانه: * (لن تنالوا البر حتى تنفقوا) *، يقول: لن تستكملوا التقوى حتى تنفقوا في الصدقة * (مما تحبون) * من الأموال، * (وما تنفقوا من شيء) *، يعني من صدقة، * (فإن الله به عليم) * [آية: 92]، يعني عالم به، يعني بنياتكم. تفسير سورة آل عمران آية [92 - 95]
181 * (كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة) *، وذلك أن يعقوب بن إسحاق خرج ذات ليلة ليرسل الماء في أرضه، فاستقبله ملك، فظن أنه لص يريد أن يقطع عليه الطريق، فعالجه في المكان الذي كان يقرب فيه القربان يدعى شانير، فكان أول قربان قربه بأرض المقدس، فلما أراد الملك ان يفارقه، غمز فخذ يعقوب برجليه ليريه أنه لو شاء لصرعه، فهاج به عرق النساء، وصعد الملك إلى السماء، ويعقوب ينظر إليه، فلقى منها البلاء، حتى لم ينم الليل من وجعه، ولا يؤذيه بالنهار، فجعل يعقوب لله عز وجل تحريم لحم الإبل وألبانها، وكان من أحب الطعام والشراب إليه، لئن شفاه الله. قالت اليهود: جاء هذا التحريم من الله عز وجل في التوراة، قالوا: حرم الله على يعقوب وذريته لحوم الإبل وألبانها، قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: * (قل) * لليهود * (فأتوا بالتوراة فاتلوها) * فاقرءوها * (إن كنتم صادقين) * [آية: 93] بأن تحريم لحوم الإبل في التوراة، فلم يفعلوا، يقول الله عز وجل يعيبهم: * (فمن افترى على الله الكذب) * بأن الله حرمه في التوراة، * (من بعد ذلك) * البيان، * (فأولئك هم الظالمون) * [آية: 94]. * (قل صدق الله) *، وذلك حين قال الله سبحانه: * (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا) * [آل عمران: 67] إلى آخر الآية، وقالت اليهود والنصارى: كان إبراهيم والأنبياء على ديننا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ' فقد كان إبراهيم يحج البيت وأنتم تعلمون ذلك، فلم تكفرون بآيات الله '، يعني بالحج، فذلك قوله سبحانه: * (قل صدق الله) * * (فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا) *، يعني حاجا، * (وما كان من المشركين) * [آية: 95]، يقول: لم يكن يهوديا ولا نصرانيا. تفسير سورة آل عمران آية [96 - 97] * (إن أول بيت) *، يعني أول مسجد، * (وضع للناس) *، يعني للمؤمنين، * (للذي ببكة مباركا) *، وإنما سمي بكة؛ لأنه يبك الناس بعضهم بعضا في الطواف، ومباركا فيه، البركة مغفرة للذنوب، * (وهدى للعالمين) * [آية: 96]، يعني المؤمنين من الضلالة لمن صلى فيه، وضلالة لمن صلى قبل بيت المقدس، وذلك أن المسلمين واليهود اختصموا في
182 أمر القبلة، فقال المسلمون: القبلة الكعبة، وقالت اليهود: القبلة بيت المقدس، فأنزل الله عز وجل ان الكعبة أول مسجد كان في الأرض، والبيت قبلة لأهل المسجد الحرام، والحرم كله قبلة الأرض. ثم قال عز وجل: * (فيه آيات بينات مقام إبراهيم) *، يعني علامة واضحة أثر مقام إبراهيم صلى الله عليه وسلم، * (ومن دخله) * في الجاهلية * (كان ءامنا) * حتى يخرج منه، * (ولله على الناس) *، يعني المؤمنين * (حج البيت من استطاع إليه سبيلا) *، يعني بالاستطاعة الزاد والراحلة، * (ومن كفر) * من أهل الأديان بالبيت ولم يحج واجبا فقد كفر، فذلك قوله سبحانه: * (ومن كفر) * * (فإن الله غني عن العالمين) * [آية: 97]. تفسير سورة آل عمران من آية [98 - 99] * (قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله) *، يعني بالقرآن، * (والله شهيد على ما تعملون) * [آية: 98]، * (قل يا أهل الكتاب) *، يعني اليهود، * (لم تصدون عن سبيل الله) * أهل الإيمان، نزلت في حذيفة، وعمار بن ياسر حين دعوهما إلى دينهم، فقالوا لهما: ديننا أفضل من دينكم، ونحن أهدى منكم سبيلا، فقال عز وجل: * (لم تصدون عن سبيل الله) *، عن دين الإسلام، * (من ءامن تبغونها عوجا) *، يعني بملة الإسلام زيغا، * (وأنتم شهداء) * أن الدين هو الإسلام، وأن محمدا رسول الله ونبي، * (وما الله بغافل عما تعملون) * [آية: 99]. تفسير سورة آل عمران آية من [100 - 101] * (يا أيها الذين ءامنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب) *، يعني طائفة من الذين أوتوا الكتاب، يعني أعطوا التوراة، * (يردوكم بعد إيمانكم كافرين) * [آية: 100]، * (وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله) *، يعني القرآن، * (وفيكم رسوله) *، يعني محمدا صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، * (ومن يعتصم بالله) *، يعني يحترز بالله فيجعله ثقته، * (فقد هدي إلى صراط مستقيم) * [آية: 101]، يعني إلى دين الإسلام
183 تفسير سورة آل عمران من آية [102 - 104] * (يا أيها الذين ءامنوا) *، يعني الأنصار، * (اتقوا الله حق تقاته) *، وهو أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وان يشكر فلا يكفر، نسختها: * (فاتقوا الله ما استطعتم) * [التغابن: 16]، وذلك أنه كان بين الأوس والخزرج عداوة في الجاهلية في دم شمير وحاطب، فقتل بعضهم بعضا حينا، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أصلح بينهم، فلما كان بعد ذلك، فاتخر منهم رجلان أحدهما ثعلبة بن غنيمة من الأوس، والآخر سعد بن زرارة من بني الخزرج من بني سلمة بن جشم، فجرى الحديث بينهما فغضبا، فقال الخزرجي: أما والله لو تأخر الإسلام عنا وقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا لقتلنا سادتكم، واستعبدنا أبناءكم، ونكحنا نساءكم بغير مهر، فقال الأوسي: قد كان الإسلام متأخرا زمانا طويلا، فهلا فعلتم، فقد ضربناكم بالمرهفات حتى أدخلناكم الديار، وذكرا الأشعار والموتى، وافتخرا وانتسبا، حتى كان بينهما دفع وضرب بالأيدي والسعف والنعال، فغضبا فناديا، فجاءت الأوس إلى الأوس، والخزرج إلى الخزرج بالسلاح، وأسرع بعضهم إلى بعض بالرماح، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فركب حمارا وأتاهم، فلما أن عاينهم ناداهم: * (يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله حق تقاته) * * (ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) * [آية: 102]، يعني معتصمين بالتوحيد. * (واعتصموا بحبل الله) *، يعني بدين الله، * (جميعا ولا تفرقوا) *، يعني ولا تختلفوا في الدين كما اختلف أهل الكتاب، * (واذكروا نعمت الله عليكم) * الإسلام، * (إذ كنتم أعداء) * في الجاهلية يقتل بعضكم بعضا، * (فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا) *، يعني برحمته إخوانا في الإسلام، * (وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها) *، يقول للمشركين: الميت منكم في النار، والحي منكم على حرف النار، إن مات دخل النار، * (فأنقذكم منها) *، يعني من الشرك إلى الإيمان، * (كذلك) *، يعني هكذا، * (يبين الله لكم آياته) *، يعني علاماته في هذه النعمة، أعداء في الجاهلية، إخوانا في الإسلام، * (لعلكم) *، لكي * (تهتدون) * [آية: 103]، فتعرفوا علاماته في هذه النعمة.
184 فلما سمع القوم القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم تحاجزوا، ثم عانق بعضهم بعضا، وتناول بخدود بعض بالتقبيل والالتزام، يقول جابر بن عبد الله، وهو في القوم: لقد اطلع إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أحد هو أكره طلعة إلينا منه لما كنا هممنا به، فلما انتهى إليهم النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ' اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم '، * (ولتكن منكم أمة) *، يعني عصبة، * (يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) * [آية: 104]. تفسير سورة آل عمران آية [105 - 108] فوعظ الله المؤمنين لكي يتفرقوا ولا يختلفوا كفعل أهل الكتاب، فقال: * (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا) * في الدين بعد موصى، فصاروا أديانا * (من بعد ما جاءهم البينات) *، يعني البيان، * (وأولئك لهم عذاب عظيم) * [آية: 105]، * (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم) * بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث، * (فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) * [آية: 106]، * (وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة) *، يعني في جنة * (الله هم فيها خالدون) * [آية: 107]، يعني لا يموتون، * (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما للعالمين) * [آية: 108]، فيعذب على غير ذنب. تفسير سورة آل عمران آية [109 - 112] * (ولله ما في السماوات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور) * [آية: 109]، يعني تصير
185 أمور العباد إليه في الآخرة، وافتخرت الأنصار، فقالت الأوس: منا خزيمة بن ثابت صاحب الشهادتين، ومنا حنظلة غسيل الملائكة، ومنا عاصم بن ثابت بن الأفلح الذي حمت رأسه الدبر، يعني الزنابير، ومنا سعد بن معاذ الذي اهتز العرش لموته، ورضى الله عز وجل بحكمه، والملائكة في أهل قريظة، وقالت الخزرج: منا أربعة أحكموا القرآن، أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد، ومنا سعد بن عبادة صاحب راية الأنصار وخطيبهم الذي ناحت الجن عليه، فقالوأ: * نحن قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة * فرميناه بسهمين فلم تخط فؤاده * قوله سبحانه: * (كنتم خير أمة أخرجت للناس) *، يعني خير الناس للناس، وذلك أن مالك بن الضيف، ووهب بن يهوذا قالا لعبد الله بن مسعود، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حنيفة: إن ديننا خير مما تدعونا إليه، فأنزل الله عز وجل فيهم: * (كنتم خير أمة أخرجت للناس) * في زمانكم كما فضل بني إسرائيل في ومانهم، * (تأمرون) * الناس * (بالمعروف) *، يعني بالإيمان، * (وتنهون عن المنكر وتؤمنون) * بتوحيد * (بالله) * وتنهوهم عن الظلم وأنتم خير الناس للناس، وغيركم من أهل الأديان لا يأمرون أنفسهم ولا غيرهم بالمعروف، ولا ينهونهم عن المنكر، ثم قال: * (ولو آمن) *، يعني ولو صدق * (أهل الكتاب) *، يعني اليهود بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الحق، * (لكان خيرا لهم) * من الكفر، ثم قال: * (منهم المؤمنون) *، يعني عبد الله بن سلام وأصحابه، * (وأكثرهم الفاسقون) * [آية: 110]، يعني العاصين، يعني اليهود. * (لن يضروكم إلا أذى) *، وذلك أن رؤساء اليهود: كعب بن مالك، وشعبة، وبحري، ونعمان، وأبا ياسر، وأبا نافع، وكنانة بن أبي الحقيق، وابن صوريا، عمدوا إلى مؤمنيهم فآذوهم لإسلامهم، وهم عبد الله بن سلام وأصحابه، فأنزل الله عز وجل: * (لن يضروكم) * اليهود * (إلا أذى) * باللسان، * (وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون) * [آية: 111]. ثم أخبر عن اليهود، فقال سبحانه: * (ضربت عليهم الذلة) *، يعني المذلة، * (أين ما ثقفوا) *، يعني وجدوا، * (إلا بحبل من الله وحبل من الناس) *، يقول: لا يأمنوا حيث ما توجهوا إلا بعهد من الله، وعهد من الناس، يعني النبي صلى الله عليه وسلم وحده، * (وباءو بغضب من
186 الله) *، يعني استوجبوا الغضب من الله، * (وضربت عليهم) * (الذلة و) * (المسكنة) *، يعني الذل والفقر، * (ذلك) * الذي نزل بهم * (بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك) * الذي أصابهم * (بما عصوا وكانوا يعتدون) * [آية: 112] في دينهم بما خبر عنهم. تفسير سورة آل عمران آية [113 - 115] فقال سبحانه: * (ليسوا سواء من أهل الكتاب) *، وذلك أن اليهود قالوا لابن سلام وأصحابه: لقد خسرتم حين استبدلتم بدينكم دينا غيره، وقد عاهدتم الله بعهد ألا تدينوا إلا بدينكم، فقال الله عز وجل: * (ليسوا سواء) *، يقول: ليس كفار اليهود والذين في الضلالة بمنزلة ابن سلام وأصحابه الذين هم على دين الله، منهم * (أمة) * عصابة * (قائمة) * بالحق على دين الله عادلة، * (يتلون آيات الله) *، يعني يقرءون كلام الله * (آناء الليل) *، يعني ساعات الليل، * (وهم يسجدون) * [آية: 113]، يعني يصلون بالليل. * (يؤمنون بالله واليوم الآخر) *، يعني يصدقون بتوحيد الله والبعث الذي فيه جزاء الأعمال، * (ويأمرون بالمعروف) *، يعني إيمانا بمحمد صلى الله عليه وسلم، * (وينهون عن المنكر) *، يعني عن تكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم، * (ويسارعون في الخيرات) *، يعني شرائع الإسلام، * (وأولئك من الصالحين) * [آية: 114]، * (وما يفعلوا من خير فلن يكفروه) *، فلن يضل عنهم، بل يشكر ذلك لهم، * (والله عليم بالمتقين) * [آية: 115]، يعني ابن سلام وأصحابه. تفسير سورة آل عمران آية [116 - 117] فقال: * (إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك
187 أصحاب النار هم فيها خالدون) * [آية: 116]، ثم ذكر نفقة سفلة اليهود من الطعام والثمار على رؤوس اليهود كعب بن الأشرف وأصحابه، يريدون بها الآخرة، فضرب الله عز وجل مثلا لنفقاتهم، فقال: * (مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا) * / وهم كفار، يعني سفلة اليهود / * (كمثل ريح فيها صر) *، يعني بردا شديدا، * (أصابت) * الريح الباردة، * (حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته) *، فلم يبق منه شيئا، كما أهلكت الريح الباردة، * (حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته) *، فلم يبق منه شيئا، كما أهلكت الريح الباردة حرث الظلمة، فلم ينفعهم حرثهم، فكذلك أهلك الله نفقات سفلة اليهود، ومنهم كفار مكة التي أرادوا بها الآخرة، فلم تنفعهم نفقاتهم، فذلك قوله عز وجل: * (وما ظلمهم الله) * حين أهلك نفقاتهم، فلم نتقبل منهم، * (ولكن أنفسهم يظلمون) * [آية: 117]. تفسير سورة آل عمران آية [118 - 120] * (يا أيها الذين ءامنوا) *، يعني المنافقين عبد الله بن أبي، ومالك بن دخشم الأنصاري وأصحابه، دعاهم اليهود إلى دينهم، منهم: إصبغ ورافع ابني حرملة، وهما رؤوس اليهود، فزينوا لهما ترك الإسلام، حتى أرادوا ان يظهروا الكفر، فأنزل الله عز وجل يحذرهما ولاية اليهود، * (يا أيها الذين ءامنوا) * * (لا تتخذوا بطانة) *، يعني اليهود، * (من دونكم) *، يعني من دون المؤمنين، * (لا يألونكم خبالا) *، يعني غيا، * (ودوا ما عنتم) *، يعني ما أثمتم لدينكم في دينكم، * (قد بدت البغضاء) *، يعني ظهرت البغضاء، * (من أفواههم) *، يعني قد ظهرت العداوة بألسنتهم، * (وما تخفى صدورهم) *، يعني ما تسر قلوبهم من الغش، * (أكبر) * مما بدت بألسنتهم، * (قد بينا لكم الآيات) *، يقول: ففي هذا بيان لكم منهم، * (إن كنتم تعقلون) * [آية: 118]. ثم قال سبحانه: * (هأنتم) * معشر المؤمنين * (أولاء تحبونهم) * تحبون هؤلاء اليهود في التقديم لما أظهروا من الأيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، * (ولا يحبونكم) *؛ لأنهم ليسوا على دينكم، * (وتؤمنون بالكتاب كله) *، كتاب محمد صلى الله عليه وسلم والكتب كلها التي
188 كانت قبله، * (وإذا لقوكم قالوا ءامنا) *، يعني صدقنا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، وهم كذبة، يعني اليهود، مثلها في المائدة: * (وإذا جاؤوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر) * [المائدة: 61] إلى آخر الآية، ثم قال: * (وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل) *، يعني أطراف الأصابع، * (من الغيظ) * الذي في قلوبهم، ودوا لو وجدوا ريحا يركبونكم بالعداوة، * (قل موتوا بغيظكم) *، يعني اليهود، * (إن الله عليم بذات الصدور) * [آية: 119]، يعني يعلم ما في قلوبهم من العداوة والغش للمؤمنين. ثم أخبر عن اليهود، فقال سبحانه: * (إن تمسسكم حسنة) *، يعني الفتح والغنيمة يوم بدر، * (تسؤهم وإن تصبكم سيئة) *، القتل والهزيمة يوم أحد، * (يفرحوا بها) *، ثم قال للمؤمنين: * (وإن تصبروا) * على أمر الله، * (وتتقوا) * معاصيه * (لا يضركم كيدهم شيئا) *، يعني قولهم، * (إن الله بما يعملون محيط) * [آية: 120]، أحاط علمه بأعمالهم. تفسير سورة آل عمران من آية [121 - 125] * (وإذ غدوت من أهلك) * على راحتك يا محمد يوم الأحزاب، * (تبوئ المؤمنين) *، يعني توطن لهم، * (مقاعد للقتال) * في الخندق قبل أن يستبقوا إليه ويستعدوا للقتال، * (والله سميع عليم) * [آية: 121]، * (إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا) *، يعني ترك المركز، منهم بنو حارثة بن الحارث، ومنهم أوس بن قيظي، وأبو عربة بن أوس بن يامين، وبنو سلمة بن جشم، وهما حيان من الأنصار، * (والله وليهما) * حين عصمها فلم يتركا المركز، وقالوا: ما يسرنا أنا لم نهم بالذي هممنا إذا كان الله ولينا، * (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) * [آية: 122]، يعني فليثق المؤمنون به. * (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة) *، وأنتم قليل، يذكرهم النعم، * (فاتقوا الله) * ولا تعصوه، * (لعلكم تشكرون) * [آية: 123] ربكم في النعم، * (إذ تقول) * يا محمد
189 * (للمؤمنين) * يوم أحد: * (ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة ءالاف من الملائكة منزلين) * [آية: 124] عليكم من السماء، وذلك حين سألوا المدد، فقال سبحانه: * (بلي) * يمددكم ربكم بالملائكة، * (إن تصبروا) * لعدوكم * (وتتقوا) * معاصيه، * (ويأتوكم من فورهم هذا) *، يعني من وجههم هذا، * (يمددكم ربكم بخمسة ءالاف من الملائكة) *، فزادهم ألفين * (مسومين) * [آية: 125]، يعني معلمين بالصوف الأبيض في نواصي الخيل، وأذنابها عليها البياض، معتمين بالبياض، وقد أرخوا أطراف العمائم بين أكتافهم. تفسير سورة آل عمران من آية [126 - 127] * (وما جعله الله) *، يقول: وما جعل المدد من الملائكة * (إلا بشرى لكم ولتطمئن) *، يعني ولكي تسكن * (قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله) *، يقول: النصر ليس بقلة العدد ولا بكثرته، ولكن النصر من عند الله * (العزيز) *، يعني المنيع في ملكه، * (الحكيم) * [آية: 126] في أمره حكم النصر للمؤمنين، نظيرها في الأنفال، * (ليقطع) * لكي يقطع * (طرفا من الذين كفروا) * من أهل مكة، * (أو يكبتهم) *، يعني يخزيهم، * (فينقلبوا) * إلى مكة * (خائبين) * [آية: 127]، لم يصيبوا ظفرا ولا خيرا، فلم يصبر المؤمنون وتركوا المركز وعصوا، فرفع عنهم المدد، وأصابتهم الهزيمة بمعصيتهم، فيها تقديم. تفسير سورة آل عمران [آية 128] * (ليس لك) * يا محمد * (من الأمر شيء) *، وذلك أن سبعين رجلا من أصحاب الصفة فقراء، كانوا إذا أصابوا طعاما فشبعوا منه تصدقوا بفضله، ثم إنهم خرجوا إلى الغزو محتسبين إلى قتال قبيلتين من بني سليم: عصبة وذكوان، فقالتلوهم فقتل السبعون جميعا، فشق على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قتلهم، فدعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم أربعين يوما في صلاة الغداة، فأنزل الله تعالى: * (ليس لك من الأمر شيء) * * (أو يتوب عليهم) *، فيهديهم لدينه، * (أو يعذبهم) * على كفرهم، * (فإنهم ظالمون) * [آية: 128]. تفسير سورة آل عمران آية [129]
190 ثم عظم نفسه تعالى، فقال: * (ولله ما في السماوات وما في الأرض) * من الخلق عبيدة وفي ملكه، * (يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم) * [آية: 129] في تأخير العذاب عن هذين الحيين من بني سليم. تفسير سورة آل عمران من آية [130 - 132] * (يا أيها الذين ءامنوا لا تأكلوا الربوا أضعافا مضاعفة) *، وذلك أن الرجل كان إذا حل ماله طلبه من صاحبه، فيقول المطلوب: أخر عني وأزيدك على مالك، فيفعلون ذلك، فوعظهم الله تعالى، وقال: * (واتقوا الله) * في الربا * (لعلكم تفلحون) * [آية: 130]، ثم خوفهم، فقال: * (واتقوا النار التي أعدت للكافرين) * [آية: 131]، * (وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون) * [آية: 132]، يعني لكي ترحموا فلا تعذبوا. تفسير سورة آل عمران من آية [133 - 134] ثم رغبهم، فقال سبحانه: * (وسارعوا) * بالأعمال الصالحة * (إلى مغفرة) * لذنوبكم * (من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض) *، يقول: عرض الجنة كعرض سبع سماوات وسبع أرضين جميعا لو ألصق بعضها إلى بعض، * (أعدت للمتقين) * [آية: 133]، ثم نعتهم، فقال: * (الذين ينفقون في السراء والضراء) *، يعني في اليسر والعسر، وفي الرخاء والشدة، * (والكاظمين الغيظ) *، وهو الرجل يغضب في أمر، فإذا فعله وقع في معصية، فيكظم الغيظ ويغفر، فذلك قوله: * (والعافين عن الناس) *، ومن يفعل هذا فقد أحسن، فذلك قوله: * (والله يحب المحسنين) * [آية: 134]، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ' إني أرى هؤلاء في أمتي قليلا، وكانوا أكثر في الأمم الخالية '. تفسير سورة آل عمران من آية [135 - 136]
191 * (والذين إذا فعلوا فاحشة) *، وذلك أن رجلا خرج غازيا وخلف رجلا في أهله وولده، فعرض له الشيطان في أهله، فهوى المرأة، فكان منه ما ندم، فاتى أبا بكر الصديق، رضي الله عنه، فقال: هلكت، قال: وما هلاكك، قال: ما من شيء يناله الرجل من المرأة، إلا وقد نلته غير الجماع، فقال أبو بكر، رضي الله عنه: ويحك، أما علمت أن الله عز وجل يغار للغازي ما لا يغار للقاعد، ثم لقى عمر، رضي الله عنه، فأخبره، فقال له مثل مقالة أبى بكر، رضي الله عنه، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له مثل مقالتهما، فأنزل الله عز وجل فيه: * (والذين إذا فعلوا فاحشة) *، يعني الزنا * (أو ظلموا أنفسهم) * ما كان نال منها دون الزنا، * (ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا) * يقيموا * (على ما فعلوا وهم يعلمون) * [آية: 135] أنها معصية. فمن استغفر ف * (أولئك جزاؤهم مغفرة) * لذنوبهم * (من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها) *، يعني مقيمين في الجنان لا يموتون، * (ونعم أجر العاملين) * [آية: 136]، يعني التائبين من الذنوب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ' ظلمت نفسك، فاستغفر الله وتب إليه '، فاستغفر الرجل، واستغفر له النبي صلى الله عليه وسلم، نزلت هذه الآية في عمر بن قيس، ويكنى أبا مقبل، وذلك حين أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد صدمه حائط، وإذا الدم يسيل على وجهه عقوبة لما فعل، فانتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأذن بلال بالصلاة، صلاة الأولى، فسأل أبو مقبل النبي صلى الله عليه وسلم ما توبته، فلم يجبه، ودخل المسجد وصلى الأولى، ودخل أبو مقبل وصلى معه، فنزل جبريل، عليه السلام، بتوبته، * (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات) *، يعني الصلوات الخمس * (يذهبن السيئات) * [هود: 114]، يعني الذنوب التي لم تختم بالنار، وليس عليه حد في الزنا وما بين الحدين فهو اللمم، والصلوات الخمس تكفر هذه الذنوب، وكان ذنب أبي مقبل من هذه الذنوب، فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال لأبي مقبل: ' أما توضأت قبل أن تأتينا؟ '، قال: بلى، قال: ' أما شهدت معنا الصلاة؟ '، قال: بلى، قال: ' فإن الصلاة قد كفرت ذنبك '، وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية. تفسير سورة آل عمران من آية [137 - 139 -]
192 * (قد خلت من قبلكم سنن) *، يعني عذاب الأمم الخالية، فخوف هذه الأمم بعذاب الأمم ليعتبروا فيوحدوه، قوله سبحانه: * (فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) * [آية: 137] للرسل بالعذاب، كان عاقبتهم الهلاك، ثم وعظهم، فقال سبحانه: * (هذا) * القرآن * (بيان للناس) * من العمى * (وهدى) * من الضلالة * (وموعظة) * من الجهل * (للمتقين) * [آية: 138]، * (ولا تهنوا) * ولا تضعفوا عن عدوكم * (ولا تحزنوا) * على ما أصابكم من القتل والهزيمة يوم أحد * (وأنتم الأعلون) *، يعني العالين * (إن كنتم مؤمنين) * [آية: 139]، يعني إن كنتم مصدقين. تفسير سورة آل عمران [آية 140] ثم عزاهم، فقال: * (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله) *، يعني إن تصبكم جراحات يوم أحد فقد مس القوم، يعني كفار قريش، قرح مثله، يقول: قد أصاب المشركين جراحات مثله يوم بدر، وذلك قوله سبحانه: * (وتلك الأيام نداولها بين الناس) * يوم لكم ببدر، ويوم عليكم بأحد، مرة للمؤمنين ومرة للكافرين، بديل للكافرين من المؤمنين، ويبتلى المؤمنين بالكافرين، * (وليعلم الله) *، يعني وليرى إيمان * (الذين آمنوا) * منكم عند البلاء فيتبين إيمانهم أيشكوا في دينهم أم لا، * (ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين) * [آية: 140]، يعني المنافقين. تفسير سورة آل عمران آية [141 - 144] * (وليمحص الله الذين آمنوا) * بالبلاء ليرى صبرهم، * (ويمحق الكافرين [آية:
193 141]، يعني ويذهب دعوة الكافرين الشرك، يعني المنافقين، فيبين نفاقهم وكفرهم، ثم بين للمؤمنين أنه نازل بهم الشدة والبلاء في ذات الله عز وجل، فقال: * (أم حسبتم) * يعني أحسبتم، وذلك أن المنافقين قالوا للمؤمنين يوم أحد بعد الهزيمة: لم تقتلون أنفسكم، وتهلكون أموالكم، فإن محمدا لو كان نبيا لم يسلط عليه القتل؟ قال المؤمنون: بلى، من قتل منا دخل الجنة، فقال المنافقون: لم تمنون أنفسكم بالباطل؟ فأنزل الله تعالى: * (أم حسبتم) * معشر المؤمنين * (أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله) *، يعني ولما يرى الله * (الذين جاهدوا منكم) * في سبيل الله * (و) * لما * (ويعلم) *، يعني يرى * (الصابرين) * [آية: 142] عند البلاء، وليمحص، أي يقول: إذا جاهدوا وصبروا رأى ذلك منهم، وإذا لم يفعلوا لم ير ذلك منهم. * (ولقد كنتم تمنون الموت) *، وذلك حين أخبر الله عز وجل عن قتلى بدر، وما هم فيه من الخير، قالوا: يا نبي الله، أرنا يوما كيوم بدر، فأراهم الله عز وجل يوم أحد، فانهزموا فعاتبهم الله عز وجل، فقال سبحانه: * (ولقد كنتم تمنون الموت) * * (من قبل أن تلقوه) *، يعني القتال من قبل أن يلقوه، * (فقد رأيتموه وأنتم تنظرون) * [آية: 143]، وقالوا يومئذ: إن محمدا صلى الله عليه وسلم قد قتل، فقال بشر بن النضر الأنصاري، وهو عم أنس بن مالك: إن كان محمدا صلى الله عليه وسلم قد قتل، فإن رب محمد حي، أفلا تقاتلون على ما قاتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تلقوا الله عز وجل. ثم قال النضر: اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، ثم شد عليهم بسيفه فقتل منهم من قتل، وقال المنافقون يومئذ: ارجعوا إلى إخوانكم فاستأمنوهم، فارجعوا إلى دينكم الأول، فقال النضر عند قول المنافقين تلك المقالة، فأنزل الله عز وجل: * (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) *، يقول: وهل محمد، عليه السلام، لو قتل إلا كمن قتل قبله من الأنبياء، * (افإين مات) * محمد * (أو قتل انقلبتم على أعقابكم) *، يعني رجعتم إلى دينكم الأول الشرك، ثم قال: * (ومن ينقلب على عقبيه) *، يقول: ومن يرجع إلى الشرك بعد الإيمان، * (فلن يضر الله شيئا) * بارتداده من الإيمان إلى الشرك، إنما يضر بذلك نفسه، * (وسيجزي الله الشاكرين) *
194 [آية: 144]، يعني الموحدين لله في الآخرة. تفسير سورة آل عمران آية [145 - 146] * (وما كان لنفس أن تموت) *، يعني أن تقتل، * (إلا بإذن الله) * حتى يأذن الله في موته، * (كتابا مؤجلا) * في اللوح المحفوظ، * (ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها) *، يعني الذين تركوا المركز يوم أحد وطلبوا الغنيمة، وقال سبحانه: * (ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها) *، الذين ثبتوا مع أميرهم عبد الله بن جبير الأنصاري من بني عمرو حتى قتلوا، * (وسنجزي الشاكرين) * [آية: 145]، يعني الموحدين في الآخرة. ثم أخبر بما لقيت الأنبياء والمؤمنون قبلهم يعزيهم ليصبروا، فقال سبحانه: * (وكأين من نبي) *، وكم من نبي * (قاتل معه) * قبل محمد * (ربيون كثير) *، يعني الجمع الكثير، * (فما وهنوا) *، يعني فما عجزوا لما نزل بهم من قبل أنبيائهم وأنفسهم، * (لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا) *، يعني خضعوا لعدوهم، * (وما استكانوا) *، يعني وما استسلموا، يعني الخضوع لعدوهم بعد قتل نبيهم، فصبروا * (والله يحب الصابرين) * [آية: 146]. تفسير سورة آل عمران آية [147 - 148] * (وما كان قولهم) * عند قتل أنبيائهم * (إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا) *، يعني الخطايا الكبار في أعمالنا، * (وثبت أقدامنا) * عند اللقاء حتى لا تزل، * (وانصرنا على القوم الكافرين) * [آية: 147]، أفلا تقولون كما قالوا، وتقاتلون كما قاتلوا، فتدركون من الثواب في الدنيا والآخرة مثل ما أدركوا، فذلك قوله عز وجل: * (فآتاهم الله ثواب الدنيا) *، يقول: أعطاهم النصر والغنيمة في الدنيا، * (وحسن ثواب
195 الآخرة) * جنة الله ورضوانه، فمن فعل ذلك فقد أحسن، فذلك قوله عز وجل: * (والله يحب المحسنين) * [آية: 148]. تفسير سورة آل عمران آية [149 - 150] وأنزل الله عز وجل في قول المنافقين للمؤمنين عند الهزيمة: ارجعوا إلى إخوانكم فأدخلوا في دينهم، فقال سبحانه: * (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا) *، يعني المنافقين في الرجوع إلى أبي سفيان، * (يردوكم على أعقابكم) * كفارا بعد الإيمان، * (فتنقلبوا خاسرين) * [آية: 149] إلى دينكم الأول، * (بل الله مولاكم) *، يعني يقول: فأطيعوا الله مولاكم، يعني وليكم، * (وهو خير الناصرين) * [آية: 150] من أبي سفيان وأصحابه ومن معه من كفار العرب يوم أحد. تفسير سورة آل عمران آية [151 - 152] * (سنلقى في قلوب الذين كفروا الرعب) *، فانهزموا إلى مكة من غير شيء، * (بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا) *، يعني ما لم ينزل به كتابا فيه حجة لهم بالشرك، * (ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين) * [آية: 151]، يعني مأوى المشركين النار، * (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه) *، يعني تقتلونهم بإذنه يوم أحد، ولكم النصر عليهم، * (حتى إذا فشلتم) *، يعني ضعفتم عن ترك المركز، * (وتنازعتم في الأمر وعصيتم) * كان تنازعهم أنه قال بعضهم: ننطلق فنصيب الغنائم، وقال بعضهم: لا نبرح المركز كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، * (من بعد ما أراكم ما تحبون) * من النصر على عدوكم، فقتل أصحاب الألوية من المشركين، * (منكم من يريد الدنيا) * الذين طلبوا الغنيمة، * (ومنكم من يريد
196 الآخرة) * الذين ثبتوا في المركز حتى قتلوا، * (ثم صرفكم عنهم) * (من بعد أن أظفركم عليهم) * (ليبتليكم) * بالقتل والهزيمة، * (ولقد عفا عنكم) * حيث لم تقتلوا جميعا عقوبة بمعصيتكم، * (والله ذو فضل) * في عقوبته * (على المؤمنين) * [آية: 152]، حيث لم يقتلوا جميعا. تفسير سورة آل عمران آية [153] * (إذ تصعدون) * من الوادي إلى أحد، * (ولا تلوون على أحد) *، يعني بأحد النبي صلى الله عليه وسلم، * (والرسول يدعوكم في أخراكم) *، يعني يناديكم من ورائكم: يا معشر المؤمنين، أنا رسول الله، ثم قال: * (فأثابكم غما بغم) *، وذلك أنهم كانوا يذكرون فيما بينهم بعد الهزيمة ما فاتهم من الفتح والغنيمة، وما أصابهم بعد ذلك من المشركين، وقتل إخوانهم، فهذا الغم الأول، والغم الآخر إشراف خالد بن الوليد عليهم من الشعب في الخيل، فلما أن عاينوه ذعرهم ذلك وأنساهم ما كانوا فيه من الغم الأول والحزن، فذلك قوله سبحانه: * (لكيلا تحزنوا على ما فاتكم) * من الفتح والغنيمة، * (ولا ما أصابكم) * من القتل والهزيمة، * (والله خبير بما تعملون) * [آية: 153]. تفسير سورة آل عمران آية [154] * (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا) *، يعني من بعد غم الهزيمة أمنة نعاسا، وذلك أن الله عز وجل ألقى على بعضهم النعاس فذهب غمهم، فذلك قوله عز وجل: * (يغشى) * (النعاس) * (طائفة منكم) * نزلت في سبعة نفر، في: أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، والحارث بن الصمة، وسهل بن ضيف
197 ورجلين من الأنصار، رضي الله عنهم، ثم قال سبحانه: * (وطائفة قد أهمتهم أنفسهم) *، يعني الذين لم يلق عليهم النعاس، * (يظنون بالله غير الحق) * كذبا يقول المؤمنون: إن محمدا صلى الله عليه وسلم قد قتل، * (ظن الجاهلية) *، يقول: كظن جهال المشركين أبو سفيان وأصحابه، وذلك أنهم قالوا: إن محمدا قد قتل، * (يقولون هل لنا من الأمر من شيء) *، هذا قول معتب بن قشير، يعني بالأمر النصر، يقول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: * (قل إن الأمر) *، يعني النصر * (كله لله) *. ثم قال سبحانه: * (يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا) *، يقول: يسرون في قلوبهم ما لا يظهرون لك بألسنتهم، والذي أخفوا في أنفسهم أنهم قالوا: لو كنا في بيوتنا ما قتلنا ها هنا، قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: * (قل) * لهم يا محمد: * (لو كنتم في بيوتكم لبرز) * كما تقولون لخرج من البيوت * (الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم) *، فمن كتب عليه القتل لا يموت أبدا، ومن كتب عليه الموت لا يقتل أبدا، * (وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور) * [آية: 154]، يقول: الله عليم بما في القلوب من الإيمان والنفاق، والذين أخفوا في أنفسهم قولهم: إن محمدا قد قتل، وقولهم: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا، يعني هذا المكان، فهذا الذي قال الله سبحانه لهم: * (قل) * لهم يا محمد: * (لو كنتم في بيوتكم) * كما تقولون * (لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم) *. تفسير سورة آل عمران آية 155 قوله سبحانه: * (إن الذين تولوا منكم) *، يعني انهزموا عن عدوهم مدبرين منهزمين * (يوم التقى الجمعان) *، جمع المؤمنين وجمع المشركين يوم أحد، * (إنما استزلهم الشيطان) *، يعني استفزهم الشيطان * (ببعض ما كسبوا) * من الذنوب، يعني بمعصيتهم النبي صلى الله عليه وسلم وتركهم المركز، منهم: عثمان بن عفان، ورافع بن المعلى، وخارجة بن زيد، وخذيفة بن عبيد بن ربيعة، وعثمان بن عقبة، * (ولقد عفا الله عنهم) * حين لم يقتلوا جميعا عقوبة بمعصيتهم النبي صلى الله عليه وسلم، * (إن الله غفور) * لذنوبهم * (حليم) * [آية: 155] عنهم في هزيمتهم فلم يعاقبهم
198 تفسير سورة آل عمران آية [156] ثم وعظ الله المؤمنين ألا يشكوا كشك المنافقين، فقال سبحانه: * (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا) * في القول * (كالذين كفروا) *، يعني المنافقين، * (وقالوا لإخوانهم) *، يعني عبد الله بن أبي، وذلك أنه قال يوم أحد لعبد الله بن رباب الأنصاري وأصحابه: * (إذا ضربوا) *، يعني ساروا * (في الأرض) * تجارا * (أو كانوا غزى) جمع غاز، * (لو كانوا عندنا ما ماتوا) *، يعني التجار، * (وما قتلوا) *، يعني الغزاة، قال عبد الله بن أبي ذلك حين انهزم المؤمنون وقتلوا، يقول الله عز وجل: * (ليجعل الله ذلك) * القتل * (حسرة) *، يعني حزنا * (في قلوبهم والله يحي) * (الموتى) * (ويميت) * الأحياء لا يملكهما غيره، وليس ذلك بأيديهم، * (والله بما تعملون بصير) * [آية: 156]. تفسير سورة آل عمران من [157 - 159] * (ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم) * في غير قتل * (لمغفرة من الله) * لذنوبكم * (ورحمة خير مما يجمعون) * [آية: 157] من الأموال، ثم حذرهم القيامة، فقال * (ولئن متم) * في غير قتل * (أو قتلتم) * (في سبيله) * (لإلى الله تحشرون) * [آية: 158] فيجزيكم بأعمالكم، * (فبما رحمة من الله لنت لهم) *، فبرحمة الله كان إذ لنت لهم في القول، ولم تسرع إليهم بما كان منهم يوم أحد، يعني المنافقين، * (ولو كنت فظا) * باللسان * (غليظ القلب لانفضوا من حولك) * لتفرقوا عنك، يعني المنافقين، * (فاعف عنهم) *، يقول: اتركهم * (واستغفر لهم) * لما كان منهم يوم أحد، * (وشاورهم في الأمر) *، وذلك أن العرب في الجاهلية كان إذا أراد سيدهم أن يقطع أمرا دونهم ولم
199 يشاورهم شق ذلك عليهم، فأمر الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم أن يشاورهم في الأمر إذا أراد، فإن ذلك أعطف لقلوبهم عليه، وأذهب لضغائنهم، * (فإذا عزمت) *، يقول: فإذا فرق الله لك الأمر بعد المشاورة فامض لأمرك، * (فتوكل على الله) *، يقول: فثق بالله، * (إن الله يحب المتوكلين) * [آية: 159] عليه، يعني الذين يثقون به. تفسير سورة آل عمران من [160 - 161] * (إن ينصركم الله) *، يعني يمنعكم، * (فلا غالب لكم) *، يعني لا يهزمكم أحد، * (وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده) *، يعني يمنعكم من بعد الله، * (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) * [آية: 160]، * (وما كان لنبي أن يغل) *، يعني أن يخون في الغنيمة يوم أحد ولا يجور في قسمته في الغنيمة، نزلت في الذين طلبوا الغنيمة يوم أحد، وتركوا المركز، وقالوا: إنا نخشى أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم: من أخذ شيئا فهو له، ونحن ها هنا وقوف، فلما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم قال: ' ألم أعهد إليكم ألا تبرحوا من المركز حتى يأتيكم أمري؟ '، قالوا: تركنا بقية إخواننا وقوفا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ' ظننتم أنا نغل '، فنزلت * (وما كان لنبي أن يغل) *، ثم خوف الله عز وجل من يغل، فقال: * (ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس) * بر وفاجر * (وما كسبت) * من خير أو شر، * (وهم لا يظلمون) * [آية: 161] في أعمالهم. تفسير سورة آل عمران من [162 - 164] ثم قال سبحانه: * (أفمن اتبع رضوان الله) *، يعني رضي ربه عز وجل، ولم يغلل، * (كمن باء بسخط من الله) *، يعني استوجب السخط من الله عز وجل في الغلول، ليسوا سواء، ثم بين مستقرهما، فقال: * (ومأواه) *، يعني ومأوى من غل * (جهنم وبئس المصير) * [آية: 162]، يعني أهل الغلول.
200 ثم ذكر سبحانه من لا يغل، فقال: * (هم) *، يعني لهم * (درجات) *، يعني لهم فضائل * (عند الله والله بصير بما يعملون) * [آية: 163] من غل منكم ومن لم يغل فهو بصير بعمله، * (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم آياته) *، يعني القرآن، * (ويزكيهم) *، يعني ويصلحهم، * (ويعلمهم الكتاب) *، يعني القرآن * (والحكمة) *، يعني المواعظ التي في القرآن من الحلال والحرام والسنة، * (وإن كانوا من قبل) * أن يبعث محمدا صلى الله عليه وسلم * (لفي ضلال مبين) * [آية: 164]، يعني بين مثلها في الجمعة. تفسير سورة آل عمران آية [165] * (أو لما أصابتكم مصيبة) *، وذلك أن سبعين رجلا من المسلمين قتلوا يوم أحد يوم السبت في شوال لإحدى عشرة ليلة خلت منه، وقتل من المشركين قبل ذلك، بسنة في سبع عشرة ليلة خلت من رمضان ببدر سبعين رجلا، وأسروا سبعين رجلا من المشركين، فذلك قوله سبحانه: * (قد أصبتم مثليها) * من المشركين يوم بدر بمعصيتكم النبي صلى الله عليه وسلم وترككم المركز، * (قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير) * [آية: 165] من النصرة والهزيمة قدير. تفسير سورة آل عمران من [166 - 167] * (وما أصابكم) * من القتل والهزيمة بأحد * (يوم التقى الجمعان) * جمع المؤمنين وجمع المشركين، * (فبإذن الله) * أصابكم ذلك، ثم قال، * (وليعلم) *، يقول: وليرى إيمانكم يعني * (المؤمنين) * [آية: 166] صبرهم، * (وليعلم) *، يعني وليرى * (الذين نافقوا) * في إيمان أهل الشك عند البلاء والشدة، يعني عبد الله بن أبي بن ملك الأنصاري وأصحابه المنافقين، * (وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا) * المشركين عن دياركم وأولادكم، وذلك أن عبد الله بن رباب الأنصاري يوم أحد دعا عبد الله بن أبي ملك يوم أحد للقتال، فقال عبد الله بن أبي: * (قالوا لو نعلم قتالا) *، يقول: لو نعلم أن
201 يكون اليوم قتالا * (لاتبعنكم) *، يقول الله عز وجل: لو استيقنوا بالقتال ما تبعوكم، * (هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون) * [آية: 167]، يعني من الكذب. تفسير سورة آل عمران آية [168] فرجع يومئذ عبد الله بن أبي في ثلاثمائة ولم يشهدوا القتال، فقال عبد الله بن رباب وأصحابه: أبعدكم الله، سيغني الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن نصركم، فلما انهزم المؤمنون وقتلوا يومئذ، قال عبد الله بن أبي: لو أطاعونا ما قتلوا، يعني عبد الله بن رباب وأصحابه، فأنزل الله عز وجل في قول عبد الله بن أبي: * (الذين قالوا لإخوانهم) * في النسب والقرابة، وليسوا بإخوانهم في الدين، ولا الولاية، كقوله سبحانه: * (وإلى ثمود أخاهم صالحا) * [هود: 61]، ليس بأخيهم في الدين ولا في الولاية، ولكن أخاهم في النسب والقرابة، * (وقعدوا) * عن القتال، * (لو أطاعونا ما قتلوا) * فأوجب الله لهم الموت صفرة قمأة والإيجاب لمن كرهوا قتله من أقربائهم، فقال سبحانه: * (قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين) * [آية: 168]. تفسير سورة آل عمران من آية [169 - 171] * (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله) *، يعني قتلى بدر من قتل من المسلمين يومئذ وهم أربعة عشر رجلا، ستة من المهاجرين، مهجع بن عبد الله مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر: ' سيد شهداء أمتي مهجع '، وهو أول قتيل قتل يوم بدر، رضي الله عنه، وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف القرشي، وعمير بن أبي وقاص بن وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، وذو الشماليل عبد عمرو بن نضلة بن عمرو بن نضلة بن عبد عمرو القيساني، وعقيل بن بكير، وصفوان ابن بيضاء، رضي الله عنهم، وثمانية من الأنصار: حارثة بن سراقة، ويزيد بن الحارث بن جشم، ومعوذ بن الحارث، وعوف بن الحارث بن رفاعة ابنا عفراء، الاسم اسم أمهما
202 عفراء، ورافع بن المعلى، وسعد بن حنتمة، وعمرو بن الحمام بن الجموح، ومبشر بن عبد المنذر. فقال رجل: يا ليتنا نعلم ما لقي إخواننا الذين قتلوا ببدر، فأنزل الله تعالى: * (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله) *، يعني قتلى بدر، * (أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) * [آية: 169] الثمار في الجنة، وذلك أن الله تعالى جعل أرواح الشهداء طيرا خضرا ترعى في الجنة، لها قناديل معلقة بالعرش تأوى إلى قناديلها، فاطلع الله عز وجل عليهم، فقال سبحانه: هل تستزيدوني شيئا فأزيدكم؟ قالوا: أولسنا نسرح في الجنة حيث تشاء؟ ثم اطلع عليهم أخرى، فقال سبحانه: هل تستزيدوني شيئا فأزيدكم؟ ثم اطلع الثالثة، فقال سبحانه: هل تستزيدوني شيئا فأزيدكم؟ قالوا: ربنا، نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا فنقاتل في سبيلك مرة أخرى لما نرى من كرامتك إيانا، ثم قالوا فيما بينهم: ليت إخواننا الذين في دار الدنيا يعلمون ما نحن فيه من الكرامة والخير والرزق، فإن شهدوا قتالا سارعوا بأنفسهم إلى الشهادة، فسمع الله عز وجل كلامهم، فأوحى إليهم: أني منزل على نبيكم ومخبر إخوانكم بما أنتم فيه، فاستبشروا بذلك، فأنزل الله عز وجل يحبب الشهادة إلى المؤمنين: * (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) * من الثمار. ثم قال سبحانه: * (فرحين بما آتاهم الله) *، يعني راضين بما أعطاهم الله * (من فضله) *، يعني الرزق، * (ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم) *، يعني من بعدهم من إخوانهم في الدنيا أنهم لو رأوا قتالا لاستشهدوا ليلحقوا بهم، ثم قال سبحانه * (ألا خوف عليهم) * من العذاب، * (ولا هم يحزنون) * [آية: 170] عند الموت، * (يستبشرون بنعمة من الله) *، يعني رحمة من الله * (وفضل) * ورزق، * (وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين) * [آية: 171]، يعني أجر المصدقين بتوحيد الله عز وجل. تفسير سورة آل عمران آية [172] * (الذين استجابوا لله والرسول) *، وذلك أن المشركين انصرفوا يوم أحد ولهم الظفر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ' إني سائر في أثر القوم '، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد على بغلة شهباء، فدب المنافقون إلى المؤمنين، فقالوا: أتوكم في دياركم فوطئوكم قتلا، وكان لكم النصر
203 يوم بدر، فكيف تطلبونهم وهم اليوم عليكم أجرأ وأنت اليوم أرعب.؟ فوقع في أنفس المؤمنين قول المنافقين، فاشتكوا ما بهم من الجراحات، فأنزل الله عز وجل: * (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله) * [آل عمران: 140] إلى آخر الآية. وأنزل الله تعالى: * (إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون) * [النساء: 104]، يعني تتوجعون من الجراحات، إلى آخر الآية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ' لأطلبنهم ولو بنفسي '، فانتدب مع النبي صلى الله عليه وسلم سبعون رجلا من المهاجرين والأنصار، حتى بلغوا سفراء بدر الصغرى، فبلغ أبا سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم يطلبه، فأمعن عائدا إلى مكة مرعوبا، ولقى أبو سفيان نعيم بن مسعود الأشجعي وهو يريد المدينة، فقال: يا نعيم، بلغنا أن محمدا في الأثر، فأخبره أن أهل مكة قد جمعوا جمعا كثيرا من قبائل العرب لقتالكم، وأنهم لقوا أبا سفيان، فلاموه بكفه عنكم بعد الهزيمة حتى هموا به فردوه، فإن رددت عنا محمدا فلك عشر ذود من الإبل إذا رجعت إلى مكة، فسار نعيم فلقى النبي صلى الله عليه وسلم في الصفراء، فقال ' ما وراءك يا نعيم؟ '، فأخبره بقول أبي سفيان، ثم قال: أتاكم الناس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ' * (حسبنا الله ونعم الوكيل) *، نعم الملتجأ ونعم الحرز '، [آل عمران: 173] فأنزل الله سبحانه: * (الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح) *، يعني الجراحات، * (للذين أحسنوا منهم) * الفعل * (واتقوا) * معاصيه * (أجر عظيم) * [آية: 172]، وهو الجنة. تفسير سورة آل عمران آية 173 * (الذين قال لهم الناس) *، يعني نعيم بن مسعود وحده، * (إن الناس قد جمعوا لكم) * الجموع لقتالكم، * (فاخشوهم فزادهم إيمانا) *، يعني تصديقا، * (وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) * [آية: 173]، يعني النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، رضي الله عنهم، فأصابوا. تفسير سورة آل عمران من آية [174 - 175] * (فانقلبوا) *، يعني فرجعوا إلى المدينة * (بنعمة من الله وفضل) *، يعني الرزق وذلك
204 أنهم أصابوا سرية في الصفراء، وذلك في ذي القعدة، * (لم يمسسهم سوء) * من عدوهم في وجوههم، * (واتبعوا رضوان الله) *، يعني رضى الله في الاستجابة لله عز وجل، وللرسول صلى الله عليه وسلم في طلب المشركين، يقول الله سبحانه، * (والله ذو فضل عظيم) * [آية: 174] على أهل طاعته. قال: حدثنا عبيد الله بن ثابت: قال: حدثني أبي، قال: حدثنا هذيل، قال: مقاتل: فنزلت هذه الآيات في ذي القعدة بذي الحليفة حين انصرفوا عن طلب أبي سفيان وأصحابه بعد قتال أحد، * (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه) *، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ندب الناس يوم أحد في طلب المشركين، فقال المنافقون للمسلمين، قد رأيتم ما لقيتم لم ينقلب إلا شريد، وأنتم في دياركم تصحرون وأنتم أكلة رأس، والله لا ينقلب منكم أحد، فأوقع الشيطان قول المنافقين في قلوب المؤمنين، فأنزل الله عز وجل: * (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه) *، يعني يخوفهم بكثرة أوليائه من المشركين، * (فلا تخافوهم وخافون) * في ترك أمري * (إن كنتم مؤمنين) * [آية: 175]، يعني إذ كنتم، يقول: * (إن كنتم مؤمنين) * فلا تخافوهم. تفسير سورة آل عمران من [176 - 177] ثم قال: * (ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر) *، يعني المشركين يوم أحد، * (إنهم لن يضروا الله شيئا) *، يقول: لن ينقصوا الله شيئا من ملكه وسلطانه لمسارعتهم في الكفر، وإنما يضرون أنفسهم بذلك، * (يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة) *، يعني نصيبا في الجنة، * (ولهم عذاب عظيم) * [آية: 176]، ثم قال سبحانه يعنيهم: * (إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان) *، يعني باعوا الإيمان بالكفر، * (لن يضروا الله) *، يعني لن ينقصوا الله من ملكه وسلطانه * (شيئا) * حين باعوا الإيمان بالكفر، إنما ضروا أنفسهم بذلك، * (ولهم عذاب أليم) * [آية: 177]، يعني وجيع. تفسير سورة آل عمران من آية [178 - 179]
205 * (ولا يحسبن الذين كفروا) * أبا سفيان وأصحابه يوم أحد، * (أنما نملي لهم) * حين ظفروا * (خير لأنفسهم إنما نملي لهم) * في الكفر، * (ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين) * [آية: 178]، يعني الهوان، * (ما كان الله ليذر المؤمنين) * يا معشر الكفار * (على ما أنتم عليه) * من الكفر، * (حتى يميز الخبيث من الطيب) * في علمه حتى يميز أهل الكفر من أهل الإيمان، نظيرها في الأنفال، ثم قال سبحانه: * (وما كان الله ليطلعكم على الغيب) *، وذلك أن الكفار قالوا: إن كان محمد صادقا، فليخبرنا بمن يؤمن منا ومن يكفر، فأنزل الله عز وجل: * (وما كان الله ليطلعكم على الغيب) *، يعني ليطلعكم على غيب ذلك، إنما الوحي إلى الأنبياء بذلك، فذلك قوله سبحانه: * (ولكن الله يجتبي) * يستخلص * (من رسله من يشاء) *، فيجعله رسولا فيوحي إليه ذلك، ليس الوحي إلا إلى الأنبياء، * (فآمنوا بالله ورسله) *، يعني صدقوا بتوحيد الله تعالى، وبرسالة محمد صلى الله عليه وسلم، * (وإن تؤمنوا) *، يعني تصدقوا بتوحيد الله تعالى، * (وتتقوا) * الشرك، * (فلكم أجر عظيم) * [آية: 179]. تفسير سورة آل عمران آية 180 * (ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله) *، يعني بما أعطاهم الله من فضله، يعني من الرزق، وبخلوا بالزكاة، إن ذلك * (هو خيرا لهم بل) * البخل * (هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة) *، وذلك أن كنز أحدهم يتحول شجاعا أقرع ذكر، ولفيه زبيبتان كأنهما جبلان، فيطوق به في عنقه فينهشه، فيتقيه بذراعيه فيلتقمهما حتى يقضي بين الناس، فلا يزال معه حتى يساق إلى النار ويغل، وذلك قوله سبحانه: * (سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة) *، ثم قال سبحانه: * (ولله ميراث السماوات والأرض) *، يقول: إن بخلوا بالزكاة فالله يرثهم ويرث أهل السماوات، وأهل الأرضين، فيهلكون ويبقى، * (والله بما تعملون خبير) * [آية: 180]، يعني في ترك الصدقة، يعني اليهود. تفسير سورة آل عمران آية [181 - 182]
206 * (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء) *، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب مع أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، إلى يهود قينقاع يدعوهم إلى إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن يقرضوا الله قرضا حسنا، قال فنحاص اليهودي: إن الله فقير حين يسألنا القروض ونحن أغنياء، ويقول الله عز وجل، * (سنكتب ما قالوا) *، فأمر الحفظة أن تكتب كل ما قالوا، * (و) * نكتب * (وقتلهم الأنبياء بغير حق) *، أي تقول لهم خزنة جهنم في الآخرة: * (ونقول ذوقوا عذاب الحريق) * [آية: 181]، * (ذلك) * العذاب * (بما قدمت أيديكم) * من الكفر والتكذيب، * (وأن الله ليس بظلام للعبيد) * [آية: 182] فيعذب على غير ذنب. تفسير سورة آل عمران من آية [183 - 184] ثم أخبر عن اليهود حين دعوا إلى الإيمان، فقال تبارك وتعالى: * (الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار) *، فقال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: * (قل) * لهم * (قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات) *، يعني التبيين بالآيات، * (وبالذي قلتم) * من أمر القربان، * (فلم قتلتموهم) *، فلم قتلتم أنبياء الله من قبل محمد صلى الله عليه وسلم * (إن كنتم صادقين) * [آية: 183] بما تقولون: * (فإن كذبوك) * يا محمد، يعزى نبيه صلى الله عليه وسلم ليصبر على تكذيبهم، فلست بأول رسول كذب، فذلك قوله سبحانه: * (فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات) *، يعني بالآيات، * (والزبر) * يعني بحديث ما كان قبلهم والمواعظ، * (والكتاب المنير) * [آية: 184]، يعني المضئ البين الذي فيه أمره ونهيه. تفسير سورة آل عمران من آية [185 - 186]
207 ثم خوفهم، فقال: * (كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم) *، يعني جزاء أعمالكم، * (يوم القيامة فمن زحزح) *، يعني صرف * (عن النار وأدخل الجنة فقد فاز) *، يعني فقد نجى، ثم وعظهم، فقال: * (وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) * [آية: 185]، يعني الفاني الذي ليس بشئ، * (لتبلون في أموالكم وأنفسكم) *، نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر الصديق، رضي الله عنه، يعني بالبلاء والمصيبات، * (ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) * حين قالوا: إن الله فقير، ثم قال: * (ومن الذين أشركوا) *، يعني مشركي العرب، * (أذى كثيرا) * باللسان والفعل، * (وإن تصبروا) * على ذلك الأذى، * (وتتقوا) * معصيته، * (فإن ذلك من عزم الأمور) * [آية: 186]، يعني ذلك الصبر والتقوى من خير الأمور التي أمر الله عز وجل بها. تفسير سورة آل عمران آية 187] * (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب) *، يعني أعطوا التوراة، يعني اليهود، * (لتبيننه للناس) *، يعني أمر محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة، * (ولا تكتمونه) *، أي أمره وأن تتبعوه، * (فنبذوه) *، يعني فجعلوه * (وراء ظهورهم واشتروا به) * بكتمان أمر محمد صلى الله عليه وسلم * (ثمنا قليلا) *، وذلك أن سفلة اليهود كانوا يعطون رؤوس اليهود من ثمارهم وطعامهم عند الحصاد، ولو تابعوا محمدا صلى الله عليه وسلم لذهب عنهم ذلك المأكل، يقول الله عز وجل: * (فبئس ما يشترون) * [آية: 187] تفسير سورة آل عمران آية 188 * (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا) *، وذلك أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم حين دخلوا عليه: نعرفك نصدقك وليس ذلك في قلوبهم، فلما خرجوا من عند النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم المسلمون: ما صنعتم؟ قالوا: عرفناه وصدقناه، فقال المسلمون: أحسنتم، بارك الله فيكم، وحمدهم المسلمون على ما أظهروا من الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم، فذلك قوله سبحانه:
208 * (ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا) * يا محمد، * (فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم) * [آية: 188]، يعني وجيع. تفسير سورة آل عمران من آية [189 - 191] ثم عظم الله نفسه، فقال: * (ولله ملك السماوات والأرض) * وما بينهما من الخلق عبيده وفي ملكه، * (والله على كل شيء قدير) * [آية: 189]، * (إن في خلق السماوات والأرض) * خلقين عظيمين، * (واختلف اليل والنهار لآيات لأولي الألباب) * [آية: 190]، يعني أهل اللب والعقل، ثم نعتهم، فقال سبحانه: * (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا) *، يقول: عبثا لغير شيء، لقد خلقتهما لأمر قد كان، * (سبحانك فقنا عذاب النار) * [آية: 191]. تفسير سورة آل عمران من آية [192 - 195] * (ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته) *، يعني من خلدته في النار فقد أهنته، * (وما للظالمين من أنصار) * [آية: 192]، يعني وما للمشركين من مانع يمنعهم من النار، قالوا: * (ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان) *، فهو محمد صلى الله عليه وسلم داعيا يدعو إلى التصديق، * (أن آمنوا بربكم) *، يعني صدقوا بتوحيد ربكم، * (فآمنا) *، أي فأجابه المؤمنون، فقالوا: ربنا آمنا، يعني صدقنا، * (ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا) *، يعني امح عنا خطايانا، * (وتوفنا مع الأبرار) * [آية: 193]، يعني
209 المطيعين، قالوا: * (ربنا وآتنا) *، يعني وأعطنا * (ما وعدتنا على رسلك) *، يقول: أعطنا من الجنة ما وعدتنا على ألسنة رسلك، * (ولا تخزنا) *، يعني ولا تعذبنا * (يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد) * [آية: 194] فأخبر الله عز وجل بفعلهم وبما أجابهم، وأنجز الله عز وجل لهم موعوده، فذلك قوله سبحانه: * (فاستجاب لهم ربهم) *، فقال: * (أني لا أضيع عمل عامل منكم) * في الخير، * (من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا) * إلى المدينة، * (وأخرجوا من ديارهم) *، وذلك أن كفار مكة أخرجوا مؤمنيهم من مكة، ثم قال سبحانه: * (وأوذوا في سبيلي) *، يعني في سبيل دين الإسلام، * (وقاتلوا) * المشركين، * (وقاتلوا لأكفرن عنهم) *، يعني لأمحون عنهم * (سيئاتهم) *، يعني خطاياهم، * (ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار) *، يعني بجنات البساتين، ذلك الذي ذكر كان * (ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب) * [آية: 195]، يعني الجنة، نزلت في أم سلمة أم المؤمنين، رضي الله عنها، ابنة أبي أمية المخزومي حين قالت: ما لنا معشر النساء عند الله خير، وما يذكرنا بشيء ففيها نزلت: * (إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات) * [الأحزاب: 35] في الأحزاب إلى آخر الآية، فأشرك الله عز وجل الرجال مع النساء في الثواب كما شاركن الرجال في الأعمال الصالحة في الدنيا. تفسير سورة آل عمران من آية [196 - 197] * (لا يغرنك) * يا محمد صلى الله عليه وسلم * (تقلب الذين كفروا في البلاد) * [آية: 196]، نزلت في مشركي العرب، وذلك أن كفار مكة كانوا في رخاء ولين عيش حسن، فقال بعض المؤمنين: أعداء الله فيما ترون من الخير وقد أهلكنا الجهد، فأخبر الله عز وجل بمنزلة الكفار في الآخرة، وبمنزلة المؤمنين في الآخرة، فقال سبحانه: * (لا يغرنك) * يا محمد صلى الله عليه وسلم ما فيه الكفار من الخير والسعة، فإنما هو * (متاع قليل) * يمتعون بها إلى آجالهم، * (ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد) * [آية: 197]، فبين الله تعالى مصيرهم. تفسير سورة آل عمران من آية [198 - 199]
210 ثم بين منازل المؤمنين في الآخرة، فقال سبحانه: * (لكن الذين اتقوا ربهم) * وحدوا ربهم، * (لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها) * لا يموتون، كان ذلك * (نزلا من عند الله وما عند الله خير للأبرار) * [آية: 198]، يعني المطيعين، * (وإن من أهل الكتاب) *، يعني ابن سلام، * (لمن يؤمن بالله) *، يعني يصدق بالله، * (وما أنزل إليكم) *، يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن، * (وما أنزل إليهم) * من التوراة، ثم نعتهم، فقال: * (خاشعين لله) *، يعني متواضعين لله، * (لا يشترون بآيات الله) *، يعني بالقرآن * (ثمنا قليلا) *، يعني عرضا يسيرا من الدنيا كفعل اليهود بما أصابوا من سفلتهم من المأكل من الطعام والثمار عند الحصاد، ثم قال يعني مؤمني أهل التوراة ابن سلام وأصحابه، * (أولئك لهم أجرهم) *، يعني جزاؤهم في الآخرة * (عند ربهم) *، وهي الجنة، * (إن الله سريع الحساب) * [آية: 199]، يقول: كأنه قد جاء. تفسير سورة آل عمران آية [200] * (يا أيها الذين آمنوا اصبروا) * على أمر الله عز وجل وفرائضه، * (وصابروا) * مع النبي صلى الله عليه وسلم في المواطن، * (ورابطوا) * العدو في سبيل الله حتى يدعوا دينهم لدينكم، * (واتقوا الله) * ولا تعصوا، ومن يفعل ذلك فقد أفلح، فذلك قوله: * (لعلكم تفلحون) * [آية: 200] قال: حدثنا عبد الله بن ثابت، قال: حدثني أبي، قال: حدثني الهذيل، قال: سمعت أبا يوسف يحدث عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، رضي الله عنه، قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل نجران: ' هذا ما كتب محمد لأهل نجران في كل ثمرة، وكل صفراء وبيضاء وسوداء ورقيق، فأفضل عليهم وترك ذلك كله على ألفي حلة من خلل الألوان، في كل صفر ألف حلة، كل حلة أوقية، وفي كل رجب ألف حلة، كل حلة أوقية، فما زاد من حلل الخراج على الأواق فبحسابه، وما قصر من درع، أو حلة، أو خيل، أو ركاب، أو عرض، أخذ منهم بحسابه، وعلى نجران مثوبة رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرين ليلة، ولا تحبس رسولي فوق شهر، وعليهم عارية ثلاثين درعا، وثلاثين فرسا، وثلاثين بعيرا إذا كان كبد باليمن ذو معذرة، ولنجران وحاشيتها جوار الله عز وجل، وذمة
211 محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنفسهم، ومالهم وأرضهم، وأموالهم، وغائبهم، وشاهدهم، وتابعهم، ولا يغير ما كانوا عليه، ولا يغير حق من حقوقهم، ولا ملة من مللهم، ولا يغير أسقف عن أسقفيته، ولا راهب عن رهبانيته، وعلى ما تحت أيديهم من قليل وكثير، وليس عليهم ربا ولا دم جاهلية، ولا يحسرون، ولا يعشرون، ولا يطأ أرضهم حاشر، ومن سأل فيهم حقا أنصف، غير ظالمين ولا مظلومين، ومن أكل ربا من ذي قبل، فذمتي منه بريئة، ولا يؤخذ رجل منهم بطلب آخر، وكل ما كان في هذه الصحيفة جوار الله عز وجل، وذمة محمد صلى الله عليه وسلم حتى يأتي الله بأمره ما نصحوا وأصلحوا فيما لهم وعليهم غير متغلبين بظلم '. شهد أبو سفيان بن حرب، وغيلان بن عمرو، ومالك بن عوف النضري، والأقرع ابن حابس، والمغيرة، وكتب علي بن أبي طالب، وزعم أن أبا بكر، رضي الله عنه، كتب لهم كتابا من كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: حدثنا عبد الله، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا الهذيل: سمعت المسيب والضرير يحدثان عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، قال: لو كان عليا طاعنا على عمر بن الخطاب، رضي الله عنهما، لطعن عليه حين جاء أهل نجران ومعهم قطعة أيدم فيه كتاب عليه خاتم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا لعلي، عليه السلام: ننشدك الله كتابك بيدك، وشفاعتك بلسانك، ألا ما رددتنا إلى نجران، فقال علي، رضي الله عنه: دعوني، فإن عمر، رضي الله عنه، كان رشيد الأمر. قال الأعمش: فسألت سالما: كيف كان إخراج عمر، رضي الله عنه، إياهم؟ قال: كثروا حتى صاروا أربعين ألف مقاتل، فخاف المسلمون أن يميلوا عليهم، فوقع بينهم شر، فجاءوا إلى عمر، رضي الله عنه، فقالوا: قد فسد الذي بيننا، فذهبوا، فاغتنمها عمر، رضي الله عنه، ثم جاءوا إليه، فقالوا: قد اصطلحنا فأقلنا، فقال: لا والله لا أقيلكم أبدا، فأخرج فرقة إلى الشام، وفرقة إلى العراق، وفرقة إلى أرض أخرى. قال: حدثنا عبيد الله بن ثابت، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا الهذيل في قوله عز وجل: تفسير سورة [آل عمران: 186]، فيها تقديم، ولم أسمع مقاتل.
