بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
الكتاب: تصحيح اعتقادات الإمامية المؤلف: الشيخ المفيد الجزء: الوفاة: 413 المجموعة: مصادر الحديث الشيعية ـ القسم العام تحقيق: حسين درگاهي الطبعة: الثانية سنة الطبع: 1414 - 1993 م المطبعة: الناشر: دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان ردمك: ملاحظات: طبعت بموافقة اللجنة الخاصة المشرفة على المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد تصحيح اعتقادات الإمامية تأليف الإمام الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان ابن المعلم أبي عبد الله العكبري، البغدادي (336 - 413 ه) تحقيق حسين درگاهي
1 بسم الله الرحمن الرحيم منهجيتنا في التحقيق: كان عملي في هذا الكتاب الشريف متضمنا لعدة مراحل، أوردها كالتالي: 1 - مقابلة النسخة المطبوعة مع ست نسخ خطية أخرى - سيأتي ذكرها قريبا - بشكل دقيق، وتثبيت الاختلافات الواردة فيها. 2 - تخريج الآيات القرآنية الشريفة والأحاديث والروايات، من كتب الشيخ الصدوق - رحمه الله - أو الإشارة إلى مكانها في بحار الأنوار للعلامة المجلسي - رحمه الله. 3 - تقويم متن الكتاب وضبط نصه، مع ملاحظة جميع الاختلافات الواردة بين النسخ الخطية، والإشارة إلى ما كان صالحا منها في الهامش. وقد اعتمدت في هذه المرحلة: طريقة التلفيق بين النسخ الخطية المعتمدة وبين المطبوعة، من أجل إثبات نص صحيح يكون - إن شاء الله تعالى - أقرب شئ لما تركه المصنف - قدس الله نفسه الزكية - قدر الامكان، وذلك لعدم وجود نسخة ذات ميزة خاصة لدينا كي نعتمدها أصلا من بين هذه النسخ، يمكن التعويل عليها بشكل
3 كامل، بل كان جميعها مليئا بالأسقام والإسقاط والتصحيف. 4 - تنزيل هوامش الكتاب، مستفيدا من كل ما أنجز في المراحل التحقيقية المتقدمة، وصياغة الكتاب بهذا الشكل الجميل. 5 - تصحيح عبارات الكتاب وفق أحدث القواعد الاملائية، مع ضبط تقطيع نصه وتقسيم جمله. النسخ الخطية المعتمدة: لقد اعتمدت في تحقيقي لهذا الكتاب النفيس على ست نسخ خطية، هي كالتالي: 1 - النسخة المحفوظة في مكتبة مجلس الشورى الاسلامي في طهران، ضمن مجموعة برقم 2833 (الرسالة الرابعة)، جاء في آخرها: فرغ من تحرير هذه الرسالة... في اليوم التاسع من شهر محرم الحرام من شهور سنة ثمانين بعد الألف من الهجرة... وكتبها... أحمد بن عبد العالي الميسي العاملي... [ثم قال الناسخ عن هذه النسخة]: وأنا قد فرغت... من تحريره في اليوم السادس من شهر محرم الحرام سنة أربع وخمسين وثلاثمائة بعد الألف... وأنا العبد الأحقر الجاني الحسن بن محمد الخياباني التبريزي. مكتوبة بخط النسخ، تقع في 45 صفحة، كل صفحة منها تحتوي على 19 سطرا، بحجم 19 * 13 سم. وقد رمزنا لها في الهامش بالحرف (أ). 2 - النسخة الموقوفة في مكتبة الآستانة الرضوية المقدسة في مشهد، برقم
4 12841 مع ضمائم أخرى فيها، ناسخها مصطفى قلي الحسيني القزويني، بتاريخ 1079 ه. مكتوبة بخط النسخ، تقع في 100 ورقة، تحتوي كل صفحة منها على 15 سطرا، بحجم 5 و 23 * 13 سم. وقد رمزنا لها في الهامش بالحرف (ح). 3 - النسخة الموقوفة في مكتبة الآستانة الرضوية المقدسة أيضا، برقم 7721، ناسخها: ابن زين العابدين محمد حسين الأرموي النجفي، بتاريخ 1352 ه، بخط النسخ، تقع في 24 ورقة، تحتوي كل صفحة منها على 19 سطرا، بحجم 21 * 16 سم. وقد رمزنا لها في الهامش بالحرف (ز). 4 - النسخة الموقوفة في مكتبة الآستانة الرضوية المقدسة أيضا، برقم 6747، ناسخها: شاه محمد بن زين العابدين، بتاريخ 1042 ه. مكتوبة بخط فارسي، تقع في 52 ورقة، تحتوي كل صفحة منها على 20 سطرا، بحجم 25 * 14 سم. وقد رمزنا لها في الهامش بالحرف (ش). 5 - النسخة الموقوفة في مكتبة الآستانة الرضوية المقدسة أيضا، برقم 6816، مجهولة الناسخ والتاريخ، مكتوبة بخط النسخ، تقع في 35 ورقة، تحتوي كل صفحة منها على 14 سطرا، بحجم 17 * 11 سم. وقد رمزنا لها في الهامش بالحرف (ق). 6 - النسخة المحفوظة في مكتبة مجلس الشورى الاسلام في طهران، برقم 2904، مكتوبة بالخط الفارسي (شكسته) بتاريخ 1335 ه مجهولة الناسخ، وهي كثيرة الأخطاء والاسقاط، جاء في آخرها: لا يخفى أن النسخة التي كتبنا منها كانت مغلوطة في الغاية بالتأمل والحدس، أصلحت منها ما تيسر لي، وقد بقي منها مواضع تحتاج إلى التأمل والتصحيح والمراجعة، والله الموفق للصواب. تقع
5 في 23 ورقة، تحتوي كل صفحة منها على 18 سطرا، بحجم 20 × 5، 14 سم. وقد رمزنا لها في الهامش بالحرف (م). هذا ولم تفدنا كثيرا في التصحيح، لذلك أهملنا ذكرها في كثير من مواضع الكتاب. أخيرا، نسأل الله العلي القدير أن يوفقنا وجميع الإخوة العاملين لإحياء تراث الأئمة الأطهار - عليهم صلوات الله الملك الجبار - وأن يتقبل منا هذا المجهود العلمي الضئيل وينفع به، ويجعله ذخرا لآخرتنا، إنه سميع مجيب، والحمد لله أولا وآخرا، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين. تذكار: تعليقات هذه الرسالة بعضها بقلم العالم الفاضل المرحوم الحاج الشيخ عباس قلي الواعظ الچرندابي ورمزه (چ). وبعضها بقلم العلامة السيد هبة الدين الشهرستاني رحمه الله ورمزه (ش). وبعضها بقلم العلامة الشيخ فضل الله الزنجاني رحمه الله ورمزه (ز). وباقي التذييلات من مصحح الرسالة ومحققها.
6 صورة الصفحة الأولى من النسخة " أ "
7 صورة الصفحة الأخيرة من النسخة " أ "
8 صورة أول ما في النسخة " ح "
9 صورة الصفحة الأخيرة من النسخة " ح "
10 صورة أول ما في النسخة " ز "
11 صورة الصفحة الأخيرة من النسخة " ز "
12 صورة الصفحة الأولى من النسخة " ش "
13 صورة الصفحة الأخيرة من النسخة " ش "
14 صورة الصفحة الأولى من النسخة " ق "
15 صورة الصفحة الأخيرة من النسخة " ق "
16 صورة الصفحة الأولى من النسخة " م "
17 صورة الصفحة الأخيرة من النسخة " م "
18 الشيخ المفيد و (تصحيح الاعتقاد) بقلم: العلامة الشهرستاني (1) (قدس سره بسم الله الرحمن الرحيم أيها القارئ الكريم: قرأت بادئ بدء على الغلاف اسم الشيخ أبي عبد الله المفيد: محمد بن محمد بن النعمان - أنعمه الله بالرحمة والرضوان - كما قرأت اسم تأليفه القيم (تصحيح الاعتقاد)، ولكن هل عرفت يا صاح ما هذا المؤلف ومن ذاك المؤلف؟ أما التأليف فجملة جمل قيمة، علقها كفرائد من نتاج يراعه ذلك الكاتب العبقري، الشيخ المفيد العكبري، حول عقائد شيخه الصدوق أبي جعفر - رضي
(1) اقرأ ترجمته الشريفة الضافية في كتاب (نابغة العراق - أو - هبة الدين الشهرستاني ط بغداد 1348 ه) لفقيد العلم والأدب السيد محمد مهدي العلوي السبزواري من أشهر كتاب العربية في إيران (المتوفى سنة 1350 ه بسبزوار) رحمه الله رحمة واسعة. چ. 19 الله عنه (1) تلك العقائد التي دونها هذا الشيخ باسم الإمامية، وأوهم الناس بأنها كذلك، وجملة منها ليست بذلك (2). ولقد نوهت قبل عشرين عاما في بغداد بذكر (تصحيح الاعتقاد) ولزوم نشره بين أبناء الضاد، فاستحسن ذلك أكثر من بلغهم التنويه، لكنما الحوادث الكوارث حالت بيننا وبين ما نروم، وحتى أن المرشد الشهري البغدادي قام بنشر
(1) قال شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي المتوفى سنة 460 ه في تأليفه القيم (الفهرست - مر 156 - 157 ط النجف): محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي، جليل القدر يكنى أبا جعفر، كان جليلا حافظا للأحاديث بصيرا بالرجال ناقدا للأخبار لم ير في القميين مثله في حفظه وكثرة علمه، له نحو من ثلاثمائة مصنف، وفهرست كتبه معروف. وقال العلامة السيد محمد صادق (آل بحر العلوم) في تعليقه عليه: نزيل الري، شيخنا وفقيهنا ووجه الطائفة بخراسان، وكان ورد بغداد سنة 355 وسمع منه شيوخ الطائفة وهو حدث السن... مات (رض) بالري سنة 381 ه، وقبره بالري قريب من قبر الشاه عبد العظيم الحسني، ويلقب بالصدوق. چ. (2) قال العلامة الكبير الشيخ آغا بزرك الطهراني نزيل النجف الأشرف في تأليفه النفيس (الذريعة إلى تصانيف الشيعة - ص 226 ج 2 ط النجف): الاعتقادات للشيخ أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي، المتوفى بالري سنة 381 طبع مرارا أوله: (الحمد لله رب العالمين، وحده لا شريك له) أملاه في نيسابور في مجلس يوم الجمعة ثاني عشر شعبان سنة 368 لما سأله المشايخ الحاضرون أن يملي عليهم وصف دين الإمامة على وجه الايجاز، ولذا سماه الشيخ في الفهرس بدين الإمامية *، ذكر فيه جميع اعتقادات الفرقة الناجية، الضرورية منها وغير الضرورية، الوفاقية منها وغير الوفاقية. وقال في آخره: (وسأملي شرح ذلك وتفسيره إذا سهل الله عز اسمه علي العود من مقصدي إلى نيسابور) ولم يذكر شرح له في فهرس تصانيفه الكثيرة، ولعله لم يتيسر له، ولذا عمد الشيخ المفيد إلى شرح الكتاب، وله شروح وترجمة نذكرها في محالها. چ. * انظر (الفهرست - ص 157 ط نجف) فإنه - قدس سره - سماه فيه: (كتاب دين الإمامية). 20 الشطر الأوفر من ذلك ثم احتجب، إلى أن قيض الرحمن لهذه المهمة رجل الهمة، ومثال صدق العزيمة، ترجمان حديث الأئمة - عليهم السلام - أعني به فضيلة الواعظ الچرندابي، الحاج ميرزا عباس قلي التبريزي، فشمر عن ساعد الجد والاجتهاد لنشر المكمل المشروح من تصحيح الاعتقاد، وهو هذا المنشور بين يديك. أما مؤلف هذا السفر القيم أعني أبا عبد الله المفيد، فهو نابغة العراق، ورئيس شيعته على الإطلاق، ولد في الحادي عشر من ذي القعدة سنة ست وثلاثين أو ثمان وثلاثين وثلاثمائة، وتوفي ليلة الجمعة لثلاث خلون من شهر رمضان سنة 413 ه، وقد كان في الشيعة عرقها النابض، وبطلها الناهض، ودماغها المفكر ورئيسها المدبر، معروفا بالصلاح، بل غرة رجال الاصلاح، والخطيب المصقع، والمتكلم المفوه، والمنافح اللسن، والفصل المشترك بين الإمام والرعية، ليس في ختام المائة الرابعة فحسب، بل حتى اليوم (1). كانت داره بالكرخ من بغداد دائرة للمعارف العالية، ومدرسة للفنون العربية الراقية، وحسبك أن قد تخرج منها أمثال الشريفين الرضي والمرتضى، وأبي جعفر الطوسي والنجاشي وخلق لا يحصون، ولذلك لقب بمعلم الأعاظم وابن المعلم، لقيامه كأبيه بتربية الأعلام، ولقبه بالمفيد علي بن عيسى الرماني النحوي عند تبرزه في الحجاج على خصومه أمثال أبي بكر الباقلاني، قاضي قضاة بغداد، وسائر أقطاب الهيئة العلمية (2). لقد كان المفيد مفيدا حقا، مفيدا في القول والعمل، مفيدا في الافتكار والابتكار، آية في الذكاء وسرعة الخاطر وبداهة الجواب، حتى قال فيه أمثال الخطيب البغدادي: إنه لو أراد أن يبرهن للخصم أن الأسطوانة من الذهب وهي من الخشب لاستطاع.
(1) انظر كلمة الإمام آل كاشف الغطاء في صدر كتاب (أوائل المقالات - ص يا، طبع 1371 ق). چ. (2) انظر مقدمة كتاب (أوائل المقالات - ص لط - م). چ 21 اتصل الشيخ المفيد بالدولة البويهية في عاصمتها بغداد في مبدأ أمرها اتصالا وثيق العرى، فقدروا مكانته حق قدرها، وأجروا الرواتب له ولتلاميذه، وخصصوا له جامع (براثا) في منطقة الكرخ لوعظه وإقامة الصلاة جمعة وجماعة، وله معهم نوادر وقضايا منشورة ومشهورة. توجهت إليه جماعة الإمامية، وانقادوا لرئاسته الدينية يوم كانت بغداد تموج بالفتن، وقد أكلت قواهم الإحن، والشيعة يومئذ شيع وأحزاب تمزقت شر ممزق، وتفرقت إلى ميمية وعينية وغلاة ومخمسة وزيدية وإسماعلية و و، فجمع المفيد بحسن سياسته آراءهم إلى الوسط الذي يرجع إليه الغالي، ويلحق به التالي، فاستعمل الرأي السديد، وقبض على أمر الجماعة بيد من حديد، فلم شملهم بعد البداد، وقرب قوما من قوم بعد طول ابتعاد، وألغى الفوارق التافهة توطيدا للألفة، كما أخمد نوائر الفتن، ومحى مآثر المبدعين، وقضى على أقطاب الضلالة، وأخرس شقاشقهم، فاتخذ لتخفيف وطأة انتشار الضلال طريقة اختصار بعض الكتب، وتلخيص بعضها، ورد جملة منها بالحجج الدامغة، و اختصار بعض المسانيد المؤثرة، وتقرأ في ترجمته المفصلة في كتب التراجم ككتاب (الرجال ص 283 - 287 ط بمبئي) لتلميذه أبي العباس النجاشي، المتوفى سنة 451 ه، و (خاتمة مستدركات الوسائل ص 517 - 521) للشيخ النوري، المتوفى سنة 1320 ه أعماله الغر وأسماء مؤلفاته البالغة فوق المائتين كتابا. أجل، وضع المفيد للمجموعة الشيعية مجموعة كتب نافعة مقنعة لو اقتصروا على دراستها لأغنتهم، كالإرشاد إلى فضائل الأئمة الأمجاد (1)، والمسار
(1) قال العلامة السيد إعجاز حسين في تأليفه القيم (كشف الحجب والأستار ص 38 ط الهند): الارشاد للشيخ المفيد... في حال الأئمة - عليهم السلام - من مواليدهم ووفياتهم ومحاسن (آثارهم وما ورد من القرآن في حقهم وطرفا من كلامهم و قضاياهم، وهو مرتب على جزئين: الأول: في ذكر مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام -. والثاني في ذكر باقي الأئمة - عليهم السلام - وقد طبع بإيران كرارا وأحسن طبعاته صحة وإتقانا طبعة تبريز سنة 1308 ه ق. ونقله إلى الفارسية المولى محمد مسيح الكاشاني الشهير ب (مولا مسيحا) الذي توفي قبل وفاة العلامة آقا جمال الخونساري - الذي توفي سنة 1125 أو سنة 1121 ه - وسماه ب (التحفة السليمانية) باسم الشاه سليمان الصفوي. وطبع بإيران سنة 1303 ق. 22 لمواسم الأعياد (1)، والنكت الاعتقادية لدراسة أصول الدين (2)، والمقنعة لدراسة فروع الدين (3)، وأهمهن كتابه الموسوم ب (تصحيح الاعتقاد بصواب الانتقاد) الذي انتقد فيه عقائد شيخه الصدوق أبي جعفر محمد بن علي بن بابويه القمي، المتوفى سنة 371 ه. نعم، بلغ شيخنا المفيد من الجهاد في الحق مبلغ من لا تأخذه في الله لومة لائم، فأزاح عن الكتاب ما علقت عليه من ستائر الشبه، وما علقت به من
(1) طبع سنة 1313 ه بمصر تلو (شرح القصيدة الذهبية) للسيد المرتضى - رحمه الله. چ. (2) طبع للمرة الثانية ببغداد سنة 1343 ه مع تعاليق رشيقة لسماحة العلامة الأكبر السيد هبة الدين الشهرستاني مد ظله، ونقله للفارسية العلامة الشهير الحاج الشيخ غلام حسين التبريزي - نزيل المشهد الرضوي - مد ظله، وعلق عليه بعض التعاليق المفيدة وطبع بالمشهد المقدس الرضوي، كما أنه ترجمه إلى اللغة الفارسية العذبة العلامة الشيخ محمد مهدي (شرف الدين) التستري، وطبع بطهران سنة 1329 ش ه مع بعض حواش وتعاليق له. چ. (3) طبع سنة 1274 ه على الحجر بإيران تلو كتاب فقه الرضا - عليه السلام -، ولا يخفى أن تلميذه الطوسي قد شرحه في تأليفه الموسوم ب (تهذيب الأحكام) الذي هو أحد الكتب الأربعة المعول عليها عند الأصحاب من لدن تأليفها حتى اليوم، وطبع سنة 1318 ه بإيران في مجلدين كبيرين. وقال في (كشف الحجب ص 548) المقنعة في الفقه للشيخ المفيد... ذكر فيه الأصول الخمسة والعبادات والمعاملات، وقد ترك شيخ الطائفة قدس سره شرح الأصول الخمسة في التهذيب، أوله: الحمد لله الذي نهج السبيل إلى معرفته، ويسر ما دعا إليه من طاعته. چ. 23 جراثيم الشكوك، وذلك بأجوبته السديدة التي لا أخت لها في نتائج أقلام الأعلام من الحقائق المعقولة، والدقائق ا لمقبولة، التي استخلصها هذا المصلح العظيم من صريح العقل، وصحيح النقل، فلولاه ولولاها لبقي أكثر الناس حيارى بلا هدى ولا كتاب منير. طهران - إيران 1363 ق هبة الدين الحسيني الشهير بالشهرستاني
24 تصحيح الاعتقاد (*)
* قال صاحب مجلة (المرشد) المفضال في ضمن مقدمته لهذا الكتاب في مجلته الغراء ص 78 ج 1 ط بغداد، ما لفظه: وكان سماحته (يعني العلامة الشهرستاني) قد أشار في هامش هذه النسخة النادرة إلى ما قاساه في سبيل تحصيلها وتصحيحها في رحلته الهندية سنة 1331 ه علاوة على ما علق على متنها من ملاحظاته المهمة التي عز الوصول إلى أمثالها وندر. وقال العلامة الهندي السيد إعجاز حسين في كتابه النفيس (كشف الحجب والأستار ص 124 ط الهند): تصحيح اعتقاد الإمامية - شرح اعتقادات الشيخ أبي جعفر بن بابويه القمي للشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان الحارثي... أوله: الحمد لله على نواله، والصلاة على محمد وآله، هذا تصحيح اعتقاد الإمامية... إلخ. چ. 25 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله على نواله، والصلاة على محمد وآله، هذا تصحيح اعتقاد الإمامية (1) للشيخ أبي جعفر بن بابويه - رضي الله عنه - تأليف الشيخ المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان - رحمه الله - (2).
(1) الاعتقاد هو المحرك الأول نحو الفعل، والمهيئ الأول لقبول الأثر وللأخلاق والعواطف المنزلة الثانية من التأثير والاعداد مهما كانت قوية التأثير، فالاعتقاد هو العامل الأول بكل معنى الكلمة، وله أثر عظيم في تقدم الافراد والأمم، والمدخلية العظمى في تسافل الانسان وفشل أعماله، وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بحسن العقائد، وكم تدهورت أمم عظمي في هوة الانقراض من سوء الاعتقاد. فإذا كان الاعتقاد بهذا الشأن فالاهتمام بتصحيح الاعتقاد فريضة فوق الكل، ولما كانت مقالات الصدوق أبي جعفر في عقائده مشوبة بآرائه الشخصية - كما سيأتي - وبصورة موهمة الحكاية عن كافة الشيعة، نهض لنقدها شيخ الإمامية، وغرة رجال الاصلاح، المفيد محمد بن محمد بن النعمان - قدس سره - لتنزيه المذهب عن الشانئات والشائبات، ولتصحيح عقائد المسلمين من غرائب الآراء والأهواء، إذ الاعتقاد - كما سلف - هو المحرك الأول (أيما إلى جنة أيما إلى نار). ش. (2) ومفتتح النسخة التي هي بخط أحمد بن عبد العالي الميسي العاملي هكذا: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين. قال الشيخ أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه في قوله تعالى: (يوم يكشف عن ساق) والساق وجه الأمر وشدته. قال الشيخ المفيد: ومعنى قوله تعالى: (يوم يكشف عن ساق) يريد به يوم القيامة... الخ. چ. 27 معنى كشف الساق قال الشيخ أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي المتوفى سنة 381 ه في رسالة اعتقاداته (ا) في معنى قوله تعالى: (يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود) (2) الساق: وجه الأمر وشدته (3) (4). قال الشيخ المفيد: معنى قوله تعالى: (يوم يكشف عن ساق) (5) يريد به
(1) الاعتقادات للشيخ الصدوق ص 23. (2) القلم: 42. (3) فالآية المذكورة تهدد المشركين الذين أنفوا من السجود لرب العالمين فتوعدهم بمجئ يوم عصيب (ولو في هذه الدنيا ومن بعد فتح مكة) تتجلى فيه عظمة دين التوحيد، وقوة تعاليم القرآن، فيرغمون فيه على عبادة الله ويدعون إلى السجود. ولفظة (كشف الساق) على وجازتها تشير إلى لطيفتين، إحداهما: شدة الحالة الداهية، والثانية: تجليات الحقائق الاسلامية في المستقبل، لان العرب تكني بكشف الساق عن هاتين الحالتين، وقد جرت عاداتهم على كشف الساق عند استقبال أوحال الطريق والغمرات، وعلى الكشف عن ساق الجارية قبل شرائها أو بعده لمعرفة عيوبها والمحاسن، فأين الآية من الدلالة على ساق الرب تعالى عنه، سيما مع تنكير الساق وعدم إضافته إلى أحد؟! ش. (4) راجع بحار الأنوار 3: 309 - 339 و ج 4: 1 - 25. (5) هذا ابتداء الرد على المجسمة، وهي فرقة عرفت بعد القرن الأول الهجري، وتفشت في المسلمين، ودعواها جواز وصف الله تعالى أوصاف الإنسان الجسمانية والنفسانية، وأن له تعالى يدا وجنبا وعينا وأذنا وقدما وساقا... إلخ، حتى كشف زعيمهم عن ساقه وقال (لله ساق كهذه) ولهجت عامتها بخرافات يأنف اليراع من إيرادها. وسبب انتشار دعواهم قصور كثير من الناس عن تفسير متشابهات القرآن وتمييز وجوه أمثالها و مجازاتها الرائعة عند العرب، فصاروا يفسرون الظواهر من مثل (قدم صدق) (يونس: 2) و (يكشف عن ساق) و (مطويات بيمينه) (الزمر: 67) ومئات آيات أخرى بنحو ما يفهم من الكلمة في أصل اللغة، وقد أوضحنا تفاسيرها جميعا في (المحيط) وفي (الدلائل) وغيرهما. ش. 28 يوم القيامة [يكشف فيه] (1) عن أمر شديد صعب عظيم، وهو الحساب والمداقة (2) على الأعمال، والجزاء على الأفعال، وظهور السرائر وانكشاف البواطن، والمداقة (3) على الحسنات والسيئات، فعبر بالساق عن الشدة، ولذلك قالت العرب فيما عبرت به عن شدة الحرب وصعوبتها: (قامت الحرب على ساق) و (قامت الحرب بنا على ساق) وقال شاعرهم أيضا وهو سعد بن خالد: كشفت لهم عن ساقها * وبدا من الشر الصراح وبدت عقاب الموت * يخفق تحتها الأجل المتاح ومن ذلك قولهم: قد قامت السوق، إذا ازدحم أهلها واشتد أمرها با لمبايعة والمشاراة، ووقع الجد في ذلك والاجتهاد.
(1) (ز) (ش): ينكشف به. (2 و 3) (ق) (ش): والموافقة، (ز) (م): والمدافعة. 29 [تأويل اليد] فصل: ومضى في كلام أبي جعفر - رحمه الله - شاهد اليد عن القدرة قوله تعالى: (واذكر عبدنا داود ذا الأيد) (1) فقال: ذو القوة (2). قال الشيخ المفيد - رحمه الله -: وفيه وجه آخر وهو أن اليد عبارة عن النعمة، قال الشاعر: له علي أياد لست أكفرها * وإنما الكفر ألا تشكر النعم فيحتمل أن قوله تعالى: (داود ذا الأيد) يريد به ذا النعم، ومنه قوله تعالى : (بل يداه مبسوطتان) (3) يعني نعمتيه العامتين في الدنيا والآخرة.
(1) ص: 17. (2) الاعتقادات ص 23، مجمع البيان 4: 469، التوحيد: 153 / 1. (3) قوله تعالى: (بل يداه مبسوطتان) هي الآية الرابعة والستون في سورة المائدة، وتمامها: (وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء)... إلخ، استعارة أسماء الجوارح للمعاني والمجردات سائغة وشائعة كقوله تعالى: (أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح) البقرة: 238. وليس للنكاح عقدة محسوسة ولا أنشوطتها في كف ولي الزوج الحسية، فمن الجهل الفاضح توقف المجسم من تأويل اليد في الكتاب والسنة. وفي الحديث النبوي: الحجر الأسود يمين الله في أرضه، وقد حكي اتفاق الظاهرية، حتى الإمام أحمد بن حنبل على وجوب تأويل هذا الحديث، فليست الاستعارة عار الكلمة لو لم تكن زينتها، ولا هي بدعا في العربية، بل هي سنة البلغاء من كل الأمم، فللجميع تعابير شكوى من يد الزمان حيث لا يد للزمان ولا جسد، و لهم الشكوى من يد المنون وليس بذي يد. وقال الشاعر الجاهلي: (وإذا المنية أنشبت أظفارها)... إلخ، وأنى للمنايا من أكف أو أظافير، فهل يحمل المجسم كل هذه الكلم على حقائقها اللغوية المحسوسة، أم يختار فيها وفي أمثالها ما نرجحه في آية: (لما خلقت بيدي) (ص: 75)؟ وإذا جاز المجاز في القرآن ولو مبدئيا فلنا على تأويل اليد في خصوص هذه الآية شاهدان منها عليها، أحدهما: جملة (غلت أيديهم) فإن أيدي اليهود المحسوسة لم تغل بأغلال محسوسة، وإنما ذلك منه كناية عن خزي وعار لحقا بهم، وثانيهما: جملة (ينفق (برحمته) كيف يشاء) فإنه دليل إرادة النعمة من كلمة اليد - كما اختاره الشيخ المفيد وغيره. وفي القرآن شاهد ثالث في (سورة الإسرى: 29): (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط)... إلخ، فإن مغلة اليد فيها كناية عن الشح والتقتير، وبسطها كناية عن التبذير والسرف في الصرف أو العطاء، والقرآن يفسر بعضه بعضا. ش. 30 [نفخ الأرواح] (1) أبو جعفر - رحمه الله - في قوله تعالى: (ونفخت فيه من روحي) (2) فقال: هي روح مخلوقة أضافها إلى نفسه كما أضاف البيت إلى نفسه وإن كان خلقا له.
(1) الاعتقادات ص 23. (2) قوله تعالى: (ونفخت فيه من روحي) (الحجر: 29) لا يسع الناس حتى المجسمة المشبهة والظاهرية أن يجمدوا على ألفاظ (نفخت فيه من روحي) دون أن يتأولوا المجاز فيها، لأن النفخ الشائع بالهواء إن جوزوه على الآلات أو من الآلات فلن يجوزه على الروح أو من الروح أحد حتى الحشوي الجهول، وإذا تعذرت الحقيقة فأنسب المجازات اتخاذ النفخ استعارة عن الحركة التدريجية المحسوسة في نمو الإنسان تشبيها لها بحركة الجراب المنفوخ أو نحوه فيه، فالتشابه بين نمو الإنسان وبين الحركة التدريجية المحسوسة في الجراب المنفوخ يسوغ استعارة لفظ النفخ لمعنى نمو الجسد المحسوس من ولوج الروح فيه، فترى القرآن يصور نمو الإنسان من محرك خفي في داخله أعني الروح الشبيهة بحركة الجراب من محرك خفي في داخله أعني الريح، ولكن بتصوير بليغ في لفظ وجيز. أما الروح فهي بمعناها الشائع وغنية عن كل تأويل، والغرض منها الإشارة إلى نمو الإنسان في بدء أمره بواسطة الروح غير أن المهم هو كشف السر عن سر إضافتها إلى الله تعالى، فإن الإضافات تختلف وجوه الاعتبارات فيها حسب اختلاف المضافات، فالخلق عبيد الله باعتبار رقيتهم له، والرقية من أظهر صفات العبيد، والأنبياء سفراء الله باعتبار إبلاغهم أحكام الخالق إلى الخلائق، وهذا التبليغ من أظهر صفات السفراء، والكعبة بيت الله باعتبار اجتماع المسلمين فيها كإخوة، ومن أظهر مزايا البيت جمع شمل الإخوة والعائلة، والمسيح روح الله باعتبار ظهور الكمالات الملكوتية فيه، ومن أظهر صفات الروح أنها مرآة كمالات الملكوت. إذن فالروح تستحق الإضافة إلى الله بهذا الاعتبار، إذ هي مرآة كمالات الملكوت والمظهر الأتم لكمالات الرب وأسراره الغيبية، وهذه الوجوه أرضى من أوجه الشيخين الجليلين. ش. 31 قال الشيخ المفيد - رحمه الله -: ليس وجه إضافة الروح [والبيت] إلى نفسه (1) والنسبة إليه من حيث الخلق فحسب (2)، بل الوجه في ذلك التمييز لهما بالإعظام والاجلال والاختصاص بالإكرام والتبجيل من جهة التحقق بهما، ودل بذلك على أنهما يختصان منه بكرامة وإجلال لم يجعله لغيرهما من الأرواح و البيوت (3)، فكان الغرض من ذلك دعاء الخلق إلى اعتقاد ذلك فيهما والإعظام لهما به.
