مباهلة نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

مباهلة - نسخه متنی

عبدالله سبيتي؛ محقق: صدرالدين شرف الدين موسوي

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید
الكتاب: المباهلة
المؤلف: السيد عبد الله السبيتي
الجزء:
الوفاة: معاصر
المجموعة: مصادر الحديث الشيعية ـ القسم العام
تحقيق: تقديم : السيد صدر الدين شرف الدين الموسوي
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: مطبوعات مكتبة النجاح - طهران
ردمك:
ملاحظات:
عبد الله السبيتي
المباهلة
فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من
العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم
ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم
نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين
" قرآن كريم "
قدم له
الكاتب القدير
السيد صدر الدين شرف الدين
الموسوي
مطبوعات
مكتبة النجاح
طهران
الطبعة الأولى
1366 ه‍ - 1947 م
بغداد
الطبعة الثانية
1982 - 1402

تعريف الكتاب 1
الاهداء
بسم الله الرحمن الرحيم
يا رسول الله
هذه آجال تمر علي يوم المباهلة - ذلك اليوم الذي شع منه نور للاسلام وانبعثت
في الآفاق متألقا منيرا - والناس لا تكاد تحس بمروره حتى أن بعض الناس
لا يعرفون عنه شيئا أو انهم شاءوا ان لا يعرفوا عنه شيئا. ان هذا شئ يغيضك ولابد.
فإنك قد أوضحت بيومك ذاك طريقا لاحبا سويا لو سار عليه المسلمون لكانوا على
خير عظيم. وان يومك ذاك قد أهلته ليكون عيدا من أعظم أعياد أمتك ويوما من
أكبر الأيام وأكرمها.
لقد مر الناس علية مرورا عابرا..
ولكن علما من أعلام أمتك وحملة مواريثك وفرعا من دوحك الضاربة في
السماء وأعني به الامام السيد عبد الحسين شرف الدين وهو أحد أولئك الذين خلفتهم
للسير بأمتك على الطريق الذي رسمته ولينهجوا بها على الصراط الذي نهجته. قد رفع
صوته في يوم من الأيام داعيا لإذاعة فضل هذا اليوم المبارك في الناس واخراج قصة
مؤتمر نجران ليعرفوه
وها أنى طلبا لرضائكم وإجابة لنداء شبلكم وحامل لوائكم أتقدم بمجهودي
الضئيل هذا فأرفعه بكلتا يدي إلى سدتكم الرفيعة راجيا منكم القبول ومن شبلكم الرضاء
عبد الله السبيتي

تعريف الكتاب 2
المقدمة
بقلم: السيد صدر الدين شرف الدين
اننا نقرأ الان كتابا جديدا للعلامة السبيتي، وما أدري أين يقع
رقم هذا الكتاب من السلسلة التي أفرغها مؤلفه في بضع سنين أهو الكتاب
الخامس؟ أم هو الكتاب السادس؟ ما أدري ولا يهمني ان أدري ولكن
الذي اهتم به من هذا انه يدلني على أن للشيخ عبد الله بلاءا حسنا في ميادين
البحث وجهدا متواصلا في مجالات العلم يتجاوز به صفوف المتخلفين من رجال
الدين المطمئنين إلى دعة الفتور المفتونين بحب السلامة ويشمر به بعيدا حيث
يشارك بالحياة ويساير مواكبها السائرة نحوا من المشاركة والمسايرة أقل ما
يثبت له انه جندي يجد من ايمانه ووعيه صارفا عن الفرار من الساحة ووازعا
يأبى له تسليم " البدل " أو التماس المعاذير.
وأعظم بهذه مزية قبل ان تعرف ما وراءها من شمائل الفروسية في
هذا الجندي النامي وقبل ان نستوثق من سلامة عدته وجدة سلاحه في أداتي
التفكير والتعبير اللذين يسموان بالايمان سموا يتفاوت بنسب الهبات والثقافات
من نفوس هؤلاء المجاهدين في العلم والحياة.
هذه ميزة.. الرجل دائب في غير فتور، ماض في غير تقهقر.