212 سورة النساء مدنية وهي مائة وستة وسبعون آية كوفية بسم الله الرحمن الرحيم تفسير سورة النساء آية 1 * (يا أيها الناس اتقوا ربكم) * يخوفهم، يقول: أخشوا ربكم، * (الذي خلقكم من نفس واحدة) *، يعني آدم، * (وخلق منها زوجها) *، يعني من نفس آدم من ضلعه حواء، وإنما سميت حواء لأنها خلقت من حي آدم، قال سبحانه: * (وبث منهما رجالا كثيرا ونساء) *، يقول: وخلق من آدم وحواء رجالا كثيرا ونساء، هم ألف أمة، * (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) *، يقول: تسألون بالله بعضكم ببعض الحقوق والحوائج، واتقوا الأرحام أن تقطعوها وصلوها،، * (إن الله كان عليكم رقيبا) * [آية: 1]، يعني حفيظا لأعمالكم. تفسير سورة النساء آية 2 * (وآتوا اليتامى) *، يعني الأوصياء، يعني أعطوا اليتامى * (أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب) *، يقول: ولا تتبدلوا الحرام من أموال اليتامى بالحلال من أموالكم، ولا تذرو الحلال وتأكلوا الحرام، * (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) *، يعني مع أموالكم، كقوله سبحانه: * (فأرسل إلى هارون) * [الشعراء: 13]، يعني معي هارون، (إنه كان حوبا كبيرا) * [آية: 2]، يعني إثما كبيرا بلغة الحبش، وقد كان أهل الجاهلية يسمون الحوب الإثم، نزلت في رجل من غطفان، يقال له: المنذر بن رفاعة، كان معه مال كبير ليتيم، وهو ابن أخيه، فلما بلغ طلب ماله فمنعه، فخاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر أن يرد عليه ماله، وقرأ عليه الآية، فلما سمعها قال: أطعنا الله وأطعنا الرسول، ونعوذ بالله من الحوب
213 الكبير، فدفع إليه ماله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ' هكذا من يطع ربه عز وجل، ويوق شح نفسه، فإنه يحل داره '، يعني جنته، فلما قبض الفتى ماله، أنفقه في سبيل الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ' ثبت الأجر وبقى الوزر '، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: قد عرفنا ثبت الأجر، فكيف بقي الوزر وهو ينفق في سبيل الله؟ فقال الأجر للغلام، والوزر على والده. تسير سورة النساء آية 3 * (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى) *، نزلت في خميصة بن الشمردل، وذلك أن الله عز وجل أنزل: * (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما) *، يعني بغير حق، * (إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا) * [النساء 10]، فخاف المؤمنون الحرج، فعزلوا كل شيء لليتيم من طعام، أو لبن، أو خادم، أو ركوب، فلم يخالطوهم في شيء منه، فشق ذلك عليهم وعلى اليتامى، فرخص الله عز وجل من أمولهم في الخلطة، فقال: * (وإن تخالطوهم فإخوانكم) * [البقرة: 220]:، فنسخ من ذلك الخلطة، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عما ليس به بأس، وتركوا أن يسألوه عما هو أعظم منه، وذلك أنه كان يكون عند الرجل سبع نسوة، أو ثمان، أو عشر حرائر، لا يعدل بينهن، فقال سبحانه: * (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى) *، يقول: ألا تعدلوا في أمر اليتامى، فخافوا الإثم في أمر النساء، واعدلوا بينهن، فذلك قوله عز وجل: * (فانكحوا ما طاب لكم)، يعني ما يحل لكم * (من النساء مثنى وثلاث ورباع) *، ولم يطب فوق الأربع، ثم قال سبحانه: * (فإن خفتم) * (الإثم) * (ألا تعدلوا) * في الاثنين والثلاث والأربع في القسمة والنفقة، * (فواحدة) *، يقول: فتزوج واحدة ولا تأثم، فإن خفت أن لا تحسن إلى تلك الواحدة؛ * (أو ما ملكت أيمانكم) * من الولائد، فاتخذ منهن * (ذلك أدنى ألا تعولوا) * [آية: 3]، يقول: ذلك أجدر ألا تميلوا عن الحق في الواحدة وفي إتيان الولائد بعضهم على بعض، ولما نزلت: * (مثنى وثلاث ورباع) *، كان يومئذ تحت قيس بن الحارث ثمان نسوة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ' خل سبيل أربعة منهن وأمسك أربعة '، فقال للتي يريد إمساكها: أقبلي،
214 وللتي لا يريد إمساكها أدبري، فأمسك أربعة وطلق أربعة. تفسير سورة النساء من آية [4 - 5] * (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة) *، وذلك أن الرجل كان يتزوج بغير مهر، فيقول: أرثك وترثيني، وتقول المرأة: نعم، فأنزل الله عز وجل: * (وآتوا النساء) *، يعني أعطوا الأزواج النساء * (صدقاتهن) *، يعني مهورهن * (نحلة) *، يعني فريضة، * (فإن طبن لكم) *، يعني أحللن لكم، يعني الأزواج * (عن شيء منه) *، يعني المهر، * (نفسا فكلوه هنيئا مريئا) * [آية: 4]، يعني حلالا، مريئا يعني طيبا. * (ولا تؤتوا السفهاء) *، يعني الجهال بموضع الحق في الأموال، يعني لا تعطوا نساءكم وأولادكم * (أموالكم التي جعل الله لكم قياما) *، يعني قواما لمعاشكم، فإنهن سفهاء، يعني جهالا بالحق، نظيرها في البقرة: * (سفيها أو ضعيفا) * [البقرة: 282]، ولا يدري الصغير ما عليه من الحق في ماله، ولكن * (وارزقوهم فيها) *، يقول: أعطوهم منها * (واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا) * [آية: 5]، يعني العدة الحسنة أني سأفعل، وكنت أنت القائم على مالك. تفسير سورة النساء آية 6 * (وابتلوا اليتامى) *، يقول: اختبروا عقولهم، * (حتى إذا بلغوا النكاح)، يعني الحلم، * (فإن آنستم منهم رشدا) * معشر الأولياء والأوصياء صلاحا في دينهم وحفظا لأموالهم، * (فادفعوا إليهم أموالهم) * التي معكم * (ولا تأكلوها إسرافا) *، يعني بغير حق، * (وبدارا أن يكبروا) *، يقول: يبادر أكلها خشية أن يبلغ اليتيم الحلم فيأخذ منه ماله، ثم رخص
215 للذي معه مال اليتيم، فقال سبحانه: * (ومن كان غنيا فليستعفف) * عن أموالهم، * (ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) *، يعني بالقرض، فإن أيسر رد عليه، وإلا فلا إثم عليه، * (فإذا دفعتم) *، يعني الأولياء والأوصياء، * (إليهم) *، يعني إلى اليتامى * (أموالهم) * إذا احتلموا، * (فأشهدوا عليهم) * بالدفع إليهم، * (وكفى بالله حسيبا) * [آية: 6]، يعني شهيدا، فلا شاهد أفضل من الله بينكم وبينهم، نزلت في ثابت بن رفاعة وعمه، وذلك أن رفاعة توفي وترك ابنه ثابت، فولى ميراثه، فنزلت فيه: * (وابتلوا اليتامى) *، يقول: واختبروا، يعني به عم ثابت بن رفاعة * (اليتامى) *، يعني ثابت بن رفاعة، الآية كلها، حتى قال سبحانه: * (وكفى بالله حسيبا) *. تفسير سورة النساء آية 7 وقوله سبحانه: * (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون) *، نزلت في أوس بن مالك الأنصاري، وذلك أن أوس بن مالك الأنصاري توفي وترك امرأته أم كحة الأنصارية، وترك ابنتين إحداهن صفية، وترك ابني عمه عرفطة وسويد ابني الحارث، فلم يعطياها ولا ولداها شيئا من الميراث، وكان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ولا الولدان الصغار شيئا، ويجعلون الميراث لذوي الأسنان منهم، فانطلقت أم كحة وبناتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أباهن توفي، وإن سويد بن الحارث وعرفطة منعاهن حقهن من الميراث، فأنزل الله عز وجل في أم كحة ويناتها: * (للرجال نصيب) *، يعني حظا، * (وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون) *، يعني حظا * (مما قل منه) *، يعني من الميراث، * (أو كثر نصيبا مفروضا) * [آية: 7]، يعني حظا مفروضا، يعني معلوما، فأخذت أم كحة الثمن وبناتها الثلثين، وبقيته لسويد وعرفطة. تفسير سورة النساء آية 8 * (وإذا حضر القسمة) *، يعني المواريث، فيها تقديم، وإذا حضر * (أولوا القربى) *، يعني قرابة الميت، * (واليتامى والمساكين) * قسمة المواريث، * (فارزقوهم منه) *، يعني فأعطوهم من الميراث، وإن قل، وليس بموقت هذه قبل قسمة المواريث، * (وقولوا لهم قولا معروفا) * [آية: 8]، يقول سبحانه: إن كانت الورثة صغارا فليقل
216 أولياء الورثة لأهل هذه القسمة: إن بلغوا أمرناهم أن يدفعوا حقكم ويتبعوا وصية ربهم عز وجل، وإن ماتوا ورثناهم وأعطيناكم حقكم، فهذا القول المعروف، يعني العدة الحسنة. تفسير سورة النساء آية 9 ثم قال عز وجل: * (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا) *، فهو الرجل يحضر الميت، فيقول له: قدم لنفسك، أوص لفلان وفلان، حتى يوصي بعامة ماله، فيزيد على الثلث، فنهى الله عز وجل عن ذلك، فقال: وليخش الذين يأمرون الميت بالوصية بأكثر من الثلث، فليخش على ورثة الميت الفاقة والضيعة، كما يخشى على ذريته الضعيفة من بعده، فكذلك لا يأمر الميت بما يؤثمه، فذلك قوله سبحانه: * (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا) *، يعني عجزة، لا حيلة لهم، نظيرها في البقرة، * (خافوا عليهم) * الضيعة، * (فليتقوا الله وليقولوا) * إذا جلسوا إلى الميت * (قولا سديدا) [آية: 9]، يعني عدلا، فليأمره بالعدل في الوصية، فلا يحرفها، ولا يجر فيها. تفسير سورة النساء آية [10] * (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما) * (بغير حق) * (إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا) * [آية: 10]، وذلك أن خازن النار يأخذ شفتيه، وهما أطول من مشفري البعير، وطول شفتيه أربعون ذراعا، أحداهما بالغة على منخره، والأخرى على بطنه، فيلقمه جمر جهنم، ثم يقول: كل بأكلك أموال اليتامى ظلما، فنسخت هذه الآية: * (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن) * [الأنعام: 152]، * (وإن تخالطوهم فإخوانكم) * [البقرة: 220]، فرخص في المخالطة، ولم يرخص في أكل أموال اليتامى ظلما. تفسير سورة النساء آية 11
217 ثم بين قسمة المواريث بين الورثة، فقال عز وجل: * (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين) *، يعني بنات أم كحة، * (فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت) * ابنة * (واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك) * الميت * (إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث) *، وبقية المال للأب، * (فإن كان له إخوة فلأمه السدس) *، وما بقي فللأب * (من بعد وصية يوصي بها أو دين) *، يعني إلى الثلث أو دين عليه، فإنه يبدأ بالدين من ميراث الميت بعد الكفن، ثم الوصية بعد ذلك، ثم الميراث. * (آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا) *، يعني في الآخرة، فيكون معه في درجته، وذلك أن الرجل يكون عمله دون عمل ولده، أو يكون عمله دون عمل والده، فيرفعه الله عز وجل في درجته لتقر أعينهم، ثم قال في التقديم لهذه القسمة: * (فريضة) * ثابتة * (من الله إن الله كان عليما حكيما) * [آية: 11] في الميراث، * (حكيما) * حكم قسمته. تفسير سورة النساء آية [12] * (ولكم نصف ما ترك أزواجكم) إذا متن، * (إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين) * عليهم، ثم قال سبحانه: * (ولهن الربع مما تركتم) * بعد الموت من الميراث، * (إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم) * من المال، * (من بعد وصية توصون بها أو دين) *.
218 ثم قال عز وجل: * (وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة) * فيها تقديم، * (يورث كلالة) *، والكلالة الميت يموت وليس له ولد ولا والد ولا جد، * (وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث) *، فهم الإخوة لأم، والذكر والأنثى في الثلث سواء، ولا يوصى لوارث، ولا يقر بحق ليس عليه مضارة للورثة، فذلك قوله سبحانه: * (من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله) *، يعني هذه القسمة فريضة من الله، * (والله عليم) * بالضرار، يعني من يضار في أمر الميراث، * (حليم) * [آية: 12] حين لا يعجل عليهم بالعقوبة. تفسير سورة النساء من [13 - 14] * (تلك حدود الله) *، يعني هذه القسمة فريضة من الله، * (ومن يطع الله ورسوله) * في قسمة المواريث، * (يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها) * لا يموتون، * (وذلك) * الثواب * (الفوز العظيم) * [آية: 13]، * (ومن يعص الله ورسوله) * في قسمة المواريث، فلم يقسمها، * (ويتعد حدوده) *، يعني يخالف أمره وقسمته إلى غيرها، * (يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين) * [آية: 14]، يعني الهوان. فلما فرض الله عز وجل لأم كحة وبناتها انطلق سويد وعرفطة وعيينة بن حصن إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن المرأة لا تركب فرسا ولا تجاهد، وليس عند الصبيان الصغار منفعة في شيء، فأنزل الله عز وجل في ذلك: * (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب) *، يعني ما بين في قسمة المواريث في أول السورة، ويفتيكم في بنات أم كحة * (في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن) * إلى قوله سبحانه: * (فإن الله كان به عليما) * [النساء: 127].
219 تفسير سورة النساء من [15 - 16] قوله سبحانه: * (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم) *، يعني المعصية، وهي الزنا، وهي المرأة الثيب تزني ولها زوج، * (فاستشهدوا عليهن أربعة منكم) * عدولا، * (فإن شهدوا) * عليهن بالزنا * (فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت) *، وإن كان لها زوج وقد زنت أخذ الزوج المهر منها من غير طلاق ولا حد ولا جماع، وتحبس في السجن حتى تموت، * (أو يجعل الله لهن سبيلا) * [آية: 15]، يعني مخرجا من الحبس، وهو الرجم، يعني الحد، فنسخ الحد في سورة النور الحبس في البيوت. ثم ذكر البكرين اللذين لم يحصنا، فقال عز وجل: * (والذان يأتيانها منكم) *، يعني الفاحشة، وهو الزنا، منكم * (فآذوهما) * باللسان، يعني بالتعيير والكلام القبيح بما عملا، ولا حبس عليهما؛ لأنهما بكران، فيعيران ليندما ويتوبا، يقول الله عز وجل: * (فإن تابا) * من الفاحشة * (وأصلحا) * العمل فيما بقي، * (فأعرضوا عنهما) *، يعني فلا تسمعوهما الأذى بعد التوية، * (إن الله كان توابا رحيما) * [آية: 16]. ثم أنزل الله عز وجل في البكرين: * (فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة) * [النور: 2]، فنسخت هذه الآية التي في النور: * (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة) *، فلما أمر الله عز وجل بالجلد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ' الله أكبر، جاء الله بالسبيل، البكر بالبكر جلد مائة ونفى سنة، والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة '، فأخرجوا من البيوت، فجلدوا مائة وحدوا، فلم يحبسوا، فذلك قوله عز وجل * (أو يجعل الله لهن سبيلا) *، يعني مخرجا من الحبس بجلد البكر ورجم المحصن. تفسير سورة النساء من آية [17 - 18] * (إنما التوبة على الله) *، يعني التجاوز على الله، * (للذين يعملون السوء
220 بجهالة) *، فكل ذنب يعمله المؤمن فهو جهل منه، * (ثم يتوبون من قريب) *، يعني قبل الموت، * (فأولئك يتوب الله عليهم) *، يعني يتجاوز عنهم، * (وكان الله عليما حكيما) * [آية: 17]، * (وليست التوبة للذين يعملون السيئات) *، يعني الشرك، * (حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن) *، فلا توبة له عند الموت، * (ولا) * (توبة) * (الذين يموتون وهم كفار أولئك اعتدنا لهم عذابا أليما) * [آية: 18]. تفسير سورة القرآن آية [19] * (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها) *، نزلت في محصن بن أبي قيس بن الأسلت الأنصاري، من بني الحارث بن الخزرج، وفي امرأته هند بنت صبرة، وفي الأسود بن خلف الخزاعي، وفي امرأته حبيبة بنت أبي طلحة، وفي منظور بن يسار الفزاري، وفي امرأته ملكة بنت خارجة بن يسار المري، تزوجوا نساء آبائهم بعد الموت، وكان الرجل من الأنصار إذا مات له حميم، عمد الذي يرث الميت، وألقى على امرأة الميت ثوبا، فيرث تزويجها، رضيت أو كرهت، على مثل مهر الميت، فإن ذهبت المرأة إلى أهلها قبل أن يلقى عليها ثوبا، فهي أحق بنفسها، فأتين النبي صلى الله عليه وسلم، فقلن: يا رسول الله، ما يدخل بنا ولا ينفق علينا ولا نترك أن نتزوج، فأنزل الله عز وجل في هؤلاء النفر: * (لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها) *، يعن وهن كارهات، ولكن تزوجوهن برضى منهن، وكان أحدهم يقول: أنا أرثك لأني ولي زوجك، فأنا أحق بك، ثم انقطع الكلام. ثم قال الله عز وجل: * (ولا تعضلوهن) *، كان الرجل يفر بامرأته لتفتدى منه، ولا حاجة له فيها، يقول: لا تحبسوهن * (لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن) *، يقول: ببعض ما أعطيتموهن من المهر، ثم رخص واستثنى، * (إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) *، يعني العصيان البين، وهو النشوز، فقد حلت الفدية إذا جاء العصيان من قبل المرأة، ثم قال تبارك وتعالى: * (وعاشروهن بالمعروف) *، يقول: صاحبوهن بإحسان، * (فإن كرهتموهن) * وأردتم فراقهن، * (فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا
221 كثيرا) * [آية: 19]، يعني في الكره خيرا كثيرا، يقول: عسى الرجل يكره المرأة، فيمسكها على كراهية، فلعل الله عز وجل يرزقه منها ولدا، ويعطفه عليها، وعسى أن يكرهها، فيطلقها فيتزوجها غيره، فيجعل الله للذي يتزوجها فيها خيرا كثيرا، فيرزقه منها لطفا وولدا. تفسيرسورة النساء آية [20 - 21] ثم قال سبحانه: * (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج) *، يقول: وإن أراد الرجل طلاق امرأته ويتزوج أخرى غيرهأ، * (وآتيتم إحداهن قنطارا) *، يقول: وآتيتم إحداهن من المهر قنطارا من ذهب، والقنطار ألف ومائتا دينار، * (فلا تأخذوا منه شيئا) * إذا أردتم طلاقها، يقول: فليس له أن يضر بها حتى تفتدي منه، يقول: * (أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا) * [آية: 20]، يعني بينا، * (وكيف تأخذونه) * تعظيما له، يعني المهر، * (وقد أفضى بعضكم إلى بعض) *، يعني به الجماع، * (وأخذن منكم ميثاقا غليظا) * [آية: 21]، يعني بالميثاق الغليظ ما أمروا به من قوله تبارك وتعالى فيهن: * (فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف) * [البقرة: 231]، والغلظ يعني الشديد، وكل غليظ في القرآن يعني به الشديد. تفسير سورة النساء آية [22] * (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء) *، نزلت في محصن بن أبي قيس بن الأسلت بن الأفلح الأنصاري، وفي امرأته كبشة بنت معن بن معبد بن عدي بن عاصم الأنصاري من الأوس من بني خطمة بن الأوس، * (إلا ما قد سلف) *؛ لأن العرب كانت تفعل ذلك قبل التحريم، وذلك أن محصن مات أبوه، فشد على امرأته فتزوجها، وهو محصن بن أبي قيس بن الأسلت الأنصاري، من بني الحارث بن الخزرج، وكبشة بنت معن بن معبد، وفي شريك وفي امرأته كحة، * (إنه كان فاحشة) *، يعني معصية، * (ومقتا) *، يعني وبغضا، * (وساء سبيلا) * [آية: 22]، يعني وبئس المسلك، وقال سبحانه: * (إلا ما قد سلف) *؛ لأن العرب كانوا ينكحون نساء الآباء،
222 ثم حرم النسب والصهر، ولم يقل: * (إلا ما قد سلف) *؛ لأن العرب كانت لا تنكح النسب والصهر، وقال عز وجل في الأختين: * (إلا ما قد سلف) *؛ لأنهم كانوا يجمعون بينهما. تفسير سورة النساء آية [23] ثم بين ما حرم، فقال تعالى ذكره: * (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت) *، فهذا النسب، ثم قال سبحانه: * (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن) *، يعني جامعتم أمهاتهن، * (فإن لم تكونوا دخلتم بهن) *، يقول: إن لم تكونوا جامعتم أمهاتهن، * (فلا جناح عليكم) * يقول: فلا حرج عليكم في تزوج البنات، * (وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم) *، يقول: وحرم ما تزوج الابن الذي خرج من صلب الرجل ولم يتبناه، فهذا الصهر، * (وأن تجمعوا بين الأختين) *، فحرم جمعهما، إلا أن يكون إحداهما بملك، فزوجها غيره، فلا بأس، * (إلا ما قد سلف) * قبل التحريم، * (إن الله كان غفورا رحيما) * [آية: 23] لما كان من جماع الأختين قبل التحريم. تفسير سورة النساء آية [24] * (والمحصنات من النساء) *، يعني وكل امرأة أيضا فنكاحها حرام مع ما حرم من النسب والصهر، ثم استثنى من المحصنات، فقال سبحانه: * (إلا ما ملكت
223 أيمانكم) * من الحرائر مثنى وثلاث ورباع، * (كتاب الله عليكم) *، يعني فريضة الله لكم بتحليل أربع، * (وأحل لكم ما وراء ذلكم) *، يعني ما وراء الأربع، * (أن تبتغوا بأموالكم محصنين) * لفروجهن * (غير مسافحين) * بالزنا علانية، ثم ذكر المتعة، فقال: * (فما استمتعتم به منهن) * (إلى أجل مسمى) * (فآتوهن أجورهن فريضة) *، يعني أعطوهن مهورهن، * (ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة) *، يقول: لا حرج عليكم فيما زدتم من المهر وازددتم في الأجل بعد الأمر الأول، * (إن الله كان عليما) * (بخلقه) * (حكيما) * [آية: 24] في أمره، نسختها آية الطلاق وآية المواريث. تفسير سورة النساء [25] ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة بعد نزول هذه الآية مرارا، والله تعالى يقول: * (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) * [الحشر: 7]، ثم قال سبحانه: * (ومن لم يستطع منكم طولا) *، يقول: من لم يجد منكم سعة من المال، * (أن ينكح المحصنات المؤمنات) *، يعني الحرائر، فليتزوج من الإماء، * (فمن ما ملكت أيمانكم) *، يعني الولائد، فتزوجوا * (من فتياتكم المؤمنات) *، يعني الولائد، ثم قال سبحانه: * (والله أعلم بإيمانكم) * من غيره، فيكره للعبد المسلم أن يتزوج وليدة من أهل الكتاب؛ لأن ولده يصير عبدا، فإن تزوجها وولدت له، فإنه يشتري من سيده رضى أو كره، ويسعى في ثمنه، * (بعضكم من بعض) * يتزوج هذا وليدة هذا، وهذا وليدة هذا. ثم قال سبحانه: * (فانكحوهن بإذن أهلهن) *، يقول: تزوجوا الولائد بإذن أربابهن، * (وآتوهن أجورهن) *، يقول: وأعطوهن مهورهن * (بالمعروف محصنات) * عفائف لفروجهن، * (غير مسافحات) * غير معلنات بالزنا، * (ولا متخذات أخدان) *، يعني
224 أخلاء في السر، فيزني بها سرا، * (فإذا أحصن) *، يعني أسلمن، * (فإذا أتين بفاحشة) *، يقول: فإن جئن بالزنا، * (فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) *، يعني خمسين جلدة، نصف ما على الحرة إذا زنت، * (ذلك) * التزويج للولائد، * (لمن خشي العنت منكم) *، يعني الإثم في دينه، وهو الزنا، * (وأن) *، يعني ولئن * (تصبروا) * عن تزويج الأمة، * (خير لكم) * من تزويجهن، * (والله غفور) * لتزويجه الأمة، * (رحيم) * [آية: 25] به حين رخص له في تزويجها إذا لم يجد طولا، يعني سعة في تزويج الحرة. تفسير سورة النساء من آية [26 - 28] * (يريد الله ليبين لكم) *، يعني أن يبين لكم، * (ويهديكم سنن الذين من قبلكم) *، يعني شرائع هدى من كان قبلكم من المؤمنين من تحريم النسب والصهر، * (ويتوب عليكم) *، يعني ويتجاوز عنكم من نكاحكم، يعني تزويجكم إياهن من قبل التحريم، * (والله عليم حكيم) * [آية: 26]. * (والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات) *، يعني به الزنا، وذلك أن اليهود زعموا أن نكاح ابنة الأخت من الأب حلال، فذلك قوله سبحانه: * (أن تميلوا) * عن الحق * (ميلا عظيما) * [آية: 27] في استحلال نكاح ابنة الأخت من الأب، * (يريد الله أن يخفف عنكم) * إذ رخص في تزويج الأمة لمن لم يجد طولا لحرة، وذلك قوله سبحانه: * (وخلق الإنسان ضعيفا) * [آية: 28]، لا يصبر عن النكاح، ويضعف عن تركه، فلذلك أحل لهم تزويج الولائد لئلا يزنوا. تفسير سورة النساء آية [29 - 30] * (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) *، يقول: لا تأكلوها
225 إلا بحقها وهو الرجل يجحد حق أخيه المسلم، أو يقتطعه بيمينه، ثم استثنى ما استفضل الرجل من مال أخيه من التجارة، فلا بأس، فقال سبحانه: * (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم) *، يقول: لا يقتل بعضكم بعضا؛ لأنكم أهل دين واحد، * (إن الله كان بكم رحيما) * [آية: 29]، إذ نهى عن ذلك، * (ومن يفعل ذلك) *، يعني الدماء والأموال جميعا، * (عدوانا وظلما) *، يعني اعتداء بغير حق وظلما لأخيه، * (فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا) * [آية: 30]، يقول: كان عذابه على الله هينا. تفسير سورة النساء من آية [31 - 33] ثم قال سبحانه: * (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه) * من أول هذه السورة إلى هذه الآية، * (نكفر عنكم سيئاتكم) *، يعني ذنوب ما بين الحدين، * (وندخلكم مدخلا كريما) * [آية: 31]، يعني حسنا، وهي الجنة لما نزلت، * (للذكر مثل حظ الأنثيين) * [النساء: 11]، قالت النساء: لم هذا؟ نحن أحق أن يكون لنا سهمان ولهم سهم؛ لأنا ضعاف الكسب والرجال أقوى على التجارة والطلب والمعيشة منا، فإذا لم يفعل الله ذلك بنا، فإنا نرجو أن يكون الوزر على نحو ذلك علينا وعليهم، فأنزل الله في قولهم: كنا نحن أحوج إلى سهمين، قوله سبحانه: * (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض) *، يقول: فضل الرجال على النساء في الميراث، ونزل في قولهن: نرجو أن يكون الوزر على نحو ذلك: * (للرجال نصيب) *، يعني حظا * (مما اكتسبوا) * من الإثم، * (وللنساء نصيب) *، يعني حظا * (مما اكتسبن) * من الإثم، * (وسئلوا الله من فضله) *، يعني الرجال والنساء، * (إن الله كان بكل شيء) * من قسمة الميراث * (عليما) * [آية: 32]. به * (ولكل جعلنا موالي) *، يعني العصبة بني العم والقربى، * (مما ترك الوالدان
226 والأقربون والذين عقدت أيمانكم) *، كان الرجل يرغب في الرجل، فيحالفه ويعاقده على أن يكون معه وله من ميراثه كبعض ولده، فلما نزلت هذه الآية آية المواريث، ولم يذكر أهل العقد، فأنزل الله عز وجل: * (والذين عقدت أيمانكم) * * (فآتوهم نصيبهم) *، يقول: أعطوهم الذي سميتم لهم من الميراث، * (إن الله كان على كل شيء) * (من أعمالكم) * (شهيدا) * [آية: 33] إن أعطيتم نصيبهم أو لم تعطوهم، فلم يأخذ هذا الرجل شيئا حتى نزلت: * (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض) * [الأحزاب: 6]، فنسخت هذه الآية: * (والذين عقدت أيمانكم) *. تفسير سورة النساء آية [34] قوله عز وجل: * (الرجال قوامون على النساء) *، نزلت في سعد بن الربيع بن عمرو، من النقباء، وفي امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير، وهما من الأنصار من بني الحارث بن الخزرج، وذلك أنه لطم امرأته، فأتت أهلها، فانطلق أبوها معها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أنكحته وأفرشته كريمتي فلطمها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ' لتقتص من زوجها '، فأتت مع زوجها لتقتص منه، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ' ارجعوا، هذا جبريل، عليه السلام، قد أتاني، وقد أنزل الله عز وجل: * (الرجال قوامون على النساء) * '، يقول: مسلطون على النساء، * (بما فضل الله بعضهم على بعض) *، وذلك أن الرجل له الفضل على امرأته في الحق، * (وبما أنفقوا من أموالهم) *، يعني وفضلوا بما ساق إليها من المهر، فهم مسلطون في الأدب والأخذ على أيديهن، فليس بين الرجل وبين امرأته قصاص إلا في النفس والجراحة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: ' أردنا أمرا وأراد الله أمرا، والذي أراد الله خيرا '. ثم نعتهم، فقال سبحانه: * (فالصالحات) * (في الدين) * (قانتات) *، يعني مطيعات له ولأزواجهن، * (حافظات للغيب) * لغيبة أزواجهن في فروجهن
227 وأموالهم، * (بما حفظ الله) *، يعني بحفظ الله لهن، ثم قال: * (والاتي تخافون نشوزهن) *، يعني تعلمون عصيانهن من نسائكم، يعني سعدا، يقول: تعلمون معصيتهن لأزواجهن، * (فعظوهن) * بالله، فإن لم يقبلن العظة، * (واهجروهن في المضاجع) *، يقول: لا تقربها للجماع، فإن رجعت إلى طاعة زوجها بالعظة والهجران، وإلا * (واضربوهن) * ضربا غير مبرح، يعني غير شائن، * (فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا) *، يعني عللا، يقول: لا تكلفها في الحب لك ما لا تطيق، * (إن الله كان عليا) *، يعني رفيعا فوق خلقه، * (كبيرا) * [آية: 34]. تفسير سورة النساء آية 35 * (وإن خفتم) *، يعني علمتم * (شقاق بينهما) *، يعني خلاف بينهما، بين سعد وامرأته، ولم يتفقا، ولم يدر من قبل من منهما النشوز من فبل الرجل أو من قبل المرأة؟ * (فابعثوا) *، يعني الحاكم، يقول للحاكم، قابعثوا * (حكما من أهله وحكما من أهلها) *، فينظرون في أمرهما في النصيحة لهما، إن كان من قبل النفقة أو إضرار وعظا الرجل، وإن كان من قبلها، وعظاها لعل الله أن يصلح على أيديهما، فذلك قوله عز وجل: * (إن يريدا إصلاحا) *، يعني الحكمين، * (يوفق الله بينهما) * للصلح، فإن لم يتفقا وظنا أن الفرقة خير لهما في دينهما، فرق الحكمان بينهما برضاهما، * (إن الله كان عليما) *، بحكمهما * (خبيرا) * [آية: 35] بنصيحتهما في دينهما. تفسير سورة النساء من آية [36 - 39].
228 * (واعبدوا الله) *، يعني وحدوا الله، * (ولا تشركوا به شيئا) *؛ لأن أهل الكتاب يعبدون الله في غير إخلاص، فلذلك قال الله: * (ولا تشركوا به شيئا) * من خلقه، * (وبالوالدين إحسانا) *، يعني برا بهما، * (وبذي القربى) * والإحسان إلى ذي القربى، يعني صلته، * (و) * الإحسان إلى * (واليتامى والمساكين) * أن تتصدقوا عليهم، والإحسان إلى * (والجار ذي القربى) *، يعني جارا بينك وبينه قرابة، * (والجار الجنب) *، يعني من قوم آخرين، * (والصاحب بالجنب) *، يقول: الرفيق في السفر والحضر، * (وابن السبيل) *، يعني الضيف ينزل عليك أن تحسن إليه، * (و) * إلى * (وما ملكت أيمانكم) * من الخدم وغيره، وعن علي وعبد الله، قالا: * (والصاحب بالجنب) * المرأة، فأمر الله عز وجل بالإحسان إلى هؤلاء، * (إن الله لا يحب من كان مختالا) *، يعني بطرا مرحا * (فخورا) * [آية: 36] في نعم الله، لا يأخذ ما أعطاه الله عز وجل فيشكر. * (الذين يبخلون) *، يعني رؤوس اليهود، * (ويأمرون الناس بالبخل) *، وذلك أن رؤوس اليهود كعب بن الأشرف وغيره، كانوا يأمرون سفلة اليهود بكتمان أمر محمد صلى الله عليه وسلم خشية أن يظهروه ويبينوه، ومحوه من التوراة، * (ويكتمون ما آتاهم الله) * عز وجل، يعني ما أعطاهم * (من فضله) * في التوراة من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونعته، ثم أخبر عما لهم في الآخرة، فقال: * (وأعتدنا) * يا محمد * (للكافرين) *، يعني لليهود، * (عذابا مهينا) * [آية: 37]، يعني الهوان. ثم أخبر عنهم، فقال سبحانه: * (والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس) *، يعني اليهود، * (ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) *، يقول: لا يصدقون بالله أنه واحد لا شريك له، ولا يصدقون بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال بأنه كائن، * (ومن يكن الشيطان له قرينا) *، يعني صاحبا، * (فساء قرينا) * [آية: 38]، يعني فبئس الصاحب، ثم قال عز وجل: * (وماذا عليهم) *، يعني وما كان عليهم * (لو آمنوا بالله واليوم الآخر) *، يعني بالبعث، * (وأنفقوا مما رزقهم الله) * من الأموال في الإيمان ومعرفته، * (وكان الله بهم عليما) * [آية: 39] أنهم لن يؤمنوا. تفسير سورة النساء من آية [40 - 42]
229 * (إن الله لا يظلم مثقال ذرة) *، يعني لا ينقص وزن أصغر من الذرة من أموالهم، * (وإن تك حسنة) * واحدة * (يضاعفها) * حسنات كثيرة، فلا أحد أشكر من الله عز وجل، * (ويؤتي من لدنه أجرا عظيما) * [آية: 40]، يقول: ويعطي من عنده في الآخرة جزاء كثيرا، وهي الجنة، ثم خوفهم، فقال تعالى: * (فكيف) * بهم * (إذا جئنا من كل أمة بشهيد) *، يعني نبيهم، وهو شاهد عليهم بتبليغ الرسالة إليهم من ربهم، * (وجئنا بك) * يا محمد * (على هؤلاء شهيدا) * [آية: 41]، يعني كفار أمة محمد صلى الله عليه وسلم بتبليغ الرسالة. ثم أخبر عن كفار أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فقال سبحانه: * (يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض) *، وذلك بأنهم قالوا في الآخرة: والله ربنا ما كنا مشركين، فشهدت عليهم الجوارح بما كتمت ألسنتهم من الشرك، فودوا عند ذلك أن الأرض انشقت فدخلوا فيها فاستوت عليهم، * (ولا يكتمون الله حديثا) * [آية: 42]، يعني الجوارح حين شهدت عليهم. تفسير سورة النساء آية 43 * (يا أيها الذين آمنوا ولا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) *، لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم: ' قد قدم الله عز وجل تحريم الخمر إلينا '، وذلك أن عبد الرحمن بن عوف الزهري صنع طعاما، فدعا أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وسعد بن أبي وقاص، رحمهم الله جميعا، فأكلوا وسقاهم خمرا، فحضرت صلاة المغرب، فأمهم علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، فقرأ: * (قل يا أيها الكافرون) * [الكافرون: 1]، فقال في قراءته: نحن عابدون ما عبدتم، فأنزل الله عز وجل في علي بن أبي طالب، رضي الله عنه وأصحابه: * (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) * * (حتى تعلموا ما تقولون) * في صلاتكم، فتركوا شربها إلا من بعد صلاة الفجر إلى الضحى الأكبر،
230 فيصلون الأولى وهم أصحياء. ثم إن رجلا من الأنصار يسمى عتبان بن مالك دعا سعد بن أبي وقاص إلى رأس بعير مشوى، فأكلا ثم شربا فسكرا، فغضب الأنصاري، فرفع لحى البعير فكسر أنف سعد، فأنزل الله عز وجل تحريم الخمر في المائدة بعد غزوة الأحزاب، ثم قال سبحانه: * (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون) * * (ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا) *، ثم استثنى المسافر الذي لا يجد الماء، فقال سبحانه: * (إلا عابري سبيل) *، * (وإن كنتم مرضى أو على سفر) *، نزلت في عبد الرحمن بن عوف، أصابته جنابة وهو جريح، فشق عليه الغسل، وخاف منه شرا، أو يكون به قرح أو جدري، فهو بهذه المنزلة، فذاك قوله سبحانه: * (وإن كنتم مرضى) *، يعني به جرحا فوجدتم الماء، فعليكم التيمم. وإن كنتم على سفر وأنتم أصحاء، نزلت في عائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها، * (أو جاء أحد منكم من الغائط) *، يعني الخلاء، * (أو لمستم النساء) *، يعني جامعتم، * (فلم تجدوا ماء فتيمموا) *، يقول: الصحيح الذي لا يجد الماء، والمريض الذي يجد الماء يتيمموا * (صعيدا طيبا) *، يعني حلالا طيبا، * (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم) * إلى الكرسوع، * (إن الله كان عفوا) * عنكم * (غفورا) * [آية: 43] لما كان منكم قبل النهى عن السكر والصلاة والتيمم بغير وضوء، وقد نزلت آية التيمم في أمر عائشة، رضي الله عنها ، بين الصلاتين. تفسير سورة النساء من آية [44 - 45] * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا) *، يعن حظا، ألم تر إلى فعل الذين أعطوا نصيبا، يعني حظا * (من الكتاب) *، يعني التوراة، * (يشترون) *، يعني يختارون، وهم اليهود، منهم إصبغ ورافع ابنا حريملة، وهما من أحبار اليهود * (يشترون) * * (الضلالة) *، يعني باعوا إيمانا بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث، بتكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد بعثته، * (ويريدون أن تضلوا السبيل) * [آية: 44]، يعني أن تخطئوا قصد طريق الهدى كما أخطأوا الهدى، نزلت في عبد الله بن أبي، ومالك بن دخشم، حين دعوهما إلى دين اليهودية وعيروهما بالإسلام وزهدوهما فيه، وفيهما نزلت: * (والله أعلم بأعدائكم) *، يعني بعداوتهم إياكم، يعني
231 اليهود، * (وكفى بالله وليا) *، فلا ولى أفضل من الله عز وجل، * (وكفى بالله نصيرا) * [آية: 45]، فلا ناصر أفضل من الله جل ذكره. وفيهما نزلت: * (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم) * [آل عمران: 118]، نزلت في عبد الله بن أبي، ومالك بن دخشم، وفي بني حريملة. تفسير سورة النساء آية 46 * (من الذين هادوا) *، يعني اليهود، * (يحرفون الكلم عن مواضعه) *، يعني بالتحريف نعت محمد صلى الله عليه وسلم، عن مواضعه، عن بيانه في التوراة، ليا بألسنتهم، * (ويقولون) * للنبي صلى الله عليه وسلم * (سمعنا) * قولك * (وعصينا) * أمرك، فلا تطيعك، * (واسمع) * منا يا محمد تحدثك * (غير مسمع) * منك قولك يا محمد، غير مقبول ما تقزل، * (وراعنا) *، يعني أرعنا سمعك، * (ليا بألسنتهم وطعنا في الدين) *، يعني دين الإسلام، يقولون: إن دين محمد ليس بشيء، ولكن الذي نحن عليه هو الدين. يقول الله عز وجل: * (ولو أنهم قالوا سمعنا) * قولك * (وأطعنا) * أمرك * (واسمع) * منا * (وانظرنا) * حتى نحدثك يا محمد، * (لكان خيرا لهم) * من التحريف والطعن في الدين ومن راعنا * (وأقوم) *، يعني وأصوب من قولهم الذي قالوا، * (ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا) * [آية: 46]، والقليل الذي آمنوا به، إذ يعلمون أن الله ربهم، وهو خالقهم ورازقهم، ويكفرون بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، نزلت في رفاعة بن زيد بن السائب، ومالك بن الضيف، وكعب بن أسيد، كلهم يهود، مثلها في آخر السورة. تفسير سورة النساء آية 47 ثم خوفهم، فقال: * (يا أيها الذين أوتوا الكتاب) *، يعني كعب بن الأشرف، يعني الذي أعطوا التوراة، * (آمنوا بما نزلنا) *، يعني بما أنزل الله من القرآن على محمد، * (مصدقا لما معكم) *، يقول: تصديق محمد معكم في التوراة أنه نبي رسول، * (من
232 قبل أن نطمس وجوها) *، يقول: نحول الملة عن الهدى والبصيرة التي كانوا عليها من إيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث، * (فنردها على أدبارها) * بعد الهدى الذي كانوا عليه كفارا ضلالا، * (أو نلعنهم) *، يعني نعذبهم * (كما لعنا) *، يعني كما عذبنا * (أصحاب السبت) *، يقول: فنمسخهم قردة كما فعلنا بأوائلهم، * (وكان أمر الله مفعولا) * آية: 47]، يقول: أمره كائن لا بد، هذا وعيد. تفسير سورة النساء آية 48 * (إن الله لا يغفر أن يشرك به) *، فيموت عليه، يعني اليهود، * (ويغفر ما دون ذلك) * (الشرك) * (لمن يشاء) * لمن مات موحدا، فمشيئته تبارك وتعالى لأهل التوحيد. قال: حدثنا عبيد الله بن ثابت، قال: حدثني أبي، عن الهذيل، عن مقاتل بن سليمان، عن رجل، عن مجاهد، أن الاستثناء لأهل التوحيد، * (ومن يشرك بالله) * معه غيره، * (فقد افترى إثما عظيما) * [آية: 48]، يقول: فقد قال ذنبا عظيما. تفسير سورة النساء آية [49 - 51] * (ألم تر) *، يعني ألم تنظر * (إلى) *، يعني فعل * (الذين يزكون أنفسهم) *، يعني اليهود، منهم بحرى بن عمرو، ومرحب بن زيد، دخلوا بأولادهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أهل لهؤلاء ذنوب؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ' لا '، فقالوا: والذي تحلف به ما نحن إلا كهيئتهم، نحن أبناء الله وأحباؤه، وما من ذنب نعمله بالنهار إلا غفر لنا بالليل، وما من ذنب نعمله بالليل إلا غفر لنا بالنهار، فزكوا أنفسهم، يقول الله عز وجل، * (بل الله يزكي من يشاء) *، يعني يصلح من يشاء من عباده، * (ولا يظلمون) *، يعني ولا ينقصون من أعمالهم * (فتيلا) * [آية: 49]، يعني الأبيض الذي يكون في شق النواة من الفتيل. يقول الله عز وجل: يا محمد، * (انظر كيف يفترون على الله الكذب) *، لقولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه، * (وكفى به) *، يعني بما قالوا، * (إثما مبينا) * [آية: 50]، يعني بينا، * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب) *، وذلك أن كعب بن الأشرف
233 اليهودي، وكان عربيا من طيىء، وحيى بن أخطب، انطلقا في ثلاثين من اليهود إلى مكة بعد قتال أحد، فقال أبو سفيان بن حرب: إن أحب الناس إلينا من يعيننا على قتال هذا الرجل، حتى نفنى أو يفنوا، فنزل كعب على أبي سفيان، فأحسن مثواه، ونزلت اليهود في دور قريش، فقال كعب لأبي سفيان: ليجيء منكم ثلاثون رجلا، ومنا ثلاثون رجلا، فنلصق أكبادنا بالكعبة، فنعاهد رب هذا البيت، لنجتهدن على قتال محمد، ففعلوا ذلك. قال أبو سفيان لكعب بن الأشرف: أنت امرؤ من أهل الكتاب تقرأ الكتاب، فنحن أهدى أم ما عليه محمد؟ فقال: إلى ما يدعوكم محمد؟ قال: إلى أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا، قال: فأخبروني ما أمركم؟ وهو يعلم ما أمرهم، قالوا: ننحر الكوماء، ونقرى الضيف، ونفك العاني، يعني الأسير، ونسقى الحجيج الماء، ونعمر بيت ربنا، ونصل أرحامنا، ونعبد إلهنا ونحن أهل الحرم، فقال كعب: أنت والله أهدى مما عليه محمد، فأنزل الله عز وجل: * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب) *، يقول: أعطوا حظا من التوراة * (يؤمنون بالجبت) *، يعني حيى بن أخطب القرظي، * (والطاغوت) *، وكعب بن الأشرف، * (ويقولون للذين كفروا) * من أهل مكة * (هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا) * [آية: 51]، يعني طريقا. تفسير سورة النساء آية [52 - 55] يقول الله: * (أولئك الذين لعنهم الله) *، يعني كعبا وأصحابه، * (ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا) * [آية: 52]، فلما رجع كعب إلى المدينة، بعث الني صلى الله عليه وسلم إلى نفر من أصحابه بقتله، فقتله محمد بن مسلمة الأنصاري، من بني حارثة بن الحارث تلك الليلة، فلما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم سار في المسلمين، فحاصر أهل النضير حتى أجلاهم من المدينة إلى أذرعات وأريحا من أرض الشام، * (أم لهم) *، تقول: ألهم، والميم ها هنا صلة، فلو كان لهم، يعني اليهود، * (نصيب) *، يعني حظا * (من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا) * [آية: 53]، يعني لا يعطون الناس من بخلهم وحسدهم وقلة خيرهم، نقيرا يعني بالنقير النقرة التي في ظهر النواة التي ينبت منها النخلة.
234 * (أم يحسدون الناس) *، يعني النبي صلى الله عليه وسلم وحده، * (على ما آتاهم الله من فضله) *، يعني ما أعطاهم من فضله، وذلك أن اليهود قالوا: انظروا إلى هذا الذي لا يشبع من الطعام، ما له هم إلا النساء، يعنون النبي صلى الله عليه وسلم، فحسدوه على النبوة وعلى كثرة النساء، ولو كان نبيا ما رغب في النساء، يقول الله عز وجل: * (فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة) *، يعني النبوة، * (وآتيناهم ملكا عظيما) * [آية: 54]، وكان يوسف منهم على مصر، وداود وسليمان منهم، وكان لداود تسعة وتسعون امرأة، وكان لسليمان ثلاثمائة امرأة حرة، وسبعمائة سرية، فكيف تذكرون محمدا في تسع نسوة، ولا تذكرون داود وسليمان، عليهما السلام، فكان هؤلاء أكثر نساء، وأكثر ملكا من محمد صلى الله عليه وسلم. ومحمد أيضا من آل إبراهيم، وكان إبراهيم ولوطا، وإسحاق، وإسماعيل، ويعقوب، عليهم السلام، يعملون بما في صحف إبراهيم، * (فمنهم) *، يعني من آل إبراهيم * (من آمن به) *، يقول: صدق بالكتاب الذي جاء به، * (ومنهم من صد عنه) *، يعني أعرض عن الإيمان بالكتاب ولم يصدق به، * (وكفى بجهنم سعيرا) * [آية: 55]، يقول: وكفى بوقودها وعذابها وقودا لمن كفر بكتاب إبراهيم، فلا وقود أحر من جهنم لأهل الكفر. تفسير سورة النساء آية 56 ثم أخبر بمستقر الكفار، فقال سبحانه: * (إن الذين كفروا) *، يعني اليهود، * (بآياتنا) *، يعني القرآن، * (سوف نصليهم نارا كلما نضجت) *، يعني احترقت * (جلودهم بدلناهم جلودا غيرها) *، جددنا لهم جلودا غيرها، وذلك أن النار إذا أكلت جلودهم بدلت كل يوم سبع مرات على مقدار كل يوم من أيام الدنيا، * (ليذوقوا العذاب) * عذاب النار جديدا، * (إن الله كان عزيزا) * في نقمته، * (حكيما) * [آية: 56]، حكم لهم النار. تفسير سورة النساء آية 57 ثم أخبر بمستقر المؤمنين، فقال سبحانه: * (والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات) *، يعني البساتين، * (تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا) *، لا يموتون، * (لهم فيها أزواج) *، يعني النساء، * (مطهرة) *، يعني المطهرات من الحيض والغائط والبول
235 والقذر كله، * (وندخلهم ظلا) *، يعني أكنان القصور، * (ظليلا) * [آية: 57]، يعني لا خلل فيها. تفسير سورة النساء آية 58 * (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) *، نزلت في عثمان بن طلحة بن عبد الله القرشي، صاحب الكعبة في أمر مفاتيح الكعبة، وذلك أن العباس بن عبد المطلب، رضي الله عنه، قال للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل فينا السقاية والحجابة لنسود بها الناس، وقد كان أخذ المفتاح من عثمان حين افتتح مكة، فقال عثمان بن طلحة للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فادفع إلى المفتاح، فدفع النبي صلى الله عليه وسلم المفتاح، ثم أخذه ثلاث مرات، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت، فأنزل الله تبارك وتعالى: * (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) *، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان: ' خذه بأمانة الله '، حيث دفع إليه المفتاح، فقال العباس، رضي الله عنه، للنبي صلى الله عليه وسلم: جعلت السقاية فينا والحجابة لغيرنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ' أما ترضون أني جعلت لكم ما تدرون، ونحيت عنكم ما لا تدرون، ولكم أجر ذلك؟ '، قال العباس: بلى، قال: ' بشرفهم بذلك، أي تفضلون على الناس، ولا يفضل الناس عليكم '. ثم قال عز وجل: * (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا) * [آية: 58]، فلا أحد أسمع منه، * (بصيرا) *، فلا أحد أبصر منه، فكان من العدل أن دفع السقاية إلى العباس بن عبد المطلب، والحجابة إلى عثمان بن طلحة؛ لأنهما كانا أهلها في الجاهلية. تفسير سورة النساء 59 * (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) *، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم، بعث خالد بن الوليد على سرية فيهم عمار بن ياسر، فساروا حتى دنوا من الماء، فعرسوا قريبا، وبلغ العدو أمرهم فهربوا، وبقى منهم رجل، فجمع متاعه، وجاء ليلا فلقى عمارا، فقال: يا أبا اليقظان، إن القوم سمعوا بكم، فهربوا ولم يبق غيري، وقد
236 أسلمت، وشهدت ألا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، فهل الإسلام نافعي؟ فقال عمار: ينفعك، فأقم، فلما أصبح خالد غار بخيلة، فلم يجد إلا هذا الرجل وماله، فقال عمار: خل عن هذا الرجل وماله، فقد أسلم وهو في أماني، قال خالد: فبم أنت تجير دوني وأنا أمير عليك، فاستبا، فلما رجعا إلى المدينة أجاز النبي صلى الله عليه وسلم أمان عمار، ونهاه أن يجير الثانية على أمير، فقال خالد: يا نبي الله، يسبني هذا العبد الأجدع، وشتم خالد عمارا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخالد: ' لا تسب عمارا، فمن سب عمارا سب الله، ومن أبغض عمارا أبغضه الله، ومن لعن عمارا لعنه الله '، فغضب عمار، فقام فذهب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخالد: ' قم فاعتذر إليه '، فأتاه خالد فأخذ بثوبه، فاعتذر إليه، فأعرض عنه، فأنزل الله عز وجل في عمار: * (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) *، يعني خالد بن الوليد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان ولاه أمرهم، فأمر الله عز وجل بطاعة أمراء سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم. * (فإن تنازعتم في شيء) * من الحلال والحرام، يعني خالدا وعمارا، * (فردوه إلى الله) *، يعني إلى القرآن، * (والرسول) *، يعني سنة النبي صلى الله عليه وسلم، نظيرها في النور، ثم قال: * (إن كنتم تؤمنون بالله) *، يعني تصدقون بالله بأنه واحد لا شريك له، * (واليوم الآخر) *، يعني باليوم الذي فيه جزاء الأعمال، فليفعل ما أمر الله، * (ذلك) * الرد إليهما * (خير وأحسن تأويلا) * آية: 59]، يعني وأحسن عاقبة. تفسير سورة النساء آية [60 - 64]
237 * (ألو تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا) *، يعني صدقوا * (بما أنزل إليك) * من القرآن * (و) * صدقوا ب * (وما أنزل من قبلك) * من الكتب على الأنبياء، وذلك أن بشر المنافق خاصم يهوديا، فدعاه اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ودعاه المنافق إلى كعب، ثم إنهما اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقضى لليهودي على المنافق، فقال المنافق لليهودي: اتطلق أخاصمك إلى عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فقال اليهودي لعمر، رضي الله عنه: إني خاصمته إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فقضى لي، فلم يرض بقضائه، فزعم أنه مخاصمني إليك، فقال عمر، رضي الله عنه، للمنافق: أكذلك؟ قال: نعم، أحببت أن أفترق عن حكمك، فقال عمر، رضي الله عنه، مكانك حتى أخرج إليكما، فدخل عمر، رضي الله عنه، فأخذ السيف، واشتمل عليه، ثم خرج إلى المنافق فضربه حتى برد، فقال عمر، رضي الله عنه: هكذا أقضى على من لم يرض بقضاء الله عز وجل وقضاء رسوله صلى الله عليه وسلم. وأتى جبريل، عليه السلام، إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، قد قتل عمر الرجل، وفرق الله بين الحق والباطل، فسمى عمر، رضي الله عنه، الفاروق، فأنزل الله عز وجل في بشر المنافق: * (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك) * * (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت) *، يعني كعب بن الأشرف، وكان يتكهن، * (وقد أمروا أن يكفروا به) *، يعني أن يتبرأوا من الكهنة، * (ويريد الشيطان أن يضلهم) * عند الهدى * (ضلالا بعيدا) * [آية: 60]، يعني طويلا. * (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله) * في كتابه، * (وإلى الرسول رأيت المنافقين) *، يعني بشرا، * (يصدون عنك صدودا) * [آية: 61]، يعني يعرضون عنك يا محمد إعراضا إلى غيرك، مخافة أن تحيف عليهم، * (فكيف) * بهم، يعني المنافقين، * (إذا أصابتهم مصيبة) * في أنفسهم بالقتل، * (بما قدمت أيديهم) * من المعاصي في التقديم، ثم انقطع الكلام، ثم ذكر الكلام، فقال عز ذكره: * (ثم جاءوك يحلفون بالله) * نظيرها في سورة براءة، * (إن أردنا) * ببناء مسجد القرار، * (إلا إحسانا وتوفيقا) * [آية: 62]، يعني إلا الخير والصواب، وفيهم نزلت: * (وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى) *، يعني إلا الخير، * (والله يشهد إنهم لكاذبون) * [التوبة: 107] في قولهم الذي حلفوا به. * (أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم) * من النفاق، * (فأعرض عنهم
238 وعظهم) * (بلسانك) * (وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا) * [آية: 63]، نسختها آية السيف، * (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع) *، يعني إلا لكي يطاع، * (بإذن الله) *، يقول: لا يطيعه أحد حتى يأذن الله عز وجل له في طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، * (ولو أنهم إذا ظلموا أنفسهم جاءوك) * بالذنوب، يعني حين لم يرضوا بقضائك جاءوك: * (فاستغفروا الله) * من ذنوبهم، * (واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما) * [آية: 64]. تفسير سورة النساء آية [65 - 68] * (فلا وربك لا يؤمنون) *، وذلك أن الزبير بن العوام، رضي الله عنه، وهو من بنى أسد بن عبد العزى، وحاطب بن أبي بلتعة العنسي من مذحج، وهو حليف لبني أسد بن عبد العزى، اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الماء، وكانت أرض الزبير فوق أرض حاطب، وجاء السيل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للزبير: ' اسق، ثم أرسل الماء إلى جارك '، فغضب حاطب وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه ابن عمتك، فتغير وجه النبي صلى الله عليه وسلم، ومر حاطب على المقداد بن الأسود الكندي، فقال: يا أبا لتعة، لمن كان القضاء، فقال: قضى لابن عمته، ولوى شدقه، فأنزل الله عز وجل، فأقسم: * (فلا وربك لا يؤمنون) * * (حتى يحكموك فيما شجر بينهم) *، يعني اختلفوا بينهم، يقول: لا يستحقون الإيمان حتى يرضوا بحكمك فيما اختلفوا فيه من شيء، * (ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت) *، يقول: لا يجدون في قلوبهم شكا مما قضيت أنه الحق، * (ويسلموا) * لقضائك لهم وعليهم * (تسليما) * [آية: 65]. فقالت اليهود: قاتل الله هؤلاء، ما أسفههم، يشهدون أن محمدا رسول الله ويبذلون له دماءهم، وأموالهم، ووطئوا عقبة، ثم يتهمونه في القضاء، فوالله لقد أمرنا موسى، عليه السلام، في ذنب واحد، أتيناه فقتل بعضنا بعضا، فبلغت القتلى سبعين ألفا حتى رضى الله عنا، وما كان يفعل ذلك غيرنا، فقال عند ذلك ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري:
239 فوالله، إن الله عز وجل ليعلم أنه لو أمرنا أن نقتل أنفسنا لقتلناها، فأنزل الله عز وجل في قول ثابت: * (ولو أنا كتبنا) *، يقول: لو أنا فرضنا * (عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم) *، فكان من ذلك القليل عمار بن ياسر، وعبد الله بن مسعود، وثابت بن قيس، فقال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، والله لو فعل ربنا لفعلنا، فالحمد لله الذي لم يفعل بنا ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ' والذي نفسي بيده، للإيمان أثبت في قلوب المؤمنين من الجبال الرواسي '. ثم قال: * (ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به) * من القرآن، * (لكان خيرا لهم) * في دينهم، * (وأشد تثبيتا) * [آية: 66، يعني تصديقا في أمر الله عز وجل، * (وإذا لآتيناهم من لدنا) *، يعني من عندنا، * (أجرا عظيما) * [آية: 67]، يعني الجنة، * (ولهديناهم صراطا مستقيما) * [آية: 68]، فلما نزلت: * (إلا قليل منهم) *، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ' لعمار بن ياسر، وعبد الله بن مسعود، وثابت بن الشماس من أولئك القليل '. تفسير سورة النساء آية [69 - 70] * (ومن يطع الله والرسول) *، نزلت في رجل من الأنصار يسمى: عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري، قال للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي رأى الأذان في المنام مع عمر بن الخطاب، رضي الله عنهما: إذا خرجنا من عندك إلى أهالينا اشتقنا إليك، فلم ينفعنا شيء حتى نرجع إليك، فذكرت درجاتك في الجنة، فكيف لنا برؤيتك إن دخلنا الجنة؟ فأنزل الله عز وجل: * (ومن يطع الله والرسول) * * (فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين) * بالنبوة، * (والصديقين) * بالتصديق، وهم أول من صدق بالأنبياء، عليهم السلام، حين عاينوهم، * (والشهداء) *، يعني القتلى في سبيل الله بالشهادة، * (والصالحين) *، يعني المؤمنين أهل الجنة، * (وحسن أولئك رفيقا) * [آية: 69]، * (ذلك) *، يعني هذا الثواب هو * (الفضل من الله وكفى بالله عليما) * [آية: 70]، فلما توفي النبي صلى الله عليه وسلم أتاه ابنه وهو في حديقة له، فأخبره بموت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عند ذلك: اللهم اعمني، فلا أرى شيئا بعد حبيبي أبدا، فعمى مكانه، وكان يحب النبي صلى الله عليه وسلم حبا شديدا، فجعله الله عز وجل مع النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة.
240 تفسير سورة النساء آية [71 - 75] * (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم) *، يعني عدتكم من السلاح، * (فانفروا ثبات) *، عصبا سرايا جماعة إلى عدوكم، * (أو انفروا) * إليهم * (جميعا) * [آية: 71] مع النبي صلى الله عليه وسلم، إذا نفر، * (وإن منكم لمن ليبطئن) *، يعني ليتخلفن النفر، نزلت في عبد الله بن أبي بن ملك بن أبي عوف بن الخزرج رأس المنافقين، * (فإن أصابتكم مصيبة) *، يعني بلاء من العدو أو شدة من العيش، * (قال) * المنافق، * (قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا) * [آية: 72]، يعني شاهدا فيصيبني من البلاء ما أصابهم. * (ولئن أصابكم فضل) *، يعني رزق، * (من الله) * عز وجل، يعني الغنيمة، * (ليقولن) * ندامة في التخلف، * (كأن لم تكن بينكم وبينه مودة) * في الدين والولاية، * (يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما) * [آية: 73]، فالحق من الغنيمة نصيبا وافرا، * (فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب) *، فيقتل في سبيله أو يغلب عدوه * (فسوف نؤتيه أجرا عظيما) *، [آية: 74] في الجنة، لقولهم للنبي صلى الله عليه وسلم: إن نقاتل فنقتل ولا نقتل؟ فنزلت هذه الآية، فأشركهم جميعا في الأجر، * (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله) *، وتقاتلون عن، * (والمستضعفين) *، يعني المقهورين * (من الرجال والنساء والولدان) * المقهورين بمكة حتى يتسع الأمر، ويأتي إلى الإسلام من أراد منهم. ثم أخبر عنهم، فقال سبحانه: * (الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية) *، يعني مكة، * (الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا) *، يعني من عندك وليا، * (واجعل لنا من لدنك نصيرا) * [آية: 75] على أهل مكة والمستضعفين من الرجال، يعني المؤمنين، قال
241 ابن عباس، رحمه الله: كنت أنا وأمي من المستضعفين من النساء والولدان. تفسير سورة النساء آية 76 ثم قال: * (الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله) *، يعني طاعة الله، * (والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت) *، يعني في طاعة الشيطان، ثم حرض الله عز وجل المؤمنين، فقال: * (فقاتلوا أولياء الشيطان) *، يعني المشركين بمكة * (إن كيد) *، يعني إن مكر * (الشيطان كان ضعيفا) * [آية: 76]، يعني واهنا، كقوله سبحانه: * (موهن كيد الكافرين) * [الأنفال: 18]، يعني مضعف كيد الكافرين، فسار النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة ففتحها، وجعل الله عز وجل للمستضعفين مخرجا. تفسير سورة البقرة آية 77 * (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم) * عن القتال، نزلت في عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، رضي الله عنهما، وهما من بني زهرة، وقدامة بن مظعون الجمحي، والمقداد بن الأسود الكندي، رضي الله عنهم، وذلك أنهم استأذنوا في قتال كفار مكة سرا، مما كانوا يلقون منهم من الأذى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ' مهلا، كفوا أيديكم عن قتالهم، * (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) *، فإني لم أومر بقتالهم '، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، أمر الله عز وجل بالقتال، فكره بعضهم، فذلك قوله عز وجل: * (فلما كتب عليهم القتال) *، يعني فرض القتال بالمدينة، * (إذا فريق منهم) *، نزلت في طلحة بن عبيد الله، رضي الله عنه، * (يخشون الناس) *، يعني كفار مكة، * (كخشية الله) *، فلا يقاتلونهم، * (أو أشد خشية وقالوا) *، وهو الذي قال: * (ربنا لم كتبت علينا القتال) *، يعني لم فرضت علينا القتال، * (لولا أخرتنا إلى أجل قريب) * هلا تركتنا حتى نموت موتا وعافيتنا من القتل، * (قل متاع الدنيا قليل) *، تتمتعون فيها يسيرا، * (والآخرة خير) * من الدنيا، يعني الجنة أفضل من الدنيا، * (لمن اتقى ولا تظلمون) * من أعمالكم الحسنة * (فتيلا) * [آية: 77]، يعني الأبيض الذي يكون في وسط النواة حتى يجازوا بها.
242 تفسير سورة النساء آية 78 ثم أخبر عن كراهيتهم للقتال ذاكرا لهم أن الموت في أعناقكم، فقال سبحانه: * (أينما تكونوا) * من الأرض * (يدرككم) *، يعني يأتيكم * (الموت ولو كنتم في بروج مشيدة) *، يعني القصور الطوال المشيدة إلى السماء في الحصانة حين لا يخلص إليه ابن آدم يخلص إليه الموت حين يفر منه، وقال عبد الله بن أبي، لما قتلت الأنصار يوم أحد، قال: لو أطاعونا ما قتلوا، فنزلت: * (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة) *، يعني القصور. ثم أخبر سبحانه عن المنافقين عبد الله بن أبي وأصحابه، فقال: * (وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله) * ببدر، يعني نعمة، وهي الفتح والغنيمة، يقول: هذه الحسنة من عند الله، * (وإن تصبهم سيئة) *، يعني بلية، وهي القتل والهزيمة يوم أحد، * (يقولوا هذه من عندك) * يا محمد، أنت حملتنا على هذا، وفي سببلك كان هذا، فقال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: * (قل كل) *، يعني الرخاء والشدة * (من عند الله فمال هؤلاء القوم) *، يعني المنافقين * (لا يكادون يفقهون حديثا) * [آية: 78]، أن الشدة والرخاء والسيئة والحسنة من الله، ألا يسمعون ما يحذرهم ربهم في القرآن؟ يعني عبد الله بن أبي. تفسير سورة النساء آية 79 فقال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: * (ما أصابك من حسنة) *، يعني الفتح والغنيمة يوم بدر، * (فمن الله) * كان، * (وما أصابك من سيئة) *، يعني البلاء من العدو، والشدة من العيش يوم أحد، * (فمن نفسك) *، يعني فبذنبك، يعني ترك المركز، وفي مصحف عبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب: ' فبذنبك، وأنا كتبتها عليك '، * (وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا) * [آية: 79]، يعني فلا شاهد أفضل من الله بأنك رسوله. تفسير سورة النساء آية [80 - 81]
243 * (من يطع الرسول فقد أطاع الله) *، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المدينة: ' من أحبني فقد أحب الله، ومن أطاعني فقد أطاع الله '، فقال المنافقون: ألا تسمعون إلى هذا الرجل وما يقول؟ لقد قارب الشرك، وهو ينهى ألا يعبد إلا الله، فما حمله على الذي قال إلا أن نتخذه حنانا، يعنون ربا، كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم حنانا، فأنزل الله عز وجل تصديقا لقول نبيه صلى الله عليه وسلم: * (من يطع الرسول فقد أطاع الله) * * (ومن تولى) * عرض عن طاعتهما، * (فما أرسلناك عليهم حفيظا) * [آية: 80]، يعني رقيبا. ثم أخبر عن المنافقين، فقال سبحانه: * (ويقولون طاعة) * للنبي صلى الله عليه وسلم حين أمرهم بالجهاد، وذلك أنهم دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: مرنا بما شئت، فأمرك طاعة، فإذا خرجوا من عنده خالفوا، وقالوا غير الذي قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل: * (ويقولون طاعة) * للنبي صلى الله عليه وسلم، * (فإذا برزوا من عندك) *، يعني خرجوا من عندك يا محمد، * (بيت طائفة) *، يقول: ألفت طائفة، * (منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون) *، يعني الحفظة، فيكتبون ما يقولون من الكذب، * (فأعرض عنهم) *، يعني الجلاس بن سويد، وعمرو بن زيد، فلا تعاتبهم، * (وتوكل على الله) *، يعني وثق بالله عز وجل، * (وكفى بالله وكيلا) * [آية: 81]، يعني وكفى به منيعا، فلا أحد أمنع من الله عز وجل، ويقال: وكيلا، يعني شهيدا لما يكتمون. تفسير سورة النساء آية [82 - 84] ثم وعظهم، فقال سبحانه: * (أفلا يتدبرون) *، يعني أفلا يسمعون * (القرآن) * فيعلمون أنه، * (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) * [آية: 82]، يعني كذبا كبيرا؛ لأن الاختلاف في قول الناس، وقول الله عز وجل لا اختلاف فيه، * (وإذا جاءهم) *، يعني المنافقين، * (أمر من الأمن) *، يعني شيئا من الأمر يسر المؤمنين من الفتح والخير، قصروا عما جاءهم من الخير.