(1) أي في الآيات الكريمة: (وعهدنا إلى إبراهيم و إسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين) (سورة البقرة: 126) - (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين) (سورة الحج: 26). ج. (2) (أ) (ح) (ز) (ش) (ق) (م): حسب. (3) (ق): والبيوتات. 32 [حكمة الكناية والاستعارة] فصل: والذي قاله أبو جعفر - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي) (ا) أن المراد: بقدرتي وقوتي (2). قال أبو عبد الله: ليس هذا هو الوجه في التفسير، لأنه يفيد تكرار المعنى، فكأنه قال: بقدرتي وقدرتي أو بقوتي وقوتي، إذ القدرة هي القوة والقوة هي القدرة (3)، وليس لذلك معنى في وجه الكلام، والوجه ما قدمناه من ذكر النعمة،
(1) قوله تعالى: (لما خلقت بيدي) (سورة ص: 75) لا يفوتك أن القرآن (حسبما أوضحناه) يستعمل أفانين البلاغة كأبلغ خطيب، وقد جرت سنة البلغاء في كافة الأمم على الاهتمام بصب الكلام مصبا محسوسا لتمثل عند المخاطب معانيهم كأنه يراها محسوسة لديه ومركوزة نصب عينيه، ولأجل البلغة إلى هذا الغرض المهم سلكوا سبل الكناية والاستعارة، إذ فيهما إقامة المحسوس مقام المعقول بعد ثبوت الملازمة أو المحاكاة بينهما نظير حكاية الأسد عن الشجاعة أو العقرب عن إيذاء الصديق، فعند التعبير بهما عن هذين المعنيين يتمثل المعقول محسوسا ونافذا في الخواطر، هذه حكمة الكنايات والاستعارات ومن ذلك استعارة اليد عن القوة والاحسان، إذ ليس في أعضائك عضو يقوم بخدمتك أو يظهر عملك وقولك مثل يديك، لذلك استحقت اليد أن يؤتى بها حاكية وممثلة عن القوة والبطش تارة، وعن الإنعام والإحسان أخرى، كما ذهب إليه الشيخان الجليلان، وقد أوضحنا الأمر في تأويل آية: (بل يداه مبسوطتان). ش. (2) الاعتقادات ص 23، مجمع البيان 4: 485، التوحيد: 153 / 1، 2. (3) فيه نظر. ش ظ. 33 وأن المراد بقوله: (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي) إنما أراد به نعمتي اللتين هما في الدنيا والآخرة. والباء في قوله تعالى: (بيدي) تقوم مقام اللام، فكأنه قال: خلقت ليدي، يريد به لنعمتي، كما قال (1): ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) (2) والعبادة من الله تعالى نعمته عليهم، لأنها تعقبهم ثوابه تعالى في النعيم الذي لا يزول، وفي تأويل الآية وجه آخر، وهو: أن المراد باليدين فيها هما (3) القوة والنعمة، فكأنه قال خلقت بقوتي ونعمتي، وفيه وجه آخر وهو، أن إضافة اليدين إليه إنما أريد به تحقق الفعل له وتأكيد إضافته إليه وتخصيصه به دون ما سوى ذلك من قدرة أو نعمة أو غيرهما، وشاهد ذلك قوله تعالى: (ذلك بما قدمت يداك) (4) وإنما أراد: ذلك بما قدمت من فعلك، وقوله تعالى: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) (5) والمراد به: فبما كسبتم. والعرب تقول في أمثالها: (يداك أوكتا وفوك نفخ) (6) يريدون به أنك فعلت ذلك وتوليته وصنعته واخترعته وإن لم يكن الإنسان استعمل به جارحتيه اللتين هما يداه في ذلك الفعل.
(1) فيه نظر ش ظ. (2) الذاريات: 56. (3) (ش) (ح) (ق): هو. (4) الحج: 10. (5) الشورى: 30. (6) قال العلامة أبو الفضل الشيخ أحمد الميداني المتوفى سنة 518 ه في تأليفه النفيس (مجمع الأمثال - ص 335 ج 2 ط مصر 1342 ه *: قال المفضل أصله أن رجلا كان في جزيرة من جزائر البحر فأراد أن يعبر على زق قد نفخ فيه فلم يحسن أحكامه حتى إذا توسط البحر خرجت منه الريح فغرق فلما غشيه الموت استغاث برجل فقال له: (يداك أوكتا وفوك نفخ، يضرب لمن يجني على نفسه الحين) ) وكى القربة: سدها بالوكاء: رباط القربة. انظر (فرائد اللآل في مجمع الأمثال - ص 363 ج 2 ط بيروت 1312 ه) لوحيد عصره العلامة الشيخ إبراهيم الأحدب (المتوفى سنة 1308 ه). چ. * قال قاضي القضاة أحمد بن خلكان (المتوفى بدمشق سنة 681 ه عن 73 سنة) في كتابه النفيس (وفيات الأعيان - ص 6 ج 2 ط مصر 1355 ه): وأتقن (يعني الميداني) فن العربية خصوصا اللغة وأمثال العرب. وله فيها التصانيف المفيدة، منها كتاب (الأمثال) المنسوب إليه، ولم يعمل مثله في بابه. چ. 34 [المكر والخدعة من الله، معنى الله يستهزئ بهم] فصل: وذكر أبو جعفر - رحمه الله - (1) في قوله تعالى: (يخادعون الله وهو خادعهم ) (2)
(1) الاعتقادات ص 25، التوحيد: 163 / 1 و 159 - 160 / 1. (2) قوله تعالى: (إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم) إلخ (النساء : 142) سيأتي الأصل في آية: (الله يستهزئ بهم) ونوضح أن العرف من عرب وغيرهم يتمثلون في أغلب محاوراتهم استعارة بالعمل عن أشباهه وما على شاكلته فيقولون (نام فلان عن حقه وتحزم لحق غيره) فلا يخطر ببالهم الحزم والمنام المحسوسان، وإنما يريدون أنه يعمل عملا يشبه بالنائم عن حق نفسه أو المتحزم لخدمة غيره، كما يقال لمن قعد عن طلب نصيبه أو ضيع فرصة متاحة: لقد كنت نائما أو غائبا، وإن كان حاضرا واعيا، لأن عمله يشبه عمل النائم والغائب دون عمل الواعي الحاضر، كذلك الذين يثشبثون لأهوائهم وشهواتهم بدسائس التمويه والتطلية والحيل الشرعية والتزوير في التسمية كأنهم يمكرون ويخدعون الله، ثم إن الله تعالى في إسقاطهم على غرة يشبه من يقابلهم بالمكر والخديعة في حين أنه ليس مكرا في الحقيقة، وإنما هو تأديب بعد استدراج، وبعد إنذار واحتجاج، وبهذه المناسبة وصف الله بأنه خير الماكرين وخادع المنافقين. إن الماكرين أو الخادعين لا يعملون لغاية مقدسة ولا يسبق منهم إنذار لمن في وجههم أو إعلامه لكنما الله سبحانه يعمل لغاية قدسية كالتأديب، ويعمل بعد الانذار والمواعيد لعلهم يحذرون ويتقون، فهي وأشباهها بحسب الاصطلاح استعارة ، لكن الشيخين الجليلين حسباها من المجاز المرسل. ش. 35 و: (نسوا الله فنسيهم) (1) و: (ومكروا ومكر الله (2) و: (الله يستهزئ بهم) (3):
(1) التوبة: 67. (2) آل عمران: 55. (3) قوله تعالى: (الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون) (البقرة : 16) إن بلاء الظاهرية وأعني بهم الغلاة المتمسكين بالظواهر المأثورة ليس على الدين والمسلمين بأقل من بلاء الباطنية وأعني بهم الغلاة في التمسك ببواطن الآثار واعتبارهم ظواهر النقل العرفية قشورا، وما هؤلاء وأولئك سوى طرفي إفراط وتفريط في الحقيقة، وأحرى بهم أن يعدلوا عن تطرفهم ويسلكوا مذهب التوسط والاعتدال، فإن للقرآن والحديث ظواهر مقصودة عند التخاطب مثل : (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) (البقرة: 44) و (أحل الله البيع وحرم الربا) إلى آخره (البقرة: 276) مجمعا عليها بالضرورة. كما أن في القرآن والحديث ألفاظا لا يراد منها معانيها اللغوية الأصلية المبذولة، وإنما قصد منها معان عرفية يتقبلها عرف التخاطب على سبيل التجوز والتشبيه كآية : ( يجعلون أصابعهم في آذانهم) (البقرة: 20) أو حديث: (الحجر الأسود يمين الله في أرضه) فلا ترى العقلاء إلا مجتمعين على صرف هذه الألفاظ عن مفاهيمها اللغوية الأصلية إلى معان ثمثيلية رائجة الاستعمال في محاورات العرف من كل أمة، فتجد العرف يقولون (فلان نام عن ميراث أبيه وتحزم لمنازعة السلطان) أي عمل شبيه عمل النائم أو شبيه المتحزم دون أن يقصد النوم الأصلي أو الحزام الحقيقي، قال الشاعر: لا تعجبي يا سلم من رجل * ضحك المشيب برأسه فبكى وليس المشيب في الحقيقة إنسانا يضحك، لكنه يعمل بالرجل شبه عمل الضاحك المستهزئ، وكذلك الله سبحانه يعمل بالظالمين عملا يخيل للناظر البسيط غير المتعمق أنه عمل المستهزئ بهم، لأنه سبحانه يوسع عليهم ابتداء ويملي لهم ويمدهم في طغيانهم حتى إذا استمر طغيانهم وضاق الذرع بهم وبظلمهم أخذهم أخذ عزيز مقتدر على حين غفلة وبدون مهلة، فيخال البسطاء أنه سبحانه يستهزئ بهم أو يمكر في إذلالهم بعد الإعزاز وإسقاطهم بعد الإسعاد والإمداد، لكن الخواص من ذوي الألباب يعلمون أن إمهالهم بادئ بدء استدراج وإتمام حجة، ثم التنكيل بهم تأديب لهم وللبقية، ويشهد على هذا قوله بعدئذ: (ويمدهم في طغيانهم ... إلخ. ش. 36 أن العبارة بذلك كله [عن جزاء الأفعال] (1). [قال أبو عبد الله] (2): وهو كما قال إلا أنه لم يذكر الوجه في ذلك، والوجه: أن العرب تسمي الشئ باسم المجازى عليه للتعلق فيما بينهما والمقارنة، فلما كانت الأفعال المجازى عليها مستحقة لهذه الأسماء كان الجزاء ، مسمى بأسمائها، قال الله تعالى: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا) (3) فسمى ما يأكلونه (4) من الطيبات تسمية النار وجعله نارا، لأن الجزاء عليه النار.
(1) في بقية النسخ: الجزاء على الأفعال. (2) ليست في بقية النسخ. (3) النساء: 10. (4) في المطبوعة: يأكلون. 37 [نسبة النسيان إلى الله] فصل: ذكر أبو جعفر - رحمه الله - (1): أن النسيان (2) من الله تعالى يجري مجرى المخادعة منه للعصاة (3)، وأنه سمي بذلك باسم المجازى عليه. [قال أبو عبد الله] (4): والوجه فيه غير ذلك: وهو أن النسيان في اللغة هو الترك والتأخير، قال الله تعالى: [ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو
(1) الاعتقادات ص 6 2، التوحيد: 163 / 1 و 159 - 160 / 1. (2) قوله تعالى: (نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون) (التوبة : 67) قد سبق الأصل في تفسير أمثال هذه في آية: (الله يستهزئ بهم...) إلخ، وآيات أخرى أن ذلك وارد مورد تمثيل العمل وتشبيه الفاعل في ظاهر فعله كقولهم (فلان نام عن حقه وتحزم لحق غيره) وقولهم لمن أساء على من أحسنوا إليه (نسيت الجميل) في حين أنه غير ناس، لكنه يعمل عمل الناسي أي الإساءة على المحسن نظير اتخاذ البلغاء غير الجاحد جاحدا إذا وجدوه عاملا عمل المنكرين، كقول الشاعر: جاء شقيق عارضا رمحه * إن بني عمك فيهم رماح وبالجملة: فالوجه الذي استقبلناه في تأويل الآيات هو الاستعارة، والوجه الذي استقبله الصدوق أبو جعفر (رض) أشبه بالمجاز المرسل، وأما تأويل النسيان إلى معنى الترك كما أفاده الشيخ المفيد (رض) فماله إلى الاشتراك اللفظي . ش. (3) في بقية النسخ: العصاة. (4) ليست في بقية النسخ. 38 مثلها) (1) يريد ما ننسخ من آية نتركها على حالها أو نؤخرها (2)، فالمراد بقوله تعالى: (نسوا الله) تركوا [إطاعة الله تعالى] (3)، وقوله: (فنسيهم) يريد به تركهم من ثوابه، وقوله تعالى: (أنساهم أنفسهم ) (4) أي: ألجأهم إلى ترك تعاهدها ومراعاتها بالمصالح بما شغلهم به من العقاب. فهذا وجهه وإن كان ذلك أيضا وجها غير منكر، والله ولي التوفيق.
(1) البقرة: 107. (2) انظر (مجمع البيان * - ص 180 - 181 ج 1 ط صيدا) لإمام المفسرين الشيخ أبي علي الطبرسي قدس. چ. (3) (أ) (ح) (ز) (ق): طاعته. (4) الحشر: 19. * انظر المقال القيم الذي دبجه يراع العلامة المحقق فضيلة الدكتور محمد يوسف موسى الأستاذ بكلية أصول الدين بمصر حول تفسير مجمع البيان لإمام المفسرين الشيخ الطبرسي - ره -، في العدد الأول من مجلة (رسالة الاسلام - ص 63 - 69 ط قاهرة ربيع الأول 1370 ه) لسنتها الثالثة، تلك المجلة الزاهرة الوحيدة التي تصدر عن (دار التقريب بين المذاهب الإسلامية) بمصر المحمية، قال الأستاذ في ص 66 من العدد المذكور: (هذا الكتاب الجليل الذي تعني هذه الأيام (جماعة الأزهر للنشر والتأليف) التي أشرف برئاستها، بالعمل على نشره نشرا علميا محققا بكل معنى الكلمة - إلى أن قال - وإنه لا يمنع هذه الجماعة من المضي سريعا فيما اعتزمت وقررت إلا بعض الصعاب التي نرجو أن تتغلب عليها إن شاء الله بمعونة من يرجى منهم العون من كبار العلماء المعنيين بإحياء التراث الاسلامي المجيد، والله هو الموفق لكل خير، الهادي إلى سواء السبيل). چ. 39 [صفات الله (1)] فصل: في صفات الذات وصفات الأفعال قال الشيخ أبو جعفر - رحمه الله -: كل ما وصفنا الله تبارك وتعالى به من
(1) إذا توسعنا في تدقيق صحائف الكتاب والسنة حق التوسع لم نجد هذا التقسيم الاصطلاحي: أي تقسيم صفات الله إلى صفات الذات، وصفات الفعل، وصفات النقص، وبعبارة أخرى: الكمالية والجلالية والتنزيهية، أو بحسب المشهور الصفات الثبوتية والزائدة والسلبية. نعم، نجد المنشأ الحقيقي لهذا التقسيم الثلاثي موجودا في القرآن والحديث، وهو أن الصفات بعضها ثابتة لله سبحانه بوجه عام، من دون استثناء وقت أو فرد كالعلم، فإنه - عز شأنه - بكل شئ عليم، عليم في كل أين وآن، وفي كل مكان وزمان، لم يزل عالما بكل شئ ولا يزال. والقسم الثاني من المعاني منفية عن الله كذلك منفية بوجه عام وبدون استثناء وقت أو مقام كالظلم، فلا يظلم ربك أحدا، فكما أن العلم ثابت له ولا يزال ، كذلك الظلم منفي عنه على الإطلاق في كل حال. والقسم الثالث من صفات الله وسط بين القسمين، فلا هو كلي الثبوت، ولا هو كلي السلب، مثل الإرادة، فإنها قد تثبت لربنا - عز وجل - بالنظر إلى شئ، وقد تنتفي عنه بالنظر إلى شئ آخر، كما في آية: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) (البقرة: 186) ومتى كان المعنى يستحق الثبوت تارة ويستحق النفي أخرى فهو غير ضروري الايجاب، كما هو غير ضروري السلب. هذه ثلاثة أقسام في صفات الله يمتاز كل منها عن البقية بحسب ظواهر الكتاب والسنة، بل وبحسب ضرورة العقل أيضا، إذ كل وصف قيس إلى ذات، فإما أن يكون ضروري الثبوت لها، أو يكون ضروري السلب عنها، أو يكون غير ضروري الثبوت للذات كما هو غير ضروري السلب عنها، الأمر الذي دعا شيوخ أسلافنا إلى القسمة الثلاثية في صفات الله وتسميتهم القسم الأول بصفات الذات أو الثبوتية. والقسم الثاني بصفات التنزيهية أو السلبية. والقسم الثالث بصفات الفعل أو الزائدة، ويريدون بالفعل ضد الشأن، وإن كان الأنسب عندنا تسمية الأقسام بالذاتية والنسبية والسلبية. ش. 40 صفات ذاته (1). قال الشيخ المفيد - رحمه الله -: صفات الله تعالى على ضربين: أحدهما: منسوب إلى الذات، فيقال: صفات الذات. وثانيهما (2): منسوب إلى الأفعال، فيقال: صفات الأفعال، والمعنى في قولنا صفات الذات: أن الذات مستحقة لمعناها استحقاقا لازما لا لمعنى سواها ، و معنى صفات الأفعال: هو أنها تجب بوجود الفعل ولا تجب قبل وجوده، فصفات الذات لله تعالى هي الوصف له بأنه حي، قادر، عالم ألا ترى أنه لم يزل مستحقا لهذه الصفات ولا يزال. ووصفنا له تعالى بصفات الأفعال كقولنا خالق، رازق، محيي، مميت، مبدئ، معيد، ألا ترى أنه قبل خلقه الخلق لا يصح وصفه بأنه خالق وقبل إحيائه (3) الأموات لا يقال إنه محيي. وكذلك القول فيما عددناه، والفرق بين صفات الأفعال وصفات الذات: أن صفات الذات لا يصح لصاحبها الوصف بأضدادها ولا خلوه منها، وأوصاف الأفعال يصح الوصف لمستحقها بأضدادها وخروجه عنها، ألا ترى أنه لا يصح [وصف الله] (4) تعالى بأنه يموت، ولا [بأنه يعجز، ولا بأنه يجهل] (5) ولا يصح الوصف له بالخروج عن كونه حيا عالما قادرا، ويصح الوصف بأنه غير خالق اليوم، ولا رازق لزيد، ولا محيي لميت بعينه، ولا مبدئ لشئ في هذه الحال، ولا معيد له. ويصح الوصف له - جل وعز - بأنه يرزق ويمنع ويحيي ويميت ويبدئ ويعيد ويوجد ويعدم، فثبتت العبرة في أوصاف الذات وأوصاف الأفعال (6)، والفرق بينهما ما ذكرناه.
(1) الاعتقادات ص 27. (2) (أ) (ح) (ش) (ق): والضرب الآخر، (ز): والآخر. (3) (أ) (ز) (ش): إحياء. (4) (ز): وصفه، (ق): الوصف لله. (5) (ح) (ز): يعجز ولا يجهل، (أ) (ق): يعجز ويجهل. (6) (أ) (ح) (ز) (ش): الفعل. 41 [خلق أفعال العباد] فصل: في أفعال العباد قال الشيخ أبو جعفر - رحمه الله - أفعال العباد مخلوقة خلق تقدير لا خلق تكوين ، ومعنى ذلك أنه تعالى لم يزل عالما بمقاديرها (1 و 2). قال الشيخ أبو عبد الله - رحمه الله -: (3) الصحيح عن آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم: أن أفعال العباد (4) غير مخلوقة لله تعالى، والذي ذكره أبو جعفر - رحمه الله - قد جاء به حديث غير معمول به ولا مرضي الاسناد، والأخبار الصحيحة بخلافه، وليس يعرف في لغة العرب أن العلم بالشئ هو خلق له، ولو كان ذلك كما قال
(1) الاعتقادات ص 29. (2) عنه في البحار 5: 19 / 29. وراجع معاني الأخبار 396، بحار الأنوار 5: 30 الحديث 37 و 38. (3) تبع الشيخان الجليلان جمهور المتكلمين في إفراد بحث الجبر عن بحث خلق الأفعال، وعن مبحث الهدى والضلال، مع أن الجميع فروع من نظرية الجبر ومن فاز بحل مشاكل هذه الأخيرة فاز بالنجاة من صعوبات البقية. ش. (4) إن لهذا البحث وبيان المقصود منه تقريرا من وجهين: كلامي، ونفسي، أما النفسي - وهو المقصود لدى الفلاسفة وعلماء التربية - فهو أن الإنسان في أفعاله - وفي مقدمتها الطلب والإرادة - هل هو حر مختار ومستقل في إيجاد أفعاله؟ أو هو مجبور باقتضاء العوامل الأخرى المتصرفة فيه من الداخل والخارج؟ فإن اختلاف التربية والتهذيب يؤثران بالحس والتجربة على الإنسان في اختلاف إرادته ومطالبه وتكييف أحواله وإصدار أعماله، وهذا البحث يختلف عن المبحث الكلامي الآتي ذكره اختلافا واضحا وإن خفي على الجمهور. وأما البحث الكلامي - وهو المبحوث عنه لدى علماء الكلام وزعماء الطوائف الإسلامية، ولا يزالون مختلفين فيه - فهو أن الإنسان - وإن بلغ رشده وأشده وخوطب بالتكاليف الإلهية - هل هو مختار في أفعاله، حر في إرادته، مستقل في الطلب؟ أو أن الله تعالى هو الخالق في الحقيقة لجميع ما يصدر من الإنسان في الظاهر، وهو كآلة صماء في أداء ما يجري على يديه من أفعال خالقه، فعلى هذا يكون الإنسان فاعلا بالمجاز في كل ما ينسب إليه من أفعاله مباشرة، وإنما يكون المنسوب إليه حقيقة هو الله تعالى وحده، وهذا الوجه يشترك مع الوجه السابق عليه في سلب اختيار العبد واضطراره في أفعاله طرا، وهما بناء عليه يستلزمان الجبر معا، ويسمى البحث الكلامي بحث الجبر الديني، كما يسمى البحث النفسي بحث الجبر التكويني، والفرق بينهما يبدو من وجوه أهما أن المنسوب إليه في الجبر الديني إنما هو الله وحده، وهو الذي أمر بالحسنات ويثيب بحسبها، وهو الذي نهى عن السيئات ويعاقب عليها، وفي صورة كهذه يصعب جدا تصور الإيمان بعدالة من أجرى على يديك السيئات وهو في نفس الوقت مؤاخذك بها ومعاقبك عليها، نعم إن الجبر التكويني يقضي أيضا باضطرار العبد فيما يأتيه، غير أنه يجعل مصادر الحسنات والسيئات غير مصدر الثواب والعقاب. ش. 42 المخالفون للحق (1) لوجب أن يكون من علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد خلقه، ومن علم السماء والأرض فهو خالق لهما، ومن عرف بنفسه شيئا من صنع الله تعالى وقرره في نفسه لوجب أن يكون خالقا له، وهذا محال لا يذهب وجه الخطأ فيه على بعض رعية الأئمة - عليهم السلام - فضلا عنهم. فأما التقدير فهو الخلق في اللغة، لأن التقدير لا يكون إلا بالفعل، فأما بالعلم فلا يكون تقديرا ولا يكون أيضا بالفكر، والله تعالى متعال عن خلق الفواحش والقبائح على كل حال (2). وقد روي عن أبي الحسن علي بن محمد بن علي بن موسى الرضا - صلوات
(1) بحار الأنوار 5: 20. (2) بحار الأنوار 5: 20. 43 الله عليهم -: أنه سئل عن أفعال العباد، فقيل له: [هل هي] (1) مخلوقة لله تعالى؟ فقال - عليه السلام -: لو كان خالقا لها لما تبرأ منها. وقد قال سبحانه: (أن الله برئ من المشركين ورسوله) (2) ولم يرد البراءة من خلق ذواتهم، وإنما تبرأ من شركهم وقبائحهم (3). وسأل أبو حنيفة أبا الحسن موسى بن جعفر - عليهما السلام - عن أفعال العباد ممن هي؟ فقال له أبو الحسن - عليه السلام -: إن [أفعال العباد] (4) لا تخلو من ثلاثة منازل: إما أن تكون من الله تعالى خاصة، أو من الله ومن العبد على وجه الاشتراك فيها، أو من العبد خاصة، فلو كانت من الله تعالى خاصة لكان أول بالحمد على حسنها والذم على قبحها، ولم يتعلق بغيره حمد ولا لوم فيها، ولو كانت من الله ومن العبد لكان الحمد لهما معا فيها والذم عليهما جميعا فيها، وإذا بطل هذان الوجهان ثبت أنها من الخلق، فإن عاقبهم الله تعالى على جنايتهم بها فله ذلك، وإن عفا عنهم فهو أهل التقوى وأهل المغفرة. وفي أمثال ما ذكرناه من الأخبار ومعانيها ما يطول به الكلام. فصل: وكتاب الله تعالى مقدم على الأحاديث (5) والروايات، وإليه يتقاضى في صحيح الأخبار وسقيمها، فما قضى به فهو الحق دون ما سواه.
(1) (أ) (ح) (ق) (ش): أهي. (2) التوبة: 3. (3) بحار الأنوار 5: 20. (4) (ق): الأفعال. (5) (ز): الأخبار. 44 قال الله تعالى: (الذي أحسن كل شئ خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين) (1) فخبر بأن كل شئ خلقه فهو حسن غير قبيح، فلو كانت القبائح من خلقه لنافى ذلك حكمه بحسنها، وفي حكم الله تعالى بحسن جميع ما خلق شاهد ببطلان قول من زعم أنه خلق قبيحا (2). وقال تعالى: (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) (3) فنفى التفاوت عن خلقه (4)، وقد ثبت أن الكفر والكذب متفاوت في نفسه، والمتضاد (5) من الكلام متفاوت! فكيف يجوز أن يطلقوا على الله تعالى أنه خالق لأفعال العباد وفي أفعالهم من التفاوت والتضاد (6) ما ذكرناه مع قوله تعالى: (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) فنفى ذلك ورد على مضيفه (7) إليه وأكذبه فيه.
(1) السجدة: 7. (2) ليس هذا الكلام وحده ولا هذه الآية وحدها شاهد الفئة العدلية وشيخها الشارح - طاب ثراه - عند إبطاله لنظرية الجبر وتصحيحه لإسناد أفعال العباد إلى أنفسهم، إذ كل آية نزهت ربنا سبحانه عن الشرور وخلق الآثام تؤيده، وكذلك الدلائل التي قضت بأن الشرور أمور سلبية غير ثابتة في متن الأعيان ولا مبدأ لها ولا علة تقوي أيضا كلام الشيخ - طاب ثراه - وكذلك القياسات التي أقامها علماء اللاهوت بغرض إثبات أن المبدأ الأول (واجب الوجود) مصدر كل خير وجود، ولا ولن يرى شر ما من ناحيته القدسية. ش. (3) الملك: 3. (4) يجوز أن يكون الخلق هنا مصدرا مرادفا للإيجاد لا اسم مصدر مرادفا للموجود ، كما ذكر في المتن، فيكون المراد - والله أعلم - أنه سبحانه لا يتفاوت عليه خلق الأشياء صغيرها من كبيرها، أو حقيرها من خطيرها، أو قليلها من كثيرها، ولا يلزم من العدول عن تفسير الشيخ - قدس سره - وهن ما في أصل رأيه. ش. (5) (ق) (ش): والتضاد. (6) ليست في بقية النسخ. (7) (ق): من يضيفه. 45 فصل: في الفرق بين الجبر والتفويض قال الشيخ أبو جعفر - رحمه الله - (1): لا جبر ولا تفويض (2)، بل (3) أمر بين أمرين (4). وروى في ذلك حديثا مرسلا قال: فقيل: وما أمر بين أمرين؟ قال: مثل رجل رأيته على معصية فنهيته فلم ينته فتركته ففعل تلك المعصية، فليس حيث لم يقبل منك فتركته كنت أنت الذي أمرته بالمعصية. قال الشيخ المفيد - عليه الرحمة -: الجبر هو الحمل على الفعل والاضطرار إليه بالقهر (5) والغلبة، وحقيقة ذلك إيجاد الفعل في الخلق (6) من غير أن يكون لهم (7) قدرة على دفعه والامتناع من وجوده فيه، وقد يعبر عما يفعله الإنسان بالقدرة التي معه على وجه الاكراه له على التخويف والالجاء أنه جبر والأصل فيه ما فعل من غير قدرة على امتناعه منه حسب ما قدمناه، وإذا تحقق القول في الجبر على ما وصفناه كان مذهب أصحاب المخلوق هو بعينه، لأنهم يزعمون [كان
(1) الاعتقادات ص 29. (2) الكافي 1: 160 / 13، التوحيد: 362 / 8، وعنه في البحار 5: 17 / 28. (3) (ح): ولكن. (4) (ا) (ش): الأمرين. (5) في بعض النسخ: بالقسر. (6) (ش) (ق): الحي. (7) (ش) (ق): له. 46 مذهب الجبر هو قول من يزعم] (1) أن الله تعالى خلق في العبد الطاعة من غير أن يكون للعبد قدرة على ضدها والامتناع منها، وخلق فيه المعصية كذلك ، فهم المجبرة حقا [والجبر مذهبهم على] (2) التحقيق (3). والتفويض هو القول برفع الحظر عن الخلق في الأفعال والإباحة لهم مع ما شاءوا من الأعمال، وهذا قول الزنادقة وأصحاب الإباحات، والواسطة بين هذين القولين أن الله تعالى أقدر الخلق على أفعالهم ومكنهم من أعمالهم، وحد لهم الحدود في ذلك، ورسم لهم الرسوم [ونهاهم عن] (4) القبائح بالزجر والتخويف، والوعد والوعيد، فلم يكن بتمكينهم من الأعمال مجبرا لهم عليها، ولم يفوض إليهم الأعمال لمنعهم من أكثرها، ووضع الحدود لهم فيها وأمرهم بحسنها ونهاهم عن قبيحها. فهذا هو الفصل بين الجبر والتفويض على ما بيناه.