المقدمة 3
وكثيرون من رجال العلم فاترون دائبون على الفتور متقهقرون ماضون في
التقهقر في حال تنذر بوخامة العاقبة التي ينظرون إليها كالمكتوب المهم
يستهول عمق الهوة دون ان يفكر بوسيلة تحميه من هول الانحدار.
وأفضل ما يوضح ميزة الشعور بالواجب أن يمضي الرجل منا في قوم
واقفين ان لم نقل في قوم راجعين.
ولا يصح اعتبار هذه الميزة ميزة - كما هو واضح - إلا حين يستمد
بحث الباحث في التاريخ والمسائل النظرية القديمة من الحياة الحاضرة جدة في
تبسيط الموضوع وأسلوب عرضه على نحو يحييه احياء يلائم مناحي التفكير الحاضر.
وقد عرفنا رجالا مكثرين لا يغنيهم الا كثار شيئا وراء تضييع الأيام في انفاقها
على نسخ كتب قديمة ينشرونها من أجداثها كما تنشر العظام البالية من أجدلتها
مشوهة شائهة دون ان يسبلوا عليها رداء أو يكسوها بعمل فني حديث يجعل
نشرها عملا مشروعا.
فنحن حين نسجل للشيخ عبد الله ميزة في مؤلفاته المستمدة من الفكر
الاسلامي وتاريخه نحافظ على الدقة بالتعبير ونلمح به إلى صنعه الخاص في أبحاثه
التي يلبسها من فكره وجهده ورأيه ما يشفع بالعودة إليها باعتبارها فكرة متصلة
بحياتنا اتصالا مركزا بنظر المتجردين الأحرار.
ولي كلمة أحب ان أقولها في هذا السياق بهذه المناسبة وهي ان
- التاريخ - بأشمل مداليله - من كل أمة جزء من حاضر كل أمة والعودة إليه
عمل لاغناء عنة في بناء النهضات أو ضع استمرارها. وعلى ذلك فمعالجوه
طبقة لابد منها حين توزع اعمال الحياة الحاضرة لان حذفها حذف لحلقة من

المقدمة 4
حلقات الحيات الحاضرة الأساسية.
ولكن يجب اختيار هذه الطبقة اختيارا على أساس الشروط الصحيحة
لهذه البحوث ليصبح وجود هذه الطبقة مصادفا موقعة من التضامن مع الحياة
وطريقة البحث وأسلوب التفكير وصحة الضمير وحسن الانتقاء كل أولئك من
الشروط أما النقل الصرف دون تحقيق ولا تعليق أو معهما تافهين غثيثين - أما
ذلك فثرثرة ميسرة لطلب الشهرة فقط وذلك من أعبائنا التي يجب ان
نتخفف منها ونتحرر ممن يحملنا إياها بصراحة وشجاعة
وبعد فهذا كتاب يبحث في آية قرآنية كريمة كانت ولا تزال موضعا
للاخذ والعطاء بين المسلمين. وكثرة الرد والبدل بمجردها في هذه الآية الكريمة
تدل على أنها ذات اثر بالغ في الحياة الواقعة التي لن تتغير ما دام للاسلام لواء
يخفق، وما دام اسم محمد ينطلق في الفضاء البعيد والأفق الواسع. تذيعه منائر
الدين الحنيف كل يوم ثلاث مرات.
أما الآية التي اختص بها هذا الكتاب فهي آية المباهلة. وهي
من الآيات الفواصل في مراحل الاسلام وأدوار نشئة ولعظيم اثرها هذا كانت
مدار بحث طويل بين المفسرين والفلاسفة من اعلام المسلمين حتى اليوم ذلك
لأنها قاعدة من قواعد الإمامة التي شقيها السياسة متجنية على المفكرين والعلماء
منذ تحكمت مطامع السياسين بأصول الدين تخضعها لأهوائهم وتسيرها برغباتهم حتى
جعلتها آخر الامر أداة للاقطاع والاثراء والارهاب على نحو ما عرفناه في
أكثر ادوار الحكم الاسلامي منذ صدوره، الامر الذي أورده الخاتمة المعروفة.
ولا أريد ان أشارك المؤلف بتأليفه بهذه الكلمة فذلك جهد قد لا