244 ثم قال سبحانه: * (أو الخوف) *، يعني فإن جاءهم بلاء أو شدة نزلت بالمؤمنين، * (أذاعوا به) *، يعني أفشوه، فإذا سمع ذلك المسلمون كاد أن يدخلهم الشك، * (ولو ردوه إلى الرسول) * حتى يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بما كان من الأمر أو ردوه، * (وإلى أولي الأمر منهم) *، يقول: أمراء السرايا، فيكونون هم الذين يخبرون ويكتبون به، * (لعلمه الذين يستنبطونه منهم) *، يعني الذين يتبينونه منهم، يعني الخير على وجهه، ويحبوا أن يعلموا ذلك فيعلمونه، ثم قال سبحانه: * (ولولا فضل الله عليكم ورحمته) *، يعني ونعمته فعصمكم من قول المنافقين، * (لاتبعتم الشيطان إلا قليلا) * [آية: 83]، نزلت في أناس كانوا يحدثون أنفسهم بالشرك. ثم قال عز وجل: * (فقاتل في سبيل الله) *، فأمره أن يقاتل بنفسه، * (لا تكلف إلا نفسك) *، يعني ليس عليك ذنب غيرك، * (وحرض المؤمنين) *، يعني وحرض على القتال، يعني على قتال العدو، * (عسى الله أن يكف بأس) *، يعني قتال * (الذين كفروا والله أشد بأسا) *، يعني أخذا، * (وأشد تنكيلا) * [آية: 84]، يعني نكالا، يعني عقوبة من الكفار، ولو لم يطع النبي صلى الله عليه وسلم أحدا من الكفار، لكفاه الله عز وجل. تفسير سورة النساء آية [85 - 88] وقوله سبحانه: * (من يشفع شفاعة حسنة) * لأخيه المسلم بخير، * (يكن له نصيب منها) *، يعني حظا من الأجر من أجل شفاعته، * (ومن يشفع شفاعة سيئة) *، وهو الرجل يذكر أخاه بسوء عند رجل فيصيبه عنت منه، فيأثم المبلغ، فذلك قوله سبحانه: * (يكن له كفل منها) *، يعني إثما من شفاعته، * (وكان الله على كل شيء مقيتا) * [آية: 85] من الحيوان، عليه قوت كل دابة لمدة رزقها. * (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها) *، نزلت في نفر بخلوا بالسلام، فحيوا بأحسن منها، * (أو ردوها) *، يقول: فردوا عليه أحسن مما قال: قال فيقول: وعليك
245 ورحمة الله وبركاته، أو يرد عليه مثل ما سلم عليه، * (إن الله كان على كل شيء) * من أمر التحية، إن رددت عليها أحسن منها أو مثلها، * (حسيبا) * [آية: 86]، يعني شهيدا، * (الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة) *، نزلت في قوم شكوا في البعث، فأقسم الله عز وجل بنفسه ليبعثهم إلى يوم القيامة، * (لا ريب فيه) *، يعني لا شك في البعث، * (ومن أصدق من الله حديثا) * [آية: 87]، يقول: فلا أحد أصدق من الله حديثا إذا حدث، يعني في أمر البعث. * (فما لكم) * صرتم * (في المنافقين) * نزلت في تسعة نفر، منهم: مخرمة بن زيد القرشي، هاجروا من مكة إلى المدينة، فقدموا وأرادوا الرجعة، فقال بعضهم: نخرج كهيئة البداة، فإذا غفل عنا مضينا إلى مكة، فجعلوا يتحولون منقله منقلة، حتى تباعدوا من المدينة، ثم إنهم أدلجوا حتى أصبحوا قد قطعوا أرضا بعيدة، فلحقوا بمكة، فكتبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: إنا على ما فرقناك عليه، ولكنا اشتقنا إلى بلادنا وإخوتنا بمكة، ثم إنهم خرجوا تجارا إلى الشام، واستبضعهم أهل مكة بضائعهم، فقالوا لهم: أنتم على دين محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلا بأس عليكم، فساروا وبلغ المسلمين أمرهم، فقال بعضهم لبعض: أخرجوا إلى هؤلاء فنقاتلهم، ونأخذ ما معهم، فإنهم تركوا دار الهجرة وظاهروا عدونا. وقال آخرون: ما حلت دماؤهم ولا أموالهم ولكنهم فتنوا، ولعلهم يرجعوا للتوبة، والنبي صلى الله عليه وسلم ساكت، فأنزل الله عز وجل يخبر عن التسعة رهط ويعظ المؤمنين ليكون أمرهم جميعا عليهم، فقال الله عز وجل: * (فما لكم) * صرتم * (في المنافقين) * * (فئتين) * تختصمون، * (والله أركسهم) *، يعني أضلهم فردهم إلى الكفر، * (بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله) * عن الهدى، * (فلن تجد له سبيلا) * [آية: 88]. تفسير سورة النساء آية [89 - 91]
246 ثم أخبر عن التسعة، فقال سبحانه: * (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء) * أنتم وهم على الكفر، * (فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله) *، يعني حتى يهاجروا إلى دار الهجرة بالمدينة، * (فإن تولوا) *، فإن أبوا الهجرة، * (فخذوهم) *، يعني فأسروهم، * (واقتلوهم حيث) *، يعني أين * (وجدتموهم) * من الأرض في الحل والحرم، * (ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا [آية: 89]، يعني ولا ناصرا) *. ثم استثنى، فقال: * (إلا الذين يصلون) *، يعني التسعة المرتدين، * (إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق) *، يعني عهد خزاعة وبني خزيمة، وفيهم نزلت: * (إلا الذين عاهدتم من المشركين) * [التوبة: 4]، إن وصل هؤلاء التسعة إلى أهل عهدكم وهم خزاعة، منهم: هلال بن عويمر الأسلمي، وسراقة بن مالك بن جشم، وبنو مدلج، وبنو جذيمة، وهما حيان بن كنانة، فلا تقتلوا التسعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صالح هؤلاء على أن من يأتيهم من المسلمين فهو آمن، يقول: إن وصل هؤلاء وغيرهم إلى أهل عهدكم، فإن لهم مثل الذي لحلفائهم. ثم قال عز وجل: * (أو جاءوكم) *، يعني بني جذيمة، * (حصرت صدورهم) *، يعني ضيقة قلوبهم، * (إن يقاتلوكم) *، يعني ضاقت قلوبهم أن يقتالوكم، * (أو يقاتلوا قومهم) * من التسعة، ثم قال: * (ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم) *، يخوف المؤمنين، ثم قال: * (فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم) *، يعني الصلح، يعني هلالا وقومه حزاعة، * (فما جعل الله لكم عليهم سبيلا) * [آية: 90] في قتالهم. * (ستجدون آخرين) * منهم أسد غطفان، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ' أجئتم مهاجرين؟ '، قالوا: بل جئنا مسلمين، فإذا رجعوا إلى قومهم، قالوا: آمنا بالعقرب والخنفساء إذ تعود، فقال: * (ستجدون آخرين) * * (يريدون أن يأمنوكم) *، يعني يأمنوا فيكم معشر المؤمنين بأنهم مقرون بالتوحيد، * (ويأمنوا قومهم) * المشركين؛ لأنهم على دينهم، * (كل ما ردوا إلى الفتنة) *، يعني كلما دعوا إلى الشرك، * (أركسوا فيها) *، يقول: عادوا في الشرك، * (فإن لم يعتزلوكم) * في القتال، * (ويلقوا إليكم السلم) *، يعني الصلح، * (ويكفوا أيديهم) * عن قتالكم، * (فخذوهم واقتلوهم) *، يعني أأسروهم
247 واقتلوهم، * (حيث ثقفتموهم) *، يعني أدركتموهم من الأرض في الحل والحرم، * (وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا) * [آية: 91]، يعني حجة بينة. تفسير سورة النساء آية 92 ثم صارت منسوخة، * (وما كان لمؤمن) *، يعني عياش بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي، يقول: ما كان ينبغي لمؤمن * (أن يقتل مؤمنا) *، يعني الحارث بن يزيد بن أبي أنيسة من بني عامر بن لؤي، * (إلا خطئا) *، وذلك أن الحارث أسلم في موادعة أهل مكة، فقتله عياش خطأ، وكان عياش قد حلف على الحارث بن يزيد ليقتلنه، وكان الحارث يومئذ مشرك، فأسلم الحارث ولم يعلم به عياش فقتله بالمدينة، * (ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة) * أي التي قد صلت لله ووحدت الله، * (ودية مسلمة إلى أهله) *، أي المقتول، * (إلا أن يصدقوا) *، يقول: إلا أن يصدق أولياء المقتول بالدية على القاتل، فهو خير لهم، * (فإن كان) * هذا المقتول * (من قوم عدو لكم) * من أهل الحرب، * (وهو) *، يعني المقتول * (مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة) * نزلت في مرداس بن عمر القيسي، ولا دية له، * (وإن كان) * هذا المقتول وكان ورثته * (من قوم بينكم وبينهم ميثاق) *، يعني عهد * (فدية مسلمة إلى أهله) *، أي إلى أهل المقتول، يعني إلى ورثته بمكة، وكان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة يومئذ عهد، * (و) * عليه * (وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد) * الدية * (ف) * عليه * (فصيام شهرين متتابعين توبة من الله) *، تلك الكفارة تجاوز من الله في قتل الخطأ لهذه الأمة؛ لأن المؤمن كان يقتل بالخطأ في التوراة على عهد موسى، عليه السلام، * (وكان الله عليما حكيما) * [آية: 92]، حكم الكفارة والرقبة. تفسير سورة النساء آية 93 * (ومن يقتل مؤمنا متعمدا) *، نزلت في مقيس بن ضبابة الكناني، ثم الليثي،
248 قتل رجلا من قريش، يقال له: عمرو مكان أخيه هشام بن ضبابة، وذلك أن مقيس بن ضبابة وجد أخاه قتيلا في الأنصار في بني النجار، فانطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره بذلك، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأنصار رجلا من بني فهر مع مقيس، فقال: ادفعوا إلى مقيس قاتل أخيه، إن علمتم ذلك، وإلا فادفعوا إليه ديته، فلما جاءهم الرسول، قالوا: السمع والطاعة لله ولرسوله، والله ما نعلم له قاتلا، ولكنا نؤدي ديته، ودفعوا إلى مقيس مائة من الإبل دية أخيه، فلما انصرف مقيس عمد إلى رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتله وفر وارتد عن الإسلام، ورحل من المدينة، وساق معه الدية، ورجع إلى مكة كافرا، وهو يقول في شعره: * قتلت به فهرا وحملت عقله * سراة بني النجار أرباب فارع * * وأدركت ثأري واضطجعت موسدا * وكنت إلى الأوثان أول راجع * فنزلت فيه بعدما قتل النفس وارتد عن الإسلام، وساق معه الدية إلى مكة، نزلت فيه الآية: * (ومن يقتل مؤمنا) *، يعني الفهري * (متعمدا) * لقتله * (فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما) * [آية: 93] وافر الانقطاع له بقتله النفس وبأخذه الدية. تفسير سورة النساء آية [94] * (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله) *، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية، وبعث عليها غالب بن عبد الله الليثي أخا ثميلة بن عبد الله، فلما أصبحوا رأوا رجلا يسمى مرداس بن عمرو بن نهيك العنسي من بني تيم بن مرة من أهل فدك، معه غنيمة له، فلما رأى الخيل ساق غنيمته حتى أحرزها في الجبل، وكان قد أسلم من الليل وأخبر أهله بذلك، فلما دنوا منه كبروا، فسمع التكبير، فعرفهم، فنزل إليهم، فقال: سلام عليكم، إني مؤمن، فحمل عليه أسامة بن زيد بن حارثة الكلبي من بني عبد ود، فقال مرداس: إني منكم أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده
249 فطعنه أسامة برمحه فقتله وسلبه وساق غنمه، فلما قدم المدينة أخبر أسامة النبي صلى الله عليه وسلم، فلامه النبي ملامة شديدة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ' قتلته وهو يقول: لا إله إلا الله؟ '، قال: إنما قال ذلك أراد أن يحرز نفسه وغنمه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ' أفلا شققت عن قلبه، فتنظر صدق أم لا '، قال: يا رسول الله، كيف يتبين لي؟ وإنما قلبه بضعة من جسده، فقال: ' فلا صدقته بلسانه، ولا أنت شققت عن قلبه فيبين لك '، فقال: استغفر لي يا رسول الله، قال: ' فكيف لك بلا إله إلا الله '، يقول ذلك ثلاث مرات، فاستغفر له النبي صلى الله عليه وسلم الرابعة. قال أسامة في نفسه: وددت أني لم أسلم حتى كان يومئذ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتق رقبة. قال مقاتل، رحمه الله: فعاش أسامة زمن أبي بكر، وعمر، وعثمان، رضي الله عنهم، حتى أدرك علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، فدعاه على، رحمه الله، إلى القتال، فقال أسامة: ما أحد أعز على منك، ولكن لا أقاتل مسلما بعد قول النبي صلى الله عليه وسلم: ' كيف لك بلا إله إلا الله؟ '. فإن أتيت بسيف إذا ضربت به مسلما، قال السيف: هذا مسلم، وإن ضربت به كافرا، قال لي: هذا كافر، قاتلت معك، فقال له علي: اذهب حيث شئت، فأنزل الله عز وجل: * (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله) *، يعني سرتم غزاة في سبيل الله، * (فتبينوا) * من تقتلوا، * (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام) *، يعني مرداس، وذلك أنه قال لهم: السلام عليكم إني مؤمن، * (لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا) *، يعني غنم مرداس، * (فعند الله مغانم كثيرة) * في الآخرة والجنة، * (كذلك) *، يعني هكذا، * (كنتم من قبل) * الهجرة بمنزلة مرداس تأمنون في قومكم بالتوحيد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا لقوكم، فلا تخيفون أحدا بأمر كان فيكم تأمنون بمثله قبل هجرتكم، * (فمن الله عليكم) * بالهجرة فهاجرتم، * (فتبينوا) * إذا خرجتم فلا تقتلوا مسلما، * (إن الله كان بما تعملون خبيرا) * [آية: 94]، فقال أسامة: والله لا أقتل رجلا بعد هذا يقول: لا إله إلا الله. تفسير سورة النساء آية 95
250 وقوله سبحانه: * (لا يستوي القاعدون) * عن الغزو * (من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم) *، يعني عبد الله بن جحش الأسدي، وابن أم مكتوم من أهل العذر. قال أبو محمد: هم ثلاثة منهم عبد الله بن جحش، عقد له النبي صلى الله عليه وسلم وعبيد الله مات نصارنيا، وعبد الله بن جحش هو الضرير الذي نزل فيه قوله عز وجل: * (غير أولي الضرر) *. يقول عز وجل: لا يستوي في الفضل القاعد الذي لا عذر له، والمجاهد بنفسه وماله في سبيل الله، وهي غزوة تبوك، قال عز وجل: * (فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين) * من أهل العذر، * (درجة) *، يعني فضيلة على القاعدين، * (وكلا) *، يعني المجاهد والقاعد المعذور، * (وعد الله الحسنى) *، يعني الجنة، ثم قال سبحانه: * (وفضل الله المجاهدين على القاعدين) * الذين لا عذر لهم * (أجرا عظيما) * [آية: 95]. تفسير سورة النساء آية [96 - 100] * (درجات منه) *، يعني فضائل من الله في الجنة سبعين درجة بين كل درجتين مسيرة سبعين سنة، * (ومغفرة) * لذنوبهم، * (ورحمة وكان الله غفورا رحيما) * [آية: 96]، يعني أبا لبابة، وأوس بن حزام، ووداعة بن ثعلب، وكعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن ربيعة من بني عمرو بن عوف، كلهم من الأنصار، * (إن الذين توفاهم الملائكة) *، يعني ملك الموت وحده، * (ظالمي أنفسهم) *، وذلك أنه كان نفر أسلموا بمكة مع النبي صلى الله عليه وسلم، منهم الوليد بن الوليد بن المغيرة، وقيس بن الوليد بن المغيرة، وأبو قيس بن الفاطه بن المغيرة، والوليد بن عقبة بن ربيعة بن عبد شمس، وعمرو بن أمية بن سفيان بن أمية بن عبد شمس، والعلاء بن أمية بن خلف الجمحي.
251 ثم إنهم أقاموا عن الهجرة، وخرجوا مع المشركين إلى قتال بدر، فلما رأوا قلة المؤمنين شكوا في النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: غر هؤلاء دينهم، وكان بعضهم نافق بمكة، فلما قتل هؤلاء ببدر * (قالوا) *، أي قالت الملائكة لهم، وهو ملك الموت وحده: * (فيم كنتم) *؟ يقول: في أي شيء كنتم، * (قالوا كنا مستضعفين في الأرض) *، يعني كنا مقهورين بأرض مكة لا نطيق أن نظهر الإيمان، * (قالوا) *، أي قالت الملائكة لهم، * (ألم تكن أرض الله واسعة) * من الضيق، يعني أرض الله المدينة، * (فتهاجروا فيها) *، يعني إليها، ثم انقطع الكلام، فقال عز وجل: * (فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا) * [آية: 97]، يعني وبئس المصير صاروا. ثم استثنى أهل العذر، فقال سبحانه: * (إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان) *، فليس مأواهم جهنم، * (لا يستطيعون حيلة) *، يقول: ليس لهم سعة للخروج إلى المدينة، * (ولا يهتدون سبيلا) * [آية: 98]، يعني ولا يعرفون طريقا إلى المدينة، * (فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم) *، والعسى من الله واجب، * (وكان الله عفوا) * عنهم * (غفورا) * [آية: 99]، فلا يعاقبهم لإقامتهم عن الهجرة في عذر. فقال ابن عباس، رضي الله عنه، أنا يومئذ من الولدان، وأمي من النساء، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية إلى مسلمي مكة، فقال جندب بن حمزة الليثي، ثم الجندعي لبنيه: احملوني فإني لست من المستضعفين، وإني لهاد بالطريق ولو مت لنزلت في الآية، وكان شيخا كبيرا، فحمله بنوه على سريره متوجها إلى المدينة، فمات بالتنعيم، فبلغ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم موته، فقالوا: لو لحق بنا لأتم الله أجره، فأراد الله عز وجل أن يعلمهم أنه لا يخيب من التمس رضاه، فأنزل الله عز وجل: * (ومن يهاجر في سبيل الله) *، يعني في طاعة الله إلى المدينة، * (يجد في الأرض مراغما كثيرا) *، يعني متحولا عن الكفر، * (وسعه) * في الرزق * (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما) * [آية: 100]. تفسير سورة النساء آية 101 ثم قال سبحانه: * (وإذا ضربتم) *، يعني سرتم * (في الأرض) *، يعني غزوة بني أنمار ببطن مكة، * (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) *،
252 يعني أن يقتلكم، كقوله: * (على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم) * [يونس: 83]، يعني أن يقتلكم الذين كفروا من أهل مكة، فيصيبوا منكم طائفة، * (إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا) * [آية: 101]. تفسير سورة النساء آية 102 * (وإذا كنت فيهم) *، يعني النبي صلى الله عليه وسلم، * (فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك) *، وليأخذوا حذرهم من عدوهم، * (وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون) *، يعني تذرون * (عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون) *، يعني فيحملون * (عليكم) * جميعا * (ميلة واحدة) *، يعني حملة واحدة، يعني كرجل واحد عند غفلتكم، ثم رخص لهم في وضع السلاح عند المطر أو المرض، فقال: * (ولا جناح) *، يعني لا حرج * (عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم) * من عدوكم عند وضع السلاح، * (إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا) * [آية: 102]، يعني الهوان. تفسير سورة النساء آية [103 - 104] وكان تقصير الصلاة يعسفان، بين مكة والمدينة، والنبي صلى الله عليه وسلم بإزاء الذين خافوه وهم غطفان، * (فإذا قضيتم الصلاة) *، يعني صلاة الخوف، * (فاذكروا الله) * باللسان، * (قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة) *، إذا أقمتم في بلادكم فأقيموا الصلاة، يعني فأتموا الصلاة كاملة ولا تقصروا، * (إن الصلاة كانت على
253 المؤمنين كتابا موقوتا) * [آية: 103]، يعني فريضة معلومة، كقوله: * (كتب عليكم القتال) * [البقرة: 216]، يعني فرض عليكم القتال. * (ولا تهنوا في ابتغاء القوم) *، يقول: ولا تعجزوا، كقوله: * (فما وهنوا) * [آل عمران: 146]، يعني فما عجزوا في طلب أبي سفيان وأصحابه يوم أحد بعد القتل بأيام، فاشتكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم الجراحات، فأنزل الله عز وجل: * (إن تكونوا تألمون) *، يعني تتوجعون، * (فإنهم يألمون كما تألمون) *، يعني يتوجعون كما تتوجعون، * (وترجون من الله) * من الثواب والأجر، * (ما لا يرجون) *، يعني أبا سفيان وأصحابه، * (وكان الله عليما) * (بخلقه) * (حكيما) * [آية: 104] في أمره. تفسير سورة النساء من آية [105 - 113] * (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق) *، وذلك أن يهوديا يسمى زيد بن السمين، كان استودع طعمة بن أبيرق الأنصاري من الأوس من بني ظفر بن الحارث درعا من حديد، ثم إن زيدا اليهودي طلب درعه فجحده طعمة، فقال زيد لقومه: قد ذكر لي أن الدرع عنده، فانطلقوا حتى نلتمس داره، فاجتمعوا ليلا فأتوا داره، فلما سمع جلبة القوم أحس قلبه أن القوم جاءوا من أجل الدرع، فرمى به في دار أبي مليك، فدخل القوم داره، فلم يجدوا الدرع، فاجتمع الناس.
254 ثم إن طعمة اطلع في دار أبي مليك، فقال: هذا درع في دار أبي مليك، فلا أدري هي لكم أم لا؟ فأخذوا الدرع، ثم إن قوم طعمة، قتادة بن النعمان وأصحابه، قالوا: انطلقوا بنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلنبرئ صاحبنا، ونقول: إنهم أتونا ليلا ففضحونا، ولم يكن معهم رسول من قبلك ونأمرهم أن يبرءوا صاحبنا لتنقطع ألسنة الناس عنا بما قذفونا به، ونخبره أنها وجدت في دار أبي مليك، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبروه فصدق النبي صلى الله عليه وسلم طعمة وأبرأه من ذلك، وهو يرى أنهم قد صدقوا، فأنزل الله تعالى: * (إنا أنزلنا إليك الكتاب) *، يعني القرآن * (بالحق) * لم ننزله باطلا عبثا لغير شئ، * (لتحكم) *، يعني لكي تحكم * (بين الناس بما أراك الله) *، يعني بما علمك الله في كتابه، كقوله سبحانه: * (ويرى الذين أوتوا العلم) * [سبأ: 6]، * (ولا تكن للخائنين خصيما) * [آية: 105]،، يعني طعمة. ثم قال: * (واستغفر الله) * يا محمد عن جدالك عن طعمة حين كذبت عنه، فأبرأته من السرقة، * (إن الله كان غفورا رحيما) * [آية: 106]، فاستغفر النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك، * (ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم) *، يعني طعمة، * (إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما) * [آية: 107] في دينه أثيما بربه، * (يستخفون) *، يعني يستترون بالخيانة * (من الناس) *، يعني طعمة، * (ولا يستخفون من الله) *، ولا يشترون بالخيانة من الله، * (وهو معهم إذ يبيتون) *، يعني إذ يؤلفون * (ما لا يرضى من القول) *، لقولهم: إنا نأتي النبي صلى الله عليه وسلم فنقول له كذا وكذا، فألقوا قولهم بينهم، يعني قتادة وأصحابه ليدفعوا عن صاحبهم ما لا يرضى الله من القول، * (وكان الله بما يعملون محيطا) * [آية: 108]، يعني أحاط علمه بأعمالهم، يعني قوم الخائن قتادة بن النعمان وأصحابه. ثم قال يعينهم: * (هأنتم هؤلاء) * قوم الخائن * (جادلتم عنهم) * نبيكم * (في الحياة الدنيا) * عن طعمة، * (فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا) * [آية: 109]، يعني به قومه، يقول: أم من يكون لطعمة مانعا في الآخرة، ثم عرض على طعمة التوبة، فقال: * (ومن يعمل سوءا) *، يعني إثما، * (أو يظلم نفسه) *، يعني قذف البرئ أبا مليك، * (ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما) * [آية: 110]. * (ومن يكسب إثما) *، يعني طعمة، * (فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما
255 حكيما) * [آية: 111] في أمره، * (ومن يكسب) * لنفسه * (خطيئة أو إثما) *، يعني قذف البريء، * (ثم يرم به بريئا) *، يعني أنه رمى به في دار أبي مليك الأنصاري، * (فقد احتمل بهتانا) *، يعني قذفه البرئ بما لم يكن، * (وإذنا وإثما) * [آية: 112]، يعني بيناا. ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: * (ولولا فضل الله عليك ورحمته) *، يعني ونعمته بالقرآن حين بين لك أمر طعمة، فحولك عن تصديق الخائنين بالقرآن، * (لهمت طائفة منهم أن يضلوك) *، يقول: لكادت طائفة من قوم الخائنين أن يستنزلوك عن الحق، * (وما يضلون) *، يعني وما يستنزلون * (إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء) *، يعني وما ينقصونك من شيء ليس ذلك بأيديهم، إنما ينقصون أنفسهم، ثم قال: * (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة) *، يعني الحلال والحرام، * (وعلمك ما لم تكن تعلم) * من أمر الكتاب وأمر الدين، * (وكان فضل الله عليك عظيما) * [آية: 113]، يعني النبوة والكتاب. تفسير سورة النساء آية 114 - 121 ثم قال سبحانه: * (لا خير في كثير من نجواهم) *، يعني قوم طعمة قيس بن زيد، وكنانة بن أبي الحقيق، وأبو رافع، وكلهم يهود، حين تناجوا في أمر طعمة، ثم استثنى، فقال: * (إلا من أمر بصدقة أو معروف) *، يعني القرض، * (أو إصلاح بين
256 الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما) * [آية: 114]، يعني جزاء عظيما، فأنزل الله عز وجل في قولهم: * (ومن يشاقق) *، يعني يخالف، * (الرسول من بعد \ ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل) *، يعني غير دين * (المؤمنين نوله ما تولى) * من الآلهة، * (ونصله جهنم وساءت مصيرا) * [آية: 115]، يعني وبئس المصير. فلما قدم طعمة مكة، نزل على الحجاج بن علاط السلمى، فأحسن نزله، فبلغه أن في بيته ذهبا، فلما كان من الليل خرج فنقب حائط البيت، وأراد أن يأخذ الذهب وفي البيت مسوك يابسة مسوك الشاء قد أصابها حر الشمس ولم تدبغ، فلما دخل البيت من النقب وطئ المسوك، فسمعوا قعقعة المسوك في صدره عند النقب، وأحاطوا بالبيت، ونادوه: اخرج فإنا قد أحطنا بالبيت، فلما خرج إذا هم بضيفهم طعمة، فأراد أهل مكة أن يرجموه فاستحيا الحجاج لضيفه، وكانوا يكرمون الضيف فأهزوه وشتموه، فخرج من مكة، فلحق بحرة بني سليم يعبد صنمهم، ويصنع ما يصنعون حتى مات على الشرك، فأنزل الله عز وجل فيه: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به) *، يعني يعدل به، فيموت عليه، * (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) *، يعني ما دون الشرك لمن يشاء، فمشيئته لأهل التوحيد، * (ومن يشرك بالله فقد ضل) * (عن الهدى) * (ضلالا بعيدا) * [آية: 116]. ثم إن أبا مليك عاش حتى استخلف عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فحلف بالله لعمر، رضي الله عنه، لا يولى راجعا، فلما كان يوم القادسية انهزم المشركون إلى الفرات وجاءت أساورة كسرى، فهزموا المسلمين إلى قريب من الجيش، فثبت أبو مليك حتى قتل، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فقال أبو مليك: صدق الله وعده: * (إن يدعون من دونه إلا إناثا) *، يعني أوثانا، يعني أمواتا اللات والعزى، وهي الأوثان لا تحرك ولا تضر ولا تنفع، فهي ميتة، * (وإن يدعون) *، يعني وما يعبدون من دونه، * (إلا شيطانا) *، يعني إبليس، زين لهم إبليس طاعته في عبادة الأوثان * (مريدا) * [آية: 117]، يعني عاتيا تمرد على ربه عز وجل في المعصية، * (لعنة الله) * حين كره السجود لآدم صلى الله عليه وسلم، * (وقال) * إبليس لربه جل جلاله: * (لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا) * [آية: 118]، يعني حظا معلوما من كل ألف إنسان واحد في الجنة وسائرهم في النار، فهذا النصيب المفروض
257 * (و) * قال إبليس: * (ولأضلنهم) * عن الهدى، * (ولأمنينهم) * بالباطل، ولأخبرنهم ألا بعث ولا جنة ولا نار، * (ولآمرنهم فليبتكن) *، يعني ليقطعن، * (آذان الأنعام) *، وهي البحيرة للأوثان، * (ولآمرنهم فليغيرون خلق الله) *، يعني ليبدلن دين الله، * (ومن يتخذ الشيطان) *، يعني إبليس * (وليا) *، يعني ربا * (من دون الله) * عز وجل، * (فقد خسر خسرانا مبينا) * [آية: 119]، يقول: فقد ضل ضلالا بينا. * (يعدهم) * إبليس الغرور إلا بعث، * (ويمنيهم) * إبليس الباطل، * (وما يعدهم الشيطان إلا غرورا) * آية: [120]، يعني إلا باطلا، الذي ليس بشيء وقال: * (ومن يتخذ الشيطان وليا) * * (أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا) * [آية: 121]، يعني مقرا يلجئون إليه، يعني القرار. تفسير سورة النساء آية [122 - 125] ثم أخبر بمستقر من لا يتولى الشيطان، فقال: * (والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا) *، يعني صدقا أنه منجز لهم ما وعدهم، * (ومن أصدق من الله قيلا) * [آية: 122]، فليس أحد أصدق قولا منه عز وجل في أمر الجنة والنار والبعث وغيره، * (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب) *، نزلت في المؤمنين واليهود والنصارى، قالت اليهود: كتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، فنحن أهدى وأولى بالله منكم، وقالت النصاري: نبينا كلمة الله وروح الله وكلمته، وكان يحيى الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص، وفي كتابنا العفو، وليس فيه قصاص، فنحن أولى بالله منكم معشر اليهود ومعشر المسلمين. فقال المسلمون: كذبتم، كتابنا نسخ كل كتاب، ونبينا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، وآمنا بنبيكم وكتابكم، وكذبتم نبينا وكتابنا، وأمرتم وأمرنا أن نؤمن بكتابكم، ونعمل بكتابنا،
258 فنحن أهدى منكم وأولى بالله منكم، فأنزل عز وجل: * (ليس بأمانيكم) * معشر المؤمنين * (ولا أماني أهل الكتاب) * * (من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا) * [آية: 123]. * (ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا) * [آية: 124]، * (من يعمل سوءا يجز به) *، نزلت في المؤمنين مجازات الدنيا تصيبهم في النكبة بحجر، والضربة واختلاج عرق أو خدش عود، أو عثره قدم فيدميه أو غيره، فبذنب قدم وما يعفو الله عنه أكبر، فذلك قوله سبحانه: * (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) * [الشورة: 30]، ثم قال: * (ولا يجد له من دون الله وليا) *، يعني قريبا ينفعه، * (ولا نصيرا) * يعني ولا مانعا يمنعه من الله عز وجل. فلما افتخرت اليهود على المؤمنين بالمدينة بين الله عز وجل، أمر المؤمنين، فقال سبحانه: * (ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن) * بتوحيد الله عز وجل، * (فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا) *، يعني ولا ينقصون من أعمالهم الحسنة نقيرا حتى يجازوا بها، يعني النقير الذي في ظهر النواة التي تنبت منه النخلة. ثم اختار من الأديان دين الإسلام، فقال عز وجل: * (ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله) *، يعني أخلص دينه لله، * (وهو محسن) * في عمله، * (واتبع ملة إبراهيم حنيفا) *، يعني مخلصا، * (واتخذ الله إبراهيم خليلا) * [آية: 125]، يعني محبا، وأنزل الله عز وجل فيهم، * (هذان خصمان) *، يعني كفار أهل الكتاب، * (واختصموا) *، يعني ثلاثتهم: المسلمين واليهود والنصارى، * (في ربهم) * أنهم أولياء الله، ثم أخبر بمستقر الكافر، فقال: * (فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار) * [الحج: 19]، يعني جعلت لهم ثياب من نار، إلى آخر الآية، ثم أخبر سبحانه بمستقر المؤمنين، فقال: * (إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار) * إلى آخر الآية. قوله: * (واتخذ الله إبراهيم خليلا) *، والخليل الحبيب؛ لأن الله أحبه في كسره الأصنام، وجداله قومه، واتخذ الله إبراهيم خليلا قبل ذبح ابنه، فلما رأته الملائكة حين أمر بذبح ابنه، أراد المضي على ذلك، قالت الملائكة: لو أن الله عز وجل اتخذ عبدا حليلا
259 لاتخذ هذا خليلا محبا، ولا يعلمون أن الله عز وجل اتخذه خليلا، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه، رضي الله عنهم: ' إن صاحبكم خليل الرحمن '، يعني نفسه، فقال المنافقون لليهود: ألا تنظرون إلى محمد يزعم أنه خليل الله، لقد اجترأ، فأنزل الله عز وجل: * (واتخذ الله إبراهيم خليلا) *، وإنما إبراهيم عبد من عباده مثل محمد، واتخذ إبراهيم خليلا حين ألقى في النار، فذهب حرالنيران يومئذ من الأرض كلها. تفسير سورة النساء آية [126 - 130] * (ولله ما في السماوات وما في الأرض) * من الخلق عبيده، وفي ملكه، * (وكان الله بكل شيء محيطا) * [آية: 126]، يعني أحاط علمه، * (ويستفتونك في النساء) * نزلت في سويد وعرفطة ابني الحارث، وعيينة بن حصن الفزاري، وذلك أنه لما فرض الله عز وجل لأم كحة وبناتها الميراث انطلق سويد وعرفطة وعيينة بن حصن الفزاري إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن المرأة لا تركب فرسا ولا تجاهد، وليس عند الولدان الصغار منفعة في شيء، فأنزل الله عز وجل فيهم: * (ويستفتونك) *، يعني يسألونك عن النساء، يعني سويدا وصاحبيه، * (قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب) *، يعني ما بين من القسمة في أول هذه السورة، قال: ويفتيكم * (في يتامى النساء) *، يعني بنات أم كحة * (اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن) *، يعني ما فرض لهن من انصبائهن من الميراث في أول السورة. ثم قال عز وجل: * (وترغبون أن تنكحوهن) *، يعني بنات أم كحة، وكان الرجل
260 يكون في حجره اليتيمة ولها مال، ويكون فيها موق، فيرغب عن تزويجها، ويمنعها من الأزواج من أجل ما لها رجاء أن تموت فيرثها، فذلك قوله عز وجل: * (وترغبون أن تنكحوهن) * لدمامتهن، * (و) * يفتيكم في * (والمستضعفين من الولدان) * أن تعطوهم حقوقهم، وكانوا لا يورثونهم * (و) * يفتيكم * (وأن تقوموا لليتامى) * في الميراث * (بالقسط) *، يعني بالعدل، * (وما تفعلوا من خير) * مما أمرتم به من قسمة المواريث، * (فإن الله كان به عليما) * [آية: 127] فيجزيكم به. * (وإن امرأة) *، واسمها خويلة بنت محمد بن مسلمة * (خافت) *، يعني علمت * (من بعلها نشوزا) *، يعني زوجها، * (أو إعراضا) * عنها لما بها من العلة إلى الأخرى، نزلت في رافع بن خديج الأنصاري وفي امرأته خويلة بنت محمد بن مسلمة الأنصاري، وذلك أن رافعا طلقها ثم راجعها وتزوج عليها أشب منها، وكان يأتي الشابة ما لا يأتي الكبيرة، يقول: * (فلا جناح عليهما) * الزوج والمرأة الكبيرة * (أن يصلحا بينهما صلحا) * أن ترضى المرأة الكبيرة بما له، على أن يأتي الشابه ما لا يأتي الكبيرة، يقول: فلا بأس بذلك في القسمة، فذلك قوله عز وجل: * (والصلح خير) * من المفارقة، * (وأحضرت الأنفس الشح) *، يعني الحرص على المال، يعني الكبيرة يرضيها الزوج من بعض ماله، فتحرص على المال وتدع نصيبها من زوجها، * (وإن تحسنوا) * الفعل فلا تفارقها، * (وتتقوا) * الميل والجور، * (فإن الله كان بما تعملون خبيرا) * * (آية: 128] في أمرهن من الإحسان والجور. ثم قال عز وجل: * (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء) * في الحب أن يستوى حبهن في قلوبكم، * (ولو حرصتم) *، فلا تقدرون على ذلك، * (فلا تميلوا كل الميل) * إلى التي تحب، وهي الشابة، * (فتذروها كالمعلقة) *، أي فتأتيها وتذر الأخرى، يعني الكبيرة كالمعلقة، لا أيم ولا ذات بعل، ولكن اعدلوا في القسمة، * (وإن تصلحوا) * أمرهن * (وتتقوا) * الميل والجور، * (فإن الله كان غفورا) * حين ملت إلى الشابة برضى الكبيرة، * (رحيما) * [آية: 129] بك حين رخص لك في الصلح، فإن أبت الكبيرة الصلح إلا أن تسوى بينها وبين الشابة أو تطلقها كان ذلك لها. ثم إنه طلقها، فنزلت: * (وإن يتفرقا) *، يعني رافع وخويلة المرأة الكبيرة، * (يغن الله كلا) *، يعني الزوج والكبيرة، * (من سعته) *، يعني من فضله الواسع، * (وكان
261 الله واسعا) * لهما في الرزق جميعا، * (حكيما) * [آية: 130] حين حكم فرقتهما. تفسير سورة النساء أية [131 - 132] * (ولله ما في السماوات وما في الأرض) * من الخلق عبيده وفي ملكه، * (ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا) * عن عباده وخلقه * (حميدا) * [آية: 131] عند خلقه في سلطانه. * (ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا) * [آية: 132]، يعني شهيدا، فلا شاهد أفضل من الله عز وجل أن من فيهما عباده وفي ملكه. تفسير سورة النساء آية [133 - 134] ثم قال عز وجل: * (إن يشأ يذهبكم) * بالموت * (أيها الناس ويأت بآخرين) *، يعني بخلق غيركم أطوع منكم، * (وكان الله على ذلك قديرا) * [آية: 133] أن يذهبكم ويأت بغيركم إذا عصيتموه. * (من كان يريد ثواب الدنيا) * بعمله فليعمل لآخرته، * (فعند الله ثواب الدنيا) *، يعني الرزق في الدنيا وثواب * (والآخرة) *، يعني الجنة، * (وكان الله سميعا بصيرا) * [آية: 134] بأعمالكم. تفسير سورة النساء آية [135] * (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين) *، يعني قوالين * (بالقسط شهداء لله) *، يقول سبحانه: أقيموا الشهادة لله بالعدل، * (ولو) * كانت الشهادة * (على أنفسكم أو) * على
262 * (الوالدين والأقربين إن يكن) * أحدهما * (غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما) * بالغنى والفقير من غيره، * (فلا تتبعوا الهوى) * في الشهادة والقرابة، واتقوا * (أن تعدلوا) * عن الحق إلى الهوى، ثم قال: * (وإن تلوا) *، يعني التحريف بالشهادة، يلجلج بها لسانه فلا يقيمها ليبطل بها شهادته، * (أو تعرضوا) * عنها فلا تشهدوا بها، * (فإن الله كان بما تعملون) * من كتمان الشهادة وإقامتها * (خبيرا) * [آية: 135]، نزلت في رجل كانت عنده شهادة على أبيه، فأمره الله عز وجل أن يقيمها لله عز وجل، ولا يقول: إني إن شهدت عليه أجحفت بماله، وإن كان فقيرا هلك وازداد فقره، ويقال: إنه أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، الشاهد على أبيه أبي قحافة. تفسير سورة النساء آية [136] * (يا أيها الذين آمنوا) *، نزلت في مؤمني أهل الكتاب، كان بينهم وبين اليهود كلام لما أسلموا، قالوا: نؤمن بكتاب محمد صلى الله عليه وسلم ونكفر بما سواه، فقال تعالى: * (آمنوا بالله) * وصدقوا بتوحيد الله عز وجل، * (ورسوله) *، أي وصدقوا برسوله محمدا صلى الله عليه وسلم، * (والكتاب الذي نزل على رسوله) *، يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، * (والكتاب الذي أنزل من قبل) * نزول كتاب محمد صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر كفار أهل الكتاب، فحذرهم الآخرة، يعني البعث، فقال الله تعالى ذكره: * (ومن يكفر بالله) *، يعني بتوحيد الله، * (وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر) *، يعني البعث الذي فيه جزاء الأعمال، * (فقد ضل) * عن الهدى، * (ضلالا بعيدا) * [آية: 136]، وبما أعد الله عز وجل من الثواب والعقاب. تفسير سورة النساء آية [137 - 139] ثم ذكر أهل الكتاب، فقال: * (إن الذين آمنوا) * بالتوراة وبموسى، * (ثم كفروا) * من بعد موسى، * (ثم آمنوا) * بعيسى صلى الله عليه وسلم وبالإنجيل، * (ثم كفروا) * من بعده، * (ثم ازدادوا كفرا) * بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن، * (لم يكن الله ليغفر لهم) * على ذلك، * (ولا
263 ليهديهم سبيلا) * [آية: 137] إلى الهدى، منهم: عمرو بن زيد، وأوس بن قيس، وقيس ابن زيد. ولما نزلت المغفرة للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين في سورة الفتح، قال عبد الله بن أبي ونفر معه: فما لنا؟ فأنزل الله عز وجل: * (بشر المنافقين) *، يعني عبد الله بن أبي، ومالك بن دخشم، وجد بن قيس، * (بأن لهم) * (في الآخرة) * (عذابا أليما) * [آية: 138]، يعني وجيعا، ثم نعتهم، فقال: * (الذين يتخذون الكافرين) * من اليهود * (أولياء من دون المؤمنين) *، وذلك أن المنافقين قالوا: لا يتم أمر محمد، فتابعوا اليهود وتولوهم، فذلك قوله سبحانه: * (أيبتغون عندهم العزة) *، يعني المنعة، وذلك أن اليهود أعانوا مشركي العرب على قتال النبي صلى الله عليه وسلم ليتعززوا بذلك، فقال سبحانه: * (أيبتغون عندهم العزة) *، يقول: أيبتغي المنافقون عند اليهود المنعة، * (فإن العزة لله جميعا) * [آية: 139]، يقول: جميع من يتعزز، فإنما هو بإذن الله. تفسير سورة النساء 140 وكان المنافقون بستهزءون بالقرآن، فأنزل الله عز وجل بالمدينة: * (وقد نزل عليكم في الكتاب) *، يعني في سورة الأنعام بمكة، * (أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره) *، يقول: حتى يكون حديثهم، يعني المنافقين في غير ذكر الله عز وجل، فنهى الله عز وجل عن مجالسة كفار مكة ومنافقي المدينة عند الاستهزاء بالقرآن، ثم خوفهم: إن جالستموهم ورضيتم باستهزائهم، * (إنكم إذا مثلهم) * (في الكفر) * (إن الله جامع المنافقين) *، يعني عبد الله بن أبي، ومالك بن دخشم، وجد بن قيس من أهل المدينة، * (والكافرين) * من أهل مكة * (في جهنم جميعا) * [آية: 140]. تفسير سورة النساء آية 141 ثم أخبر سبحانه عن المنافقين، فقال عز وجل: * (الذين يتربصون بكم) * الدوائر،
264 * (فإن كان لكم) * معشر المؤمنين * (فتح من الله) *، يعني النصر على العدو يوم بدر، * (قالوا ألم نكن معكم) * على عدوكم، فأعطونا من الغنيمة، فلستم أحق بها، فذلك قوله سبحانه في العنكبوت: * (ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم) * [العنكبوت: 10] على عدوكم. * (وإن كان للكافرين نصيب) *، يعني دولة على المؤمنين يوم أحد، * (قالوا) * أي المنافقون للكفار: * (ألم نستحوذ عليكم) *، يعني ألم نحظ بكم من ورائكم، * (ونمنعكم من المؤمنين) *، وتجادل المؤمنين عنكم فنحبسهم عنكم ونخبرهم أنا معكم، قالوا ذلك جبنا وفرقا منهم، قال الله تعالى: * (فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) * [آية: 141]، يعني حجة أبدا، نزلت في عبد الله بن أبي وأصحابه. تفسير سورة النساء آية [142 - 143] * (إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم) * حين أظهروا الإيمان وأسروا التكذيب، * (وهو خادعهم) * على الصراط في الآخرة حين يقال لهم: * (ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا) * [الحديد: 113]، فبقوا في الظلمة، فهذه خدعة الله عز وجل لهم في الآخرة، ثم أخبر عن المنافقين، فقال سبحانه * (وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى) *، يعني المنافقين متثاقلين لا يروا أنها حق عليهم، نظيرها في براءة. * (يراءون الناس) * بالقيام بالنهار، * (ولا يذكرون الله) *، يعني في الصلاة، * (إلا قليلا) * [آية: 142]، يعني بالقليل، الرياء ولا يصلون في السر، * (مذبذبين بين ذلك) *، يقول: إن المنافقين ليسوا مع اليهود فيظهرون ولايتهم، ولا مع المؤمنين في الولاية، * (لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله) * عن الهدى، * (فلن تجد له سبيلا) * [آية: 143] إليه. تفسير سورة النساء آية 144 * (يا أيها الذين آمنوا) * يرغبهم، نزلت في المنافقين، منهم: عبد الله بن أبي، ومالك
265 بن دخشم، وذلك أن مواليهما من اليهود أصبغ ورافع عيروهما بالإسلام، وزينوا لهما ترك دينهما وتوليهما اليهود فصانعا اليهود، فقال الله: * (لا تتخذوا الكافرين) * من اليهود * (أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا) * [آية: 144]، يعني حجة بينة يحتج بها عليكم حين توليتم اليهود ونصحتموهم. تفسير سورة النساء آية [145 - 146] * (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار) *، يعني الهاوية، * (ولن تجد لهم نصيرا) * [آية: 145]، يعني مانعا من العذاب، ولما أخبر بمستقر المنافقين، قال ناس للنبي صلى الله عليه وسلم: فقد كان فلان وفلان منافقين فتابوا منه، فكيف يفعل الله بهم؟ فأنزل الله جل ذكره: * (إلا الذين تابوا) * من المنافقين، * (وأصلحوا) * العمل * (واعتصموا) *، يعني احترزوا * (بالله وأخلصوا دينهم) * الإسلام * (لله) * عز وجل ولم يخلطوا بشرك، * (فأولئك مع المؤمنين) * في الولاية، * (وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما) * [آية: 146]، يعني جزاء وافرا. تفسير سورة النساء آية 147 * (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم) * نعمته، * (وآمنتم) *، يعني صدقتم، فإنه لا يعذب شاكرا ولا مؤمنا، * (وكان الله شاكرا عليما) * [آية: 147] بهم. تفسير سورة النساء آية [148 - 151] * (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول) * لأحد من الناس، * (إلا من ظلم) *،
266 يعني اعتدى عليه، فينتصر من القول مثل ما ظلم، ولا حرج عليه أن ينتصر بمثل مقالته، نزلت في أبي بكر؟، رضي الله عنه، شتمه رجل والنبي صلى الله عليه وسلم جالس، فسكت عنه مرارا، ثم رد عليه أبو بكر، رضي الله عنه، فقام النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك، فقال أبو بكر، رضي الله عنه : يا رسول الله، شتمني وأنا ساكت، فلم تقل له شيئا، حتى إذا رددت عليه قمت، قال: ' إن ملكا كان يجيب عنك، فلما أن رددت عليه، ذهب الملك وجاء الشيطان، فلم أكن لأجلس عند مجئ الشيطان '، * (وكان الله سميعا) * بجهر السوء، * (عليما) * [آية: 148] به. ثم أخبر أن العفو والتجاوز خير عند الله من الانتصار، فقال سبحانه: * (إن تبدوا خيرا) *، يعني تعلنوه، * (أو تخفوه) *، يعني تسروه، * (أو تعفوا عن سوء) * فعل بك، * (فإن الله كان عفوا قديرا) * [آية: 149]، يقول: فإن الله أقدر على عفو ذنوبك منك على العفو عن صاحبك. * (إن الذين يكفرون بالله ورسله) *، يعني اليهود، منهم: عامر بن مخلد، ويزيد بن زيد، كفروا بعيسى وبمحمد صلى الله عليه وسلم، * (ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض) * الرسل، يعني موسى، * (ونكفر ببعض) * الرسل، يعني عيسى ومحمدا صلى الله عليه وسلم، * (ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا) * [آية: 150]، يعني دينا، يعني إيمانا ببعض الرسل، وكفرا ببعض الرسل، * (أولئك هم الكافرون حقا) * حين كفروا ببعض الرسل، لا ينفعهم إيمان ببعض، * (وأعتدنا للكافرين) * في الآخرة، * (عذابا مهينا) * [آية: 151]، يعني الهوان. تفسير سورة النساء آية 152 ثم ذكر المؤمنين، فقال سبحانه: * (والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم) *، يعني بين الرسل، وصدقوا بالرسل جميعا، * (أولئك سوف يؤتيهم أجورهم) *، يعني جزاء أعمالهم، * (وكان الله غفورا رحيما) * [آية: 152]. تفسير سورة النساء آية [153 - 159]
267 * (يسئلك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء) *، نزلت في اليهود، وذلك أن كعب بن الأشرف، وفنحاص اليهودي، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت صادقا بأنك رسول، فائتنا بكتاب غير هذا، مكتوب في السماء جملة واحدة كما جاء به موسى، فذلك قوله: * (يسئلك أهل الكتاب...) * إلى قوله سبحانه: * (فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة) *، يعني معاينة، * (فأخذتهم الصاعقة) *، يعني الموت، * (بظلمهم) * لقولهم: أرنا الله جهرة معاينة، * (ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات) *، يعني الآيات التسع، * (فعفونا عن ذلك) *، فلم نستأصلهم جميعا عقوبة باتخاذهم العجل، * (وآتينا موسى سلطانا مبينا) * [آية: 153]، يعني حجة بينة، يعني اليد والعصى. * (ورفعنا فوقهم الطور) *، يعني الجبل فوق رؤوسهم، رفعه جبريل، عليه السلام، وكانوا في أصل الجبل، فرفع الطور فوق رؤوسهم، * (بميثاقهم) *؛ لأن يقروا بما في التوراة، * (وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا) *، يعني باب حطة، * (وقلنا لهم لا تعدوا في السبت) *، أي لا تعدوا في أخذ الحيتان يوم السبت، * (وأخذنا منهم ميثاقا غليظا) * [آية: 154]، يعني شديدا، والميثاق إقرارهم بما عهد الله عز وجل في التوراة. * (فبما نقضهم ميثاقهم) *، يعني فبنقضهم إقرارهم بما في التوراة، * (وكفرهم بآيات الله) *، يعني الإنجيل والقرآن، وهم اليهود، * (وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا
268 غلف) *، وذلك حين سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم: * (وقتلهم الأنبياء) * عرفوا أن الذي قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم حق، وقالوا: * (قلوبنا غلف) *، يعني في أكنة عليها الغطاء، فلا تفقه ولا تفهم ما تقول يا محمد، كراهية ما سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم من كفرهم بالإنجيل والفرقان، يقول الله تعالى: * (بل طبع عليها بكفرهم) *، يعني ختم على قلوبهم، * (فلا يؤمنون إلا قليلا) * [آية: 155]، يقول: ما أقل ما يؤمنون، فإنهم لا يؤمنون البتة. * (وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما) * [آية: 156]، وذلك أن اليهود قذفوا مريم، عليها السلام، بيوسف بن ماثان بالزنا، وكان ابن عمها، وكان قد خطبها، ومريم ابنة عمران بن ماثان، * (وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم) *، ولم يقولوا: رسول الله، ولكن الله عز وجل قال: * (رسول الله) *، ثم قال تعالى: * (وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم) * بصاحبهم الذي قتلوه، وكان الله عز وجل قد جعله على صورة عيسى فقتلوه، وكان المقتول لطم عيسى، وقال لعيسى حين لطمه، أتكذب على الله حين تزعم أنك رسوله، فلما أخذه اليهود ليقتلوه، قال لليهود: لست بعيسى، أنا فلان، واسمه يهوذا، فكذبوه وقالوا له: أنت عيسى، وكانت اليهود جعلت المقتول رقيبا على عيسى صلى الله عليه وسلم، فألقى الله تعالى ذكره شبهه على الرقيب فقتلوه. ثم قال سبحانه: * (وإن الذين اختلفوا فيه) *، يعني في عيسى، وهم النصارى، فقال بعضهم: قتله اليهود، وقال بعضهم: لم يقتل، * (لفي شك منه) * في شك من قتله، * (ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا) * [آية: 157]، يقول: وما قتلوا ظنهم يقينا، يقول: لم يستيقنوا قتله، كقول الرجل: قتلته علما، فأكذب الله عز وجل اليهود في قتل عيسى صلى الله عليه وسلم، فقال عز وجل: * (بل رفعه الله إليه) * إلى السماء حيا في شهر رمضان في ليلة القدر، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، رفع إلى السماء من جبل بيت المقدس، فذلك قوله سبحانه: * (بل رفعه الله إليه) * * (وكان الله عزيزا حكيما) * [آية: 158]، يعني عزيزا منيعا حين منع عيسى من القتل، حكيما حين حكم رفعه، قال: وترك عيسى صلى الله عليه وسلم بعد رفعه خفين، ومدرعة، وحذافة يحذف بها الطير، وقالت عائشة، رضي الله عنها: وترك رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته إزارا غليظا، وكساء، ووسادة أدم حشوها ليف. * (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن) *، يعني وما من أهل الكتاب، يعني اليهود، إلا
269 ليؤمنن * (به) *، يعني بعيسى صلى الله عليه وسلم، * (قبل موته) * أنه نبي رسول قبل موت اليهودي، يعني عند موته؛ لأن الملائكة تضرب وجوههم وأدبارهم، وتقول: يا عدو الله، إن المسيح الذي كذبتم به، هو عبد الله ورسوله حقا، فيؤمن به ولا ينفعه، ويؤمن به من كان منهم حيا إذا نزل عيسى صلى الله عليه وسلم، فينزل عيسى صلى الله عليه وسلم على ثنية يقال لها: أفيق، دهين الرأس، عليه ممصرتان، ومعه حربة يقتل بها الدجال، فقيل لابن عباس، رحمه الله: فمن غرق من اليهود، أو أحرق بالنار، أو أكله السبع، قال: لا تخرج روحه حتى يؤمن بعيسى صلى الله عليه وسلم، ثم قال تعالى: * (ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا) * [آية: 159] أنه قد بلغهم الرسالة. تفسير سورة النساء آية [160 - 162] قوله سبحانه: * (فبظلم من الذين هادوا) *، يعني اليهود، * (حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم) *، يعني في الأنعام، يعني اللحوم والشحوم وكل ذي ظفر لهم حلال ، فحرمها الله عز وجل عليهم بعد موسى، * (وبصدهم عن سبيل الله كثيرا) * [آية: 160]، فيها إضمار، يقول: * (وبصدهم عن سبيل الله كثيرا) *، يعني دين الإسلام، وعن محمد صلى الله عليه وسلم، * (وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل) *، وهو محرم بغير حق، * (وأعتدنا للكافرين منهم) *، يعني اليهود * (عذابا أليما) * [آية: 161]، يعني وجيعا، فهذا الظلم الذي ذكره في هذه الآية. ثم ذكر مؤمني أهل التوراة، فقال سبحانه: * (لكن الراسخون في العلم منهم) *، وذلك أن عبد الله بن سلام وأصحابه، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن اليهود لتعلم أن الذي جئت به حق، وأنك لمكتوب عندهم في التوراة، فقالت اليهود: ليس كما تقولون، وإنهم لا يعلمون شيئا، وإنهم ليغرونك ويحدثونك بالباطل، فقال الله عز وجل: * (لكن الراسخون في العلم منهم) *، يعني المتدارسين علم التوراة، يعني ابن سلام وأصحابه، * (منهم) *، يعني من اليهود، * (والمؤمنون) *، يعني أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من غير أهل الكتاب، * (يؤمنون بما أنزل
270 إليك) * (من القرآن) * (وما أنزل من قبلك) * من الكتب على الأنبياء، التوراة والإنجيل. ثم نعتهم، فقال سبحانه: * (والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة) *، يعني المعطون الزكاة، * (والمؤمنون بالله واليوم الآخر) * أنه واحد لا شريك له، والبعث الذي فيه جزاء الأعمال، * (أولئك سنؤتيهم أجرا) *، يعني جزاء * (عظيما) * [آية: 162]. تفسير سورة النساء آية [163 - 166] * (إنا أوحينا إليك) *، وذلك أن عدى بن زيد وصاحبيه اليهود، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: والله ما أوحى الله إليك ولا إلى أحد من بعد موسى، فكذبهم الله عز وجل، فقال: * (إنا أوحينا إليك) * * (كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده) *، يعني من بعد نوح: هود وصالح، * (وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط) *، يعني بني يعقوب: يوسف وإخواته، وأوحينا إليهم في صحف إبراهيم، ثم قال: * (و) * (أوحينا إلي) * (وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا) * [آية: 163]، ليس فيه حد، ولا حكم، ولا فريضة، ولا حلال، ولا حرام، خمسين ومائة سورة، فأخبره الله بهن ليعلموا أنه نبي. فقالت اليهود: ذكر محمد النبيين ولم يبين لنا أمر موسى أكلمه الله أم لم يكلمه؟ فأنزل الله عز وجل في قول اليهود: * (ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل) *، هؤلاء بمكة في الأنعام وفي غيرها؛ لأن هذه مدنية، * (ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما) * [آية: 164]، يعني مشافهة، وهو ابن أربعين سنة ليلة النار، ومرة أخرى حين أعطى التوراة، * (رسلا مبشرين) * (بالجنة) * (ومنذرين) * (من النار) * (لئلا
271 يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) *، فيقولوا يوم القيامة: لم يأتنا لك رسول، * (وكان الله عزيزا حكيما) * [آية: 165]، حكم إرسال الأنبياء إلى الناس. فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ' إنكم لتعلمون حق ما أقول، وإنه لفي التوراة، فإن تتوبوا وترجعوا يغفر لكم ذنوبكم '، قالوا: لو كان ما تقول في التوراة لاتبعناك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ' والله إنكم لتشهدون بما أقول '، قالوا ما عندنا بذلك شهادة، قال الله عز وجل: فإن لم يشهد لك أحد منهم، فإن الله وملائكته يشهدون بذلك، فذلك قوله عز وجل: * (لكن الله يشهد بما أنزل إليك) * (من القرآن) * (أنزله بعلمه والملائكة يشهدون) * بذلك، * (وكفى بالله شهيدا) * [آية: 166]، يقول: فلا شاهد أفضل من الله بأنه أنزل عليك القرآن. تفسير سورة النساء آية [167 - 169] ثم قال يعنيهم: * (إن الذين كفروا) *، يعني اليهود كفروا بمحمد والقرآن، * (وصدوا عن سبيل الله) *، يعني عن دين الإسلام، * (قد ضلوا) * (عن الهدى) * (ضلالا بعيدا) * [آية: 167]، يعني طويلا، ثم قال: * (إن الذين كفروا) *، يعني اليهود كفروا بمحمد والقرآن، * (وظلموا) *، يعني وأشركوا بالله، * (لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا) * [آية: 168] إلى الهدى، ثم استثنى: * (إلا طريق جهنم خالدين فيها) *، يعني طريق الكفر، فهو يقود إلى جهنم خالدين فيها * (أبذد وكان ذلك على الله يسيرا) * [آية: 169]، يعني عذابهم على الله هينا. تفسير سورة النساء آية 170 * (يا أيها الناس قد جاءكم الرسول) *، يعني محمدا * (بالحق) *، يعني بالقرآن، * (من ربكم فآمنوا خيرا لكم) *، يعني صدقوا بالقرآن فهو خير لكم من الكفر، * (وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض) * من الخلق، * (وكان الله عليما حكيما) * [آية: 170]. تفسير سورة النساء [آية: 171]
272 * (يا أهل الكتاب) *، يعني النصارى، * (لا تغلوا في دينكم) *، يعني الإسلام، فالغلو في الدين أن تقولوا على الله غير الحق في أمر عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم، * (ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله) *، وليس لله تبارك وتعالى ولدا، * (وكلمته) *، يعني بالكلمة، قال: كن فكان، * (ألقاها إلى مريم وروح منه) *، يعني بالروح أنه كان من غير بشر، نزلت في نصارى نجران في السيد والعاقب ومن معهما. ثم قال سبحانه: * (فآمنوا) *، يعني صدقوا * (بالله) * عز وجل بأنه واحد لا شريك له، * (ورسله) *، يعني محمدا صلى الله عليه وسلم بأنه نبي ورسول، * (ولا تقولوا ثلاثة) *، يعني لا تقولوا: إن الله عز وجل ثالث ثلاثة، * (انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد) *، يعني عيسى صلى الله عليه وسلم، * (له ما في السماوات وما في الأرض) * من الخلق عبيده، وفي ملكه عيسى وغيره، * (وكفى بالله وكيلا) * [آية: 171]، يعني شهيدا بذلك. تفسير سورة النساء آية 172 ثم قال عز وجل: * (لن يستنكف المسيح) *، يعني لن يأنف، * (أن يكون عبدا لله ولا) * يستنكف * (الملائكة المقربون) * أن يكونوا عبيدا لله، ليعتبروا بكون الملائكة أقرب إلى الله عز وجل منزلة من عيسى ابن مريم وغيره، فإن عيسى عبد من عباده، ثم أوعد النصارى، فقال: * (ومن يستنكف) *، يعني ومن يأنف، * (عن عبادته ويستكبر) *، يعني ومن يأنف عن عبادة الله، يعني التوحيد ويستكبر، يعني ويتكبر عن العبادة، * (فسيحشرهم إليه جميعا) * [آية: 172]، فلم يستنكف ويستكبر غير إبليس. تفسير سورة النساء [آية: 173]
273 وأخبر المؤمنين بمنزلتهم في الآخرة ومنزلة المستنكفين، فقال: * (فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم) *، يعني فيوفى لهم جزاءهم، * (ويزيدهم) * على أعمالهم * (من فضله) * الجنة، * (وأما الذين استنكفوا) *، يعني أنفوا * (واستكبروا) * عن عبادة الله بالتوحيد، * (فيعذبهم عذابا أليما) *، يعني وجيعا، * (ولا يجدون لهم من دون الله وليا) *، يعني قريبا ينفعهم، * (ولا نصيرا) * [آية: 173]، يعني مانعا يمنعهم من الله عز وجل. تفسير سورة النساء آية [174 - 175] * (يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم) *، يعني بيان، وهو القرآن، * (وأنزلنا إليكم نورا مبينا) * [آية: 174]، يعني ضياء بينا من العمى، وهو القرآن، * (فأما الذين آمنوا بالله) *، يعني صدقوا بالله عز وجل بأنه واحد لا شريك له، * (واعتصموا به) *، يعني احترزوا به، يعني بالله عز وجل، * (فسيدخلهم في رحمة منه) *، يعني الجنة، * (وفضل) *، يعني الرزق في الجنة، * (ويهديهم إليه صراطا مستقيما) * [آية: 175]. تفسير سورة النساء آية 176 * (يستفتونك) *، نزلت في جابر بن عبد الله الأنصاري من بني سلمة بن جشم بن سعد بن علي بن شاردة بن يزيد بن جشم بن الخزرج وفي أخواته، * (قل الله يفتيكم في الكلالة) *، يعني به الميت الذي يموت وليس له ولد ولا والد، فهو الكلالة، وذلك أن جابر بن عبد الله الأنصاري، رحمه الله، مرض بالمدينة، فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني كلالة لا أب لي ولا ولد، فكيف أصنع في مالي، فأنزل الله عو وجل: * (إن امرؤا هلك) *، يعني مات، * (ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك) * الميت من الميراث، * (وهو يرثها إن لم يكن لها ولد) * إذا ماتت قبله، * (فإن كانتا اثنتين) *، يعني أختين، * (فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء
274 فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا) *، يقول: لئلا تخطئوا قسمة المواريث، * (والله بكل شيء) * من قسمة المواريث، * (عليم) * [آية: 176]، نظيرها في الأنفال.