(1) ليست موجودة في بقية النسخ، وإنما هي من المطبوعة. (2) في بعض النسخ: والجبرية مذهبهم في. (3) انظر (الدلائل والمسائل - ص 62 - 63 ج 1 ط بغداد) العلامة الشهرستاني. چ. (4) في بعض النسخ: ومنعهم من. 47 فصل: في الإرادة والمشيئة قال الشيخ أبو جعفر - رحمه الله - (1 و 2) نقول: شاء الله وأراد (3) ولم يحب ولم
(1) الاعتقادات ص 30. (2) عنه في البحار 5: 90 - 91 / 1. (3) هذا الفصل من فروع بحث الإرادة، وقد استحق من المتكلمين عناية وعنوانا مفردا على أثر الاختلاف العظيم بين العلماء وزعماء المذاهب في المشيئة الإلهية المذكورة في آيات الذكر الحكيم متعلقة بأمور غير مرضية لديه سبحانه ، ثم في تأويلها بوجوه لا تخلو عن التكلف في الأكثر، وأهمها آية الأنعام: 148 (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شئ كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون) ثم آية الزخرف: 20 (وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون) وآيات كثيرة توهم تعلق إرادة الخالق بما يستقبحه المخلوق، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. أما السلف الصالح من آل محمد، فلا يسبقهم سابق ولا يلحقهم لاحق في الاصرار على تنزيه الرب سبحانه وتقدسه عن كل ما هو قبيح أو شبه قبيح وشدة استنكارهم تعلق مشيئة الله أو إرادته بشرك أو ظلم أو فاحشة قط، فضلا عن فعله أو خلق فعله أو الأمر به، إذ كل ذلك عندهم خلاف حكمته وعدله وفضله، كذلك الحسيات العامة في البشر تجل ذوي العدل والفضل عن التمدح بإرادة القبائح، فكيف ترمي بها الحرم الإلهي. أما الجواب عن الآيتين فبأن المقالة فيهما عن لسان المشركين، ومقالة المشركين من شأنها أن تورد للرد عليها لا للأخذ بها، فالآيتان إذن حجتان لأهل العدل لا عليهم، ولا سيما بعد اشتمالهما على ذم القائلين بهذه المقالة ونسبتهم إلى التخرص والجهالة. ش. 48 يرض، وشاء - عز اسمه - ألا يكون شئ إلا بعلمه وأراد مثل ذلك (1). قال الشيخ المفيد - رحمه الله -: الذي ذكره الشيخ أبو جعفر - رحمه الله - في هذا الباب لا يتحصل، ومعانيه تختلف وتتناقض، والسبب في ذلك أنه عمل على ظواهر الأحاديث المختلفة ولم يكن ممن يرى النظر فيميز بين الحق منها والباطل ويعمل على ما يوجب الحجة، ومن عول في مذهبه على الأقاويل المختلفة وتقليد الرواة كانت حاله في الضعف ما وصفناه (2). والحق في ذلك: أن الله تعالى لا يريد
(1) الكافي 1: 151 / 5، التوحيد: 339 / 9. (2) ذهبت أنظار العلماء مذاهب شتى في الإرادة والمشيئة المذكورتين في بعض الآيات، فمن قائل إن الإرادة أزلية وعين ذاته سبحانه ومتعلقاتها حوادث تتجدد بتجدد العلاقات الوقتية، فالمشرك بالله اليوم لم تتعلق بهدايته إرادة الله في الأزل بخلاف المؤمن الذي قد تعلقت بهدايته الإرادة الأزلية. وقائل آخر إن الإرادات الربانية تتجدد بتجدد الكائنات والحادثات، أو أن إرادته (بالأحرى) هي الخلق ما ظهر منه وما بطن، وما قبح منه أو حسن، وثالث في القوم يرى الإرادة والمشيئة عبارتين عن الداعي إلى الفعل أو الداعي إلى تركه، ولا يكون الداعي الإلهي إلا حسنا وصالحا فيريد اليسر ولا يريد العسر ويشاء الإيمان ولا يشاء الكفر، ورابع فيهم لا يرى الإرادة والمشيئة شيئا سوى العلم بالمصلحة أو العلم بالمفسدة، غاية الأمر. مصلحة خاصة ومفسدة مخصوصة، وقد فصلت أقوالهم وأدلتهم في الكتب الكلامية، وما خلافهم هذا إلا فرعا من اختلافهم في أصل الإرادة الإلهية. وجدير بالمرء أن يقنع في هذه الورطة باعتقاد: أن الله سبحانه مريد فقط ولا يريد شيئا من السيئات والقبائح قط، دون أن يتعمق في كنه الإرادة والمشيئة، هذا ما يقتضيه العقل والعدل وتقضي به ظواهر الكتاب والسنة، فكلما صادفته آية أو رواية مخالفة لهذا الاعتقاد لجأ إلى تأويلها تأويلا مناسبا لأصول البلاغة واللغة ومتفقا مع المذهب، وخير كتاب يسكن النفس ويروي الغليل في هذا المقام كتاب (متشابه القرآن ومختلفه) للعالم الثقة محمد بن شهرآشوب السروي - روح الله روحه. وقال العلامة الإمام حجة العلم والدين السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي - مد ظله - في رسالته النفيسة (إلى المجمع العلمي العربي بدمشق - ص 50 - 52 ط صيدا) ما نصه: وكفى في فضل ابن شهرآشوب إذعان الفحول من أعلام أهل السنة له بجلالة القدر وعلو المنزلة، وقد ترجمه الشيخ صلاح الدين الصفدي خليل بن أيبك الشافعي، فذكر أنه حفظ أكثر القرآن وله ثمان سنين، وبلغ النهاية في أصول الشيعة، (قال): وكان يرحل إليه من البلاد، ثم تقدم في علم القرآن والغريب والنحو ووعظ على المنبر أيام المقتفي ببغداد فأعجبه وخلع عليه، وقال: وكان بهي المنظر حسن الوجه والشيبة، صدوق اللهجة، مليح المحاورة، واسع العلم، كثير الخشوع والعبادة والتهجد، لا يكون إلا على وضوء (قال): وأثنى عليه ابن أبي طي في تاريخه ثناءا كثيرا، توفي سنة 588. وذكره الفيروزآبادي في محكي بلغته، وأثنى عليه بما يقرب من ثناء الصفدي، وذكر أنه عاش مائة سنة إلا عشرة أشهر. وعن بعض أهل المعاجم في التراجم من أهل السنة أنه قال في ترجمته: وكان إمام عصره، ووحيد دهره، أحسن الجمع والتأليف، وغلب عليه علم القرآن والحديث، وهو عند الشيعة كالخطيب البغدادي لأهل السنة في تصانيفه وتعليقات الحديث ورجاله ومراسيله، ومتفقه ومتفرقه إلى غير ذلك من أنواعه ، واسع العلم، كثير الفنون، مات في شعبان سنة 588 ه. چ. 49 إلا ما حسن من الأفعال، ولا يشاء إلا الجميل من الأعمال ولا يريد القبائح ولا يشاء الفواحش، تعالى الله عما يقول المبطلون علوا كبيرا. قال الله تعالى: (وما الله يريد ظلما للعباد) (9) وقال تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) (2) وقال تعالى: (يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم) (3) الآية. وقال: (والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا
(1) المؤمن: 31. (2) البقرة: 186. (3) النساء: 26. 50 ميلا عظيما) (1). وقال: (يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا) (2) فخبر سبحانه أنه لا يريد بعباده العسر، بل يريد بهم اليسر، وأنه يريد لهم البيان ولا يريد لهم الضلال، ويريد التخفيف عنهم ولا يريد التثقيل عليهم، فلو كان سبحانه مريدا لمعاصيهم لنافى ذلك إرادة البيان لهم والتخفيف عنهم واليسر لهم، وكتاب الله تعالى شاهد بضد ما ذهب إليه الضالون المفترون على الله الكذب ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. فأما ما تعلقوا به من قوله تعالى: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا) (3) فليس للمجبرة به تعلق ولا فيه حجة من قبل أن المعنى فيه أن من أراد الله تعالى أن ينعمه ويثيبه جزاء على طاعته شرح صدره للاسلام بالألطاف التي يحبوه بها، فييسر له بها استدامة أعمال الطاعات، والهداية في هذا الموضع هي النعيم (4). قال الله تعالى فيما خبر به عن أهل الجنة: (الحمد لله الذي هدانا لهذا) (5) الآية، أي: نعمنا به وأثابنا إياه، والضلال في هذه الآية هو العذاب قال الله تعالى: (إن المجرمين في ضلال وسعر) (6) فسمى الله تعالى العذاب ضلالا والنعيم هداية، والأصل في ذلك أن الضلال هو الهلاك والهداية هي النجاة.
(1) النساء: 27. (2) النساء: 28. (3) الأنعام: 125. (4) في بعض النسخ: التنعيم. (5) الأعراف: 43. (6) القمر: 47. 51 قال الله تعالى حكاية عن العرب: (أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد) (1) يعنون إذا هلكنا فيها وكان المعنى في قوله: (فمن يرد الله أن يهديه) ما قدمناه وبيناه، (ومن يرد أن يضله) ما وصفناه، والمعنى في قوله تعالى: (يجعل صدره ضيقا حرجا) يريد سلبه التوفيق عقوبة له على عصيانه ومنعه الألطاف جزاء له على إساءته، فشرح الصدر ثواب الطاعة بالتوفيق، وتضييقه عقاب المعصية بمنع التوفيق، وليس في هذه الآية على ما بيناه شبهة لأهل الخلاف فيما ادعوه من أن الله تعالى يضل عن الإيمان، ويصد عن الاسلام، ويريد الكفر، ويشاء الضلال. وأما قوله تعالى: (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا) (2) فالمراد به الإخبار عن قدرته، وأنه لو شاء أن يلجئهم إلى الإيمان ويحملهم عليه بالاكراه والاضطرار لكان على ذلك قادرا، لكنه شاء تعالى منهم الإيمان على الطوع والاختيار، وآخر الآية يدل على ما ذكرناه وهو قوله تعالى: (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) (3) يريد أنه قادر على إكراههم على الإيمان، لكنه لا يفعل ذلك، ولو شاء لتيسر عليه، وكل ما يتعلقون به من أمثال هذه الآية فالقول فيه ما ذكرناه أو نحوه على ما بيناه، وفرار المجبرة من إطلاق القول بأن الله تعالى يريد أن يعصى ويكفر به، ويقتل أولياؤه، ويشتم أحباؤه إلى القول بأنه يريد أن يكون ما علم كما علم، ويريد أن تكون معاصيه قبائح منهيا عنها، وقوع فيما هربوا منه، وتورط فيما كرهوه، وذلك أنه إذا كان ما علم من القبيح كما علم
(1) السجدة: 10. (2) يونس: 99. (3) يونس: 99. 52 وكان تعالى مريدا لأن يكون ما علم من القبيح كما علم فقد أراد القبيح وأراد أن يكون قبيحا فما معنى فرارهم من شئ إلى نفسه وهربهم من معنى إلى عينه، فكيف يتم لهم ذلك مع أهل العقول، وهل قولهم هذا إلا كقول إنسان: أنا أسب زيدا لكني أسب أبا عمرو، وأبو عمرو هو زيد، أو كقول اليهود إذ قالوا سخرية بأنفسهم: نحن لا نكفر بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم لكنا نكفر بأحمد، فهذا رعونة وجهل ممن صار إليه، وعناء وضعف عمل (1) ممن اعتمد عليه.
(1) (ق): عقل. 53 [تفسير آيات القضاء والقدر] فصل: فيما ذكر الشيخ أبو جعفر في القضاء والقدر قال الشيخ أبو جعفر - رحمه الله - في القضاء والقدر: الكلام في القدر منهي عنه، وروى حديثا لم يذكر له إسنادا (1 و 2). قال الشيخ أبو عبد الله المفيد - عليه الرحمة - (3): عول (4) أبو جعفر - رحمه الله - في هذا الباب على أحاديث شواذ لها وجوه يعرفها العلماء متى صحت وثبت إسنادها ولم يقل فيه قولا محصلا، وقد كان ينبغي له لما لم يكن يعرف للقضاء معنى أن يهمل الكلام فيه، والقضاء معروف في اللغة وعليه شواهد من القرآن، فالقضاء على أربعة أضرب: أحدها: الخلق، والثاني: الأمر، والثالث: الإعلام، والرابع: القضاء [في الفصل بالحكم] (5). فأما شاهد القضاء في معنى الخلق فقوله تعالى: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان - إلى قوله -: فقضاهن سبع سماوات في يومين) (6) يعني خلقهن سبع سماوات في يومين.
(1) الاعتقادات ص 34. (2) التوحيد: 365. (3) عنه في البحار 5: 97 / 22، 23، 24. (4) في بقية النسخ: عمل. (5) في بعض النسخ: بالفصل في الحكم. (6) فصلت: 11، 12. 54 وأما شاهد القضاء في معنى الأمر فقوله تعالى: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) (1) يريد أمر ربك. وأما شاهد القضاء في الإعلام فقوله تعالى: (وقضينا إلى بني إسرائيل) (2) يعني أعلمناهم ذلك وأخبرناهم به قبل كونه. وأما شاهد القضاء بالفصل (3) بالحكم بين الخلق فقوله تعالى: (والله يقضي بالحق) (4) [يعني يفصل بالحكم] (5) بالحق بين الخلق وقوله: (وقضي بينهم بالحق) (6) يريد وحكم بينهم بالحق، وفصل بينهم بالحق. وقد قيل إن للقضاء وجها خامسا وهو الفراغ من الأمر، واستشهد على ذلك بقول يوسف - عليه السلام -: (قضي الأمر الذي فيه تستفتيان) (7) يعني فرغ منه ، وهذا يرجع إلى معنى الخلق، وإذا ثبت ما ذكرناه في أوجه القضاء بطل قول المجبرة أن الله تعالى قضى بالمعصية على خلقه، لأنه لا يخلو إما أن يكونوا يريدون به أن الله خلق العصيان في خلقه، فكان يجب أن يقولوا قضى في خلقه (8) بالعصيان ولا يقولوا قضى عليهم، لأن الخلق فيهم لا عليهم، مع أن الله تعالى قد أكذب من زعم أنه خلق المعاصي (9) لقوله (10) سبحانه: (الذي أحسن كل شئ خلقه) (11) فنفى عن خلقه القبح وأوجب له الحسن، والمعاصي قبائح بالاتفاق، ولا وجه لقولهم قضى بالمعاصي (12) على معنى أنه أمر بها، لأنه تعالى قد
(1) بني إسرائيل: 23. (2) بني إسرائيل: 4. (3) في المطبوعة: في الفصل. (4) غافر: 20. (5) (ق): أي يحكم بينهم. (6) الزمر: 69. (7) يوسف: 41. (8) (ز): الخلق. (9) بحار الأنوار 5: 98. (10) في بقية النسخ: بقوله. (11) السجدة: 7. (12) في بقية النسخ: المعاصي. 55 أكذب مدعي ذلك بقوله: (إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون) (1) ولا معنى لقول من زعم أنه قضى بالمعامي على معنى أنه أعلم الخلق بها إذا كان الخلق لا يعلمون أنهم في المستقبل يطيعون أو يعصون ولا يحيطون علما بما يكون منهم في المستقبل على التفصيل، ولا وجه لقولهم إنه قضى بالذنوب على معنى أنه حكم بها (2) بين العباد، لأن أحكامه (3) تعالى حق والمعاصي منهم (4) ولا لذلك فائدة وهو لغو بالاتفاق، فبطل قول من زعم أن الله تعالى يقضي بالمعاصي والقبائح. والوجه عندنا في القضاء والقدر بعد الذي بيناه في معناه أن لله تعالى في خلقه قضاء وقدرا وفي أفعالهم أيضا قضاء وقدرا معلوما ويكون المراد بذلك أنه قد قضى في أفعالهم الحسنة بالأمر بها وفي أفعالهم القبيحة بالنهي عنها، وفي أنفسهم بالخلق لها، وفيما فعله فيهم بالايجاد له، والقدر منه سبحانه فيما فعله (5) إيقاعه في حقه وموضعه، وفي أفعال عباده ما قضاه فيها من الأمر والنهي والثواب والعقاب، لأن ذلك كله واقع موقعه، موضوع في مكانه لم يقع عبثا ولم يصنع باطلا، فإذا فسر القضاء في أفعال الله تعالى والقدر بما شرحناه زالت الشنعة منه، وثبتت الحجة به، ووضح (6) الحق فيه لذوي العقول، ولم يلحقه فساد ولا إخلال.
(1) الأعراف: 28. (2) بحار الأنوار 5: 99. (3) (أ) (ح) (ز) (ق) (ش): أحكام الله. (4) (ش) (ق): فيهم. (5) بحار الأنوار 5: 99. (6) (ش) (ق): وصح. 56 [تفسير أخبار القضاء والقدر] فأما الأخبار التي رواها أبو جعفر - رحمه الله - (1) في النهي عن الكلام في القضاء والقدر فهي تحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون النهي خاصا بقوم كان كلامهم في ذلك يفسدهم ويضلهم عن الدين ولا يصلحهم في عبادتهم إلا الامساك عنه وترك الخوض فيه، ولم يكن النهي عنه عاما لكافة المكلفين، وقد يصلح بعض الناس بشئ يفسد به آخرون، ويفسد بعضهم بشئ يصلح به آخرون، فدبر (2) الأئمة - عليهم السلام - أشياعهم في الدين بحسب ما علموه (3) من مصالحهم فيه. وثانيا (4): أن يكون النهي عن الكلام في القضاء والقدر النهي عن الكلام فيما خلق الله تعالى وعن علله وأسبابه وعما أمر به وتعبد (5)، وعن القول في علل ذلك إذا كان طلب علل الخلق والأمر محظورا، لأن الله تعالى سترها عن أكثر خلقه، ألا ترى أنه لا يجوز لأحد أن يطلب لخلقه جميع ما خلق عللا مفصلات فيقول لم خلق كذا وكذا؟ حتى يعد المخلوقات كلها ويحصيها، ولا يجوز أن يقول: لم أمر بكذا؟ أو تعبد بكذا؟ ونهى عن كذا؟ إذ تعبده بذلك وأمره لما هو أعلم به
(1) عنه في البحار 5: 196 / 1 - 8. (2) (ق): وقد أمر. (3) (ق): علموا. (4) في بقية النسخ: والوجه الآخر. (5) بحار الأنوار 5: 99. 57 من مصالح الخلق ولم يطلع أحدا من خلقه على تفصيل علل ما خلق وأمر به وتعبد، وإن كان قد أعلم في الجملة (1) أنه لم يخلق الخلق عبثا وإنما خلقهم للحكمة والمصلحة، ودل على ذلك بالعقل والسمع. فقال سبحانه: (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين) (2) وقال: (أفحسبتم أنا خلقناكم عبثا) (3) وقال: (إنا كل شئ خلقناه بقدر) (4) يعني بحق ووضعناه في موضعه وقال: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) (5) وقال فيما تعبد به: (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم) (6). وقد يصح أن يكون الله تعالى خلق حيوانا بعينه لعلمه (7) بأنه يؤمن عند خلقه كفار، أو يتوب عند ذلك فساق، أو ينتفع به مؤمنون، أو يتعظ به ظالمون، أو ينتفع المخلوق نفسه بذلك، أو يكون عبرة لواحد في الأرض أو في السماء وذلك مغيب عنا، وإن قطعنا في الجملة أن جميع ما صنع الله تعالى إنما صنعه لأغراض حكيمة (8) ولم يصنعه عبثا، وكذلك يجوز أن يكون تعبدنا بالصلاة لأنها تقربنا من طاعته وتبعدنا عن (9) معصيته، وتكون العبادة بها لطفا لكافة المتعبدين بها أو لبعضهم، فلما خفيت هذه الوجوه (1) وكانت مستورة عنا ولم يقع دليل على التفصيل فيها وإن كان العلم بأنها حكمة في الجملة كان النهي عن الكلام في معنى القضاء والقدر إنما هو نهي عن طلب علل لها مفصلة، فلم يكن نهيا عن
(1) بحار الأنوار 5: 100. (2) الأنبياء: 16. (3) المؤمنون: 115. (4) القمر: 49. (5) الذاريات: 56. (6) الحج: 37. (7) بحار الأنوار 5: 100. (8) (ا) (ق): حكمية، (ح) (ش): حكمته. (9) (ق) (ش): من. (10) بحار الأنوار 5: 100. 58 الكلام في معنى القضاء والقدر. هذا إن سلمنا (1) الأخبار التي رواها (2) أبو جعفر - رحمه الله. فأما إن بطلت أو اختل سندها فقد سقط عنا (3) عهدة الكلام فيها. والحديث الذي رواه عن زرارة حديث صحيح من بين ما روى، والمعنى فيه ظاهر ليس به على العقلاء خفاء، وهو مؤيد للقول بالعدل (4) ودال على فساد القول بالجبر، ألا ترى إلى ما رواه عن أبي عبد الله - عليه السلام - (5) من قوله: (إذا حشر الله تعالى الخلائق سألهم عما عهد إليهم ولم يسألهم عما قضى عليهم ) وقد نطق القرآن بأن الخلق مسؤولون عن أعمالهم (6)، فلو كانت أعمالهم [بقضاء الله] (7) تعالى لما سألهم عنها، فدل على أن قضاء الله تعالى ما خلقه من ذوات العباد وفيهم وأنه تعالى لا يسألهم إلا عن أعمالهم التي عهد إليهم فيها، فأمرهم بحسنها ونهاهم عن قبيحها، وهذا الحديث موضح لمعنى القضاء والقدر فلا وجه [للقول حينئذ بأنه] (8) لا معنى للقضاء والقدر معقول ، إذ كان بينا حسبما ذكرناه.
(1) في بقية النسخ: سلمت. (2) (ح) (ق): بقضائه. (3) (ح) (ش): عنها. (4) بحار الأنوار: 5: 100. (5) التوحيد: 365. (6) بحار الأنوار: 5: 100. (7) (ق): بقضائه. (8) (ق): لقول من زعم أنه. 59 [معنى فطرة الله] قال أبو جعفر - رحمه الله - (1) في معنى الفطرة: إن الله تعالى فطر [جميع الخلق] (2) على التوحيد (3). قال الشيخ المفيد - رحمه الله -: ذكر أبو جعفر - رحمه الله - الفطرة ولم يبين معناها! وأورد الحديث على وجهه ولم يذكر فائدته، والمعنى في قوله - عليه السلام - فطر الله الخلق، أي: ابتدأهم بالحدوث، والفطرة هي الخلق. قال الله تعالى: (الحمد لله فاطر السماوات والأرض) (4) يريد به خالق السماوات والأرض على الابتداء والاستقبال، وقال: (فطرة الله التي فطر الناس عليها) (5) يعني خلقته التي خلق الناس عليها [وهو معنى] (6) قول الصادق - عليه السلام: فطر الله الخلق على التوحيد، أي: خلقهم للتوحيد وعلى أن يوحدوه، وليس
(1) عنه في البحار 5: 196 / 1 - 8. (2) (ق): الخلائق. (3) الاعتقادات ص 36. (4) الملائكة: 1. (5) الروم: 30. (6) (ق): والمعنى في. 60 المراد به أنه [أراد منهم] (1) التوحيد، ولو كان الأمر كذلك ما كان مخلوق إلا موحدا، وفي وجودنا من المخلوقين من لا يوحد الله تعالى دليل على أنه لم يخلق التوحيد في الخلق، بل خلقهم ليكتسبوا التوحيد! وقد قال تعالى في شاهد ما ذكرناه: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) (2) فبين أنه إنما خلقهم لعبادته. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رواية تلقاها العامة والخاصة بالقبول، قال: كل مولود يولد فهو على الفطرة، وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه (3). وهذا أيضا مبين عن صحة ما قدمناه من أن الله تعالى خلق الخلق ليعبدوه، وفطرهم ليوحدوه، وإنما أتي الضالون من قبل [أنفسهم و] من أضلهم من الجن والإنس دون الله
(1) (ق): خلق فيهم. (2) الذاريات: 56. (3) قال العلامة الشهرستاني في مجلة (المرشد - ص 26 - 27 ج 1): الفطرة هي ما يقتضيه الشئ لو خلي ونفسه وبدون مانع، فإذا قيل: (الصدق فطري في البشر) معناه أن الإنسان لو خلي ونفسه فإن حالته الفطرية تقتضي أن يصدق كلامه، وهذه الفطرة قد تدوم فيه كما هو الغالب، وقد تزول عنه بمانع أقوى فيلتجئ إلى الكذب، كما أن القائل: سقوط الحجر إلى الأرض طبيعي، معناه: أن الحجر المتحرك حول الأرض لو خلي ونفسه فحكمه السقوط إلى الأرض، وهذا لا يمنع أن يتخلف عن طبيعته لعارض وبسبب قاسر. وعليه فكون دين الاسلام فطريا في البشر لا ينافي وجود سبب عارض يقسره يوما على مخالفته الفطرة، وبعبارة فنية (إن الفطرة اقتضاء لا ضرورة) كما يصرح بذلك حديث (كل مولود يولد على الفطرة، وإنما أبواه يهودانه وينصرانه). وأما معنى فطرية دين الاسلام، فالراجح أنه بعنوانه المجموعي، أي إن الاسلام إذا قيس إلى أي دين آخر كان هو دين الفطرة دون غيره - كما أشار إليه الحديث النبوي المتقدم. ومما يريك دين الاسلام بلباسه الفطري، أن حقيقة الاسلام هو أن يسلم المرء أمره إلى خالقه وأن يسالم المخلوقين، وهل هذا إلا قضية الفطرة. قال سبحانه: (ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن) (النساء: 125) أي: المسلم لله والمسالم لعباده. وقال نبي الاسلام صلى الله عليه وآله وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه). ثم إن الاسلام بني على توحيد الله في ذاته وصفاته وتوحيده في عنايته وعبادته، وهل هذا إلا الفطرة، وأسس شرعه على العدل والاحسان والفضيلة والمحبة، وكلها أحكام الفطرة. فالاسلام بهذا المعنى دين الفطرة وشرع الحقيقة، وهذا المعنى هو دين الله الحقيقي، وهو أقدم شرائع البشر من عهد إبراهيم - عليه السلام - والذين من قبله، والقرآن يقول في إبراهيم - عليه السلام - إنه: (كان حنيفا مسلما) (آل عمران: 68) أي: متدينا بالدين الأصلي، أعني به إسلام الفرد نفسه لربه ومسالمته مع عباده. چ. 61 تعالى، والذي أورده أبو جعفر في بيان... (1) الله الخلق وهدايتهم إلى الرشد على ما ذكر وقد أصاب في ذلك وسلك الطريقة المثلى فيه وقال ما يقتضيه العدل ويدل عليه العقل، وهو خلاف مذهب المجبرة الرادين على الله فيما قال والمخالفين في أقوالهم دلائل العقول.
(1) هنا في النسخ بياض بمقدار كلمة. 62 فصل: في [معنى] الاستطاعة قال أبو جعفر - رحمه الله - () في الاستطاعة: اعتقادنا في ذلك ما روي عن موسى بن جعفر - عليه السلام -: من أن العبد لا يكون مستطيعا إلا بأربع خصال (2)... إلخ (3). قال أبو عبد الله: الذي رواه أبو جعفر عن أبي الحسن موسى - عليه السلام - في الاستطاعة حديث شاذ، والاستطاعة في الحقيقة هي الصحة والسلامة، فكل صحيح فهو مستطيع، وإنما يعجز الإنسان ويخرج عن الاستطاعة بخروجه عن الصحة، وقد يكون مستطيعا للفعل من لا يجد آلة له ويكون مستطيعا ممنوعا من الفعل، والمنع لا يضاد الاستطاعة وإنما يضاد الفعل، ولذلك يكون الإنسان مستطيعا للنكاح وهو لا يجد امرأة ينكحها. وقد قال الله تعالى: (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات ) (4) فبين أن الإنسان يكون مستطيعا للنكاح وهو غير ناكح، ويكون مستطيعا للحج قبل أن يحج، ومستطيعا للخروج قبل أن يخرج.
(1) عنه في بحار الأنوار 5: 8 و 9 / 10 - 12. (2) (ق) زيادة: أن يكون مخلى السرب، صحيح الجسم، سليم الجوارح، له سبب وارد من الله. (3) الاعتقادات ص 38، الكافي 1: 160 - 161، التوحيد: 348 / 7 وفيهما عن الرضا - عليه السلام -. (4) النساء: 25. 63 قال الله تعالى: (وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم) (1) فخبر أنهم كانوا مستطيعين للخروج فلم يخرجوا. وقال سبحانه: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) (2) فأوجب الحج على [الناس و] (3) الاستطاعة قبل الحج، فكيف ظن أبو جعفر أن من شرط الاستطاعة للزنا وجود المزني بها، وقد بينا أن الإنسان يستطيع ذلك مع فقد المرأة وتعذر وجودها؟ وإن ثبت الخبر الذي رواه أبو جعفر - رحمه الله - فالمراد بالاستطاعة فيه التيسير للفعل وتسهيل سبيله، وليس عدم السبيل موجبا لعدم الاستطاعة، لما قدمناه من وجود الاستطاعة مع المنع، وهذا باب إن بسطناه طال القول فيه، وفيما أثبتناه من معناه كفاية لمن اعتبره ( 4).