المقدمة 5
يقنع مني بالقليل من وقتي الضيق. بل ذلك تجن على المؤلف في جهد أنفق
فيه ليالي طوالا وخرج منه موفقا توفيق الباحث العصري الأمين. فجاءت
دراسته مستوفية لعناصر الدراسات الحديثة القيمة. قائمة على أصول البحث
الجديد.
فالكتاب صدى لرغبة تقدم بها إليه في احياء (قصة المباهلة)
المطمورة في كتاب قديم بعد أن كان متحفزا لاحياء هذه القصة اخذا
بنصيحة (الكلمة الغراء) (1).
اذن فأساس الفكرة تجديد طبع (رواية قديمة) وتحقيقها في مذهب
من مذاهب النشر الحديثة النافعة، غير أنه بدأ له ان يلقي بين يدي (الرواية
القديمة) كلمة تجمع بين التحقيق والايضاح ثم توسعت الكلمة فكانت بحثا
يفصل القول في ظروف يوم المباهلة وعوامله واثاره.
هكذا تكونت هذه الدراسة لتكون حلقة من حلقات قلم العلامة السبيتي
التي نحمدها له ونتمنى عليه اطراد النشاط داعين الفرسان من جبهته إلى مثل
هذا الأثمار النافع.
صدر الدين شرف الدين



1 - الكلمة الغراء رسالة لسيدنا الوالد ولعلها أوفى بحث تناول
(تفصيل الزهراء) بحرية وعمق واستقلال.
المقدمة 6
تصدير
في حياة علي (ع) وفي حياة الزهراء عليها السلام وفي حياة
ولديهما عليهما السلام نواح كثيرة للحديث عنهم، وكفايات للإشادة بفضلهم،
وفي كل ناحية من نواحي الفضلية والكمال ملتقى مع هؤلاء الأربعة..
وقد التقت في حياتهم وشائج الفضائل والمثل العليا مذ تفتحت اكمام
حياتهم وعرفوا هذا الوجود، وإذا نظرنا إليهم من البداية إلى النهاية لرأيناهم
يتقلبون بين أحضان الفضيلة وقد أسدلت عليهم أبرادها تلفهم من الفرع إلى
القدم فلا يساويهم في سموهم أحد، ولا يدانيهم مخلوق. ولا جرم ان كانوا
كذلك وقد تربوا في البيت الذي خرجت مننه الدعوة إلى الاسلام، وكفلهم
صاحب الدعوة الاسلامية.
وليس عجبا بعد هذا إن كان في كل ناحية من نواحي حياتهم ملتقى
للفضائل، فان لهذه التربية اثر فعال في صبغهم بالصبغة المثالية وتوجيههم إلى
الفضيلة والكمال..
ولقد كان كل واحد منهم بحكم التربية وبحكم الوراثة معجزة خالدة
انفصلت من جسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتكون معجزة في صميم الحياة

1
وان حياة كل واحد منهم تتصل بحياة رسول الله صلى الله عليه وآله، ووجوده
الكامل يتصل بوجوده (ص) المثالي وفضائله تتصل بفضائله، من الساعة
الأولى التي انفصلوا فيها من وجود واستقرار في وجود آخر.
هذه حقيقة ثابتة يستطيع القارئ ان يراها من خلال حياتهم، وان
عرضا موجزا لحياتهم كفيل بان يرينا انه بعد النبوة لا نجد فواصل أخرى بين
كمال وجوده (ص) وكمال وجودهم، وان الله تعالى أعدهم للانسانية في أعلى مثاليه
كما أعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قبل.
وفي الحق انهم المعجزة الخالدة التي كشف الزمن ذيله عنهم،
فجاءوا في وسط المعترك الهائج وليسوا منه، وجاءوا بين طرفي الزمن وليسوا من الزمن
وإنما هم اشعاعة من نور الله افاضه على هذا الوجود وعلى هذه الانسانية
المعذبة يشق الطريق ليهديها في كل أجيالها إلى الخير والسعادة، والى المثل
العليا من الكمالات النفسية.
موضوع هذا الكتاب ناحية واحدة من نواح كثيرة، وآية واحدة
من كتاب الله المجيد من بين آيات كثيرة هي آية المباهلة:
" فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم، فقل تعالوا ندع أبناءنا
وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله
على الكاذبين ".
هذا موضوع هذا الكتاب. وان موضوعا كهذا الموضوع ينكمش