275 سورة المائدة سورة المائدة مدنية، نهارية كلها، عشرون ومائة آية كوفية إلا قوله تعالى * (اليوم أكملت لكم دينكم) * الآية، فإنها نزلت بعرفة بسم الله الرحمن الرحيم تفسير سورة المائدة آية 1 قال مقاتل: قوله سبحانه: * (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) *، يعني بالعهود التي بينكم وبين المشركين، * (أحلت لكم بهيمة الأنعام) *، يعني أحل لكم أكل لحوم الأنعام، الإبل، والبقر، والغنم، والصيد كله، * (إلا ما يتلى عليكم) *، يعني غير ما نهى الله عز وجل عن أكله مما حرم الله عز وجل، من الميتة والدم، ولحم الخنزير، والمنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، ثم قال: * (غير محلي الصيد) *، يقول: من غير أن تستحلوا الصيد، * (وأنتم حرم) *، يقول: إذا كنت محرما بحج أو عمرة، فالصيد عليك حرام كله، غير صيد البحر، فإنه حلال لك، * (إن الله يحكم ما يريد) * [آية: 1]، فحكم أن يجعل ما شاء من الحلال حرما، وجعل ما شاء مما حرم في الإحرام من الصيد حلالا. تفسير سورة المائدة آية 2 قال تعالى ذكره: * (يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله) *، يعني مناسك الحج والعمرة، وذلك أن الحمس، قريشا، وخزاعة، وكنانة، وعامر بن صعصعة، كانوا يستحلون أن يغير بعضهم على بعض في الأشهر الحرم وغيرها، وكانوا لا يسعون بين الصفا والمروة، وكانوا لا يرون الوقوف بعرفات من شعائر الله، فلما أسلموا أخبرهم الله
276 عز وجل بأنها من شعائر الله، فقال عز وجل: * (الصفا والمروة من شعائر الله) * [البقرة: 158]. وأمر سبحانه أن يسعى بينهما، فأنزل الله عز وجل: * (يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله) * * (ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد) *، يقول: لا تستحلوا القتل في الشهر الحرام، وذلك أن أبا ثمامة جنادة بن عوف بن أمية من بني كنانة كان يقوم كل سنة في سوق عكاظ، فيقول: ألا إني قد أحللت المحرم، وحرمت صفرا، وأحللت كذا، وحرمت كذا، ما شاء، وكانت العرب تأخذ به، فأنزل الله تعالى: * (إنما النسئ زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا) *، يعني جنادة بن عوف، * (يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطؤوا عدة ما حرم الله) *، يعني خلافا على الله جل اسمه وعلى ما حرم، * (فيحلوا ما حرم الله) * [التوبة: 37] من الأشهر الحرم. ثم رجع إلى الآية الأولى في التقديم، فقال تعالى: * (ولا القلائد) *، كفعل أهل الجاهلية، وذلك أنهم كانوا يصيبون من الطريق، قال: وكان في الجاهلية من أراد الحج من غير أهل الحرم، يقلد نفسه من الشعر والوبر، فيأمن به إلى مكة، وإن كان من أهل الحرم، قلد نفسه وبعيره من لحيا شجر الحرم، فيأمن به حيث يذهب، فهذا في غير أشهر الحرم، فإذا كان أشهر الحرم، لم يقلدوا أنفسهم ولا أباعرهم وهم يأمنون حيث ما ذهبوا. قال عز وجل: * (ولا آمين البيت الحرام) *، يعني متوجهين نحو البيت، نزلت في الخطيم، يقول: لا تتعرضوا الحجاج بيت الله، * (يبتغون فضلا من ربهم) *، يعني الرزق في التجارة في مواسم الحج، * (ورضوانا) *، يعني رضوان الله بحجهم، فلا يرضى الله عنهم حتى يسلموا، فنسخت آية السيف هذه الآية كلها. قوله سبحانه: * (وإذا حللتم) * من الإحرام، * (فاصطادوا) *، يقول: إذا حللتم من إحرامكم فاصطادوا، * (ولا يجرمنكم شنئان قوم) *، يقول: ولا يحملنكم عداوة المشركين من أهل مكة، * (أن صدوكم عن المسجد الحرام) *، يعني منعوكم من
277 دخول البيت الحرام أن تطوفوا به عام الحديبية، * (أن تعتدوا) *، يعني أن ترتكبوا معاصيه، فتستحلوا أخذ الهدى والقلائد والقتل في الشهر الحرام من حجاج بكر بن وائل من أهل اليمامة، نزلت في الخطيم، واسمه شريح بن ضبيعة بن شرحبيل بن عمر بن جرثوم البكري، ومن بني قيس بن ثعلبة، وفي حجاج المشركين، وذلك أن شريح بن ضبيعة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، اعرض علي دينك، فعرض عليه وأخبره بما له وبما عليه، فقال له شريح: إن في دينك هذا غلظا، فأرجع إلى قومي فأعرض عليهم ما قلت، فإن قبلوه كنت معهم، وإن لم يقبلوه كنت معهم. فخرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ' لقد دخل بقلب كافر، وخرج بوجه غادر، وما أرى الرجل بمسلم '، ثم مر على مسرح المدينة فاستاقها، فطلبوه فسبقهم إلى المدينة، وأنشأ يقول: * قد لفها الليل بسواق حطم * ليس براعي إبل ولا غنم * * ولا بجزار على ظهر وضم * خدلج الساق ولا رعش القدم * قال أبو محمد عبد الله بن ثابت: سمعت أبي يقول: قال أبو صالح: قتله رجل من قومه على الكفر، وقدم الرجل الذي قتله مسلما، فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمرا عام الحديبية في العام الذي صده المشركون، جاء شريح إلى مكة معتمرا، معه تجارة عظيمة في حجاج بكر بن وائل، فلما سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدوم شريح وأصحابه، وعرفوا بنبئهم، فأراد أهل السرح أن يغيروا عليه كما أغار عليهم من قبل شريح وأصحابه، فقالوا: نستأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فاستأمروه، فنزلت الآية: * (يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله) *، يعني أمر المناسك. ولا تستحلوا في الشهر الحرام أخذ الهدى ولا القلائد، يقول: ولا تخيفوا من قلد بعيره، ولا تستحلوا القتل آمين البيت الحرام، يعني متوجهين قبل البيت الحرام من حجاج المشركين، يعني شريح بن ضبيعة وأصحابه يبتغون بتجاراتهم فصلا من الله، يعني الرزق والتجارة ورضوانه بحجهم، فنهى الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم عن قتالهم، ثم لم يرض منهم حتى يسلموا، فنسخت هذه الآية آية السيف، فقال عز وجل: * (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) * [التوبة: 5]، ثم قال تعالى: * (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب) * [آية: 2].
278 تفسير سورة المائدة آية 3 قوله سبحانه: * (حرمت عليكم الميتة) *، يعني أكل الميتة، * (والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به) *، يعني الذي ذبح لأصنام المشركين ولغيرهم، هذا حرام البتة إن أدركت ذكاته أو لم تدرك ذكاته، فإنه حرام البتة؛ لأنهم جعلوه لغير الله عز وجل، ثم قال عز وجل: * (والمنخنقة) *، يعني وحرم المنخنقة، الشاة، والإبل، والبقر التي تنخنق أو غيره حتى تموت، * (والموقوذة) *، يعني التي تضرب بالخشب حتى تموت، * (والمتردية) *، يعني التي تردى من الجبل، فتقع منه أو تقع في بئر فتموت، * (والنطيحة) *، يعني الشاة تنطح صاحبتها فتموت، * (وما أكل السبع) * من الأنعام والصيد، يعني فريسة السبع. ثم استثنى، فقال سبحانه: * (إلا ما ذكيتم) *، يعني إلا ما أدركتم ذكاته من المنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع، فما أدركتم ذكاته من المنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع مما أدركتم ذكاته، يعني بطرف، أو بعرق يضرب، أو بذنب بتحرك، ويذكي فهو حلال، * (وما ذبح على النصب) *، يعني وحرم ما ذبح على النصب، وهي الحجارة التي كانوا ينصبونها في الجاهلية فيعبدونها، فهو حرام البتة، وكان خزان الكعبة يذبحون لها، وإن شاءوا بدلوا تلك الحجارة بحجارة أخرى، وألقوا الأولى.
279 ثم قال تعالى ذكره: * (وأن تستقسموا بالأزلام) *، يعني وأن تستقسموا الأمور بالأزلام، والأزلام قدحان في بيت أصنامهم، فإذا أرادوا أن يركبوا أمرا أتوا بيت أصنامهم، فضربوا بالقدحين، فما خرج من شيء عملوا به، وكان كتب على أحدهما: أمرني ربي، وعلى الآخر: نهاني ربي، فإذا أرادوا سفرا أتوا ذلك البيت، فغطوا عليه ثوبا، ثم يضربون بالقدحين، فإن خرج السهم الذي فيه: أمرني ربي، خرج في سفره، وإن خرج السهم الذي فيه: نهاني ربي، لم يسافر، فهذه الأزلام. * (ذلكم فسق) *، يعني معصية حراما، * (اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم) *، يعني لا تخشوا الكفار، * (واخشون) * في ترك أمرى، ثم قال سبحانه: * (اليوم أكملت لكم دينكم) *، يعني يوم عرفة، لم ينزل بعدها حلال ولا حرام، ولا حكم، ولا حد، ولا فريضة، غير آيتين من آخر سورة النساء: * (يستفتونك) * [النساء: 176]، * (اليوم أكملت لكم دينكم) *، يعني شرائع دينكم أمر الحلال والحرام، وذلك أن الله جل ذكره كان فرض على المؤمنين شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإيمان بالبعث، والجنة، والنار، والصلاة ركعتين غدوة وركعتين بالعشى شيئا غير مؤقت، والكف عن القتال قبل أن يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم، وفرضت الصلوات الخمس ليلة المعراج، وهو بعد بمكة، والزاكة المفروضة بالمدينة، ورمضان، والغسل من الجنابة، وحج البيت، وكل فريضة. فلما حج حجة الوداع، نزلت هذه الآية يوم عرفة، فبركت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم لنزول الوحي بجمع، وعاش النبي صلى الله عليه وسلم بعدها إحدى وثمانين ليلة، ثم مات يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول، وهي آخر آية نزلت في الحلال والحرام، * (اليوم أكملت لكم دينكم) *، يعني شرائع دينكم أمر حلالكم وحرامكم، * (وأتممت عليكم نعمتي) *، يعني الإسلام إذ حججتم وليس معكم مشرك، * (ورضيت لكم الإسلام دينا) *، يعني واخترت لكم الإسلام دينا، فليس دين أرضى عند الله عز وجل من الإسلام. قال سبحانه: * (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) * [آل عمران: 85]، ثم قال عز وجل: * (فمن اضطر في مخمصة) *، يعني مجاعة وجهد شديد أصابه من الجوع، * (غير متجانف لإثم) * غير متعمد لمعصية، * (فإن الله غفور رحيم) * [آية: 3]، إذا رخص له في أكل الميتة، ولحم الخنزير، حين
280 أصابه الجوع الشديد والجهد، وهو على غير المضطر حرام. تفسير سورة المائدة آية [4 - 5] * (يسئلونك ماذا أحل لهم) * من الصيد، وذلك أن زيد الخير، وهو من بني المهلهل، وعدي بن حاتم الطائيان، سألا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالا: يا رسول الله، كلاب آل درع وآل حورية يصدن الظباء والبقر والحمر، فمنها ما تدرك ذكاته فيموت، وقد حرم الله عز وجل الميتة، فماذا يحل لنا؟ فنزلت: * (يسئلونك ماذا أحل لهم) * من الصيد * (قل أحل لكم الطيبات) *، يعني الحلال، وذبح ما أحل الله لهم من الصيد مما أدركت ذكاته. ثم قال: * (وما علمتم من الجوارح مكلبين) *، يعني الكلاب معلمين للصيد، * (تعلمونهن مما علمكم الله) *، يقول: تؤدبوهن كما أدبكم الله، فيعرفون الخير والشر، وكذا الكاتم أيضا، فأدبوا كلابكم في أمر الصيد، * (فكلوا مما أمسكن عليكم) *، يقول: فكلوا مما أمسكن، يعني حبسن عليكم الكلاب المعلمة، * (واذكروا اسم الله عليه) * إذا أرسلتم بعد أن أمسك عليكم، * (واتقوا الله) *، فلا تستحلوا أكل الصيد من الميتة، إلا ما ذكى من صيد الكلب المعلم، ثم خوفهم، فقال: * (إن الله سريع الحساب) * [آية: 4] لمن يستحل أكل الميتة من الصيد إلا من اضطر. قوله: * (اليوم أحل لكم الطيبات) *، يعني الحلال، أي الذبائح من الصيد، * (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) *، يعني بالطعام ذبائح الذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى، ذبائحهم ونساؤهم حلال للمسلمين، * (وطعامكم حل لهم) * يعني ذبائح المسلمين وذبائح نسائهم حلال لليهود والنصارى، ثم قال عز وجل: * (والمحصنات من المؤمنات) *، يعني وأحل لكم تزويج العفائف من المؤمنات، * (والمحصنات من الذين أوتوا
281 الكتاب من قبلكم) *، يعني وأحل تزويج العفائف من حرائر نساء اليهود والنصارى، نكاحهن حلال للمسلمين، * (إذا آتيتموهن أجورهن) *، يعني إذا أعطيتموهن مهورهن، * (محصنين) * لفروجهن من الزنا، * (غير مسافحين) *، يعني غير معلنات بالزنا علانية، * (ولا متخذي أخذان) *، يعني لا تتخذ الخليل في السر فيأيتها، فلما أحل الله عز وجل نساء أهل الكتاب، قال المسلمون: كيف تتزوجوهن وهن على غير ديننا، وقالت نساء أهل الكتاب: ما أحل الله تزويجنا للمسلمين إلا وقد رضى أعمالنا، فأنزل الله عز وجل: * (ومن يكفر بالإيمان) *، يعني من نساء أهل الكتاب بتوحيد الله، * (فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين) * [آية: 5]، يعني من الكافرين. تفسير سورة المائدة آية [6 - 7] * (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا) *، يعني إن أصابتكم جنابة، * (فاطهروا) *، يعني فاغتسلوا، * (وإن كنتم مرضى) *، نزلت في عبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنه، أو أصابكم جراحة، أو جدري، أو كان بكم قروح وأنتم مقيمون في الأهل، فخشيتم الضرر والهلاك، فتيمموا الصعيد ضربة للوجه وضربة للكفين، * (أو) * (إن كنتم) * (على سفر) *، نزلت في عائشة، رضي الله عنها، حين أسقطت قلادتها وهو مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة بني أنمار، وهم حي من قيس عيلان. * (أو جاء أحد منكم من الغائط) * في السفر * (أو لامستم النساء) *، يعني جامعتم النساء في السفر، * (فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) *، يعني من الصعيد ضربتين، ضربة للوجه وضربة لليدين إلى الكرسوع، ولم
282 يؤمروا بمسح الرأس في التيمم، * (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج) *، يعني ضيق في أمر دينكم، إذ رخص لكم في التيمم، * (ولكن يريد ليطهركم) * في أمر دينكم من الأحداث والجنابة، * (وليتم نعمته عليكم) *، يعني إذ رخص لكم في التيمم في السفر، والجراح في الحضر، * (لعلكم تشكرون) * [آية: 6] رب هذه النعم فتوحدونه، فلما نزلت الرخصة، قال أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، لعائشة، رضوان الله عليها: والله ما علمتك إلا مباركة. قوله سبحانه: * (واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به) *، يعني بالإسلام يوم أخذ ميثاقكم على المعرفة بالله عز وجل والربوبية، * (إذ قلتم سمعنا وأطعنا) *، ذلك أن الله عز وجل أخذ الميثاق الأول على العباد حين خلقهم من صلب آدم، عليه السلام، فذلك قوله عز وجل: * (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا) * [الأعراف: 172] على أنفسنا، فمن بلغ منهم العمل، وأقر لله عز وجل بالإيمان به، وبآياته، وكتبه، ورسله، والكتاب، والملائكة، والجنة، والنار، والحلال، والحرام، والأمر، والنهى أن يعمل بما أمر، وينتهي عما نهى، فإذا أوفى لله تعالى بهذا، أوفى الله له بالجنة.. فهذان ميثاقان، ميثاق بالإيمان بالله، وميثاق بالعمل، فذلك قوله سبحانه في البقرة: * (سمعنا وأطعنا) * [البقرة: 285]، سمعنا بالقرآن الذي جاء من عند الله، وأطعنا الله عز وجل فيه، وذلك قوله سبحانه في التغابن: * (فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا) * [التغابن: 16]، يقول: اسمعوا القرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله عز وجل، وأطيعوا الله فيما أمركم، فمن بلغ الحلم والعمل ولم يؤمن بالله عز وجل ولا بالرسول والكتاب، فقد نقض الميثاق الأول بالإيمان بالله عز وجل، وبما أخذ الله تعالى عليه حين خلقه وصار من الكافرين، ومن أخذ الله عز وجل عليه الميثاق الأول، ولم يبلغ الحلم، فإن الله عز وجل أعلم به. قال: وسئل عبد الله بن عباس عن أطفال المشركين، فقال: لقد أخذ الله عز وجل الميثاق الأول عليهم، فلم يدركوا أجلا، ولم يأخذوا رزقا، ولم يعملوا سيئة، * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) * [الإسراء: 15]، وماتوا على الميثاق الأول، فالله أعلم بهم. * (واتقوا الله) *، ولا تنقضوا ذلك الميثاق، * (إن الله عليم بذات الصدور) * [آية: 7]،
283 يعني بما في قلوبهم من الإيمان والشك. تفسير سورة المائدة آية [8 - 10] قوله سبحانه: * (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط) *، يعني قوالين بالعدل، شهداء لله، * (ولا يجرمنكم شنئان قوم) *، يقول: لا تحملنكم عداوة المشركين، يعني كفار مكة، * (على ألا تعدلوا) * على حجاج ربيعة، وتستحلوا منهم محرما، * (اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله) * فاعدلوا، فإن العدل أقرب للتقوى، يعني لخوف الله عز وجل، * (إن الله خبير بما تعملون) * [آية: 8]، يعظهم ويحذرهم. ثم قال سبحانه: * (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات) *، يعني وأدوا الفرائض، * (لهم مغفرة) * لذنوبهم، * (وأجر عظيم) * [آية: 9]، يعني جزاء حسنا، وهو الجنة، * (والذين كفروا) * من أهل مكة، * (وكذبوا بآياتنا) *، يعني القرآن، * (أولئك أصحاب الجحيم) * [آية: 10]، يعني ما عظم من النار. تفسير سورة المائدة آية 11 قوله سبحانه: * (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم...) * الآية، نزلت هذه الآية؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد بعث المنذر بن عمرو الأنصاري في أناس من أصحابه إلى بئر معوتة، وهو ماء بني عامر، فساروا حتى أشرفوا على الأرض، فأدركهم الماء فنزلوا، فلما كان المساء، أضل أربعة منهم بعيرا لهم، فاستأذنوا أن يقيموا، فأذن لهم المنذر، ثم سار المنذر بمن معه، وأصبح القوم وقد جمعوا لهم على الماء، وكانت بنو سليم هم الذين آذنوا بني عامر بهم، فالتقوا فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل المنذر بن عمرو ومن معه،
284 وأصاب الأربعة بعيرهم من الغد، فأقبلوا في طلب أصحابهم، فلقيتهم وليدة لبني عامر في غنيمة ترعاها، فقالت لهم: أمن أصحاب محمد أنتم؟ قالوا: نعم، رجاء أن تسلم، فقالت: النجاء، فإن إخوانكم قد قتلوا حول الماء، قتلهم عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر. فقال أحد الأربعة: ما ترون؟ قالوا: نرى أن نرحل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنخبره بالذي كان، قال: لكني والله لا أرجع حتى انتقم من أعداء أصحابي اليوم، فامضوا راشدين واقرأوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام كثيرا، فأشرف على الخيل، فنظر إلى أصحابه مقتلين عند الماء، فأخذ سيفه، فضرب به حتى قتل، رحمه الله، ورجع الثلاثة إلى المدينة، فأتوها حين أمسوا، فلقوا رجلين من بني سليم وهما خارجان من المدينة، فقالوا لهما: من أنتما؟ قالا: نحن من بني عامر، فقالوا: أنتما ممن قتل إخواننا، فأقبلوا عليهما فقتلوهما. ثم دخلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبروه الخبر، فوجدوا الخبر قد سبق إليه، فقالوا: يا رسول الله، غشينا المدينة ممسين، فوجدنا رجلين من بني عامر، فقتلناهما وهذا سلبهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ' بئس ما صنعتما، فإنهما كانا من بني سليم '، قال: وكان بين بني سليم وبين النبي صلى الله عليه وسلم موادعة وعهد، فنزلت: * (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) *، يقول: لا تعجلوا بأمر ولا بفعل حتى يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم، * (واتقوا الله) * ولا تخالفوا على نبيكم، * (إن الله سميع) * لما تقولون، * (عليم) * [الحجرات: 1] بما تفعلون. وجاء أهل السليميين، فقالوا: يا محمد، إن صاحبينا أتياك فقتلا عندك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ' إن صاحبيكما اعتزيا إلى عدونا حتى قتلا، ولكنا سنعقل صاحبيكم '، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهل عهده، فبدأ ببني النضير، فقال: ' أنتم جيرننا وحلفاؤنا، والأيام، دول، وقد رأيتم الذي أصابنا، فاتخذوا عندنا يدا نجزكم بها غدا إن شاء الله '، فقالوا: مرحبا بك وأهلا، إخواننا بنو قريظة لا نحب أن نسبقهم بأمر، ولكن ائتنا يوم كذا وكذا، وقد جمعنا لك الذي تريد أن نعطيك. فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم، فأرسلوا إلى بني قريظة: أن محمدا مغرور، يأتينا في الرجل والرجلين، فاجتمعوا له فاقتلوه، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لميعادهم، ومعه ثلاثة نفر:
285 أبو بكر، وعمر، وعلي، رضي الله عنهم، وهو صلى الله عليه وسلم رابعهم، فأجلسوه في صفة لهم، ثم خرجوا يجمعون السلاح له، وكان كعب بن الأشرف عند ذلك بالمدينة، فهم ينتظرونه حتى يأتيهم، فأوحى الله عز وجل إلى نبيه، فأتاه جبريل، عليه السلام، فأخبره بما يراد به وبأصحابه، فقام نبي الله صلى الله عليه وسلم، ولم يؤذن أصحابه مخافة أن يثوروا بهم، فأتى باب الدار، فقام به. فلما أبطأ على أصحابه، خرج على لينظر ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو على الباب، فقال: يا رسول الله، احتبست علينا، حتى خفنا عليك أن يكون قد اغتالك أحد، قال: ' فإن أعداء الله قد أرادوا ذلك، فقم مكانك بالباب حتى يخرج إليه بعض أصحابك، فأقمه مكانك وأخبره بالذي أخبرتك، ثم الحقني '، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم: وقام الآخر بالباب، حتى خرج إليه صاحبه، فقال: احتبست أنت ورسول الله، حتى خفنا عليكما، فأخبره الخبر، فمكث مكانه ولحق الآخر برسول الله صلى الله عليه وسلم: فلما أبطأوا على صاحبهم خرج، فاتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذلك قوله سبحانه: * (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم) *، وهم اليهود، * (أن يبسطوا إليكم أيديهم) * بالسوء، * (فكف أيديهم عنكم) * * (واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون) * [آية: 11]. تفسير سورة المائدة آية [12 - 13] قوله سبحانه: * (ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا) *، يعني شاهدا على قومهم، من كل سبط رجلا ليأخذ هذا الرجل على سبطه الميثاق، وشهداء على قومهم، وكانوا اثنى عشر سبطا، على كل سبط منهم رجلا، فأطاع الله عز وجل منهم خمسة، فكان منهم طالوت، ممن أطاع الله عز وجل، وعصى
286 منهم سبعة، فنقبوا على أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا، * (وقال الله) * عز وجل للنقباء الاثني عشر، * (إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي) *، يعني الذين بعثتهم إليكم، وفيهم عيسى، ومحمد صلى الله عليه وسلم، فكفروا بعيسى ومحمد، صلى الله عليهما وسلم. قال الله تعالى: ولقد أخذ الله ميثاقكم على أن تعملوا بما في التوراة، فكان الإيمان بالنبيين من عمل التوراة، ثم قال سبحانه: * (وعزرتموهم) *، يعني وأعنتموهم حتى يبلغوا الرسالة، * (وأقرضتم الله قرضا حسنا) *، يعني طيبة بها أنفسكم، وهو التطوع، * (لأكفرن عنكم سيئاتكم) *، يقول: أغفر لكم خطاياكم الذي كان منكم فيما بينكم وبيني، * (ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار) *، يعني الساتين، * (فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل) * [آية: 12]، يعني فقد أخطأ قصد الطريق، طريق الهدى، فنقضوا العهد والميثاق. فذلك قوله سبحانه: * (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم) *، فبنقضهم ميثاقهم لعناهم بالمسخ، * (وجعلنا قلوبهم قاسية) *، يعني قست قلوبهم عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، * (يحرفون الكلم عن مواضعه) *، والكلم صفة محمد صلى الله عليه وسلم، * (ونسوا حظا مما ذكروا به) *، وذلك أن الله عز وجل أخذ ميثاق بني إسرائيل في التوراة أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ويصدقوا به، وهو مكتوب عندهم في التوراة، فلما بعثه الله عز وجل كفروا به وحسدوه، وقالوا: إن هذا ليس من ولد إسحاق، وهو ولد من إسماعيل، فقال الله عز وجل: * (ولا تزال تطلع على خائنة منهم) *، وهو الغش للنبي صلى الله عليه وسلم، * (إلا قليلا منهم) *، والقليل مؤمنيهم عبد الله بن سلام وأصحابه. يقول الله عز وجل: * (فاعف عنهم واصفح) *، حتى يأتي الله بأمره في أمر بني قريظة والنضير، فكان أمر الله فيهم القتل والسبي والجلاء، يقول: فاعف عنهم حتى يأتي، يعني يجيء ذلك الأمر، فبلغوه فسبوا وأجلوا، فصارت آية العفو والصفح منسوخة، نسختها آية السيف في براءة، فلما جاء ذلك الأمر قتلهم الله تعالى وسباهم وأجلاهم، * (إن الله يحب المحسنين) * [آية: 13]. تفسير سورة المائدة آية 14
287 ثم ذكر أهل الإنجيل، فقال سبحانه: * (ومن الذين قالوا إنا نصارى) *، إنما سموا نصارى؛ لأنهم كانوا من قرية يقال لها: ناصرة، كان نزلها عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم، * (أخذنا ميثاقهم) *، وذلك أن الله كان أخذ عليهم الميثاق في الإنجيل بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، كما أخذ على أهل التوراة أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ويتبعوه ويصدقوه، وهو مكتوب عندهم في الإنجيل، يقول الله تعالى: * (فنسوا حظا مما ذكروا به) *، يعني فتركوا حظا مما أمروا به من إيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، والتصديق به، ولو آمنوا لكان خيرا لهم، وكان لهم حظا. يقول الله عز وجل: * (فأغرينا بينهم) *، يعني بين النصارى، * (العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة) * النسطورية والماريعقوبية، وعبادة الملك، فهم أعداء بعضهم لبعض إلى يوم القيامة، * (وسوف ينبئهم الله) * في الآخرة، * (بما كانوا يصنعون) * [آية: 14]، يعني بما يقولون من الجحود والتكذيب، وذلك أن النسطورية، قالوا: إن عيسى ابن الله، وقالت الماريعقوبية: إن الله هو المسيح ابن مريم، وقالت عبادة الملك: إن الله عز وجل ثالث ثلاثة، هو إله، وعيسى إله، ومريم إله، افتراء على الله تبارك وتعالى، وإنما الله إله واحد، وعيسى عبد الله ونبيه صلى الله عليه وسلم، كما وصف الله سبحانه نفسه: أحد، صمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد. تفسير سورة المائدة آية [15 - 16] * (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا) * محمد صلى الله عليه وسلم، * (يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب) *، يعني التوراة، أخفوا أمر الرجم، وأمر محمد صلى الله عليه وسلم، * (ويعفوا عن كثير) *، يعني ويتجاوز عن كثير مما كتمتم، فلا يخبركم بكتمانه، * (وقد جاءكم من الله نور) *، يعني ضياء من الظلمة، * (وكتاب مبين) * [آية: 15]، يعني بين.
288 * (يهدي به الله) *، يعني بكتاب محمد صلى الله عليه وسلم، * (من اتبع رضوانه سبل السلام) *، يعني من اتبع دين محمد صلى الله عليه وسلم ودين الإسلام، يهديه الله إلى طريق الجنة، * (ويخرجهم من الظلمات إلى النور) *، يعني من الشرك إلى الإيمان، * (بإذنه) *، يعني بعلمه، * (ويهديهم إلى صراط مستقيم) * [آية: 16]. تفسير سورة المائدة آية [17 - 18] قوله سبحانه: * (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم) *، نزلت في نصارى نجران الماريعقوبيين، منهم السيد والعاقب وغيرهما، * (قل) * لهم يا محمد، * (فمن يملك) *، فمن يقدر أن يمتنع، * (من الله شيئا) * من شيء من عذابه، * (إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا) * بعذاب أو بموت، فمن الذي يحول بينه وبين ذلك؟! ثم عظم الرب جل جلاله نفسه عن قولهم حين قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم، فقال سبحانه: * (ولله ملك السماوات والأرض) *، يقول: إليه سلطان السماوات والأرض، * (وما بينهما) * من الخلق، * (يخلق ما يشاء) *، يعني عيسى، شاء أن يخلقه من غير بشر، * (والله على كل شيء قدير) * [آية: 17] من خلق عيسى من غير بشر وغيره من الخلق قدير، مثلها في آخر السورة. * (وقالت اليهود) * يهود المدينة، منهم: كعب بن الأشرف، ومالك بن الضيف، وكعب بن أسيد، وبحري بن عمرو، وشماس بن عمرو، وغيرهم، * (والنصارى) * من نصارى نجران السيد والعاقب ومن معهما، قالوا جميعا: * (نحن أبناء الله وأحباؤه) *، وافتخروا على المسلمين، وقالوا: ما أحد من الناس أعظم عند الله منزلة منا، فقال الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم، * (قل) * للمسلمين يردوا عليهم، * (فلم يعذبكم بذنوبكم) *، حين زعمتم وقلتم: لن تمسنا النار إلا أياما معدودة، يعني عدة ما عبدوا فيها العجل، إن كنتم
289 أبناء الله وأحباؤه، أفتطيب نفس رجل أن يعذب ولده بالنار؟ والله أرحم من جميع خلقه. فقال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم قل لهم: * (بل أنتم بشر ممن خلق) * من العباد، ولستم بأبناء الله وأحبائه، * (يغفر لمن يشاء) *، يعني يتجاوز عمن يشاء فيهديه لدينه، * (ويعذب من يشاء) * فيميته على الكفر، ثم عظم الرب نفسه عز وجل عن قولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه، فقال سبحانه: * (ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما) * من الخلق يحكم فيهما ما يشاءهم عبيده وفي ملكه، * (وإليه المصير) * [آية: 18] في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم. تفسير سورة المائدة آية [19 - 26] * (يا أهل الكتاب) *، يعني اليهود، منهم: رافع بن أبي حريملة، ووهب بن يهوذا، * (قد جاءكم رسولنا) * محمد صلى الله عليه وسلم، * (يبين لكم) * الدين، * (على فترة من الرسل) * فيها تقديم، وكان بين محمد وعيسى، صلى الله عليهما وسلم، ستمائة سنة، * (أن تقولوا) *، يعني لئلا تقولوا: * (ما جاءنا من بشير) * بالجنة، * (ولا نذير) * من النار، يقول: * (فقد جاءكم بشير ونذير) *، يعني النبي صلى الله عليه وسلم، * (والله على كل شيء قدير) * [آية: 19]، إذ بعث محمدا رسولا. * (وإذ قال موسى لقومه) *، وهم بنو إسرائيل، * (يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم) *
290 يعني بالنعمة، * (إذ جعل فيكم) * السبعين الذي جعلهم الله * (أنبياء) * بعد موسى وهارون، وبعدما أتاهم الله بالصاعقة، * (وجعلكم ملوكا) *، يعني أغنياء، بعضكم عن بعض، فلا يدخل عليه أحد إلا بإذنه بمنزلة الملوك في الدنيا، ثم قال: * (وآتاكم) *، يعني وأعطاكم، * (ما لم يؤت) *، يعني ما لم يعط * (أحدا من العالمين) * [آية: 20]، يعني الخير والتوراة، وما أعطاكم الله عز وجل في التيه من المن والسلوى، وما ظلل عليهم من الغمام وأشباه ذلك مما فضلوا به على غيرهم. فقال موسى: * (يا قوم) * بني إسرائيل، * (ادخلوا الأرض المقدسة) *، يعني المطهرة * (التي كتب الله لكم) *، يعني التي أمركم الله عز وجل أن تدخلوها وهي أريحا أرض الأردن وفلسطين، وهما من الأرض المقدسة، * (ولا ترتدوا على أدباركم) *، يعني ولا ترجعوا ورائكم بترككم الدخول، * (فتنقلبوا خاسرين) * [آية: 21]، يعني فترجعوا خاسرين. وذلك أن الله عز وجل قال لإبراهيم، عليه السلام، وهو بالأرض المقدسة: إن هذه الأرض التي أنت بها اليوم هي ميراث لولدك من بعدك، فلما أخرج الله عز وجل موسى، عليه السلام، من مصر مع بني إسرائيل، وقطعوا البحر، وأعطوا التوراة، أمرهم موسى أن يدخلوا الأرض المقدسة، فساروا حتى نزلوا على نهر الأردن في جبل أريحا، وكان في أريحا ألف قرية، في كل قرية ألف بستان، وجبنوا أن يدخلوها، فبعث موسى، عليه السلام، اثنى عشر رجلا، من كل سبط رجلا، يأتونه بخبر الجبارين، وأمرهم أن يأتوه منها بالثمرة. فلما أتوها خرج إليهم عوج بن عناق بنت آدم، فاحتملهم ومتاعهم بيده حتى وضعهم بين يدي الملك بن بانوس سشرون، فنظر إليهم، فأمر بقتلهم، فقالت امرأته: أيها الملك، أنعم على هؤلاء المساكين، فدعهم فليرجعوا وليأخذوا طريقا غير الذي جاءوا فبه، فأرسلهم لها، فأخوا عنقودا من كرومهم، وحملوه على عمودين بين رجلين، وعجزوا عن حمله، وحملوا رمانتين على بعض دوابهم، فعجزت الدابة عن حملهما حتى أتوا به أصحابهم وهم بواد يقال له: جبلان، فسموا ذلك المنزل وادى العنقود؟ * (قالوا يا موسى) * وجدناها أرضا مباركة تفيض لبنا وعسلا كما عهد الله عز وجل إليك، ولكن * (إن فيها قوما جبارين) *، يعني قتالين أشداء يقتل الرجل منهم العصابة منا،
291 فإن كان الله عز وجل أراد أن يجعلها لنا منزلا وسكنا، فليسلطك عليهم فتقتلهم وإلا فليس لنا بهم قوة، وحصنهم منيع، فتتابع على ذلك منهم عشرة، فقالوا لموسى: * (إن فيها قوما جبارين) *، طول كل رجل منهم سبعة أذرع ونصف من بقايا قوم عاد، وكان عوج بن عناق بنت آدم فيهم، * (وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها) *، وهي أريحا، * (فإن يخرجوا منها فإنا داخلون) * [آية: 22]. قال يوشع بن نون، وهو من سبط بنيامين، وكالب بن يوقنا، وهو من سبط يهوذا، * (قال رجلان) *، وهما الرجلان من القوم، * (من الذين يخافون) * من العدو وقد * (أنعم الله عليهما) * بالإسلام، قالا: ليس كما يقول العشرة، سيروا حتى تحيطوا بالمدينة وبأبوابها، فإن القوم إذا رأوا كثرتكم بالباب وكبرتم رعبوا منكم، فانكسرت قلوبهم وانقطعت ظهورهم، وذهبت قوتهم، ف * (ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا) *، يقول: وبالله فلتتقوا، * (إن كنتم مؤمنين) * [آية: 23] بقتلهم بأيديكم، وينفيهم من أرض هي ميراثهم. * (قالوا يا موسى) * أتصدق رجلين وتكذب عشرة يا موسى، * (إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك) * ينصرك عليهم، * (فقاتلا إنا هاهنا قاعدون) * [آية: 24]، يعني مكاننا، فإننا لا نستطيع قتال الجبابرة، فغضب موسى عليهم، و * (قال رب إني لا أملك) * من الطاعة * (إلا نفسي وأخي) * هارون، * (فافرق بيننا) *، يعني فاقض بيننا * (وبين القوم الفاسقين) * [آية: 25]، يعني العاصين الذين عصوا أن يقاتلوا عدوهم، وهم كلهم مؤمنون. فأوحى الله عز وجل إلى موسى، عليه السلام: أما إذا سميتهم فاسقين، فالحق أقول: لا يدخلونها أبدا، وذلك قوله عز وجل: * (قال فإنها محرمة عليهم) * دخولها البتة أبدا، * (أربعين سنة) * فيها تقديم، * (يتيهون في الأرض) * في البرية، فأعمى الله عز وجل عليهم السبيل، فحبسهم بالنهار، وسيرهم بالليل، يسهرون ليلهم، فيصبحون حيث أمسوا، فإذا بلغ أجلهم، وهو أربعون سنة، أرسلت عليهم الموت، فلا يدخلها إلا خلوفهم، إلا يوشع بن نون، وكالب بن يوقنا، فهما يسوقان بني إسرائيل إلى تلك الأرض، فتاة القوم في تسع فراسخ عرض وثلاثين فرسخا طول، وقالوا أيضا: ستة
292 فراسخ عرض في اثنى عشر فرسخا طول، فقال القوم لموسى، عليه السلام، ما صنعت بنا، دعوت علينا حتى بقينا في التيه؟ وندم موسى، عليه السلام، على ما دعا عليهم، وشق عليه حين تاهوا، فأوحى الله عز وجل إليه: * (فلا تأس على القوم الفاسقين) * [آية: 26]، يعني لا تحزن على قوم أنت سميتهم فاسقين أن تاهوا. ثم مات هارون، عليه السلام، في التيه، ومات موسى من بعده بستة أشهر، فماتا جميعا في التيه، ثم إن الله عز وجل أخرج ذرياتهم بعد أربعين سنة وقد هلكت الأمة العصاة كلها، وخرجوا مع يوشع بن نون ابن أخت موسى، وكالب بن يوقنا بعد وفاة موسى، عليه السلام، بشهرين، فأتوا أريحا، فقاتلوا أهلها ففتحوها، وقتلوا مقاتلهم، وسبوا ذراريهم، وقتلوا ثلاثة من الجبارين، وكان قاتلهم يوشع بن نون، فغابت الشمس، فدعا يوشع بن نون، فرد الله عز وجل عليه الشمس، فأطلعت ثانية، وغابت الشمس الثانية، ودار الفلك فاختلط على الحساب حسابهم منذ يومئذ فيما بلغنا، ومات في التيه، كل ابن عشرين سنة فصاعدا، وموضع التيه بين فلسطين وإيلة ومصر، فتاه القوم بعصيانهم ربهم عز وجل، وخلافهم على نبيهم، مع دعاء بلعام بن باعور بن ماث عليهم فيما بين ستة فراسخ إلى اثنى عشر فرسخا، لا يستطيعون الخروج منها أربعين سنة، ومات هارون حين أتم ثمانية وثمانين سنة، وتوفي موسى بعده بستة أشهر، واستخلف عليهم يوشع بن نون، وحين ماتوا كلهم أخرج ذراريهم يوشع بن نون، وكالب بن يوقنا. تفسير سورة المائدة آية [27 - 32]
293 * (واتل عليهم نبأ ابني آدم) *، يقول: أتل يا محمد على أهل مكة نبأ ابني آدم، * (بالحق) * ليعرفوا نبوتك، يقول: أتل عليهم حديث ابني آدم هابيل وقابيل، وذلك أن حواء ولدت في بطن واحد غلاما وجارية، قابيل وإقليما، ثم ولدت في البطن الآخر غلاما وجارية، هابيل وليوذا، وكانت أخت قابيل أحسن من أخت هابيل، فلما أدركا، قال آدم، عليه السلام، ليتزوج كل واحد منهما أخت الآخر، قال قابيل: لكن يتزوج كل واحد منهما أخته التي ولدت معه، قال آدم، عليه السلام: قربا قربانا، فأيما تقبل قربانه كان أحق بهذه الجارية. وخرج آدم، عليه السلام، إلى مكة، فعمد قابيل، وكان صاحب زرع، فقرب أخبث زرعه البر المأكول فيه الزوان، وكان هابيل صاحب ماشية، فعمد فقرب خير غنمه مع زبد ولبن، ثم وضعا القربان على الجبل، وقاما يدعوان الله عز وجل، فنزلت نار من السماء، فأكلت قربان هابيل، وتركت قربان قابيل، فحسده قابيل، فقال لهابيل: لأقتلنك، قال هابيل: يا أخي، لا تلطخ يدك بدم برئ، فترتكب أمرا عظيما، إنما طلبت رضا والدي ورضاك، فلا تفعل، فإنك إن فعلت أخزاك الله بقتلك إياي بغير ذنب ولا جرم، فتعيش في الدنيا أيام حياتك في شقوة ومخافة في الأرض، حتى تكون من الخوف والحزن أدق من شعر رأسك، ويجعلك إلهي ملعونا. فلم يزل يحاوره حتى انتصف النهار، وكان في آخر مقالة هابيل لقابيل: إن أنت قتلتني كنت أول من كتب عليه الشقاء، وأول من يساق إلى النار من ذرية والدي، وكنت أنا أول شهيد يدخل الجنة، فغضب قابيل: فقال لا عشت في الدنيا، ويقال: قد تقبل قربانه ولم يتقبل قرباني، فقال له هابيل: فتشفى آخر الأبد، فغضب عند ذلك قابيل، فقتله بحجر دق رأسه، وذلك بأرض الهند عشية، وآدم، عليه السلام، بمكة، فذلك قوله عز وجل: * (إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين) * [آية: 27]. * (لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين) * [آية: 28]، * (إني أريد أن تبوأ بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين) * [آية: 29]، * (فطوعت له نفسه قتل أخيه) *، يقول: قزينت له
294 نفسه قتل أخيه، * (فقتله فأصبح من الخاسرين) * [آية: 30]. قال: وكان هابيل قال لأخيه قابيل: * (لئن بسطت إلي يدك لتقتلني) * إلى قوله: * (بإثمي وإثمك) *، يعني أن ترجع بإثمي بقتلك إياي، وإثمك الذي عملته قبل قتلي، * (فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين) *، يعني جزاء من قتل نفسا بغير جرم، فلما قتله عشية من آخر النهار، لم يدر ما يصنع، وندم ولم يكن يومئذ على الأرض بناء ولا قبر، فحمله على عاتقه، فإذا أعيى وضعه بين يديه، ثم ينظر إليه ويبكي ساعة، ثم يحمله، ففعل ذلك ثلاثة أيام. فلما كان في الليلة الثالثة، بعث الله غرابين يقتتلان، فقتل أحدهما صاحبه وهو ينظر، ثم حفر بمنقاره في الأرض، فلما فرغ منه، أخذ بمنقاره رجل الغراب الميت، حتى قذفه في الحفيرة، ثم سوى الحفيرة بالأرض، وقابيل ينظر، فذلك قوله تعالى: * (فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه قال) * قابيل: * (يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب) *، يقول: أعجزت أن أعلم من العلم مثل ما علم هذا الغراب، * (فأواري سوءة أخي) *، يقول: فأغطى عورة أخي كما وارى الغراب صاحبه، * (فأصبح من النادمين) * [آية: 31] بقتله أخاه. فعمد عند ذلك قابيل، فحفر في الأرض بيده، ثم قذف أخاه في الحفيرة، فسوى عليه تراب الحفيرة كما فعل الغراب بصاحبه، فلما دفنه ألقى الله عز وجل عليه الخوف، يعني على قابيل؛ لأنه أول من أخاف، فانطلق هاربا، فنودي من السماء: يا قابيل، أين أخوك هابيل؟ قال: أو رقيبا كنت عليه؟ ليذهب حيث شاء، قال المنادي: أما تدري أين هو؟ قال: لا، قال المنادي: إن لسانك وقلبك ويديك ورجليك وجميع جسدك يشهدون عليك أنك قتلته ظلما، فلما أنكر شهدت عليه جوارحه، فقال المنادي: أين تنجو من ربك؟ إن إلهي يقول: إنك ملعون بكل أرض، وخائف ممن يستقبلك، ولا خير فيك، ولا في ذريتك. فانطلق جائعا، حتى أتى ساحل البحر، فجعل يأخذ الطير، فيضرب بها الجبل، فيقتلها ويأكلها، فمن أجل ذلك حرم الله الموقوذة، وكانت الدواب، والطير، والسباع، لا يخاف بعضها من بعض، حتى قتل قابيل هابيل، فلحقت الطير بالسماء، والوحش بالبرية والجبال، ولحقت السباع بالغياض، وكانت قبل ذلك تستأنس إلى آدم، عليه
295 السلام، وتأتيه، وغضبت الأرض على الكفار من يومئذ، فمن ثم يضغط الكافر في الأرض حتى تختلف أضلاعه، ويتسع على المؤمن قبره حتى ما يرى طرفاه، وتزوج شيت بن آدم ليوذا التي ولدت مع هابيل، وبعث الله عز وجل ملكا إلى قابيل فعلق رجله، وجعل عليه ثلاث سرادقات من نار، كلما دار دارت السرادقات معه، فمكث بذلك حينا، ثم حل عنه. * (من أجل ذلك) *، يعني من أجل بني آدم، تعظيما للدم، * (كتبنا على بني إسرائيل) * في التوراة * (أنه من قتل نفسا بغير نفس) * عمدا، * (أو فساد في الأرض) *، أو عمل فيها بالشرك، وجبت له النار، ولا يعفى عنه حتى يقتل، * (فكأنما قتل الناس جميعا) *، أي كما يجزي النار لقتله الناس جميعا لو قتلهم، ثم قال سبحانه: * (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا) *، وذلك أنه مكتوب في التوراة أنه من قتل رجلا خطأ، فإنه يقاد به، إلا أن يشاء ولى المقتول أن يعفو عنه، فإن عفا عنه، وجبت له الجنة، كما تجب له الجنة لو عفا عن الناس جميعا، فشدد الله عز وجل عليهم القتل؛ ليحجز بذلك بعضهم عن بعض، ثم قال سبحانه: * (ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات) *، يعني بالبيان في أمره ونهيه، * (ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك) * البيان * (في الأرض لمسرفون) * [آية: 32]، يعني إسرافا في سفك الدماء واستحلال المعاصي. تفسير سورة المائدة آية [33 - 34] قوله سبحانه: * (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله) *، يعني بالمحاربة الشرك، نظيرها في براءة، وإرصادا لمن حارب الله ورسوله، وذلك أن تسعة نفر من عرينة وهم من بجيلة، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فأسلموا، فأصابهم وجع شديد، ووقع الماء الأصفر في بطونهم، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى إبل الصدقة ليشربوا من ألبانها وأبوالها، ففعلوا ذلك، فلما صحوا عمدوا إلى الراعي، فقتلوه وأغاروا على الإبل، فاستاقوها وارتدوا عن
296 الإسلام، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، في نفر فأخذهم. فلما أتوا بهم النبي صلى الله عليه وسلم، أمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسملت أعينهم، فأنزل الله عز وجل فيهم: * (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله) *، يعني الكفر بعد الإسلام، * (ويسعون في الأرض فسادا) * القتل وأخذ الأموال، * (أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف) *، يعني اليد اليمنى والرجل اليسرى، فالإمام في ذلك بالخيار في القتل والصلب، وقطع الأبدي والأرجل، * (أو ينفوا من الأرض) *، يقول: يخرجوا من الأرض، أرض المسلمين، فينفوا بالطرد، * (ذلك) * جزاءهم الخزي * (لهم خزي في الدنيا) * قطع اليد والرجل والقتل والصلب في الدنيا، * (ولهم في الآخرة عذاب عظيم) * [آية: 33]، يعني كثيرا وافرا لا انقطاع له. ثم استثنى، فقال عز وجل: * (إلا الذين تابوا) * من الشرك * (من قبل أن تقدروا عليهم) *، فتقيموا عليهم الحد، فلا سبيل لكم عليهم، يقول: من جاء منهم مسلما قبل أن يؤخذ، فإن الإسلام يهدم ما أصاب في كفره من قتل أو أخذ مال، فذلك قوله سبحانه: * (فاعلموا أن الله غفور) * لما كان منه في كفره * (رحيم) * [آية: 34] به حين تاب ورجع إلى الإسلام، فأما من قتل وهو مسلم، فارتد عن الإسلام، ثم رجع مسلما، فإنه يؤخذ بالقصاص. تفسير سورة المائدة آية [35 - 36] وقوله سبحانه: * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة) *، يعني في طاعته بالعمل الصالح، * (وجاهدوا) * العدو * (في سبيله) *، يعني في طاعته، * (لعلكم) *، يعني لكي * (تفلحون) * [آية: 35]، يعني تسعدون، ويقال: تفوزون. وقوله سبحانه: * (إن الذين كفروا) * من أهل مكة، * (لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به) *، أي فقدروا أن يفتدوا به * (من عذاب) * جهنم
297 * (يوم القيامة) *، يقول: لو كان ذلك لهم وفعلوه، * (ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم) * [آية: 36]، * (يريدون أن يخرجوا من النار) * بالفداء، * (وما هم بخارجين منها) * أبدا * (ولهم عذاب مقيم) * [آية: 37]، يعنى دائم. تفسير سورة المائدة [آية 38 - 40] وقوله سبحانه: * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) *، يعني أيمانهما من الكرسوع، يقول: القطع * (جزاء بما كسبا) *، يعني سرقا، * (نكالا من الله) *، يعني عقوبة من الله قطع اليد، * (والله عزيز حكيم) * [آية: 38]، * (فمن تاب من بعد ظلمه) *، يقول: من تاب من بعد سرقته، * (وأصلح) * العمل فيما بقي، * (فإن الله يتوب عليه إن الله غفور) * لذنبه، * (رحيم) * [آية: 39] به، وأما المال، فلا بد أن يرده إلى صاحبه. وقوله سبحانه: * (ألم تعلم) * يا محمد * (أن الله له ملك السماوات والأرض) * يحكم فيهما بما يشاء، * (يعذب من يشاء) * من أهل معصيته، * (ويغفر لمن يشاء) *، يعني به المؤمنين، * (والله على كل شيء) * من العذاب والمغفرة * (قدير) * [آية: 40]. تفسير سورة المائدة [آية 41 - 43]
298 وقوله سبحانه: * (* يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا ءامنا بأفواههم) *، يعني صدقنا بألسنتهم، * (ولم تؤمن قلوبهم) * في السر، نزلت في أبي لبابة، اسمه: مروان بن عبد المنذر الأنصاري، من بني عمرو بن عوزف، وذلك أنه أشار إلى أهل قريظة إلى حلقه أن محمدا جاء يحكم فيكم بالموت، فلا تنزلوا على حكم سعد بن معاذ، وكان حليفا لهم، ثم قال سبحانه: * (ومن الذين هادوا) *، أي ولا يحزنك الذين هادوا، يعني يهود المدينة، * (سماعون للكذب) *، يعني قوالون للكذب، منهم: كعب بن الأشرف، وكعب بن أسيد، وأبو لبابة، وسعيد بن مالك، وابن صوريا، وكنانة بن أبي الحقيق، وشاس بن قيس، وأبو رافع بن حريملة، ويوسف بن عازر بن أبي عازب، وسلول بن أبي سلول، والبخام بن عمرو، وهم * (سماعون لقوم ءاخرين) *، يعني يهود خيبر، * (لم يأتوك) * يا محمد * (يحرفون الكلم) *، يعني أمر الرجم، * (من بعد مواضعه) * عن بيانه في التوراة. وذلك أن رجلا من اليهود يسمى يهوذا، وامرأة تسمى بسرة من أهل خيبر من أشراف اليهود، زنيا وكانا قد أحصنا، فكرهت اليهود رجمهما من أجل شرفهما وموضعهما، فقالت يهود خيبر: نبعث بهذين إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فإن في دينه الضرب، وليس في دينه الرجم، ونوليه الحكم فيهما، فإن أمركم فيهما بالضرب فخذوه، وإن أمركم فيهما بالرجم فاحذروه، فكتب يهود خيبر إلى يهود المدينة، إلى كعب بن الأشرف، وكعب بن أسيد، ومالك بن الضيف، وأبي لبابة، وبعثوا نفرا منهم، فقالوا: سلوا لنا محمدا، عليه السلام، عن الزانيين إذا أحصنا ما عليهما؟ فإن أمركم بالجلد فخذوا به، والجلد الضرب بحبل من ليف مطلي بالقار، وتسود وجوههما ويحملان على حمار، وتجعل وجوههما مما يلي ذنب الحمار، فذلك التجبية,. * (يقولون) *، أي اليهود، * (إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا) *، أي إن أمركم بالرجم فاحذروه على ما في أيديكم أن يسلبكموه، قال: فجاء كعب بن الأشرف، ومالك بن الضيف، وكعب بن أسيد، وأبو لبابة، إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أخبرنا عن الزانيين إذا أحصنا ما عليهما، فأتاه جبريل، عليه السلام، فأخبره بالرجم، ثم قال جبريل، عليه السلام: اجعل بينك وبينهم ابن صوريا، وسلهم عنه، فمشى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى أحبارهم في بيت المدارس، فقال: ' يا معشر اليهود، أخرجوا إلى علماءكم '، فأخرجوا إليه عبد الله بن صوريا، وأبا ياسر بن أخطب، ووهب بن يهوذا،
299 فقالوا: هؤلاء علماؤنا، ثم حصر أمرهم، إلى أن قالوا لعبد الله بن صوريا: هذا أعلم من بقي بالتوراة، فجاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان ابن صوريا غلاما شابا، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن سلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ' أنشدك بالله الذي لا إله إلا هو هو إله بني إسرائيل، الذي إخرجكم من مصر، وفلق لكم البحر، وأنجاكم وأغرق آل فرعون، وأنزل عليكم كتابه يبين لكم حلاله وحرامه، وظلل عليكم المن والسلوى، هل وجدتم في كتابكم أن الرجم على من أحصن؟ '، قال ابن صوريا: اللهم نعم، ولولا أني خفت أن أحترق بالنار، أو أهلك بالعذاب، لكتمتك حين سألتني، ولم أعترف لك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ' الله أكبر، فأنا أول من أحيا سنة من سنن الله عز وجل '، ثم أمر بهما فرجما عند باب مسجده في بنى غنم بن مالك بن النجار. فقال عبد الله بن صوريا: والله يا محمد، أن اليهود لتعلم أنك نبي حق، ولكنهم يحسدونك، ثم كفر أبن صوريا بعد ذلك، فأنزل الله عز وجل: * (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب) *، يعني مما في التوراة من أمر الرجم، ونعت محمد صلى الله عليه وسلم، ثم قال: * (ويعفو عن كثير) *، فلا يخبر به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لليهود: ' إن شئتم أخبرتكم بالكثير '، قال ابن صوريا: أنشدك بالله أن تخبرنا بالكثير مما أمرت أن تعفو عنه. ثم قال ابن صوريا للنبي صلى الله عليه وسلم: أخبرني عن ثلاث خصال لا يعلمهن إلا نبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ' هات، سل عما شئت '، قال: أخبرني عن نومك؟ قال: ' تنام عيني وقلبي يقظان '، قال ابن صوريا: صدقت، قال: فأخبرني عن شبه الولد، من أين يشبه الأب أو الأم؟ قال: ' أيهما سبقت الشهوة له كان الشبه له '، قال: صدقت، قال: أخبرني ما للرجل وما للمرأة من الولد، ومن أيهما يكون؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ' اللحم والدم والظفر والشعر للمرأة، والعظم والعصب والعروق للرجل '، قال: صدقت، قال: فمن وزيرك من الملائكة، ومن يجيئك بالوحي؟ قال: ' جبريل، عليه السلام '، قال: صدقت يا محمد، وأسلم عند ذلك. قوله سبحانه: * (إن أوتيتم هذا فخذوه) *، يقول ذلك يهود خيبر ليهود المدينة، كعب بن الأشرف، ومالك بن الضيف، وكعب بن أسيد، وأبي لبابة: إن أمركم محمد
300 بالجلد فاقبلوه، وإن لم تؤتوه، يعني الجلد، وإن أمركم بالرجم فاحذروا، فإنه نبي، قال الله عز وجل: * (ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين) *، يعني اليهود، * (لم يرد الله أن يطهر قلوبهم) * من الكفر حين كتموا أمر الرجم ونعت محمد صلى الله عليه وسلم، * (لهم في الدنيا خزي) *، يعني به اليهود، وهم أهل قريظة، أما الخزي الذي نزل بهم، فهو القتل والسبي، وأما خزي أهل النضير، فهو الخروج من ديارهم وأموالهم وجناتهم، فأجلوا إلى الشام، إلى أذرعات وأريحا، * (ولهم في الآخرة عذاب عظيم) * [آية: 41]، يعني ما عظم من النار. ثم قال: * (سماعون) *، يعني قوالون * (للكذب) * للزور، منهم: كعب بن الأشرف، وكعب بن أسيد، ومالك بن الضيف، ووهب بن يهوذا، * (أكالون للسحت) *، يعني الرشوة في الحكم، كانت اليهود قد جعلت لهم جعلا في كل سنة، على أن يقضوا لهم بالجور، يقول الله عز وجل: * (فإن جاءوك) * يا محمد في الرجم، * (فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط) *، يعني بالعدل، * (إن الله يحب المقسطين) * [آية: 42]، يعني الذين يعدلون في الحكم، ثم نسختها الآية التي حاءت بعد، وهي قوله: * (وأن احكم بينهم بما أنزل الله) * إليك في الكتاب أن الرجم على المحصن والمحصنة، ولا ترد الحكم، * (ولا تتبع أهواءهم) *، يعني كعب بن الأشرف، وكعب بن أسيد، ومالك بن الضيف. قال تعالى: * (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله) *، يعني الرجم على المحصن والمحصنة، والقصاص في الدماء سواء، * (ثم يتولون من بعد ذلك) *، يعني يعرضون من بعد البيان في التوراة، * (وما أولئك بالمؤمنين) * [آية: 43]، يعني وما أولئك بمصدقين حين حرفوا ما في التوراة. تفسير سورة المائدة من آية [44 - 47]
301 [آية 45 - 47] ثم أخبر الله عن التوراة، فقال سبحانه: * (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور) * وضياء من الظلمة، * (يحكم بها النبيون) * من لدن موسى، عليه السلام، إلى عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم، ألف نبي، * (الذين أسلموا) *، يعني أنهم مسلمون، أو أسلموا وجوههم لله، * (للذين هادوا) *، يعني اليهود يحكمون بما لهم وما عليهم، * (و) * يحكم بها * (والربانيون) *، وهم المتعبدون من أهل التوراة من ولد هارون، يحكمون بالتوراة، * (والأحبار) *، يعني القراء والعلماء منهم، * (بما استحفظوا من كتاب الله) * عز وجل من الرجم، وبعث محمد صلى الله عليه وسلم في كتابهم، ثم قال يهود المدينة، كعب بن الأشرف، وكعب بن أسيد، ومالك بن الضيف، وأصحابهم، * (وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس) *، يقول: لا تخشوا يهود خيبر أن تخبروهم بالرجم، ونعت محمد صلى الله عليه وسلم، * (واخشون) * إن كتمتموه، * (ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا) * عرضا يسيرا مما كانوا يصيبون من سفلة اليهود من الطعام والثمار، * (ومن لم يحكم بما أنزل الله) * في التوراة بالرجم ونعت محمد صلى الله عليه وسلم، ويشهد به، * (فأولئك هم الكافرون) * [آية: 44]. ولما أرادوا القيام، قالت بنو قريظة، أبو لبابة، وشعبة بن عمرو، ورافع بن حريملة، وشاس بن عمرو، للنبي صلى الله عليه وسلم: إخواننا بني النضير، كعب بن الأشرف، وكعب بن أسيد، ومالك بن الضيف، وغيرهم، أبونا واحد، وديننا واحد، إذا قتل أهل النضير منا قتيلا، أعطونا سبعين وسقا من تمر، وإن قتلنا منهم قتيلا، أخذوا منا مائة وأربعين وسقا من تمر، وجراحاتنا على أنصاف جراحاتهم، فاقض بيننا وبينهم يا محمد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ' إن دم القرظي وفاء من دم النضيري، وليس للنضيري على القرظي فضل في الدم ولا في العقل '، قال كعب بن الأشرف، ومالك بن الضيف، وكعب بن أسيد، وأصحابهم: لا نرضى بقضائك، ولا نطيع أمرك، ولنأخذن بالأمر الأول، فإنك عدونا، وما تأول أن تضعنا وتضرنا.