(1) التوبة: 42. (2) آل عمران: 98. (3) (ق): من لم يحج، وأثبت. (4) (ق): تأمله. 64 فصل: في [معنى] البداء قال أبو جعفر - رحمه الله -: اعتقادنا في البداء، إلى آخره (1 و 2 و 3). قال أبو عبد الله: قول الإمامية في البداء طريقه السمع دون العقل، وقد (4) جاءت الأخبار به عن أئمة الهدى - عليهم السلام - والأصل في البداء هو الظهور قال الله تعالى: (وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون) (5) يعني به: ظهر لهم من أفعال الله تعالى بهم ما لم يكن في حسبانهم وتقديرهم، وقال: (وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم) (6) يعني: ظهر لهم جزاء كسبهم وبان لهم ذلك، وتقول العرب: قد بدا لفلان عمل حسن، وبدا له كلام فصيح، كما يقولون : بدا من فلان كذا، فيجعلون اللام قائمة مقامه (7)، فالمعنى في قول الإمامية بدا لله في كذا - أي: ظهر له فيه ومعنى ظهر فيه - أي ظهر منه، وليس المراد منه (8) تعقب الرأي ووضوح أمر كان قد خفي عنه وجميع أفعاله تعالى الظاهرة في خلقه
(1) الاعتقادات ص 40. (2) عنه في البحار 4: 125. (3) انظر كتاب أوائل المقالات ص 53 طبع 1371 چ. (4) (ق): فقد. (5) الزمر: 47. (6) الزمر: 48. (7) (ق) زيادة: مقام من نائبة عنها. (8) (ق): به. 65 بعد أن لم تكن فهي معلومة له فيما لم يزل، وإنما يوصف منها بالبداء ما لم يكن في الاحتساب ظهوره، ولا في غالب الظن وقوعه، فأما ما علم كونه وغلب في الظن حصوله، فلا يستعمل فيه لفظ البداء. وقول أبي عبد الله - عليه السلام - (1): (ما بدا لله في شئ كما بدا له في إسماعيل)، فإنما أراد به ما ظهر من الله تعالى فيه من دفاع القتل عنه وقد كان مخوفا عليه من ذلك مظنونا به، فلطف له في دفعه عنه. وقد جاء الخبر بذلك عن الصادق - عليه السلام - فروي عنه أنه قال: (كان القتل قد كتب على إسماعيل مرتين فسألت الله في دفعه عنه فدفعه) وقد يكون الشئ مكتوبا بشرط فيتغير الحال فيه. قال الله تعالى: (ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده) (2). فتبين أن الآجال على ضربين: ضرب منها مشترط يصح فيه الزيادة والنقصان، ألا ترى إلى قوله تعالى: (وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب) (3). وقوله تعالى: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض) (4) فبين أن آجالهم كانت مشترطة في الامتداد بالبر والانقطاع بالفسوق. وقال تعالى [فيما خبر به] (5) عن نوح في خطابه لقومه: (استغفروا ربكم
(1) التوحيد: 336 / 0 1، كمال الدين: 69. (2) الأنعام: 2. (3) الملائكة: 11. (4) الأعراف: 96. (5) (ق): خبرا. 66 إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا) (1) إلى آخر الآيات. فاشترط لهم في مد الأجل وسبوغ النعم الاستغفار فلما لم يفعلوه قطع آجالهم وبتر أعمارهم واستأصلهم بالعذاب، فالبداء من الله تعالى يختص ما كان مشترطا في التقدير وليس هو الانتقال من عزيمة إلى عزيمة ولا من تعقب الرأي، تعالى الله عما يقول المبطلون علوا كبيرا. وقد قال بعض أصحابنا: إن لفظ البداء أطلق (2) في أصل اللغة على تعقب الرأي [والانتقال من عزيمة إلى عزيمة] (3) وإنما أطلق (4) على الله تعالى على وجه الاستعارة كما يطلق عليه الغضب والرضا مجازا غير حقيقة، وإن (5) هذا القول لم يضر بالمذهب، إذ المجاز من القول يطلق على الله تعالى فيما ورد به السمع، وقد ورد السمع بالبداء على ما بينا (6)، والذي اعتمدناه (7) في معنى البداء أنه الظهور (8) على ما قدمت القول في معناه، فهو خاص فيما يظهر من الفعل الذي كان وقوعه يبعد في النظر (9) دون المعتاد، إذ لو كان في كل واقع من أفعال الله تعالى لكان الله تعالى موصوفا بالبداء في كل أفعاله، وذلك باطل بالاتفاق.
(1) نوح: 10 و 11. (2) (ق): موضوع. (3) (ق): عند وضوح ما كان خفيا. (4) (ق): يطلق. (5) (ق) زيادة: صح. (6) (ق): بيناه. (7) (أ) (ز): اعتمدنا. (8) (أ) (ز) (ق): ظهور. (9) في بعض النسخ: الظن. 67 فصل: في النهي عن الجدال قال أبو جعفر [في الجدال] (1): الجدال في الله منهي عنه، لأنه يؤدي إلى ما لا يليق به (2). وروي عن الصادق - عليه السلام - (3) أنه قال: يهلك أهل الكلام وينجو المسلمون (4). قال أبو عبد الله الشيخ المفيد - رحمه الله -: الجدال على ضربين: أحدهما بالحق، والآخر بالباطل، فالحق منه مأمور به ومرغب () فيه، والباطل منه منهي عنه ومزجور عن استعماله. قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: (وجادلهم بالتي هي أحسن) (6) فأمر بجدال المخالفين وهو الحجاج لهم، إذ كان جدال النبي صلى الله عليه وآله وسلم حقا، وقال تعالى لكافة المسلمين: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) (7) فأطلق لهم
(1) ليست في (ح) (أ) (ق). (2) الاعتقادات ص 42. (3) بصائر الدرجات: 521. (4) بصائر الدرجات: 541 / 4 و 5، التوحيد: 458 / 22. (5) (ز): مرغوب. (6) النحل: 125. (7) العنكبوت: 46. 68 جدال أهل الكتاب بالحسن (1)، ونهاهم عن جدالهم بالقبيح. وحكى سبحانه عن قوم نوح - عليه السلام - ما قالوه في جدالهم (2) فقال سبحانه : (قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا) (3) فلو كان الجدال كله باطلا لما أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم به، ولا استعمله الأنبياء - عليهم السلام - من قبله، ولا أذن للمسلمين فيه. فأما الجدال بالباطل فقد بين الله تبارك وتعالى عنه في قوله: (ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون) (4) فذم المجادلين في [آيات الله] (5) لدفعها أو قدحها (6) وإيقاع الشبهة في حقها. وتد ذكر الله تعالى عن خليله إبراهيم - عليه السلام - أنه حاج كافرا في الله تعالى فقال: (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه) (7) الآية. وقال مخبرا عن حجاجه قومه: (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء) (8). وقال سبحانه آمرا لنبيه صلى الله على وآله وسلم بمحاجة مخالفيه: (قل هل عندكم من علم
(1) في بقية النسخ: بالحق. (2) (ح): جداله لهم. (3) هود: 32. (4) المؤمن: 69. (5) (ح) (ق): الآيات. (6) (ح) (ق): جحدها. (7) البقرة: 259. (8) الأنعام: 83. 69 فتخرجوه لنا) (1). وقال - عز اسمه -: (كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل) (2) الآية. وقال لنبيه صلى الله على وآله وسلم: (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم) (3) الآية. وما زالت الأئمة - عليهم السلام - يناظرون في دين الله سبحانه ويحتجون على أعداء الله تعالى. وكان شيوخ أصحابهم في كل عصر يستعملون النظر، ويعتمدون الحجاج ويجادلون بالحق، ويدمغون (4) الباطل بالحجج والبراهين، وكان الأئمة - عليهم السلام - يحمدونهم على ذلك ويمدحونهم ويثنون عليهم بفضل. وقد ذكر الكليني - رحمه الله - في كتاب الكافي - وهو من أجل كتب الشيعة وأكثرها فائدة - حديث يونس بن يعقوب مع أبي عبد الله - عليه السلام - حين ورد عليه الشامي لمناظرته، فقال له أبو عبد الله - عليه السلام -: ( وددت أنك يا يونس كنت تحسن الكلام). فقال له يونس: جعلت فداك، سمعتك تنهى عن الكلام وتقول: ويل لأهل الكلام ، يقولون هذا ينقاد وهذا لا ينقاد، وهذا ينساق وهذا لا ينساق، وهذا نعقله وهذا لا نعقله. فقال له أبو عبد الله - عليه السلام -: (إنما قلت ويل لهم إذا تركوا قولي وصاروا إلى خلافه) ثم دعا حمران بن أعين ومحمد بن الطيار (5)، وهشام بن سالم وقيس الماصر فتكلموا بحضرته، وتكلم هشام بعدهم فأثنى عليه ومدحه وقال له:
(1) الأنعام: 148. (2) آل عمران: 94. (3) آل عمران: 62. (4) في بعض النسخ: يدفعون. (5) انظر ذيل كتاب (أوائل ا لمقالات - ص 69 - 70 طبع 1371) بقلم العلامة الزنجاني. چ. 70 (مثلك من يكلم الناس)، وقال - عليه السلام - وقد بلغه موت الطيار: (رحم الله الطيار ولقاه نضرة وسرورا، فلقد كان شديد الخصومة عنا أهل البيت) (1). وقال أبو الحسن موسى بن جعفر - عليه السلام - لمحمد بن حكيم.: (كلم الناس وبين لهم الحق الذي أنت عليه، وبين لهم الضلالة التي هم عليها). وقال أبو عبد الله - عليه السلام - لبعض أصحابنا (2): (حاجوا الناس بكلامي، فإن حجوكم فأنا المحجوج) وقال لهشام بن الحكم وقد سأله عن أسماء الله تعالى واشتقاقها فأجابه عن ذلك، ثم قال له بعد الجواب: (أفهمت يا هشام فهما تدفع به أعداءنا الملحدين في دين الله وتبطل شبهاتهم)؟ فقال هشام: نعم، فقال له: (وفقك الله). وقال - عليه السلام - لطائفة من أصحابه: (بينوا للناس الهدى الذي أنتم عليه ، وبينوا لهم [ضلالهم الذي هم عليه] (3) وباهلوهم في علي بن أبي طالب - عليه السلام -) فأمر بالكلام ودعا إليه وحث عليه. وروي عنه - عليه السلام - أنه نهى رجلا عن الكلام وأمر آخر به، فقال له بعض أصحابه: جعلت فداك، نهيت فلانا عن الكلام وأمرت هذا به؟ فقال: (هذا أبصر بالحجج، وأرفق منه) فثبت أن نهي الصادقين - عليهم السلام - عن الكلام إنما كان لطائفة بعينها لا تحسنه ولا تهتدي إلى طرقه وكان الكلام يفسدها، والأمر لطائفة أخرى به، لأنها تحسنه وتعرف طرقه وسبله. فأما النهي عن الكلام في الله - عز وجل - فإنما يختص بالنهي عن الكلام في
(1) بحار الأنوار 2: 136. (2) (ح) (ق): أصحابه. (3) (ق): الضلالة التي هم عليها، (ز): ضلالتهم التي هم عليها. 71 تشبيهه بخلقه وتجويره في حكمه. وأما الكلام في توحيده ونفي التشبيه عنه والتنزيه له والتقديس، فمأمور به ومرغب (1) فيه، وقد جاءت بذلك آثار كثيرة وأخبار متظافرة، وأثبت في كتابي (الأركان في دعائم الدين) منها جملة كافية، وفي كتابي (الكامل في علوم الدين) منها بابا استوفيت القول في معانيه وفي (عقود الدين) جملة منها، من اعتمدها أغنت عما سواها، والمتعاطي لإبطال النظر شاهد على نفسه بضعف الرأي، وموضح عن قصوره عن المعرفة ونزوله عن مراتب المستبصرين ، والنظر غير المناظرة، وقد يصح النهي عن المناظرة للتقية (2) وغير ذلك ، ولا يصح النهي عن النظر لأن في العدول عنه المصير إلى التقليد والتقليد مذموم باتفاق العلماء ونص القرآن والسنة. قال الله تعالى ذاكرا لمقلدة من الكفار وذاما لهم على تقليدهم: (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون * قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم) (3). وقال الصادق - عليه السلام -: (من أخذ دينه من أفواه الرجال أزالته الرجال، ومن أخذ دينه من الكتاب والسنة زالت الجبال ولم يزل) (4). وقال - عليه السلام -: (إياكم والتقليد، فإنه من قلد في دينه هلك) إن الله تعالى يقول: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) (5) فلا (6) والله ما صلوا لهم
(1) (ز): ومرغوب. (2) في بعض النسخ: لتقية. (3) الزخرف: 23 و 24. (4) بحار الأنوار 2: 105. (5) التوبة: 31. (6) في بقية النسخ: ولا. 72 ولا صاموا، ولكنهم أحلوا لهم حراما، وحرموا عليهم - حلالا، فقلدوهم في ذلك، فعبدوهم وهم (1) لا يشعرون). وقال - عليه السلام -: (من أجاب ناطقا فقد عبده، فإن كان الناطق عن الله تعالى فقد عبد الله، وإن كان الناطق عن الشيطان فقد عبد الشيطان). فصل: ولو كان التقليد صحيحا والنظر باطلا لم يكن التقليد لطائفه أولى من التقليد لأخرى، وكان كل ضال بالتقليد معذورا (2)، وكل مقلد لمبدع غير موزور (3) ، وهذا ما لا يقوله أحد، فعلم بما ذكرناه أن النظر هو الحق والمناظرة بالحق صحيحة، وأن الأخبار التي رواها أبو جعفر - رحمه الله - وجوهها (4) ما ذكرناه، وليس الأمر في معانيها على ما تخيله فيها، والله ولي التوفيق.
(1) (ق): من حيث. (2) (ق): غير موزور. (3) (ز): معذور. (4) (ق): جوابها. 73 فصل: في اللوح والقلم (*) قال الشيخ أبو جعفر - رحمه الله - (1): اعتقادنا في اللوح والقلم أنهما ملكان (2). قال الشيخ المفيد - رحمه الله -: اللوح كتاب الله تعالى كتب فيه ما يكون إلى يوم القيامة، وهو قوله تعالى يوضحه (3): (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) (4) فاللوح هو الذكر والقلم هو الشئ الذي أحدث الله به الكتابة (5) في اللوح، وجعل اللوح أصلا ليعرف الملائكة - عليهم السلام - منه ما يكون [من غيب أو وحي] (6)، فإذا أراد الله تعالى أن يطلع الملائكة على غيب له أو يرسلهم إلى الأنبياء - عليهم السلام - بذلك أمرهم بالاطلاع في (7) اللوح، فحفظوا منه ما يؤدونه إلى من أرسلوا إليه، وعرفوا منه ما يعملون (8)، وقد جاءت بذلك آثار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن الأئمة - عليهم السلام -. فأما من ذهب إلى أن اللوح والقلم ملكان؟ فقد أبعد بذلك ونأى به عن الحق، إذ الملائكة لا تسمى ألواحا، ولا أقلاما، ولا يعرف في اللغة اسم ملك ولا (9) بشر لوح ولا (10) قلم.
* أنظر البحار - ص 90 ج 14 ط كمباني والمسألة الثامنة والثلاثين من المسائل العكبرية. چ. (1) الاعتقادات ص 44. (2) عنه في البحار 57: 370 / 10. (3) ليست في (ق) (ز) (ح) (أ). (4) الأنبياء: 105. (5) (أ) (ز): الكتاب. (6) ليست في بقية النسخ. (7) (ز): على. (8) (ق) (ز): يعلمون. (9 و 10) (ق): أو. 74 فصل: في [معنى] العرش (*) قال الشيخ أبو جعفر - رحمه الله - (1): اعتقادنا في العرش أنه حملة جميع الخلق والعرش في وجه آخر هو العلم... (2) إلخ. قال الشيخ أبو عبد الله المفيد - رحمه الله -: العرش في اللغة هو الملك (3)، قال الشاعر بذلك: إذا ما بنو مروان ثلت عروشهم * وأودت كما أودت أياد وحمير (4) يريد إذا ما بنو مروان هلك ملكهم وبادوا، وقال آخر (5): أظننت عرشك * لا يزول ولا يغير يعني: أظننت ملكك لا يزول ولا يغير وقال الله تعالى مخبرا عن واصفي ملك ملكة سبأ: (وأوتيت من كل شئ
* أنظر البحار - ص 93 ج 14 ط كمباني. چ. (1) عنه في البحار 58: 7 / 5. (2) الاعتقادات ص 45، وبحار الأنوار 55: 7. (3) بحار الأنوار 55: 7 (4) بحار الأنوار 55: 7. (5) (ق): الآخر. 75 ولها عرش عظيم) (1) يريدون: لها ملك عظيم، فعرش الله تعالى هو ملكه، واستواؤه على العرش هو استيلاؤه على الملك، والعرب تصف الاستيلاء بالاستواء، قال الشاعر: قد استوى بشر على العراق * من غير سيف ودم مهراق (2) يريد به قد استولى على العراق (3)، فأما العرش الذي تحمله الملائكة،
(1) النمل: 23. (2) بحار الأنوار 4: 5. (3) قال العلامة الشهرستاني في مجلة (المرشد ص 29 - 31 ج 3): ليس المذهب الصحيح ما ذهب إليه الحشوية وبعض الظاهرية من أن العرش سرير كبير يجلس الله عليه جلوس الملك اغترارا منهم بما يفهمه العوام من كلمة (العرش) أو من لفظة (استوى) إذ العلم والدين متفقان على تنزيه الخالق - عز شأنه - من صفات الأجسام، وتقديس العالم الروحاني من شوائب المواد. ولو اتخذنا فهم العوام ميزانا لتفسير الكتاب والسنة لشوهنا محاسن تلك الجمل البليغة، وذهبنا بها إلى معاني مبذولة غير مقبولة، ولوجب علينا أن نفسر آية: (يجعلون أصابعهم في آذانهم) (البقرة: 20) بدخول الأصابع كلها في الآذان، وأن نفسر حديث (الحجر الأسود يمين الله في أرضه) بأن الحجر هو إحدى أكف الرب - تعالى شأنه - نعم، لهذا الحديث وأمثاله ولتلك الآية وأمثالها وجه معقول، ولكن على سبيل التشبيه والمجاز وعليهما مدار الكلام البليغ. وبالجملة: إننا نفسر القرآن بالقرآن لئلا نحيد عن صراطه المستقيم، فنقول: إن العرب كانوا ولا يزالون يسمون البيت المصنوع سقفه وقوائمه من أصول الأشجار عريشا ويستعملون الصيغ المشتقة من هذا الاسم لمعاني قريبة منه، كما في آية (ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون) (الأعراف: 137). وفي آية: (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون) (النحل: 68) وآية: (وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات) (الأنعام: 141) يعني بذلك السقوف وقوائمها المصنوعة من أصول الشجر وفروعها للكرم أو لغيره، وآية: (أو كالذي مر على قرية وهي خاوية عل عروشها) (البقرة 260) يعني قصورها وبيوتها المسقفة، وبهذه المناسبة ومن غلبة الاستعمال صار ( العرش) علما للدائرة الخاصة بملوك البشر على اختلاف أشكالها حسب اختلاف حضارة البشر في أدواره وفخامة الملك وسلطانه. وقد استعمل الوحي الإلهي لفظة (العرش) على سبيل التجوز في دائرة ملك الله سبحانه الخاصة به وبملائكته المقربين، فعرشه كناية عن عالم الروحانيات، وما كان الحكماء الأقدمون يسمونه بعالم الملكوت، وسماه حكماء الاسلام بعالم الأمر. وأما لفظة (استوى) وهي التي جعلت الآية من المتشابهات عند القوم، فمعناها التمكن التام والاستيلاء الكامل بدليل ما يظهر من آية: (فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك) (المؤمنون: 28) أي: تمكنت، وآية: (فاستغلظ فاستوى على سوقه) (الفتح: 29) أي: تمكن واستقام، وآية: (و لما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما) (القصص: 14) فالاستواء فيهن بمعنى التمكن التام دون الجلوس كما زعمت المشبهة، وكثير في محاورات العرب استعمال (استوى) بمعنى التمكن الأتم والاقتدار الكامل، كقول بعيث الشاعر: قد استوى بشر على العراق * من غير سيف ودم مهراق يريد تمكنه التام، غير أننا نتوخى على الدوام تفسير القرآن بالقرآن والاهتداء منه إليه، وقد دلنا على معنى (العرش) كما دلنا على معنى (الاستواء) وأن الله سبحانه قد ظهر من خلقه للسموات والأرض تمكنه التام واقتداره الكامل على عالم الأرواح، أي: دائرة ملكه الخاصة به والمهيمنة على عالم الأجسام ويؤيد ذلك: قوله تعالى بعد هذه الآية: (له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى) (طه: 6) مشيرا إلى أنه استولى قبل كل شئ على عالم الملكوت والأرواح، ثم تمكن بذلك من تملك عالم الناسوت والأجرام. وإن شئتم التفاصيل الكافية بأسرار العرش وآياته وحل سائر مشكلاته، فقد استوفينا كل ذلك في رسالتنا (العرشية). چ. 76 فهو بعض الملك (1)، وهو عرش خلقه الله تعالى في السماء السابعة، وتعبد الملائكة - عليهم السلام - بحمله وتعظيمه، كما خلق سبحانه بيتا في الأرض وأمر البشر بقصده وزيارته والحج إليه وتعظيمه، وقد جاء في الحديث أن الله تعالى خلق بيتا تحت
(1) بحار الأنوار 5: 8. 77 العرش سماه البيت المعمور تحجه الملائكة في كل عام، وخلق في السماء الرابعة بيتا سماه الضراح وتعبد الملائكة بحجه والتعظيم له والطواف حوله، وخلق البيت الحرام في الأرض وجعله (1) تحت الضراح (2). وروي عن الصادق - عليه السلام - (3) أنه قال: لو ألقي حجر من العرش لوقع على ظهر البيت المعمور، ولو القي حجر من البيت المعمور لسقط على ظهر البيت الحرام، ولم يخلق الله عرشا لنفسه ليستوطنه، تعالى الله عن ذلك. لكنه خلق عرشا أضافه إلى نفسه تكرمة له وإعظاما وتعبد الملائكة بحمله كما خلق بيتا في الأرض ولم يخلقه (4) لنفسه ولا ليسكنه، تعالى الله عن ذلك كله. لكنه خلقه لخلقه وأضافه لنفسه (5) إكراما له وإعظاما، وتعبد الخلق بزيارته والحج إليه. فأما [الوصف للعلم] (6) بالعرش فهو في مجاز اللغة دون حقيقتها، ولا وجه لتأويل (7) (8) قوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى) (9) بمعنى (10) أنه احتوى على العلم، وإنما الوجه في ذلك ما قدمناه. والأحاديث التي رويت في صفة الملائكة الحاملين للعرش أحاديث آحاد وروايات أفراد لا يجوز القطع بها ولا العمل عليها، والوجه الوقوف عندها والقطع على أن [العرش في الأصل] (11) هو الملك، والعرش المحمول جزء من الملك تعبد الله تعالى بحمله الملائكة على ما قدمناه (12).
(1) (أ) (ز) (ح): فجعله. (2) بحار الأنوار: 55: 8. (3) بحار الأنوار 55: 8. (4) (ز): يجعله. (5) (ح) (ز) (ق): إلى نفسه. (6) (ق): وصف العلم. (7) بحار الأنوار 55: 8. (8) (ح) (ز) (ش) (ق): لتأول. (9) طه: 5. (10) (ق): على. (11) في المطبوعة: الأصل في العرش. (12) بحار الأنوار 55: 8. 78 فصل: في النفوس والأرواح قال الشيخ أبو جعفر - رحمه الله - (1): اعتقادنا في النفوس أنها هي الأرواح ، وأنها الخلق الأول، وأنها خلقت للبقاء، وأنها في الأرض غريبة، وفي الأبدان مسجونة. قال الشيخ أبو عبد الله: كلام أبي جعفر في النفس والروح على مذهب الحدس دون التحقيق، ولو اقتصر على الأخبار ولم يتعاط ذكر معانيها كان أسلم له من الدخول في باب يضيق عنه (2) سلوكه. [قال الشيخ أبو عبد الله: النفس عبارة] (3) عن معان: أحدها: ذات الشئ، والثاني (4) الدم السائل، والثالث (5): النفس الذي هو الهواء، والرابع: الهوى وميل الطبع (6) *. فأما شاهد المعنى الأول، فهو قولهم: هذا نفس الشئ - أي: ذاته وعينه -
(1) الاعتقادات ص 47 والبحار 6: 249 / 87 و 61: 78 - 79. (2) (ق): عليه. (3) في المطبوعة: أما النفس فعبارة. (4) (أ) (ح) (ز) (ق) (ش): والآخر. (5) (أ) (ح) (ز) (ش) (ق): والآخر. (6) (ح) (ق): الطباع. * بحار الأنوار 58: 79. 79 وشاهد الثاني قولهم: كل ما كانت [له نفس] (1) سائلة فحكمه كذا وكذا، وشاهد الثالث قولهم: فلان هلكت نفسه، إذا انقطع نفسه ولم يبق في جسمه هواء يخرج من جوانبه (2)، وشاهد الرابع قول الله تعالى: (إن النفس لأمارة بالسوء) (3) يعني: الهوى داع إلى القبيح، وقد يعبر بالنفس عن النقم، قال الله تعالى: (ويحذركم الله نفسه) (4) يريد به: نقمه وعقابه (5). فصل (6): [قال الشيخ المفيد: وأما الروح] (7) فعبارة عن معان: أحدها: الحياة، والثاني القرآن، والثالث: ملك من ملائكة الله تعالى، والرابع: جبرئيل - عليه السلام -. فشاهد الأول قولهم: كل ذي روح فحكمه كذا وكذا، يريدون: كل ذي حياة، وقولهم في من مات: قد خرجت منه الروح، يعنون به الحياة، وقولهم في الجنين صورة لم تلجه الروح، يريدون: لم تلجه (8) الحياة. وشاهد الثاني قوله تعالى: (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا) (9) يعني به: القرآن. وشاهد الثالث قوله تعالى: (يوم يقوم الروح والملائكة) (10) الآية. وشاهد الرابع قوله تعالى: (قل نزله روح القدس) (11) يعني: جبرئيل - عليه السلام -. فأما ما ذكره الشيخ أبو جعفر ورواه: أن الأرواح مخلوقة قبل الأجساد بألفي
(1) (أ) (ز): النفس. (2) (ا) (ح) (ز) (ق) (ش): حواسه. (3) يوسف: 53. (4) آل عمران: 29. (5) (ز): وعذابه. (6) ليست في المطبوعة. (7) في المطبوعة: وأما الروح. (8) (ق): تحله. (9) الشورى: 52. (10) النبأ: 38. (11) النحل: 102. 80 عام؟ فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف، فهو حديث من أحاديث الآحاد وخبر من طرق الأفراد، وله وجه غير ما ظنه من لا علم له بحقائق الأشياء، وهو أن الله تعالى خلق الملائكة قبل البشر بألفي عام، فما تعارف منها قبل خلق البشر ائتلف عند خلق البشر، وما لم يتعارف منها إذ ذاك اختلف بعد خلق البشر (1)، وليس الأمر كما ظنه أصحاب التناسخ ودخلت الشبهة فيه على حشوية
* أنظر إلى مقدمة العلامة الزنجاني لكتاب (أوائل المقالات - ص مه طبع 1371 ). وانظر البحار - ص 74 ج 3 ط كمباني. چ 81 الشيعة فتوهموا أن الذوات (1) الفعالة المأمورة والمنهية كانت مخلوقة في الذر (2)
* أنظر المقام الخامس من (مقامات النجاة) للسيد نعمة الله الجزائري - ره -. وراجع البحار - ص 73 ج 3 ط كمباني. چ 82 تتعارف وتعقل وتفهم وتنطق، ثم خلق الله لها أجسادا من بعد ذلك
* وأجاب المؤلف - قده - عن الآية في المسألة الخامسة والأربعين من المسائل العكبرية بما أجاب عنها في المسألة الثانية من المسائل السروية لكن مع اختلاف في التعبير. وقال العلامة الشهرستاني في مجلة (المرشد - ص 120 ج 3 ط بغداد): (في الناس أناس يعتقدون أن البشر من قبل أن يخلقوا خلقتهم هذه، كانوا على كثرتهم ذوي حظ من الوجود ولكن على قدر الذر أو أصغر ويسمون الوطن الذي كانوا فيه على هذه الصفة (عالم الذر) و (عالم الميثاق) و (يوم الألست) بمناسبة خطاب الله لهم (وهم ذر) بقوله: (ألست بربكم قالوا بلى) غير أن المحقق رشيد الدين محمد بن شهرآشوب المتوفى سنة 588 نسب هذا المذهب إلى الحشوية في كتابه (المحكم والمتشابه) * * وفسر هذه الآية التي هي من أقوى أدلة الذريين بحال أمتنا تجاه الخطابات الشرعية في عالمنا المحسوس. وعلى هذا أكثر المحققين من علمائنا المتقدمين كالشيخ المفيد والطبرسي - رض - وكالنراقيين من المتأخرين...). چ * * أنظر متشابهات القرآن ومختلفه ص 8 ج 1 ط طهران لابن شهرآشوب. چ. 83 فركبها فيها، ولو كان ذلك كذلك لكنا نعرف نحن ما كنا عليه، وإذا
* أول الآية: (ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض). قال المصنف - قده - في جواب المسألة الرابعة من المسائل العكبرية: السجود في اللغة التذلل والخضوع ومنه سمي المطيع لله ساجدا لتذلله بالطاعة لمن أطاعه، وسمي واضع جبهته على الأرض ساجدا لمن وضعها له لأنه تذلل بذلك له وخضع والجمادات وإن فارقت الحيوانات بالجمادية فهي متذللة لله عز وجل من حيث لم تمتنع من تدبيره لها وأفعاله فيها، والعرب تصف الجمادات بالسجود وتقصد بذلك ما شرحناه في معناه، ألا ترى إلى قول الشاعر وهو زيد الخيل: بجمع تظل البلق في حجراته * ترى الأكم فيه سجدا للحوافر أراد أن الأكم الصلاب في الأرض لا تمتنع في هدم حوافر الخيل لها وانخفاضها بعد الارتفاع... والتذلل بالاختيار والاضطرار لله عز اسمه يعم الجماد والحيوان الناطق والمستبهم معا. چ * * وفي الكامل للمبرد - ص 156 ج 2 ط مصر 1339 ه: ويروى عن حماد الراوية قال: قالت ليلى بنت عروة بن زيد الخيل لأبيها: هل رأيت قول أبيك: بني عامر هل تعرفون إذا غدا * أبو مكنف قد شد عقد الدوابر بجيش تضل البلق في حجراته * ترى الأكم منه سجدا للحوافر مكنف كمحسن كنية زيد الخيل الصحابي - رض -. قال العلامة ابن قتيبة الدينوري (المتوفى سنة 276 ه في كتاب (المعارف - ص 145 ط مصر 1353،: كان مكنف أكبر ولد أبيه وبه كان يكنى وصحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنه أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسماه زيد الخير وحماد الراوية مولى مكنف. چ 84 ذكرنا به ذكرناه ولا يخفى علينا الحال فيه، ألا ترى أن من نشأ ببلد من البلاد
* اللبان: الصدر أو ما بين الثديين، وأكثر استعماله لصدر ذات الحوافر كالفرس. چ. * * آخر الشعر: يا جملي ليس إلي المشتكى * صبر جميل فكلانا مبتلى. چ. 85 فأقام (1) فيه حولا ثم انتقل (2) إلى غيره لم يذهب عنه علم ذلك (3) وإن خفي عليه لسهوه عنه فذكر به ذكره، ولولا أن الأمر كذلك لجاز أن يولد إنسان منا ببغداد وينشأ بها ويقيم عشرين سنة فيها ثم ينتقل إلى مصر آخر فينسى حاله ببغداد ولا يذكر منها شيئا، وإن ذكر به وعدد عليه علامات حاله ومكانه ونشوئه أنكرها، وهذا ما لا يذهب إليه عاقل (4)، وكذا ما كان ينبغي لمن لا معرفة له بحقائق الأمور
(1) (ق): وأقام. (2) (ق) زيادة: عنه. (3) بحار الأنوار 58: 80 - 81. (4) قال - قدس سره - في ضمن جواب المسألة الأولى من المسائل العكبرية *: إن قيل إن أشباح آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم سبق وجودها وجود آدم فالمراد بذلك أن أمثلتهم في الصور كانت في العرش فرآها آدم وسأل عنها فأخبره الله أنها أمثال صور من ذريته شرفهم بذلك وعظمهم به، فأما أن تكون ذواتهم - عليهم السلام - كانت قبل آدم موجودة فذلك باطل بعيد عن الحق لا يعتقده محصل ولا يدين به عالم وإنما قال به طوائف من الغلاة الجهال والحشوية من الشيعة الذين لا بصيرة لهم بمعاني الأشياء ولا حقيقة الكلام. وقد قيل: إن الله تعالى كان قد كتب أسمائهم في العرش ورآها آدم وعرفهم بذلك وعلم أن شأنهم عند الله عظيم. وأما القول بأن ذواتهم كانت موجودة قبل آدم فالقول في بطلانه على ما قدمناه. ا ه. وقال (س) في ضمن جواب المسألة المتممة للخمسين: فصل - وقوله أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولد مبعوثا ولم يزل نبيا فإنه مجمل من المقال وباطل فيه على حال فإن أراد بذلك أنه لم يزل في الحكم مبعوثا وفي العلم نبيا فهو كذلك، وإن أراد (بذلك) أنه لم يزل موجودا في الأزل ناطقا رسولا وكان في حال ولادته نبيا مرسلا كما كان بعد الأربعين من عمره فذلك باطل لا يذهب إليه إلا ناقص غبي لا يفهم عن نفسه ما يقول والله المستعان وبه التوفيق. * أنظر مقدمة (أوائل المقالات ص مه طبع 1371) چ. 86 أن يتكلم فيها على خبط عشواء (1). والذي (2) صرح به أبو جعفر - رحمه الله - في معنى الروح والنفس هو قول التناسخية بعينه من غير أن يعلم أنه قولهم فالجناية بذلك على نفسه وعلى غيره عظيمة. فأما ما ذكره من أن الأنفس (3) باقية فعبارة مذمومة ولفظ يضاد ألفاظ القرآن. قال الله تعالى: (كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام) (4) والذي حكاه من ذلك وتوهمه هو مذهب كثير من الفلاسفة الملحدين الذين زعموا أن الأنفس (5) لا يلحقها الكون والفساد، وأنها باقية، وإنما تفنى وتفسد الأجسام المركبة، وإلى هذا ذهب بعض أصحاب التناسخ
(1) قال في (الحور العين - ص 313): والعشواء في قول الخليل: الناقة التي لا تبصر ما أمامها، فهي تخبط بيديها كل شئ وترفع طرفها لا تنظر موقع يديها، فضرب بها المثل لمن لا يتبين في أمره، فقيل: كراكب العشواء، وركب العشواء وهو يخبط خبط العشواء. (أنظر مجمع الأمثال ص 336 ج 2 ط مصر) أيضا. چ. (2) من هنا ذكره المجلسي في البحار 58: 81. (3) (ق) (ز): النفس. (4) الرحمن: 26 - 27. (5) في المطبوعة: النفس. 87 وزعموا أن الأنفس (1) لم تزل تتكرر في الصور (2) والهياكل لم تحدث ولم تفن ولن (3) تعدم، وأنها باقية غير فانية، وهذا من أخبث قول وأبعده من الصواب، وبما دونه في الشناعة والفساد شنع به الناصبة على الشيعة ونسبوهم إلى الزندقة، ولو عرف مثبته ما (4) فيه لما تعرض له، لكن أصحابنا المتعلقين بالأخبار أصحاب سلامة وبعد ذهن وقلة فطنة يمرون على وجوههم فيما سمعوه من الأحاديث ولا ينظرون في سندها، ولا يفرقون (5) بين حقها وباطلها، ولا يفهمون ما يدخل عليهم في إثباتها، ولا يحصلون معاني ما يطلقونه منها. والذي ثبت من الحديث في هذا الباب أن الأرواح بعد موت الأجساد على ضربين : منها ما ينقل إلى الثواب والعقاب، ومنها ما يبطل فلا يشعر بثواب ولا عقاب. وقد روي عن الصادق - عليه السلام - ما ذكرناه (6) في هذا المعنى وبيناه ( 7)، فسئل عمن مات في هذه الدار أين تكون روحه؟ فقال - عليه السلام -: من
(1) (ز): النفس. (2) في المطبوعة: الصورة. (3) (ح) (ز) (ق): ولم. (4) في المطبوعة: بما. (5) (ح) (ق): يميزون. (6) (ق): ذكرنا. (7) ومما هو جدير بالذكر أنه لا منافاة بين هذا الخبر وبين سائر الأخبار الواردة في الرجعة المشعرة بأنه لا يرجع إلى الدنيا إلا من محض الإيمان محضا أو محض الكفر محضا، فإن هذا الخبر في مقام بيان أنه لا ينعم ولا يعذب من النفوس بعد مفارقة الأجساد إلا نفوس ماحضي الإيمان أو ماحضي الكفر، وأن سائر النفوس من أمثال المستضعفين وغيرهم لا يشعر بشئ من الثواب والعقاب حتى يوم النشور وبعث من في القبور. وأخبار الرجعة في مقام بيان أن الراجعين إلى الدنيا ليسوا إلا من هاتين الطائفتين أعني ممحضي الإيمان وممحضي الكفر وليس في مقام إثبات أن كل ماحض للإيمان أو ماحض للكفر يعود، فلا منافاة بين مضامين الأخبار، وللمصنف - قدس - بيان شاف في هذا الباب أيضا في (أوائل المقالات). ز. 88 مات وهو ماحض للإيمان محضا أو ماحض للكفر محضا نقلت روحه من هيكله إلى مثله في الصورة (1)، وجوزي بأعماله إلى يوم القيامة، فإذا بعث الله من في القبور أنشأ جسمه (2) ورد روحه إلى جسده وحشره ليوفيه أعماله، فالمؤمن تنتقل (3) روحه من جسده إلى مثل جسده في الصورة، فيجعل في جنة من جنان الله يتنعم فيها إلى يوم المآب، والكافر تنتقل روحه من جسده إلى مثله بعينه فتجعل في نار فيعذب بها إلى يوم القيامة، وشاهد ذلك في المؤمن قوله تعالى: (قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون * بما غفر لي ربي) (4) وشاهد ما ذكرناه في الكافر قوله تعالى: (النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) (5) فأخبر سبحانه أن مؤمنا قال بعد موته وقد ادخل الجنة: يا ليت قومي يعلمون، وأخبر أن كافرا يعذب بعد موته غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة يخلد في النار. والضرب الآخر: من يلهى عنه وتعدم نفسه عند فساد جسمه، فلا يشعر بشئ حتى يبعث، وهو من لم يمحض الإيمان محضا، ولا الكفر محضا. وقد بين الله تعالى ذلك عند قوله: (إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما) (6) فبين أن قوما عند الحشر لا يعلمون مقدار لبثهم في القبور حتى يظن
(1) أنظر (بقاء النفس بعد فناء الجسد - ص 48 - 49 ط مصر) للفيلسوف الأكبر وأستاذ البشر نصير الدين الطوسي - ره - وشرحها للمرحوم العلامة أبي عبد الله الزنجاني طاب ثراه. چ. (2) بحار الأنوار 58: 81. (3) (ز): تنقل. (4) يس: 26 - 27. (5) المؤمن: 46. (6) طه: 104. 89 بعضهم أن ذلك كان عشرا (1)، ويظن بعضهم أن ذلك كان يوما، وليس يجوز أن يكون ذلك عن وصف من عذب إلى بعثه أو نعم إلى بعثه، لأن من لم يزل منعما أو معذبا لا يجهل عليه حاله فيما عومل به، ولا يلتبس عليه الأمر في بقائه بعد وفاته. وقد روي عن أبي عبد الله - عليه السلام - أنه قال: إنما يسأل في قبره من محض الإيمان محضا أو محض الكفر محضا، فأما ما سوى هذين فإنه يلهى عنه. وقال في الرجعة: إنما يرجع إلى الدنيا عند قيام القائم من محض الإيمان محضا أو محض الكفر محضا (2)، فأما ما سوى هذين فلا رجوع لهم إلى يوم المآب (3).