2
فيه القلم على نفسه متهيبا فلا يستطيع ان يجري مترسلا لتشعب نواحيه، ورامي
أطرافه، ومن ناحية ثانية لما أحيط بهذا الموضوع من أسلاك شائكة متشابكة
الأطراف، لا يكاد ينتزع طرف منها حتى يلتقي بأطراف أخرى متحصنة
بمتارك الزمن القاسي ومخلفات الأقلام المهوسة التي خلقت وراءها
الزمن مظلما بالستائر الكثيفة والسحب الداكنة، تتصل بعهدها
القديم المظلم.
ولكن.. سيف الظلم مفلول الحد، ودولته دائما إلى زوال، وان
الحق مكفول لسائر الأجناس.. وفي الحق نور لا تخبو شعلته مهما أحاطوه
بحصون كثيفة الجدر، وسوروه بزبر الحديد، ومهما تراكمت عليه الأصداء،
وعبرت عليه الأزمان، ولا بد ان يخترق النور هذه الحجب ويكشف الظلمات..
وان السنين الطوال التي مرت تحمل سيف النقمة مسلولا لم يتسن
لها ان تمس ذلك النور ولم تستطع ان تمد يدها إلى القلوب المستنيرة بنور الحق..
وان الأيدي العابثة بالحقائق التي أعقبت رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم
يكن مرجوا لها ان تمتد إلى المبادئ السامية لتفسدها وما كانت الا أيد عابثة في
جدها، هزيلة في احكامها غير مرجوة في نهايتها، كما لم تكن رشيدة في بدايتها.
وان تلك القلوب التي أغمضها ذل الاستبداد، وامتهنتها حكومات
الاستبعاد لم تمت ولم تدفن ولم تهن ولم تتكل وإنما انفردت في زاوية من الزمن
تعمل نشيطة في سبيل هدفها في ظلمات الاستبداد وتحت قوارع النكبات
لا متوانية ولا كسله...

3
وكان الزمن حريصا الحوص كله على أن يسد النوافذ وان يحول بين
سوانح الفرص، ولكن بالرغم عنه يبد القبس ينير الطريق. ويوضح السبل!
ويفلت الأسد من أقفاصه الموصدة، ويزأر زأرته القاصفة، ويرجع بالحلقة
المفقودة ليوصلها بأخواتها، وليسلم السلسلة متلاصقة الحلقات، الا وان يومنا
هذا موصول بأيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وموصول بيوم المباهلة
وان جار عليه الزمن، وأراد ان يلفه بطيات ماضيه، لولا أن كتاب الله المجيد
يعالن الناس بذلك اليوم وبفضل أربعة فقط من مئات الألوف من المسلمين،
وان سورة آل عمران تصارحهم بفضل آل محمد صلى الله عليه وعليهم وسلم
المرموق رغم كل حاسد وكل مناوء.
ان الله بعث محمدا رسولا هاديا وداعيا مبشرا ونذيرا، يدعو إلى الله
الواحد الاحد، ونشر للناس كتابا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه
تنزيل من حكيم حميد، يهدي للتي هي أقوم، نعى ركود العقل واهاب بالانسان
إلى التفكير بملكوت السماوات والأرض قبل الايمان. " قل انظروا ما ذا في
السماوات والأرض " " وان في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار
لايات لأولي الألباب " ودعى الانسان إلى النظر في نفسه " ومن آياته ان
ان خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون " " والله أخرجكم من بطون
أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والابصار والأفئدة لعلكم
تشكرون "