302 وفي ذلك يقول الله تعالى: * (أفحكم الجاهلية يبغون) *، يعني حكمهم الأول، * (ومن أحسن من الله حكما) *، يقول: فلا أحد أحسن من الله حكما، * (لقوم يوقنون) *. وعد الله عز وجل ووعيده، ثم أخبر عن التوراة، فقال سبحانه: * (وكتبنا عليهم فيها) *، يعني وفرضنا عليهم في التوراة، نظيرها في المجادلة: * (كتب الله) * [المجادلة: 21]، يعني قضى، * (أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له) *، يقول: فمن تصدق بالقتل والجراحات، فهو كفارة لذنبه، يقول: إن عفى المجروح عن الجارح، فهو كفارة للجارح من الجرح، ليس عليه قود ولا دية، * (ومن لم يحكم بما أنزل الله) * في التوراة من أمر الرجم والقتل والجراحات، * (فأولئك هم الظالمون) * [آية: 45]. ثم أخبر عن أهل الإنجيل، فقال: * (وقفينا على آثارهم) *، يعني وبعثنا من بعدهم، يعني من بعد أهل التوراة، * (بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة) *، يقول: عيسى يصدق بالتوراة، * (وآتيناه الإنجيل) *، يعني أعطينا عيسى الإنجيل، * (فيه هدى) * من الضلالة، * (ونور) * من الظلمة، * (ومصدقا لما بين يديه من التوراة) *، يقول: الإنجيل يصدق التوراة، * (و) * الإنجيل * (وهدى) * من الضلالة، * (وموعظة) * من الجهل، * (للمتقين) * [آية: 46] الشرك. ثم قال عز وجل: * (وليحكم أهل الإنجيل) * من الأحبار والرهبان، * (بما أنزل الله فيه) *، يعني في الإنجيل من العفو عن القاتل أو الجارح والضارب، * (ومن لم يحكم بما أنزل الله) * في الإنجيل من العفو واقتص من القاتل والجارح والضارب، * (فأولئك هم الفاسقون) * [آية: 47]، يعني العاصين لله عز وجل. تفسير سورة المائدة آية [48 - 50]
303 قوله سبحانه: * (وأنزلنا إليك الكتاب) * يا محمد صلى الله عليه وسلم، * (بالحق) *، يعني القرآن بالحق، لم ننزله عبثا ولا باطلا لغير شيء، * (مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه) *، يقول: وشاهدا عليه، وذلك أن قرآن محمد صلى الله عليه وسلم شاهد بأن الكتب التي أنزلت قبله أنها من الله عز وجل، * (فاحكم بينهم بما أنزل الله) * إليك في القرآن، * (ولا تتبع أهواءهم) *، يعني أهواء اليهود، * (عما جاءك من الحق) *، وهو القرآن، * (لكل جعلنا منكم شرعة) *، يعني من المسلمين وأهل الكتاب، * (شرعة) *، يعني سنة، * (ومنهاجا) *، يعني طريقا وسبيلا، فشريعة أهل التوراة في قتل العمد القصاص ليس لهم عقل ولا دية، والرجم على المحصن والمحصنة إذا زنيا. وشريعة الإنجيل في القتل العمد العفو، ليس لهم قصاص ولا دية، وشريعتهم في الزنا، الجلد بلا رجم، وشريعة أمة محمد صلى الله عليه وسلم في قتل العمد القصاص والدية والعفو، وشريعتهم في الزنا إذا لم يحصن الجلد، فإذا أحصن فالرجم، * (ولو شاء الله لجعلكم) * يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم وأهل الكتاب، * (أمة واحدة) * على دين الإسلام وحدها، * (ولكن ليبلوكم) *، يعني يبتليكم * (في ما آتاكم) *، يعني فيما أعطاكم من الكتاب والسنة من يطع الله عز وجل فيما أمر ونهى، ومن يعصه * (فاستبقوا الخيرات) *، يقول: سارعوا في الأعمال الصالحة يا أمة محمد، فيما ذكر من السبيل والسنة، * (إلى الله مرجعكم جميعا) * في الآخرة أنتم وأهل الكتاب، * (فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) * [آية: 48] في الدين. قوله سبحانه: * (وأن احكم بينهم بما أنزل الله) * إليك في الكتاب، يعني بين اليهود، وذلك أن قوما من رؤوس اليهود من أهل النصير اختلفوا، فقال: بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه ونرده عما هو عليه، فإنما هو بشر إذن فيستمع، فأتوه فقالوا له: هل لك أن تحكم لنا على أصحابنا أهل قريظة في أمر الدماء كما كنا عليه من قبل، فإن فعلت، فإنا نبايعك ونطيعك، وإنا إذا بايعناك تابعك أهل الكتاب كلهم؛ لأنا سادتهم وأحبارهم، فنحن نفتنهم ونزلهم عما هم عليه حتى يدخلوا في دينك. فأنزل الله عز وجل يحذر نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال: * (ولا تتبع أهواءهم) * في أمر الدماء، * (واحذرهم أن يفتنوك) *، يعني أن يصدوك، * (عن بعض ما أنزل الله إليك) * من أمر
304 الدماء بالسوية، * (فإن تولوا) *، يقول: فإن أبوا حكمك، * (فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم) *، يعني أن يعذبهم في الدنيا بالقتل والجلاء من المدينة إلى الشام، * (ببعض ذنوبهم) *، يعني ببعض الدماء التي كانت بينهم من قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم، * (وإن كثيرا من الناس) *، يعني رؤوس اليهود، * (لفاسقون) * [آية: 49]، يعني لعاصون حين كرهوا حكم النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الدماء بالحق. فقال كعب بن الأشرف، ومالك بن الضيف، وكعب بن أسيد، للنبي صلى الله عليه وسلم: لا نرضى بحكمك، فأنزل الله عز وجل: * (أفحكم الجاهلية يبغون) *، الذي كانوا عليه من الجور من قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم، * (ومن أحسن من الله حكما) *، يقول: فلا أحد أحسن من الله حكما، * (لقوم يوقنون) * [آية: 50] بالله عز وجل. تفسير سورة المائدة آية [51 - 53] * (يا أيها الذين آمنوا) *، نزلت في رجلين من المسلمين، * (لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض) *، قال: لما كانت وقعة أحد، خاف ناس من المسلمين أن يدال الكفار عليهم، فقال رجل منهم: أنا آتي فلانا اليهودي فأتهود، فإني أخشى أن يدال الكفار علينا، قال الآخر: أما أنا، فإني آتى الشام فأنتصر، فنزلت: * (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض) * * (ومن يتولهم منكم) *، يعني من المؤمنين، * (فإنه منهم) *، يعني يلحق بهم ويكون معهم؛ لأن المؤمنين لا يتولون الكفار، * (إن الله لا يهدي القوم الظالمين) * [آية: 51]. ثم ذكر أنه إنما يتولاهم المنافقون؛ لأنهم وافقوهم على ما يقولون، قال سبحانه: * (فترى الذين في قلوبهم مرض) *، وهو الشك، فهم المنافقون، * (يسارعون فيهم) *،
305 يعني في ولاية اليهود بالمدينة، * (يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة) *، يعني دولة اليهود على المسلمين، وذلك أن نفرا من المنافقين، أربعة وثمانين رجلا، منهم: عبد الله بن أبي، وأبو نافع، وأبو لبابة، قالوا: نتخذ عند اليهود عهدا ونواليهم فيما بيننا وبينهم، فإنا لا ندري ما يكون في غد، ونخشى ألا ينصر محمد صلى الله عليه وسلم، فينقطع الذي بيننا وبينهم، ولا نصيب منهم قرضا ولا ميرة، فأنزل الله عز وجل: * (فعسى الله أن يأتي بالفتح) *، يعني بنصر محمد صلى الله عليه وسلم الذي يئسوا منه، * (أو) * يأتي * (أمر من عنده) *، قتل قريظة، وجلاء النضير إلى أذرعات، فلما رأى المنافقون ما لقى أهل قريظة والنضير، ندموا على قولهم، قال: * (فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين) * [آية: 52] فلما أخبر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم عن المنافقين، أنزل هذه الآية: * (ويقول الذين آمنوا) * بعضهم لبعض: * (أهؤلاء الذين أقسموا بالله) *، يعني المنافقين، * (جهد أيمانهم) *، إذ حلفوا بالله عز وجل، فهو جهد اليمين، * (إنهم لمعكم) * على دينكم، يعني المنافقين، * (حبطت أعمالهم) *، يعني بطلت أعمالهم؛ لأنها كانت في غير الله عز وجل، * (فأصبحوا خاسرين) * [آية: 53] في الدنيا. تفسير سورة المائدة آية [54 - 57] قوله سبحانه: * (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه) *، وذلك حين هزموا يوم أحد، شك أناس من المسلمين، فقالوا ما قالوا، * (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه) *، فارتد بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بنو تميم، وبنو حنيفة، وبنو أسد، وغطفان، وأناس من كندة، منهم الأشعث بن قيس، فجاء الله عز وجل بخير من الذين ارتدوا، بوهب بطن من كندة، وبأحمس بجيلة، وحضرموت، وطائفة من حمير وهمذان، أبدلهم مكان الكافرين. ثم نعتهم، فقال سبحانه: * (أذلة على المؤمنين) * بالرحمة واللين، * (أعزة على
306 الكافرين) *، يعني عليهم بالغلظة والشدة، فسدد الله عز وجل بهم الدين، * (يجاهدون في سبيل الله) * العدو، يعني في طاعة الله، * (ولا يخافون لومة لائم) *، يقول: ولا يبالون غضب من غضب عليهم، * (ذلك فضل الله) *، يعني دين الإسلام، * (يؤتيه من يشاء والله واسع) * لذلك الفضل، * (عليم) * [آية: 54] لمن يؤتى الإسلام، وفيهم نزلت وفي الإبدال: * (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) * [محمد: 38]. وقوله سبحانه: * (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة والزكاة وهم راكعون) * [آية: 55]، وذلك أن عبد الله بن سلام وأصحابه قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم عند صلاة الأولى: إن اليهود أظهروا لنا العداوة من أجل الإسلام، ولا يكلموننا، ولا يخالطوننا في شيء، ومنازلنا فيهم، ولا نجد متحدثا دون هذا المسجد، فنزلت هذه الآية، فقرأها النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: قد رضينا بالله ورسوله وبالمؤمنين أولياء، وجعل الناس يصلون تطوعا بعد المكتوبة، وذلك في صلاة الأولى. وخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى باب المسجد، فإذا هو بمسكين قد خرج من المسجد، وهو يحمد الله عز وجل، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ' هل أعطاك أحد شيئا؟ '، قال: نعم يا نبي الله، قال: ' من أعطاك؟ '، قال: الرجل القائم أعطاني خاتمه، يعني علي بن أبي طالب، رضوان الله عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ' على أي حال أعطاكه؟ '، قال: أعطاني وهو راكع، فكبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: ' الحمد لله الذي خص عليا بهذه الكرامة '، فأنزل الله عز وجل: * (والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) * * (ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا) *، يعني علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، * (فإن حزب الله هم الغالبون) * [آية: 56]، يعني شيعة الله ورسوله والذين آمنوا هم الغالبون، فبدأ بعلى بن أبي طالب، رضي الله عنه، قبل المسلمين، ثم جعل المسلمين وأهل الكتاب المؤمنين، فيهم عبد الله بن سلام وغيره هم الغالبون لليهود، حين قتلوهم وأجلوهم من المدينة إلى الشام وأذرعات وأريحا. قوله سبحانه: * (يا أيها الذين آمنوا) *، يعني المنافقين الذين أقروا باللسان وليس الإيمان في قلوبهم، * (لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم) * (الإسلام) * (هزوا ولعبا) *، يعني استهزاء وباطلا، وذلك أن المنافقين كانوا يوالون اليهود فيتخذونهم أولياء، قال: * (من الذين أوتوا الكتاب) *، يعني اليهود، * (من قبلكم) *؛ لأنهم أعطوا التوراة قبل أمة محمد صلى الله عليه وسلم،
307 يقول: لا تتخذوهم أولياء، * (و) * لا تتخذوا * (والكفار أولياء) *، يعني كفار اليهود ومشركي العرب، ثم حذرهم، فقال: * (واتقوا الله إن كنتم مؤمنين) * [آية: 57]، يعني إن كنتم مصدقين، فلا تتخذوهم أولياء، يعني كفار العرب، حين قال عبد الله بن أبي، وعبد الله بن نتيل، وأبو لبابة، وغيرهم من اليهود: لئن أخرجتم لنخرجن معكم، حين كتبوا إليهم. تفسير سورة المائدة آية [58 - 63] ثم أخبر عن اليهود، فقال سبحانه: * (وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا) *، يعني استهزاء وباطلا، وذلك أن اليهود كانوا إذا سمعوا الأذان، ورأوا المسلمين قاموا إلى صلاتهم، يقولون: قد قاموا لا قاموا، وإذا رأوهم ركعوا، قالوا: لا ركعوا، وإذا رأوهم سجدوا ضحكوا، وقالوا: لا سجدوا، واستهزءوا، يقول الله تعالى: * (ذلك بأنهم قوم لا يعقلون) * [آية: 58]، يقول: لو عقلوا ما قالوا هذه المقالة. * (قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون) * [آية: 59]، قال أتى النبي صلى الله عليه وسلم أبو ياسر، وحيي بن أخطب، ونافع بن أبي نافع، وعازر بن أبي عازر، وخالد وزيد ابنا عمرو، وأزر بن أبي أزر، وأشيع، فسألوه عن من يؤمن به من الرسل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ' نؤمن * (بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون) * ' [البقرة: 136]، فلما ذكر عيسى ابن مريم جحدوا نبوته صلى الله عليه وسلم، وقالوا: لا نؤمن بعيسى ولا بمن آمن به، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: * (قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا
308 إلا أن آمنا بالله) *، يعني صدقنا بالله بأنه واحد لا شريك له، * (و) * صدقنا ب * (ما أنزل إلينا) *، يعني قرآن محمد صلى الله عليه وسلم، * (و) * صدقنا ب * (وما أنزل من قبل) * قرآن محمد صلى الله عليه وسلم، الكتب التي أنزلها الله عز وجل على الأنبياء، عليهم السلام، * (وأن أكثركم فاسقون) *، يعني عصاة. قالت اليهود للمؤمنين، ما نعلم أحدا من أهل هذه الأديان أقل حظا في الدنيا والآخرة منكم، فأنزل الله عز وجل: * (قل هل أنبئكم بشر من ذلك) *، يعني المؤمنين، * (مثوبة عند الله) *، يعني ثوابا من عند الله، قالت: اليهود: من هم يا محمد؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم وغضب عليه، * (من لعنه الله) *، وهم اليهود * (وغضب عليه) *، فإن لم يقتل أقر بالخراج وغضب عليه، * (وجعل منهم القردة والخنازير) *، القردة في شأن الحيتان، والخنازير في شأن المائدة، * (وعبد الطاغوت) *، فيها تقديم، * (وعبد الطاغوت) *، يعني ومن عبد الطاغوت، وهو الشيطان، * (أولئك شر مكانا) * في الدنيا، يعني شر منزلة، * (وأضل عن سواء السبيل) * [آية: 60]، يعني وأخطأ عن قصد الطريق من المؤمنين. فلما نزلت هذه الآية، عيرت اليهود، فقالوا لهم: يا إخوان القردة والخنازير، فنكسوا رؤوسهم وفضحهم الله تعالى، وجاء أبو ياسر بن أخطب، وكعب بن الأشرف،، وعزر بن أبي عازر، ونافع بن أبي نافع، ورافع بن أبي حريملة، وهم رؤساء اليهود، حتى دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: قد صدقنا بك يا محمد؛ لأنا نعرفك ونصدقك ونؤمن بك. ثم خرجوا من عنده بالكفر، غير أنهم أظهروا الإيمان، فأنزل الله عز وجل فيهم: * (وإذا جاءوكم) * (اليهود) * (قالوا آمنا) *، يعني صدقنا بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم دخلوا عليه وهم يسرون الكفر، وخرجوا من عنده بالكفر، فذلك قوله سبحانه: * (وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به) * يعني بالكفر مقيمين عليه، * (والله أعلم بما كانوا يكتمون) * [آية: 61]، يعني بما يسرون في قلوبهم من الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، نظيرها في آل عمران. ثم أخبر عنهم، فقال سبحانه: * (وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم) *، يعني المعصية،
309 * (والعدوان) *، يعني الظلم، وهو الشرك، * (وأكلهم السحت) *، يعني كعب بن الأشرف؛ لأنه كان يرشى في الحكم ويقضي بالجور، * (لبئس ما كانوا يعملون) * [آية: 62]، ثم عاتب الله عز وجل الربانيين والأحبار، فقال: * (لولا) *، يعني فهلا * (ينهاهم الربانيون والأحبار) *، يعني بالربانيين المتعبدين والأحبار، يعني القراء الفقهاء أصحاب القربان من ولد هارون، عليه السلام، وكانوا رؤوس اليهود، * (عن قولهم الإثم) *، يعني الشرك، * (وأكلهم السحت) *، يعني الرشوة في الحكم، * (لبئس ما كانوا يصنعون) * [آية: 63]، حين لم ينهوهم، فعاب من أكل السحت: الرشوة في الحكم، وعاب الربانيين الذين لم ينهوهم عن أكله. تفسير سورة المائدة آية 64 * (وقالت اليهود) *، يعني ابن صوريا، وفنحاص اليهوديين، وعازر بن أبي عازر، * (يد الله مغلولة) *، يعني ممسكة، أمسك الله يده عنا، فلا تبسطها علينا بخير، وليس بجواد، وذلك أن الله عز وجل بسط عليهم في الرزق، فلما عصوا واستحلوا ما حرم عليهم، أمسك عنهم الرزق، فقالوا عند ذلك: يد الله محبوسة عن البسط، يقول الله عز وجل: * (غلت أيديهم) *، يعني أمسكت أيديهم عن الخير، * (ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان) * بالخير، * (ينفق كيف يشاء) *، إن شاء وسع في الرزق، وإن شاء قتر، هم خلقه وعبيده في قبضته. ثم قال: * (وليزيدن كثيرا منهم) *، يعني اليهود من بني النضير، * (ما أنزل إليك من ربك) *، يعني أمر الرجم والدماء، ونعت محمد صلى الله عليه وسلم، * (طغيانا وكفرا) * بالقرآن، يعني جحودا به، * (وألقينا بينهم) *، يعني اليهود والنصارى، شر ألقاه عز وجل بينهم، * (العداوة والبغضاء) *، يعني يبغض بعضهم بعضا، ويشتم بعضا، * (إلى يوم القيامة) *، فلا يحب اليهودي النصراني ولا النصراني اليهودي، * (كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله) *، يعني كلما أجمعوا أمرهم على مكر بمحمد صلى الله عليه وسلم في أمر الحرب، فرقه الله عز وجل، وأطفأ نار مكرهم، فلا يظفرون بشيء أبدا، * (ويسعون في الأرض فسادا) *،
310 يعني يعملون فيها بالمعاصي، * (والله لا يحب المفسدين) * [آية: 64]، يعني العاملين بالمعاصي. تفسير سورة المائدة آية [65 - 66] وقوله سبحانه * (ولو أن أهل الكتاب) *، يعني اليهود والنصارى، * (آمنوا) *، يعني صدقوا بتوحيد الله، * (واتقوا) * الشرك، * (لكفرنا عنهم سيئاتهم) *، يعني لمحونا عنهم ذنوبهم، * (ولأدخلنهم جنات النعيم) * [آية: 65]، * (ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل) *، فعملوا بما فيهما من أمر الرجم والزنا وغيره، ولم يحرفوه عن مواضعه في التوراة التي أنزلها الله عز وجل، فأما في الإنجيل، فنعت محمد صلى الله عليه وسلم، وأما في التوراة، فنعت محمد صلى الله عليه وسلم، والرجم والدماء وغيرها، ولم يحرفوها عن مواضعها، * (و) * أقاموا ب * (وما أنزل إليهم من ربهم) * في التوراة والإنجيل من نعت محمد صلى الله عليه وسلم، ومن إيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولم يحرفوا نعته، * (لأكلوا من فوقهم) *، يعني المطر، * (ومن تحت أرجلهم) *، يعني من الأرض: النبات، ثم قال عز وجل: * (منهم أمة مقتصدة) *، يعني عصبة عادلة في قولها من مؤمني أهل التوراة والإنجيل، فأما أهل التوراة، فعبد الله بن سلام وأصحابه، وأما أهل الإنجيل، فالذين كانوا على دين عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم، وهم اثنان وثلاثون رجلا، ثم قال سبحانه: * (وكثير منهم) *، يعني من أهل الكتاب، يعني كفارهم، * (ساء ما يعملون) * [آية: 66]، يعني بئس ما كانوا يعملون. تفسير سورة المائدة آية [67 - 68] قوله سبحانه: * (يا أيها الرسول بلغ) *، يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، * (ما أنزل إليك من ربك) *، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا اليهود إلى الإسلام، فأكثر الدعاء، فجعلوا يستهزئون ويقولون: أتريد يا محمد أن تتخذك حنانا كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم حنانا؟
311 فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، سكت عنهم، فحرض الله، يعني فحضض الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم على الدعاء إلى الله عز وجل، وألا يمنعه ذلك تكذيبهم إياه واستهزاؤهم، فقال: * (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك) * * (وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس) *، يعني من اليهود، فلا تقتل، * (إن الله لا يهدي القوم الكافرين) * [آية: 67]، يعني اليهود، فلما نزلت هذه الآية، أمن النبي صلى الله عليه وسلم من القتل والخوف، فقال: ' لا أبالي من خذلني ومن نصرني '، وذلك أنه كان يخشى أن تغتاله اليهود فتقتله. ثم أخبره ماذا يبلغ، فقال تعالى: * (قل يا أهل الكتاب) *، يعني اليهود والنصارى، * (لستم على شيء) * من أمر الدين، * (حتى تقيموا التوراة والإنجيل) *، يقول: حتى تتلوهما حق تلاوتهما كما أنزلهما الله عز وجل، * (و) * تقيموا * (وما أنزل إليكم من ربكم) * من أمر محمد صلى الله عليه وسلم، ولا تحرفوه عن مواضعه، فهذا الذي أمر الله عز وجل أن يبلغ أهل الكتاب، * (وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك) *، يعني ما في القرآن من أمر الرجم والدماء، * (طغيانا وكفرا) *، يعني وجحودا بالقرآن، * (فلا تأس على القوم) *، يعني فلا تحزن يا محمد صلى الله عليه وسلم على القوم * (الكافرين) * [آية: 68]، يعني أهل الكتاب إذ كذبوك بما تقول. تفسير سورة المائدة آية [69 - 74] قوله سبحانه: * (إن الذين آمنوا) *، يعني الذين صدقوا، * (والذين هادوا) *، يعني
312 اليهود، * (والصابئون) *، هم قوم من النصارى صبأوا إلى دين نوح وفارقوا هذه الفرق الثلاث، وزعموا أنهم على دين نوح، عليه السلام، وأخطأوا؛ لأن دين نوح، عليه السلام، كان على دين الإسلام، * (والنصارى) *، إنما سموا نصارى؛ لأنهم ابتدعوا هذا الدين بقرية تسمى ناصرة، قال الله عز وجل: * (من آمن) * من هؤلاء * (بالله واليوم الآخر وعمل صالحا) *، وأدى الفرائض من قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم، فله الجنة، ومن بقي منهم إلى أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم، فلا إيمان له، إلا أن يصدق بمحمد صلى الله عليه وسلم، فمن صدق بالله عز وجل أنه واحد لا شريك له، وبما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وبالبعث الذي فيه جزاء الأعمال، * (فلا خوف عليهم) * من العذاب، * (ولا هم يحزنون) * [آية: 69] من الموت. قوله سبحانه: * (لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل) * في التوراة على أن يعملوا بما فيها، * (وأرسلنا إليهم رسلا) *، يعني وأرسل الله تعالى إليهم رسلا، * (كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم) *، يعني اليهود، * (فريقا كذبوا) *، يعني اليهود، فريقا كذبوا عيسى صلى الله عليه وسلم ومحمدا صلى الله عليه وسلم، * (وفريقا يقتلون) * [آية: 70]، يعني اليهود، كذبوا بطائفة من الرسل، وقتلوا طائفة من الرسل، يعني زكريا، ويحيى في بني إسرائيل. قوله عز وجل: * (وحسبوا ألا تكون فتنة) *، يعني اليهود، حسبوا ألا يكون شرك ولا يبتلوا ولا يعاقبوا بتكذيبهم الرسل وبقتلهم الأنبياء، أن لا يبتلوا بالبلاء والشدة من قحط المطر، * (فعموا) * عن الحق، فلم يبصره، * (وصموا) * عن الحق، فلم يسمعوه، * (ثم تاب الله عليهم) *، يقول: تجاوز عنهم، فرفع عنهم البلاء، فلم يتوبوا بعد رفع البلاء، * (ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما يعملون) * [آية: 71] من قتلهم الأنبياء وتكذيبهم الرسل. قوله عز وجل: * (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم) *، نزلت في نصارى نجران الماريعقوبيين، منهم السيد والعاقب وغيرهما، قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم، * (وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم) *، يعني وحدوا الله ربي وربكم، * (إنه من يشرك بالله) *، فيقول: إن الله هو المسيح ابن مريم، فيموت على الشرك، * (فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين) *، يعني وما
313 للمشركين * (من أنصار) * [آية: 72]، يعني من مانع يمنعهم من النار. * (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة) *، يعني الملكانيين، قالوا: الله والمسيح ومريم، يقول الله عز وجل تكذيبا لقولهم: * (وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون) * من الشرك * (ليمسن) *، يعني ليصيبن * (الذين كفروا منهم عذاب أليم) * [آية: 73]، يعني وجيع، والقتل بالسيف، والجزية على من بقي منهم عقوبة. ثم قال سبحانه يعيبهم: * (أفلا يتوبون إلى الله) *، يعني أفهلا يتوبون إلى الله، * (ويستغفرونه) * من الشرك، فإن فعلوا غفر لهم، * (والله غفور) * لذنوبهم * (رحيم) * [آية: 74] بهم. تفسير سورة المائدة آية [75 - 81] ثم أخبر عن عيسى صلى الله عليه وسلم، فقال سبحانه: * (ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة) *، يعني مؤمنة كقوله سبحانه: * (إنه كان صديقا نبيا) * [مريم: 56]، يعني مؤمنا نبيا، وذلك حين قال لها جبريل عليه السلام: * (إنما أنا رسول ربك) * [مريم: 19]، وفي بطنك المسيح، فآمنت بجبريل، عليه السلام، وصدقت بالمسيح ابن مريم، عليه السلام، ثم سميت الصديقة، وهي يومئذ في محراب بيت المقدس، * (كانا يأكلان الطعام) *، فلو كانا إلاهين ما أكلا الطعام،
314 * (انظر) * يا محمد * (كيف نبين لهم الآيات) *، يعني العلامات في أمر عيسى ومريم أنهم كانا يأكلان الطعام والآلهة لا تأكل الطعام، * (ثم انظر أنى يؤفكون) * [آية: 75]، يعني من أين يكذبون، فأعلمهم أني واحد. * (قل) * لنصارى نجران، * (أتعبدون من دون الله) *، يعني عيسى، * (ما لا يملك لكم ضرا) * في الدنيا، * (ولا نفعا) * في الآخرة، * (والله هو السميع) * لقولهم: إن الله هو المسيح ابن مريم، وثالث ثلاثة، * (العليم) * [آية: 76] بمقالتهم. * (قل يا أهل الكتاب) *، يعني نصارى نجران، * (لا تغلوا في دينكم) * عن دين الإسلام فتقولوا * (غير الحق) * في عيسى ابن مريم، * (ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا) * عن الهدى * (من قبل وأضلوا) *، عن الهدى * (كثيرا) * من الناس، * (وضلوا عن سواء السبيل) * [آية: 77]، يعني وأخطأوا عن قصد سبل الهدى نزلت في برصيصا. * (لعن الذين كفروا) * اليهود * (من بني إسرائيل) *، يعني من سبط بني إسرائيل، * (على لسان داود) * ابن أنبشا، وذلك أنهم صادوا الحيتان يوم السبت، وكانوا قد نهوا عن صيد الحيتان يوم السبت، قال دواد: اللهم إن عبادك قد خالفوا امرك وتركوا أمرك، فاجعلهم آية ومثلا لخلقك، فمسخهم الله عز وجل قردة، فهذه لعنة داود، عليه السلام، * (وعيسى ابن مريم) *، وأما لعنة عيسى صلى الله عليه وسلم، فإنهم أكلوا المائدة، ثم كفروا ورفعوا من المائدة، فقال عيسى: اللهم إنك وعدتني أن من كفر منهم بعدما يأكل من المائدة أن تعذبه عذابا لا تعذبه أحدا من العالمين، اللهم العنهم كما لعنت أصحاب السبت، فكانوا خمسة آلاف، فمسخهم الله عز وجل خنازير، ليس فيهم امرأة ولا صبي، * (ذلك بما عصوا) * في ترك أمره، * (وكانوا يعتدون) * [آية: 78] في دينهم. * (كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون) * [آية: 79] حين لم ينهوهم عن المنكر. ثم قال عز وجل: * (ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا) *، يعني من قريش، * (لبئس ما قدمت لهم أنفسهم) *؛ لأنهم ليسوا بأصحاب كتاب، * (أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون) * [آية: 80]، * (ولو كانوا) *، يعني اليهود، * (يؤمنون بالله) *، يعني يصدقون بالله عز وجل بأنه واحد لا شريك له، * (و) *
315 ب * (والنبي) * صلى الله عليه وسلم * (وما أنزل إليه) * من القرآن، * (ما اتخذوهم أولياء) *، يقول: ماتخذوا مشركي العرب أولياء، * (ولكن كثيرا منهم) * من اليهود * (فاسقون) * [آية: 81]، يعني عاصين. تفسير سورة المائدة آية [82 - 86] * (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا) *، كان اليهود يعاونون مشركي العرب على قتال النبي صلى الله عليه وسلم، ويأمرونهم بالمسير إلى النبي صلى الله عليه وسلم، * (والذين أشركوا) *، يعني مشركي العرب أيضا، كانوا شديدي العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، رضي الله عنهم، * (ولتجدن أقربهم مودة) *، وليس يعني في الحب، ولكن يعني في سرعة الإجابة للإيمان، * (للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى) *، وكانوا في قرية تسمى ناصرة، * (ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا) *، يعني متعبدين أصحاب الصوامع، * (وأنهم لا يستكبرون) * [آية: 82]، يعني لا يتكبرون عن الإيمان. نزلت في أربعين رجلا من مؤمني أهل الإنجيل، منهم اثنان وثلاثون رجلا قدموا من أرض الحبشة مع جعفر بن أبي طالب، رضي الله عنه، وثمانية نفر قدموا من الشام معهم بحيري الراهب، وأبرهة، والأشرف، ودريس، وتمام، وقسيم، ودريد، وأيمن، والقسيسون الذين يحلقون أواسط رؤوسهم، وذلك أنهم حين سمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: ما أشبه هذا بالذي كنا نتحدث به عن عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم، فبكوا وصدقوا بالله عز وجل ورسله، فنزلت فيهم: * (وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول) * من القرآن، * (ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا) *، يعني صدقنا بالقرآن أنه من الله
316 عز وجل، * (فاكتبنا) *، يعني فاجعلنا * (مع الشاهدين) * [آية: 83]، يعني مع المهاجرين، يعني من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، نظيرها في المجادلة: * (كتب في قلوبهم الإيمان) * [المجادلة: 22]، يقول: جعل في قلوبهم الإيمان، وهو التوحيد. وقالوا: * (وما لنا لا نؤمن بالله) *، وذلك أنهم لما أسلموا ورجعوا إلى أرضهم، لامهم كفار قومهم، فقالوا: أتركتم ملة عيسى صلى الله عليه وسلم ودين آبائكم، قالوا: نعم، * (وما لنا لا نؤمن بالله) * * (وما جاءنا من الحق) * مع محمد صلى الله عليه وسلم، * (ونطمع) *، يعني ونرجو * (أن يدخلنا ربنا) * الجنة * (مع القوم الصالحين) * [آية: 84]، وهم المهاجرين الأول، رضوان الله عليهم. * (فأثابهم الله بما قالوا) * من التصديق، * (جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها) * لا يموتون، * (وذلك) * الثواب * (جزاء المحسنين) * [آية: 85]. ثم قال سبحانه: * (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا) *، يعني بالقرآن بأنه ليس من الله عز وجل، * (أولئك أصحاب الجحيم) * [آية: 86]، يعني ما عظم من النار، يعني كفار النصارى الذين لاموهم حين أسلموا وتابعوا النبي صلى الله عليه وسلم. تفسير سورة المائدة آية [87 - 88] قوله سبحانه: * (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) * من اللباس والنساء، نزلت في عشر نفر، منهم: علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وعمر، وابن مسعود، وعمار بن ياسر، وعثمان بن نظعون، والمقداد بن الأسود، وأبو ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، وحذيفة بن اليمان، وسالم مولى أبي حذيفة، ورجل آخر، اجتمعوا في بيت عثمان بن مظعون، رضي الله عنهم، ثم قالوا: تعالوا حتى نحرم على أنفسنا الطعام واللباس والنساء، وأن يقطع بعضهم مذاكيره، ويلبس المسرح، ويبنوا الصوامع، فيترهبوا فيها، فتفرقوا وهذا رأيهم. فجاء جبريل، عليه السلام، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فأتى منزل عثمان بن مظعون، رضي الله عنه، فلم يجدهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لامرأة عثمان: أحق ما بلغني عن عثمان وأصحابه؟ '، قالت: وما هو يا رسول الله؟ فأخبرها النبي صلى الله عليه وسلم الذي بلغه، فكرهت أن
317 تكذب النبي صلى الله عليه وسلم، أو تفشى سر زوجها، فقالت: يا رسول الله، إن كان عثمان أخبرك بشيء، فقد صدقك، أو أخبرك الله عز وجل بشيء، فهو كما أخبرك ربك تعالى ذكره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ' قولي لزوجك إذا جاء: إنه ليس مني من لم يستن بسنتي، ويهتد بهدينا، ويأكل من ذبائحنا، فإن من سنتنا اللباس، والطعام، والنساء، فأعلمي زوجك، وقولي له: من رغب عن سنتي فليس منى '. فلما رجع عثمان وأصحابه أخبرته امرأته بقول النبي صلى الله عليه وسلم، فما أعجبه، فذروا الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: * (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) * * (ولا تعتدوا) *، فتحرموا حلاله، * (إن الله لا يحب المعتدين) * [آية: 87] من يحرم حلاله، ويعتدي في أمره عز وجل، * (وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا) *، اللباس، والنساء، والطعام، * (واتقوا الله) *، ولا تحرموا ما أحل الله لكم، واتقوا الله، * (الذي أنتم به مؤمنون) * [آية: 88]، يقول: الذي أنتم به مصدقون. تفسير سورة المائدة آية 89] قوله سبحانه: * (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) *، وهو الرجل يحلف على أمر وهو يرى أنه فيه صادق وهو كاذب، فلا إثم عليه ولا كفارة، * (ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان) *، يقول: بما عقد عليه قلبك، فتحلف وتعلم أنك كاذب، * (فكفارته) *، يعني كفارة هذا اليمين الذي عقد عليها قلبه وهو كاذب، * (إطعام عشرة مساكين) *، لكل مسكين نصف صاع حنطة، * (من أوسط ما تطعمون) *، يعني من أعدل ما تطعمون * (أهليكم) * من الشبع، نظيرها في البقرة: * (جعلناكم أمة وسطا) * [البقرة: 143]، يعني عدلا، قال سبحانه في ن: * (قال أوسطهم) * [القلم: 28]، يعني أعدلهم، يقول: ليس بأدنى ما تأكلون ولا بأفضله. ثم قال سبحانه: * (أو كسوتهم) *، يعني كسوة عشرة مساكين، لكل مسكين عباءة أو ثوب، * (أو تحرير رقبة) * ما، سواء أكان المحرر يهوديا، أو نصرانيا، أو
318 مجوسيا، أو صابئيا، فهو جائز، وهو بالخيار في الرقبة، أو الطعام، أو الكسوة، * (فمن لم يجد) * من هذه الخصال الثلاث شيئا، * (فصيام ثلاثة أيام) *، وهي في قراءة ابن مسعود متتابعات، * (ذلك) * الذي ذكر الله عز وجل * (كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم) *، فلا تتعمدوا اليمين الكاذبة، * (كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون) * [آية: 89] ربكم في هذه النعم، إذ جعل لكم مخرجا في إيمانكم فيما ذكر في الكفارة. تفسير سورة المائدة آية [90 - 93] قوله سبحانه: * (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر) *، نزلت في سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنه، وفي رجل من الأنصار، يقال له: عتبان بن مالك الأنصاري، وذلك أن الأنصاري صنع طعاما، وشوى رأس بعير، ودعا سعد بن أبي وقاص إلى الطعام، وهذا قبل التحريم، فأكلوا وشربوا حتى انتشوا، وقالوا الشعر، فقام الأنصاري إلى سعد، فأخذ إحدى لحيى البعير، فضرب به وجهه فشجه، فانطلق سعد مستعديا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل تحريم الخمر. فقال سبحانه: * (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر) *، يعني به القمار كله، * (والأنصاب) *، يعني الحجارة التي كانوا ينصبونها ويذبحون لها، * (والأزلام) *، يعني القدحين الذين كانوا يعملون بهما، * (رجس) *، يعني إثم، * (من عمل الشيطان فاجتنبوه) *، يعني من تزيين الشيطان، ومثله في القصص: * (هذا من عمل الشيطان) * [القصص: 15]، * (فاجتنبوه) *، فهذا النهي للتحريم، كما قال سبحانه: * (فاجتنبوا الرجس من الأوثان) * [الحج: 30]، فإنه حرام، كذلك فاجتنبوا الخمر، فإنها حرام، * (لعلكم تفلحون) * [آية: 90] يعني لكي. * (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة) *، يعني أن يغرى بينكم العداوة،
319 * (والبغضاء) * الذي كان بين سعد وبين الأنصاري حتى كسر أنف سعد، * (في الخمر والميسر) *، ورث ذلك العداوة والبغضاء، * (و) * يريد الشيطان أن * (ويصدكم عن ذكر الله) *، يقول: إذا سكرتم لم تذكروا الله عز وجل، * (وعن الصلاة) *، يقول: إذا سكرتم لم تصلوا، * (فهل أنتم منتهون) * [آية: 91]، فهذا وعيد بعد النهى والتحريم، قالوا: انتهينا يا ربنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ' يا أيها الذين آمنوا، إن الله حرم عليكم الخمر، فمن كان عنده منها شيء، فلا يشربها، ولا يبيعها، ولا يسقيها غيره '. قال: وقال أنس بن مالك: لقد نزل تحريم الخمر وما بالمدينة يومئذ خمر، إنما كانوا يشربون الفصيح، وأما الميسر، فهو القمار، وذلك أن الرجل في الجاهلية كان يقول: أين أصحاب الجزور، فيقوم نفر، فيشترون بينهم جزورا، فيجعلون لكل رجل منهم سهم، ثم يقرعون، فمن خرج سهمه برئ من الثمن، وله نصيب في اللحم، حتى يبقى آخرهم، فيكون عليه الثمن كله، وليس له نصيب في اللحم، وتقسم الجزور بين البقية بالسوية. وأما الأزلام، فهي القداح التي كانوا يقتسمون الأمور بها، قدحين مكتوب على أحدهما: أمرني ربي، وعلى الآخر: نهاني ربي، فإذا أرادوا أمرا أتوا بيت الأصنام، فغطوا عليه ثوبا، ثم ضربوا بالقداح، فإن خرج أمرني ربي، مضى على وجهه الذي يريد، وإن خرج نهاني ربي، لم يخرج في سفره، وكذلك كانوا يفعلون إذا شكوا في نسبة رجل، وأما الأنصاب، فهي الحجارة التي كانوا ينصبونها حول الكعبة، وكانوا يذبحون لها. ثم قال عز وجل: * (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول) * في تحريم الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، إلى آخر الآية، * (واحذروا) * معاصيهما، * (فإن توليتم) *، يعني أعرضتم عن طاعتهما، * (فاعلموا أنما على رسولنا) * محمد صلى الله عليه وسلم، * (البلاغ المبين) * [آية: 92]، في تحريم ذلك، فلما نزلت هذه الآية في تحريم الخمر، قال حيى بن أخطب، وأبو ياسر، وكعب بن الأشرف للمسلمين: فما حال من مات منكم، وهم يشربون الخمر؟ فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إن إخواننا ماتوا وقتلوا، وقد كانوا يشربونها، فأنزل الله عز وجل: * (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح) *، يعني حرج، * (فيما طعموا) *، يعني شربوا من الخمر قبل التحريم، * (إذا ما اتقوا) * المعاصي، * (وآمنوا) * بالتوحيد،
320 * (وعملوا الصالحات) *، يعني أقاموا الفرائض قبل التحريم، * (ثم اتقوا) * المعاصي، * (وآمنوا) * بما يجيء من الناسخ والمنسوخ، * (ثم اتقوا) * المعاصي بعد تحريمها، * (وآمنوا) *، يعني وصدقوا، * (ثم اتقوا) * الشرك * (وأحسنوا) * العمل بعد تحريمها، فمن فعل ذلك، فهو محسن، * (والله يحب المحسنين) * [آية: 93]، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للذي سأله: ' قيل لي إنك من المحسنين '. تفسير سورة المائدة آية [94 - 96] وقوله سبحانه: * (يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد) *، يعني ببعض الصيد، فخص صيد البر خاصة، ولم يعم الصيد كله؛ لأن للبحر صيدا، * (تناله أيديكم) *، يقول: تأخذون صغار الصيد بأيديكم أخذا بغير سلاح، ثم قال سبحانه: * (ورماحكم) *، يعني وسلاحكم النبل والرماح، بها يصيبون كبار الصيد، وهو عام حبس النبي صلى الله عليه وسلم عن مكة عام الحديبية، وأقام بالتنعيم، فصالحهم على أن يرجع عامة ذلك، ولا يدخل مكة، فإذا كان العام المقبل، أخلوا له مكة فدخلها في أصحابه، رضي الله عنهم، وأقام بها ثلاثا، ورضى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فنحر البدن مائة بدنة، فجاءت السباع والطير تأكل منها، فنهى الله عز وجل عن قتل الصيد في الحرم، * (ليعلم الله) *، لكي يرى الله، * (من يخافه بالغيب) *، يقول: من يخاف الله عز وجل ولم يره، فلم يتناول الصيد، وهو محرم، * (فمن اعتدى بعد ذلك) *، يقول: فمن أخذ الصيد عمدا بعد النهى، فقتل الصيد وهو محرم، * (فله عذاب أليم) * [آية: 94]، يعني ضربا وجيعا، ويسلب ثيابه، ويغرم الجزاء، وحكم ذلك إلى الإمام، فهذا العذاب الأليم. قوله سبحانه: * (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) *، وذلك أن أبا بشر، واسمه: عمرو بن مالك الأنصاري، كان محرما في عام الحديبية بعمرة، فقتل حمار
321 وحش، فنزلت فيه: * (ولا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) * * (ومن قتله منكم متعمدا) * لقتله ناسيا لإحرامه، * (فجزاء) *، يعني جزاء الصيد، * (مثل ما قتل من النعم) *، يعني من الأزواج الثمانية إن كان قتل عمدا أو خطأ، أو أشار إلى الصيد فأصيب، فعليه الجزاء، * (يحكم به ذوا عدل منكم) *، يعني يحكم بالكفارة رجلان من المسلمين عدلين فقيهين يحكمان في قاتل الصيد جزاء مثل ما قتل من النعم، إن قتل حمار وحش، أو نعامة، ففيها بعيرا بنحره بمكة، يطعم المساكين ولا يأكل هو ولا أحد من أصحابه، وإن كان من ذوات القرون الأيل والوعل ونحوهما، فجزاؤه أن يذبح بقرة للمساكين، وفي الطير ونحوها جزاؤه أن يذبح شاة مسنة، وفي الحمام شاة، وفي بيض الحمام إذا كان فيه فرخ درهم، وإن لم يكن فيه فرخ، فنصف درهم، وفي ولد الحمار الوحش ولد بعير مثله، وفي ولد النعامة ولد بعير مثله، وفي ولد الأيل والوعل ونحو ولد بقرة مثله، وفي فرخ الحمام ونحوه ولد شاة مثله، وفي ولد الظبي ولد شاة مثله. * (هديا بالغ الكعبة) *، يعني ينحر بمكة، كقوله سبحانه في الحج: * (ثم محلها إلى البيت العتيق) * [الحج: 33]، تذبح بأرض الحرم، فتطعم مساكين مكة، * (أو كفارة طعام مساكين) *، لكل مسكين نصف صاع حنطة، * (أو عدل ذلك صياما) *، يقول: إن لم يقدر على الهدى ولا على ثمنه، ولا على إطعام المساكين، فليصم مكان كل مسكين يوما، ينظر ثمن الهدى فيجعله دراهم، ثم ينظر كم يبلغ الطعام بتلك الدراهم بسعر مكة، فيصوم مكان كل مسكين يوما، وبكل مسكين نصف صاع حنطة، * (ليذوق وبال أمره) *، يعني جزاء ذنبه، يعني الكفارة عقوبة له بقتله الصيد، * (عفا الله عما سلف) *، يقول: عفا الله كما كان منه قبل التحريم، يقول: تجاوز الله عما صنع في قتله الصيد متعمدا قبل نزول هذه الآية، * (ومن عاد) * بعد النهي إلى قتل الصيد، * (فينتقم الله منه) * بالضرب والفدية وينزع ثيابه، * (والله عزيز) *، يعني منيع في ملكه، * (ذو انتقام) * [آية: 95]، من أهل معصيته فيمن قتل الصيد، نزلت هذه الآية قبل الآية الأولى: * (فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم) *. ثم قال عز وجل: * (أحل لكم صيد البحر) *، يعني السمك الطري، وشئ يفرخ في الماء لا يفرخ في غيره، فهو للمحرم حلال، ثم قال: * (وطعامه) *، يعني مليح السمك، * (متاعا لكم) *، يعني منافع لكم، يعني للمقيم * (وللسيارة)، يعني للمسافر، * (وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما) *، يعني ما دمتم محرمين، * (واتقوا الله) *، ولا تستحلوا
322 الصيد في الإحرام، ثم حذرهم قتل الصيد، فقال سبحانه: * (الذي إليه تحشرون) * [آية: 96] في الآخرة، فيجزيكم بأعمالكم. تفسير سورة المائدة آية [97 - 99] قوله سبحانه: * (جعل الله الكعبة البيت الحرام) *، أنها سميت الكعبة؛ لأنها منفردة من البنيان، وكل منفرد من البنيان فهو في كلام العرب الكعبة، قال أبو محمد: قال ثعلب: العرب تسمى كل بيت مربع الكعبة، * (قياما للناس) *، يعني أرض الحرم أمنا لهم وحياة لهم في الجاهلية. قال: كان أحدهم إذا أصاب ذنبا أو أحدث حدثا يخاف على نفسه، دخل الحرم فأمن فيه، * (والشهر الحرام) *، قال: كان الرجل إذا أراد سفرا في أمره، فإن كان السفر الذي يريده يعلم أنه يذهب ويرجع قبل أن يمضي الشهر الحرام توجه آمنا، ولم يقلد نفسه ولا راحلته، وإن كان يعلم أنه لا يقدر على الرجوع حتى يمضي الشهر الحرام، قلد نفسه وبعيره من لحا شجر الحرم فيأمن به حيث ما توجه من البلاد، فمن ثم قال سبحانه: * (والهدي والقلائد) * كل ذلك كان قواما لهم وأمنا في الجاهلية، نظيرها في أول السورة، * (ذلك) *، يقول: هذا * (لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض) *، قبل أن يكونا، ويعلم أنه سيكون من أمركم الذي كان، * (وأن الله بكل شيء) * من أعمال العباد، * (عليم) * [آية: 97]. ثم خوفهم ألا يستحلوا الغارة في حجاج اليمامة، يعني شريحا وأصحابه، فقال: * (اعلموا أن الله شديد العقاب) * إذا عاقب، * (وأن الله غفور رحيم) * [آية: 98] لمن أطاعه بعد النهى، ثم قال عز وجل: * (ما على الرسول) * محمد صلى الله عليه وسلم، * (إلا البلاغ) * في أمر حجاج اليمامة، شريح بن ضبيعة وأصحابه، * (والله يعلم ما تبدون) *، يعني ما تعلنون بألسنتكم، * (وما تكتمون) * [آية: 99] من أمر حجاج اليمامة والغارة عليهم. تفسير سورة المائدة آية 100 * (قل) * لهم يا محمد صلى الله عليه وسلم، * (لا يستوي الخبيث والطيب) *، يعني بالخبيث الحرام،
323 والطيب الحلال، نزلت في حجاج اليمامة حين أراد المؤمنون الغارة عليهم، * (ولو أعجبك كثرة الخبيث) *، يعني الحرام، ثم حذرهم، فقال سبحانه: * (فاتقوا الله) *، ولا تستحلوا منهم محرما، * (يا أولي الألباب) *، يعني يا أهل اللب والعقل، * (لعلكم تفلحون) * [آية: 100]. تفسير سورة المائدة آية [101 - 104] قوله سبحانه: * (يا أيها الذين آمنوا لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسوءكم) *، نزلت في عبد الله بن جحش بن رباب الأسدي، من بنى غنم ابن دودان، وفي عبد الله بن حذافة القرشي، ثم السهمي، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ' يا أيها الناس، إن الله كتب عليكم الحج '، فقال عبد الله بن جحش، أفي كل عام؟ فسكت عنه صلى الله عليه وسلم، ثم أعاد قوله، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عاد، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم ونخسه بقضيب كان معه، ثم قال: ' ويحك، لو قلت نعم لوجبت، فاتركوني ما تركتكم، فإذا أمرتكم بأمر فافعلوه، وإذا نهيتكم عن أمر فانتهوا عنه '، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ' أيها الناس، إنه قد رفعت لي الدنيا، فأنا أنظر إلى ما يكون في أمتي من الأحداث إلى يوم القيامة، ورفعت لي أنساب العرب، فأنا أعرف أنسابهم رجلا رجلا '. فقام رجل، فقال: يا رسول الله؟ أين أنا؟ قال: ' أنت في الجنة '، ثم قام آخر، فقال: أين أنا؟ قال: ' في الجنة '، ثم قام الثالث، فقال: أين أنا. فقال: ' أنت في النار '، فرجع الرجل حزينا، وقام عبد الله بن حذافة، وكان يطعن فيه، فقال: يا رسول الله، من أبى؟ قال: ' أبوك حذافة '، وقام رجل من بني عبد الدار، فقال يا رسول الله، من أبي؟ قال: ' أبوك سعد '، نسبه إلى غير أبيه، فقام عمر بن الخطاب، فقال: يا رسول الله، استر علينا يستر الله عليك، أنا قوم قريبو عهد بالشرك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ' خيرا '، فأنزل الله عز وجل: * (لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) *، يعني إن تبين لكم فلعلكم إن
324 تسألوا عما لم ينزل به قرآنا فينزل به قرآنا مغلظا لا تطيقوه، قوله سبحانه: * (وإن تسئلوا عنها حين ينزل القرآن) *، يعني عن الأشياء حين ينزل بها قرآنا، * (تبد لكم) * تبين لكم، * (عفا الله عنها) *، يقول: عفا الله عن تلك الأشياء حين لم يوجبها عليكم، * (والله غفور حليم) * [آية: 101]، يعني ذو تجاوز حين لا يعجل بالعقوبة. ثم قال عز وجل: * (قد سألها قوم) *، يقول: قد سأل عن تلك الأشياء، * (من قبلكم) *، يعني من بني إسرائيل، فبينت لهم، * (ثم أصبحوا بها كافرين) * [آية: 102]، وذلك أن بني إسرائيل سألوا المائدة قبل أن تنزل، فلما نزلت كفروا بها، فقالوا: ليست المائدة من الله، وكانوا يسألون أنبياءهم عن أشياء، فإذا أخبروهم بها تركوا قولهم، ولم يصدقوهم، فأصبحوا بتلك الأشياء كافرين. قوله سبحانه: * (ما جعل الله) * حراما، * (من بحيرة) * لقولهم: إن الله أمرنا بها، نزلت في مشركي العرب، منهم: قريش، وكنانة، وعامر بن صعصعة، وبنو مدلج، والحارث وعامر ابني عبد مناة، وخزاعة، وثقيف، أمرهم بذلك في الجاهلية عمرو بن ربيعة بن لحى بن قمعة بن خندف الخزاعي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ' رأيت عمرو بن ربيعة الخزاعي رجلا قصيرا، أشقر، له وفرة، يجر قصبة في النار، يعني أمعاءه، وهو أول من سيب السائبة، واتخذ الوصيلة، وحمى الحامي، ونصب الأوثان حول الكعبة، وغير دين الحنفية، فأشبه الناس به أكثم بن لجون الخزاعي '، فقال أكثم: أيضرني شبهه يا رسول الله؟ قال: ' لا، أنت مؤمن وهو كافر '. والبحيرة الناقة إذا ولدت خمسة أبطن، فإذا كان الخامس سقيا، وهو الذكر، ذبحوه الآلهة، فكان لحمه للرجال دون النساء، وإن كان الخامس ربعة، يعني أنثى، شقوا أذنيها، فهي البحيرة، وكذلك من البقر، لا يجز لها وبر، ولا يذكر اسم الله عليها إن ركبت، أو حمل عليها، ولبنها للرجال دون النساء، وأما السائبة، فهي الأنثى من الأنعام كلها، كان الرجل يسيب للآلهة ما شاء من إبله وبقره وغنمه، ولا يسيب إلا الأنثى، وظهورها، وأولادها، وأصوافها، وأوبارها، وأشعارها، وألبانها للآلهة، ومنافعها للرجال دون النساء، وأما الوصيلة، فهي الشاة من الغنم إذا ولدت سبعة أبطن عمدوا إلى السابع، فإن كان جديا ذبحوه للآلهة، وكان لحمه للرجال دون النساء، وإن كانت عتاقا استحيوها، فكانت من عرض الغنم.
325 قال عبد الله بن ثابت: قال أبي: قال أبو صالح: قال مقاتل: وإن وضعته ميتا، أشرك في أكله الرجال والنساء، فذلك قوله عز وجل: * (وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء) * [الأنعام: 139]، بأن ولدت البطن السابع جديا وعتاقا، قالوا: إن الأخت قد وصلت أخاها، فرحمته علينا، فحرما جميعا، فكانت المنفعة للرجال دون النساء، وأما الحام، فهو الفحل من الإبل إذا ركب أولاد أولاده، فبلغ ذلك عشرة أو أقل من ذلك، قالوا: قد حمى هذا ظهره، فأحرز نفسه، فيهل للآلهة ولا يحمل عليه، ولا يركب، ولا يمنع من مرعى، ولا ماء، ولا حمى، ولا ينحر أبدا حتى يموت موتا، فأنزل الله عز وجل: * (ما جعل الله) * حراما، * (من بحيرة) * * (ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا) * من قريش وخزاعة من مشركي العرب، * (يفترون على الله الكذب) *؛ لقولهم: إن الله أمرنا بتحريمه حين قالوا في الأعراف: * (والله أمرنا بها) * [الأعراف: 28]، يعني بتحريمها، ثم قال: * (وأكثرهم لا يعقلون) * [آية: 103] أن الله عز وجل لم يحرمه. قوله سبحانه: * (وإذا قيل لهم) *، يعني مشركي العرب، * (تعالوا إلى ما أنزل الله) * في كتابه من تحليل ما حرم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، * (وإلى الرسول) * محمد صلى الله عليه وسلم، * (قالوا حسبنا ما وجدنا عليه ءاباءنا) * من أمر الدين، فإنا أمرنا أن نعبد ما عبدوا، يقول الله عز وجل: * (أولو كان آباؤهم) *، يعني فإن كان آباؤهم، * (لا يعلمون شيئا) * من الدين، * (ولا يهتدون) * [آية: 104] له، أفتتبعونهم؟. تفسير سورة المائدة آية 105 * (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم) *، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا قبل الجزية إلا من أهل الكتاب، فلما أسلم العرب طوعا وكرها قبل الجزية من مجوس هجر، فطعن المنافقون في ذلك، فنزلت: * (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم) *، يقول: اقبلوا على أنفسكم، فانظروا ما ينفعكم في أمر آخرتكم، فاعملوا به، * (لا يضركم من ضل) * من أهل هجر، نزلت في رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، * (إذا اهتديتم إلى الله) * عز وجل * (مرجعكم) * في الآخرة، * (جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون) * [آية: 105]. تفسير سورة المائدة آية [106 - 108]
326 * (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت) *، نزلت في بديل بن أبي مارية مولى العاص بن وائل السهمي، كان خرج مسافرا في البحر إلى أرض النجاشي ومعه رجلان نصرانيان، أحدهما يسمى تميم بن أوس الداري، وكان من لخم، وعدى بن بندا، فمات بديل وهم في البحر، فرمى به في البحر، قال: * (حين الوصية) *، وذلك أنه كتب وصيته، ثم جعلها في متاعه، ثم دفعه إلى تميم وصاحبه، وقال لهما: أبلغا هذا المتاع إلى أهلي، فجاءا ببعض المتاع وحبسا جاما من فضة مموها بالذهب، فنزلت: * (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية) * يقول: عند الوصية يشهدون وصيته. * (اثنان ذوا عدل منكم) * من المسلمين في دينهما، * (أو آخران من غيركم) *، يعني من غير أهل دينكم النصرانيين، تميم الداري وعدى بن بندا، * (إن أنتم ضربتم في الأرض) * يا معشر المسلمين للتجارة، * (فأصابتكم مصيبة الموت) *، يعني بديل بن أبي مارية حين انطلق تاجرا في البحر، وانطلق معه تميم وعدى صاحباه، فحضره الموت، فكتب وصيته، ثم جعلها في المتاع، فقال: أبلغا هذا المتاع إلى أهلي، فلما مات بديل، قبضا المتاع، فأخذا منه ما أعجبهما، وكان فيما أخذا إناء من فضة فيه ثلاثمائة مثقال منقوش مموه بالذهب، فلما رجعا من تجارتهما دفعا بقية المال إلى ورثته، ففقدوا بعض متاعه، فنظروا إلى الوصية، فوجدوا المال فيه تاما لم يبع منه، ولم يهب، فكلموا وتميما وصاحبه، فسألوهما: هل باع صاحبنا شيئا أو اشترى شيئا فخسر فيه، أو طال مرضه فأنفق على نفسه؟ فقال: لا، قالوا: فإنا قد فقدنا بعض ما أبدى به صاحبنا، فقالا: ما لنا بما أبدى، ولا بما كان في وصيته علم، ولكنه دفع إلينا هذا المال، فبلغناكم إياه. فرفعوا أمرهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت: * (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم
327 الموت) *، يعني بديلب بن أبي مارية، * (اثنان ذوا عدل منكم) *، يعني من المسلمين، عبد الله بن عمرو بن العاص، والمطلب بن أبي وداعة السهميان، * (أو آخران من غيركم) * من غير أهل دينكم، يعني النصرانيين، * (إن أنتم) * معشر المسلمين * (ضربتم في الأرض) * تجارا * (فأصابتكم مصيبة الموت) *، يعني بديل بن أبي مارية مولى العاص بن وائل السهمي، * (تحسبونهما) *، يعني النصرانيين تقيمونهما، * (من بعد الصلاة) * صلاة العصر، * (فيقسمان بالله) *، فيحلفان بالله، * (إن ارتبتم) *، يعني إن شككتم، نظيرها في النساء القصرى، أن المال كان أكثر من هذا الذي أتيناكم به، * (لا نشتري به ثمنا) *، يقول: لا نشتري بأيماننا عرضا من الدنيا، * (ولو كان ذا قربى) *، يقول: ولو كان الميت ذا قرابة منا، * (ولا نكتم شهادة الله إنا إذا) * إن كتمنا شيئا من المال، * (لمن الآثمين) * [آية: 106] بالله عز وجل. فحلفهما النبي صلى الله عليه وسلم عند المنبر بعد صلاة العصر، فحلفا أنهما لم يخونا شيئا من المال، فخلى سبيلهما، فلما كان بعد ذلك، وجدوا الإناء الذي فقدوه عند تميم الداري، قالوا: هذا من آنية صاحبنا الذي كان أبدى بها، وقد زعمتما أنه لم يبع ولم يشتر ولم ينفق على نفسه، فقالا: قد كنا اشتريناه منه، فنسينا أن نخبركم به، فرفعوهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم الثانية: فقالوا: يا رسول الله، إنا وجدنا مع هذين إناء من فضة من متاع صاحبنا، فأنزل الله عز وجل: * (فإن عثر على أنهما استحقا إثما) *، يقول: فإن اطلع على أنهما، يعني النصرانيين كتما شيئا من المال أو خانا، * (فآخران) * من أولياء الميت، يعني عبد الله بن عمرو بن العاص، والمطلب بن أبي وداعة السهميان، * (يقومان مقامهما) *، يعني مقام النصرانيين، * (من الذين استحق) * (الإثم) * (عليهم الأوليان فيقسمان بالله) *، يعني فيحلفان بالله في دبر صلاة العصر أن الذي في وصية صاحبنا حق، وأن المال كان أكثر مما أتيتمانا به، وأن هذا الإناء لمن متاع صاحبنا الذي خرج به معه، وكتبه في وصيته، وأنكما خنتما، فذلك قوله سبحانه: * (لشهادتنا) *، يعني عبد الله بن عمرو بن العاص، والمطلب، * (أحق من شهادتهما) *، يعني النصرانيين، * (وما اعتدينا) * بشهادة المسلمين من أولياء الميت، * (إنا إذا لمن الظالمين) * [آية: 107]. * (ذلك أدنى) *، يعني أجدر، نظيرها في النساء، * (أن يأتوا) *، يعني النصرانيين، * (بالشهادة على وجهها) *، كما كانت ولا يكتمان شيئا، * (أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم) *، يقول: أو يخافوا أن يطلع على خيانتهم فيرد شهادتهما بشهادة الرجلين
328 المسلمين من أولياء الميت، فحلف عبد الله والمطلب كلاهما أن الذي في وصية الميت حق، وأن هذا الإناء من متاع صاحبنا، فأخذوا تميم بن أوس الداري، وعدى بن بندا النصرانيين بتمام ما وجدوا في وصية الميت حين اطلع الله عز وجل على خيانتهما في الإناء، ثم وعظ الله عز وجل المؤمنين ألا يفعلوا مثل هذا، وألا يشهدوا بما لم يعاينوا ويروا، فقال سبحانه يحذرهم نقمته: * (واتقوا الله واسمعوا) * مواعظه، * (والله لا يهدي القوم الفاسقين) * [آية: 108]، وأن تميم بن أوس الداري اعترف بالخيانة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ' ويحك يا تميم، أسلم يتجاوز الله عنك ما كان في شركك '، فأسلم تميم الداري، وحسن إسلامه، ومات عدى بن بندا نصرانيا. تفسير سورة المائدة آية [109 - 118]
329 قوله سبحانه: * (يوم يجمع الله الرسول) *، يعني الأنبياء، عليهم السلام، * (فيقول ماذا أجبتم) * في التوحيد، * (قالوا لا علم لنا) *، وذلك أول ما بعثوا عند زفرة جهنم؛ لأن الناس إذا خرجوا من قبورهم تاهت عقولهم، فجالوا في الدنيا ثلاثين سنة، ويقال: أربعين سنة، ثم ينادي مناد عند صخرة بيت المقدس: يا أهل الدنيا، ها هنا موضع الحساب، فيسمع النداء جميع الناس، فيقبلون نحو الصوت، فإذا اجتمعوا ببيت المقدس، زفرت جهنم زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا ظن أنه لو جاء بعمل سبعين نبيا ما نجا، فعند ذلك تاهت عقولهم، فيقول لهم عند ذلك، يعني المرسلين: * (ماذا أجبتم) * في التوحيد، * (قالوا لا علم لنا) * * (إنك أنت علام الغيوب) * [آية: 109]، ثم رجعت عقولهم بعد ذلك إليهم فشهدوا على قومهم أنهم قد بلغوا الرسالة عن ربهم، فذلك قوله سبحانه: * (ويقول الأشهاد) *، يعني الأنبياء * (هؤلاء الذين كذبوا على ربهم) * [هود:] 18]. قوله سبحانه: * (إذ قال الله يا عيسى ابن مريم) * في الآخرة، * (اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك) *، يعني مريم، عليهما السلام، * (إذ أيدتك بروح القدس) *، فالنعمة على عيسى حين أيده بروح القدس، يعني جبريل، عليه السلام، * (تكلم الناس في المهد) * صبيا * (و) * تكلمهم * (وكهلا وإذ علمتك الكتاب) *، يعني خط الكتاب بيده، * (والحكمة) *، يعني الفهم والعلم، * (والتوراة والإنجيل) *، يعني علم التوراة والإنجيل، وجعله نبيا ورسولا إلى بني إسرائيل، * (وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير) *، يعني الخفاش، * (بإذني فتنفخ فيها) *، يعني في الهيئة، * (فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه) *، يعني الأعمى الذي يخرج من بطن أمه أعمى، * (و) * يبرئ * (والأبرص) *، يمسحها بيده فيبرئها * (بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني) * أحياء، * (وإذ كففت بني إسرائيل عنك) *، أي عن قتلك، * (إذ جئتهم بالبينات) *، وهي أحياء سام بن نوح بإذن الله. فيقوم عيسى صلى الله عليه وسلم يوم القيامة بهؤلاء الكلمات خطيبا على رؤوس الخلائق، ويخطب إبليس، لعنه الله، على أهل النار بهذه الآية: * (إن الله وعدكم) * إلى قوله: * (بمصرخكم) *، يعني بمانعكم من العذاب، * (وما أنتم بمصرخي) *، يعني بمانعي من العذاب، * (إني كفرت) *، يعني تبرأت * (بما أشركتمون من قبل) * [إبراهيم: 22]، أي في الدار الدنيا، وأما النعمة على مريم، عليها السلام، فهي أنه اصطفاها،
330 يعني اختارها، وطهرها من الإثم، واختارها على نساء العالمين، وجعلها زوجة محمد صلى الله عليه وسلم في الجنة. قوله سبحانه: * (تكلم الناس في المهد) *، يعني تكلم بني إسرائيل صبيا في المهد حين جاءت به أمه تحمله، ويكلمهم كهلا حين اجتمع واستوت لحيته، * (وإذ علمتك الكتاب) *، يعني خط الكتاب بيده، * (والحكمة) *، يعني الفهم والعلم، وإذ علمتك التوراة والإنجيل، * (وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير) *، يعني الخفاش، * (فتنفخ فيها) *، يعني في الهيئة، * (فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه) * الذي يخرج من بطن أمه أعمى، فكان عيسى، عليه السلام، يرد إليه بصره بإذن الله تعالى، فيمسح بيده عليه، فإذا هو صحيح بإذن الله، وأحيا سام بن نوح بإذن الله، حيث كلمه الناس، ثم مات فعاد كما كان، * (وإذ كففت بني إسرائيل عنك) *، يعني عن قتلك حين رفعه الله عز وجل إليه، وقتل شبيهه، وهو الرقيب الذي كان عليه، * (إذ جئتهم بالبينات) *، يعني بالعجائب التي كان يصنعها من إبراء الأكمه والأبرص والموتى والطير ونحوه. * (فقال الذين كفروا منهم) *، يعني من اليهود من بني إسرائيل، * (إن هذا إلا سحر مبين) * [آية: 110]، يعني ما هذا الذي يصنع عيسى من الأعاجيب إلا سحر مبين، يعني بين، نظيرها في الصف، * (وإذا أوحيت إلى الحواريين) *، وهم القصارون مبيضو الثياب، وكانوا اثنى عشر رجلا، والوحي إليهم من الله عز وجل هو إلهام قذف في قلوبهم التصديق بالله عز وجل، بأنه واحد لا شريك له، فذلك قوله عز وجل: * (أن آمنوا بي) * أن صدقوا بأني واحد ليس معي شريك، * (وبرسولي) *، عيسى ابن مريم أنه نبي رسول، * (قالوا آمنا) *، يعني صدقنا بما جاء به من عند الله، ونشهد أن الله عز وجل واحد لا شريك له، وأنك رسوله، * (وأشهد) * يا عيسى * (بأننا مسلمون) * [آية: 111]، يعني مخلصون بالتوحيد. * (إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك) *، يقول: هل يقدر على أن يعطيك ربك إن سألته * (أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله) *، فلا تسألوه البلاء، * (إن كنتم مؤمنين) * [آية: 112]، فإنها إن نزلت ثم كذبتم عوقبتم، * (قالوا نريد أن تأكل منها) *، فقد جعنا، * (وتطمئن قلوبنا) *، يعني وتسكن قلوبنا إلى ما تدعونا إليه، * (ونعلم أن قد صدقتنا) * بأنك نبي رسول، * (ونكون عليها من
331 الشاهدين) * [آية: 113]، يعني على المائدة عند بني إسرائيل إذا رجعنا إليهم، وكان القوم الذين خرجوا وسألوا المائدة خمسة آلاف بطريق، وهم الذين سألوا المائدة مع الحواريين. * (قال عيسى ابن مريم) * صلى الله عليه وسلم عند ذلك، * (اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا) *، يقول: تكون عيدا لمن كان في زماننا عند نزول المائدة، وتكون عيدا لمن بعدنا، * (و) * تكون المائدة * (وآية منك وارزقنا) *، يعني المائدة، * (وأنت خير الرازقين) * [آية: 114]، من غيرك، يقول: فإنك خير من يرزق. * (قال الله) * عز وجل، * (إني منزلها) * يعني المائدة، * (عليكم) *، فنزلها يوم الأحد، * (فمن يكفر بعد) * نزول المائدة، * (منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين) * [آية: 115]، فنزلت من السماء عليها سمك طري، وخبز رقاق، وتمر، وذكروا أن عيسى صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه وهم جلوس في ورضة: هل مع أحد منكم شيء؟ فجاء شمعون بسمكتين صغيرتين، وخمسة أرغفة، وجاء آخر بشيء من سويق، فعمد عيسى صلى الله عليه وسلم فقطعهما صغارا وكسر الخبز، فوضعها فلقا فلقا، ووضع السويق فتوضأ، ثم صلى ركعتين، ودعا ربه عز وجل، فألقى الله عز وجل على أصحابه شبه السبات، ففتح القوم أعينهم، فزاد الطعام حتى بلغ الركب، فقال عيسى صلى الله عليه وسلم للقوم: كلوا وسموا الله عز وجل، ولا ترفعوا، وأمرهم أن يجلسوا حلقا حلقا، فأكلوا حتى شبعوا، وهم خمسة آلاف رجل، وهذا ليلة الأحد ويوم الأحد. فنادى عيسى صلى الله عليه وسلم، فقال: أكلتم؟ قالوا: نعم، قال: لا ترفعوا، قالوا: لا نرفع، فرفعوا، فبلغ ما رفعوا من الفضل أربعة وعشرين مكتلا، فآمنوا عند ذلك بعيسى صلى الله عليه وسلم، وصدقوا به، ثم رجعوا إلى قومهم اليهود من بني إسرائيل، ومعهم فضل المائدة، فلم يزالوا بهم حتى ارتدوا عن الإسلام، فكفروا بالله، وجحدوا بنزول المائدة، فمسخهم الله عز وجل وهم نيام خنازير، وليس غيهم صبي ولا امرأة. * (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس) *، يعني بني إسرائيل في الدنيا، * (اتخذوني وأمي) * (مريم) * (إلهين من دون الله قال سبحانك) * فنزه الرب عز وجل، أن يكون امرهم بذلك، فقال: * (ما يكون لي) *، يعني ما ينبغي لي * (أن أقول ما ليس لي بحق) *، يعني بعدل أن يعبدوا غيرك، * (إن كنت قلته) * (لهم) * (فقد علمته تعلم ما في
332 نفسي) *، يعني ما كان مني وما يكون، * (ولا اعلم ما في نفسك) *، يقول: ولا أطلع على غيبك، وقال أيضا، ولا أعلم ما في علمك، ما كان منك وما يكون، * (إنك أنت علام الغيوب) *، [آية: 116]، يعني غيب ما كان وغيب ما يكون. * (ما قلت لهم) * وأنت تعلم، * (إلا ما أمرتني به) * (في الدنيا) * (أن اعبدوا الله) *، يعني وحدوا الله، * (ربي وربكم) *، قال لهم عيسى صلى الله عليه وسلم ذلك في هذه السورة، وفي كهيعص، وفي الزخرف، * (وكنت عليهم شهيدا) *، يعني على بني إسرائيل بأن قد بلغتهم الرسالة، * (ما دمت فيهم) *، يقول: ما كنت بين أظهرهم، * (فلما توفيتني) *، يقول: فلما بلغ بي أجل الموت فمت، * (كنت أنت الرقيب عليهم) *، يعني الحفيظ، * (وأنت على كل شيء شهيد) * [آية: 117]، يعني شاهدا بما أمرتهم من التوحيد، وشهيد عليهم بما قالوا من البهتان، وإنما قال الله عز وجل: * (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم) *، ولم يقل: وإذ يقول: يا عيسى ابن مريم؛ لأنه قال سبحانه قبل ذكر عيسى يوم يجمع الله الرسل، فيقول: ماذا أجبتم؟ قالوا: يومئذ، وهو يوم القيامة، حين يفرغ من مخاصمة الرسل، فينادى: أين عيسى ابن مريم، فيقوم عيسى صلى الله عليه وسلم شفق، فرق، يرعد رعدة حتى يقف بين يدي الله عز وجل، يا عيسى: * (أأنت قلت للناس أتخذوني وأمي إلهين من دون الله) *. وكما قال سبحانه: * (ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون) * [الأعراف: 43]، فلما دخلوا الجنة، قال: * (ونادى أصحاب النار) * [الأعراف: 50]، فنسق بالماضي على الماضي، والمعنى مستقبل، ولو لم يذكر الجنة قبل بدئهم بالكلام الأول لقال في الكلام الأول: * (ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار) * [الأعراف: 44]، وكل شيء في القرآن على هذا النحو. ثم قال عيسى صلى الله عليه وسلم لربه عز وجل في الآخرة: يا رب، غبت عنهم وتركتهم على الحق الذي أمرتني به، فلم أدر ما أحدثوا بعدى، ف * (إن تعذبهم) * فتميتهم على ما قالوا من البهتان والكفر، * (فإنهم عبادك) *، وأنت خلقتهم، * (وإن تغفر لهم) *، فتتوب عليهم وتهديهم إلى الإيمان والمغفرة بعد الهداية إلى الإيمان، * (فإنك أنت العزيز الحكيم) * [آية: 118] في ملكك، الحكيم في أمرك، وفي قراءة ابن مسعود: ' فإنك أنت الغفور الرحيم '، نظيرها في سورة إبراهيم، عليه السلام، في مخاطبة إبراهيم: * (ومن عصاني فإنك غفور رحيم) * [إبراهيم: 36]، وهي كذلك أيضا في قراءة عبد الله بن مسعود.
333 تفسير سورة المائدة آية [119 - 120] * (قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم) *، يعني النبيين بما قالوا في الدنيا، فكان عيسى صادقا فيما قال لربه في الآخرة، * (ما قلت لهم إلا ما أمرتني به) *، فصدقه الله بقوله في الدنيا، وصدقه في الآخرة حين خطب على الناس، ثم قال: * (لهم) *، يعني للصادقين، * (جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا) *، لا يموتون، * (رضي الله عنهم) * بالطاعة، * (ورضوا عنه) * بالثواب، * (ذلك) * الثواب * (الفوز العظيم) * [آية: 119]، يعني النجاء العظيم. ثم عظم الرب جل جلاله نفسه عما قالت النصارى من البهتان والزور أنه ليس كما زعمت، وأنه واحد لا شريك له، فقال سبحانه: * (لله ملك السماوات والأرض وما فيهن) * من الخلق، عيسى ابن مريم وغيره من الملائكة والخلق عباده وفي ملكه، * (وهو على كل شيء) * من خلق عيسى من غير أب وغيره، * (قدير) * [آية: 120].