(1) في سورة طه: 103 (... إن لبثتم إلا عشرا) الآية. چ. (2) بحار الأنوار 58: 82. (3) قال المصنف - قدس سره - في ضمن جواب المسألة الأولى من المسائل السروية: فصل: والرجعة عندنا تختص بمن يمحض الإيمان ويمحض الكفر دون ما سوى هذين الفريقين، وإذا أراد الله تعالى على ما ذكرناه أوهم الشيطان أعداء الله - عز وجل - أنهم إنما ردوا إلى الدنيا لطغيانهم على الله تعالى فيزدادون عتوا، فينتقم الله تعالى منهم لأوليائه المؤمنين، ويجعل لهم الكرة عليهم، فلا يبقى منهم أحد إلا وهو مغموم بالعذاب والنقمة، وتصفو الأرض عن الطغاة، ويكون الدين لله تعالى، والرجعة إنما هي لممحضي الإيمان من أهل الملة وممحضي النفاق منهم دون من سلف من الأمم الخالية. فصل: وقد قال بعض المخالفين لنا: كيف تعود كفار الملة بعد الموت إلى طغيانهم وقد عاينوا عذاب الله تعالى في البرزخ وتيقنوا بذلك أنهم مبطلون، فقلت له: ليس ذلك بأعجب من الكفار الذين يشاهدون في البرزخ ما حل بهم من العذاب فيها ويعلمون ضرورة بعد الموافقة لهم والاحتجاج عليهم بضلالهم في الدنيا، فيقولون حينئذ: (يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين) (الأنعام: 27) فقال الله - عز وجل -: (بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون) (الأنعام: 28) فلم يبق للمخالف بعد هذا الاحتجاج شبهة يتعلق بها فيما ذكرناه، والمنة لله . چ. 90 وقد اختلف أصحابنا - رضي الله عنهم - فيمن ينعم ويعذب بعد موته (1) ، فقال بعضهم: المعذب والمنعم هو الروح التي توجه إليها الأمر والنهي والتكليف، وسموها (جوهرا). وقال آخرون: بل الروح الحياة، جعلت في جسد كجسده في دار الدنيا، وكلا الأمرين يجوزان في العقل (2)، والأظهر عندي قول من قال إنها الجوهر المخاطب، وهو الذي يسميه (3) الفلاسفة (البسيط). وقد جاء في الحديث (4) أن الأنبياء - صلوات الله عليهم - خاصة والأئمة - عليهم السلام - من بعدهم ينقلون بأجسادهم وأرواحهم من الأرض إلى السماء، فيتنعمون في أجسادهم التي كانوا فيها عند مقامهم في الدنيا. وهذا خاص بحجج الله تعالى دون من سواهم من الناس. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (5) أنه قال: من صلى علي عند قبري سمعته، ومن صلى علي من بعيد بلغته، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: من صلى علي مرة صليت عليه عشرا، ومن صلى علي عشرا صليت عليه مائة، فليكثر امرؤ منكم الصلاة علي أو فليقل (6). فبين أنه صلى الله عليه وآله و سلم بعد خروجه من الدنيا يسمع الصلاة عليه، ولا يكون كذلك إلا وهو حي عند الله تعالى، وكذلك أئمة الهدى - عليهم السلام - يسمعون سلام المسلم عليهم من قرب، ويبلغهم سلامه من بعد، وبذلك جاءت الآثار الصادقة
(1) (ق): الموت. (2) (ح) (ق): العقول. (3) (ح): تسميه. (4) بحار الأنوار 58: 82 و 83. (5) بحار الأنوار 58: 83. (6) بحار الأنوار 58: 83. 91 عنهم - عليهم السلام - (1). وقد قال الله تعالى: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء ) (2) الآية. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (3) أنه وقف على قليب (4) بدر (5) فقال للمشركين الذين قتلوا يومئذ وقد ألقوا في القليب: لقد كنتم جيران سوء لرسول الله، أخرجتموه من منزله (6) وطردتموه، ثم اجتمعتم عليه فحاربتموه، فقد وجدت ما وعدني ربي حقا، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟ فقال له عمر يا رسول الله، ما خطابك لهام (7) قد صديت (8)؟ فقال له : مه يا ابن الخطاب! فوالله ما أنت بأسمع منهم، وما بينهم وبين أن تأخذهم الملائكة بمقامع (9) الحديد إلا أن أعرض بوجهي هكذا عنهم (10).
(1) بحار الأنوار 58: 83. (2) آل عمران: 170. (3) بحار الأنوار 6: 254. (4) القليب: البئر. (5) بدر اسم بئر كانت لرجل يدعى بدرا، قال حسان بن ثابت شاعر النبي صلى الله عليه وآله وسلم (المتوفى سنة 50 ه). يناديهم رسول الله لما * قذفناهم كباكب في القليب ألم تجدوا حديثي كان حقا؟ * وأمر الله يأخذ بالقلوب فما نطقوا ولو نطقوا لقالوا * صدقت وكنت ذا رأي مصيب أنظر (شرح ديوان حسان - ص 17 ط مصر) للأستاذ عبد الرحمان البرقوقي. وإلى (أعيان الشيعة - ص 167 ج 2 ط 1 دمشق) للعلامة الإمام الأمين العاملي. چ. (6) (ق): بلده، (ح): مولده. (7) جمع الهامة: تطلق عل الجثة. (8) أي ماتت. (9) جمع المقمعة: خشبة أو حديدة يضرب بها الإنسان ليذل. (10) بحار الأنوار 6: 255. أنظر (البداية والنهاية - ص 137 - 138 ج 1 ط مصر) لابن كثير المؤرخ المفسر. چ. 92 وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام - (1) أنه ركب بعد انفصال الأمر من حرب البصرة فصار (2) يتخلل بين الصفوف حتى مر على كعب بن سورة - وكان هذا قاضي البصرة ولاه إياها عمر بن الخطاب، فأقام بها قاضيا بين أهلها زمن عمر وعثمان، فلما وقعت الفتنة بالبصرة علق في عنقه مصحفا وخرج بأهله وولده يقاتل أمير المؤمنين، فقتلوا بأجمعهم - فوقف عليه أمير المؤمنين - عليه السلام - وهو صريع بين القتلى، فقال: أجلسوا كعب بن سورة، فأجلس بين نفسين، وقال له: يا كعب بن سورة، قد وجدت ما وعدني ربي حقا، فهل وجدت ما وعدك ربك حقا؟ ثم قال: أضجعوا كعبا. وسار قليلا فمر بطلحة بن عبد (3) الله صريعا، فقال: أجلسوا طلحة، فأجلسوه، فقال: يا طلحة، قد وجدت ما وعدني ربي حقا، فهل وجدت ما وعدك ربك حقا؟ ثم قال: أضجعوا طلحة، فقال له رجل من أصحابه: يا أمير المؤمنين، ما كلامك لقتيلين لا يسمعان منك؟ فقال: مه يا رجل، فوالله لقد سمعا كلامي كما سمع أهل القليب كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (4). وهذا من الأخبار الدالة على أن بعض من يموت ترد إليه روحه لتنعيمه أو لتعذيبه، وليس ذلك بعام في كل من يموت، بل هو على ما بيناه (5).
(1) بحار الأنوار 6: 255. (2) (ز) (ق) (ش): فسار (3) (ح) (ش): عبيد. (4) أنظر كتاب (الجمل - أو - النصرة في حرب البصرة - ص 194 - 5 ط 1 نجف) للمؤلف قده. چ. (5) بحار الأنوار 6: 255. 93 فصل: فيما وصف به الشيخ أبو جعفر الموت قال أبو جعفر (1): باب الموت، قيل لأمير المؤمنين... إلى آخره (2). قال الشيخ أبو عبد الله (3): ترجم الباب بالموت وذكر غيره، وقد كان ينبغي أن يذكر حقيقة الموت أو يترجم الباب بمال الموت وعاقبة الأموات، فالموت، هو يضاد الحياة، يبطل معه النمو ويستحيل معه الاحساس، وهو محل (4) الحياة فينفيها، وهو من فعل الله تعالى وليس لأحد فيه صنع ولا يقدر عليه أحد إلا الله تعالى. قال الله سبحانه: (هو الذي يحيي ويميت) (5)، فأضاف الإحياء [إلى نفسه، وأضاف الإماتة إليها] (6). وقال سبحانه: (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا) (7) فالحياة ما كان بها النمو والاحساس وتصح معها القدرة والعلم، والموت ما
(1) معاني الأخبار 288، وعنه في البحار 6: 167 / 40. (2) الاعتقادات ص 51. (3) بحار الأنوار 6: 167. (4) (ح) (ق): يحل محل. (5) المؤمن: 68. (6) في المطبوعة: والإماتة إلى نفسه. (7) الملك: 2. 94 استحال معه النمو والاحساس ولم تصح معه القدرة والعلم، وفعل الله تعالى الموت بالإحياء لينقلهم (1) من دار العمل والامتحان إلى دار الجزاء والمكافأة، وليس يميت الله عبدا من عبيده (2) إلا وإماتته أصلح له من بقائه، ولا يحييه إلا وحياته أصلح له من موته، وكل ما يفعله الله تعالى بخلقه فهو أصلح لهم وأصوب في التدبير. وقد يمتحن الله تعالى كثيرا من خلقه بالآلام الشديدة قبل الموت، ويعفي آخرين من ذلك (3)، وقد يكون الألم المتقدم للموت [ضربا من] (4) العقوبة لمن حل به، ويكون استصلاحا له ولغيره، ويعقبه نفعا عظيما، وعوضا كثيرا (5) ، وليس كل من صعب عليه خروج نفسه كان بذلك معاقبا، ولا كل من سهل عليه الأمر في ذلك كان به مكرما مثابا. وقد ورد الخبر بأن الآلام التي تتقدم الموت تكون كفارات لذنوب المؤمنين، وتكون عقابا للكافرين، وتكون الراحة قبل الموت استدراجا (6) للكافرين، وضربا من ثواب المؤمنين (7). وهذا أمر مغيب عن الخلق، لم يظهر الله تعالى أحدا من خلقه على إرادته فيه تنبيها له، حتى يتميز (8) له حال الامتحان من (9) حال
(1) في بقية النسخ: لنقلهم. (2) (ق): عباده. (3) بحار الأنوار 6: 168. (4) (ز): من باب. (5) (ح): كبيرا. (6) استدرجه: خدعه، واستدراج الله للعبد إنه كلما جدد خطيئته جدد له نعمة وأنساه الاستغفار فيأخذه قليلا قليلا ولا يباغته، أنظر (مجمع البحرين - درج) . چ. (7) بحار الأنوار 6: 168. (8) (أ) (ز) (ش): يميز. (9) (ق): عن. 95 العقاب، وحال الثواب من حال الاستدراج، وتغليظا للمحنة ليتم التدبير الحكيم (1) في الخلق. فأما ما ذكره أبو جعفر من أحوال الموتى بعد وفاتهم، فقد جاءت الآثار به على التفصيل. وقد أورد بعض ما جاء في ذلك إلا أنه ليس مما ترجم به الباب في شئ، والموت على كل حال أحد بشارات المؤمن، إذ كان أول طرقه إلى محل النعيم، وبه يصل ثواب الأعمال الجميلة في الدنيا (2)، وهو أول شدة تلحق الكافر (3) من شدائد العذاب (4)، وأول طرقه إلى حلول العقاب (5)، إذ كان الله تعالى جعل الجزاء على الأعمال بعده وصيره سببا لنقله من دار التكليف إلى دار الجزاء، وحال المؤمن بعد موته أحسن من حاله قبله، وحال الكافر بعد مماته (6) أسوء من حاله قبله، إذ المؤمن صائر إلى جزائه بعد مماته، والكافر صائر إلى جزائه بعد مماته (7). وقد جاء في الحديث عن آل محمد - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - أنهم قالوا: الدنيا سجن المؤمن، والقبر بيته، والجنة مأواه، والدنيا جنة الكافر،
(1) (أ) (ح) (ز) (ش): الحكمي. (2) بحار الأنوار 6: 168. (3) (ش) (ز) (ق): الكافرين. (4) في بقية النسخ: العقاب. (5) (ز): العذاب. (6) في بقية النسخ: موته. (7) بحار الأنوار 6: 169. 96 والقبر سجنه، والنار مأواه (1) (2). وروي عنهم - عليهم السلام - أنهم قالوا: الخير كله بعد الموت، والشر كله بعد الموت. ولا حاجة بنا مع نص القرآن بالعواقب إلى الأخبار، [ومع شاهد] (3) العقول إلى الأحاديث. وقد ذكر الله تعالى جزاء الصالحين فبينه، وذكر عقاب الفاسقين ففضله، وفي بيان الله سبحانه وتفصيله غنى عما سواه.
(1) قال العلامة المحقق، كعبة الأدباء، الشيخ بهاء الدين محمد العاملي (المتوفى سنة 1030 ه) في (الكشكول ص 295 ط 2 نجم الدولة ): رأى يهودي الحسن بن علي - عليه السلام - في أبهى زي وأحسنه، واليهودي في حال ردئ وأسمال رثة، فقال: أليس قال رسولكم: الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر؟ قال: نعم، فقال: هذا حالي وهذا حالك؟! فقال - عليه السلام -: غلطت يا أخا اليهود، لو رأيت ما وعدني الله من الثواب وما أعد لك من العقاب لعلمت أنك في الجنة وأني في السجن! وقال العلامة المدقق الحاج الملا محمد مهدي النراقي (المتوفى سنة 1309 ه) في كتاب (مشكلات العلوم ص 318 ط إيران 1305 ه) عند كلامه على توجيه الحديث: إن المؤمن وإن كان في الدنيا في نعيم وحسن حال، فإنه بالنسبة إلى حاله في الجنة في سجن وضيق وسوء حال، والكافر وإن كان في الدنيا في ضيق وسوء حال، فإنه بالنسبة إلى حاله في النار في جنة ونعيم، فيكون الحكمان للدنيا بالنسبة إلى الآخرة. ومثل هذا التوجيه مروي عن الحسن - عليه السلام - . چ. (2) بحار الأنوار 6: 169 / 41 و 42. (3) في بعض النسخ: وبشاهد. 97 فصل: في المسألة في القبر (*) قال أبو جعفر اعتقادنا في المسألة في القبر أنها حق (1)، (2).
* قال المؤلف قده في ضمن جوابه عن المسألة الخامسة من المسائل السروية: فأما كيفية عذاب الكافر في قبره وتنعم المؤمن فيه، فإن الخبر أيضا قد ورد بأن الله تعالى يجعل روح المؤمن في قالب مثل قالبه في الدنيا في جنة من جناته، ينعمه فيه إلى يوم الساعة فإذا نفخ في الصور أنشأ جسده الذي في التراب وتمزق ثم أعاده إليه وحشره إلى الموقف وأمر به إلى جنة الخلد، ولا يزال منعما ببقاء الله عز وجل (بإبقاء الله - ظ) غير أن جسده الذي يعاد فيه لا يكون على تركيبه في الدنيا بل يعدل طباعه ويحسن صورته ولا يهرم مع تعديل الطباع ولا يمسه نصب في الجنة ولا لغوب، والكافر يجعل في قالب كقالبه في محل عذاب يعاقب ونار يعذب بها حتى الساعة ثم ينشئ جسده الذي فارقه في القبر فيعاد إليه فيعذب به في الآخرة عذاب الأبد ويركب أيضا جسده تركيبا لا يفنى معه وقد قال الله عز وجل: (النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) (سورة المؤمن: 46 ) وقال في قصة الشهداء: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) (سورة آل عمران: 170) وهذا قد مضى في ما تقدم فدل على أن الثواب والعذاب يكون قبل يوم القيمة وبعدها، والخبر وارد بأنه يكون مع فراق الروح والجسد في الدنيا والروح هيهنا عبارة عن الفعال الجوهر البسيط، وليس بعبارة عن الحياة يصح عليها العلم والقدرة لأن هذه الحياة عرض لا تبقى ولا يصح عليها الإعادة، فهذا ما عول عليه أهل النقل وجاء به الخبر على ما بيناه. أنظر الصفحة 40 - 42 من هذا الكتاب. طبع 1371 چ. فأخبر أنهم أحياء وإن كانت أجسادهم على وجه الأرض أموات لا حياة فيها. منه ره. (1) الاعتقادات ص 58. (2) عنه في البحار 6: 279 - 280 و 53: 128 - 130. 98 قال أبو عبد الله الشيخ المفيد - رضي الله عنه -: الذي ذكره أبو جعفر غير مفيد (1) لما تصدق (2) الحاجة إليه في المسألة والغرض منها، والذي يجب أن يذكر (3) في هذا المعنى ما أنا مثبته إن شاء الله تعالى. جاءت الآثار الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (4) أن الملائكة تنزل (5) على المقبورين فتسألهم عن أديانهم، وألفاظ الأخبار بذلك متقاربة، فمنها أن ملكين لله تعالى يقال لهما: ناكر ونكير، ينزلان على الميت فيسألانه عن ربه ونبيه ودينه وإمامه، فإن أجاب بالحق سلموه إلى ملائكة النعيم، وإن ارتج (6) عليه سلموه إلى ملائكة العذاب. وقيل في بعض الأخبار (7): إن اسمي الملكين اللذين ينزلان على الكافر: ناكر ونكير، واسمي الملكين اللذين ينزلان على المؤمن: مبشر وبشير، وقيل: إنه إنما سمي ملكا الكافر ناكرا ونكيرا، لأنه ينكر الحق وينكر ما يأتيانه به ويكرهه، وسمي ملكا المؤمن مبشرا وبشيرا، لأنهما يبشرانه بالنعيم، ويبشرانه من الله تعالى بالرضا والثواب المقيم. وإن هذين الاسمين ليسا بلقب (8) لهما،
(1) (ز) (ش): جيد. (2) في المطبوعة: يقصد. (3) (أ): يذكره. (4) بحار الأنوار 6: 280. (5) (ز): تتنزل. (6) رتج وارتج الباب: أغلقه، ارتج على الخطيب: استغلق عليه الكلام، أنظر (مجمع البحرين - رتج) لفخر الدين الطريحي، أيضا. چ. (7) بحار الأنوار 6: 280. (8) (ق) تلقيبا. 99 وإنهما (1) عبارة عن فعلهما. وهذه أمور يتقارب بعضها من بعض ولا تستحيل معانيها، والله سبحانه أعلم بحقيقة الأمر فيها، وقد قلنا فيما سلف أنه إنما ينزل الملكان على من محض الإيمان محضا أو محض الكفر محضا، ومن سوى هذين فيلهى عنه (2)، وبينا أن الخبر جاء بذلك، فمن جهته قلنا فيه ما ذكرناه (3). فصل: وليس ينزل الملكان إلا على حي، ولا يسألان إلا من يفهم المسألة (4) ويعرف معناها، وهذا يدل على أن الله تعالى يحيي العبد بعد موته للمسألة (5)، ويديم حياته لنعيم إن كان يستحقه، أو لعذاب إن كان يستحقه. نعوذ بالله من سخطه، ونسأله التوفيق لما يرضيه برحمته (6). والغرض من نزول الملكين ومساءلتهما العبد أن الله تعالى يوكل بالعبد بعد موته ملائكة النعيم أو ملائكة العذاب، وليس للملائكة طريق إلى علم ما يستحقه العبد إلا بإعلام (7) الله تعالى ذلك لهم، فالملكان اللذان ينزلان على العبد أحدهما من ملائكة النعيم والآخر من ملائكة العذاب، فإذا هبطا لما وكلا به
(1) (ح) (ق): وإنما هو. والأنسب في السياق: وإنما هما. (2) بحار الأنوار 6: 280. (3) بحار الأنوار 6: 280. (4) في بقية النسخ: للمسألة. (5) في بقية النسخ: المسألة. (6) بحار الأنوار 6: 280. (7) (ز): بإلهام. 100 استفهما حال العبد بالمسألة (1)، فإن أجاب بما يستحق به النعيم قام بذلك ملك النعيم وعرج عنه ملك العذاب، وإن ظهرت فيه علامة استحقاقه (2) العذاب (3)، وكل به ملك العذاب وعرج عنه ملك النعيم. وقد قيل: إن الملائكة الموكلين بالنعيم والعذاب (4). غير الملكين الموكلين بالمسألة، وإنما يعرف ملائكة النعيم وملائكة العذاب ما يستحقه العبد من جهة ملكي المسألة، فإذا سألا العبد وظهر منه ما يستحق به الجزاء تولى منه ذلك ملائكة الجزاء وعرج ملكا المسألة إلى مكانهما من السماء. وهذا كله جائز، ولسنا نقطع بأحد دون صاحبه، إذ الأخبار فيه متكافئة والعبارة لنا في معنى ما ذكرناه الوقف والتجويز (5). فصل: وإنما وكل الله تعالى ملائكة المسألة وملائكة العذاب والنعيم بالخلق تعبدا لهم بذلك، كما وكل الكتبة من الملائكة بحفظ أعمال الخلق (6) وكتبها ونسخها ورفعها تعبدا لهم بذلك، وكما تعبد طائفة من الملائكة بحفظ بني آدم، وطائفة منهم بإهلاك الأمم، وطائفة (7) بحمل العرش، وطائفة بالطواف حول
(1) في بقية النسخ: بالمسألة. (2) (ق): استحقاق. (3) بحار الأنوار 6: 280 و 281. (4) (ح): والعقاب. (5) بحار الأنوار 6: 281. (6) (ح): الخلائق. (7) (ز) زيادة: منهم. 101 البيت المعمور، وطائفة بالتسبيح، وطائفة بالاستغفار للمؤمنين، وطائفة بتنعيم أهل الجنة، وطائفة بتعذيب أهل النار [والتعبد لهم] (1) بذلك ليثيبهم (2) عليها. ولم يتعبد الله الملائكة بذلك عبثا كما لم يتعبد البشر والجن بما تعبدهم به لعبا، بل تعبد الكل للجزاء، وما تقتضيه الحكمة من تعريفهم نفسه تعالى والتزامهم شكر النعمة (3) عليهم. وقد كان الله تعالى قادرا على أن يفعل العذاب بمستحقه من غير واسطة، وينعم المطيع من غير واسطة، لكنه سبحانه علق ذلك على الوسائط لما ذكرناه وبينا وجه الحكمة فيه ووصفناه، وطريق مسألة الملكين الأموات بعد خروجهم من الدنيا بالوفاة هو السمع، وطريق العلم برد الحياة إليهم عند المسألة هو العقل، إذ لا يصح مسألة الأموات واستخبار الجماد (4) (5). وإنما يحسن الكلام للحي العاقل لما يكلم به، وتقريره وإلزامه بما يقدر عليه ، مع أنه قد جاء في الخبر أن كل مسائل ترد إليه الحياة عند مساءلته (6) ليفهم ما يقال له، فالخبر بذلك (7) يؤكد ما في العقل، ولو لم يرد بذلك خبر لكفى حجة العقل فيه على ما بيناه (8).