4
ودعى الانسان إلى النظر في آيات الله الذي خلق كل شئ فأحسن
صنعه واحكم تدبيره وما أودع في هذا الكون من بديع الصنع واحكام التنسيق
" ان الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي
ذلكم الله فانى تؤفكون " " فالق الاصباح وجعل الله سكنا والشمس والقمر
حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم " " ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا.
وخلقناكم أزواجا. وجعلنا نومكم سباتا. وجعلنا الليل لباسا. والنهار معاشا
وبنينا فوقكم سبعا شدادا. وجعلنا سراجا وهاجا. وأنزلنا من المعصرات ماء
ثجاجا لنخرج منه حبا ونباتا وجنات ألفافا " " وفي الأرض قطع متجاورات
من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها
على بعض في الاكل ان في ذلك لايات لقوم يعقلون " إلى أمثال ذلك
من الآيات.
اجل: أمر بالنظر ثم بعد النظر والتفكير في صنع القادر الحكيم الايمان
بالله الواحد الاحد ليخلص الانسان من رق تقليد الاباء وقد نعى على الانسان
الركود والرجوع إلى الاباء والأجداد في كثير من الآيات.
وكتاب الله سبحانه الذي شق طريقه إلى قلوب الظمأى إلى عدالة
الحق لم يتبدل ولم يصبه تحريف. وإنما انحرفت نفوس قامت على انفاذ شريعته
ونصوصه متأثرة بعوامل هدامة في المبدأ والمنتهى وما زالت تعيش بين المسلمين
وبمد حبائلها وشباكها إلى القلوب والضمائر فتجرفها عاصبة عيونها بعصابة من
التعصب المقيت.

5
بيد ان هذا عهد غبر وتولت أيامه وانتهت دولته إلى أسوأ مصير
وبدت الحقيقة تنكشف مشعة لماعة وليس على طالب الحق الا ان يضع كتاب
الله بين يديه يقلب صفحاته صفحة صفحة. فليس ثمة أحد ارحم يطالب بحق
من الله ولا أحد اعلم بالخلق ظاهرهم وباطنهم منه تعالى. ثم يضع سنة رسول الله يقلبها
حديثا فحديثا.
وكتاب الله وسنة نبيه صريحان بان آل رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم أفضل من أقلته الأرض وأظلته السماء. والقارئ يقرأ في كتاب الله
المجيد المراسيم الإلهية بالتزام جانب آل رسول الله (ص) ومودة قرباه وهم علي
وفاطمة وحسن وحسين عليهم السلام ومن استوعب القرآن استيعاب تأمل
واستقصاء وقرأه قراءة تفهم واستنتاج استخلص منه أعظم المدح والثناء على
آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ولا أريدك ان تقرأ فيه الآيات مئة التي أنزلت في علي عليه
السلام (1) ولكن اقرأ قوله تعالى في سورة الأحزاب " إنما يريد الله
ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " وقد رووا عن رسول
الله صلى الله عليه وآله أنه قال نزلت في خمسة " في وفي علي والحسن



(1) في ينابيع المودة: اخرج الطبراني عن ابن عباس (رض) قال
نزلت في علي أكثر من ثلاثمائة آية في مدحه
6
والحسين وفاطمة " (1)
وجاء في القرآن في سورة حم الشورى (قل لا أسألكم عليه اجرا
الا المودة في القربى (2) ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا ان الله غفور
رحيم. أم يقولون افترى على الله كذبا) وقد رووا انه لما نزلت هذه الآية قالوا
يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال صلى الله عليه
وآله وسلم:
(علي وفاطمة وابناهما) (3)