334 سورة الأنعام مكية كلها، إلا هذه الآيات، نزلت بالمدينة، ونزلت ليلا وهي خمس وستون ومائة آية كوفي والآيات المدنية هي: * (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم) * إلى قوله * (لعلكم تعقلون) * [الآيات 151 - 153]، وهي الآيات المحكمات. وقوله: * (وما قدروا الله حق قدره) * [آية: 91] إلى آخر الآية. وقوله: * (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي) * [أآية: 93]، نزلت في مسيلمة، * (ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله) * [آية: 93]، نزلت في عهد عبد الله بن سعد بن أبي سرح. وقوله: * (ولو ترى إذ الطالمون في غمرات الموت...) * [آية: 93]. وقوله: * (والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق) * [آية: 114]، * (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه) * [آية: 20]. هذه الآيات مدنيات، وسائرها مكي، نزل بها جبريل، عليه السلام، ومعه سبعون ألف ملك، طبقوا ما بين السماء والأرض، لهم زجل بالتسبيح والتمجيد والتحميد، حتى كادت الأرض أن ترتج، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ' سبحان الله العظيم وبحمده '، وخر النبي ساجدا، فيها خصومة مشركي العرب وأهل الكتاب، وذلك أن قريشا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: من ربك؟ فقال: ' ربي الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد '، فقالوا: أنت كذاب، ما اختصك الله بشيء، وما أنت عليه بأكرم منا، فأنزل الله عز وجل: بسم الله الرحمن الرحيم تفسير سورة الأنعام آية من [1 - 5]
335 * (الحمد لله) *، فحمد نفسه ودل بصنعه على توحيده، * (الذي خلق السماوات والأرض) *، لم يخلقهما باطلا، خلقهما لأمر هو كائن، * (وجعل الظلمات والنور) *، يعني الليل والنهار، ثم رجع إلى أهل مكة، فقال: * (ثم الذين كفروا) * من أهل مكة، * (بربهم يعدلون) * [آية: 1]، يعني يشركون. * (هو الذي خلقكم من طين) *، يعني آدم، عليه السلام؛ لأنكم من ذريته، * (ثم قضى أجلا) *، يعني أجل ابن آدم من يوم ولد إلى أن يموت، * (وأجل مسمى عنده) *، يعني البرزخ منذ يوم ولد إلى يوم يموت، إلى يوم القيامة، * (ثم أنتم تمترون) *] آية: 2]، يعني تشكون في البعث، يعني كفار مكة. * (وهو الله في السماوات) * أنه واحد، * (وفي الأرض يعلم سركم وجهركم) *، يعني سر أعمالكم وجهرها، * (ويعلم ما تكسبون) * [آية: 3]، يعني ما تعملون من الخير والشر. * (وما تأتيهم من آية من آيات ربهم) *، يعني انشقاق القمر، * (إلا كانوا عنها معرضين) * [آية: 4]، فلم يتفكرون فيها، فيعتبروا في توحيد الله. * (فقد كذبوا بالحق لما جاءهم) *، يعني القرآن حين جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم، استهزءوا بالقرآن بأنه ليس من الله، يعني كفار مكة، منهم: أبو جهل بن هشام، والوليد بن المغيرة، ومنبه ونبيه ابنا الحجاج، والعاص بن وائل السهمي، وأبي بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، وعبد الله بن أبي أمية، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو البحتري بن هشام بن أسد، والحارث بن عامر بن نوفل، ومخرمة بن نوفل، وهشام بن عمرو بن ربيعة، وأبو سفيان بن حرب، وسهل بن عمرو، وعمير بن وهب بن خلف، والحارث بن قيس، وعدي بن قيس، وعامر بن خالد الجمحي، والنضر بن الحارث، وزمعة بن الأسود، ومطعم بن عدي، وقرط بن عبد عمرو بن نوفل، والأخنس بن شريق، وحويطب بن عبد العزى، وأمية بن خلف، كلهم من قريش، يقول الله عز وجل: * (فسوف يأتيهم أنباء) *، يعني حديث، * (ما كانوا به) * بالعذاب * (يستهزءون) * [آية: 5]، بأنه غير نازل بهم، ونظيرها في الشعراء، فنزل بهم العذاب ببدر. تفسير سورة الأنعام آية [6 - 12]
336 ثم وعظهم ليخافوا، فقال: * (ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم) *، كفار مكة، * (من قرن) * من أمة، * (مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم) *، يقول: أعطيناهم من الخير والتمكين في البلاد ما لم نعطكم يا أهل مكة، * (وأرسلنا السماء عليهم مدرارا) * بالمطر، يعني متتابعا، * (وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم) *، يعني فعذبناهم، * (بذنوبهم) *، يعني بتكذيبهم رسلهم، * (وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين) * [آية: 6]، يقول: وخلقنا من بعد هلاكهم قوما آخرين. * (ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم) *، ما صدقوا به، و * (لقال الذين كفروا) * من أهل مكة، * (إن هذا) *، يقول: ما هذا القرآن، * (إلا سحر مبين) * [آية: 7]، يعني بين. * (وقالوا لولا) *، يعني هلا، * (أنزل عليه ملك) *، يعينه ويصدقه بما أرسل به، نظيرها في الفرقان، نزلت في النضر بن الحارث، وعبد الله بن أمية بن المغيرة، ونوفل بن خويلد، كلهم من قريش، يقول الله: * (ولو أنزلنا ملكا) * فعاينوه، * (لقضي الأمر) *، يعني لنزل العذاب بهم، * (ثم لا ينظرون) * [آية: 8]، يعني ثم لا يناظر بهم حتى يعذبوا؛ لأن الرسل إذا كذبت جاءت الملائكة بالعذاب. يقول الله: * (ولو جعلناه) *، هذا الرسول، * (ملكا لجعلناه رجلا) *، يعني في صورة رجل حتى يطيقوا النظر إليه؛ لأن الناس لا يطيقون النظر إلى صورة الملائكة، ثم قال: * (وللبسنا عليهم) *، يعني ولشبهنا عليهم، * (ما يلبسون) * [آية: 9]، يعني ما يشبهون على أنفسهم بأن يقولوا: ما هذا إلا بشر مثلكم.
337 * (ولقد استهزئ برسل من قبلك) *، وذلك أن مكذبي الأمم الخالية، أخبرتهم رسلهم بالعذاب فكذبوهم، بأن العذاب ليس بنازل بهم، فلما كذب كفار مكة النبي صلى الله عليه وسلم بالعذاب حين أوعدهم استهزءوا منه، فأنزل الله يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم ليصبر على تكذيبهم إياه بالعذاب، فقال: * (ولقد استهزئ برسل من قبلك) * يا محمد كما استهزئ بك في أمر العذاب، * (فحاق) *، يعني فدار * (بالذين سخروا منهم) *، يعني من الرسل، * (ما كانوا به) *، يعني بالعذاب، * (يستهزءون) * [آية: 10] بأنه غير نازل بهم. ثم وعظهم ليخافوا، فقال: * (قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين) * [آية: 11] بالعذاب كان عاقبتهم الهلاك يحذر كفار مكة بمثل عذاب الأمم الخالية، * (قل) * لكفار مكة * (لمن ما في السماوات والأرض) * من الخلق، فردوا عليه في الرعد، قالوا: الله، في قراءة أبي بن كعب، وابن مسعود في تكذيبهم بالبعث، قالوا: الله * (قل لله كتب على نفسه الرحمة) * في تأخير العذاب عنهم، فأنزل ا الله في تكذيبهم بالبعث، * (ليجمعنكم إلى يوم القيامة) * أنتم والأمم الخالية، * (لا ريب فيه) *، يعني لا شك فيه، يعني في البعث بأنه كائن، ثم نعتهم، فقال: * (الذين خسروا) *، يعني غبنوا، * (أنفسهم فهم لا يؤمنون) * [آية: 12]، يعني لا يصدقون بالبعث بأنه كائن. تفسير سورة الأنعام آية [13 - 18] ثم عظم نفسه لكي يوحد، فقال: * (وله ما سكن) *، يعني ما استقر، * (في اليل والنهار) * من الدواب والطير في البر والبحر، فمنها ما يستقر بالنهار وينتشر ليلا، ومنها ما يستقر بالليل وينتشر نهارا، ثم قال: * (وهو السميع) * لما سألوا من العذاب، * (العليم) * [آية: 13] به. * (قل أغير الله) *، وذلك أن كفار قريش قالوا: يا محمد، ما يحملك على ما أتيتنا به، ألا تنظر إلى ملة أبيك عبد الله وملة جدك عبد المطلب وإلى سادات قومك يعبدون
338 اللات والعزى ومناة، فتأخذ به، وتدع ما أنت عليه، وما يحملك على ذلك إلا الحاجة، فنحن نجمع لك من أموالنا، وأمره بترك عبادة الله، فأنزل الله: * (قل أغير الله) * * (أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض) *، فعظم نفسه ليعرف توحيده بصنعه، * (وهو يطعم ولا يطعم) * وهو يرزق ولا يرزق، لقولهم: نجمع لك من أموالنا ما يغنيك، * (قل) * لهم * (إني أمرت أن أكون أول من أسلم) *، يعني أول من أخلص من أهل مكة بالتوحيد، ثم أوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: * (ولا تكونن من المشركين) * [آية: 14]، لقولهم للنبي، عليه السلام: ارجع إلى ملة آبائك. * (قل) * لهم يا محمد، * (إني أخاف إن عصيت ربي) *، إن رجعت إلى ملة آبائي، * (عذاب يوم عظيم) * [آية: 15]، يعني بالعظيم الشديد يوم القيامة، وقد نسخت: * (إنا فتحنا) * [الفتح: 1]، * (إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم) *، يعني الشديد يوم القيامة. * (من يصرف) * الله * (عنه) * العذاب * (يومئذ) * يوم القيامة، * (فقد رحمه وذلك) * الصرف، يعني صرف العذاب، * (الفوز المبين) * [آية: 16]، يعني النجاة العظيمة المبينة. ثم خوف النبي صلى الله عليه وسلم ليتمسك بدين الله تعالى، فقال: * (وإن يمسسك الله بضر) *، يعني يصبك الله بضر، يعني بلاء وشدة، * (فلا كاشف له إلا هو) *، يقول: لا يقدر أحد من الآلهة ولا غيرهم كشف الضر إلا الله، * (وإن يمسسك بخير) *، يعني يصبك بفضل وعافية، * (فهو على كل شيء قدير) * [آية: 17] من ضر وخير. وأنزل الله في قولهم: * (قل) * يا محمد * (إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله) *، يعني يعبدون من دون الله من الآلهة، * (قل لا أتبع أهواءكم) * في ترك دين الله، * (قد ضللت إذا) *، إن اتبعت دينكم، * (وما أنا من المهتدين) *، يعني من المرشدين، و * (قل) * لهم * (إني على بينة من ربي) *، يعني على بيان من ربي، وأنزل الله في ذلك: * (قل أغير الله أبغي ربا) * إلى آخر السورة، * (وهو القاهر) * لخلقه، * (فوق عباده) *، قد علاهم وقهرهم، * (وهو الحكيم) * في أمره * (الخبير) * [آية: 18] * (فوق عباده) *، قد علاهم وقهرهم، * (وهو الحكيم) * في أمره * (الخبير) * [آية: 18] بخلقه. تفسير سورة الأنعام آية [19 - 21]
339 * (قل أي شيء أكبر شهادة) *، وذلك أن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم، أما وجد الله رسولا غيرك ما نرى أحدا يصدقك بما تقول: وقد سألنا عنك أهل الكتاب، فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر، فمن يشهد لك أن الله هو الذي أرسلك؟ فقال الله للنبي صلى الله عليه وسلم: * (قل) * لهم * (أي شيء أكبر شهادة) *، قالوا: الله أكبر شهادة من غيره، فقال الله: * (قل) * لهم يا محمد * (الله شهيد بيني وبينكم) * بأنى رسول، * (و) * أنه * (وأوحي إلي هذا القرآن) * من عند الله، * (لأنذركم به) *، يعني لكي أنذركم بالقرآن يا أهل مكة، * (ومن بلغ) * القرآن من الجن والإنس، فهو نذير لهم، يعني القرآن إلى يوم القيامة، ثم قال: * (أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى) *؟ قالوا: نعم نشهد، قال الله للنبي صلى الله عليه وسلم: * (قل) * لهم * (لا أشهد) * بما شهدتم، ولكن أشهد * (قل إنما هو إله واحد) *، قل لهم: * (وإنني برئ مما تشركون) * [آية: 19] به غيره. وأنزل في قولهم: لقد سألنا عنك أهل الكتاب، فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر، فقال: * (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه) *، أي صفة، محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم * (كما يعرفون أبناءهم) *. حدثنا عبيد الله، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا الهذيل، عن مقاتل، قال: إن عبد الله بن سلام، قال: لأنا أعرف بمحمد، عليه السلام، منى بابني؛ لأني لا أعلم ما أحدثت فيه أمه، ثم نعتهم، فقال: * (الذين خسروا أنفسهم) *، يعني غبنوا أنفسهم، * (فهم لا يؤمنون) * [آية: 20]، لا يصدقون بمحمد صلى الله عليه وسلم، بأنه رسول الله، وأنزل الله في قولهم أيضا: * (والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه) *، يعني القرآن، * (منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين) * [الأنعام: 114]، يعني من الشاكين بأن القرآن جاء من الله، نظيرها في يونس: * (ومن أظلم) *، يقول: فلا أحد أظلم * (ممن افترى على الله كذبا) * بأن معه شريكا لقولهم: إن مع الله آلهة أخرى، ثم قال: * (أو كذب بآياته) *، يعني بالقرآن أنه ليس من الله، * (إنه لا يفلح الظالمون) * [آية: 21]، يعني
340 المشركين في الآخرة يعيبهم، نظيرها في يونس. تفسير سورة الأنعام آية [22 - 24] * (ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا) *، وذلك أن المشركين في الآخرة لما رأوا كيف يتجاوز الله عن أهل التوحيد، فقال بعضهم لبعض: إذا سئلنا قولوا: كنا موحدين، فلما جمعهم الله وشركاءهم، قال لهم: * (أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون) * [آية: 22] في الدنيا بأن مع الله شريكا. * (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا) *، يعني معذرتهم إلا الكذب حين سئلوا فتبرأوا من ذلك، فقالوا: * (والله ربنا ما كنا مشركين) * [آية: 23]، قال الله: * (انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم) * في الآخرة، * (ما كانوا يفترون) * [آية: 24] من الشرك في الدنيا، فختم على ألسنتهم، وشهدت الجوارح بالكذب عليهم والشرك. تفسير سورة الأنعام آية [25 - 30] * (ومنهم) *، يعني كفار مكة، * (من يستمع إليك) * وأنت تتلو القرآن، يعني النضر بن الحارث، إلى آخر الآية، * (وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه) *، يعني الغطاء عن القلب؛ لئلا يفقهوا القرآن، * (وفي آذانهم وقرا) *، يعني ثقلا، فلا يسمعوا،، يعني النضر، ثم قال: * (وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها) *، يعني انشقاق القمر، والدخان، فلا يصدقوا بأنها من الله عز وجل، * (حتى إذا جاءوك يجادلونك) * في القرآن بأنه ليس من الله، * (يقول) * الله: قال: * (الذين كفروا) *، يعني النضر: * (إن هذا) * القرآن * (إلا أساطير الأولين) * [آية: 25]، يعني أحاديث الأولين، حديث رستم واسفندياز.
341 * (وهم ينهون عنه وينئون عنه) *، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند أبي طالب بن عبد المطلب، يدعوه إلى الإسلام، فاجتمعت قريش إلى أبي طالب ليريدوا بالنبي، عليه السلام، سوءا، فسألوا أبا طالب أن يدفعه إليهم فيقتلوه، فقال أبو طالب: ما لي عنه صبر، قالوا: ندفع إليك من سبايانا من شئت مكان ابن أخيك، فقال أبو طالب: حين تروح الإبل، فإن جاءت ناقة إلى غير فصيلها دفعت إليكم، وإن كانت الناقة لا تحن إلا إلى فصيلها، فأنا أحق من الناقة، فلما أبى عليهم، اجتمع منهم سبعة عشر رجلا من أشرافهم ورؤسائهم، فكتبوا بينهم كتابا ألا يبايعوا بني عبد المطلب، ولا يناكحوهم، ولا يخالطوهم، ولا يؤاكلوهم، حتى يدفعوا إليهم محمدا صلى الله عليه وسلم فيقتلوه، فاجتمعوا في دار شيبة بن عثمان صاحب الكعبة، وكان هو أشد الناس على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو طالب: * والله لن يصلوا إليك بجمعهم * حتى أغيب في التراب دفينا * * فانفذ لأمرك ما عليك غضاضة * أبشر وقر بذاك منك عونا * * ودعوتني وزعمت أنك ناصحي * فلقد صدقت وكنت قدما أمينا * * وعرضت دينا قد علمت بأنه * من خير أديان البرية دينا * * لولا الدمامة أو أخادن سبة * لوجدتني سمحا بذاك مبينا * فأنزل الله في أبي طالب، واسمه: عبد مناف بن شيبة، وهو عبد المطلب: * (وهم ينهون عنه وينئون عنه) *، كان ينهى قريش عن أذى النبي صلى الله عليه وسلم، ويتباعد هو عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يتبعه على دينه، * (وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون) * [آية: 26]، يعني أبا طالب. * (ولو ترى) * يا محمد * (إذ وقفوا على النار) *، يعني كفار قريش هؤلاء الرؤساء تمنوا، * (فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا) *، يعني القرآن بأنه من الله، * (ونكون من المؤمنين) * [آية: 27]، يعني المصدقين بالقرآن في قولهم: * (بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل) *، وذلك أنهم حين قالوا: * (والله ربنا ما كنا مشركين) *، أوحى الله إلى الجوارح، فشهدت عليهم بما كتموا من الشرك، فذلك قوله: * (بل بدا لهم) *، يعني ظهر لهم من الجوارح * (ما كانوا يخفون من قبل) * بألسنتهم من قبل أن تنطق الجوارح بالشرك، فتمنوا عند ذلك الرجعة إلى الدنيا، * (فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا) * إلى آخر الآية، فأخبر الله عنهم، فقال: * (ولو ردوا) * إلى الدنيا كما تمنوا
342 وعمروا فيها، * (لعادوا لما) *، يعني لرجعوا لما * (نهوا عنه) * من الشرك والتكذيب، * (وإنهم لكاذبون) * [آية: 28] في قولهم حين قالوا: * (ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين) *، بالقرآن. لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم كفار مكة بالبعث كذبوه، * (وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين) * [آية: 29]، بعد الموت، فأخبر الله بمنزلتهم في الآخرة، فقال: * (ولو ترى) * يا محمد * (إذ وقفوا) *، يعني عرضوا * (على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا) * إنه الحق، * (قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) * [آية: 30] بالعذاب بأنه غير كائن، نظيرها في الأحقاف. تفسير سورة الأنعام آية [31 - 35] * (قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله) *، يعني بالبعث، * (حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة) *، يعني يوم القيامة بغتة، يعني فجأة، * (قالوا يا حسرتنا) *، يعني كفار قريش، * (على ما فرطنا فيها) *، يقولون: يا ندامتنا على ما ضيعنا في الدنيا من ذكر الله، ثم قال: * (وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون) * [آية: 31]، وذلك أن الكافر إذا بعث في الآخرة، أتاه عمله الخبيث في صورة حبشي، أشوه، منتن الريح، كريه المنظر، فيقول له الكافر: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الخبيث، قد كنت أحملك في الدنيا بالشهوات واللذات، فاحملني اليوم، فيقول: وكيف أطيق حملك؟ فيقول: كما حملتك، فيركب ظهره، فذلك قوله: * (وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون) *، يعني ألا بئس ما يحملون. * (وما الحياة الدنيا إلا لعب) *، يعني إلا باطل، * (ولهو) * يكون في الدنيا،
343 * (وللدار الآخرة خير) *، يثنى على الجنة، يقول: ولدار الجنة أفضل من الدنيا، * (للذين يتقون) * الشرك، * (أفلا) *، يعني فهلا * (تعقلون) * [آية: 32] أن الدار الآخرة أفضل من الدنيا؛ لأنها بعد دار الدنيا، وإنما سميت الدنيا؛ لأنها أدنى إلينا من دار الآخرة. * (قد نعلم إنه يحزنك الذي يقولون) *، نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف بن قصي، كان الحارث يكذب النبي صلى الله عليه وسلم في العلانية، فإذا خلا مع أهل ثقته، قال: ما محمد من أهل الكذب، وإني لأحسبه صادقا، وكان إذا لقى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: إنا لنعلم أن هذا الذي تقول حق، وإنه لا يمنعنا أن نتبع الهدى معك إلا مخافة أن يتخطفنا الناس، يعني العرب، من أرضنا إن خرجنا، فإنما نحن أكلة رأس، ولا طاقة لنا بهم، نظيرها في القصص: * (وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا) * [القصص: 57]، فأنزل الله: * (قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون) * في العلانية بأنك كذاب مفتر، * (فإنهم لا يكذبونك) * في السر بما تقول بأنك نبي رسول، بل يعلمون أنك صادق، وقد جربوا منك الصدق فيما مضى، * (ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) * [آية: 33]، يعني بالقرآن بعد المعرفة. * (ولقد كذبت رسل من قبلك) *، وذلك قبل كفار مكة؛ لأن كفار مكة، قالوا: يا محمد، ما يمنعك أن تأتينا بآية كما كانت الأنبياء تجئ بها إلى قومهم، فإن فعلت صدقناك، وإلا فأنت كاذب، فأنزل الله يعز نبيه صلى الله عليه وسلم ليصبر على تكذيبهم إياه، وأن يقتدى بالرسل قبله: * (ولقد كذبت رسل من قبلك) * * (فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا) * في هلاك قومهم، وأهل مكة بمنزلتهم، فذلك قوله: * (ولا مبدل لكلمات الله) *، يعني لا تبديل لقول الله بأنه ناصر محمد صلى الله عليه وسلم، ألا وقوله حق كما نصر الأنبياء قبله، * (ولقد جاءك من نبإي) *، يعني من حديث * (المرسلين) * [آية: 34] حين كذبوا وأوذوا ثم نصروا. * (وإن كان كبر عليك) *، يعني ثقل عليك * (إعراضهم) * عن الهدى، ولم تصبر على تكذيبهم إياك، * (فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض) *، يعني سربا، * (أو سلما في السماء) *، أي فإن لم تستطع فأت بسلم ترقى فيه إلى السماء، * (فتأتيهم بآية) * فافعل إن استطعت، ثم عزى نبيه صلى الله عليه وسلم ليصبر على تكذيبهم، فقال: * (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين) * [آية: 35]، فإن الله لو شاء لجعلهم مهتدين.
344 تفسير سورة الأنعام آية [36 - 42] ثم ذكر إيمان المؤمنين، فقال: * (إنما يستجيب الذين يسمعون) * الهدى، يعني القرآن، ثم قال: * (والموتى يبعثهم الله) *، يعني كفار مكة يبعثهم الله في الآخرة، * (ثم إليه يرجعون) * [آية: 36]، يعني يردون فيجزيهم. * (وقالوا لولا) *، يعني هلا * (نزل عليه) * محمد كما أنزل على الأنبياء * (آية من ربه) * للكفار، * (قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون) * [آية: 37] بأن الله قادر على أن ينزلها. * (وما من دابة في الأرض) *، ولا في بر، ولا في بحر، * (ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم) *، يعني خلقا أصنافا مصنفة تعرف بأسمائهم، * (ما فرطنا في الكتاب) *، يعني ما ضيعنا في اللوح المحفوظ، * (من شيء ثم إلى ربهم يحشرون) * [آية: 38] في الآخرة، ثم يصيرون من بعد ما يقتص بعضهم من بعض ترابا، يقال لهم: كونوا ترابا. * (والذين كذبوا بآياتنا) *، يعني القرآن، * (صم) * لا يسمعون الهدى، * (وبكم) * لا يتكلمون به، * (في الظلمات) *، يعني الشرك، * (من يشأ الله يضلله) * عن الهدى، نزلت في بني عبد الدار بن قصي، * (ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم) * [آية: 39]، يعني على دين الإسلام، منهم: علي بن أبي طالب، والعباس، وحمزة، وجعفر. ثم خوفهم، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: * (قل أرءيتكم إن أتاكم عذاب الله) * في الدنيا كما أتى الأمم الخالية، * (أو أتتكم الساعة) *، ثم رجع إلى عذاب الدنيا، فقال: * (أغير الله) * من الآلهة * (تدعون) * أن يكشف عنكم العذاب في الدنيا، * (إن كنتم صادقين) * [آية: 40] بأنه معه آلهة. ثم رجع إلى نفسه، فقال: * (بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون) *،
345 يعني وتتركون * (ما تشركون) * [آية: 41] بالله من الآلهة، فلا تدعونهم أن يكشفوا عنكم ولكنكم تدعون الله، * (ولقد أرسلنا) * الرسل * (إلى أمم من قبلك) *، فكذب بهم قومهم كما كذب بك كفار مكة، * (فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم) * لكي * (يتضرعون) * [آية: 42 إلى ربهم فيتوبون إليه. تفسير سورة الأنعام آية [43 - 45] يقول: * (فلولا إذ جاءهم بأسنا) *، يعني الشدة والبلاء، * (تضرعوا) * إلى الله وتابوا إليه لكشف ما نزل بهم من البلاء، * (ولكن قست) *، يعني جفت * (قلوبهم) *، فلم تلن، * (وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون) * [آية: 43] من الشرك والتكذيب، * (فلما نسوا ما ذكروا به) *، يعني فلما تركوا ما أمروا به، يعني وعظوا به، يعني الأمم الخالية مما دعاهم الرسل فكذبوهم، ف * (فتحنا عليهم) *، يعني أرسلنا عليهم * (أبواب كل شيء) *، يعني أنواع الخير من كل شيء بعد الضر الذي كان نزل بهم، نظيرها في الأعراف، * (حتى إذا فرحوا بما أوتوا) *، يعني بما أعطوا من أنواع الخير وأعجبهم ما هم فيه، * (أخذناهم بغتة) *، يعني أصبناهم بالعذاب بغتة، يعني فجأة أعز ما كانوا، * (فإذا هم مبلسون) * [آية: 44]، يعني فإذا هم مرتهنون آيسون من كل خير. * (فقطع دابر القوم) *، يعني أصل القوم، * (الذين ظلموا) *، يعني أشركوا، فلم يبق منهم أحد، * (والحمد لله رب العالمين) * [آية: 45]، في هلاك أعدائه، يخوف كفار مكة. تفسير سورة الأنعام آية [46 - 48] * (قل) * لكفار مكة يا محمد: * (أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم) *، فلم تسمعوا شيئا، * (وختم) *، يعني وطبع * (على قلوبكم) *، فلم تعقلوا شيئا، * (من إله غير الله
346 يأتيكم به) *، يعني هل أحد يرده إليكم دون الله، * (انظر) * يا محمد * (كيف نصرف الآيات) *، يعني العلامات في أمور شتى فيما ذكر من تخويفهم من أخذ السمع والأبصار والقلوب، وما صنع بالأمم الخالية، * (ثم هم يصدفون) * [آية: 46]، يعني يعرضون، فلا يعتبرون. ثم قال يعنيهم: * (قل أرءيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة) *، يعني فجأة لا تشعرون حتى ينزل بكم، * (أو جهرة) *، أو معاينة ترونه حين ينزل بكم القتل ببدر، * (هل يهلك) * بذلك العذاب، * (إلا القوم الظالمون) *] آية: 47]، يعني المشركون. * (وما نرسل المرسلين إلا مبشرين) * (بالجنة) * (ومنذرين) * (من النار) * (فمن آمن) *، يعني فمن صدق، * (وأصلح) * (العمل) * (فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * [آية: 48]، نظيرها في الأعراف. تفسير سورة الأنعام آية: [49 - 51] * (والذين كذبوا بآياتنا) *، يعني بالقرآن، يعني كفار مكة، * (يمسهم) *، يعني يصيبهم * (العذاب بما كانوا يفسقون) * [آية: 49]، يعني يعصون، فلما خوفهم النبي صلى الله عليه وسلم بالعذاب، سألوه العذاب استهزاء وتكذيبا: إلى متى يكون هذا العذاب الذي تعدنا به إن كنت من الصادقين؟ فقال الله للنبي صلى الله عليه وسلم: * (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله) *، يعني مفاتيح الله بنزول العذاب، * (ولا أعلم الغيب) *، يعني غيب نزول العذاب متى ينزل بكم، * (ولا أقول لكم إني ملك) *؛ لقولهم في حم السجدة: * (لو شاء ربنا لأنزل ملائكة) * [فصلت: 14] رسلا فتؤمن بهم، فأما أنت يا محمد، فلا نصدقك فيما تقول، * (إن أتبع) *، يقول: ما أتبع، * (إلا ما يوحى إلي) * (من القرآن) * (قل هل يستوي الأعمى) * بالهدى فلا يبصره، وهو الكافر، * (والبصير) * بالهدى، وهو المؤمن، * (أفلا) *، يعني فهلا * (تتفكرون) * [آية: 50] فتعلمون أنهما لا يستويان. ثم قال: * (وأنذر به) *، يعني بالقرآن، * (الذين يخافون) *، يعني يعلمون، * (أن يحشروا إلى ربهم) *، يعني الموالى وفقراء العرب، ويعلمون أنه * (ليس لهم من دونه) *،
347 يعني من دون الله * (ولي) *، يعني قريب ينفعهم، * (ولا شفيع) * في الآخرة يشفع لهم إن عصوا الله، * (لعلهم) *، يعني لكي * (يتقون) * [آية: 51] المعاصي، نزلت في الموالي عمارة، وأبي ذر الغفاري، وسالم، ومهجع، والنمر بن قاسط، وعامر بن فهيرة، وابن مسعود، وأبي هريرة، ونحوهم، وذلك أن أبا جهل وأصحابه، قالوا: انظروا إلى هؤلاء الذين اتبعوا محمدا من موالينا وأعرابنا رذالة كل حي وسفلتهم، يعنون الموالى، ولو كان لا يقبل إلا سادات الحي وسراة الموالي تابعناه، وذكروا ذلك لأبي طالب، فقالوا: قل لابن أخيك أن يطرد هؤلاء الغرباء والسفلة، حتى يجيبه سادات قومه وأشرافهم. تفسير سورة الأنعام آية [52 - 55] قال أبو طالب للنبي صلى الله عليه وسلم: لو طردت هؤلاء عنك، لعل سراة قومك يتبعونك، فأنزل الله: * (ولا تطرد الذين يدعون ربهم) *، يعني الصلاة له، * (بالغداوة والعشي) * طرفي النهار، * (يريدون وجهه) *، يعني يبتغون بصلاتهم وجه ربهم، * (ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين) * [آية: 52]، قال: وكانت الصلاة يومئذ ركعتين بالغداة وركعتين بالعشى، ثم فرضت الصلوات الخمس بعد ذلك. * (وكذلك فتنا بعضهم ببعض) *، يقول: هكذا ابتلينا فقراء المسلمين من العرب والموالي بالعرب من المشركين: أبي جهل، والوليد، وعتبة، وأمية، وسهل بن عمرو، ونحوهم، * (ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم) *، يعني أنعم الله عليهم بالإسلام، * (من بيننا) *، يقول الله: * (أليس الله بأعلم بالشاكرين) * [آية: 53]، يعني بالموحدين منكم من غيره، وفيهم نزلت في الفرقان: * (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة) * [الفرقان: 20]، إلى آخر الآية
348 ثم قال يعنيهم: * (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا) *، يعني يصدقون بالقرآن أنه من الله، * (فقل سلام عليكم) *، يقول: مغفرة الله عليكم، كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رآهم بدأهم بالسلام، وقال: ' الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرت أن أصبر معهم وأسلم عليهم '، وقال: * (كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده) *، نزلت في عمر بن الخطاب، تاب من بعد السوء، يعني الشرك، * (وأصلح) * العمل، * (فإنه غفور رحيم) * [آية: 54]. * (وكذلك نفصل الآيات) *، يعني نبين الآيات، يعني هكذا نبين أمر الدين، * (ولتستبين) *، يعني وليتبين لكم * (سبيل المجرمين) * [آية: 55]، يعني طريق الكافرين من المؤمنين حتى يعرفهم، يعني هؤلاء النفر أبا جهل وأصحابه. تفسير سورة الأنعام آية [56 - 58] * (قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله) * من الآلهة، * (قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين) * [آية: 56] إن اتبعت أهواءكم، وذلك حين دعى إلى دين آبائه. قوله: * (قل إني على بينة من ربي) *، يعني بيان من ربي بما أمرني من عبادته وترك عبادة الأصنام، حين قالوا له: ائتنا بالعذاب إن كنت من الصادقين، * (وكذبتم به) *، يعني بالعذاب، فقال لهم، عليه السلام: * (ما عندي ما تستعجلون به) * من العذاب، يعني كفار مكة، * (إن الحكم إلا لله) *، يعني ما القضاء إلا الله في نزول العذاب بكم في الدنيا، * (يقص الحق) *، يعني يقول الحق، ومن قرأها: ' يقضي الحق '، يعني يأتي بالعذاب ولا يؤخره إذا جاء، * (وهو خير الفاصلين) * آية: 57] بيني وبينكم، يعني خير الحاكمين في نزول العذاب بهم. * (قل) * لهم * (لو أن عندي) *، يعني بيدي، * (ما تستعجلون به) * من العذاب، * (لقضي الأمر) *، يعني أمر العذاب، * (بيني وبينكم) *، وليس ذلك بيدي، * (والله أعلم بالظالمين) * [آية:
349 تفسير سورة الأنعام آية [59 - 62] * (وعنده مفاتح الغيب) *، يعني وعند الله خزائن العذاب، متى ينزله بكم، * (لا يعلمها) * أحد * (إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة) * من شجرة، * (إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض) * كلها، * (ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) * [آية: 59]، يقول: هو بين في اللوح المحفوظ. * (وهو الذي يتوفاكم باليل) *، يعني يميتكم بالليل، * (ويعلم ما جرحتم بالنهار) *، يعني ما كسبتم من خير أو شر بالنهار، * (ثم يبعثكم فيه) *، يقول: يبعثكم من منامكم بالنهار، * (ليقضى أجل مسمى) *، يعني منتهيا إليه، * (ثم إليه مرجعكم) * في الآخرة، * (ثم ينبئكم بما كنتم تعملون) * [آية: 60] في الدنيا من خير أو شر، هذا وعيد. قوله: * (وهو القاهر) * لخلقه، * (فوق عباده) *، قد علاهم، * (ويرسل عليكم حفظة) * من الملائكة، يعني الكرام الكاتبين يحفظون أعمال بني آدم، * (حتى إذا جاء أحدكم الموت) * عند منتهى الأجل، * (توفته رسلنا) *، يعني ملك الموت وحده، عليه السلام، * (وهم لا يفرطون) * [آية: 61]، يعني لا يضيعون ما أمروا به، يعني ملك الموت وحده. ثم قال: * (ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق) *، ثم ردوا من الموت إلى الله في الآخرة، فيها تقديم، * (ألا له الحكم) *، يعني القضاء، * (وهو أسرع الحاسبين) * [آية: 62]،
350 يقول: هو أسرع حسابا من غيره، وذلك قوله: * (وكفى بنا حاسبين) * [الأنبياء: 47]. تفسير سورة الأنعام آية [63 - 67] * (قل) * يا محمد لكفار مكة: * (من ينجيكم من ظلمات البر والبحر) *، يعني الظلل والظلمة والموج، * (تدعونه تضرعا) * يعني مستكينين، * (وخفية) *، يعني في خفض وسكون، * (لئن أنجانا من هذه) * الأهوال، * (لنكونن من الشاكرين) * [آية: 63] لله في هذه النعم، فيوحدوه، * (قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب) *، يعني من أهوال كل كرب، يعني من كل شدة، * (ثم أنتم تشركون) * [آية: 64] في الرخاء. * (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم) *، يعني الحصب بالحجارة كما فعل بقوم لوط، فلا يبقى منكم أحد، * (أو من تحت أرجلكم) *، يعني الخسف كما فعل بقارون ومن معه، ثم قال: * (أو يلبسكم شيعا) *، يعني فرقا أحزابا أهواء مختلفة كفعله بالأمم الخالية، * (ويذيق بعضكم بأس بعض) *، يقول: يقتل بعضكم بعضا، فلا يبقى منكم أحد إلا قليل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يجر رداءه، وذلك بالليل، وهو يقول: ' لئن أرسل الله على أمتي عذابا من فوقهم ليهلكنهم، أو من تحت أرجلهم، فلا يبقى منهم أحد '، فقام صلى الله عليه وسلم فصلى ودعا ربه أن يكشف ذلك عنهم، فأعطاه الله اثنتين الحصب والخسف، كشفهما عن أمته، ومنعه اثنتين الفرقة والقتل، فقال: ' أعوذ بعفوك من عقابك، وأعوذ بمعافاتك من غضبك، وأعوذ بك منك، جل وجهك، لا أبلغ مدحتك والثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك '. قال: فجاءه جبريل، عليه السلام، فقال: إن الله قد استجاب لك وكشف عن أمتك اثنتين ومنعوا اثنتين، * (انظر) * يا محمد * (كيف نصرف الآيات) *، يعني العلامات في أمور شتى من ألوان العذاب، * (لعلهم) *، يقول: لكي، * (يفقهون) * [آية: 65] عن
351 الله فيخافوه ويوحدوه، * (وكذب به) * بالقرآن * (قومك) * خاصة، * (وهو الحق) * جاء من الله، * (قل لست عليكم بوكيل) * [آية: 66]، يقول بمسيطر، نسختها آية السيف، * (لكل نبإ مستقر) *، يقول: لكل حديث حقيقة ومنتهى، يعني العذاب منه في الدنيا، وهو القتل ببدر، ومنه في الآخرة نار جهنم، وذلك قوله: * (وسوف تعلمون) * [آية: 67]، أو عدهم العذاب، مثلها في اقتربت. تفسير سورة الأنعام آية [68 - 70] * (وإذا رأيت) *، يعني سمعت يا محمد، * (الذين يخوضون في آياتنا) *، يعني يستهزءون بالقرآن، وقالوا ما لا يصح، قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: * (فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره) *، يعني فقم عنهم لا تجالسهم حتى يكون حديثهم في غير أمر الله وذكره، * (وإما ينسينك الشيطان) *، يقول: فإن أنساك الشيطان فجالستهم بعد النهى، * (فلا تقعد بعد الذكرى) *، يقول: إذا ذكرت فلا تقعد، * (مع القوم الظالمين) * [آية: 68]، يعني المشركين. فقال المؤمنين عند ذلك: لو قمنا عنهم إذا خاضوا واستهزءوا، فإنا نخشى الإثم في مجالستهم، يعني حين لا نغير عليهم، فأنزل الله: * (وما على الذين يتقون) *، يعني يوحدون الرب، * (من حسابهم من شيء) *، يعني من مجازاة عقوبة خوضهم، واستهزائهم من شيء، ثم قال: * (ولكن ذكرى لعلهم يتقون) * [آية: 69] إذا قمتم عنهم منعهم من الخوض والاستهزاء الحياء منكم والرغبة في مجالستكم، فيذكرون قيامكم عنهم، ويتركون الخوض والاستهزاء، ثم نسختها الآية التي في النساء: * (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره) * [النساء: 140] الآية.
352 * (وذر الذين اتخذوا دينهم) * الإسلام * (لعبا) *، يعني باطلا، * (ولهوا) *، يعني لهوا عنه، * (وغرتهم الحياة الدنيا) *، عن دينهم الإسلام، * (وذكر به) *، يعني وعظ بالقرآن، * (أن تبسل نفس) *، يعني لئلا تبسل نفس، * (بما كسبت) *، يعني بم عملت من الشرك والتكذيب، فترتهن بعملها في النار، ليس لها من دون الله ولي، يعني قريبا ينفعهم، * (ولا شفيع) * في الآخرة يشفع لهم، * (وإن تعدل) *، يعني فتفتدى هذه النفس المرتهنة بعملها، * (كل عدل) *، فتعطى كل فداء ملء الأرض ذهبا، * (لا يؤخذ منها) *، يعني لا يقبل منها، * (أولئك) * يعنيهم، * (الذين أبسلوا) *، يعني حبسوا في النار، * (بما كسبوا لهم شراب من حميم) *، يعني النار التي قد انتهى حرها، * (وعذاب أليم) *، يعني وجيع، * (بما كانوا يكفرون) * [آية: 70]. تفسير سورة الأنعام آية 71 * (قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا) *، وذلك أن كفار مكة عذبوا نفرا من المسلمين على الإسلام، وأرادوهم على الكفر، يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: * (قل أتعبدون من دون الله) * من آلهة، يعني الأوثان، * (ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا) * [المائدة: 76] في الآخرة، ولا يملك لنا ضرا في الدنيا، * (ونرد على أعقابنا) *، يعني ونرجع إلى الشرك، * (بعد إذ هدانا الله) * إلى دينه الإسلام، فهذا قول المسلمين للكفار حين قالوا لهم: اتركوا دين محمد صلى الله عليه وسلم واتبعوا ديننا، يقول الله للمؤمنين: ردوا عليهم: فإن مثلنا إن اتبعناكم وتركنا ديننا، كان مثلنا * (كالذي استهوته الشياطين) * وأصحابه على الطريق يدعونه إلى الهدى: إن ائتنا، فإنا على الطريق، فأبى ذلك الرجل أن يأتيهم، فذلك مثلنا لأن تركنا دين محمد صلى الله عليه وسلم، ونحن على طريق الإسلام، وأما الذي استهوته الشياطين، يعني أضلته، * (في الأرض حيران) *، لا يدري أين يتوجه، فإنه عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، أضلته الشياطين عن الهدى، فهو حيران، * (له أصحاب) * مهتدون، * (يدعونه إلى الهدى) *، يعني أبويه، قالا له: * (ائتنا) *، فإنا على الهدى، وفيه نزلت، والذي قال لوالديه: * (أف لكم) * [الأنبياء: 67]، فذلك قوله: * (قل إن هدى الله هو الهدى) *، يعني الإسلام هو الهدى، والضلال الذي تدعونا الشياطين إليه هو الذي أنتم عليه، قل لهم: * (وأمرنا لنسلم) *، يعني لنخلص، * (لرب العالمين) * [آية: 71]، فقد فعلنا
353 تفسير سورة الأنعام آية 72] ثم أمرهم بالعمل، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: * (وأن أقيموا الصلاة) * لمواقيتها، يخبرهم أنه لا تنفعهم الصلاة إلى مع الإخلاص، * (واتقوه) *، يعني وحدوه، * (وهو الذي إليه تحشرون) * [آية: 72] . تفسير سورة الأنعام آية [73 - 81] ثم خوفهم، فقال: * (وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق) *، يعني بأنه لم يخلقهما باطلا لغير شئ، ولكن خلقهما لأمر هو كائن، * (ويوم يقول) * الله للبعث مرة واحدة: * (كن فيكون) *، لا يثنى الرب القول مرتين، * (قوله) * في البعث * (الحق) *، يعني الصدق، وأنه كائن، * (وله الملك يوم ينفخ) *، أي ينفخ إسرافيل، * (في الصور عالم الغيب) *، يعلم غيب ما كان وما يكون، ثم قال: * (والشهادة) *، يعني شاهد كل نجوى وكل شيء، * (وهو الحكيم) *، يعني حكم البعث، * (الخبير) * [آية: 73] بالبعث متى يبعثهم. * (وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر) *، اسمه بكلام قومه: تارح: * (أتتخذ أصناما
354 آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين) * [آية: 74]، وولد إبراهيم بكوتي، وذلك أن الكهنة قالوا لنمروذ الجبار: إنه يولد في هذه السنة غلام يفسد آلهة أهل الأرض، ويدعو إلى غير آلهتكم، ويكون هلاك ملكك وهلاك أهل بيتك بسببه، فقال نمروذ: إن دواء هذا لهين، نعزل الرجال عن النساء، ونعمد إلى كل غلام يولد في هذه السنة فنقتله إلى أن تنقضي السنة، فقالوا: إن فعلت ذلك، وإلا كان الذي قلنا لك. فعمد نمروذ، فجعل على كل عشرة رجال رجلا، وقال لهم: إذا طهرت المرأة فحولوا بينها وبين زوجها إلى أن تحيض، ثم يرجع إلى امرأته إلى أن تطهر، ثم يحال بينهما، فرجع آزر إلى امرأته، فجامعها على طهر فحملت، قالت الكهنة: قد حمل به الليلة، قال نمروذ: انظروا إلى كل امرأة استبان حملها، فخلوا سبيلها، وانظروا بقيتهن، فلما دنا مخاض أم إبراهيم، عليه السلام، دنت إلى نهر يابس، فولدت فيه، ثم لفته في خرقة، فوضعته في حلفا، ثم رجعت إلى بيتها، فأخبرت زوجها بمكانه، فعمد أبوه فحفر له سربا في الأرض، ثم جعله فيه وسد عليه بصخرة مخافة السباع، فكانت أمه تختلف إليه وترضعه حتى فطمته وعقل، وكان ينبت في اليوم نبات شهر، وفي الشهر نبات سنة، وفي السنة نبات سنتين، فقال لأمه: من ربي؟ قالت: أنا، قال: من ربك؟ قالت: أبوك، قال: فمن رب أبي؟ فضربته، وقالت له: اسكت فسكت الصبي. ورجعت إلى زوجها، فقالت: أرأيت الغلام الذي كنا نخبر أنه يغير دين أهل الأرض؟ فهو ابنك، وأخبرته الخبر، فأتاه أبوه وهو في السرب، فقال: يا أبت، من ربي؟ قال: أمك، قال: فمن رب أمي؟ قال: أنا، قال: فمن ربك؟ فضربه، وقال له: اسكت، * (وكذلك) *، يعني هكذا، * (نرى إبراهيم ملكوت) *، يعني خلق * (السماوات والأرض) *، وما بينهما من الآيات، * (وليكون) * (إبراهيم) * (من الموقنين) * [آية: 75] بالرب أنه واحد لا شريك له. وذلك أن إبراهيم سأل ربه أن يريه ملكوت السماوات والأرض، فأمر الله جبريل، عليه السلام، فرفعه إلى الملكوت ينظر إلى أعمال العباد، فرأى رجلا على معصية، فقال: يا رب، ما أقبح ما يأتي هذا العبد، اللهم اخسف به، ورأى آخر فأعاد الكلام، قال: فأمر الله جبريل، عليه السلام، أن يرده إلى الأرض، فأوحى الله إليه: مهلا يا إبراهيم، فلا
355 تدع على عبادي، فإني من عبادي على إحدى خصلتين: إما أن يتوب إلى قبل موته فأتوب عليه، وإما أن يموت فيدع خلفا صالحا فيستغفر لأبيه فأغفر لهما بدعائه. * (فلما جن عليه اليل) *، دنا من باب السرب، وذلك في آخر الشهر، فرأى الزهرة أول الليل من خلال السرب ومن وراء الصخرة، والزهرة أحسن الكواكب، * (رءا كوكبا قال هذا ربي فلما أفل) *، يعني غاب، * (قال) * إبراهيم: * (لا أحب الآفلين) * [آية: 76]، يعني الغائبين الذاهبين، وربى لا يذهب ولا يغيب. * (فلما) * كان آخر الليل، * (رءا القمر بازغا) *، يعني طالعا أعظم وأضوأ من الكواكب، * (قال هذا ربي) *، وهو ينظر إليه، * (فلما أفل) *، يعني غاب، * (قال لئن لم يهدني ربي) * لدينه * (لأكونن من القوم الضالين) * [آية: 77] عن الهدى. * (فلما رءا الشمس بازغة) *، يعني طالعة في أول ما رآها ملأت كل شيء ضوءا، * (قال هذا ربي هذا أكبر) *، يعني أعظم من الزهرة والقمر، * (فلما أفلت) *، يعني غابت، عرف أن الذي خلق هذه الأشياء دائم باق، ورفع الصخرة، ثم خرج فرأى قومه يعبدون الأصنام، فقال لهم: ما تعبدون؟ قالوا: نعبد ما ترى، * (قال يا قوم) *، عبادة رب واحد خير من عبادة أرباب كثيرة، و * (إني بريء مما تشركون) * [آية: 78] بالله من الآلهة، قالوا: فمن تعبد يا إبراهيم؟ قال: أعبد الله الذي خلق السماوات والأرض حنيفا، يعني مخلصا لعبادته، وما أنا من المشركين، وذلك قوله: * (إني وجهت وجهي) *، يعني ديني * (للذي فطر السماوات والأرض حنيفا) *، يعني مخلصا، * (وما أنا من المشركين) * [آية: 79]. ثم إن نمروذ بن كنعان الجبار خاصم إبراهيم، فقال: من ربك؟ قال إبراهيم: ربى الذي يحيى ويميت، وهو قوله: * (وحاجه قومه) *، فعمد نمروذ إلى إنسان فقتله، وجاء بآخر فتركه، فقال: أنا أحييت هذا وأمت ذلك، قال إبراهيم: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق، فأت بها من المغرب، فبهت الذي كفر، يعني نمروذ، قوله: * (وحاجه قومه) *، وذلك أنهم لما سمعوا إبراهيم، عليه السلام، عاب آلهتهم وبرئ منها، قالوا لإبراهيم: إن لم تؤمن بآلهتنا، فإنا نخاف أن تخبلك وتفسدك فتهلك، فذلك قوله: * (وحاجه قومه) *، يعني وخاصمه قومه، * (قال أتحاجوني في الله وقد هدان) * لدينه، * (ولا أخاف ما تشركون به) *، يعني بالله من الآلهة، وهي لا تسمع ولا تبصر شيئا، ولا تفع ولا تضر،
356 وتنحتونها بأيديكم، * (إلا أن يشاء ربي شيئا) *، فيضلني عن الهدى، فأخاف آلهتكم أن تصيبني بسوء، * (وسع) *، يعني ملأ * (ربي كل شيء علما) *، فعلمه، * (أفلا)، يعني فهلا * (تتذكرون) * [آية: 80] فتعتبرون. ثم قال لهم * (وكيف أخاف ما أشركتم) * بالله من الآلهة * (ولا تخافون) * (أنتم ب) * (أنكم أشركتم بالله) * (غيره) * (ما لم ينزل به عليكم سلطانا) *، يعني كتابا فيه حجتكم بأن معه شريكا، ثم قال لهم * (فأي الفريقين أحق بالأمن) *، أنا أو أنتم؟ * (إن كنتم تعلمون) * [آية: 81] من عبد إلها واحدا أحق بالأمن أم من عبد أربابا شتى، يعنى آلهة صغارا وكبارا، ذكورا وإناثا، فكيف لا يخاف من الكبير إذا سوى بالصغير؟ وكيف لا يخاف من الذكر إذا سوى بالأنثى؟ أخبروني أي الفريقين أحق بالأمن من الشر إن كنتم تعلمون. تفسير سورة الأنعام من آية [82 - 90]. فرد عليه قومه، فقال: * (الذين ءامنوا) * برب واحد، * (ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) *، يعني ولم خلطوا تصديقهم بشرك، فلم يعبدوا غيره، * (أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) * [آية: 82] من الضلالة، فأقروا بقول إبراهيم، وفلح عليهم، فذلك قوله: * (وتلك حجتنا ءاتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم) * في أمره * (عليم) * [آية: 83] بخلقه.
357 ثم قال: * (ووهبنا له) *، يعني إبراهيم، * (إسحاق ويعقوب كلا هدينا) * للإيمان، * (ونوحا هدينا) * إلى الإسلام * (من قبل) * إبراهيم، * (ومن ذريته) *، يعني من ذرية نوح، * (داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك) *، يعني هكذا، * (نجزي المحسنين) * [آية: 84]، يعني هؤلاء الذين ذكرهم الله، * (وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين) * [آية: 85]، * (وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا) * بالنبوة من الجن والإنس * (على العالمين) * [آية: 86]. * (ومن ءابائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم) *، يعني واستخلصناهم بالنبوة، * (وهديناهم إلى صراط مستقيم) * [آية: 87]، يعني الإسلام، * (ذلك هدى الله يهدي به من يشاء) *، يعني ثمانية عشر نبيا، * (من عباده) *، فيعطيه النبوة، * (ولو أشركوا) * بالله، * (لحبط عنهم ما كانوا يعملون) * [آية: 88]. ثم ذكر ما أعطى النبيين، فقال: * (أولئك الذين آتيناهم الكتاب) *، يعني أعطيناهم الكتاب، يعني كتاب إبراهيم، والتوراة، والزبور، والإنجيل، * (والحكم) *، يعني العلم والفهم، * (والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء) * من أهل مكة بما أعطى الله النبيين من الكتب، * (فقد وكلنا بها) *، يعني بالكتب، * (قوما ليسوا بها بكافرين) * [آية: 89]، يعني أهل المدينة من الأنصار. ثم ذكر النبيين الثمانية عشر، فقال: * (أولئك الذين هدى الله) * لدينه، * (فبهداهم اقتده) *، يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: فبسنتهم اقتد، * (قل لا أسئلكم عليه) *، يعني على الإيمان بالقرآن، * (أجرا) *، يعني جميلا، * (ان هو) *، يعني ما القرآن * (إلا ذكرى) *، يعني تذكرة * (للعالمين) * [آية: 90]. تفسير سورة الأنعام من آية [91 - 94]
358 * (وما قدروا الله حق قدره) *، يعني ما عظموا الله حق عظمته، * (إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء) *، يقول: على رسول من كتاب، فما عظموه حين كذبوا بأنه لم ينزل كتابا على الرسل، نزلت في مالك بن الضيف اليهودي حين خاصمه عمر بن الخطاب في النبي صلى الله عليه وسلم أنه مكتوب في التوراة، فغضب مالك، فقال: ما أنزل الله على أحد كتابا ربانيا في اليهود، فعزلته اليهود عن الربانية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: * (قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا) *، يعني ضياء من الظلمة، * (وهدى للناس) * من الضلالة، * (تجعلونه قراطيس) *، يعني صحفا ليس فيها شيء، * (تبدونها) * تعلنونها، * (وتخفون) *، يعني وتسرون، * (كثيرا) *، فكان مما أخفوا أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وأمر الرجم في التوراة، * (وعلمتم) * في التوراة * (ما لم تعلموا أنتم ولا) * ولم يعلمه * (آباؤكم) *، ثم قال في التقديم: * (قل الله) * أنزل على موسى، عليه السلام، * (ثم ذرهم) *، يعني خل عنهم إن لم يصدقوك، * (في خوضهم يلعبون) * [آية: 91]، في باطلهم يلهون، يعني اليهود، نزلت هذه الآية بالمدينة، ثم إن مالك بن الضيف تاب من قوله، فلم يقبلوا منه، وجعلوا مكانه رجلا في الربانية. * (وهذا كتاب أنزلناه) * على محمد صلى الله عليه وسلم، * (مبارك) * لمن عمل به، وهو * (مصدق الذي بين يديه) *، يقول: يصدق لما قبله من الكتب التي أنزلها الله عز وجل على الأنبياء، * (ولتنذر أم القرى) *، يعني لكي تنذر بالقرآن أصل القرى، يعني مكة؛ وإنما سميت أم القرى؛ لأن الأرض كلها دحيت من تحت الكعبة، * (و) * تنذر بالقرآن * (ومن حولها) *، يعني حول الكعبة، يعني قرى الأرض كلها، * (والذين يؤمنون بالآخرة) *، يعني يصدقون بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال، * (يؤمنون به) *، يعني يصدقون بالقرآن أنه جاء من الله عز وجل، ثم نعتهم، فقال: * (وهم على صلاتهم يحافظون) * [آية: 92] عليها في مواقيتها لا يتركونها. * (ومن أظلم) *، هذه الآية مدنية، فلا أحد أظلم * (ممن افترى على الله كذبا أو قال
359 أوحى إلي ولم يوحى إليه شيء) *، نزلت في مسيلمة بن حبيب الكذاب الحنفي، حيث زعم أن الله أوحى إليه النبوة، وكان مسيلمة أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم رسولين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهما: ' أتشهدان أن مسيلمة نبي؟ '، قال: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ' لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما '، ثم قال: * (ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله) *، فلا أحد أيضا أظلم منه، نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح القرشي، من بني عامر بن لؤي، وكان أخا عثمان بن عفان من الرضاعة، كان يتكلم بالإسلام، وكتب للنبي صلى الله عليه وسلم يوما سورة النساء، فإذا أملى عليه النبي صلى الله عليه وسلم: * (غفورا رحيما) * (كتب) * (عليما حكيما) *، وإذا أملى عليه: * (سميعا بصيرا) * (كتب) * (سميعا عليما) *، فقال لقوم من المنافقين: كتبت غير الذي أملى علي، وهو ينظر إليه فلم يغيره، فشك عبد الله بن سعد في إيمانه، فلحق بمكة كافرا، فقال لهم: لئن كان محمد صادقا فيما يقول، لقد أنزل علي كما أنزل عليه، ولئن كان كاذبا، لقد قلت كما قال، وإنما شك لسكوت النبي صلى الله عليه وسلم وهو ينظر إليه، فلم يغير ذلك، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أميا لا يكتب. ثم قال: * (ولو ترى إذ الظالمون) *، يعني مشركي مكة، * (في غمرات الموت) * يعني في سكرات الموت، إذ قتلوا ببدر، * (والملائكة باسطوا أيديهم) * عند الموت تضرب الوجوه والأدبار، يعني ملك الموت وحده، وهو يقول: * (أخرجوا أنفسكم) *، يعني أرواحكم، منهم: أبو جهل، وعتبة بن ربيعة، وشيبة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث، وأبو قيس بن الفاكه، والوليد بن المغيرة، وقريبا من سبعين قتيلا، فلما بعثوا في الآخرة، وصاروا في النار، قالت لهم خزنة جهنم: * (اليوم تجزون عذاب الهون) *، يعني الهوان بغير رأفة ولا رحمة، نظيرها في الأنفال، * (بما كنتم تقولون على الله) * (في الدنيا) * (غير الحق) * بأن معه شريكا، * (وكنتم عن آياته تستكبرون) * [آية: 93]، يعني وكنتم تتكبرون عن الإيمان بالقرآن. * (ولقد جئتمونا) * (في الآخرة) * (فرادى) *، ليس معكم من الدنيا شيء، * (كما خلقناكم أول مرة) * حين ولدوا وليس لهم شيء، * (وتركتم ما خولنكم) * (في الدنيا) * (وراء ظهوركم) *، يعني ما أعطيناكم من الخير من بعدكم في الدنيا، * (وما نرى معكم شفعاءكم) * (من الملائكة) * (الذين زعمتم) * (في الدنيا) * (أنهم فيكم شركاء) *، يعني أنهم لكم شفعاء عند الله، لقولهم في يونس: * (هؤلاء شفعاؤنا عند الله) * [يونس: 18]،
360 يعني الملائكة، ثم قال: * (لقد تقطع بينكم) * وبين شركاءكم، يعني من الملائكة من المودة والتواصل، * (وضل عنكم) * في الآخرة * (ما كنتم تزعمون) * [آية: 94] في الدنيا بأن مع الله شريكا. تفسير سورة الأنعام من آية [95 - 99] * (إن الله فالق الحب) *، يعني خالق الحب، يعني البر، والشعير، والذرة، والحبوب كلها، ثم قال: * (والنوى) *، يعني كل ثمرة لها نوى: الخوخ، والنبق، والمشمش، والعنب، والإجاص، وكل ما كان من الثمار له نوى، ثم قال: * (يخرج الحي من الميت) *، يقول أخرج الناس والدواب من النطف وهي ميتة، ويخرج الطير كلها من البيضة وهي ميتة، ثم قال: * (ومخرج الميت من الحي) *، يعني النطف والبيض من الحي، يعني الحيوانات كلها، * (ذلكم الله) * الذي ذكر في هذه الآية من صنعه وحده يدل على توحيده بصنعه، ثم قال: * (فأنى تؤفكون) * [آية: 95]، يقول: أني يكذبون بأن الله وحده لا شريك له. ثم ذكر أيضا في هذه من صنعه ليدل على توحيده بصنعه، فقال: * (فالق الإصباح) *، يعني خالق النهار من حين يبدوا أوله، * (وجعل الليل سكنا) * لخلقه يسكنون فيه لراحة أجسادهم * (و) * جعل * (والشمس والقمر حسبانا) *، يقول: جعلهما في مسيرهما كالحسبان في القلك، يقول: لتعلموا عدد السنين والحساب، وذلك أن الله قدر لهما منازلهما في السماء الدنيا، فذلك قوله: * (ذلك تقدير العزيز) * في ملكه يصنع ما أراد، * (العليم) * [آية: 96] بما قدر من خلقه، نظيرها في يونس. ثم قال: * (وهو الذي جعل لكم النجوم) * نورا، * (لتهتدوا بها) * بالكواكب ليلا،
361 يقول: لتعرفوا الطريق إذا سرتم، * (في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون) * [آية: 97] بأن الله واحد لا شريك له، ثم أخبر عن صنعه، فقال: * (وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة) *، يعني خلقكم من نفس واحدة، يعني آدم وحده، * (فمستقر) * في أرحام النساء، * (ومستودع) * في أصلاب الرجال مما لم يخلقه وهو خالقه، * (قد فصلنا الآيات) *، يعني قد بينا الآيات، * (لقوم يفقهون) * [آية: 98] عن الله عز وجل. ثم أخبر عن صنعه ليعرف توحيده، فقال: * (وهو الذي أنزل من السماء ماء) *، يعني المطر، * (فأخرجنا به) *، يعني بالمطر، * (نبات كل شيء) *، يعني الثمار والحبوب وألوان النبات، * (فأخرجنا منه خضرا) *، يعني أول النبات، * (تخرج منه) *، يعني من الماء، * (حبا متراكبا) *، يعني السنبل قد ركب بعضه بعضا، * (و) * أخرجنا بالماء * (ومن النخل من طلعها) *، يعني من ثمرها، * (قنوان) *، يعني قصار النخل، * (دانية) *، يعني ملتصقة بالأرض تجنى باليد، * (و) * أخرجنا بالماء * (وجنات) *، يعني البساتين، ثم نعت البساتين، فقال: * (من) * نخيل و * (أعناب والزيتون والرمان مشتبها) *، ورقها في المنظر يشبه ورق الزيتون وورق الرمان، ثم قال: * (وغير متشابه) * في اللون مختلف في الطعم، * (انظروا إلى ثمره إذا أثمر) * حين يبدو غضا أوله صيصا، * (وينعه إن في ذلكم) *، يعني إن في هذا الذي ذكر من صنعه وعجائبه لعبرة، * (لآيات لقوم يؤمنون) * [آية: 99]، يعني يصدقون بالتوحيد. تفسير سورة الأنعام من الآية [100 - 105]
362 * (وجعلوا) * يعني وصفوا * (لله) * الذي خلقهم في التقديم * (شركاء الجن) * من الملائكة، وذلك أن جهينة، وبني سلمة، وخزاعة وغيرهم، قالوا: إن حيا من الملائكة يقال لهم: الجن بنات الرحمن، فقال الله: * (وخلقهم وخرقوا له) *، يعني وتخرصوا، يعني يخلقوا لله * (بنين وبنات بغير علم) * يعلمونه أن له بنين وبنات، وذلك أن اليهود، قالوا: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وقالت العرب: الملائكة بنات الله، يقول الله: * (سبحانه) * نزه نفسه عما قالوا من البهتان، ثم عظم نفسه، فقال: * (وتعالى) *، يعني وارتفع * (عما يصفون) * [آية: 100]، يعني يقولون من الكذب. فعظم نفسه وأخبر عن قدرته، فقال: * (بديع السماوات والأرض) *، لم يكونا فابتدع خلقهما، ثم قال: * (إني) *، يعني من أين * (يكون له ولد ولم تكن له صحبة) *، يعني زوجة، * (وخلق كل شيء) *، يعني من الملائكة، وعزير، وعيسى، وغيرهم فهم خلقه وعباده وفي ملكه، ثم قال: * (وهو بكل شيء عليم) * [آية: 101]. ثم دل على نفسه بصنعه ليوحدوه، فقال: * (ذلكم الله ربكم) * الذي ابتدع خلقهما وخلق كل شيء ولم يكن له صاحبة ولا ولد، ثم وحد نفسه إذ لم يوحده كفار مكة، يقال: * (لا إله إلا هو خلق كل شيء فاعبدوه) *، يعني فوحدوه، * (وهو على كل شيء وكيل) * [آية: 102]، وهو رب كل شيء ذكر من بنين وبنات وغيرهم. ثم عظم نفسه، فقال: * (لا تدركه الأبصار) * يقول: لا يراه الخلق في الدنيا، * (وهو يدرك الأبصار) *، وهو يرى الخلق في الدنيا، * (وهو اللطيف) * لطف علمه وقدرته حين يراهم في السماوات والأرض، * (الخبير) * [آية: 103] بمكانهم. * (قد جاءكم) * يا أهل مكة، * (بصائر) *، يعني بيان * (من ربكم) *، يعني القرآن، نظيرها في الأعراف، * (فمن أبصر) * إيمانا بالقرآن، * (فلنفسه ومن عمي) * عن إيمان بالقرآن، * (فعليها) *، يعني فعلى نفسه، * (وما أنا عليكم بحفيظ) * [آية: 104]، يعني برقيب، يعني محمد صلى الله عليه وسلم.