(1) في المطبوعة: وتعبدهم. (2) (ح) (ق) زيادة: على الأعمال التي يؤدون بها التكليف كما تعبد البشر والجن بالأعمال ليثيبهم. (3) (ز): النعم. (4) في المطبوعة: الجمادات. (5) بحار الأنوار 6: 281. (6) في بقية النسخ: مساءلتهم. (7) في بعض النسخ: أكد. (8) بحار الأنوار 6: 281. 102 فصل: فيما ذكر الشيخ أبو جعفر في العدل قال أبو جعفر: باب الاعتقاد في العدل... إلى آخره (1) (2). قال الشيخ المفيد أبو عبد الله - رحمه الله: العدل، هو الجزاء على العمل بقدر المستحق عليه، والظلم، هو منع الحقوق، والله تعالى عدل كريم جواد متفضل رحيم، قد ضمن الجزاء على الأعمال، والعوض (3) على المبتدئ من الآلام، ووعد التفضل بعد ذلك بزيادة من عنده. فقال تعالى: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) (4) الآية، فخبر أن للمحسنين الثواب المستحق وزيادة من عنده وقال: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) يعني له عشر أمثال ما يستحق عليها. (ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون) (5) يريد أنه لا يجازيه بأكثر مما يستحقه، ثم ضمن بعد ذلك العفو ووعد بالغفران.
(1) الاعتقادات ص 69. (2) بحار الأنوار 5: 335 / 2. (3) بحار الأنوار 5: 335. (4) يونس: 26. (5) الأنعام: 160. وقال النراقي الأول - قدس سره - في كتابه (مشكلات العلوم ص 162) عند كلامه على تفسير قول الله تعالى: (وإن الله ليس بظلام للعبيد) (آل عمران : 182): إن صيغة المبالغة إنما جئ بها لكثرة العبيد لا لكثرة الظلم في نفسه، فإن الظالم عل الجمع الكثير يكون كثير الظلم نظرا إلى كثرة المظلومين، فيصح الاتيان بصيغة المبالغة الدالة على كثرة أفراد الظلم نظرا إلى كثرة أفراد المظلوم، فمن كانت عبيده كثيرة فإن كان يظلم الكل فالأنسب به اسم الظلام دون الظالم، فإذ ألم يكن ظالما لشئ منهم فاللازم نفي الظلام عنه، إذ لو فرض صدور الظلم منه لكان ظلاما لا ظالما. ولذا إذا أفرد المفعول لا يؤتى بصيغة المبالغة، ومع كونه جمعا يؤتى بها، كقوله تعالى: (عالم الغيب) و (علام الغيوب) وقولهم : زيد ظالم لعبده، وزيد ظلام لعبيده. والحاصل: أن صيغة المبالغة هنا لكثرة المفعول لا لتكرار الفعل. چ. 103 فقال سبحانه: (وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم) (1) وقال سبحانه: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) (2). وقال سبحانه: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا) (3) والحق الذي للعبد هو ما جعله الله تعالى حقا له واقتضاه [جود الله وكرمه] (4)، وإن كان لو حاسبه بالعدل لم يكن له عليه بعد النعم التي أسلفها حق، لأنه تعالى ابتدأ خلقه بالنعم وأوجب عليهم بها الشكر، وليس أحد من الخلق يكافئ نعم الله تعالى عليه بعمل، ولا يشكره أحد إلا وهو مقصر بالشكر عن حق النعمة. وقد أجمع أهل القبلة (5) على أن من قال: إني وفيت (6) جميع ما لله تعالى علي وكافأت نعمه بالشكر، فهو ضال، وأجمعوا على أنهم مقصرون عن حق الشكر، وأن لله عليهم حقوقا لو مد في أعمارهم إلى آخر مدى الزمان لما وفوا لله سبحانه بما
(1) الرعد: 6. (2) النساء: 48. (3) يونس: 58. (4) (ز): جوده أو كرمه. (5) (ح): العقل. (6) بحار الأنوار 5: 335. 104 له عليهم، فدل ذلك على أن ما جعله حقا لهم فإنما جعله بفضله وجوده وكرمه. ولأن حال العامل الشاكر بخلاف حال من لا عمل له في العقول، وذلك أن الشاكر يستحق في العقول الحمد، ومن لا عمل له فليس في العقول له حمد، وإذا ثبت الفضل (1) بين العامل ومن لا عمل له (2) كان ما يجب في العقول من حمده (3) هو الذي يحكم عليه بحقه ويشار إليه بذلك، وإذا أوجبت العقول له مزية على من لا عمل له كان العدل من الله تعالى معاملته بما جعله (4) في العقول له حقا. وقد أمر الله تعالى بالعدل ونهى عن الجور، فقال تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والاحسان) (5) (6).
(1) في بعض النسخ: الفصل. (2) بحار الأنوار 5: 366. (3) (ق): الحمد. (4) (ز): جعل. (5) النحل: 90. (6) بحار الأنوار 5: 336. 105 فصل: في الأعراف قال أبو جعفر: اعتقادنا في الأعراف أنه سور... إلى آخره (1) (2). قال الشيخ المفيد - رحمه الله -: قد قيل إن الأعراف جبل بين الجنة والنار. وقيل أيضا: إنه سور بين الجنة والنار. وجملة الأمر في ذلك: أنه مكان ليس من الجنة ولا من النار (3). وقد جاء الخبر بما ذكرناه، وأنه إذا كان يوم القيامة كان به رسول الله وأمير المؤمنين والأئمة من ذريته صلى الله عليه وآله وسلم وهم الذين عني الله سبحانه بقوله: (وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون) (4) وذلك أن الله تعالى يعلمهم أصحاب الجنة وأصحاب النار بسيماء يجعلها عليهم - وهي العلامات - وقد بين ذلك في قوله تعالى: (يعرفون كلا بسيماهم) و (يعرف المجرمون بسيماهم) (5) (6 ).
(1) الاعتقادات ص 70. (2) عنه في البحار 8: 340. (3) بحار الأنوار 8: 340. (4) الأعراف: 46. (5) الرحمن: 41. (6) بحار الأنوار 8: 340. 106 وقد قال الله تعالى: (إن في ذلك لآيات للمتوسمين وإنها لبسبيل مقيم) (1) فأخبر أن في خلقه طائفة يتوسمون الخلق فيعرفونهم بسيماهم. وروي عن أمير المؤمنين - عليه السلام - أنه قال في بعض كلامه: أنا صاحب العصا والميسم. يعني: علمه بمن يعلم حاله بالتوسم. وروي عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر - عليه السلام - أنه سئل عن قوله تعالى : (إن في ذلك لآيات للمتوسمين) قال: فينا نزلت أهل البيت. يعني: في الأئمة - عليهم السلام -. وقد جاء الحديث بأن الله تعالى يسكن الأعراف طائفة من الخلق (2) لم يستحقوا بأعمالهم الجنة على الثبات من غير عقاب، ولا استحقوا الخلود في النار وهم المرجون لأمر الله، ولهم الشفاعة، ولا يزالون على الأعراف حتى يؤذن لهم في دخول الجنة بشفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين والأئمة من بعده - عليهم السلام -. وقيل أيضا: إنه مسكن طوائف لم يكونوا في الأرض مكلفين فيستحقون بأعمالهم جنة ونارا، فيسكنهم الله ذلك المكان ويعوضهم على آلامهم في الدنيا بنعيم لا يبلغون به منازل أهل الثواب المستحقين له بالأعمال (3). وكل ما ذكرناه جائز في العقول. وقد وردت به أخبار - والله أعلم بالحقيقة من ذلك - إلا أن المقطوع به في جملته أن الأعراف مكان بين الجنة والنار يقف فيه من سميناه من حجج الله تعالى على خلقه، ويكون به يوم القيامة قوم من المرجين لأمر الله، وما بعد ذلك فالله أعلم بالحال فيه (4).
(1) الحجر: 75 - 76. (2) بحار الأنوار 8: 340. (3) بحار الأنوار 8: 341. (4) بحار الأنوار 8: 341. 107 فصل: في الصراط قال أبو جعفر: اعتقادنا في الصراط أنه حق، وأنه جسر (1) (2). قال الشيخ المفيد أبو عبد الله - رحمه الله -: الصراط في اللغة هو الطريق، فلذلك سمي الدين صراطا، لأنه طريق إلى الصواب، [وله سمي] (3) الولاء لأمير المؤمنين والأئمة من ذريته - عليهم السلام - صراطا (4). ومن معناه قال أمير المؤمنين - عليه السلام -: أنا صراط الله المستقيم، وعروته الوثقى التي لا انفصام لها. يعني: أن معرفته والتمسك به طريق إلى الله سبحانه. وقد جاء الخبر بأن الطريق يوم القيامة إلى الجنة كالجسر يمر به الناس، وهو الصراط الذي يقف عن يمينه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعن شماله أمير المؤمنين - عليه السلام - ويأتيهما النداء من قبل الله تعالى: (ألقيا في جهنم كل كفار عنيد) (5) وجاء الخبر أنه لا يعبر الصراط يوم القيامة إلا من كان معه براءة (6) من علي بن أبي طالب - عليه السلام - من النار (7) .
(1) الاعتقادات ص 70. (2) عنه في البحار 8: 70. (3) (ق) وبه يسمى. (4) بحار الأنوار 8: 70. (5) ق: 24. (6) برأت: يعني الفرمان الملكي. چ. (7) بحار الأنوار 8: 70. 108 وجاء الخبر بأن الصراط أدق من الشعرة وأحد من السيف على الكافر (1) . والمراد بذلك أنه لا تثبت لكافر قدم على الصراط يوم القيامة من شدة ما
(1) قال العلامة الشهرستاني في مجلة (المرشد ص 179 - 180 ج 1) في جواب هذا السؤال: من الوارد في الأخبار المأثورة عن الصراط أنه أدق من الشعر وأحد من السيف، فأي معنى يقصد من الشعرة والسيف؟ الجواب: لم يفصل كتاب الله الحكيم من هذا القبيل شيئا، وقد استعمل لفظ الصراط بمعنى الطريق والمسلك المؤدي إلى غاية قدسية مرغوبة، استعارة تمثل شرع الحق المؤدي إلى جنانه ورضوانه بالصراط. نعم، تضمنت تفاصيل السؤال بعض مرويات قاصرة الاسناد - ولا ضير - فقد وردت في شرحها أحاديث أخرى عن أئمة الاسلام تفسر الصراط الممدود بين النار والجنة كالشعرة دقة، وكالسيف حدة بسيرة الإمام أمير المؤمنين - عليه السلام - والحديث المجمع على صحته ناطق بأن عليا - عليه السلام - قسيم النار والجنة، وأن طريقته المثلى هي المسلك الوحيد المفضي إلى الجنان والرضوان. ومعلوم لدى الخبراء أن سيرة علي - عليه السلام - كانت أدق من الشعرة، فإنه - عليه السلام - ساوى في العطاء بين أكابر الصحابة الكرام، كسهل بن حنيف، وبين أدنى مواليهم، وكان يقص من أكمام ثيابه لإكساء عبده، ويحمل إلى اليتامى والأيامى أرزاقهم على ظهره في منتصف الليل، ويشبع الفقراء ويبيت طاوي الحشا، ويختار لنفسه من الطعام ما جشب، ومن اللباس ما خشن، ويوزع مال الله على عباد الله في كل جمعة ثم يكنس بيت المال ويصلي فيه، وهو يعيش على غرس يمينه وكد يده، وحاسب أخاه عقيلا بأدق من الشعرة في قصته المشهورة *، وطالب شريحا القاضي أن يساوي بينه وبين خصمه الإسرائيلي عند المحاكمة. إلى غير ذلك من مظاهر ترويضه النفس والزهد البليغ، حتى غدا الاقتداء به في إمامة المسلمين فوق الطوق. وكما كانت سيرة علي - عليه السلام - أدق من الشعرة كانت مشايعته في الخطورة أحد من السيف، نظرا إلى مزالق الأهواء والشهوات، ومراقبة السلطات من بني أمية وتتبعهم أولياء علي - عليه السلام - وأشياعه وأتباعه تحت كل حجر ومدر . * أنظر (منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة - ص 421 - 430 ج 7 ط إيران على الحجر) للعلامة المحقق الأديب والفقيه المتكلم الأريب الحاج ميرزه حبيب الله الموسوي الخوئي الآذربيجاني - ولما انجر الكلام إلى هذا المقام لا بأس بأن نشير إلى وجيز من ترجمة العلامة الخوئي - كما أفاد نفسه طاب رمسه - فنقول: قال في (مرآة الكتب - مخطوط): الحاج ميرزا حبيب الله من المعاصرين تشرفت بملاقاته في بلدة تبريز وكان مولده كما ذكره نفسه خامس شهر رجب سنة 1265 ه اشتغل بالتحصيل عند الأساتيذ الفخام كالسيد العلامة الحاج السيد حسين الترك والمحقق الحاج ملا علي بن الحاج ميرزا خليل الطهراني وله إجازة عامة منهما، وكان فاضلا محققا وله من المؤلفات: شرح نهج البلاغة، وحاشية على بعض أبواب القوانين في أربعة عشر ألف بيت، وكتاب منتخب الفن في حجية القطع والظن، وكتاب إحقاق الحق في تحقيق المشتق، وكتاب الجنة الواقية في أدعية نهار رمضان مع شرحها، وشرح كتاب القضاء والشهادات من الدروس. كذا أفاده سلمه الله. سافر في هذه الأواخر إلى طهران لعرض شرح نهج البلاغة على السلطان المغفور له مظفر الدين شاه واستدعاه أمره بطبعه فنال من السلطان المزبور احتراما وأمر بطبع الكتاب ثم عرض العوارض وتوفي السلطان المزبور (سنة 1324 ه) وتوفي هو رحمه الله في طهران سنة 1325 ه ولم أقف هل طبع شئ من الكتاب أم لا؟) . أقول: وقد طبع الكتاب أخيرا؟ بتبريز في سبعة أجزاء على النسخة التي كانت قد كتبت بمداد الطبع سنة 1325 - 1328 ه بأمر ولد المؤلف العالم الحاج أمين الاسلام نزيل طهران، وينتهي المطبوع منه إلى شرح الخطبة الثامنة والعشرين بعد المائتين، وقال كاتب النسخة في آخرها: (هذا آخر ما وفق إلا شرح بشرحه روح الله روحه وكتبته أنا حسب أمر ولده السيد السند الحاج أمين الاسلام... في ربيع الثاني 1328 ه). هذا وقد ذكر لي نجل المؤلف السيد نعمة الله (هاشمي) أن أباه العلامة مات بطهران ونقل جثمانه إلى بلدة قم المشرفة ودفن هناك قدس الله سره ورحمه رحمة واسعة. چ. 109 يلحقهم من أهوال يوم (1) القيامة ومخاوفها، فهم يمشون عليه كالذي يمشي على الشئ الذي هو أدق من الشعرة وأحد من السيف. وهذا مثل مضروب لما يلحق الكافر من الشدة في عبوره على الصراط، وهو طريق إلى الجنة وطريق إلى النار، يشرف (2) العبد منه إلى الجنة (3) ويرى منه أهوال النار.
(1) ليست في بقية النسخ. (2) (ز): يسير. (3) بحار الأنوار 8: 71. 110 وقد يعبر به عن الطريق المعوج فلهذا قال الله تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيما) (1) فميز بين طريقه الذي دعا إلى سلوكه من الدين، وبين طرق الضلال. وقال الله تعالى فيما أمر به عباده من الدعاء وتلاوة القرآن: (اهدنا الصراط المستقيم) (2) فدل على أن ما سواه صراط غير مستقيم. وصراط الله تعالى دين الله، وصراط الشيطان طريق العصيان، والصراط في الأصل - على ما بيناه - هو الطريق، والصراط يوم القيامة هو الطريق المسلوك إلى الجنة أو (3) النار - على ما قدمناه (4).
(1) الأنعام: 135. (2) الحمد: 6. (3) في بقية النسخ: و. (4) بحار الأنوار 8: 71. 111 فصل: في العقبات على طريق المحشر قال الشيخ أبو جعفر - رحمه الله - في العقبات: اسم كل عقبة اسم فرض أو أمر أو نهي (1) (2). قال الشيخ المفيد - رحمه الله -: العقبات عبارة عن الأعمال الواجبات (3) والمسألة عنها والمواقفة عليها، وليس المراد بها جبال في الأرض تقطع وإنما هي الأعمال شبهت (4) بالعقبات، وجعل الوصف لما يلحق الإنسان في تخلصه من تقصيره (5) في طاعة الله تعالى كالعقبة التي يجهد صعودها وقطعها (6). قال الله تعالى: (فلا اقتحم العقبة وما أدريك ما العقبة فك رقبة) (7) الآية، فسمى سبحانه الأعمال التي كلفها العبد عقبات تشبيها لها بالعقبات والجبال لما يلحق الإنسان في أدائها من المشاق، كما يلحقه في صعود العقبات وقطعها.
(1) الاعتقادات ص 71. (2) بحار الأنوار 7: 128 - 129 / 11. (3) في المطبوعة: الواجبة. (4) (ح) (ش): شبهها. (5) في المطبوعة: التقصير. (6) بحار الأنوار 7: 129. (7) البلد: 11 - 13. 112 قال أمير المؤمنين - عليه السلام -: إن أمامكم عقبة كؤودا (1) ومنازل مهولة (2)، لا بد من الممر بها، والوقوف عليها، فإما برحمة من الله نجوتم، وإما بهلكة ليس بعدها انجبار (3) (4). أراد - عليه السلام - بالعقبة: تخلص الإنسان من التبعات التي عليه، وليس كما ظنه الحشوية من أن في الآخرة جبالا وعقبات يحتاج الإنسان إلى قطعها ماشيا وراكبا (5)، وذلك لا معنى له فيما توجبه الحكمة من الجزاء، ولا وجه لخلق عقبات تسمى بالصلاة والزكاة والصيام والحج وغيرها من الفرائض، يسأم الإنسان أن يصعدها، فإن كان مقصرا في طاعة الله حال ذلك بينه وبين صعودها، إذ كان الغرض في القيامة المواقفة على الأعمال والجزاء عليها بالثواب والعقاب، وذلك غير مفتقر إلى تسمية (6) عقبات وخلق جبال، وتكليف قطع ذلك وتصعيبه (7) أو تسهيله مع أنه لم يرد خبر صحيح بذلك على التفصيل فيعتمد عليه وتخرج له الوجوه، وإذا لم يثبت بذلك خبر كان الأمر فيه ما ذكرناه (8 ).
(1) صعبة شاقة المصعد. (2) المهول: المخوف. ذو الهول. (3) انجبر صلح بعد الكسر. ج. (4) نهج البلاغة / الخطبة 202. (5) بحار الأنوار 7: 129. (6) (ح) (ش) (ق): نسبة. (7) بحار الأنوار 7: 130. (8) بحار الأنوار 7: 130 113 فصل: في الحساب والموازين (1) قال الشيخ أبو جعفر اعتقادنا في الحساب أنه حق (2). قال الشيخ المفيد - رحمه الله -: الحساب هو المقابلة بين الأعمال والجزاء عليها، والمواقفة للعبد على ما فرط منه، والتوبيخ له على سيئاته، والحمد له على حسناته، ومعاملته في ذلك باستحقاقه. وليس هو كما ذهبت العامة إليه من مقابلة الحسنات بالسيئات والموازنة (3) بينهما على حسب استحقاق الثواب والعقاب عليهما، إذ كان التحابط بين الأعمال غير صحيح، ومذهب المعتزلة فيه باطل غير ثابت، وما اعتمده (4) الحشوية في معناه غير معقول. والموازين هي التعديل بين الأعمال والجزاء عليها، ووضع كل جزاء في موضعه، وإيصال كل ذي حق إلى حقه. فليس الأمر في معنى ذلك على ما ذهب إليه أهل الحشو، من أن في القيامة موازين كموازين الدنيا، لكل ميزان كفتان توضع الأعمال فيها، إذ الأعمال أعراض (5)، والأعراض لا يصح وزنها، وإنما توصف بالثقل والخفة على وجه المجاز، والمراد بذلك أن ما ثقل (6) منها هو ما
(1) في بعض النسخ: الميزان. (2) الاعتقادات ص 73. (3) بحار الأنوار 7: 252. (4) (أ) (ح) (ش) (ق): يعتمده، (ز): اعتمد. (5) بحار الأنوار 7: 252. (6) (ز): يثقل. 114 كثر واستحق عليه عظيم الثواب، وما خف منها ما قل قدره ولم يستحق عليه جزيل الثواب. والخبر الوارد في أن أمير المؤمنين والأئمة من ذريته - عليهم السلام - هم الموازين، فالمراد أنهم المعدلون بين الأعمال فيما يستحق عليها، والحاكمون فيها بالواجب والعدل. ويقال فلان عندي في ميزان فلان، ويراد به نظيره. ويقال: كلام فلان عندي (1) أوزن من كلام فلان (2)، والمراد به أن كلامه أعظم وأفضل قدرا، والذي ذكره الله تعالى في الحساب والخوف منه إنما هو المواقفة على الأعمال، لأن من وقف على أعماله لم يتخلص من تبعاتها، ومن عفى الله تعالى عنه في ذلك فاز بالنجاة: (فمن ثقلت موازينه - بكثرة استحقاقه الثواب - فأولئك هم المفلحون * ومن خفت موازينه - بقلة أعمال ( 3) الطاعات - فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون) (4) والقرآن إنما أنزل بلغة العرب وحقيقة كلامها ومجازه، ولم ينزل على ألفاظ العامة وما سبق إلى قلوبها من الأباطيل (5).
(1) (ق): عندنا. (2) بحار الأنوار 7: 252. (3) (ح) (ش) (ق): أعماله. (4) المؤمنون: 102 - 103. (5) بحار الأنوار 7: 252. 115 فصل: في الجنة والنار (*) قال أبو جعفر اعتقادنا في الجنة أنها دار البقاء (1)، (2). قال الشيخ المفيد - رحمه الله -: الجنة، دار النعيم لا يلحق من دخلها نصب ولا يلحقهم فيها لغوب، و (3) جعلها الله سبحانه دارا لمن عرفه وعبده، [ونعيمها دائم] (4) لا انقطاع له، والساكنون فيها على أضرب: فمنهم: من أخلص لله تعالى، فذلك الذي يدخلها على أمان من عذاب الله تعالى. ومنهم: من خلط عمله الأصلح بأعماله (5) السيئة كأن يسوف منها التوبة، فاخترمته المنية قبل ذلك، فلحقه خوف من العقاب في عاجله وآجله، أو في عاجله دون آجله، ثم سكن الجنة بعد [عفو الله أو عقابه] (6)، (7).
* أنظر كتاب (علم اليقين في أصول الدين - ص 208 - 209) للمحدث القاشاني. ج. (1) الاعتقادات ص 76. (2) البحار 8: 200 - 201 / 204 و 8: 324 - 325 /؟؟؟. (3) ليست في (ز). (4) (ق): وجعل نعيمها دائا. (5) (ح) (أ) (ش): بأعمال سيئة، (ق): بالأعمال. (6) في بقية النسخ: عفو أو عقاب. (7) بحار الأنوار 8: 201. 116 ومنهم: من يتفضل (1) عليه بغير عمل سلف منه في الدنيا، وهم الولدان المخلدون الذين جعل الله تعالى تصرفهم لحوائج أهل الجنة ثوابا للعاملين (2)، وليس في تصرفهم مشاق عليهم ولا كلفة، لأنهم مطبوعون إذ ذاك على المسار بتصرفهم في حوائج المؤمنين. وثواب أهل الجنة الالتذاذ [بالمآكل والمشارب] (3) والمناظر والمناكح وما تدركه حواسهم مما يطبعون على الميل إليه، ويدركون مرادهم بالظفر به وليس في الجنة من البشر من يلتذ بغير مأكل ومشرب وما تدركه الحواس من الملذوذات. وقول من يزعم (4): أن في الجنة بشرا يلتذ بالتسبيح والتقديس من دون الأكل والشرب، قول شاذ عن دين الاسلام، وهو مأخوذ من مذهب النصارى الذين زعموا أن المطيعين في الدنيا يصيرون في الجنة ملائكة لا يطعمون ولا يشربون ولا ينكحون . وقد أكذب الله سبحانه هذا القول في كتابه بما رغب العاملين (5) فيه من الأكل والشرب والنكاح، فقال تعالى: (أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا) (6) الآية، وقال تعالى: (فيها أنهار من ماء غير آسن) (7) الآية ، وقال تعالى:
(1) (ح): تفضل. (2) (أ) (ز) (ق): العالمين. (3) (ق): بالمأكل والمشرب. (4) (أ) (ز): زعم. (5) في بعض النسخ: العالمين. (6) الرعد: 35. (7) محمد: 15. 117 (حور مقصورات في الخيام) (1) وقال تعالى: (وحور عين) (2) وقال سبحانه: (وزوجناهم بحور عين) (3) وقال سبحانه: (وعندهم قاصرات الطرف أتراب) (4) وقال سبحانه: (إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون هم وأزواجهم) (5) الآية، وقال سبحانه: (وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة) (6). فكيف استجاز من أثبت في الجنة طائفة من البشر لا يأكلون ولا يشربون ويتنعمون بما به الخلق من الأعمال يتألمون، وكتاب الله تعالى شاهد بضد ذلك والاجماع على خلافه، لولا أن (7) قلد في ذلك من لا يجوز تقليده أو عمل على حديث موضوع (8)؟! وأما النار، فهي [دار من] (9) جهل الله سبحانه، وقد يدخلها بعض من عرفه [بمعصية الله] (10) تعالى، غير أنه لا يخلد فيها، بل يخرج منها إلى النعيم المقيم، وليس يخلد فيها إلا الكافرون. وقال تعالى: (فأنذرتكم نارا تلظى * لا يصليها إلا الأشقى * الذي كذب وتولى) (11) يريد [بالصلي هاهنا] (12) الخلود فيها، وقال تعالى: (إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا) (13) وقال تعالى: (إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم) (14)
(1) الرحمن: 72. (2) الواقعة: 22. (3) الدخان: 54. (4) ص: 52. (5) يس: 55. (6) البقرة: 25. (7) (أ) (ح) (ق): أنه. (8) بحار الأنوار 8: 202. (9) (ز): دار القرار لمن. (10) (ز): بمعصيته. (11) الليل: 14 - 16. (12) (ق): بالأشقى ها هنا الكافر، وبالإصلاء. (3 1) النساء: 56. (14) المائدة: 36. 118 الآيتان. وكل آية تتضمن ذكر الخلود في النار فإنما هي في الكفار دون أهل المعرفة بالله تعالى بدلائل العقول والكتاب المسطور والخبر الظاهر المشهور والاجماع والرأي (1) السابق لأهل البدع من أصحاب الوعيد. [حد التكفير] فصل: وليس يجوز أن يعرف الله تعالى من هو كافر به، ولا يجهله من هو به مؤمن، وكل كافر على أصولنا فهو جاهل بالله، ومن خالف أصول الإيمان من المصلين إلى قبلة الاسلام فهو عندنا جاهل بالله سبحانه وإن أظهر القول بتوحيده تعالى، كما أن الكافر برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جاهل بالله وإن كان فيهم من يعترف بتوحيد الله تعالى ويتظاهر بما يوهم المستضعفين أنه معرفة بالله تعالى. وقد قال الله تعالى: (فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا) (2) فأخرج بذلك المؤمن عن أحكام الكافرين، وقال تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم) (3) الآية، فنفى عمن كفر بنبي الله صلى الله عليه وآله وسلم الإيمان، ولم يثبت له مع الشك فيه المعرفة بالله على حال. وقال سبحانه وتعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر - إلى قوله - وهم صاغرون) (4) فنفى الإيمان عن اليهود والنصارى، وحكم عليهم بالكفر والضلال (5).