(1) في الكلمة الغراء ص 7 وقد أورد الامام جلال الدين السيوطي في
تفسير هذه الآية من كتابه الدر المنثور عشرين رواية من طرق مختلفة في أن المراد
من أهل البيت هنا إنما هم الخمسة لاغير. وذكر بن جرير الطبري - كما في
الشرف المؤبد للنبهاني - خمس عشرة رواية بأسانيد مختلفة في قصر الآية
عليهم بالخصوص.
2 - القربى كالزلفى وهي بمعنى القرابة والاستثناء والمعنى لا أسألكم
على أداء الرسالة من الاجر الا ان تودوا قرابتي ويصح الاستثناء منقطعا
اي لا أسألكم عليه اجرا ولكن أسألكم ان تودوا قرابتي.
3 - أخرجه أحمد والطبراني والحاكم وابن أبي حاتم عن ابن
عباس كما في الصواعق المحرقة لابن حجر وأخرجه أيضا عنه ابن المنذر وابن
مردويه والمقريزي والبغوي والثعلبي في تفسيرها والسيوطي في درره المنشورة
صرح بذلك النبهاني في أربعينه في الشرف المؤيد.
ونحن لا نريد ان نأتي على كل ما جاء في هذه الآيات الكريمة من
رواية وتفسير وبحسب القارى ان يطلب الكلمة الغراء في تفضيل الزهراء
لسماحة الامام السيد عبد الحسين شرف الدين فإنها وضعت خصيصا للبحث في
هذه الآيات الكريمة والأحاديث الواردة في تفسيرها وقد أوضح هناك دلالة
هذه الآيات بأجلى بيان وأوضح برهان فجزاه الله عن الحق وأهله خير جزاء
المحسنين.
7
واقرأ ان شئت سورة الدهر - هل اتى - وامعن النظر في آية
الأبرار منها، واستوعب استيعاب متأمل نصوصها وروح معانيها لتعلم ان أهل
هذه السورة قد بلغوا الشأو، ووصلوا إلى القمة العليا وانتهت بهم المثالية إلى
أقصى الحدود التي لا تصل إليها الأفكار ولا تبلغها العقول.
ثم اقرأ آية المباهلة من سورة آل عمران (فمن حاجك فيه من بعد
ما جاءك من العلم، فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا
وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) لتعلم انه سلام الله عليهم
كما قال فيه الجاحظ " صفوة الأمم، وخيرة العرب والعجم. ولياب البشر
ومصاص بني آدم وزينة الدنيا. وحلية الدهر، والطينة البيضاء والمغرس المبارك
والنصاب الوثيق ومعدن المكارم وينبوع الفضائل واعلام العلم وايمان الايمان "
وخيرة الله للتأمين على دعاء رسول الله (ص) وبرهانه على صحة الاسلام والدعامة
لتركيز الايمان.
ولقد فهم المسلمون يوم كانوا خلوا من المؤثرات السياسة مزيد عناية الله

8
بآل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان سبيلهم إلى فهم القرآن
الكريم ورسول الله (ص) وهذه حقيقة لا سبيل إلى نكرانها، غير انا نبخس
الحقيقة والواقع حقهما إذا أنكرنا انه كان في الأفق الاسلامي بعض السحب
الداكنة كانت تلوح حينا وتضمحل حينا آخر، ورسول الله والقرآن المجيد
لم يكونا كفيلين باقتلاع بذرة الحقد على علي بن أبي طالب عليه السلام التي
كانت مغروسة في النفوس والتي نمت بعد رسول الله صلى الله عليه وآله أو في
اليوم الأول من وفاته وامتدت أغصانها في العصور المتوالية والى يومنا هذا والى
ان يشاء الله وليس من موضوعنا ان نتبسط هنا ولا نريد ان ننغمس في
هذا الحديث.
ومهما يكن من أمر فان الآية الكريمة والآيات التي تقدمتها براهين
واضحة جلية على سمو فضلهم، وعلو قدرهم، ورفعة مقامهم، وانهم صفوة
الصفوة ولباب اللباب، والخيرة الخيرة من عامة المسلمين، لا يدانيهم أحد من
الخلق ولا يضاهيهم، ولا نريد ان نستوعب الكلام في هذه الآيات ونحيل القارئ
الكريم على " الكلمة الغراء في تفضل الزهراء " الملحقة بكتاب " الفصول المهمة،
الطبعة الثانية لسماحة البحاثة المتتبع الثبت حجة الاسلام السيد عبد الحسين شرف الدين
المجاهد في سبيل الله والحقيقة وهناك تجد ما يزيل كل ريب أو شك بأجلى
بيان واضح برهان.
فتح رسول الله صلى الله عليه وآله مكة فجفل العرب الوثنيون وهالهم أمر