363 * (وكذلك) *، يعني وهكذا * (نصرف الآيات) * في أمور شتى، يعني ما ذكر، * (وليقولوا درست) *، يعني قابلت ودرست، يعني تعلمت من غيرك يا محمد، فأنزل الله: * (وكذلك نصرف الآيات) *؛ لئلا يقولوا: درست وقرأت من غيرك، * (ولنبينه) *، يعني القرآن، * (لقوم يعلمون) * [آية: 105]. تفسير سورة الأنعام من آية [106 - 110] * (اتبع ما أوحي إليك من ربك) *، وذلك حين دعي النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملة آبائه، فأنزل الله عز وجل: * (اتبع ما أوحي إليك من ربك) * * (لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين) * [آية: 106]، يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: أعرض عنهم إذا أشركوا. * (ولو شاء الله ما أشركوا) *، يقول ' ولو شاء الله لمنعهم من الشرك، * (وما جعلناك عليهم حفيظا) *، يعني رقيبا إن لم يوحدوا، * (وما أنت عليهم بوكيل) * [آية: 107]، يعني بمسيطر، فنسختها آية السيف. * (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله) *، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يذكرون أوثان أهل مكة بسوء، فقالوا: لينتهين محمد عن شتم آلهتنا أو لنسبن ربه، فنهى الله المؤمنين عن شتم آلهتهم فيسبوا ربهم؛ لأنهم جهلة بالله، وأنزل الله: * (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله) *، يعني يعبدون من دون الله من الآلهة، * (فيسبوا الله عدوا بغير علم) * يعلمونه أنهم يسبون الله، يعني أهل مكة، * (كذلك) *، يعني هكذا * (زينا لكل أمة عملهم) *، يعني ضلالتهم، * (ثم إلى ربهم مرجعهم) * في الآخرة،
364 * (فينبئهم بما كانوا يعملون) * [آية: 108]. فلما نزلت هذه الآية، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ' لا تسبوا ربكم ' فأمسك المسلمون عند ذلك عن شتم آلهتهم، * (وأقسموا بالله جهد أيمانهم) *، فمن حلف بالله فقد اجتهد في اليمين، وذلك أن كفار مكة حلفوا للنبي صلى الله عليه وسلم، * (لئن جاءتهم آية) * كما كانت الأنبياء تجيء بها إلى قومهم، * (ليؤمنن بها) * ليؤمنن بالآية، قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: * (قل إنما الآيات عند الله) *، إن شاء أرسلها وليست بيدي، * (وما يشعركم) * وما يدريكم * (أنها إذا جاءت لا يؤمنون) * [آية: 109]، يعني لا يصدقون، لما سبق في علم الله من الشقاء. * (ونقلب أفئدتهم) *، يعني قلوبهم، * (وأبصارهم) * عن الإيمان، * (كما لم يؤمنوا به أول مرة) *، يقول: كما لم يؤمن بها أوائلهم من الأمم الخالية بما سألوا من الآيات قبلها، فكذلك كفار أهل مكة لا يصدقون بها إن جاءتهم آية، ثم قال: * (ونذرهم في طغيانهم يعمهون) * [آية: 110]، يعني في ضلالتهم يترددون، لا نخرجهم منها أبدا. تفسير سورة الأنعام من آية [111 - 114] ثم أخبر عما علمه فيهم، فقال: * (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة) *، وأخبروهم أن محمدا رسول كما سألوا، لقولهم في الفرقان: * (لولا أنزل علينا الملائكة) * [الفرقان: 21]، يعني المستهزئين من قريش، أبا جهل وأصحابه، ثم قال: * (وكلمهم الموتى) *، لقولهم: ابعث لنا، رجلين أو ثلاثة من آبائنا، فنسألهم عما أمامهم مما تحدثنا أنه يكون بعد الموت أحق هو؟ ثم قال: * (وحشرنا عليهم كل شيء قبلا) *، يعني عيانا، قال أبو محمد: ومن قرأه: ' قبلا ' أراد قبيلا قبيلا، رواه عن ثعلب، فعاينوه كله، فلو فعلت هذا كله، فأخبروهم بأن الذي يقول محمد حق، * (ما كانوا ليؤمنوا) *، يعني ليصدقوا، * (إلا
365 ن يشاء الله) * لهم الإيمان، * (ولكن أكثرهم) * أكثر أهل مكة * (يجهلون) * [آية: 111]. ثم قال: * (وكذلك) *، يعني وهكذا، * (وجعلنا لكل نبي عدوا) * من قومه، يعني أبا جهل عدوا للنبي صلى الله عليه وسلم، كقولهم في الفرقان: * (وقالوا مال هذا الرسول...) * [الفرقان: 7] إلى آخر الآية، قوله: * (شياطين الإنس والجن يوحى بعضهم إلى بعض) *، وذلك أن إبليس وكل شياطين بالإنس يضلونهم، ووكل شياطين بالجن يضلونهم، فإذا التقى شيطان الإنس مع شيطان الجن، قال أحدهما لصاحبه: إني أضللت صاحبي بكذا وكذا، فأضلل أنت صاحبك بكذا وكذا، فذلك قوله: * (يوحي بعضهم إلى بعض) *، يقول: يزين بعضهم * (زخرف القول غرورا) *، يقول: ذلك التزيين بالقول باطل، يغرون به الإنس والجن، ثم قال: * (ولو شاء ربك ما فعلوه) *، يقول: لو شاء الله لمنعهم عن ذلك، ثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم: * (فذرهم) *، يعني خل عنهم، يعني كفار مكة، * (وما يفترون) * [آية: 112] من الكذب. * (ولتصغي إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة) *، يعني ولتميل إلى ذلك الزخرف والغرور قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة، يعني الذين لا يصدقون بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال، * (وليرضوه) *، يعني وليحبوه، * (وليقترفوا ما هم مقترفون) * [آية: 113]، يعني ليعملوا من المعاصي ما هم عاملون. * (أفغير الله أبتغي حكما) *، فليس أحد أحسن قضاء من الله في نزول العذاب ببدر، * (وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا) *، يعني القرآن حلاله وحرامه، وكل شيء مفصلا، يعني مبينا فيه أمره ونهيه، * (والذين ءاتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن ممن الممترين) * [آية: 114]. تفسير سورة الأنعام من آية [115 - 117] * (وتمت كلمت ربك) * بأنه ناصر محمد صلى الله عليه وسلم ببدر، ومعذب قومه ببدر، فحكمه عدل في ذلك، فذلك قوله: * (صدقا) * فيما وعد، * (وعدلا) * فيما حكم، * (لا مبدل
366 لكلماته) *، يعني لا تبديل لقوله في نصر محمد صلى الله عليه وسلم، وأن قوله حق، * (وهو السميع) * بما سألوا من العذاب، * (العليم) * [آية: 115] به حين سألوا، * (فأسقط علينا كسفا من السماء) * [الشعراء: 187]، يعني جانبا من السماء. * (وإن تطع) * يا محمد * (أكثر من في الأرض) *، يعني أهل مكة حين دعوه إلى ملة آبائه، * (يضلوك عن سبيل الله) *، يعني يستنزلوك عن دين الإسلام، * (إن يتبعون إلا الظن وإن هم) *، يعني وما هم * (إلا يخرصون) * [آية: 116] الكذب، * (إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله) *، يعني عن دينه الإسلام، * (وهو أعلم بالمهتدين) * [آية: 117]. تفسير سورة الأنعام من آية [118 - 121] * (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بأياته مؤمنين) * [آية: 118]، يعني بالقرآن مصدقين، وذلك أن كفار مكة حين سمعوا أن الله حرم الميتة، قالوا للمسلمين: أتزعمون أنكم تتبعون مرضاة ربكم؟ ألا تحدثونا عما قتلتم أنتم بأيديكم أهو أفضل؟ أو ما قتل الله؟ فقال المسلمون: بل الله أفضل صنعا، فقالوا لهم: فما لكم تأكلون مما ذبحتم بأيديكم، وما ذبح الله فلا تأكلونه، وهو عندكم ميتة؟ فأنزل الله: * (وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم) *، يعني وقد بين لكم ما حرم عليكم، يعني الميتة، والدم، ولحم الخنزير، ثم استثنى، فقال: * (إلا ما اضطررتم إليه) * مما نهيتم عن أكله، * (وإن كثيرا) * من الناس، يعني سادة قريش، * (ليضلون) * أهل مكة * (بأهوائهم بغير علم) * يعلمونه في أمر الذبائح، * (إن ربك هو أعلم بالمعتدين) * [آية: 119]. * (وذروا ظاهر الإثم) *، يعني واتركوا ظاهر الإثم، * (وباطنه) *، يعني الزنا في
367 السر والعلانية، وذلك أن قريشا كانوا ينكرون الزنا في العلانية، ولا يرون به بأسا سرا، * (إن الذين يكسبون الإثم) *، يعني الشرك، * (سيجزون) * في الآخرة * (بما كانوا يقترفون) * [آية: 120]، يعني يكسبون. وأنزل الله في قولهم: ما قتل الله فلا تأكلوه: * (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق) *، يعني إن أكل الميتة لمعصية، * (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم) * من المشركين، * (ليجادلوكم) * في أمر الذبائح، * (وإن أطعتموهم) * باستحلالكم الميتة، * (إنكم لمشركون) * [آية: 121] مثلهم، وفيهم نزلت: * (ولكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر) * [الحج: 67]، يعني أمر الذبائح. تفسير سورة الأنعام من آية [122 - 124] * (أو من كان ميتا فأحييناه) *، يعني أو من كان ضالا فهديناه، نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم، * (وجعلنا له نورا) *، يعني إيمانا * (يمشي به) *، يعني يهتدي به * (في الناس) *، أهو * (كمن مثله في الظلمات) *، يعني كشبه من هو في الشرك، يعني أبا جهل، * (ليس بخارج منها) *، يعني من الشرك، يعني ليس بمهتد، هو فيها متحير لا يجد منفذا، ليسا بسواء، * (كذلك) *، يعني هكذا، * (زين للكافرين) *، يعني للمشركين، * (ما كانوا يعلمون) * [آية: 122]، يعني أبا جهل، وذلك أنه قال: زحمتنا بنو عبد مناف في الشرف، حتى إذا صرنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يوحى إليه، فمن يدرك هذا والله لا نؤمن به ولا نتبعه أبدا، أو يأتينا وحي كما يأتيه، فأنزل الله عز وجل: * (وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى تؤتى مثل ما أوتي رسل الله...) * إلى آخر الآية:. * (وكذلك) *، يعني وهكذا * (وجعلنا في كل قرية) * خلت، يعني عصت، * (أكبر مجرميها) *، يعني جبابرتها وكبراءها، جعلنا بمكة المستهزئين من قريش، * (ليمكروا فيها) *، يعني في القرية بالمعاصي حين أجلسوا في كل طريق أربعة منهم، يقول الله
368 * (وما يمكرون إلا بأنفسهم) *، وما معصيتهم إلا على أنفسهم، * (وما يشعرون) * [آية: 123]. * (وإذا جاءتهم آية) *، يعني انشقاق القمر، والدخان، * (قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله) *، يعني النبي صلى الله عليه وسلم وحده، يقول الله: * (الله أعلم حيث يجعل رسالته) *، الله أعلم حيث يختص بنبوته من يشاء، * (سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله) *، يعني مذلة، * (وعذاب شديد بما كانوا يمكرون) * [آية: 124]، يعني يقولون، لقولهم: لو كان هذا القرآن حقا، لنزل على الوليد بن المغيرة، أو على أبي مسعود الثقفي، وذلك قولهم: * (لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) * [الزخرف: 31]. تفسير سورة الأنعام من آية [125 - 128] * (فمن يرد الله أن يهديه) * لدينه، * (يشرح صدره للإسلام) *، نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم، يعني يوسع قلبه، * (ومن يرد أن يضله) * عن دينه، * (يجعل صدره ضيقا) * بالتوحيد، يعني أبا جهل، حتى لا يجد التوحيد من الضيق مجازا، ثم قال: * (حرجا) * شكا، * (كأنما يصعد في السماء) *، يقول: هو بمنزلة المتكلف الصعود إلى السماء لا يقدر عليه، * (كذلك) *، يعني هكذا، * (يجعل الله الرجس) *، يقول: الشر: * (على الذين لا يؤمنون) * [آية: 125] بالتوحيد. * (وهذا) * التوحيد * (صراط ربك) * يعني دين ربك، * (مستقيما قد فصلنا الآيات) *، يعني قد بينا الآيات في أمر القلوب في الهدى والضلالة، يعني الذي يشرح صدره للإسلام، والذي جعله ضيقا حرجا، * (لقوم يذكرون) * [آية: 126] بتوحيد
369 ثم ذكر ما أعد للموحدين، فقال: * (لهم دار السلام) *، يعني جنة الله، * (عند ربهم) * في الآخرة، * (وهو وليهم) *، يقول: الله وليهم في الآخرة، * (بما كانوا يعملون) * [آية: 127] له في الدنيا، يعني يوحدون ربهم. * (ويوم يحشرهم) *، يعني كفار الإنس والشياطين والجن، يقول: ويوم نجمعهم، * (جميعا يا معشر الجن) *، ثم يقول للشياطين: * (قد استكثرتم من الإنس) *، يعني من ضلال الإنس فيما أضللتم منهم، وذلك أن كفار الإنس كانوا تولوا الجن وأعاذوا بهم، * (وقال أولياؤهم من الإنس) *، يعني أولياء الجن من كفار الإنس، * (ربنا استمتع بعضنا ببعض) *، كاستمتاع الإنس بالجن، وذلك أن الرجل كان إذا سافر فأدركه الليل بأرض القفر خاف، فيقول: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، فيبيت في جواره آمنا، وكان استمتاع الجن بالإنس أن يقولوا: لقد سودتنا الإنس حين فزعوا إلينا، فيزدادوا بذلك شرفا، * (و) * قالت: * (وبلغنا أجلنا) * الموت * (الذي أجلت لنا) * في الدنيا، فرد الله عليهم: * (قال النار مثواكم) *، ومثوى الكافرين، * (خالدين فيها) * أبدا، * (إلا ما شاء الله) *، واستثنى أهل التوحيد، أنهم لا يخلدون فيها، * (إن ربك حكيم) *، يعني حكم النار لمن عصاه، * (عليم) * [آية: 128]، يقول: عالم بمن لا يعصيه. تفسير سورة الإنعام من آية [129 - 130] قوله: * (وكذلك) *، يعني وهكذا، * (نولي بعض الظالمين بعضا) *، فولى الله ظلمة الإنس ظلمة الجن، وولى ظلمة الجن ظلمة الإنس بأعمالهم الخبيثة، فذلك قوله: * (بما كانوا يكسبون) * [آية: 129]، يعني يعملون من الشرك. ثم قال لهم عند ذلك: * (يا معشر الجن والإنس) *، يعني كفار الجن وكفار الإنس، ولا يعني به الشياطين؛ لأن الشياطين هم أغروا كفار الجن وكفار الإنس، وبعث الله رسولا من الجن إلى الجن، ومن الإنس إلى الإنس يقصون، فذلك قوله: * (ألم يأتكم رسل منكم) *، يعني من أنفسكم الجن إلى الجن، والإنس إلى الإنس، * (يقصون عليكم آياتي) *، يعني آيات القرآن، * (وينذرونكم لقاء يومكم هذا) *، يعني يوم القيامة،
370 * (قالوا) *، يعني قالت الإنس والجن: * (شهدنا على أنفسنا) * بذلك أنا كفرنا بما قالت الرسل في الدنيا، قال الله للنبي صلى الله عليه وسلم: * (وغرتهم الحياة الدنيا) * عن دينهم الإسلام، ويقول الله للنبي صلى الله عليه وسلم: * (وشهدوا على أنفسهم) * في الآخرة * (أنهم كانوا كافرين) * [آية: 130] في الدنيا، وذلك حين شهدت عليهم الجوارح بالشرك والكفر في الدنيا، ثم قال الخازن، في التقديم: ف * (النار مثواكم) *، يعني مأواكم، * (خالدين فيها) * لا يموتون، ثم استثنى، فقال: * (إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم) *، حكم عليهم حقا بذلك الهلاك، كفعله بالأمم الخالية في سورة أخرى. تفسير سورة الأنعام من آية [131 - 134] * (ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى) *، يعني معذب أهل القرى * (بظلم) * بغير ذنب في الدنيا، * (وأهلها غافلون) * [آية: 131] عن العذاب حتى يبعث في أمها رسولا ينذرهم بالعذاب حجة عليهم. * (ولكل) *، يعني كفار الجن والإنس، * (درجات) *، يعني فضائل من العذاب في الآخرة، * (مما عملوا) * في الدنيا، * (وما ربك بغافل عما يعملون) * [آية: 132]، هذا وعيد، نظيرها في الأحقاف. وقوله: * (وربك الغني) * عن عبادة خلقه، * (ذو الرحمة) *، يعنى النعمة، فلا تعجل عليهم بالعذاب، يعنى كفار مكة، * (إن يشأ يذهبكم) * بهلاك، * (ويستخلف من بعدكم) * خلقا من غيركم بعد هلاككم * (ما يشاء) *، إن شاء مثلكم، وإن شاء أمثل وأطوع لله منكم، * (كما أنشأكم) *، يعني كما خلقكم * (من ذرية قوم آخرين) * [آية: 133]، يعنى ذرية أهل سفينة نوح، * (إن ما توعدون) * من العذاب في الدنيا * (لأت) *، يعني لكائن، * (وما أنتم بمعجزين) * [آية: 134]، يعني بسابقي الله بأعمالكم الخبيثة حتى يجزيكم بها. تفسير سورة الأنعام من آية [135 - 139]
371 قوله: * (قل يقوم اعملوا على مكانتكم) *، يعني جديلتكم، يعني كفار مكة، * (إني عامل) *، على جديلتي التي أمرني بها ربي، * (فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار) *، يعني الجنة، أنحن أم أنتم، ثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم: * (إنه لا يفلح) *، يعني لا يسعد * (الظالمون) * [آية: 135] في الآخرة، يعني المشركين، نظيرها في القصص. * (وجعلوا لله) *، يعني وصفوا لله * (مما ذرأ) *، يعني مما خلق، * (من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا) *، يعني النصيب لآلهتهم مثل ذلك، فما أخرج الله من بطون الأنعام وظهورها من الحرث، قالوا: هذا لله، فيتصدقون به على المساكين، وما أخرج الله من نصيب الآلهة أنفقوه عليها، فإن زكا نصيب الآلهة ولم يزك نصيب الله تركوه للآلهة، وقالوا: لو شاء الله لأزكى نصيبه، وإن زكا نصيب الله ولم يزك نصيب الآلهة، خدجت أنعامهم وأجدبت أرضهم، وقالوا: ليس لآلهتنا بد من نفقة، فأخذوا نصيب الله فقسموه بين المساكين والآلهة نصفين، فذلك قوله: * (فما كان لشركائهم) *، يعني لآلهتهم مما خرج من الحرث والأنعام، * (فلا يصل إلى الله) *، يعني إلى المساكين، * (وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم) *، يعني آلهتهم، يقول الله: * (ساء) *، يعني بئس * (ما يحكمون) * [آية: 136]، يقول: لو كان معي شريك كما يقولون، ما عدلوا في القسمة أن يأخذوا مني ولا يعطوني.
372 ثم انقطع الكلام، فقال: * (وكذلك) *، يعني وهكذا، * (زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم) *، كما زينوا لهم تحريم الحرث والأنعام، يعني دفن البنات وهن أحياء، * (ليردوهم) *، يعني ليهلكوهم، * (وليلبسوا عليهم) *، يعني وليخلطوا عليهم، * (دينهم ولو شاء الله ما فعلوه) *، يقول: لو شاء الله لمنعهم من ذلك، * (فذرهم) *، يعني فخل عنهم، * (وما يفترون) * [آية: 137] من الكذب، لقولهم في الأعراف: * (والله أمرنا بها) * [الأعراف: 28]. * (وقالوا هذه أنعام وحرث حجر) *، يعني حرام، * (لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم) *، يعني الرجال دون النساء، وكانت مشيئتهم أنهم جعلوا اللحوم والألبان للرجال دون النساء، * (وأنعام حرمت ظهورها) *، يعني الحام، * (وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها) *، يعني البحيرة أن نتجوها أو نحروها لم يذكروا اسم الله عليها، * (افتراء عليه) *، على الله، يعني كذبا على الله، * (سيجزيهم بما كانوا يفترون) * [آية: 138] حين زعموا أن الله أمرهم بتحريمه، حين قالوا في الأعراف: * (والله أمرنا بها) * [الأعراف: 28]. ثم أخبر عنهم، فقال: * (وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا) *، يعني من الولد والألبان، * (ومحرم على أزواجنا) *، يعني البحيرة، والسائبة، والوصيلة، فكانوا إذا انتجوه حيا ذبحوه فأكله الرجال دون النساء، وكذلك الألبان، وإن وضعته ميتا اشترك في أكله الرجال والنساء، فذلك قوله: * (وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء سيجزيهم) * الله العذاب في الآخرة، * (وصفهم) *، ذلك بالتحليل والتحريم، أي جزاءه، * (إنه حكيم) * حكم عليهم العذاب، * (عليم) * [آية: 139] به. تفسير سورة الأنعام من آية [140 - 144]
373 ثم عابهم بقتل أولادهم وتحريم الحرث والأنعام، فقال: * (قد خسر) * في الآخرة، * (الذين قتلوا أولادهم) *، يعني دفن البنات أحياء، * (سفها) *، يعني جهلا، * (بغير علم وحرموا ما رزقهم الله) * من الحرث والأنعام، * (افتراء على الله) * الكذب حين زعموا أن الله أمرهم بهذا، يعني بتحريمه، يقول الله: * (قد ضلوا) * عن الهدى، * (وما كانوا مهتدين) * [آية: 140]، وكانت ربيعة ومضر يدفنون البنات وهن أحياء، غير بنى كنانة، كانوا لا يفعلون ذلك. قوله: * (وهو الذي أنشأ جنات معروشات) *، يعنى الكروم وما يعرش، * (وغير معروشات) *، يعني قائمة على أصولها، * (والنخل والزرع مختلفا أكله) *، يعني طعمه، منه الجيد، ومنه الدون، ثم قال: * (والزيتون والرمان متشابها) *، ورقها في النظير يشبه ورق الزيتون ورق الرمان، * (وغير متشابه) * ثمرها وطعمها، وهما متشابهان في اللون، مختلفان في الطعم، يقول الله: * (كلوا من ثمره إذا أثمر) *، حين يكون غضا، ثم قال: * (وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) * [آية: 141]، يقول: ولا تشركوا الآلهة في تحريم الحرث والأنعام. * (ومن الأنعام حمولة) *، يعني الإبل والبقر، * (وفرشا) *، والفرش الغنم الصغار مما لا يحمل عليها، * (كلوا مما رزقكم الله) * من الأنعام والحرث حلالا طيبا، * (ولا تتبعوا خطوات الشيطان) *، يعني تزيين الشيطان فتحرمونه، * (إنه لكم عدو مبين) * [آية: 142]، كلم النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك عوف بن مالك الجشمي، يكنى أبا الأحوص.
374 ثم قال: أنزل * (ثمانية أزواج) * قبل خلق آدم، عليه السلام، * (من الضأن اثنين) *، يعني ذكرا وأنثى، * (ومن المعز اثنين) *، ذكرا وأنثى، * (قل) * يا محمد لمن حرم ذكور الأنعام تارة وإناثها أخرى، ونسب ذلك إلى الله: * (ءآلذكرين) * من الضأن والمعز * (حرم) * الله عليكم؟ * (أم الأنثيين) * منهما؟ * (أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين) *؟ ذكرا كان أو أنثى؟ * (نبئوني بعلم) * عن كيفية تحريم ذلك، * (إن كنتم صادقين) * [آية: 143] فيه. المعنى من أين جاء التحريم، فإن كان من قبل الذكورة فجميع الذكور حرام، أو الأنوثة، فجميع الإناث، أو اشتمال الرحم فالزوجان، فمن أين التخصيص؟ والاستفهام للاستنكار. * (ومن الإبل اثنين) * ذكرا وأنثى، * (ومن البقر اثنين) * ذكرا وأنثى، * (قل) * يا محمد * (ءآلذكرين حرم أم الأنثيين) *، يعني من أين تحريم الأنعام من قبل الذكرين أم قبل الأنثيين؟ * (أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين) *، يقول: على ما اشتمل، ما يشتمل الرحم إلا ذكرا أو أنثى، فأين هذا الذي جاء التحريم من قبله، وما اشتمل الرحم إلا على مثلها. يقول: ما تلد الغنم إلا الغنم، وما تلد الناقة إلا مثلها، يعني أن الغنم لا تلد البقر، ولا البقر تلد الغنم، فإن قالوا: حرم الأنثيين، خصوا ولم يجز لهم أن يأكلوا الإناث من الأنعام، وإن قالوا: الذكرين، لم يجز لهم أن يأكلوا ذكور الأنعام، فسكتوا، يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهم: * (نبؤوني بعلم إن كنتم صادقين) * بأن الله حرم هذا، ثم قال: * (أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا) * التحريم، فسكتوا فلم يجيبوه ، إلا أنهم قالوا: حرمها آباؤنا، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ' فمن أين حرمه آباؤكم؟ '، قالوا: الله أمرهم بتحريمه، فأنزل الله: * (فمن أظلم) *، يقول: فلا أحد أظلم * (ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين) * [آية: 144]. تفسير سورة الأنعام من آية [145 - 147].
375 قالوا: يا محمد، فمن أين حرمه آباؤنا؟ فأوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم: * (قل لا أجد في ما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه) *، يعني على آكل يأكله، * (إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا) *، يعني يسيل، * (أو لحم خنزير فإنه رجس) *، يعني إنما، * (أو فسقا) *، يعني معصية، * (أهل لغير الله به) *، يعني ذبح لغير الله، * (فمن اضطر) * إلى شيء مما حرمت عليه، * (غير باغ) * ليستحله في دينه، * (ولا عاد) *، يعني ولا معتديا لم يضطر إليه فأكله، * (فإن ربك غفور) * لأكله الحرام، * (رحيم) * [آية: 145] به إذا رخص له في الحرام في الاضطرار. ثم بين ما حرم على اليهود، فقال: * (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر) *، يعني الإبل، والنعامة، والوز، والبط، وكل شيء له خف وظفر من الدواب، والطير، فهو عليهم حرام، * (ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما) *، وحرم عليهم الشحوم من البقر، والغنم، ثم استثنى ما أحل لهم من الشحوم، فقال: * (إلا ما حملت ظهورهما) *، يعني ظهور البقر والغنم والأكتاف والإلية، * (أو الحوايا) *، يعني المعى، * (أو ما اختلط) * من الشحم * (بعظم) *، فكل هذا حلال لهم، وحرم عليهم شحوم الكليتين والثروب، * (ذلك) * التحريم، * (جزيناهم ببغيهم) *، يعني عقوبة بقتلهم الأنبياء وبصدهم عن سبيل الله، وبأكلهم الربا، واستحلالهم أموال الناس بالباطل، فهذا البغى، * (وإنا لصادقون) * [آية: 146] بذلك، وهذا ما أوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم أنه محرم، منه على المسلمين، ومنه على اليهود. فقال كفار العرب للنبي صلى الله عليه وسلم: فإنك لم تصب، يقول الله: * (فإن كذبوك) * بما تقول من التحريم، * (فقل) * لكفارمكة، * (ربكم ذو رحمة واسعة) * ملأت رحمته كل شيء لا يعجل عليكم بالعقوبة، * (ولا يرد بأسه) *، يقول: عذابه إذا جاء الوقت على من كذب بما يقول: * (عن القوم المجرمين) * [آية: 147]، يعني كفار العرب. تفسير سورة الأنعام آية [148 - 150]
376 * (سيقول الذين أشركوا) * مع الله آلهة، يعني مشركي العرب، * (لو شاء الله ما أشركنا ولا) * أشرك * (آباؤنا ولا حرمنا من شيء) *، يعني الحرث، والأنعام، ولكن الله أمر بتحريمه، * (كذلك) *، يعني هكذا * (كذب الذين من قبلهم) * من الأمم الخالية رسلهم، كما كذب كفار مكة بمحمد صلى الله عليه وسلم، * (حتى ذاقوا بأسنا) *، يعني عذابنا، * (قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا) *، يعني بيانا من الله بتحريمه فتبينوه لنا، يقول الله: * (إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون) * [آية: 148]، الكذب * (قل) * لهم يا محمد: * (فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين) * [آية: 149] لدينه، * (قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا) * الحرث والأنعام، * (فإن شهدوا) * أن لله حرمه، * (فلا يشهد معهم) * يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن لا يصدق قولهم، * (ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا) *، يعني القرآن الذي فيه تحليل ما حرموا، * (والذين لا يؤمنون بالآخرة) *، يعني لا يصدقون بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال، (و) الذين * (وهم بربهم يعدلون) * [آية: 150)، يعني يشركون. تفسير سورة الأنعام آية [151 - 152] * (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم) *، يقول: تعالوا حتى أقرأ ما حرم عليكم، * (ألا تشركوا به شيئا) * من خلقه، * (وبالوالدين إحسانا) *، يعني برا بهما، * (ولا تقتلوا أولادكم) *، يعني دفن البنات وهن أحياء، * (من إملاق) *، يعني
377 خشية الفقر، * (نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش) *، يعني الزنا، * (ما ظهر منها) *، يعني السفاح علانية، * (وما بطن) *، يعني الزنا في السر تتخذ الخليل، فيأتيها في السر، * (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله) * قتلها * (إلا بالحق) *، يعني بالقصاص والثيب الزاني بالرجم، والمرتد عن الإسلام، فهذا الحق، * (ذلكم وصاكم به لعلكم) *، يعني لكي * (تعقلون) * [آية: 151]، أنه لم يحرم إلا ما ذكر في هذه الآيات الثلاث، ولم يحرم البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام. * (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن) *، إلا ليثمر لليتيم ماله بالأرباح / * (حتى يبلغ أشده) *، يعني ثماني عشرة سنة، * (وأوفوا الكيل والميزان بالقسط) *، يعني بالعدل، * (لا نكلف نفسا إلا وسعها) *، يقول: لا نكلفها من العمل إلا طاقتها، * (وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى) *، يعني أولى قربى إذا تكلمتم فقولوا الحق، وإن كان ذو قرابتك فقل فيه الحق، * (وبعهد الله أوفوا) * فيما بينكم وبين الناس، * (ذلكم وصاكم به لعلكم) *، يعني لكي * (تذكرون) * [آية: 152] في أمره ونهيه. تفسير سورة الأنعام آية [153 - 155] * (وأن هذا) * الذي ذكر في هذه الآيات من أمر الله ونهيه، * (صراطي مستقيما) *، يعني دينا مستقيما، * (فاتبعوه ولا تتبعوا السبل) *، يعني طرق الضلالة فيما حرموا، * (فتفرق بكم عن سبيله) *، يعني فيضلكم عن دينه، * (ذلكم وصاكم به لعلكم) *، يعني لكي، * (تتقون) * [آية: 153]، فهذه الآيات المحكمات لم ينسخهن شيء من جميع الكتب، وهن محكمات على بني آدم كلهم. * (ثم آتينا موسى الكتاب) *، يعني أعطينه التوراة، * (تماما على الذي أحسن) *،
378 يقول: تمت الكرامة على من أحسن منهم في الدنيا والآخرة، فتمم الله لبني إسرائيل ما وعدهم من قوله: * (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا) * [القصص: 5، 6] إلى آيتين، ثم قال: * (وتفضيلا لكل شيءو) * التوراة * (وهدى) * من الضلالة، * (ورحمة) * من العذاب، * (لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون) * [آية: 154]، يعني بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال. * (وهذا) * القرآن * (كتاب أنزلناه مبارك) *، فهو بركة لمن آمن به، * (فاتبعوه) *، فاقتدوا به، * (واتقوا) * الله * (لعلكم) *، يعني لكي * (ترحمون) * [آية: 155] فلا تعذبوا. تفسير سورة الأنعام آية [156 - 157] * (أن تقولوا) *، يعني لئلا تقولوا: * (إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا) *، يعني اليهود والنصارى، * (وإن كنا عن دراستهم لغافلين) * [آية: 156]، وذلك أن كفار مكة قالوا: قاتل الله اليهود والنصارى، كيف كذبوا أنبياءهم، فوالله لو جاءنا نذير وكتاب لكنا أهدى منهم، فنزلت هذه الآية فيهم: * (أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم) *، يعني اليهود والنصارى، يقول الله لكفار مكة: * (فقد جاءكم بينة من ربكم) *، يعني بيان من ربكم القرآن، * (و) * هو * (وهدى) * من الضلالة * (ورحمة) * من العذاب لقوم يؤمنون، فكذبوا به، فنزلت: * (فمن أظلم ممن كذب بآيات الله) *، يعني بالقرآن، * (وصدف عنها) *، يعني وأعرض عن آيات القرآن، فلم يؤمن بها، ثم أوعدهم الله، فقال: * (سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا) *، يعني يعرضون عن إيمان بالقرآن، * (سوء العذاب) *، يعني شدة العذاب، * (بما كانوا يصدفون) * [آية: 157]، يعني بما كانوا يعرضون عن إيمان بالقرآن. تفسير سورة الأنعام آية [158]
379 ثم وعدهم، فقال: * (هل ينظرون) *، يعني ما ينتظر كفار مكة بالإيمان * (إلا أن تأتيهم الملائكة) *، يعني ملك الموت وحده بالموت، * (أو يأتي ربك) * يوم القيامة في ظلل من الغمام، * (أو يأتي بعض آيات ربك) *، يعني طلوع الشمس من مغربها، ثم قال: * (يوم يأتي بعض آيات ربك) *، يعني طلوع الشمس من المغرب، * (لا ينفع نفسا إيمانها) *، يعني نفسا كافرة حين لم تؤمن قبل أن تجيء هذه الآية، * (لم تكن آمنت من قبل) *، يقول: لم تكن صدقت من قبل طلوع الشمس من مغربها، * (أو) * لم تكن * (كسبت في إيمانها خيرا) *، يقول: لم تكن هذه النفس عملت قبل طلوع الشم من مغربها، ولم يقبل منها بعد طلوعها، ومن كان يقبل منه عمله قبل طلوع الشمس من مغربها، فإنه يتقبل منه بعد طلوعها، ثم أوعدهم العذاب، فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: * (قل انتظروا) * العذاب * (إنا منتظرون) * [آية: 158] بكم العذاب. تفسير سورة الأنعام آية [159] * (إن الذين فرقوا دينهم) * الإسلام الذي أمروا به، ودخلوا في غيره، يعني اليهود والنصارى قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم، * (وكانوا شيعا) *، يعني أحزابا يهود، ونصارى، وصابئين، وغيرهم، * (لست منهم) * يا محمد * (في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون) * [آية: 159]، فنسختها آية براءة: * (قاتلوا الذين) * إلى قوله: * (صاغرون) * [التوبة: 29]. تفسير سورة الأنعام آية [160] * (من جاء) * في الآخرة * (بالحسنة) * بالتوحيد والعمل الصالح، * (فله عشر أمثالها) * في الأضعاف، * (ومن جاء) * في الأخرة * (بالسيئة) *، يعني الشرك، * (فلا يجزى إلا مثلها) * في العظم، فجزاء الشرك أعظم الذنوب، والنار أعظم العقوبة، وذلك قوله: * (جزاء وفاقا) * [النبأ: 26] وافق الجزاء العمل، * (وهم لا يظلمون) * [آية: 160] كلا الفريقين جميعا. تفسير سورة الأنعام آية [161]
380 * (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم) *، يعني الإسلام، * (دينا قيما) * مستقيما لا عوج فيه، * (ملة إبراهيم حنيفا) *، يعني مخلصا، * (وما كان) * إبراهيم * (من المشركين) * [آية: 161] من اليهود والنصارى. تفسير سورة الأنعام آية [162 - 163] * (قل) * يا محمد * (إن صلاتي) * الخمس، * (ونسكي) *، يعني وذبحي، * (ومحياي ومماتي لله رب العالمين) * [آية: 162]، * (لا شريك له) *، يقول: ليس معك شريك، * (وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين) * [آية: 163]، يعني المخلصين من أهل مكة. تفسير سورة الأنعام آية [164] * (قل أغير الله أبغي ربا) *، وذلك أن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ارجع عن هذا الأمر، فنحن لك كفلاء بما أصابك من تبعة، فأنزل الله: * (قل) * لهم * (أغير الله أبغي ربا) *، يعني أتخذ ربا، * (وهو رب كل شيء) * في السماوات والأرض، * (ولا تكسب كل نفس إلا عليها) *، يعني إلا على نفسها، * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) *، يعني لا تحمل نفس خطيئة نفس أخرى؛ لقلوهم للنبي صلى الله عليه وسلم: نحن لك الكفلاء بما أصابك من تبعة، * (ثم إلى ربكم) * في الآخرة * (مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه) * في الدين أنتم وكل قبيلة في الدين * (تختلفون) * [آية: 164] أنتم وكفار مكة، نظيرها في الروم. تفسير سورة الأنعام آية [165] * (وهو الذي جعلكم خلائف الأرض) *، يعني من بعد هلاك الأمم الخالية، * (ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم) *، يعني بالدرجات الفضائل والرزق؛ لقولهم للنبي صلى الله عليه وسلم: ما يحملك على الذي أتيتنا به إلا الحاجة، فنحن نجمع لك أموالنا، فنزلت: * (ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم) *، يعني ليبتليكم فيما أعطاكم، يقول: يبتلى بعض المؤمنين الموسر بالغنى، ويبتلى بعض المؤمنين المعسر بالفاقة، * (إن ربك سريع العقاب) * لمن عصاه في فاقة أو غنى، يخوفهم كأنه قد جاء ذلك اليوم، * (وإنه لغفور رحيم) * [آية: 165] بعد التوبة.
381 قوله: * (من الضأن اثنين) *، يعني كبشا ونعجة. * (ومن المعز اثنين) *، يعني تيسا وشاة. * (ومن الإبل اثنين) *، يعني جملا وناقة. * (ومن البقر اثنين) *، يعني ثورا وبقرة.
382 سورة الأعراف مكية إلا قوله تعالى: [آية: 163] إلى قوله [آية: 172]، هذه الآيات مدنيات وهي مائتان وست آيات بسم الله الرحمن الرحيم تفسير سورة الأعراف آية [1 - 2] * (المص) * [آية: 1]. * (كتاب أنزل إليك) *، يعني القرآن، * (فلا يكن في صدرك) *، يعني النبي صلى الله عليه وسلم، * (حرج منه) *، يقول: فلا يكن في قلبك شك من القرآن بأنه من الله، * (لتنذر به) *، بما في القرآن من الوعيد، * (وذكرى للمؤمنين) * [آية: 2]، يعني تذكرة للمصدقين بالقرآن من أنه الله عز وجل. تفسير سورة الأعراف آية [3 - 6 -] ثم قال لأهل مكة: * (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم) *، يعني القرآن، * (ولا تتبعوا من دونه أولياء) *، يعني أربابا، ثم أخبر عنهم، فقال: * (قليلا ما تذكرون) * [آية: 3]، يعني بالقليل أنهم لا يعقلون فيعتبرون. ثم وعظهم، فقال: * (وكم من قرية أهلكناها) * بالعذاب، * (فجاءها بأسنا بياتا) *، وهم نائمون، يعني ليلا، * (أو) * جاءهم العذاب، * (هم قائلون) * [آية: 4]، يعني بالنهار. * (فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا) *، يقول: فما كان قولهم عند نزول العذاب بهم، * (إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين) * [آية: 5]، لقولهم في حم المؤمن: * (آمنا بالله وحده) * [غافر: 84].
383 ثم قال: * (فلنسئلن) * في الآخرة * (الذين أرسل إليهم) *، يعني الأمم الخالية الذين أهلكوا في الدنيا: ما أجابوا الرسل في التوحيد؟ * (ولنسئلن المرسلين) * [آية: 6] ماذا أجيبوا في التوحيد؟ تفسير سورة الأعراف آية [7 - 9] * (فلنقصن عليهم) * أعمالهم * (بعلم وما كنا غائبين) * [آية: 7] عن أعمالهم، يعني عنهم في الدنيا. * (والوزن يومئذ الحق) *، يقول: وزن الأعمال يومئذ العدل في الآخرة، * (فمن ثقلت موازينه) * من المؤمنين وزن ذرة على سيئاته، * (فأولئك هم المفلحون) * [آية: 8]. * (ومن خفت موازينه) *، يعني الكفار، * (فأولئك الذين خسروا أنفسهم) *، يعني غبنوا أنفسهم، فصاروا إلى النار. * (بما كانوا بآياتنا يظلمون) * [آية: 9]، يعني بالقرآن يجحدون بأنه ليس من الله. تفسير سورة الأعراف آية [10 - 18] * (ولقد مكناكم في الأرض) *، يقول: ولقد أعطيناكم يا أهل مكة من الخير والتمكين في الأرض، * (وجعلنا لكم فيها معايش) * من الرزق لتشكروه فتوحدوه، فلم تفعلوا، فأخبر عنهم، فقال: * (قليلا ما تشكرون) * [آية: 10]، يعني بالقليل أنهم لا يشكرون رب هذه النعم فيوحدونه.
384 * (ولقد خلقناكم) *، يعني آدم، عليه السلام، * (ثم صورناكم) *، يعني ذرية آدم، ذكرا وأنثى، وأبيض وأسود، سويا وغير سوي، * (ثم قلنا للملائكة) * الذين هم في الأرض، ومنهم إبليس عدو الله: * (اسجدوا لآدم فسجدوا) * له، ثم استثنى، فقال: * (إلا إبليس لم يكن من الساجدين) * [آية: 11] لآدم مع الملائكة. * (قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) * [آية: 12]، والنار تغلب الطين. * (قال فاهبط منها) *، قال: اخرج من صورة الملائكة إلى صورة الدمامة، فأخرج من الجنة يا إبليس، * (فما يكون لك أن تتكبر فيها) *، فما ينبغي لك ان تتعظم فيها، يعني في الجنة، * (فأخرج) * منها * (إنك من الصاغرين) * [آية: 13]، يعني من المذلين. * (قال) * إبليس لربه: * (أنظرني إلى يوم يبعثون) * [آية: 14]، يعني النفخة الآخرة، يوم يبعث آدم، عليه السلام، وذريته. * (قال) * الله: * (إنك من المنظرين) * [آية: 15]، فلا تموت إلى يوم الوقت المعلوم، يعني أجلا معلوما، وهي النفخة الأولى، * (قال فبما أغويتني) *، قال: اما إذ أضللتني. * (لأقعدن لهم صراطك المستقيم) * [آية: 16]، يعني لأصدنهم عن دينك المستقيم، يعني الإسلام. * (ثم لآتينهم من بين أيديهم) *، من قبل الآخرة، فأزين لهم التكذيب بالبعث، وبالجنة، وبالنار، * (ومن خلفهم) *، يعني من قبل الدنيا، فأزينها في أعينهم، وأرغبهم فيها، ولا يعطون فيها حقا، * (وعن أيمانهم) *، يعن من قبل دينهم، فإن كانوا على هدى شبهته، عليهم حتى يشكوا فيها، وإن كانوا على ضلالة زينتها لهم، * (وعن شمائلهم) *، يعني من قبل الشهوات واللذات من المعاصي وأشهيها إليهم، * (ولا تجد أكثرهم شاكرين) * [آية: 17]، لنعمتك، فلا يوحدونك. * (قال) * له: * (اخرج منها) * يعني من الجنة، * (مذءوما) * منفيا، * (مدحورا) *، يعني مطرودا، * (لمن تبعك منهم) * على دينك، * (لأملأن جهنم منكم أجمعين) * [آية: 18]، يعني إبليس وذريته وكفار ذرية آدم منهم جميعا.
385 تفسير سورة الأعراف آية [19 - 25] * (ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة) *، في التقديم، * (فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة) *، وهي السنبلة الحنطة، وقالوا: هي الشجرة التي تحتك بها الملائكة للخلود، * (فتكونا من الظالمين) * [آية: 19] لأنفسكم. * (فوسوس لهما الشيطان) *، يعني إبليس وحده، * (ليبدي لهما ما ووري عنهما) *، يعني ما غطى عنهما، * (من سوءاتهما) *، يعني ليظهر لهما عورتهما، * (وقال) * إبليس لهما: إني خلقت قبلكما، وإني أعلم منكما، فأطيعاني ترشدا، وقال لهما: * (ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين) * [آية: 20]، يقول: إن لم تكونا ملكين، كنتما من الخالدين لا تموتان. * (وقاسمهما) *، يعني حلف بالله لهما، * (إني لكما لمن الناصحين) * [آية: 21] إنها شجرة الخلد، من أكل منها لم يمت، فكان إبليس أول من يحلف بالله كاذبا. * (فدلاهما بغرور) *، يعني زين لهما الباطل، لقوله: * (تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين) *، وحلف على قوله، فغرهما بهذه اليمين، * (فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما) *، يعني ظهرت لهما عوراتهما، * (وطفقا يخصفان عليهما) *، يقول: أخذا يغطيان عوراتهما * (من ورق الجنة) *، يعني ورق التين الذي في الجنة، * (وناداهما ربهما) *، يقول: وقال لهما ربهما يوحي إليهما: * (ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل
386 لكما) *، يعني آدم وحواء: * (إن الشيطان) *، يعني إبليس * (لكما عدو مبين) * [آية: 22] * (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا) * (ذنوبنا) * (وترحمنا) * وتتجاوز عنا، * (لنكونن من الخاسرين) * [آية: 23] في العقوبة، فتاب آدم، عليه السلام، يوم عاشوراء يوم الجمعة، فتاب الله عليه. وأوحى إليهما: * (قال اهبطوا) * من الجنة، آدم، وحواء، وإبليس، والحية، * (بعضكم لبعض عدو) *، يقول: إبليس لهما عدو، وهما إبليس عدو، * (ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين) * [آية: 24]، يعني إلى منتهى آجالكم، وإبليس في النفخة الأولى. * (قال فيها تحيون) *، يعني في الأرض، * (وفيها تموتون) * عند منتهى آجالكم، * (ومنها تخرجون) * [آية: 25] يوم القيامة. تفسير سورة الأعراف آية [26 - 30] * (يا بني آدم) *، نزلت في ثقيف، وبني عامر بن صعصعة، وخزاعة، وبنى مدلج، وعامر والحارث ابني عبد مناة، قالوا: لا نطوف بالبيت الحرام في الثياب التي تفرق فيها الذنوب، ولا يضربون على أنفسهم خباء من وبر، ولا صوف، ولا شعر، ولا آدم، فكانوا يطوفون بالبيت عراة، ونساءهم يطفن بالليل، فأنزل الله: * (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا) *، يقول: من أمرى كان اللباس في الأرض، * (يواري سوءاتكم) *، يعني يغطي عوراتكم، * (وريشا) *، يعني المال، * (ولباس التقوى) *، يعني من العمل
387 الصالح، * (ذلك خير) *، يقول: العمل الصالح خير من الثياب والمال، ثم قال: * (ذلك) * الثياب والمال * (من آيات الله) * ومن صنعه، * (لعلهم) *، يعني لكي * (يذكرون) * [آية: 26] فيعتبروا في صنعه فيوحدوه. ثم قال: * (يا بني آدم) *، يعنيهم، * (لا يفتننكم الشيطان) * في دينكم أمر الثياب، فيدعها عنكم فتبدى عوراتكم، * (كما أخرج أبويكم) *، يعني كما فعل بأبويكم آدم وحواء، فأخرجهما * (من الجنة) *، وبدت عورتهما، فذلك قوله: * (ينزع عنهما لباسهما) *، يعني ثيابهما، * (ليريهما سوءاتهما) *، يعني عوراتهما، * (إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم) *، يقول: يراكم إبليس وجنوده من الشياطين من حيث لا ترونهم، * (إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون) * [آية: 27]، يعني لا يصدقون. ثم قال: * (وإذا فعلوا فاحشة) *، يعني معصية فيما حرموا من الحرث، والأنعام، والثياب، والألبان، فنهوا عن تحريم ذلك، * (قالوا وجدنا عليها ءاباءنا والله أمرنا بها) *، يعني بتحريم ذلك، ثم قال: * (قل) * يا محمد: * (إن الله لا يأمر بالفحشاء) *، يعني بالمعاصي فيحرم ذلك، وقل لهم: * (أتقولون على الله) * ربكم إنه حرم عليكم * (ما لا تعلمون) * [آية: 28] إنه حرمة. و * (قل) * لهم: * (أمر ربي بالقسط) *، يعني بالعدل، * (وأقيموا وجوهكم) *، يعني وأمر ربي أن تقيموا وجوهكم، يعني إلى القبلة، * (عند كل مسجد) * في بيعة أو كنيسة أو غيرها، فصلوا قبل الكعبة، وأمرهم بالصلاة والتوحيد، فذلك قوله: * (وادعوه مخلصين) * يعني موحدين، * (له الدين كما بدأكم تعودون) * [آية: 29]، يعني كما خلقكم سعداء وأشقياء كذلك تعودون. * (فريقا هدى) * لدينه، * (وفريقا حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء) * يعني أربابا، * (من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون) * [آية: 30]، أنهم على الهدى. تفسير سورة الأعراف آية [31 - 35]
388 ثم قال يعنيهم: * (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد) * في كنيسة، أو بيعة، أو غيرها، * (وكلوا) * من الحرث والأنعام، * (واشربوا) * من الألبان، * (ولا تسرفوا) *، يقول: ولا تشركوا الآلهة في تحريم الحرث، والأنعام، والثياب، والألبان، مما هو حل لكم، * (إنه لا يحب المسرفين) * [آية 31]، يعني المشركين. * (قل) * لهم: * (من حرم زينة الله) *، يعني الثياب، * (التي أخرج لعباده والطيبات) *، يعني الحلال، * (من الرزق) *، يعني الحرث، والأنعام، والألبان، * (قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة) *، يقول: أشرك في الطيبات في الدنيا المؤمن والكافر، وهي خالصة للمؤمنين يوم القيامة، * (كذلك نفصل) *، يقول: هكذا نبين * (الآيات) *، يعني أمور ما ذكر في هذه الآية، * (لقوم يعلمون) * [آية: 32] بتوحيد الله. ثم أخبرهم بما حرم الله، فقال: * (قل إنما حرم ربي الفواحش) * يعني الزنا، * (ما ظهر منها) *، يعني العلانية، * (وما بطن) * في السر وكانوا يتكرمون عن الزنا في العلانية، ويفعلوه في السر، وحرم شرب الخمر، * (والإثم) * والمعاصي، * (والبغي) *، يعني ظلم الناس، * (بغير الحق) *، إلا أن يقتص منه بحق، * (و) * حرم * (وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا) *، يعني كتابا فيه حجتكم بأن معه شريكا، * (و) * حرم * (وأن تقولوا على الله) * بأنه حرم الحرث، والأنعام، والألبان، والثياب، * (ما لا تعلمون) * [آية: 33] أنه حرمه. ثم خوفهم بالعذاب، فقال: * (ولكل أمة أجل) * العذاب، * (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) * [آية: 34]، يقول: لا يتأخرون ولا يتقدمون حتى يعذبوا، وذلك حين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن العذاب. ثم قال: * (يا بني آدم) *، يعني مشركي العرب، * (أما) * فإن * (يأتينكم رسل منكم) * محمد صلى الله عليه وسلم وحده، * (يقصون عليكم آياتي) *، يعني يتلون عليكم القرآن، * (فمن اتقى) * الشرك * (وأصلح) * العمل وآمن بالله، * (فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * [آية: 35] من الموت.
389 تفسير سورة الأعراف آية [36 - 39] * (والذين كذبوا بآياتنا) *، يعني بالقرآن أنه ليس من الله، * (واستكبروا عنها) *، وتكبروا عن الإيمان بآيات القرآن، * (أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) * [آية: 36]. * (فمن أظلم) *، يعني فلا أحد أظلم، * (ممن افترى على الله كذبا) * بأن معه شريكا وأنه أمر بتحريم الحرث، والأنعام، والألبان، والثياب، * (أو كذب بآياته) *، يعني بآيات القرآن، * (أولئك ينالهم نصيبهم) *، يعني حظهم، * (من الكتاب) *، وذلك أن الله قال في الكتب كلها: إنه من افترى على الله كذبا، فإنه يسود وجهه، فهذا ينالهم في الآخرة، نظيرها في الزمر: * (ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة) * [الزمر: 60، وقال: * (حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم) *، يعني ملك الموت وحده، ثم قالت لهم خزنة جهنم قبل دخول النار في الآخرة: * (قالوا أين ما كنتم تدعون) *، يعني تعبدون، * (من دون الله) * من الآلهة، هل يمنعونكم من النار، * (قالوا ضلوا عنا) *، يعني ضلت الآلهة عنا، يقول الله: * (وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين) * [آية: 37]، وذلك حين قالوا: * (والله ربنا ما كنا مشركين) * [الأنعام: 23]، فشهدت عليهم الجوارح بما كتمت الألسن من الشرك والكفر، نظيرها في الأنعام. * (قال) *، أي قالت الخزنة: * (ادخلوا) * النار * (في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة) * النار * (لعنت أختها) *، لعنت أهل ملتهم يلعن المشركون المشركين، ويلعن اليهود اليهود، ويلعن النصارى النصارى، ويلعن المجوس المجوس، ويلعن الصابئون الصابئين، ويلعن الأتباع القادة، يقولون: لعنكم الله أنتم ألقيتمونا في هذا
390 الملقى حين أطعناكم، يقولون: * (حتى إذا اداركوا فيها) *، يعني حتى إذا اجتمعوا في النار * (جميعا) * القادة، والأتباع، وقد دخلت القادة والأتباع، * (قالت أخراهم) * دخولا النار، * (وهم الأتباع) * * (لأولاهم) * دخولا النار، وهم القادة، * (ربنا هؤلاء) * القادة * (أضلونا) * عن الهدى، * (فآتهم عذابا ضعفا) *، يعني أعطهم عذابا مضاعفا * (من النار) * * (قال) * يقول الله: * (لكل) *، يعني الأتباع والقادة، * (ضعف) * يضاعف العذاب، * (ولكن لا تعلمون) * [آية: 38]. * (وقالت أولاهم) * دخولا النار، وهم القادة، * (لأخراهم) * دخولا النار، وهم الأتباع، * (فما كان لكم علينا من فضل) * في شيء، فقد ضللتم كما ضللنا، * (فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون) * [آية: 39]، يعني تقولون من الشرك والتكذيب. تفسير سورة الأعراف آية [40 - 47] * (إن الذين كذبوا بآياتنا) *، يعني القرآن، * (واستكبروا عنها) *، يعني وتكبروا عن الإيمان بآيات القرآن، * (لا تفتح لهم) *، يعني لأرواحهم ولا لأعمالهم، * (أبواب السماء) *، كما تفتح أبواب السماء لأرواح المؤمنين ولأعمالهم إذا ماتوا، ثم قال: * (ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط) *، يقول: حتى يدخل البعير في خرق الإبرة،
391 * (وكذلك) *، يعني وهكذا، * (نجزي المجرمين) * [آية: 40] لا يدخلون الجنة. ثم ذكر ما أعد لهم في النار، فقال: * (لهم من جهنم مهاد) *، يعني فراش من نار، * (ومن فوقهم غواش) *، يعني لحفا، يعني ظللا من النار، وذلك قوله في الزمر: * (لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل) * [الزمر: 16]، يقول: * (وكذلك) *، يعني وهكذا، * (نجزي الظالمين) * [آية: 41] جهنم، وما فيها من العذاب. ثم ذكر المؤمنين، فقال: * (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها) *، يقول: لا نكلفها من العمل إلا ما تطيق، * (أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون) * [آية: 42] لا يموتون. ثم أخبر عنهم، فقال: * (ونزعنا ما في صدورهم من غل) *، يعني ما كان في الدنيا في قلوبهم من غش، يعني بعضهم لبعض، وذلك أن أهل الجنة إذا هم بشجرة ينبع من ساقها عينان، فيميلون إلى أحدهما فيشربون منها، فيخرج الله ما كان في أجوافهم من غل أو أقذار، فيطهر الله أجوافهم، * (وسقاهم ربهم شرابا طهورا) * [الإنسان: 21]، ثم يميلون إلى العين الأخرى، فيغتسلون فيها، فيطيب الله أجسادهم من كل درن، وجرت عليهم النظرة، فلا تشعث رؤوسهم، ولا تغبر وجوههم، ولا تشحب أجسادهم، ثم تتلقاهم خزنة الجنة قبل أن يدخلوا الجنة، فينادونهم، يعني قالوا لهم: * (أن تلكم الجنة أورثتموها) *، يقول: هاكم الجنة أورثتموها * (بما كنتم تعملون) *، فلما استقروا في منازلهم، * (تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا) *، أي للإسلام ولهذا الخير، * (وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله) * لدينه، ما كنا لنهتدي في التقديم، * (لقد جاءت رسل ربنا بالحق) *، بأن هذا اليوم حق فصدقناهم، * (ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون) * [آية: 44]. * (ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا) * من الخير والثواب في الدنيا، * (فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا) * في الدنيا من العذاب، * (قالوا نعم فأذن مؤذن بينهم) *، وهو مالك ينادي: * (أن لعنة الله على الظالمين) * [آية: 49] يعني عذاب الله على المشركين. ثم نعت أعمالهم الخبيئة، فقال: * (الذين يصدون عن سبيل الله) *، يعني دين الإسلام، * (ويبغونها عوجا) *، ويريدون بملة الإسلام زيفا، * (وهم بالآخرة) *، يعني بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال، * (كافرون) * [آية: 45].
392 ثم قال: * (وبينهما حجاب) *، يقول: بين الجنة والنار سور، * (وعلى الأعراف) *، يعني على السور رجال * (رجال يعرفون كلا) * من الفريقين * (بسيماهم) *، يعرفون أهل الجنة ببياض في الوجوه، وأهل النار بسواد الوجوه، * (ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم) *، يسلم أصحاب الأعراف على أهل الجنة، يقول الله: * (لم يدخلوها) *، يعني أصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنة، * (وهم يطمعون) * [آية: 46] في دخولها، وإنما طمعوا في دخول الجنة من أجل النور الذي بين أيديهم وعلى أقدامهم مثل السراج. ثم قال: * (وإذا صرفت أبصارهم) *، يعني قلبت وجوههم، * (تلقاء أصحاب النار) *، يقول: وإذا نظر أصحاب الأعراف قبل أهل النار، * (قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين) * [آية: 47]، يعني مع المشركين في النار. تفسير سورة الأعراف آية [48 - 49] * (ونادى أصحاب الأعراف رجالا) *، هم في النار، * (يعرفونهم بسيماهم) *، يعني بسواد الوجوه من القادة والكبراء، * (قالوا ما أغنى عنكم جمعكم) * في الدنيا، * (وما كنتم تستكبرون) * [آية: 48]، يعني وما أغنى عنكم ما كنتم تستكبرون عن الإيمان، فأقسم أهل النار أن أهل الأعراف سيدخلون النار معهم. قالت الملائكة الذين حبسوا أصحاب الأعراف على الصراط: * (أهؤلاء) *، يعني أصحاب الأعراف، * (الذين أقسمتم) * يا أهل النار أنهم * (لا ينالهم الله برحمة) *، ثم قالت الملائكة: يا أصحاب الأعراف، * (ادخلوا الجنة لا خوف عليكم) * من العذاب، * (ولا أنتم تحزنون) * [آية: 49] من الموت. فقال مقاتل: إن أصحاب الأعراف من أمة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة، وهم الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم، فحسبوا على الصراط من أجل ذنوبهم، ثم دخلوا الجنة بعد ذلك بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم. تفسير سورة الأعراف آية [50 - 51]
393 * (ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء) *، يقول: اسقونا من الماء نشرب، * (أو) * أطعمونا * (مما رزقكم الله) * من الطعام نأكل، فإن فينا معارفكم وفيكم معارفنا، فرد عليهم أهل الجنة، * (قالوا إن الله حرمهما) *، يعني الطعام والشراب، * (على الكافرين) * [آية: 50]، وذلك أن الله عز وجل رفع أهل الجنة لأهل النار، فرأوا ما فيهما من الخير والرزق، فنادوا عند ذلك: * (أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله) * من الشراب والطعام، قال لهم أهل الجنة: * (إن الله حرمهما على الكافرين) *. ثم نعتهم، فقال: * (الذين اتخذوا دينهم) * الإسلام، * (لهوا ولعبا) *، يعني لهوا عنه، ولعبا يعني باطلا، ودخلوا في غير دين الإسلام، * (وغرتهم الحياة الدنيا) * عن دينهم الإسلام، * (فاليوم) * في الآخرة، * (ننساهم كما نسوا) *، يقول: فاليوم في الآخرة نتركهم في النار، كما تركوا الإيمان، * (لقاء يومهم هذا) *، يعني بالبعث، * (وما كانوا بآياتنا) *، يعني بالقرآن * (يجحدون) * [آية: 51] بأنه ليس من الله. تفسير سورة الأعراف آية [52 - 53] * (ولقد جئناهم بكتاب فصلناه) *، يعني بيناه، * (على علم) *، وهو القرآن، * (هدى) * من الضلالة، * (ورحمة) * من العذاب، * (لقوم يؤمنون) * [آية: 52]، يعني يصدقون بالقرآن بأنه من الله. ثم رجع في التقديم إلى الذين جحدوا بالقرآن، فقال: * (هل ينظرون) *، يخوفهم، * (إلا تأويله يوم يأتي تأويله) *، يعني العاقبة، ما وعد الله في القرآن من الوعد والوعيد، والخير والشر، على ألسنة الرسل، * (يقول الذين نسوه من قبل) *، يعني يقول في الآخرة الذين تركوا الإيمان في الدنيا بالبعث، فإذا ذكروه، وعاينوا قول الرسل، قالوا: * (قد جاءت رسل ربنا بالحق) *، بأن هذا اليوم كائن، وهو حق، * (فهل لنا من شفعاء) * من الملائكة والنبيين وغيرها، * (فيشفعوا لنا أو نرد) * إلى الدنيا، * (فنعمل) * من الخير * (غير الذي كنا نعمل) * من الشر، يعني الشرك والتكذيب، يقول الله * (قد خسروا
394 أنفسهم) *، يقول: قد غبنوا أنفسهم، فساروا إلى النار، * (وضل عنهم) * (في الآخرة) * (ما كانوا يفترون) * [آية: 53] في الدنيا من التكذيب. تفسير سورة الأعراف آية [54 - 56] * (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش) * (قبل ذلك) * (يغشى اليل النهار) *، يقول: يغشى ظلمة الليل ضوء النهار، * (يطلبه حثيثا) *، يعني سريعا، * (والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره) * لبني آدم، * (ألا له الخلق) *، يعني كل شيء خلق، * (والأمر) *، يعني قضاءه في الخلق الذي في اللوح المحفوظ، فله المشيئة في الخلق والأمر، * (تبارك الله رب العالمين) * [آية: 54]، فيخبر بعظمته وقدرته. ثم بين كيف يدعونه، فقال: * (ادعوا ربكم تضرعا) *، يعني مستكينين، * (وخفية) *، يعني في خفض وسكون، كقوله: * (ولا تخافت بها) * [الإسراء: 110]، يعني تسر بها، فادعوه في حاجتكم ولا تدعوه فيما لا يحل لكم على مؤمن أو مؤمنة، تقول: اللهم اخزه والعنه، اللهم أهلكه، أو افعل به كذا وكذا، فذلك عدوان، * (إنه) * (الله) * (لا يحب المعتدين) * [آية: 55]. * (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) *، وذلك أن الله بعث نبيا إلى الناس فأطاعوه، صلحت الأرض وصلح أهلها، وأن المعاصي فساد المعيشة، وهلاك أهلها، يقول: لا تعملوا في الأرض بالمعاصي بعد الطاعة، * (وادعوه خوفا) * من عذابه، * (وطمعا) * في رحمته، فمن فعل ذلك وهو محسن، فذلك قوله: * (إن رحمت الله قريب من المحسنين) * [آية: 56]، يعني بالرحمة المطر، يقول: الرحمة لهم. تفسير سورة الأعراف آية [57 - 64]
395 * (وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته) *، يقول: الرياح نشرا للسحاب. كقوله: * (يرسل الرياح فتثير سحابا) * [الروم: 48]، يسير السحاب قدام الرياح، * (حتى إذا أقلت) *، يعني إذا حملت الريح * (سحابا ثقالا) * من الماء، * (سقناه لبلد ميت) *، ليس فيه نبات، * (فأنزلنا به الماء فأخرجنا به) * بالماء من الأرض، * (من كل الثمرات كذلك) *، يعني هكذا، * (نخرج) *، يخرج الله * (الموتى) * من الأرض بالماء، كما أخرج النبات من الأرض بالماء، * (لعلكم) *، يعني لكي * (تذكرون) * [آية: 57] فتعتبروا في البعث أنه كائن، نظيرها في الروم والملائكة. ثم ضرب مثلا للمؤمنين والكفار، فقال: * (والبلد الطيب) *، يعني الأرض العذبة إذا مطرت، * (يخرج نباته بإذن ربه) *، فينتفع به كما ينفع المطر البلد الطيب فينبت، ثم ذكر الكافر، فقال: * (والذي خبث) * من البلد، يعني من الأرض السبخة أصابها المطر، فلم ينبت، * (لا يخرج إلا نكدا) *، يعني إلا عسرا رقيقا يبس مكانه، فلم ينتفع به، فهكذا الكافر يسمع الإيمان ولا ينطق به ولا ينفعه، كما لا ينفع هذا النبات الذي يخرج رقيقا فييبس مكانه، * (كذلك) *، يعني هكذا * (نصرف الآيات) * في أمور شتى لما ذكره في هاتين الآيتين، * (لقوم يشكرون) * [آية: 58]، يعني يوحدون ربهم. * (لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله) *، يعني وحدوا الله، * (ما لكم من إله غيره) *، يقول: ليس لكم رب غيره، فإن لم تعبدوه، * (إني أخاف عليكم) * في الدنيا * (عذاب يوم عظيم) * [آية: 59] لشدته.
396 * (قال الملأ من قومه) *، وهم القادة والكبراء لنوح: * (إنا لنراك في ضلال مبين) * [آية: 60]. * (قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين) * [آية: 61] إليكم. * (أبلغكم رسالات ربي) * في نزول العذاب بكم في الدنيا، * (وأنصح لكم) * فيها وأحذركم من عذابه في الدنيا، * (وأعلم من الله) * في نزول العذاب بكم، * (ما لا تعلمون) * [آية: 62] أنتم. وذلك أن قوم نوح لم يسمعوا بقوم قط عذبوا، وقد سمعت الأمم بعدهم بنزول العذاب على قوم نوح، ألا ترى أن هودا قال لقومه: * (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح) * [الأعراف: 69]، وقال صالح لقومه: * (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد) * هلاك * (عاد) * [الأعراف: 74]، وحذر شعيب قومه، فقال: * (أن يصيبكم) * من العذاب * (مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد) * [هود: 89]، فمن ثم قال نوح لقومه: أعلم ما لا تعلمون. فقال بعضهم لبعض، الكبراء للضعفاء: ما هذا إلا بشر مثلكم، أفتتبعونه؟ فرد عليهم نوح: * (أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم) *، يعني بيان من ربكم، * (على رجل منكم) *، يعني نفسه، * (لينذركم) * العذاب في الدنيا، * (ولتتقوا) * الشرك وتوحدوا ربكم، * (ولعلكم) *، يعني لكي * (ترحمون) * [آية: 63]، فلا تعذبوا. * (فكذبوه) * في العذاب أنه ليس بنازل بنا، يقول الله: * (فأنجيناه) *، يعني نوحا، * (والذين معه) * من المؤمنين، في الفلك ر، يعني السفينة من الغرق برحمة منا، * (وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا) *، يعني نزول العذاب، * (إنهم كانوا قوما عمين) * [آية: 64]، عموا عن نزول العذاب بهم، وهو الغرق. تفسير سورة الأعراف آية [65 - 72]
397 * (و) * أرسلنا * (وإلى عاد أخاهم هودا) *، ليس بأخيهم في الدين، ولكن أخوهم في النسب، * (قال يا قوم اعبدوا الله) *، يعني وحدوا الله، * (ما لكم من إله غيره) *، يقول: ما لكم رب غيره، * (أفلا تتقون) * [آية: 65]، يعني الشرك، أفلا توحدون ربكم. * (قال الملأ الذين كفروا من قومه) *، وهم الكبراء لهود والقادة: * (إنا لنراك في سفاهة) *، يعني في حمق، * (وإنا لنظنك) *، يعني لنحسبك، * (من الكاذبين) * [آية: 66] فيما تقول في نزول العذاب بنا. * (قال يا قوم ليس بي سفاهة) *، يعني حمق، * (ولكني رسول من رب العالمين) * [آية: 67] إليكم. * (أبلغكم رسالات ربي) * في نزول العذاب بكم في الدنيا، * (وأنا لكم ناصح) * فيما أحذركم من عذابه، * (امين) * [آية: 68] فيما بيني وبينكم. فقال الكبراء للضعفاء: ما هذا إلا بشر مثلكم، أفتتبعونه؟ فرد عليهم هود: * (أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم) *، يعني بيان من ربكم، * (على رجل منكم) *، يعني نفسه، * (لينذركم) * العذاب في الدنيا، * (واذكروا إذ جعلكم خلفاء) * في الأرض، * (من بعد) * هلاك * (قوم نوح وزادكم في الخلق بصطة) * على غيركم، كان طول كل رجل منهم اثنى عشر ذراعا ونصفا، * (فاذكروا آلاء الله) *، يعني نعم الله فوحدوه، * (لعلكم) *، يعني لكي * (تفلحون) * [آية: 69] ولا تعبدوا غيره. * (قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر) * عبادة * (ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا) * من العذاب، * (إن كنت من الصادقين) * [آية: 70] إن العذاب نازل بنا. * (قال) * هود: * (قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب) *، يعني إثم وعذاب، * (أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم) * إنها آلهة، * (ما نزل الله بها من
398 سلطان) *، يعني من كتاب لكم فيه حجة بأن معه شريكا، * (فانتظروا) * العذاب * (إني معكم من المنتظرين) * [آية: 71] بكم العذاب. * (فأنجيناه) *، يعني هودا، * (والذين معه) * (من المؤمنين) * (برحمة منا) *، يعني بنعمة منا من العذاب، * (وقطعنا دابر) *، يعني أصل القوم * (الذين كذبوا بآياتنا) *، يعني بنزول العذاب، * (وما كانوا مؤمنين) * [آية: 72]، يعني مصدقين بالعذاب أنه نازل بهم، وهي الريح. تفسير سورة الأعراف آية [72 - 79] ثم ذكر الله ثمود قوم صالح، فقال: * (و) * (أرسلنا) * (وإلى ثمود أخاهم صالحا) *، ليس بأخيهم في الدين، ولكن أخوهم في النسب، * (قال يا قوم اعبدوا الله) *، يعني وحدوا الله، * (ما لكم من إله غيره) *، يقول: ليس لكم رب غيره، * (قد جاءتكم بينة من ربكم) *، يعني بالبينة الناقة، فقال: * (هذه ناقة الله لكم آية) *، لتعتبروا فتوحدوا ربكم، وكانت من غير نسل، وكان الفصيل من نسل، * (فذروها تأكل في أرض الله) *، يقول: خلوا عنها فلتأكل حيث شاءت، ولا تكلفكم مؤونة، * (ولا تمسوها بسوء) *، لا تصيبوها بعقر، * (فيأخذكم) *، يعني فيصيبكم * (عذاب أليم) * [آية: 73]، يعني وجيع في الدنيا. * (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد) * هلاك * (عاد وبوأكم في الأرض
399 تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا) *، يعني تبنون في الجبال من الحجارة بيوتا، * (فاذكروا آلاء الله) *، يعني نعم الله في القصور والبيوت فتوحدوه، * (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) * [آية: 74]، يعني ولا تسعوا فيها المعاصي. * (قال الملأ الذين استكبروا) *، يعني الذين تكبروا عن الإيمان، وهم الكبراء، * (من قومه) *، أي من قوم صالح، * (للذين استضعفوا لمن آمن منهم) *، يعني لمن صدق منهم بالتوحيد، * (أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون) * [آية: 75]. * (قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به) *، يعني صدقتم به من العذاب والتوحيد * (كافرون) * [آية: 76]. * (فعقروا الناقة) * ليلة الأربعاء، * (وعتوا عن أمر ربهم) *، يعني التوحيد، * (وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا) * (من العذاب) * (إن كنت من المرسلين) * [آية: 77] الذادقين بأن العذاب نازل بنا. * (فأخذتهم الرجفة) *، يعني فأصابهم العذاب بكرة السبت من صيحة جبريل، عليه السلام، * (فأصبحوا في دارهم جاثمين) * [آية: 78]، يعني في منازلهم خامدين، أمواتا. * (فتولى عنهم) *، يعني فأعرض عنهم حين كذبوا بالعذاب، * (وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي) * في نزول العذاب بكم في الدنيا، * (ونصحت لكم) * فيما حذرتكم من عذابه، * (ولكن لا تحبون الناصحين) * [آية: 79]، يعني نفسه. تفسير سورة الأعراف آية [80 - 84] * (و) * (أرسلنا) * (ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة) *، يعني المعصية، يعني إتيان الرجال، وأنتم تبصرون أنها فاحشة. * (ما سبقكم بها من أحد من العالمين) * [آية: 80] فيما مضى قبلكم.