(1) ليست في بقية النسخ. (2) الجن: 13. (3) النساء: 65. (4) التوبة: 29. (5) بحار الأنوار 8: 326. 119 فصل: في كيفية نزول الوحي قال الشيخ أبو جعفر - رحمه الله - [في نزول الوحي] (1): اعتقادنا في ذلك (2) أن بين عيني إسرافيل (3)... إلخ (4)، (5). قال الشيخ المفيد - رحمه الله (6) -: هذا أخذه أبو جعفر - رحمه الله - من شواذ الحديث، وفيه خلاف لما قدمه من أن اللوح ملك من ملائكة الله تعالى. وأصل الوحي هو الكلام الخفي (7)، ثم قد يطلق على كل شئ قصد به إفهام المخاطب على السر له عن غيره والتخصيص له به دون من سواه، وإذا أضيف إلى الله تعالى كان [فيما يخص] (8) به الرسل - صلى الله عليهم - خاصة دون من سواهم على عرف الاسلام وشريعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
(1) ليست في بقية النسخ. (2) (ز): اللوح. (3) (ق): زيادة: لوحا، فإذا أراد الله تعالى أن يتكلم بالوحي ضرب اللوح على جبين إسرافيل، فينظر فيه، وألقاه إلى ميكائيل، ويلقيه ميكائيل إلى جبرئيل، ويلقيه جبرئيل إلى الأنبياء. (4) الاعتقادات ص 81. (5) عنه في البحار 18: 248 / 1. (6) بحار الأنوار 18: 248. (7) بحار الأنوار 26: 83. (8) (ز): يختص. 120 قال الله تعالى: (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه) (1) الآية، فاتفق أهل الاسلام على أن الوحي كان رؤيا مناما أو كلاما سمعته أم موسى في منامها على الاختصاص، قال الله تعالى: (وأوحى ربك إلى النحل) (2) الآية، يريد به الإلهام الخفي، إذ كان [خاصا بمن] (3) أفرده به دون من سواه، فكان علمه حاصلا للنحل بغير كلام جهز به المتكلم فأسمعه غيره. وقال تعالى: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم) (4) بمعنى ليوسوسون (5) إلى أوليائهم بما يلقونه من الكلام في أقصى أسماعهم، فيخصون بعلمهم (6) دون من سواهم، وقال سبحانه: (فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم) (7) يريد به أشار إليهم من غير إفصاح الكلام، شبه ذلك بالوحي لخفائه عمن سوى المخاطبين، ولستره (8) عمن سواهم. وقد يري الله سبحانه وتعالى في المنام خلقا كثيرا ما يصح تأويله [ويثبت حقه] (9) لكنه لا يطلق بعد استقرار الشريعة عليه اسم الوحي، ولا يقال في هذا الوقت لمن طبعه (10) الله على علم شئ أنه يوحى إليه. وعندنا أن الله تعالى يسمع الحجج بعد نبيه صلى الله عليه وآله وسلم كلاما يلقيه إليهم (11) في علم ما يكون، لكنه لا يطلق عليه اسم الوحي لما قدمناه (12) من إجماع المسلمين على أنه لا وحي [إلى أحد] (13) بعد
(1) القصص: 7. (2) النحل: 68. (3) في بعض النسخ: خالصا لمن. (4) الأنعام: 121. (5) (ح) (ز) (ق): يوسوسون. (6) (ق): بعلمه. (7) مريم: 11. (8) (ا): وستره، (ز) والمطبوعة: وسره. (9) في بعض النسخ: وتثبت حقيقته. (10) في بعض النسخ: أطلعه. (11) (ح) زيادة: أي الأوصياء. (12) أنظر (أوائل المقالات ص 78 الطبعة الأولى). چ (13) (ح): لأحد. 121 نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه لا يقال في شئ مما ذكرناه (1) أنه وحي إلى أحد. ولله تعالى أن يبيح إطلاق الكلام أحيانا ويحظره أحيانا، ويمنع السمات (2) بشئ حينا ويطلقها حينا. فأما المعاني، فإنها لا تتغير عن حقائقها على ما قدمناه (3). فصل: قال الشيخ المفيد - رحمه الله تعالى - (4): فأما الوحي من الله تعالى إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فقد كان تارة بإسماعه الكلام من غير واسطة، وتارة بإسماعه الكلام على ألسن الملائكة. والذي ذكره أبو جعفر - رحمه الله - من اللوح والقلم وما ثبت فيه فقد جاء به حديث ، إلا أنا لا نعزم على القول (5) به، ولا نقطع على الله بصحته، ولا نشهد منه إلا بما علمناه (6)، وليس الخبر به متواترا يقطع العذر ولا عليه إجماع، ولا نطق به القرآن، ولا ثبت عن حجة الله تعالى فينقاد له والوجه أن نقف فيه ونجوزه ولا نقطع به ولا نجزم (7) له (8) ونجعله في حيز الممكن. فأما قطع أبي جعفر به وعلمه على اعتقاده فهو يستند إلى ضرب من التقليد، ولسنا من التقليد في شئ (9).
(1) (ز): ذكرنا. (2) في المطبوعة: السماع. في (المنجد - مادة وسم) السمة: مص. العلامة. أثر الكي ج سمات چ. (3) بحار الأنوار 26: 84. (4) بحار الأنوار 18: 250. (5) (أ): القبول. (6) (ق) (ز): علمنا. (7) كذا في المطبوعة، وفي النسخ المخطوطة بدل (نجزم) كلمة لا تقرأ فراجع. (8) كذا في جميع النسخ، والأنسب: به. (9) بحار الأنوار 18: 250. 122 فصل: في نزول القرآن قال الشيخ أبو جعفر - رحمه الله - (1)، (2): إن القرآن نزل في شهر رمضان في ليلة القدر جملة واحدة إلى البيت المعمور، ثم أنزل من البيت المعمور في مدة عشرين سنة (3)... إلخ (4). قال الشيخ المفيد - رحمه الله - (5): الذي ذهب إليه أبو جعفر في هذا الباب أصله حديث واحد لا يوجب علما ولا عملا (6). ونزول القرآن على الأسباب الحادثة حالا بحال (7) يدل على خلاف ما تضمنه الحديث، وذلك أنه قد تضمن حكم ما حدث وذكر ما جرى على وجهه، وذلك لا يكون على الحقيقة إلا
(1) الاعتقادات ص 82. (2) عنه في البحار 18: 250 - 251 / 3. (3) بحار الأنوار 18: 250. (4) تمام الكلام: وأن الله عز وجل أعطى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم العلم جملة، ثم قال له: لا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه (وقل رب زدني علما) وقال: (لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه) الآية (سورة القيامة - 17 - 18). چ. (5) بحار الأنوار 18: 252. (6) أنظر (أمالي السيد المرتضى - ص 161 ج 4 ط مصر) چ. (7) في المطبوعة: فحالا. 123 بحدوثه عند السبب، ألا ترى إلى قوله تعالى: (وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم) (1) وقوله: (وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم) (2) وهذا خبر عن ماض، ولا يجوز أن يتقدم مخبره، فيكون حينئذ جزاءا (3) عن ماض وهو لم يقع بل هو في المستقبل. وأمثال ذلك في القرآن كثيرة. وقد جاء الخبر بذكر الظهار وسببه، وأنها (4) لما [جادلت النبي صلى الله عليه وآله وسلم] (5) في ذكر الظهار أنزل الله تعالى: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها) (6) وهذه قصة (7) كانت بالمدينة فكيف ينزل الله تعالى الوحي بها بمكة قبل الهجرة، فيخبر بها أنها قد كانت ولم تكن! (8) ولو تتبعنا قصص القرآن لجاء مما ذكرناه (9) كثير لا يتسع به المقال، وفيما ذكرناه منه كفاية لذوي الألباب. وما أشبه ما جاء به الحديث بمذهب المشبهة الذين زعموا أن الله سبحانه وتعالى لم يزل متكلما بالقرآن ومخبرا عما يكون بلفظ كان، وقد رد عليهم أهل التوحيد بنحو ما ذكرناه. وقد يجوز في الخبر الوارد في نزول القرآن جملة في ليلة القدر بأن المراد أنه نزل جملة منه في ليلة القدر ثم تلاه ما نزل منه إلى وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأما أن يكون نزل بأسره وجميعه في ليلة القدر فهو بعيد مما يقتضيه ظاهر القرآن والمتواتر من الأخبار وإجماع العلماء على اختلافهم في الآراء (10).
(1) النساء: 155. (2) الزخرف: 20. (3) في المطبوعة وبعض النسخ: خبرا. (4) في بعض النسخ: وإنما. (5) (ز): جادلته التي. (6) المجادلة: 1. (7) (ق): قضية. (8) أنظر مجمع البيان ص 246 ج 5 ط صيدا للشيخ الطوسي ره چ. (9) (ق): ذكرنا. (10) أنظر تفسير المنار ص 171 - 172 ج 2 ط 1 مصر چ. 124 فصل: فأما قوله تعالى: (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه) (1) ففيه وجهان غير ما ذكره أبو جعفر وعول فيه على حديث شاذ: أحدهما: أن الله تعالى نهاه عن التسرع إلى تأويل القرآن قبل الوحي إليه به، وإن كان في الامكان من جهة اللغة ما قالوه على مذهب أهل اللسان (2). والوجه الآخر: أن جبرئيل - على السلام - كان يوحي إليه بالقرآن فيتلوه معه
(1) طه: 114. قال العلامة الشهرستاني عند جوابه عن سؤال رفعناه إلى معاليه شعبان سنة 1354 ه ، ما نصه: (الصواب في تفسيرها (أي تفسير الآية 114 من سورة طه) هو الوجه الثالث مما ذكره المحقق الطبرسي * في (مجمع البيان) وذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتوقع نزول الوحي عليه يوميا وحول كل حادثة تأمينا لقلوب المؤمنين ومزيدا لعلمه فأوحى إليه سبحانه بهذه الآية قائلا: (فتعالى الله الملك الحق) يعني أن الله في مقام ملوكيته و حقانيته يتعالى شأنه عن خلف الوعد وعن خلاف الحق فينبغي أن تستقر قلوب المؤمنين به فلا موجب باستعجالك بنزول القرآن قبل أن يتحتم من الله إيحاؤه كما لا موجب لاستزادة علمك بنزول الآيات فقط بل يمكن ذلك بدعائك وطلب مزيد العلم من ربك، وعليه فالتعجيل بالقرآن هو الالحاح بنزوله ومعنى (يقضى إليك) تحتم نزوله إليه حسب ما يراه الله من المصلحة). ا ه، وانظر ملحق (أمالي السيد المرتضى - ص 395 ط طهران 1272 ه). چ. (2) أنظر كتاب أوائل المقالات ص 55 چ. * ومما هو جدير بالتسطير أن طبرس المنسوب إليه الإمام السعيد أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي - من أكابر علماء الإمامية وجهابذتهم في القرن السادس للهجرة - بسكون الباء الموحدة معرب (تفرش) من توابع قم، وليس مفتوح الباء منسوبا إلى طبرستان كما هو المشهور، يظهر ذلك من الفصل الذي عقده أبو الحسن علي بن زيد البيهقي الشهير بابن فندق المتوفى سنة 565 ه في ( تاريخ بيهق - ص 242 ط طهران) لترجمته، وإن شئت مزيد التوضيح والتبيين فعليك بالرجوع إلى المقالة التي دبجها يراعة العلامة أحمد (بهمنيار *) أستاذ جامعة طهران، وأدرجها في ذيل التاريخ المذكور (ص 347 - 353) فراجها واغتنم وكن من الشاكرين. وقال العلامة العاملي في (أعيان الشيعة - ص 97 - 98 ج 9) في ترجمة الشيخ أبي منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي صاحب الاحتجاج: والأكثر أن يقال في النسبة إلى طبرستان طبري وفي النسبة إلى طبرية فلسطين طبراني على غير قياس للفرق بينهما كما قالوا: صنعاني وبهراني وبحراني في النسبة إلى صنعاء وبهراء والبحرين، وما يقال إنه لم يسمع في النسبة إلى طبرستان طبري غير صحيح بل هو الأكثر ولو قيل أنه لم يسمع في النسبة إليها طبرسي لكان وجها لما في الرياض عن صاحب تاريخ قم المعاصر لابن العميد من أن طبرس ناحية معروفة حوالي قم مشتملة على قرى ومزارع كثيرة، وإن هذا الطبرسي وسائر العلماء المعروفين بالطبرسي منسوبون إليها، ويستشهد له بما عن الشهيد الثاني في حواشي إرشاد العلامة من نسبة بعض الأقوال إلى الشيخ علي بن حمزة الطبرسي القمي والله أعلم... في رياض العلماء أن هذا الطبرسي المترجم غير صاحب مجمع البيان لكنه معاصر له وهما شيخا ابن شهرآشوب وأستاذاه قال: وظني أن بينهما قرابة وكذا بينهما وبين الشيخ حسن بن علي بن محمد بن علي بن الحسن الطبرسي المعاصر للخواجة نصير الدين الطوسي). وقد اختار هذا الرأي السديد صديقنا العلامة السعيد محمد علي القاضي الطباطبائي التبريزي مد ظله - نزيل النجف الأشرف - فجاد يراعه الطاهر بمقال باهر حول كلمتي (طبرس - طبرسي) ونشر ذلك المقال القيم في مجلة (العرفان - ص 371 - 375 ج 3 مج 39 ط صيدا - لبنان) تلك المجلة الراقية التي خدمت العلم والأدب عشرات الأعوام فأقيم لها مهرجان ذهبي في مدينة صيدا الجميلة هذا العام، ومؤسسها ومنشئها هو العلامة الأستاذ صديقنا الشيخ أحمد عارف الزين ذلك الرجل المجاهد الذي طالما خدم الدين الاسلامي والمذهب الإمامي بيراعه الطاهر وقلمه القوي السيال. حفظه الله علما للعلم والدين چ. * اقرأ وجيزا من ترجمته في كتابي (سخنوران إيران در عمر حاضر ص 165 ج 2 ط هند) و (نثر فارسي معامر - ص 97 ط طهران). چ. 125 حرفا بحرف، فأمره الله تعالى أن لا يفعل ذلك ويصغي إلى ما يأتيه به جبرئيل، أو ينزله الله تعالى عليه بغير واسطة حتى يحصل الفراغ منه، فإذا تم الوحي به تلاه ونطق به وقرأه. فأما ما ذكره المعول على الحديث من التأويل فبعيد، لأنه لا وجه لنهي الله
126 تعالى له عن العجلة بالقرآن الذي هو في السماء الأربعة حتى يقضى إليه وحيه، لأنه لم يكن محيطا علما بما في السماء الرابعة قبل الوحي به إليه، فلا معنى لنهيه عما ليس في إمكانه. اللهم إلا أن يقول قائل ذلك أنه كان محيطا علما بالقرآن المودع في السماء الرابعة، فينتقض كلامه ومذهبه، لأنه كان في السماء الرابعة لأن ما في صدر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحفظه في الأرض فلا معنى لاختصاصه بالسماء، ولو كان ما في حفظ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوصف بأنه في السماء الرابعة خاصة لكان ما في حفظ غيره موصوفا بذلك، ولا وجه يكون حينئذ لإضافته إلى السماء الرابعة، ولا إلى السماء الأولى فضلا عن السماء الرابعة! ومن تأمل ما ذكرناه علم أن تأويل الآية على ما ذكره المتعلق بالحديث بعيد عن (1) الصواب (2).
(1) (ح) (ق): من. (2) بحار الأنوار 18: 253. 127 فصل: في العصمة قال أبو جعفر - رحمه الله -: باب الاعتقاد في العصمة (1). قال الشيخ المفيد - رحمه الله - (2): العصمة من الله تعالى لحججه (3) هي التوفيق واللطف والاعتصام من الحجج بها عن الذنوب والغلط في دين الله تعالى، والعصمة [تفضل من الله] (4) تعالى على من علم أنه يتمسك بعصمته، والاعتصام فعل المعتصم، وليست العصمة مانعة من القدرة (5) على القبيح، ولا مضطرة للمعصوم إلى الحسن، ولا ملجئة له إليه، بل هي الشئ الذي يعلم الله تعالى أنه إذا فعله بعبد من عبيده لم يؤثر معه معصيته له، وليس كل الخلق يعلم هذا من حاله، بل المعلوم منهم ذلك هم الصفوة والأخيار.
(1) الاعتقادات ص 96. (2) بحار الأنوار 17: 96. (3) قال المصنف قده في رسالة (النكت الاعتقادية - ص 45 - 46 ط 2 بغداد) فإن قيل ما حد العصمة. والجواب - العصمة لطف يفعله الله بالمكلف بحيث يمنع منه وقوع المعصية وترك الطاعة مع قدرته عليهما. فإن قيل ما الدليل على أنه معصوم من أول عمره إلى آخره. والجواب - الدليل على ذلك أنه لو عهد منه السهو والنسيان لارتفع الوثوق منه عند اخباراته ولو عهد منه خطيئة * لتنفرت العقول من متابعته فتبطل فائدة البعثة. چ. (4) (ز) من تفضل الله. (5) (ز): المقدرة. * أما بعض الآيات وشواذ الأخبار المتضمنة نسبة الخطايا والمعامي إلى الأنبياء أو إلى نبينا عليه وعليهم السلام فقد أجاب عنها تلميذ المصنف أعني الشريف المرتضى في كتاب (تنزيه الأنبياء - ط إيران ونجف). هبة الدين الحسيني. 128 قال الله تعالى: (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى) (1) الآية، وقال سبحانه: (ولقد اخترناهم على علم على العالمين) (2) وقال سبحانه: (وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار) (3). والأنبياء والأئمة - عليهم السلام - (4) من بعدهم معصومون في حال نبوتهم وإمامتهم من الكبائر كلها والصغائر، والعقل يجوز عليهم ترك مندوب إليه على غير التعمد للتقصير والعصيان، ولا يجوز عليهم ترك مفترض إلا أن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة - عليهم السلام - من بعده كانوا سالمين من ترك المندوب، والمفترض قبل حال إمامتهم وبعدها. فصل (5): فأما الوصف لهم بالكمال في كل أحوالهم، فإن المقطوع به كمالهم في جميع أحوالهم التي كانوا فيها حججا لله تعالى على خلقه.
(1) الأنبياء: 101. (2) الدخان: 32. (3) ص 47. (4) قال المصنف قده في رسالة (النكت الاعتقادية - ص 48 - 49 ط 2): فإن قيل ما الدليل على أن الإمام يجب أن يكون معصوما. والجواب - الدليل على ذلك من وجوه: الأول: إنه لو جاز عليه الخطاء لافتقر إلى إمام آخر يسدده ثم ننقل الكلام إليه ويتسلسل أو يثبت المطلوب. الثاني: إنه لو جاز عليه فعل الخطيئة (فإن) وجب الانكار عليه سقط محله من القلوب فلا يتبع، والغرض من نصبه اتباعه (فيتنقض الغرض) وإن لم يجب الإنكار عليه سقط وجوب النهي عن المنكر وهو باطل. الثالث: إنه حافظ للشرع فلو لم يكن معصوما لم تؤمن منه الزيادة والنقصان. چ. (5) قال المؤلف - قدس - في جواب المسألة السادسة والثلاثين من المسائل العكبرية: إن الطاعة في وقت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانت له من جهة الإمامة دون غيره، والأمر له خاصة دون من سواه، فلما قبض صلى الله عليه وآله وسلم صارت الإمامة من بعده لأمير المؤمنين - عليه السلام - ومن عداه من الناس كافة رعية له، فلما قبض - عليه السلام - صارت الإمامة للحسن بن علي، والحسين - عليه السلام - إذ ذاك رعية لأخيه الحسن - عليه السلام -، فلما قبض الحسن - عليه السلام - صار الحسين إماما مفترض الطاعة على الإمام. وهكذا حكم كل إمام وخليفة في زمانه، ولم تشترك الجماعة في الإمامة معا، وكانوا فيها على الترتيب الذي ذكرناه. فصل: وقد ذهب قوم من أصحابنا الإمامية إلى أن الإمامة كانت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين والحسن والحسين - عليهم السلام - في وقت واحد ، إلا أن النطق والأمر والتدبير كان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مدة حياته دونهم، وكذلك كان الأمر والتدبير لأمير المؤمنين دون الحسن والحسين، وجعل الإمام في وقت صاحبه صامتا وجعل الأول ناطقا. وهذا خلاف في العبارة، والأصل ما قدمناه. چ 129 وقد جاء الخبر بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة - عليهم السلام - من ذريته كانوا حججا لله تعالى منذ أكمل عقولهم إلى أن قبضهم، ولم يكن لهم قبل أحوال التكليف أحوال نقص وجهل، فإنهم يجرون مجرى عيسى ويحيى - عليهما السلام - في حصول الكمال لهم مع صغر السن وقبل بلوغ الحلم. وهذا أمر تجوزه العقول ولا تنكره، وليس إلى تكذيب الأخبار سبيل، والوجه أن نقطع على كمالهم - عليهم السلام - في العلم والعصمة في أحوال النبوة والإمامة ، ونتوقف فيما قبل ذلك، وهل كانت أحوال نبوة وإمامة أم لا (1) ونقطع على أن العصمة لازمة لهم منذ أكمل الله تعالى عقولهم إلى أن قبضهم - عليهم السلام - (2).
(1) في هذه العبارة تأمل عن غموض، ويحتمل أن يكون عطفا على (فيما قبل ذلك) فيكون المراد التوقف في أمرين: الأول: الحكم بكمال العلم والعصمة قبل البعثة وتصدي الإمامة. والثاني: الحكم بفعلية الاتصاف بالنبوة والإمامة قبل ذلك، ويحتمل أيضا أن تكون الواو زائدة أو مستأنفة وكان تعليلا. للحكم بالتوقف في كمال العلم والعصمة، وحاصل المعنى يلزم أن نتوقف في الحكم بكمالهم في العلم والعصمة قبل البعثة وتصدي الإمامة بعلة الشك في اتصافهم بالنبوة والإمامة قبل ذلك. ج (2) بحار الأنوار 67: 97. 130 فصل: في الغلو والتفويض قال أبو جعفر: باب الاعتقاد في الغلو والتفويض... إلى آخره (1). قال الشيخ المفيد - رحمه الله (2): الغلو في اللغة هو [التجاوز عن الحد ] (3) والخروج عن القصد. قال الله تعالى: (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق) (4) الآية، فنهى عن تجاوز الحد في المسيح، وحذر من الخروج عن القصد في القول، وجعل ما ادعته النصارى فيه غلوا لتعديه الحد على ما بيناه. والغلاة من المتظاهرين بالاسلام هم الذين نسبوا أمير المؤمنين والأئمة من ذريته - عليهم السلام - إلى الألوهية والنبوة، ووصفوهم من الفضل في الدين والدنيا إلى ما تجاوزوا فيه الحد، وخرجوا عن القصد، وهم ضلال كفار حكم فيهم أمير المؤمنين - عليه السلام - بالقتل والتحريق بالنار، وقضت الأئمة - عليهم السلام - عليهم بالإكفار والخروج عن الاسلام (5). فصل: فأما ما ذكره أبو جعفر - رحمه الله - من مضي نبينا والأئمة - عليهم السلام - بالسم والقتل، فمنه ما ثبت، ومنه ما لم يثبت، والمقطوع به أن أمير المؤمنين والحسن والحسين - عليهم السلام - خرجوا من الدنيا بالقتل ولم يمت أحدهم (6) حتف أنفه (7)،
(1) الاعتقادات ص 97. (2) بحار الأنوار 25: 344. (3) (أ) (ح) (ز) (ش) (ق): تجاوز الحد. (4) النساء: 71. (5) بحار الأنوار 25: 345. (6) (ق) (ز): أحد منهم. (7) بحار الأنوار 27: 216. 131 وممن مضى بعدهم مسموما موسى بن جعفر - عليه السلام - ويقوى في النفس أمر الرضا - عليه السلام - (1) وإن كان فيه شك، فلا طريق إلى الحكم فيمن عداهم بأنهم سموا أو اغتيلوا أو قتلوا صبرا، فالخبر بذلك يجري مجرى الإرجاف (2)، وليس إلى تيقنه سبيل (3) (4).
(1) أنظر (كشف الغمة ص 264 ط إيران 1294 ه) لبهاء الدين علي بن عيسى الأربلي المتوفى سنة 692 أو 693، وإلى (البحار ص 91 - 92 ج 12 ط كمباني). قال المحدث الفقيه الرباني الشيخ يوسف البحراني (1107 - 1186 ه) في كتابه (الحدائق الناضرة ص 449 مجلد كتاب الحج ط تبريز): الإمام أبو الحسن علي بن موسى الرضا - عليه السلام -... وقبض بطوس في آخر صفر سنة ثلاث ومائتين، وهو ابن خمس وخمسين سنة... وبعض الأخبار يدل على أنه قبض مسموما سمه المأمون العباسي. وإليه ذهب الصدوق - رحمه الله - وأكثر أصحابنا لم يذكروه. أنظر كتاب (أعيان الشيعة ص 205 - 211 ج 4 ق 2 ط 1 دمشق) للعلامة السيد محسن العاملي - رحمه الله. والعدد السابع من مجلة (مهر - الفارسية - ص 740 ط طهران 1313 ش ه) لسنتها الثانية، وإلى ذيل كتاب (تاريخ مختصر إيران ص 20 - 24 ط طهران 1314 ش). بقلم العلامة الدكتور صادق رضا زاده شفق أستاذ جامعة طهران *. * اقرأ مختصرا من ترجمته في كتابي (سخنوران إيران در عصر حاضر ج 2 ط هند) و (نثر فارسي معاصر - 138 ط طهران). (2) أرجف: خاض في الأخبار السيئة والفتن قصد أن يهيج الناس. أنظر (مجمع البحرين - رجف) أيضا. چ (3) بحار الأنوار 27: 216. (4) قال الشيخ المفيد - رحمه الله - في كتاب (الأنساب والزيارات) من تأليفه النفيس (المقنعة ص 72 - 75 ط 1274 ه): وقبض (رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) مسموما لليلتين بقيتا من صفر سنة عشرة من الهجرة، وهو ابن ثلاث وستين سنة. وقبض (أمير المؤمنين - عليه السلام -) قتيلا بالكوفة ليلة الجمعة لتسع ليال بقين من شهر رمضان سنة أربعين للهجرة وله يومئذ ثلاث وستون سنة. وقبض (الحسن بن علي - عليه السلام -) مسموما بالمدينة في صفر سنة تسع وأربعين من الهجرة، فكان سنه - عليه السلام - يومئذ سبعا وأربعين سنة. وقبض (الحسين بن علي - عليه السلام -) قتيلا بطف كربلا من أرض العراق يوم الاثنين العاشر من المحرم قبل زوال الشمس سنة إحدى وستين من الهجرة، وله يومئذ ثماني وخمسون سنة. وقبض (علي بن الحسين - عليه السلام -) بالمدينة سنة خمس وتسعين وله يومئذ سبع وخمسون سنة. وفي (التهذيب ص 27 ت 2 ط إيران): وقبض (محمد بن علي - عليه السلام -) بالمدينة سنة أربع عشرة ومائة، وكان سنه يومئذ سبعا وخمسين سنة. وقبض (جعفر بن محمد الصادق - عليه السلام -) بالمدينة في شوال سنة ثمانية وأربعين ومائة، وله يومئذ خمس وستون سنة. وقبض (موسى بن جعفر - عليه السلام -) قتيلا بالسم ببغداد في حبس السندي بن شاهك لست بقين من رجب سنة ثلاث وثمانين ومائة، وكان سنه يومئذ خمسا وخمسين سنة. وقبض (علي بن موسى الرضا - عليه السلام -) بطوس من أرض خراسان في صفر سنة ثلاث ومائتين، وهو يومئذ ابن خمس وخمسين سنة. وقبض (محمد بن علي - عليه السلام -) ببغداد في آخر ذي القعدة سنة عشرين ومائتين، وله يومئذ خمس وعشرون سنة. وقبض (علي بن محمد - عليه السلام -) بسر من رأى في رجب سنة أربع وخمسين ومائتين، وله يومئذ إحدى وأربعون سنة وسبعة أشهر. وقبض (الحسن بن علي - عليه السلام -) بسر من رأى لثمان خلون من شهر ربيع الأول سنة ستين ومائتين، وكان سنه يومئذ ثمانيا وعشرين سنة. انتهى ملخصا. هذا وقد قال المصنف - رحمه الله - في كتابه (الارشاد) في هذا الموضوع - أعني كيفية وفاة الأئمة الطاهرين ومدة أعمارهم - بمثل ما قاله في كتابه (المقنعة) عينا بدون تفاوت قيد شعرة معنى، فتدبر جيدا. چ 132 والمفوضة صنف من الغلاة، وقولهم الذي فارقوا (1) به من سواهم من
(1) (ق): خالفوا. 133 الغلاة اعترافهم بحدوث الأئمة وخلقهم ونفي القدم عنهم وإضافة الخلق والرزق مع ذلك إليهم (1)، ودعواهم أن الله سبحانه وتعالى تفرد بخلقهم خاصة، وأنه فوض إليهم خلق العالم بما فيه وجميع الأفعال. والحلاجية ضرب من أصحاب التصوف، وهم أصحاب الإباحة والقول بالحلول، ولم يكن (2) الحلاج (3) يتخصص بإظهار التشيع وإن كان ظاهر أمره التصوف، وهم قوم ملحدة وزنادقة يموهون بمظاهرة كل فرقة بدينهم، ويدعون للحلاج الأباطيل، ويجرون في ذلك مجرى المجوس (4) في دعواهم لزرادشت
(1) بحار الأنوار 25: 345. (2) في المطبوعة: وكان. (3) أنظر (الفهرست ص 269 - 272 ط مصر) لابن النديم. چ (4) قال العلامة الكبير والأستاذ الشهير صاحب الفخامة مولانا أبو الكلام آزاد وزير معارف الهند المعظم في مجلة (ثقافة الهند ص 13، سبتمبر 1950 م) الجليلة طي مقالته الممتعة حول (شخصية ذي القرنين المذكورة في القرآن) - التي حررت بغاية التحقيق، وينبغي بل يلزم لأصحاب النظر والعلم أن يرجعوا إليه - ما نصه: وهنا ينبغي أن ننبه على خطأ شائع: نطقوا كلمة (موغوش) في اللغة العربية (مجوسا) وأطلقوها على أتباع الدين الزردشتي، ولم يكن في الأصل اسما لهم، فقد ثبت الآن بلا ريب أنه كان اسما يعرف به أتباع الدين الذي كان شائعا في مادا قبل زردشت، فقد وردت الكلمة في أوستا كذلك، واستعملت في شأن معارضي زردشت، ولكن لما كان اشتهر أهل مادا في بلاد العرب والشام باسم موغوش، أخذوا يسمون به أتباع زردشت كذلك. وقال أيضا في ص 11 من المجلة: النطق الصحيح لاسم زردشت في اللغة البهلوية (زاراتهسترا)... إلى آخر مقاله القيم. أنظر (البحار ص 379 ج 5 ط كمباني) و (أعيان الشيعة ص 150 - 151 ج 2 ط 2 دمشق). چ 134 المعجزات، ومجرى النصارى في دعواهم لرهبانهم الآيات والبينات (1) ، والمجوس والنصارى أقرب إلى العمل بالعبادات منهم، وهم أبعد من الشرائع والعمل بها من النصارى والمجوس. فصل: فأما نص أبي جعفر - رحمه الله - (2) بالغلو على من نسب مشايخ القميين وعلمائهم إلى التقصير، فليس نسبة هؤلاء القوم إلى التقصير علامة على غلو الناس، إذ في جملة المشار إليهم بالشيخوخة والعلم من كان مقصرا، وإنما يجب الحكم بالغلو على من نسب المحقين إلى التقصير، سواء كانوا من أهل قم أم (3) غيرها من البلاد وسائر الناس. وقد سمعنا حكاية ظاهرة عن أبي جعفر محمد بن الحسن بن الوليد - رحمه الله - لم نجد لها دافعا في التقصير، وهي ما حكي عنه أنه قال: أول درجة في الغلو نفي السهو عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإمام (4) - عليه السلام - فإن صحت هذه الحكاية عنه فهو مقصر مع أنه من علماء القميين ومشيختهم. وقد وجدنا جماعة وردوا (5) إلينا من قم يقصرون تقصيرا ظاهرا في الدين،
(1) بحار الأنوار 25: 345. (2) بحار الأنوار 25: 345. (3) (ز): أو من، (ح): أو. (4) أنظر ذيل كتاب (أوائل المقالات طبع 1371 - ص 36) و (مجمع البيان - ص 317 ج 2 ط صيدا) للشيخ الطبرسي. وكتاب (الوافي - ص 143 ج 5 ط 1364 ه) للمحدث القاشاني. چ. (5) (ح): وردت. 135 وينزلون الأئمة - عليهم السلام - عن مراتبهم، ويزعمون أنهم كانوا لا يعرفون كثيرا من الأحكام الدينية (1) حتى ينكت (2) في قلوبهم، ورأينا من يقول إنهم كانوا يلتجئون في حكم الشريعة إلى الرأي والظنون (3)، ويدعون مع ذلك أنهم من العلماء. وهذا هو التقصير الذي لا شبهة فيه. ويكفي في علامة الغلو نفي القائل به عن الأئمة سمات الحدوث وحكمه لهم بالإلهية والقدم، [إذ قالوا بما] (4) يقتضي ذلك من خلق أعيان الأجسام واختراع الجواهر وما ليس بمقدور العباد من الأعراض، ولا يحتاج مع ذلك إلى الحكم عليهم وتحقيق أمرهم بما جعله أبو جعفر سمة للغلو (5) على كل حال ( 6).