9
رسول الله واضطرب النصارى في نجران، وانخلعت قلوب القسس الذين يديرون
شؤون كعبة نجران، وهالهم انتشار الاسلام، وبيناهم في حيرتهم سادرون إذ ورد
عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعوهم للاسلام أو اعطاء
الجزية أو ينابذهم الحرب، والحرب كانت علاجا مرا يتجرعه رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم على كره دفعا للأذى وكفا للفتنة، وليس في موضوعنا
ان ندخل في هذا البحث.
عظم على رؤساء نجران هذا التحدي من النبي (ص) وعقدوا
مؤتمرا عاما اجتمع فيه رؤساء النصرانية ورجال حربها وأحلافهم، يشتورون
فيما يجب عليهم ان يصنعوه، لان عوامل الخطر أصبحت تحيط بنجران بصورة
خاصة وبالنصرانية بصورة عامة، وأصبح الاسلام قوى الدعائم بشمول عدله،
وقوة برهانه، وقد تلقى الدعوة الاسلامية من تلقاها وهو مستريح إليها،
لأنها دعوة طبيعة ليس فيها ما ينفيه العقل أو ينافيه وليس فيها ما يحجزه عن
النظر في ملكوت السماوات والأرض بل الاسلام دعوة إلى ذلك بصراحة
رفعت كل الحواجز وسهلت جميع السبل.
ويلوح ان المؤتمر كان صريحا اتسع فيه المجال لرجاله المتعاقدين للنظر
في الحوادث الجسيمة التي تقع على مقربة منهم وتحت سمعهم وبصرهم.
وقد أهمل التاريخ - على عادته - ما دار في ذلك المؤتمر من جدل
عنيف بين الأقطاب المشتورين في صحة رسالته وصدق دعواه.
والذي يلوح انه ليس بمستطاع للتاريخ ان يقول كلمته في ذلك وليس

10
في استطاعة المؤرخين ان يبحثوا عن أصول الحوادث أو يقولوا كل شئ، فان
شيئا مخوفا كان يكم الأفواه، ويلجم الأقلام، ولو أن المؤرخين عنوا بانتهاج
الحقائق حق العناية لكان التاريخ صورة صحيحة صادقة ليس فيها التواء
ولا اسفاف ولكن للسلطة كلمة خاصة لابد ان توحي بها إلى الأقلام، فلا تستطيع
هذه ان تحيد عنها أو تخرج من محبسها الضيق، والمؤرخين إنما يكتبون
ما تلوح به لهم السياسة وما تفرضه عليهم فرضا ليكونوا بمنجاة من خبثها ولؤمها
أو لعلهم كما يظن بعضهم " ان المؤرخين لم يوفقوا إلى إقامة التاريخ على
سنن منطقية، وقواعد نقدية تحتفل ببيان الدوافع والعوامل التي تهئ ظروف
التاريخ المختلفة وتحدد له الاتجاهات " (1) ونحن نرى انه كان للسياسة اثر كبير
في توجيه التاريخ، وكان للعقيدة أيضا اثر في تسييره، أقول هذا وانا أرى وجوها
من الأدلة تفيض في نفسي ولا معدى عنها عند تحليل الحوادث التاريخية.
ولا شك ان هذا الارهاق السياسي الذي وقعت الأقلام تحت وطأته،
وتلك الحدود الضيقة التي حبست فيها الأقلام والأفكار كانت باعثا قويا إلى
توجيه أفكار رجال صالحين من أهل العلم والأمانة عملوا تحت نكبات الصعاب
فدونوا كثيرا من الحقائق بأمانة واخلاص كما هي بعيدين عن اغراض السياسة
وأهدافها.
ولقد كلف هؤلاء الاعلام بالحق لذات الحق وهو الذي حملهم على