400 * (إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون) * [آية: 81]، يعني الذنب العظيم. * (وما كان جواب قومه) *، أي قوم لوط حين نهاهم عن الفاحشة، * (إلا أن قالوا أخرجوهم) *، آل لوط، * (من قريتكم إنهم أناس يتطهرون) * [آية: 82]، يعني لوطا وحده، يعني يتنزهون عن إتيان الرجال. * (فأنجيناه وأهله) * من العذاب، * (إلا امرأته كانت من الغابرين) * [آية: 83]، يعني من الباقين في العذاب. * (وأمطرنا عليهم) * الحجارة من فوقهم * (مطرا) *، * (فساء مطر المنذرين) * [الشعراء: 173، النمل: 58]، يعني فبئس مطر الذين أنذروا العذاب، * (فانظر) * يا محمد، * (كيف كان عاقبة المجرمين) * [آية: 84]، يعني قوم لوط، كان عاقبتهم الخسف والحصب بالحجارة. تفسير سورة الأعراف آية [85 - 86] * (و) * أرسلنا * (وإلى مدين) * ابن إبراهيم لصلبه، وأرسلنا إلى مدين * (أخاهم شعيبا) *، ليس بأخيهم في الدين، ولكن أخوهم في النسب، * (قال يا قوم اعبدوا الله) *، يعني وحدوا الله، * (ما لكم من إله غيره) *، ليس لكم رب غيره، * (قد جاءتكم بينة من ربكم) *، يعني بيان من ربكم، * (فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم) *، يعني لا تنقصوا الناس حقوقهم في نقصان الكيل والميزان، * (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) *، بعد الطاعة في نقصان الكيل والميزان، فإن المعاصي فساد المعيشة وهلاك أهلها، * (ذلكم خير لكم) *، يعني وفاء الكيل والميزان خير لكم من النقصان، * (إن كنتم مؤمنين) * [آية: 85]، يقول: إن كنتم آمنتم، كان في الآخرة خير لكم من نقصان الكيل والميزان في الدنيا، نظيرها في هود.
401 * (ولا تقعدوا بكل صراط توعدون) *، يعني ولا ترصدوا بكل طريق توعدون أهل الإيمان بالقتل، * (وتصدون عن سبيل الله) *، يعني عن دين الإسلام، * (من آمن به) *،، يعني من صدق بالله وحده لا شريك له، * (وتبغونها عوجا) * يعني تريدون بملة الإسلام زيفا، * (واذكروا إذ كنتم قليلا) *، عددكم بعد عذاب الأمم الخالية، ثم ذكرهم النعم، فقال: * (فكثركم) *، يعني فكثر عددكم، ثم وعظهم وخوفهم بمثل هذاب الأمم الخالية، فقال: * (وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين) * [آية: 86] في الأرض بالمعاصي بعد عذاب قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط في الدنيا، نظيرها في هود. تفسير سورة الأعراف آية [87 - 93] * (وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به) * من العذاب، * (وطائفة لم يؤمنوا) *، يعني لم يصدقوا بالعذاب، * (فاصبروا حتى يحكم الله) *، حتى يقضى الله * (بيننا) * في أمر العذاب، * (وهو خير الحاكمين) * [آية: 87]، يعني وهو خير الفاصلين، فكان قضاؤه نزول العذاب بهم. * (قال الملأ الذين استكبروا من قومه) *، يعني الذين تكبروا عن الإيمان، وهم الكبراء، * (لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا) *، يعنون الشرك، أو لتدخلن في ملتنا، * (قال أولو كنا كارهين) * [آية: 88]. ثم قال لهم شعيب: * (قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم) * الشرك، يعني إن
402 دخلنا في دينكم، * (بعد إذ نجانا الله منها) *، يقول: بعد إذ لم يجعلنا الله من أهل ملتكم الشرك، * (وما يكون لنا أن نعود فيها) *، وما ينبغي لنا أن ندخل في ملتكم الشرك، * (إلا أن يشاء الله ربنا) *، فيدخلنا في ملتكم، * (وسع) *، يعني ملأ * (ربنا كل شيء علما) *، فعلمه، * (على الله توكلنا) *، لقولهم لشعيب: لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا، ثم قال شعيب: * (ربنا افتح) *، يعني اقض * (بيننا وبين قومنا بالحق) *، يعني بالعدل في نزول العذاب بهم، * (وأنت خير الفاتحين) * [آية: 89]، يعني القاضين. * (وقال الملأ الذين كفروا من قومه) *، وهم الكبراء للضعفاء، * (لئن اتبعتم شعيبا) * على دينه، * (إنكم إذا لخاسرون) * [آية: 90]، يعني لعجزه، نظيرها في يوسف: * (لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون) * [يوسف: 14]، يعني لعجزه ظالمون. * (فأخذتهم الرجفة) *، يعني العذاب، * (فأصبحوا) * من صيحة جبريل، عليه السلام، * (في دارهم) *، يعني قريتهم، * (جاثمين) * [آية: 91]، يعني أمواتا خامدين. * (الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها) *، يعني كأن لم يكونوا فيها قط، * (الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين) * [آية: 92]. * (فتولى عنهم) *، يعني فأعرض عنهم حين كذبوا بالعذاب، نظيرها في هود، * (وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي) *، في نزول العذاب بكم في الدنيا، * (ونصحت لكم) * فيما حذرتكم من عذابه، * (فكيف آسى) *، يقول: فكيف أحزن بعد الصيحة، * (على قوم كافرين) * [آية: 93] إذا عذبوا. تفسير سورة الأعراف آية [94 - 102]
403 * (وما أرسلنا في قرية من نبي) * فكذبوه، * (إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء) *، يعني قحط المطر، فأصابهم البؤس، وهو الشدة، والضر يعني البلاء، * (لعلهم) *، يعني لكي، * (يضرعون) * [آية: 94] إلى ربهم فيوحدونه فيرحمهم. * (ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة) *، يقول: حولنا مكان الشدة الرخاء، * (حتى عفوا) *، يقول: حموا وسمتوا، فلم يشكروا ربهم، فقالوا من غيرتهم وجهلهم: * (وقالوا قد مس آباءنا) *، يعني أصاب آباءنا، * (الضراء والسراء) *، يعني الشدة والرخاء مثل ما أصابنا، فلم يك شيئا، يقول: * (فأخذناهم) * بالعذاب * (بغتة) *، فجأة، * (وهم لا يشعرون) * [آية: 95] أعز ما كانوا حتى ينزل بهم، وقد أنذرتهم رسلهم العذاب من قبل أن ينزل بهم، فذلك قوله: * (ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم) *، بالشرك، * (وأهلها غافلون) * [الأنعام: 131]. ثم أخبر عنهم، فقال: * (ولو أن أهل القرى) * التي عذبت، * (آمنوا) * بتوحيد الله، * (واتقوا) * الشرك ما قحط عليهم المطر، و * (لفتحنا عليهم بركات من السماء) *، يعني المطر، * (والأرض) *، يعني النبات، * (ولكن كذبوا فأخذناهم) * بالعذاب، * (بما كانوا يكسبون) * [آية: 96] من الشرك والتكذيب. * (أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى) *، يعني عذابنا نهارا، * (وهم نائمون) * [آية: 97]. * (أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا) *، يعني عذابنا ليلا، * (وهم يلعبون) * [آية: 98]، يعني لاهون عنه، نظيرها في طه: * (وأن يحشر الناس ضحى) * [طه ' 59]، يعني نهارا. * (أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله) *، يعني عذاب الله، * (إلا القوم الخاسرون) * [آية: 99]. * (أو لم يهد للذين يرثون الأرض) *، يعني ورثوا الأرض، * (من بعد) * هلاك * (أهلها أن لو نشاء أصبناهم) * بعذاب، * (بذنوبهم) * يخوف كفار مكة، * (ونطبع
404 على قلوبهم) * (بالكفر) * (فهم لا يسمعون) * [آية: 100] بالإيمان. ثم رجع إلى القرى الخالية التي عذبت، فقال: * (تلك القرى نقص عليك من انبائها) *، يعني حديثها، * (ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات) *، يعني بيان العذاب، فإنه نازل بهم في الدنيا، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر كفار مكة أن العذاب نازل بهم، فكذبوه بالعذاب، فأنزل الله: * (فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل) *، يقول: فما كان كفار مكة ليؤمنوا، يعني ليصدقوا أن العذاب نازل بهم في الدنيا بما كذبت به أوائلهم من الأمم الخالية من قبل كفار مكة حين أنذرتهم رسلهم العذاب، يقول الله: * (كذلك يطبع الله) *، يعني هكذا يختم الله بالكفر * (على قلوب الكافرين) * [آية: 101]. * (وما وجدنا لأكثرهم من عهد) *، وذلك أن الله أخذ ميثاق ذرية آدم على المعرفة، فأقروا بذلك، فلما بلغوا العمل نقضوا العهد، * (وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين) * [آية: 102]. تفسير سورة الأعراف من آية: [102 - 116] * (ثم بعثنا من بعدهم) *، يعني من بعد الرسل، * (موسى بآياتنا إلى فرعون وملإيه) *، يعني اليد والعصا، * (فظلموا بها) *، يعني فجحدوا بالآيات، وقالوا: ليست من الله فإنها سحر، * (فانظر) * يا محمد * (كيف كان عاقبة المفسدين) * [آية: 103] في الأرض بالمعاصي، فكان عاقبتهم الغرق.
405 * (وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين) * [آية: 104]. * (حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق) *، فإنه بعثني رسولا، * (قد جئتكم ببينة من ربكم) *، يعني اليد والعصا بأنى رسول الله، * (فأرسل معي بني إسرائيل) * [آية: 105] إلى فلسطين. * (قال) * فرعون: * (إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين) * [آية: 106]، بأنك رسول رب العالمين، وفي يد موسى عصا، فزعم ابن عباس أن ملكا من الملائكة دفعها إليه حين توجه إلى مدين، فقال موسى لفرعون: ما هذه بيدي؟ قال فرعون: عصا. * (فألقى) * موسى * (عصاه) * من يده، * (فإذا هي ثعبان مبين) * [آية: 107]، يعني حية بينة، فقال فرعون: فهل من آية غيرها؟ قال: نعم، فأخرج يده، وقال لفرعون: ما هذه؟ قال: هذه يدك، فأدخل موسى يده في جيبه وعليه مدرعة من صوف مضرية، ثم أخرجها. فذلك قوله: * (ونزع يده) *، يعني أخرج يده من جيبه، * (فإذا هي بيضاء للناظرين) * [آية: 108]، لها شعاع كشعاع الشمس يغشى البصر من شدة بياضها. * (قال الملأ) *، وهم الكبراء، * (من قوم فرعون إن هذا) *، يعني موسى * (لساحر عليم) * [آية: 109]، يعني عالم بالسحر، وذلك أن فرعون بدأ بهذه المقالة فصدقه قومه، نظيرها في الشعراء. ثم قال لهم فرعون: * (يريد أن يخرجكم من أرضكم) *، وهي مصر، * (فماذا تأمرون) * [آية: 110]، يعني تشيرون. فرد عليه كبراء قومه: * (قالوا أرجه وأخاه) *، يقول: أرجئ أمرهم، يقول: أوقف أمرهم حتى ننظر، في أمرهما، * (وأرسل في المدائن حاشرين) * [آية: 111]. * (يأتوك) *، يحشرون عليك، * (بكل ساحر عليم) * [آية: 112]، يعنون عالم بالسحر. * (وما جاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا) *، يعني جعلا، * (إن كنا نحن الغالبين) * [آية: 113] لموسى.
406 * (قال) * فرعون: * (نعم وإنكم لمن المقربين) * [آية: 114]، في المنزلة سوى العظمة، كان هذا يوم السبت في المحرم، والسحرة اثنان وسبعون رجلا. * (قالوا يا موسى) *، فقالت السحرة لموسى: * (إما أن تلقي) * ما في يدك، يعني عصاه، * (وإما أن نكون نحن الملقين) * [آية: 115] ما في أيدينا من الحبال والعصى. * (قال) * لهم موسى: * (ألقوا) * ما أنتم ملقون، * (فلما ألقوا) * الحبال والعصى، * (سحروا أعين الناس واسترهبوهم) *، يعني وخوفوهم، * (وجاؤوا بسحر عظيم) * [آية: 116]. تفسير سورة الأعراف آية [117 - 129] * (وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك) *، فصارت حية، * (فإذا هي تلقف) *، يعني تلقم، * (ما يأفكون) * [آية: 117]، يعني ما جاءوا به من الكذب. * (فوقع الحق) *، يعني فظهر الحق بأنه ليس بسحر، * (وبطل ما كانوا يعملون) * [آية: 118]، يعني بطل ما كانوا يعملون من السحر. * (فغلبوا هنالك) *، يعني عند ذلك، * (وانقلبوا صاغرين) * [آية: 119]، يعني فرجعوا إلى منازلهم مذلين
407 * (وألقي السحرة ساجدين) * [آية: 120] لله. * (قالوا آمنا برب العالمين) * [آية: 121]، قال السحرة: آمنا ب * (رب موسى وهارون) * [آية: 122]، فبهت فرعون لردهم عليه. و * (قال فرعون) * للسحرة، * (آمنتم به) *، يعني صدقتم بموسى، * (قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة) *، يقول: إن هذا الإيمان لقول قلتموه في المدينة، يعني في أهل مصر في متابعتكم إياه، وذلك أن موسى قال للساحر الأكبر، واسمه شمعون: أتؤمن لي إن غلبتك؟ قال: لآتين بسحر لا يغلبه سحرك، ولئن غلبتني لأؤمن لك، وفرعون ينظر، فمن ثم قال فرعون: * (لتخرجوا منها أهلها) *، من أرض مصر، يعني موسى، وهارون، وشمعون رئيس السحرة، * (فسوف تعلمون) * [آية: 123] فأوعدهم. * (لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف) *، يعني اليد اليمنى والرجل اليسرى، أو الرجل اليمنى واليد اليسرى، * (ثم لأصلبنكم أجمعين) * [آية: 124]. فرد السحرة على فرعون، * (قالوا إنا إلى ربنا منقلبون) * [آية: 125]، يعني راجعين. * (وما تنقم) *، يعني وما نقمت * (منا إلا أن آمنا بآيات ربنا) *، يعني صدقنا باليد والعصا آيتان من ربنا، * (لما جاءتنا) *، ثم قالوا: * (ربنا أفرغ علينا) *، يعني ألقى علينا * (صبرا) * عند القطع والصلب، * (وتوفنا مسلمين) * [آية: 126]، يعني مخلصين لله حتى لا يردنا البلاء عن ديننا، فصلبهم فرعون من يومه، فكانوا أول النهار سحرة كفارا، وآخر النهار شهداء مسلمين لما آمنت السحرة لموسى. * (وقال الملأ) *، يعني الأشراف * (من قوم فرعون أتذر موسى وقومه) *، بني إسرائيل قد آمنوا بموسى، * (ليفسدوا في الأرض) *، يعني مصر، يعني بالفساد أن يقتل أبناءكم، ويستحيى نساءكم، يعني ويترك بناتكم كما فعلتم بقومه يفعله بكم، نظيرها في حم المؤمن، * (ويذرك وآلهتك) *، يعني ويترك عبادتك، * (قال) * فرعون عند ذلك: * (سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم) *، يعني بناتهم، * (وإنا فوقهم قاهرون) * [آية: 127]
408 ثم أمرهم أن يقتلوا أبناء الذين معه، ويستحيوا نساءهم، فمنعهم الله من قتل الأبناء حين أغرقهم في البحر، وكان فرعون قد كلفهم من العمل ما لم يطيقوا، فمر بهم موسى، عليه السلام، ف * (قال) * لهم * (موسى لقومه) * في التقديم: * (استعينوا بالله) * على فرعون وقومه، * (واصبروا) * على البلاء، * (إن الأرض) *، أرض مصر، * (لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة) *، يعني الجنة * (للمتقين) * [آية: 128]، يعني للموحدين. ف * (قالوا أوذينا) * في سببك * (من قبل أن تأتينا) * الرسالة، يعنون الأذى قتل الأبناء وترك البنات، * (و) * أوذينا * (ومن بعد ما جئتنا) * بالرسالة، يعنون حين كلفهم فرعون من العمل ما لم يطيقوا مضارة باتباعهم موسى، عليه السلام، قال موسى: * (قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم) *، يعني فرعون وقومه، * (ويستخلفكم) * من بعد هلاكهم، * (في الأرض) *، يعني أرض مصر، * (فينظر كيف تعملون) * [آية: 129]، فإنما قال لهم موسى، عليه السلام، ذلك من قول الله تعالى في القصص: * (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض) * [القصص: 5، 6] إلى آيتين، ففعل الله ذلك بهم، فأهلك عدوهم واستخلفهم في الأرض، فاتخذوا العجل. تفسير سورة الأعراف [130 - 136] * (ولقد أخذنا آل فرعون) *، يعني أهل مصر، * (بالسنين) *، يعني قحط المطر، * (ونقص من الثمرات) *، فأصابهم الجوع، * (لعلهم يذكرون) * [آية: 130]، يعني لعلهم يتذكرون.
409 * (فإذا جاءتهم الحسنة) *، يعني الخير والخصب، * (قالوا لنا هذه) *، يعنون نحن أحق بهذا، * (وإن تصبهم سيئة) *، يعني الجوع، والبلاء، وقحط المطر، وهلاك الثمار والمواشي، * (يطيروا بموسى ومن معه) * على دينه، تسألوا أصابنا هذا الشر من سحر موسى، يقول الله: * (ألا إنما طائرهم عند الله) *، يقول: إن الذي أصابهم هو من الله، * (ولكن أكثرهم) *، يعني أهل مصر، * (لا يعلمون) * [آية: 131] أنه من الله الذي أصابهم. * (وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها) *، يعني الآيات التسع، * (فما نحن لك بمؤمنين) * [آية: 132]، يعني بمصدقين، يعني بأنك رسول رب العالمين. * (فأرسلنا) *، فلما قالوا ذلك أرسل الله * (عليهم) * السنين، ونقص من الثمرات، والنبات، و * (الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات) *، يعني باينات بعضها من بعض بين كل آيتين ثلاثين يوما، * (فاستكبروا) *، يعني فتكبروا عن الإيمان، * (وكانوا قوما مجرمين) * [آية: 133]. فأما الطوفان، فهو الماء طغى فوق حروثهم وزروعهم مطردا ثمانية أيام في ظلمة شديدة لا يرون فيها شمسا ولا قمرا، ولا يخرج منهم أحد إلى صنعته، فخافوا الغرق، فصرخوا إلى فرعون، فأرسل إلى موسى، فقال: يا أيها الساحر، ادع لنا ربك أن يكشف عنا هذا المطر، فإن يكشفه لنؤمنن لك، ولنرسلن معك بني إسرائيل، فقال: لا أفعل ما زعمتم أني ساحر، فقالوا: يا موسى، ادع لنا ربك، فدعا ربه، فكشف عنهم المطر، فنبت من الزرع والعشب ما لم ير مثله قط، فقالوا: لقد جزعنا من أمر كان خيرا لنا، فنكثوا العهد، فأرسل الله عليهم الجراد ثمانية أيام، وملئت الأرض حتى كانوا لا يرون الأرض من كثرته، قدر ذراع، فأكل النبات، حتى خافوا ألا يبقى لهم شيء. فقال فرعون: يا موسى، ادع لنا ربك أن يكشف عنا فنؤمن لك، فدعا موسى ربه، فبعث الله ريحا، فاحتملت الجراد فألقته في البحر، قالوا: قد بقي لنا ما نتبلغ به حتى يدركنا الغيث، فنكثوا، فأرسل الله عليهم القمل، وهو الدبى، فغشى كل شيء منهم، فلم يبق عودا أخضر من الزرع والنبات إلا أكله، قال فرعون لموسى: ادع لنا ربك أن يكشفه عنا ونؤمن لك، فدعا ربه، فأمات القمل، وبقى لهم ما يتبلغون، فنكثوا، قالوا:
410 يا موسى، هل يستطيع ربك أن يفعل بنا أشد من هذا؟ فأرسل الله عليهم الضفادع، فدبت في بيوتهم، وعلى ظهورهم، فكان يستيقظ الرجل من نومه وعليه منهم كثرة، فقال فرعون لموسى: ادع لنا ربك فيهلكه، فإنه لم يعذب أحد قط بالضفادع، فدعا موسى ربه، فأمات الضفادع، فأرسل الله مطرا جوادا، فجزى بهم الماء حتى قذفهم في البحر. فقالوا: إنما كان هذا الضفادع من المطر الذي كان أصابنا، فلن يعود إلينا أبدا، فنكثوا، فأرسل الله عليهم الدم، حتى صارت أنهارهم، وركاباهم دما، وأنهار بني إسرائيل ماء عذبا، فإذا دخل القبطي ليستقى من ماء بني إسرائيل، صار دما ما بين يديه وما خلفه صاف، إذا تحول ليأخذ من الصافي، صار دما وخلفه صاف، فمكثوا ثلاثة أيام لا يذوقون ماء صافيا، فقالوا لفرعون: هلكنا وهلكت مواشينا وذرارينا من العطش، فقال لموسى: ادع لنا ربك ليكشف عنا، ونعطيك ميثاقا لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل ، فدعا موسى ربه، فكشفه عنهم، ولما شربوا الماء نكثوا العهد. فذلك قوله: * (لما وقع عليهم الرجز) *، يعني العذاب الذي كان نزل بهم، * (قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز) *، يعني هذا العذاب كله، * (لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل) * [آية: 134] إلى فلسطين. يقول الله: * (فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه) *، يعني الغرق، * (إذا هم ينكثون) * [آية: 135] العهد الذي عاهدوا عليه موسى، عليه السلام، لقولهم: لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل إلى فلسطين. يقول الله: * (فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم) * بلسان العبرانية، يعني به البحر، وهو نهر بمصر، * (بأنهم كذبوا بآياتنا) *، يعني الآيات التسع، قالوا: يا أيها الساحر، أنت الذي تعمل هذه الآيات، وإنها سحر، وليست من الله، * (وكانوا عنها غافلين) * [آية: 136]، يعني معرضين، فلم يتفكروا فيها فيعتبرون. قال فرعون لموسى في حم الزخرف: * (يا أيها الساحر ادع لنا ربك) * [الزخرف: 49]، فقال: لا أدعو وأنتم تزعمون أنى ساحر، فقال في الأعراف: * (يا موسى ادع لنا ربك) * [الأعراف: 134]، يعني سل لنا ربك. تفسير سورة الأعراف آية [137 - 141]
411 ثم قال: * (وأورثنا) * الأرض * (القوم الذين كانوا يستضعفون) *، يعني بني إسرائيل ، يعني بالاستضعاف قتل الأبناء، واستحياء النساء بأرض مصر، وورثهم * (مشارق الأرض) * المقدسة، * (ومغاربها) *، وهي الأردن وفلسطين، * (التي باركنا فيها) *، يعني بالبركة الماء، والثمار الكثيرة، * (وتمت كلمات ربك الحسنى) *، وهي النعمة، * (على بني إسرائيل بما صبروا) *، حين كلفوا بأرض مصر ما لا يطيقون من استعبادهم إياهم، يعني بالكلمة التي في القصص من قوله: * (ونريد أن نمن) * [القصص: 5، 6] إلى آيتين، وأهلك الله عدوهم، ومكن لهم في الأرض، فهي الكلمة، وهي النعمة التي تمت على بني إسرائيل. * (ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه) *، يعني وأهلكنا عمل فرعون وقومه القبط في مصر، * (و) * أهلكنا * (وما كانوا يعرشون) * [آية: 137]، يعني يبنون من البيوت والمنازل. * (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر) *، يعني النيل، نهر مصر، * (فأتوا على قوم يعكفون) *، يعني فمروا على العمالقة يقيمون * (على أصنام لهم) * يعبدونها، فقالت بنو إسرائيل: * (قالوا يا موسى اجعل لنا إلها) * نعبده، * (كما لهم آلهة) * يعبدونها، * (قال إنكم قوم تجهلون) * [آية: 138] * (إن هؤلاء متبر) *، يعني مدمر، * (ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون) * [آية: 139]. * (قال) * لهم موسى: * (أغير الله أبغيكم إلاها) *، يعني ربا، * (وهو فضلكم على العالمين) * [آية: 140]، يعني عالمي أهل مصر حين أنجاكم وأهلكهم.
412 * (وإذ أنجيناكم من آل فرعون) *، يعني بني إسرائيل، * (يسومونكم سوء العذاب) *، يعني يعذبونكم أشد العذاب، * (يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم) * يعني قتل الأبناء وترك البنات، * (وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم) * [آية: 141]، يعني بالعظم شدة ما نزل بهم من البلاء. تفسير سورة الأعراف آية [142 - 147] * (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة) * من ذي القعدة، واعدناه الجبل، * (وأتممناها بعشر) * من ذي الحجة، * (فتم ميقات ربه) *، يعني ربه، * (أربعين ليلة) *، وكان موسى ومن معه قد قطعاو البحر في عشر من المحرم يوم عاشوراء، ثم أعطى التوراة يوم النحر بينهما أحد عشر نهرا، * (وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي) *، بني إسرائيل بخير حين خرج إلى الجبل، * (وأصلح) *، يعني وأرفق بهم، نظيرها في القصص: * (وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين) * [القصص: 27]، يعني الرافقين بك، * (ولا تتبع سبيل المفسدين) * [آية: 142] منهم. * (ولما جاء موسى) * الجبل * (لميقاتنا) *، يعني لميعادنا لتمام الأربعين يوما، * (وكلمه ربه) *، فلما سمع كلام ربه، استحلاه واشتاق إلى رؤية ربه، * (قال) *: يا * (رب أرني أنظر إليك) * له ربه: إنك * (قال لن تراني ولكن) *، اجعل بيني وبينك علما هو أقوى
413 منك، يعني الجبل، * (انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني) *، وإن لم يستقر الجبل مكانه، فإنك لن تطيق رؤيتي، * (فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا) * يعني قطعا، فصار الجبل دكا، يعني قطعا على ستة فرق، فوق ثلاثة بأجبل مكة: بثير، وغار ثور، وحزن، ووقع بالمدينة: رضوى، وورقان، وجبل أحد، فذلك قوله: * (جعله دكا) *، * (وخر موسى صعقا) *، يعني ميتا، * (فلما أفاق) *، يعني رد عليه نفسه، * (قال) * موسى: * (سبحانك تبت إليك) * من قولي: * (رب أرني أنظر إليك) * * (وأنا أول المؤمنين) * [آية: 143]، يعني أول المصدقين بأنك لن ترى في الدنيا. * (قال) * له ربه: * (يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي) * يقول: اخترتك من بني إسرائيل بالرسالة وبالكلام من غير وحى، * (فخذ ما آتيتك) * بقوة، يقول: ما أعطيتك من التوراة بالجد، والمواظبة عليه، * (وكن من الشاكرين) * [آية: 144]، لله في هذه النعم، يعني الرسالة، والكلام من غير وحى. * (وكتبنا له في الألواح) * نقرا كنقش الخاتم، وهي تسعة ألواح، * (من كل شيء) *، فقال: * (موعظة) * من الجهل، * (وتفصيلا) *، يعني بيانا * (لكل شيء) * من الأمر، والنهي، والحد، وكتبه الله عز وجل بيده، فكتب فيها: إني أنا الله الذي لا إله إلا أنا الرحمن الرحيم، لا تشركوا بي شيئا، ولا تقتلوا النفس، ولا تزنوا، ولا تقطعوا السبيل، ولا تسبوا الوالدين، ووعظهم في ذلك، والألواح من زمرد وياقوت، يقول: * (فخذها بقوة) *، يعني التوراة بالجد والمواظبة عليه، * (وأمر قومك) * بني إسرائيل، * (يأخذوا بأحسنها) *، يعني بأحسن ما فيها، ثم قال قبل ذلك لبني إسرائيل: * (سأوريكم دار الفاسقين) * [آية: 145] سنة أهل مصر، فزعم ابن عباس، أن الله حين أغرق فرعون وقومه، أوحى إلى البحر أن يقذف أجسادهم على الساحل، ففعل البحر ذلك، فنظر إليهم بنو إسرائيل، فأراهم سنة الفاسقين. ثم قال: * (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق) *، يعني يعملون فيها بالمعاصي الكبرياء والعظمة، يعني أهل مصر، يقول: سأصرف عن التفكير في خلق السماوات والأرض وما بينهما من الآيات الشمس، والقمر، والنجوم، والسحاب، والرياح، والجبال، والفلك، والبحور، والشجر، والثمار، والنبات، عام بعام، يعني المتكبرين، فلا يتفكرون فتكون لهم عبرة، تعني لأهل مصر، ثم قال يعنيهم: * (وإن يروا
414 كل آية) *، يعني يروا مرة اليد ومرة العصا، ثم يرون الطوفان، ثم الجراد، ثم القمل، ثم الضفادع، ثم الدم، ثم السنين، ثم الطمس. فرأوا كل آية على حدة، فلم يؤمنوا، * (لا يؤمنوا بها) *، يعني لا يصدقون بأنها من الله، * (وإن يروا سبيل الرشد) *، يعني طريق الهدى، * (لا يتخذوه سبيلا) *، يعني لا يتخذوه دينا فيتبعونه، * (وإن يروا سبيل الغي) *، يعني طريق الضلالة، * (يتخذوه سبيلا) *، يقول: اتخذه دينا فيتبعونه، * (ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا) *، يعني بالآيات التسع، * (وكانوا عنها غافلين) * [آية: 146]، يعني معرضين، ولم يتفكروا فيها. * (والذين كذبوا بآياتنا) *، يعني القرآن، * (ولقاء الآخرة) *، وكذبوا بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال، * (حبطت أعمالهم) * التي أرادوا بها وجه الله؛ لأنها كانت في غير إيمان، * (هل يجزون إلا ما كانوا يعملون) * [آية: 147]. تفسير سورة الأعراف آية [148 - 151] * (واتخذ قوم موسى) * (بني إسرائيل) * (من بعده) *، حين انطلقوا إلى الطور، * (من حليهم عجلا جسدا) *، يعني صورة عجل جسد، يقول: ليس فيه روح، * (له خوار) *، يعني له صوت البهائم، ثم لم يصوت غير مرة واحدة، * (ألم يروا) *، يعني بني إسرائيل، * (أنه لا يكلمهم) *، يعني لا يقدر على أن يكلمهم، * (ولا يهديهم سبيلا) *، يعني طريقا إلى الهدى، يعني العجل، * (اتخذوه) * العجل إلها، * (وكانوا ظالمين) * [آية: 148]، يعني مشركين. * (ولما سقط في أيديهم) *، ندامة وندموا، * (ورأوا) * وعلموا * (أنهم قد ضلوا) * (عن الهدى) * (قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا) *، يعني ويتجاوز عنا، * (لنكونن
415 من الخاسرين) * [آية: 149]، في العقوبة، فلم يقبل الله توبتهم إلا بالقتل. * (ولما رجع موسى إلى قومه) * من الجبل، * (غضبان أسفا) *، يعني حزينا في صنع قومه في عبادة العجل، وكان أخبره الله على الطور بأمر العجل، ثم قال: * (قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم) *، يقول: استعجلتم ميقات ربكم أربعين يوما، * (وألقى الألواح) * من عاتقه، فذهب منها خمس وبقيت أربعة، * (وأخذ برأس أخيه) * (هارون) * (يجره إليه) *، يعني إلى نفسه * (قال) * هارون لموسى: * (ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين) * [آية: 150]. * (قال) * (موسى) * (رب اغفر لي) *، يعني تجاوز عني، * (ولأخي) * هارون، * (وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين) * [آية: 151]. تفسير سورة الآعراف آية [152 - 155] * (إن الذين اتخذوا العجل) * (إلها) * (سينالهم غضب) *، يعني عذاب، * (من ربهم وذلة) *، يعني مذلة، * (في الحياة الدنيا) *، فصاروا مقهورين إلى يوم القيامة، ثم قال: * (وكذلك) *، يعني وهكذا * (نجزى المفترين) * [آية: 152]، يعني الذين افتروا فزعموا أن هذا إلهكم، يعني العجل، وإله موسى. وكان السامري جمع الحلى بعد خمسة وثلاثين يوما من يوم فارقهم موسى، عليه السلام، وكان السامري صائغا، فصاغ لهم العجل في ثلاثة أيام، وقد علم السامري أنهم يعبدونه؛ لقولهم لموسى، عليه السلام، قبل ذلك: * (اجعل لنا إلها كما لهم
416 آلهة) *، فعبدوا العجل لتمام تسعة وثلاثين يوما، ثم أتاهم موسى من الغد لتمام الأربعين يوما. * (والذين عملوا السيئات) *، يعني الشرك الذين عبدوا العجل، * (ثم تابوا من بعدها) *، أي بعد الشرك، * (وآمنوا) *، يعني صدقوا بالله أنه واحد لا شريك له، * (إن ربك من بعدها) *، يعني من بعد الشرك، * (لغفور رحيم) * [آية: 153] بهم. قوله: * (ولما سكت عن موسى الغضب) *، يعني سكن، * (أخذ الألواح) * بعدما ألقاها، * (وفي نسختها) * فيما بقي منها، * (هدى) * من الضلالة، * (ورحمة) * (من العذاب) * (للذين هم لربهم يرهبون) * [آية: 154]، يعني يخافون الله، وأعطى موسى التوراة يوم النحر يوم الجمعة، فلم يطق حملهاا، فسجد لله، وجعل يدعو ربه ويتضرع، حتى خففت عليه، فحملها على عاتقه. * (واختار موسى سبعين رجلا بميقاتنا) *، من اثنى عشر سبطا، ستة ستة، فصاروا اثنين وسبعين رجلا، قال موسى: إنما أمرني ربي بسبعين رجلا، فمن قعد عنى فلم يجيء فله الجنة، فقعد يوشع بن نون، وكالب بن يوقنا، * (لميقاتنا) *، يعني لميعادنا، يعني الأربعين يوما، فانطلق بهم، فتركهم في أصل الجبل، فلما نزل موسى إليهم: قالوا: * (أرنا الله جهرة) *، فأخذتهم الرجفة، يعني الموت عقوبة لما قالوا، وبقى موسى وحده يبكي، * (فلما أخذتهم الرجفة قال رب) * ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم وقد أهلكت خيارهم، رب * (لو شئت أهلكتهم) *، يعني أمتهم، * (من قبل وإياي) * معهم من قبل أن يصحبوني، * (أتهلكنا) * عقوبة * (بما فعل السفهاء منا) *، وظن موسى، عليه السلام، إنما عوقبوا باتخاذ بني إسرائيل العجل، فهم السفهاء، فقال موسى: * (إن هي إلا فتنتك) *، يعني ما هي إلا بلاؤك، * (تضل بها) * بالفتنة * (من تشاء وتهدى) * من الفتنة * (من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين) * [آية: 155]، قال فلم يعبد العجل منهم إلا اثنا عشر ألفا. تفسير سورة الأعراف آية [156 - 157]
417 * (واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة) * يعني المغفرة، * (وفي الآخرة) * حسنة، يعني الجنة، * (إنا هدنا إليك) *، يعني تبنا إليك، * (قال) * الله: * (عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء) *، يعني ملأت كل شيء، قال إبليس: فأنا من كل شيء، قال الله تعالى: * (فسأكتبها) *، يعني الرحمة، * (للذين يتقون) *، فعزل إبليس، يعني للذين يوحدون ربهم، * (ويؤتون الزكاة) *، يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم، * (والذين هم بآياتنا يؤمنون) * [آية: 156]، يعني بالقرآن يصدقون أنه من الله، قالت اليهود: فنحن نتقى الله، ونؤتى الزكاة، فعزل إبليس واليهود. ثم نعتهم، فقال: * (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي) * على دينه، يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، يعني بالأمى الذي لا يقرأ والكتب، ولا يخطها بيمينه، * (الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف) *، يعني بالإيمان، * (وينهاهم عن المنكر) *، يعني الشرك، * (ويحل لهم الطيبات) *، يعني ما حرم الله من اللحوم والشحوم، * (ويحرم عليهم) * محمد صلى الله عليه وسلم * (الخبائث) *، يعني الميتة، والدم، ولحم الخنزير، * (ويضع) * محمد صلى الله عليه وسلم * (عنهم إصرهم) *، يعني مما عهد الله إليهم من تحريم اللحوم، والشحوم، ولحم كل ذي ظفر، * (و) * يضع محمد صلى الله عليه وسلم * (والأغلال التي كانت عليهم) * واجبة من التغليظ والتشديد، الذي منه أن يقتل قاتل العمد البتة، ولا يعفى عنه، ولا يؤخذ منه الدية، ويقتل قاتل الخطأ، إلا أن يشاء ولى المقتول فيعفو عنه ونحوه، ولو صدقوا النبي صلى الله عليه وسلم لوضع ذلك كله عنهم، * (فالذين آمنوا به) *، يعني صدقوا النبي صلى الله عليه وسلم، * (وعزروه) *، يعني أعانوه على أمره، * (ونصروه واتبعوا النور) *، يعني القرآن، * (الذي أنزل معه) *، فمن فعل هذا ف * (أولئك هم المفلحون) *، [آية: 157]، فقال موسى عند ذلك: اللهم اجعلني من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. تفسير سورة الأعراف آية [158 - 166]
418 * (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحي) * الأموات، * (ويميت) * الأحياء، * (فآمنوا) *، يعني فصدقوا * (بالله) * أنه واحد لا شريك له، * (ورسوله) *، عليه السلام، * (النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته) *، يعني الذي يصدق بالله بأنه واحد لا شريك له، وبآياته، يعني القرآن، * (واتبعوه) *، يعني محمدا، عليه السلام، * (لعلكم) *، يعني لكي، * (تهتدون) * [آية: 158] من الضلالة. * (ومن قوم موسى) *، يعني بني إسرائيل، * (أمة يهدون بالحق) *، يعني عصابة يدعون إلى الحق، * (وبه يعدلون) * [آية: 159]، يعني الذين من وراء الصين اليوم، القوم الذين أسرى بهم تحت الأرض، وأخرج لهم نهرا من الأردن من رمل يسمى أردق من وراء الصين يجري كجرى الماء، وأسرى الله بهم تحت الأرض سنة ونصفا، فإذا نزل عيسى بن مريم كان معه يوشع بن نون، وهم من آمن من أهل الكتاب.
419 * (وقطعناهم) *، يعني فرقناهم، * (اثنتي عشرة أسباطا أمما) *، يعني فرقا، * (وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه) * في التيه، * (أن اضرب بعصاك الحجر) *، ففعل وكان من الطور، * (فانبجست) *، يعني فانفجرت من الحجر، * (منه اثنتا عشرة عينا) * ماء باردا فراتا رواء بإذن الله، وكان الحجر خفيفا، كل سبط من بني إسرائيل لهم عين تجري لا يخالطهم غيرهم فيها، فذلك قوله: * (قد علم كل أناس مشربهم) *، يعني كل سبط مشربهم، * (وظللنا عليهم الغمام) * بالنهار، يعني سحابة بيضاء ليس فيها ماء تقيهم من حر الشمس وهم في التيه، * (وأنزلنا عليهم المن) *، يعني النرنجين، * (والسلوى) * طيرا أحمر يشبه السمان، * (كلوا من طيبات) *، يعني من حلال، * (ما رزقناكم) * من المن والسلوى، ولا تطغوا فيه، يعني لا ترفعوا منه لغد، فرفعوا وقددوا فدود عليهم، يقول الله: * (وما ظلمونا) *، يعني وما ضرونا، يعني وما نقصونا حين رفعوا وقددوا ودود عليهم، * (ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) * [آية: 160]، يعني يضرون وينقصون. * (و) * اذكر * (وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية) *، بيت المقدس، * (وكلوا منها حيث شئتم وقولوا) * أمرنا * (حطة وادخلوا الباب) *، أي باب القرية، * (سجدا) * سجود انحناء، * (نغفر) * بالنون والتاء مبنيا للمفعول، * (لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين) * [آية: 161] بالطاعة ثوابا. * (فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم) *، فقالوا: حبة في شعره، ودخلوا يزحفون على استاهم، * (فأرسلنا عليهم رجزا) * عذابا * (من السماء بما كانوا يظلمون) * [آية: 162]. * (وسئلهم عن القرية) *، اسمها أيلة، على مسيرة يومين من البحر بين المدينة والشام، مسخوا على عهد داود، عليه السلام، قردة، يعني اليهود، وإنما أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم أن يسألهم: أمسخ الله منكم قردة وخنازير؟ لأنهم قالوا: إنا أبناء الله وأحباؤه، وإن الله لا يعذبنا في الدنيا ولا في الآخرة؛ لأنا من سبط خليله إبراهيم، ومن سبط إسرائيل، وهو بكر نبيه، ومن سبط كليم الله موسى، ومن سبط ولده عزير، فنحن من أولادهم، فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: * (وسئلهم عن القرية) * * (التي كانت حاضرة البحر) *، إما عذبهم الله بذنوبهم.
420 ثم أخبر عن ذنوبهم، فقال: * (إذ يعدون في السبت) *، يعني يعتدون، * (إذ تأتيهم حيتانهم) *، يعني السمك، * (يوم سبتهم شرعا) *، يعني شارعة من غمرة الماء إلى قريب من الحذاء، يعني الشط أمنت أن يصدن، * (ويوم لا يسبتون) *، يعني حين لا يكون يوم السبت، * (لا تأتيهم كذلك) *، يعني هكذا، * (نبلوهم) *، يعني نبتليهم بتحريم السمك في السبت، * (بما كانوا يفسقون) * [آية: 163]، جزاء منا، يعني بما كانوا يعصون. * (وإذ قالت أمة منهم) *، يعني عصابة منهم، وهي الظلمة للواعظة، * (لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا) *، وذلك أن الواعظة نهوهم عن الحيتان، وخوفوهم فلم ينتبهوا، فردت عليهم الواعظة، * (قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم) *، يعني ولكي ينتهوا فيؤخروا أو يعذبوا فينجوا، * (ولعلهم) *، يعني ولكي * (يتقون) *] آية: 164] المعاصي. * (فلما نسوا ما ذكروا به) *، يعني فلما تركوا ما وعظوا به من أمر الحيتان، * (أنجينا) * من العذاب * (الذين ينهون عن السوء) *، يعني المعاصي، * (وأخذنا الذين ظلموا) *، يعني وأصبنا الذين ظلموا، * (بعذاب) *، يعني المسخ، * (بئيس) *، يعني شديد، * (بما كانوا يفسقون) * [آية: 165]، يعني يعصون. * (فلما عتوا) *، يعني عصوا، * (عن ما نهوا عنه) * من الحيتان، * (قلنا لهم) * ليلا: * (كونوا قردة خاسئين) * [آية: 166]، يعني صاغرين بعدما أصابوا الحيتان سنين، ثم مسخوا قردة، فعاشوا سبعة أيام، ثم ماتوا يوم الثامن. تفسير سورة الأعراف آية [167 - 174]
421 * (وإذ تأذن ربك) *، يعني قال ربك: * (ليبعثن عليهم) *، يعني بني إسرائيل من يسومهم سوء العذاب، فبعث الله المسلمين عليهم، * (إلى يوم القيامة) * ما دامت الدنيا، * (من يسومهم سوء العذاب) *، يعني يعذبهم شدة العذاب، يعني القتل، والجزية، * (إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم) * [آية: 167]. * (وقطعناهم) *، يعني وفرقناهم * (في الأرض أمما) *، يعني فرقا، يعني بني إسرائيل ، * (منهم الصالحون) *، يعني المؤمنين، * (ومنهم دون ذلك) *، يعني دون الصالحين، فهم الكفار، * (وبلوناهم بالحسنات والسيئات) *، يقول: ابتليناهم بالخصب والشدة، * (لعلهم) *، يعني لكي * (يرجعون) * [آية: 168] إلى التوبة. * (فخلف من بعدهم) *، يعني من بعد بني إسرائيل، * (خلف) * السوء وهم اليهود، * (ورثوا الكتاب) *، يعني ورثوا التوراة عن أوائلهم وآبائهم، * (يأخذون عرض هذا الأدنى) *، وهي الدنيا؛ لأنها أدنى من الآخرة، يعني الرشوة في الحكم، * (ويقولون سيغفر لنا) *، فكانوا يرشون بالنهار، ويقولون: يغفر لنا بالليل، * (وإن يأتهم عرض مثله) *، يعني رشوة مثله ليلا، * (يأخذوه) * ويقولون: يغفر لنا بالنهار، يقول الله: * (ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب) *، يعني بغير ما يقولون، لقد أخذ عليهم في التوراة أن لا يستحلوا محرما، و * (أن لا يقولوا على الله إلا الحق) * في التوراة، * (ودرسوا) *، يعني وقرأوا * (ما فيه) *، ما في التوراة، * (والدار الآخرة) *، يعني الجنة، * (خير للذين يتقون) *، استحلال المحارم، * (أفلا تعقلون) * [آية: 169]. ثم ذكر مؤمنيهم، فقال: * (والذين يمسكون بالكتاب) *، يعني يتمسكون بالتوراة ولا
422 يحرفونه عن مواضعه، ولا يستحلون محرما، * (وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين) * [آية: 170]، نزلت في ابن شلام وأصحابه. * (وإذ نتقنا الجبل) *، يعني وإذ رفعنا الجبل * (فوقهم كأنه ظلة) *، وذلك أن موسى، عليه السلام، حين أتاهم بالتوراة، وجدوا فيها القتل، والرجم، والحدود، والتغليظ، أبوا أن يقبلوا التوراة، فأمر الله الجبل عند بيت المقدس، فانقطع من مكانه، فقام فوق رؤوسهم، فأوحى الله إلى موسى أن قل لهم: إن لم يقروا بالتوراة، طرحت عليهم الجبل، وأرضخ به رؤوسهم، فلما رأوا ذلك أقروا بالتوراة، ورجع الجبل إلى مكانه، فذلك قوله: * (وظنوا أنه واقع بهم) *، يعني وأيقنوا أن الجبل واقع بهم، يعني عليهم، * (خذوا ما آتيناكم بقوة) *، ما أعطيناكم من التوراة بالجد والمواظبة، * (واذكروا ما فيه) *، يقول: واحفظوا ما فيه من أمره ونهيه، * (لعلكم) *، يعني لكي * (تتقون) * [آية: 171] المعاصي. * (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم) *، يقول: وقد اخذ ربك من بني آدم بنعمان عند عرفات من ظهورهم، * (ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم) * بإقرارهم، * (ألست بربكم قالوا بلى) * أنت ربنا، وذلك أن الله عز وجل مسح صفحة ظهر آدم اليمنى، فأخرج منه ذرية بيضاء كهيئة الذر يتحركون، ثم مسح صفحة ظهره اليسرى، فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر، وهم ألف أمة، قال: يا آدم: هؤلاء ذريتك أخذنا ميثاقهم على أن يعبدوني ولا يشركوا بنى شيئا وعلى رزقهم، قال آدم: نعم يا رب، فلما أخرجهم، قال الله: ألست بربكم؟ قالوا: بلى * (شهدنا) * إنك ربنا، قال الله للملائكة: اشهدوا عليهم بالإقرار، قالت الملائكة: قد شهدنا، يقول الله في الدنيا لكفار العرب من هذه الأمة: * (أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا) * الميثاق الذي أخذ علينا * (غافلين) * [آية: 172]، وأشهدهم على أنفسهم. * (أو تقولوا) * لئلا تقولوا: * (إنما أشرك آباؤنا) * ونقضوا الميقاث، * (من قبل) * شركنا، ولئلا تقولوا: * (وكنا ذرية من بعدهم) *، فاقتدينا بهم وبهداهم، لئلا تقولوا: * (أفتهلكنا بما فعل المبطلون) * [آية: 173]، يعني أفتعذبنا بما فعل المبطلون، يعني المكذبين بالتوحيد، يعنون آباءهم، كقوله: * (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون) * [الزخرف: 23].
423 ثم أفاضهم إفاضة القدح، فقال للبيض: هؤلاء في الجنة برحمتي، فهم أصحاب اليمين، وأصحاب الميمنة، وقال للسود: هؤلاء للنار، ولا أبالي، فهم أصحاب الشمال، وأصحاب المشأمة، ثم أعادهم جميعا في صلب آدم، عليه السلام، فأهل القبور محبسون حتى يخرج الله أهل الميثاق كلهم من أصلاب الرجال وأرحام النساء، ثم تقوم الساعة، فذلك قوله: * (لقد أحصاهم) * يوم القيامة * (وعدهم عدا) * [مريم: 94]، فمن مات منهم صغيرا، فله الجنة بمعرفته بربه، ومن بلغ منهم العقل أخذ أيضا ميثاقه بمعرفته لربه، والطاعة له، فمن لم يؤمن إذا بلغ العقل لم يغن عنه الميثاق الأول شيئا، وكان العهد والميثاق الأول حجة عليهم، وقال فيمن نقض العهد الأول: * (وما وجدنا لأكثرهم من عهد) *، يعني من وفاء، يعني أكثر ولد آدم، عليه السلام، * (وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين) * [الأعراف: 102]، يعني لعاصين، * (وكذلك نفصل الآيات) *، يعني هكذا نبين الآيات في أمر الميثاق، * (ولعلهم) *، يعني لكي * (يرجعون) * [آية: 174] إلى التوبة. تفسير سورة الأعراف آية [175 - 177] * (واتل عليهم) *، يعني أهل مكة * (نبأ) * يعني حديث * (الذي آتيناه آياتنا) * يعني أعطيناه الاسم الأعظم، يعني بلعام بن باعورا بن ماث بن حراز بن آزر، من أهل عمان، وهي البلقاء التي كان فيها الجبارون بالشام، فإنما سميت البلقاء من أجل أن ملكها رجل اسمه بالق، وذلك أن الملك، واسمه بانوس بن ستشروث، قال لبلعام: ادع على موسى، فقال بلعام: إنه من أهل دين لا ينبغي أن يدعى عليه، فأمر الملك أن تنحت خشبة ليصلبه عليها، فلما رأى ذلك، خرج على أتان له، ليدعو على موسى، عليه السلام، فلما عاين عسكره، قامت به الأتان فضربها، فقالت الأتان: لم تضربني وهذه نار تتوقد قد منعتني أن أمشى، فارجع، فرجع، فأخبر الملك، فقال له الملك: إما أن تدعو، وإما أن أصلبك، فدعا على موسى، عليه السلام، باسم الله الأعظم ألا يدخل المدينة، فاستجاب الله له، فبلغ موسى، عليه السلام، فدعا الله أن ينزع ذلك الاسم منه،
424 فنزع منه الاسم الأعظم، فذلك قوله: * (فانسلخ منها) *، فنزعها الله منه، يعني الآيات، * (فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين) * [آية: 175]، يعني من الضالين. * (ولو شئنا لرفعناه) * في الأخرة * (بها) * بما علمناه من آياتنا، يعني الاسم الأعظم في الدنيا، * (ولكنه أخلد إلى الأرض) *، يعني رضى الدنيا، وركن إليها، * (واتبع هواه، أي هوى الملك مع هواه، * (فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه) * بنفسك ودابتك تطرده، * (يلهث أو تتركه، فلا تحمل عليه شيء، * (يلهث) * إذا أصابه الحر، فهذا مثل الكافر إن وعظته، فهو ضال، وإن تركته فهو ضال، مثل بلعام والكفار، يعني كفار مكة، * (ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا) *، يعني القرآن، * (فاقصص القصص) *، يعني القرآن عليهم * (لعلهم) *، يعني لكي * (يتفكرون) * [آية: 176] في أمثال الله فيعتبروا فيؤمنوا. ثم قال: * (ساء) *، يعني بئس * (مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا) *، يعني القرآن، يعني كفارة مكة، * (وأنفسهم كانوا يظلمون) * [آية: 177]، يعني أنفسهم ضروا بتكذيبهم القرآن. تفسير سورة الأعراف آية [178 - 185] * (من يهد الله) * لدينه، * (فهو المهتدي ومن يضلل) * عن دينه، * (فأولئك هم الخاسرون) * [آية: 178]، يعنيهم. ثم قال: * (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها) *، لقول الله: * (ختم الله على قلوبهم وعلى
425 سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة) * [البقرة: 7]، فلم تفقه قلوبهم، ولم تبصر أعينهم، ولم تسمع آذانهم الإيمان، ثم ضرب مثلا، فقال: * (أولئك كالأنعام) * يأكلون ويشربون ولا يلتفتون إلى الآخرة، كما تأكل الأنعام، ليس للأنعام همة غير الأكل والشرب والسفاد، فهي لا تسمع، ولا تعقل، كذلك الكفار، ثم قال: * (بل هم) *، يعني كفار مكة * (أضل) *، يعني أضل سبيلا، يعني الطريق من الأنعام، ثم قال: * (أولئك هم الغافلون) * [آية: 179]، لأن الأنعام تعرف ربها وتذكره، وهم لا يعرفون ربهم ولا يوحدونه. * (ولله الأسماء الحسنى) *، وذلك أن رجلا دعا الله في الصلاة، ودعا الرحمن، فقال رجل من مشركي مكة، وهو أبو جهل: أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون ربا واحدا، فما بال هذا يدعو ربين اثنين، فأنزل الله: * (ولله الأسماء الحسنى) *، يعني الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور، ونحوها، يقول: * (فادعوه بها) *، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الرجل، فقال: ' ادع الله، وادع الرحمن، ورغما لأنف المشركين، فإنك ما دعوت من هذه الأسماء، فله الأسماء الحسنى '، قال: * (وذروا الذين يلحدون في أسمائه) *، يعني يميلون في أسمائه عن الحق، فيسمون الآلهة: اللات، والعزى، وهبل، ونحوها، وأساف، ونائلة، فمنعهم الله أن يسموا شيئا من آلهتهم باسم الله، ثم قال: * (سيجزون) * العذاب في الآخرة * (ما كانوا يعملون) * [آية: 180]. * (وممن خلقنا أمة يهدون بالحق) *، يعني عصبة يدعون إلى الحق، * (وبه يعدلون) * [آية: 181]، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذه لكم، وقد أعطى الله موسى، عليه السلام، مثلها. * (والذين كذبوا بآياتنا) *، يعني بالقرآن، * (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون) * [آية: 182]، يعني سنأخذهم بالعذاب من حيث يجهلون، نزلت في المستهزئين من قريش. * (وأملى لهم) *، يعني لا أعجل عليهم بالعذاب، * (إن كيدي متين) * [آية: 183]، يعني إن أخذى شديد، قتلهم الله في ليلة واحدة. * (أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة) *، يعني النبي صلى الله عليه وسلم، يعني من جنون، وذلك أن
426 النبي صلى الله عليه وسلم صعد الصفا ليلا، فدعا قريشا إلى عبادة الله عز وجل، قال: * (أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة) * * (إن هو إلا نذير مبين) * [آية: 184]، يعني ما محمد إلا رسول بين. ثم وعظهم ليعتبروا في صنيعه فيوحدوه، فقال: * (أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض و) * إلى * (وما خلق الله من شيء) * من الآيات التي فيها، فيعتبروا أن الذي خلق ما ترون لرب واحد لا شريك له، * (وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم) *، يعني يكون قد دنا هلاكهم ببدر، * (فبأي حديث بعده) *، أي بعد هذا القرآن * (يؤمنون) * [آية: 185]، يعني يصدقون. تفسير سورة الأعراف آية 186] * (من يضلل الله) * عن الهدى، * (فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون) * [آية: 186]، يعني في ضلالتهم يترددون. تفسير سورة الأعراف آية [187 - 188] * (يسئلونك عن الساعة) *، وذلك أن كفار قريش سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة، * (أيان مرساها) *، يعني متى حينها، * (قل) * لهم: * (إنما علمها عند ربي) *، وما لي بها من علم، * (لا يجليها لوقتها) *، يعني لا يكشفها، * (إلا هو) * إذا جاءت، ثم أخبر عن شأنها، فقال: * (ثقلت في السماوات والأرض) *، يقول: ثقل على من فيهما علمها، * (لا تأتيكم إلا بغتة) *، يعني فجأة، ثم قال: * (يسئلونك) * عنها في التقديم، * (كأنك حفي عنها) *، يقول: كأنك قد استحفيت عناه السؤال حتى علمتها، * (قل) *: وما لي بها من علم، * (إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون) * [آية: 187]، يعني أكثر أهل مكة لا يعلمون أنها كائنة. * (قل) * لهم يا محمد: * (لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا) *، يقول: ' لا أقدر على أن أسوق إليها خيرا، ولا أدفع عنها ضرا، يعني سوءا، حين ينزل بي، فكيف أملك علم
427 الساعة؟! '، ثم قال: * (إلا ما شاء الله) *، فيصيبني ذلك، * (ولو كنت أعلم الغيب) *، يعني أعلم غيب الضر والنفع إذا جاء، * (لاستكثرت من الخير) *، يعني من النفع، * (وما مسني السوء) *، يعني ما أصابني الضر، * (إن أنا إلا نذير) * من النار * (وبشير) * بالجنة * (لقوم يؤمنون) * [آية: 188]، يعني يصدقون. تفسير سورة الأعراف آية 189] قوله: * (هو الذي خلقكم من نفس واحدة) *، يعني من نفس آدم، عليه السلام، وحده، * (وجعل منها زوجها ليسكن إليها) *، يعني خلق من ضلع آدم زوجه حواء، يوم الجمعة وهو نائم، فاستيقظ آدم وهي عند رأسه، فقال لها: من أنت؟ فقالت بالسريانية: أنا امرأة، فقال آدم: فلم خلقت؟ قالت: لتسكن إلي، وكان وحده في الجنة، قالت الملائكة: يا آدم ما اسمها؟ قال: حواء؛ لأنها خلقت من حي، وسمى آدم؛ لأنه خلق من أديم الأرض كلها، من العذبة، والسبخة من الطينة السوداء، والبيضاء، والحمراء، كذلك نسله طيب وخبيث، وأبيض، وأسود، وأحمر، فذلك قوله: * (فلما تغشاها) *، يعني جامعها آدم، * (حملت حملا خفيفا) *، هان عليها الحمل، * (فمرت به) *، يعني استمرت به بالولد، يقول: تقوم، وتقعد، وتلعب، ولا تكترث. فأتاها إبليس وغير صورته، واسمه الحارث، فقال: يا حواء، لعل الذي في بطنك بهيمة؟ فقالت: ما أدري، ثم انصرف عنها، * (فلما أثقلت) *، يقول: فلما أثقل الولد في بطنها، رجع إبليس إليها الثانية، فقال: كيف نجدك يا حواء؟ وهي لا تعرفه، قالت: إني إني أخاف أن يكون في جوفي الذي خوفتني به، ما أستطيع القيام إذا قعدت، قال: أفرأيت إن دعوت الله، فجعله إنسانا مثلك ومثل آدم، أتسمينه بي؟ قالت: نعم، ثم انصرف عنها، فقالت لآدم، عليه السلام: لقد أتاني آت، فزعم أن الذي في بطني بهيمة، وإني لأجد له ثقلا، وقد خفت أن يكون مثل ما قال: فلم يكن لآدم وحواء هم غير الذي في بطنها، فجعلا يدعوان الله، * (دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا) *، يقولان: لئن أعطيتنا هذا الولد سويا صالح الخلق، * (لنكونن من الشاكرين) * [آية: 189] في هذه النعمة، فولدت سويا صالحا.
428 تفسير سورة الأعراف آية [190 - 197] فجاءها إبليس، وهي لا تعرفه، فقال: لم لا تسميه بي كما وعدتني، قالت: عبد الحرث فكذبها، فسمته عبد الحارث، فرضى به آدم، فمات الولد، فذلك قوله: * (فلما آتاهما صالحا) *، يعني أعطاهما الولد صالح الخلق، * (جعلا له شركاء) *، يعني إبليس شريكا في الاسم، سمته عبد الحارث، فكان الشرك في الطاعة من غير عبادة، ولم يكن شركا في عبادة ربهم، ثم انقطع الكلام، فذكر كفار، فرجع إلى أول الآية، فقال الله: * (فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون) * [آية: 190]، يقول: ارتفع عظمة الله عما يشرك مشركو مكة. ثم قال: * (أيشركون) * الآلهة مع الله، يعني: اللات، والعزى، ومناة، والآلهة، * (ما لا يخلق شيئا) * ذبابا ولا غيره، * (وهم يخلقون) * [آية: 191]، يعني الآلهة، يعني يصنعونها بأيديهم وينحتونها، فهي لا تخلق شيئا. ثم قال: * (ولا يستطيعون لهم نصرا) *، يقول: لا تقدر الآلهة منع السوء إذا نزل بمن يعبدها من كفار مكة، * (ولا أنفسهم ينصرون) * [آية: 192]، يقول: ولا تمنع الآلهة من أراد بها سوءا، فكيف تعبدون من هذه منزلته وتتركون عبادة ربكم؟. ثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم: * (وإن تدعوهم) *، يعني كفار مكة، * (إلى الهدى لا يتبعوكم) *، يعني النبي صلى الله عليه وسلم وحده، * (سواء عليكم أدعوتموهم) * إلى الهدى، * (أم أنتم صامتون) * [آية: 193]، يعني ساكتون، يعني النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم لا يتبعوكم. ثم أخبر عن الآلهة، فقال: قل لكفار مكة: * (إن الذين تدعون) *، يعني تعبدون
429 * (من دون الله) * من الآلهة، إنهم * (عباد أمثالكم) *، وليسوا بآلهة، * (فادعوهم) *، يعني فاسألوهم، * (فليستجيبوا لكم) * بأنهم آلهة، * (إن كنتم صادقين) * [آية: 194] بأنها آلهة. ثم أخبر عن الآلهة، فقال * (ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها) *، ثم قال لكفار مكة: * (قل ادعوا شركاءكم) *، يعني الآلهة، * (ثم كيدون) * أنتم الآلهة جميعا بشر، * (فلا تنظرون) * [آية: 195]. * (إن ولى الله الذي نزل الكتاب) *، يعني القرآن، * (وهو يتولى الصالحين) * [آية: 196]. ثم قال لكفار مكة: * (والذين تدعون) *، يعني يعبدون * (من دونه) * من الآلهة، * (لا يستطيعون نصركم) *، يقدر الآلهة منع السوء إذا نزل بكم، * (ولا أنفسهم ينصرون) * [آية: 197]، يقول: ولا تمنع الآلهة من أرادها بسوء. تفسير سورة الأعراف آية [198 - 200] ثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم: * (وإن تدعوهم إلى الهدى) *، يعني كفار مكة: * (لا يسمعوا) * الهدى * (وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون) * [آية: 198] الهدى. قوله: * (خذ العفو) *، يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: خذ ما أعطوك من الصدقة، * (وأمر بالعرف) *، يعني بالمعروف، * (وأعرض عن الجاهلين) * [آية: 199]، يعني أبا جهل حين جهل على النبي صلى الله عليه وسلم: فنسخت العفو الآية التي في براءة، آية الصدقات، ونسخ الإعراض آية السيف. قوله: * (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ) *، يعني وإما يفتننك من الشيطان فتنة في أمر أبى جهل، * (فاستعذ بالله إنه سميع) * بالاستعاذة * (عليم) * [آية: 200] بها، نظيرها في حم السجدة. تفسير سورة الأعراف آية [201 - 203] ثم وعظ النبي صلى الله عليه وسلم في أمر أبى جهل، فأخبر عن مصير المؤمنين والكفار، فقال: * (إن الذين اتقوا) * الشرك * (إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون) * [آية: 201]، يقول: إن المتقين إذا أصابهم نزغ من الشيطان، تذكروا وعرفوا أنها معصية، ففزعوا منها من مخافة الله. ثم ذكر الكافر، فقال: * (وإخوانهم) *، يعني وأصحابهم، يعني إخوان كفار مكة هم الشياطين في التقديم،
430 * (يمدونهم) *، يعني يلجونهم، * (في الغي) *، يعني الشرك والضلالة والمعاصي، * (ثم لا يقصرون) * [آية: 202] عنها ولا يبصرونها كما قصر المتقون عنها حين أبصروها. * (وإذا لم تأتهم بآية) *، يعني بحديث من القرآن، وذلك حين أبطأ التنزيل بمكة، * (قالوا) *، قال كفار مكة: * (لولا اجتبيتها) *، يعني هلا ابتدعتها من تلقاء نفسك يا محمد؛ لقولهم: ائت بقرآن غير هذا أو بدله من تلقاء نفسك، * (قل) * لكفار مكة: * (إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي) * إذا أمرت بأمر اتبعته، * (هذا بصائر من ربكم) *، يعني برهان، يعني هذا القرآن بيان من ربكم، * (و) * القرآن * (وهدى) * من الضلالة * (ورحمة) * من العذاب * (لقوم يؤمنون) * [آية: 203]، يعني يصدقون بأن القرآن من الله. تفسير سورة الأعراف آية [204 - 206] * (واذكر ربك) *، يعني بالذكر القراءة في الصلاة، * (في نفسك تضرعا) * مستكينا، * (وخيفة) *، يعني وخوفا من عذابه، * (ودون الجهر من القول) *، يعني دون العلانية، * (بالغدو والآصال) *، يعني بالغداة والعشى، * (ولا تكن من الغافلين) * [آية: 205] عن القراءة في الصلاة. * (إن الذين عند ربك) * من الملائكة، وذلك حين قال كفار مكة: * (وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا) * [الفرقان: 60]، واستكبروا عن السجود، فأخبر الله أن الملائكة * (لا يستكبرون) *، يعني لا يتكبرون * (عن عبادته) * كفعل كفار مكة، وأخبر عن الملائكة، فقال: * (ويسبحونه) *، يعني يذكرون ربهم، * (وله يسجدون) * [آية: 206]، يقول: يصلون. تم بحمد الله الجزء الأول، ويليه بإذن الله الجزء الثاني وأوله سورة الأنفال