(1) (ق): الشرعية. (2) وفي حديث وصف أهل البيت ع من جملة علومهم نكت في القلوب و... أما النكت في القلوب بإلهام... (مجمع البحرين - نكت). چ. (3) (ق): والفتوى. (4) (ق) (أ): أو، (ح) (ز): إذا ما. (5) في بقية النسخ: في الغلو. (6) بحار الأنوار 25: 346. 136 فصل: في التقية قال أبو جعفر: باب التقية... إلى آخره (1). قال الشيخ المفيد: التقية: كتمان الحق وستر الاعتقاد فيه ومكاتمة المخالفين وترك مظاهرتهم بما يعقب ضررا في الدين أو (2) الدنيا (3)، وفرض ذلك إذا علم بالضرورة أو قوي في الظن، فمتى لم يعلم ضررا بإظهار الحق ولا قوي في الظن ذلك لم يجب فرض التقية. وقد أمر الصادقون - عليهم السلام - جماعة من أشياعهم بالكف (4) والامساك عن إظهار الحق، والمباطنة والستر له عن أعداء الدين، والمظاهرة لهم بما يزيل الريب عنهم (5) في خلافهم. وكان ذلك هو الأصلح لهم، وأمروا طائفة أخرى من شيعتهم بمكالمة الخصوم ومظاهرتهم ودعائهم إلى الحق، لعلمهم بأنه لا ضرر عليهم في ذلك، فالتقية تجب بحسب ما ذكرناه، ويسقط فرضها في مواضع أخرى - على ما قدمناه - وأبو جعفر أجمل القول في هذا (6) ولم يفصله - على ما بيناه - وقضى بما أطلقه فيه من غير تقية على نفسه لتضييع الغرض في التقية، وحكم
(1) الاعتقادات ص 107. (2) في بقية النسخ: و. (3) أنظر (أوائل المقالات - ص 96). چ. (4) (ق): بالكتم. (5) (ح) (ش): منهم. (6) في المطبوعة: ذلك. 137 بترك الواجب في معناها، إذ قد كشف نفسه فيما اعتقده من الحق بمجالسه المشهورة، ومقاماته التي كانت معروفة، وتصنيفاته التي سارت في الآفاق، ولم يشعر [بمناقضته بين أقواله وأفعاله، ولو وضع القول في التقية موضعه، وقيد من لفظه فيه ما أطلقه لسلم من المناقضة، وتبين للمسترشدين حقيقة الأمر فيها، ولم يرتج عليهم بابها، ويشكل بما ورد فيها معناها، لكنه على مذهب أصحاب الحديث في العمل على ظواهر الألفاظ، والعدول عن طريق الاعتبار. وهذا رأي يضر صاحبه في دينه، ويمنعه المقام عليه عن الاستبصار.
138 في أن آباء النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا موحدين قال أبو جعفر في آباء النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اعتقادنا فيهم أنهم مسلمون (1) (2). قال الشيخ المفيد: آباء النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى آدم - عليه السلام - كانوا موحدين على الإيمان بالله، حسب ما ذكره أبو جعفر - رحمه الله - وعليه إجماع عصابة الحق. قال الله تعالى: (الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين) (3) يريد به: تنقله في أصلاب الموحدين. وقال نبيه صلى الله عليه وآله وسلم (ما زلت أتنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهرات، حتى أخرجني الله تعالى في عالمكم هذا) فدل على أن آباءه كلهم كانوا مؤمنين، إذ لو كان فيهم كافر لما استحق الوصف بالطهارة، لقول الله تعالى: (إنما المشركون نجس) (4) فحكم على الكفار بالنجاسة، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بطهارة آبائه كلهم ووصفهم بذلك، دل على أنهم كانوا مؤمنين.
(1) الاعتقادات ص 110. (2) عنه في البحار 15: 17. (3) الشعراء: 218 - 219. (4) التوبة: 28. 139 في تفسير آية: (قل لا أسألكم عليه أجرا) الآية قال أبو جعفر - رحمه الله -: إن الله تعالى جعل أجر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم على أداء الرسالة وإرشاد البرية مودة أهل بيته - عليهم السلام - واستشهد على هذا بقوله تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) (1) (2) (3). قال الشيخ - رحمه الله -: لا يصح القول بأن الله تعالى جعل أجر نبيه مودة أهل بيته - عليهم السلام - ولا أنه جعل ذلك من أجره - عليه السلام - لأن أجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في التقرب إلى الله تعالى هو الثواب الدائم، وهو مستحق على الله تعالى في عدله وجوده وكرمه، وليس المستحق على الأعمال يتعلق بالعباد، لأن العمل يجب أن يكون لله تعالى خالصا، وما كان لله فالأجر فيه على الله تعالى دون غيره. هذا مع أن الله تعالى يقول (4): (ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا
(1) الاعتقادات ص 111. (2) الشورى: 23. (3) أنظر (مجمع البيان - ص 28 - 29 ج 5 ط صيدا) وإلى تفسير آية: (قل ما سألتكم من أجر فهو لكم) في المجمع - ص 396 ج 4 ط صيدا، للشيخ الطبرسي - ره -. چ. (4) وقال الله تعالى في سورة الشعراء: (109، 127، 145، 164، 180): (وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين). چ. 140 على الله) (1) وفي موضع آخر: (يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني) (2) فلو كان الأجر على ما ظنه أبو جعفر في معنى الآية لتناقض القرآن، وذلك أنه كان تقدير الآية: قل لا أسألكم عليه أجرا، بل أسألكم عليه أجرا، ويكون أيضا: إن أجري إلا على الله، بل أجري على الله وعلى غيره. وهذا محال لا يصح حمل القرآن عليه. فإن قال قائل: فما معنى قوله: (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) أوليس هذا يفيد أنه قد سألهم مودة القربى لأجره على الأداء؟ قيل له: ليس الأمر على ما ظننت - لما قدمناه من حجة العقل والقرآن - والاستثناء في هذا المكان ليس هو من الجملة، لكنه استثناء منقطع، ومعناه: قل لا أسألكم عليه أجرا، لكن ألزمكم المودة في القربى وأسألكموها، فيكون قوله: قل لا أسألكم عليه أجرا، كلاما تاما قد استوفى معناه، ويكون قوله: إلا المودة في القربى، كلاما مبتدأ، فائدته: لكن المودة في القربى سألتكموها، وهذا كقوله: (فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس) (3) والمعنى فيه: لكن إبليس، وليس باستثناء من جملة (4)، وكقوله: ( فإنهم عدو لي إلا رب العالمين) (5) (6) معناه: لكن رب العالمين ليس بعدو لي، قال الشاعر:
(1) هود: 29. (2) هود: 51. (3) الحجر: 30 - 31. (4) أنظر (أوائل المقالات طبع 1371 - ص 110). چ. (5) الشعراء: 77. (6) أنظر (مجمع البيان - ص 193 ج 4 ط صيدا). چ. 141 وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس (1) وكان المعنى في قوله: وبلدة ليس بها أنيس، على تمام الكلام واستيفاء معناه، وقوله: إلا اليعافير، كلام مبتدأ معناه: لكن اليعافير والعيس فيها، وهذا بين لا يخفى الكلام فيه على أحد ممن عرف طرفا من اللسان، والأمر فيه عند أهل اللغة أشهر من أن يحتاج معه إلى استشهاد.
(1) اليعفور: الغزال - العيس: الإبل البيض يخالط بياضها سواد خفيف. الواحد عيس والواحدة عيساء. چ. 142 في الحظر والإباحة قال أبو جعفر في الحظر والإباحة: الأشياء كلها مطلقة... إلخ (1). قال الشيخ المفيد: الأشياء في أحكام العقول على ضربين: أحدهما: معلوم حظره بالعقل، وهو ما قبحه العقل وزجر عنه وبعد منه كالظلم والسفه والعبث. والضرب الآخر: موقوف في العقل لا يقضي على حظر ولا إباحة إلا بالسمع، وهو ما جاز أن يكون للخلق بفعله مفسدة تارة ومصلحة أخرى، وهذا الضرب مختص بالعادات من الشرائع التي يتطرق إليها النسخ والتبديل، فأما بعد استقرار الشرائع، فالحكم أن كل شئ لا نص في حظره فإنه على الإطلاق، لأن الشرائع ثبتت الحدود وميزت المحظور على حظره، فوجب أن يكون ما عداه بخلاف حكمه] (2) .
(1) الاعتقادات ص 114. (2) ما تقدم بين المعقوفتين ساقط من جميع النسخ سوى المطبوعة. 143 في الطب قال أبو جعفر: اعتقادنا في الأخبار الواردة في الطب (1). قال الشيخ المفيد - رحمه الله - (2): الطب صحيح، والعلم به ثابت، وطريقه الوحي، وإنما أخذه العلماء به عن الأنبياء - عليهم السلام - وذلك أنه لا طريق إلى علم حقيقة الداء إلا بالسمع، ولا سبيل إلى معرفة الدواء إلا بالتوقيف (3)، فثبت أن طريق ذلك هو السمع عن العالم بالخفيات تعالى. والأخبار الواردة عن الصادقين - عليهم السلام - مفسرة بقول أمير المؤمنين - عليه السلام -: (المعدة بيت الأدواء، والحمية رأس الدواء) و (عود كل بدن ما اعتاد) (4) وقد ينجع في بعض أهل البلاد من الدواء من مرض يعرض لهم ما يهلك من استعمله لذلك المرض من غير أهل تلك البلاد، ويصلح لقوم ذوي عادة ما لا يصلح لمن خالفهم في العادة. وكان الصادقون - عليهم السلام - يأمرون بعض أصحاب الأمراض باستعمال ما يضر بمن كان به (5) المرض فلا يضرهم، وذلك لعلمهم - عليهم السلام - بانقطاع سبب
(1) الاعتقادات ص 115. (2) بحار الأنوار 59: 75. (3) (ق): التوقيف. (4) (ز): اعتاده. (5) (ز): فيه هذا. 144 المرض، فإذا استعمل الإنسان ما يستعمله كان مستعملا له مع الصحة من حيث لا يشعر بذلك، وكان علمهم بذلك من قبل الله تعالى على سبيل المعجز (1) لهم والبرهان لتخصيصهم به وخرق العادة بمعناه، فظن قوم أن ذلك الاستعمال إذا حصل مع مادة المرض نفع فغلطوا فيه واستضروا به. وهذا قسم لم يورده أبو جعفر، وهو معتمد (2) في هذا الباب، والوجوه التي ذكرها من بعد فهي على ما ذكره، والأحاديث محتملة لما وصفه حسب ما ذكرناه (3).
(1) في المطبوعة: المعجزة. (2) (ز): المعتمد. (3) بحار الأنوار 59: 76. 145 فصل: في الأحاديث المختلفة (*) قال أبو جعفر في الحديثين المختلفين... إلى آخره (1). قال الشيخ المفيد - رحمه الله -: لم يوضح أبو جعفر - رحمه الله - عن الطريق التي توصل إلى علم ما يجب العمل عليه مما لا يجب، بل أجمل القول في ذلك إجمالا مع صدق الحاجة إلى التفصيل والتفرقة بين ما يلزم مما لا يلزم بما يتميز به كل واحد منهما ويعرف بذلك حق الحديث من باطله. والذي أثبته أبو جعفر - رحمه الله - من مجمل القول فيه لم يجد نفعا. وقد تكلمنا على اختلاف الأحاديث وبينا فرق ما بين صحيحها (2) من سقيمها (3)، وحقها من باطلها، وما عليه العمل منها مما لا يعمل عليه، وما تتفق معانيه مع اختلاف ألفاظه، وما خرج مخرج التقية في الفتيا، وما الظاهر منه كالباطن في مواضع من كتبنا وأمالينا (4)، وبينا ذلك بيانا يرفع (5) الاشكال فيه لمن تأمل (6)، والمنة لله تعالى، فمن أراد معرفة هذا الباب فليرجع إلى كتابنا المعروف ب
* وقد أشار المصنف إلى هذا الباب عند جوابه عن المسألة الثامنة من المسائل السروية إشارة إجمالية. وانظر جواب المسألة التاسعة منها أيضا. چ. (1) الاعتقادات ص 117. (2) (أ) (ح) (ش): صحتها. (3) (أ) (ح) (ش): سقمها. (4) (ق): ورسائلنا. (5) في المطبوعة: يرتفع. (6) (ح): تأمله. 146 (التمهيد) وإلى كتاب (مصابيح النور، وأجوبة مسائل أصحابنا من (1) الآفاق، يجد ذلك على ما ذكرناه. فصل: وجملة الأمر أنه ليس كل حديث عزي إلى الصادقين - عليهم السلام - حقا عليهم (2)، وقد أضيف إليهم ما ليس بحق عنهم [ومن لا معرفة له لا يفرق] (3) بين الحق والباطل (4). وقد جاء عنهم - عليهم السلام - ألفاظ مختلفة في معان مخصوصة، فمنها ما تتلازم معانيه وإن اختلفت ألفاظه، لدخول الخصوص فيه والعموم والندب والايجاب، ولكون بعضه على أسباب لا يتعداها (5) الحكم إلى غيرها، والتعريض في بعضها بمجاز الكلام لموضع التقية والمداراة، وكل من ذلك مقترن بدليله (6)، غير خال من برهانه، والمنة لله سبحانه. وتفصيل هذه الجملة يصح ويظهر عند إثبات الأحاديث المختلفة، والكلام عليها ما قدمناه، والحكم في معانيها ما وصفناه، إلا أن المكذوب منها لا ينتشر بكثرة الأسانيد انتشار الصحيح المصدوق على الأئمة - عليهم السلام - فيه، وما
(1) (ز): في. (2) في المطبوعة: عنهم. (3) (ز) وذلك غير خفي على من له معرفة تفرق به ما، (أ): وقد اشتبه على من لا معرفة له الفرق ما. (ح): فيثبته على من لا معرفة له يفرق ما. (4) (أ) زيادة: منها. (5) (ق): يتعدى. (6) (ح): بدليل. 147 خرج للتقية لا تكثر روايته عنهم كما تكثر رواية المعمول به، بل لا بد من الرجحان في أحد الطرفين على الآخر من جهة الرواة حسب ما ذكرناه، ولم تجمع العصابة على شئ كان الحكم فيه تقية، ولا شئ دلس (1) فيه ووضع متخرصا (2) عليهم وكذب في إضافته إليهم. فإذا وجدنا أحد الحديثين متفقا على العمل به دون الآخر علمنا أن الذي اتفق على العمل به هو الحق في ظاهره وباطنه، وأن الآخر غير معمول به، إما للقول فيه على وجه التقية، أو لوقوع الكذب فيه. وإذا (3) وجدنا حديثا يرويه عشرة من أصحاب الأئمة - عليهم السلام - يخالفه حديث آخر في لفظه ومعناه ولا يصح الجمع بينهما على حال (4) رواه اثنان أو ثلاثة، قضينا بما رواه (5) العشرة ونحوهم على الحديث الذي رواه (6) الاثنان أو الثلاثة، وحملنا ما رواه القليل على وجه التقية أو توهم (7) ناقله. وإذا وجدنا حديثا قد تكرر العمل به من خاصة أصحاب الأئمة - عليهم السلام - في زمان بعد زمان وعصر إمام بعد إمام قضينا به على ما رواه غيرهم من خلافه ما لم تتكرر الرواية به والعمل بمقتضاه حسب ما ذكرناه. فإذا وجدنا حديثا رواه شيوخ العصابة ولم يرووا (8) على أنفسهم خلافه
(1) في بعض النسخ: دس. (2) في بعض النسخ: مخروصا، وفي بعض آخر تخرصا. (3) (ز): فإذا. (4) (أ) زيادة: وإن. (5) (ز): روته. (7) (ح): لوهم. (8) في بعض النسخ: يوردوا. 148 علمنا أنه ثابت، وإن روى غيرهم ممن ليس في العدد (1) وفي التخصيص بالأئمة - عليهم السلام - مثلهم إذ ذاك علامة الحق فيه، وفرق ما بين الباطل وبين الحق في معناه، وأنه لا يجوز أن يفتي الإمام - عليه السلام - على وجه التقية في حادثة فيسمع ذلك المختصون بعلم الدين من أصحابهم ولا يعلمون مخرجه على أي وجه كان القول فيه، ولو ذهب عن واحد منهم لم يذهب عن الجماعة، لا سيما وهم المعروفون بالفتيا (2) والحلال والحرام، ونقل الفرائض والسنن والأحكام. ومتى وجدنا حديثا يخالفه الكتاب ولا يصح وفاقه له على حال أطرحناه، لقضاء الكتاب بذلك وإجماع [الأئمة - عليهم السلام -] (3) عليه. وكذلك إن وجدنا حديثا يخالف أحكام العقول أطرحناه لقضية العقل (4) بفساده، ثم الحكم بذلك على أنه صحيح خرج (5) مخرج التقية أو باطل أضيف إليهم موقوف على لفظه، وما تجوز الشريعة فيه القول بالتقية وتحظره وتقضي العادات بذلك أو تنكره. فهذه جملة ما انطوت عليه من التفصيل تدل على الحق في الأخبار المختلفة، والصريح فيها لا يتم إلا بعد إيراد الأحاديث، والقول في كل واحد منها ما بينا طريقه. وأما ما تعلق به أبو جعفر - رحمه الله - من حديث سليم الذي رجع فيه إلى الكتاب المضاف (6) إليه برواية أبان بن أبي عياش، فالمعنى فيه صحيح، غير أن هذا الكتاب غير موثوق به، ولا يجوز العمل على أكثره، وقد حصل فيه تخليط وتدليس، فينبغي للمتدين أن يجتنب العمل بكل ما فيه، ولا يعول على جملته
(1) في المطبوعة: العداد. (2) (ز): في. (3) (ز): الأمة. (4) في المطبوعة: العقول. (5) في بعض النسخ: أخرج. (6) (ز): مضافا. 149 والتقليد لرواته (1) وليفزع إلى العلماء فيما تضمنه من الأحاديث ليوقفوه (2) على الصحيح منها والفاسد، والله الموفق للصواب. [تمت وبالخير ختمت، قد فرغت من تحرير هذه الرسالة المتعلقة على اعتقادات ابن بابويه - رحمه الله - لشيخنا الإمام العلامة السعيد المفيد (3) - طاب ثراه - في اليوم التاسع من شهر محرم الحرام من شهور سنة ثمانين بعد الألف (1580) من الهجرة المصطفوية - على مشرفها وآله ألف تحية - وكتبها لنفسه ولمن يشاء الله من بعده العبد أحمد بن عبد العالي الميسي العاملي - تجاوز الله عن سيئاته، وحشره مع ساداته الأئمة الأطهار، صلوات الله عليهم أجمعين - آمين رب العالمين، بمنه وكرمه. تمت المقابلة على نسخة حجة الاسلام السيد هبة الدين الحسيني، ببغداد، العراق].
(1) في المطبوعة: لراويه. (2) (ح) (ش): ليفقهوه. (3) استدراك - قال الحافظ الذهبي * (المتوفى سنة 748 ه) في كتابه (دول الاسلام - ص 180 ج 1 ط 2 هند 1364 ه) ما نصه: وفيها (يعني في سنة 413) مات... وشيخ علماء الرافضة أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان البغدادي المعلم ويلقب بالشيخ المفيد وكان ذا جلالة عظيمة في دولة بني بويه وكان عضد الدولة - ينزل إليه، عاش ستا وسبعين سنة وله مصنفات كثيرة وكان خاشعا متعبدا متألها شيعه ثمانون ألفا من الرافضة لا بارك الله فيهم. چ. * تلميذ الحافظ أحمد بن تيمية الحراني المتوفى سنة 728 ه عن 67 سنة، مؤلف كتاب الرد على المنطقيين، ذلك الكتاب الفلسفي الذي قام بطبعه ونشره للمرة الأولى الأستاذ المفضال عبد الصمد شرف الدين الكتبي سنة 1368 ه ببمباي - الهند، وكان طبعه في مطبعته القيمة في قالب قشيب جميل عن نسخة وحيدة كتب عليها المصنف بخطه مصدرا بمقدمة له وكلمة للدكتور السيد سليمان الندوي مدير مجلة (معارف) المحترم. أنظر (العرفان الأغر - ص 34 - 37 ج 1 مج 38 ط صيدا). چ. 150 وإليه المرجع والمآب، والحمد لله على الهداية، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله (1). ربيع الأول 1358 ه. وأنا الأقل: السيد أحمد السيد هادي الحائري الشهرستاني - عفي عنه.
(1) جاء في آخر النسخ المعتمدة ما يلي: (أ): قد فرغت من تحرير هذه الرسالة المتعلقة على اعتقادات ابن بابويه - رحمه الله تعالى - لشيخنا الإمام العلامة السعيد المفيد - طاب ثراه - في اليوم التاسع من شهر محرم الحرام، من شهور سنة ثمانين بعد الألف من الهجرة النبوية - على مشرفها ألف ألف تحية - وكتبها لنفسه ولمن يشاء الله تعالى من بعده: أحمد بن عبد العالي الميسي العاملي - تجاوز الله عن سيئاته، وحشره مع ساداته الأئمة الأطهار الأبرار صلوات الله عليهم أجمعين - آمين. [ثم قال الناسخ عنها]: وأنا قد فرغت بعون الله وتوفيقه من تحريره في اليوم السادس من شهر محرم الحرام سنة أربع وخمسين وثلاثمائة بعد الألف من الهجرة النبوية، وأنا العبد الأحقر الجاني الحسن بن محمد الخياباني التبريزي. (ح): تم شرح الشيخ المفيد - رحمه الله - على اعتقادات الشيخ أبي جعفر ابن بابويه القمي - رحمه الله - يوم الأحد التاسع وعشرون من شهر ربيع الثاني سنة تسع وسبعين بعد الألف، على يدي المذنب المحتاج إلى عفو مولاه مصطفى قلي - أعطاه الله العظيم بالنبي والوصي وآلهما الكرام ... إلى الله الرحيم. (ز): يقول الفقير إلى الله الغني، ابن زين العابدين محمد حسين الأرموي النجفي: هذا تمام ما في النسخة التي نسخت هذه منها واتفق لي الفراغ في آخر يوم من صفر سنة ألف ثلاثمائة واثنا وخمسين الهجري - على هاجرها ألف سلام وتحية - وصلى الله على محمد وآله الطاهرين. (ش): قد فرغت من تحرير هذه الرسالة المتعلقة على اعتقادات ابن بابويه - رحمه الله - لشيخنا الإمام العلامة السعيد المفيد - طاب ثراه - إلا في بعض المواضع التي كانت ساقطة من المنتسخ. يسر الله حصولها، بيمين الفقير المذنب المحتاج إلى رحمة الله المعين شاه محمد بن زين العابدين، في بندر السورت من بنادر الهند، في غرة جمادى الثانية في السنة الثانية بعد الأربعين وألف، حامدا مصليا مسلما. (م): وقع الفراغ من تسويد هذه النسخة الشريفة ليلة الاثنين تاسع شهر جمادى الأخرى، سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة بعد الألف من الهجرة النبوية - على هاجرها الصلاة والتحية - في شريعة الكوفة. 151 (ختامه مسك) ولنختم الكتاب بعون الله الملك الوهاب بنشر الإجازة التي دبجها يراع سماحة العلامة الإمام آية الله في الأنام حضرة الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء - متع الله العلم والدين بطول حياته - بمقتضى لطفه وعطفه نحو الناشر المخلص ليكون ختامه مسكا. هذا ومما هو جدير بالتسطير: أن سماحة مفخرة الطائفة قد غادر النجف الأشرف في 12 جمادى الأولى 1371 ق - 19 / 12 / 30 ش إلى عاصمة الباكستان (كراتشي - كراچي) على الطائر الميمون حسب دعوة اخواننا الباكستانيين من أعلام المسلمين وعلمائهم في عاصمتها وإصرارهم على مغادرة سماحته الغري لقاعدتها للحضور إلى مؤتمر إسلامي كانوا قد اعتزموا إذ ذاك على عقده هناك باجتماع رجال الاسلام للمداولة في شؤون المسلمين. وقد انعقد المؤتمر - على ما نشرته الصحف - بكراتشي يوم الخميس 17 ج 1 - 24 / 12 / 30 برئاسة سماحة مفتي فلسطين الأعظم الحاج السيد أمين الحسيني. متع الله المسلمين بطول حياة الإمام وأسعف الأعلام بالنتائج المثمرة للاسلام. وإليك أيها القارئ الكريم: نص إجازة الإمام:
153 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي جعل العلماء ورثة الأنبياء، وفضل مدادهم على دماء الشهداء، وأجاز لهم من المواهب ما أجاز وصلى الله على محمد وآله مجاز الحقيقة وحقيقة المجاز. وبعد. فإن جناب العالم المحدث فخر الخطباء وخطيب العلماء، فارس المنابر ومصداق كم ترك الأول للآخر، الحاج ميرزا عباسقلي التبريزي جرندابي أيده الله وأدام فيوضاته في المحافل والنوادي للحاضر والبادي قد استجازني على طريقة السلف الصالح وأساطين الدين من المتقدمين والمتأخرين، وحيث إني على سابق من فضله ونبله وسعة باعه وغزير اطلاعه، بما وصلنا من مؤلفاته الجليلة لذلك أجزته أن يروي عني جميع ما صحت لي روايته عن مشايخي الأعلام وأساتيذي العظام ، أذكر منها طريقا واحدا: فقد أجازني أستاذي في الحديث الحاج ميرزا حسين النوري الطبرسي صاحب المستدرك عن شيخنا المرتضى أعلى الله مقامه عن الشيخ علي عن أخيه الشيخ موسى عن أبيه الشيخ الكبير كاشف الغطاء عن الآقا البهبهاني عن أبيه محمد أكمل عن جمال الدين الخونساري عن الشيخ جعفر القاضي عن المجلسي عن أبيه المجلسي الأول عن الشيخ البهائي عن أبيه حسين بن عبد الصمد عن الشهيد الثاني عن علي بن عبد العالي الميسي عن ابن المؤذن محمد بن داود عن ضياء الدين علي عن أبيه الشهيد الأول عن فخر المحققين عن أبيه العلامة عن المحقق جعفر بن السعيد عن ابن نما عن ابن إدريس عن الشيخ عربي بن مسافر العبادي عن الشيخ الياس الحائري عن الشيخ أبي علي عن أبيه شيخ الطائفة عن المفيد عن الصدوق عن الكليني رضوان الله عليهم جميعا بسنده عن الأئمة المعصومين سلام الله عليهم عن جدهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن جبرئيل عن الباري جلت عظمته. ورجائي أن لا ينساني من صالح دعواته كما لا أنساه والله يحفظه ويرعاه بدعاء. صدر من مدرستنا العلمية بالنجف الأشرف محمد الحسين 7 جمادى الأولى 1371 آل كاشف الغطاء
154 (كلمة غالية) للعماد الأصبهاني قال العلامة الخبير والكاتب الكبير عماد الدين أبو عبد الله محمد بن حامد الأصبهاني المتوفى سنة 597 ه بدمشق: (إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتابا في يومه إلا قال في غده: لو غير هذا لكان أحسن، ولو زيد كذا لكان يستحسن، ولو قدم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر). چرندابي.
155 (كلمة قيمة حول الذكر الحكيم) ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه، والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. قال الدكتور شبلي شميل (1) اللبناني المصري المادي الشهير (المتوفى سنة 1335 ه - 1917 م): (إن في القرآن أحوالا اجتماعية عامة وفيها من المرونة ما يجعلها صالحة للأخذ بها في كل زمان ومكان حتى في أمر النساء فإنه كلفهن بأن يكن محجوبات عن الريب والفواحش، وأوجب على الرجال أن يتزوج بواحدة عند عدم إمكان العدل، وإن القرآن فتح أمام البشر أبواب العمل للدنيا والآخرة وترقية الروح والجسد بعد أن أوصد غيره من الأديان تلك الأبواب فقصر وظيفة البشرية على الزهد والتخلي عن العالم الفاني). وقال الدكتور المادي الأنف الذكر في كلمته الأخرى التي مدح بها القرآن الكريم وجلالة صاحب الرسالة العظيم (محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم)، مخاطبا بها العلامة الأستاذ السيد محمد رشيد رضا (2) (1282 - 1354 ه) نثرا ونظما، ما
(1) إقرأ ترجمته الضافية في (معجم أدباء الأطباء - ص 191 - 195 ط نجف) و (أعلام المقتطف - ص 288 - 292 ط مصر). چ. (2) مؤلف تفسير القرآن الكريم الشهير بتفسير المنار فسر به 12 جزء من الذكر الحكيم في 12 مجلدا، وآخر ما وصل إليه في التفسير من الجزء الثالث عشر الآية الكريمة المرقومة بمائة وواحد من سورة يوسف - عليه السلام -: (رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث) الآية. واقرأ أيها القارئ الكريم ترجمته المسهبة في كتاب (السيد رشيد رضا - أو - إخاء أربعين سنة ط دمشق) لأمير البيان شكيب أرسلان (1870 - 1946 م). راجع كتاب (ذكرى الأمير شكيب أرسلان ط مصر). چ. 156 لفظه: إلى غزالي عصره السيد محمد رشيد رضا صاحب (المنار) أنت تنظر إلى محمد كنبي وتجعله عظيما وأنا أنظر إليه كرجل وأجعله أعظم، ونحن وإن كنا في الاعتقاد على طرفي نقيض فالجامع بيننا العقل الواسع والاخلاص في القول وذلك أوثق لنا لعرى المودة (الحق أولى أن يقال) دع من محمد في صدى قرآنه * ما قد نحاه للحمة الغايات إني وإن أك قد كفرت بدينه * هل أكفرن بمحكم الآيات؟ أو ما حوت في ناصع الألفاظ من * حكم روادع للهوى وعظات وشرائع لو أنهم عقلوا بها * ما قيدوا العمران بالعادات؟ نعم المدبر والحكيم وإنه * رب الفصاحة مصطفى الكلمات رجل الحجى رجل السياسة والدهاء * بطل حليف النصر في الغارات ببلاغة القرآن قد خلب النهى * وبسيفه أنحى على الهامات من دونه الأبطال في كل الورى * من سابق أو غائب أو آت چرندابي