(1) هذا رأى الأستاذ عبد الله العلائي وقد استقاه من
اللورد اكتن.
11
تسجيل الحقائق وتدوينها، وهذا الشعور دائما هو مفتاح أعمالهم وشفافية
نفوسهم الطيبة، فتحملوا النكبات، وصبروا على الأذى، ولم يخفهم سمل العيون
وقطع الأيدي والأرجل والصلب على الجذوع النخل.
ومن الحقائق التي حملت إلينا على لسان أولئك البررة بأمانة واخلاص
حديث مؤتمر نجران وما دار فيه من جدل وحوار ونحن نقدمه إلى القارئ في
خاتمة هذا الكتاب، ولعل هذا الحديث النادر هو الذي حملنا على افراد
هذا الكتاب.
.. ففي سنة 1347 ه‍ أخرجت المطبعة رسالة سماحة المجتهد الأكبر البحاثة
الجليل السيد عبد الحسين شرف الدين سماها " الكلمة الغراء في تفضيل الزهراء "
جاء في الصفحة الثالثة ما نصه بالحرف: " وقد تصدى سيدينا الشريف المقدس
ابن طاووس لتفصيل المباهلة ومقدماتها وما كان قبلها في نجران، من المؤتمرات
والمناظرات في جلساتهم المنعقدة لذلك حين دعاهم سيد الأنبياء والمرسلين إلى
الله تعالى وأرسل إليهم في ذلك رسله، فليراجع الاقبال من أراد الوقوف
على تفصيل تلك الأحوال، ليرى اعلام النبوة، وآيات الاسلام، وبشائر النبيين
بسيدهم محمد (ص) وبعترته الطيبين الطاهرين وبذريته المباركة من بضعته سيدة
نساء العالمين، وكنت أردت ان اخرج هذه القصة من كتاب الاقبال وانتشرها
في رسالة على حده تعميما لفوائدها وتسهيلا لطالبها، ولعل بعض أهل العلم
العالية ممن حبسوا نفوسهم على نشر الحق يسبقني إلى ذلك فأكون قد فزت
بتنبيه إلى هذه المهمة "

12
جلجل الصوت في سمعي فان الدعوة جميلة ومنبعثة عن شعور قلب
كبير استوعبت مشاعري ووعاها سمعي وبصري، لأنها دعوة الخير مست القلب
فتحرك، وقرعت السمع فوعاها الذهن، ولكنها رهيبة! أمن المستطاع ان
تقرن بالتلبية؟. أم هي عصيه على هذا القلم القاصر؟!...
لقد حبست نفسي على نشر الحق، وأوقفت هذا القلم - ان صح
التعبير - على نشر الحق أيضا غير اني لست من أهل الهمم العالية الذين يقرنون
الدعوة بالتلبية ولكن الصوت العالي المنطلق في الفضاء من الرجل الكبير كان
رنانا عذبا مشت على نعماته النفس، وتحركت فيها البواعث القوية لاخراج
هذه الصورة عن مؤتمر نجران التي حملها إلينا السيد ابن طاووس، ولكنها
مقدمة بأحاديث معقبة بشروح وحواشي، غير أنها رغبة أبت ان تحققها الأيام
وانحسر الستر عن القضاء فإذا هو باسم ساخر!...
وكيف مضى الزمن والفكرة لم تحقق!؟
وليس عجبا ان تبقى الفكرة طوال هذه المدة إذا كانت مقودة بزمام
القضاء والقدر ولكن الفكرة لم تتزحزح عن مكانها الذي ولدت فيه، وإنما
ركدت تحت أكداس من رماد القضاء.
لم يتغير المبدأ الذي اتخذته لنفسي منذ تنسمت الحياة العملية في ميادين
الأعمال، ولم تتبدل الفكرة إنما برزت بروزا واضحا منذ سمعت الصوت من
الرجل الجليل واخذت أمهد السبل بالمطالعة والبحث عن يوم المباهلة، وإذا

13
بكتاب " فجر الاسلام " يشق طريقه من الأفق المصري وله في السمع
دوى مجلجل، وفي القلب طعنات دامية، وفي الضمائر وخزات مؤلمة، فتركت
يوم المباهلة وحديث مؤتمر نجران إلى كتاب " تحت راية الحق " في الرد
على طعون " فجر الاسلام ".
كانت طعون كتاب فجر الاسلام قاسية لا يرتكبها أديب مفكر
ولا يقدم عليها عالم مثقف ولكن شاء الأديب الأستاذ احمد امين ان يتخلى
عن أدبه وعلمه وشاء ان يكون مسفا ملتويا وأبت عليه نفسه ان يكون
حرا ودفعته إلى التقليد فكتب مقلدا وطعن ظالما وتحدث بغير روية فتنكب
عن الصراط السوى فأنكره الأدب والعلم واسف فجفاه الخلق والتوى في الطريق
ففقد الثقة.
وكان من الطبيعي لنا ان نترك كتاب (المباهلة) ونترك كل شئ،
فان كتاب فجر الاسلام بما يحمله من طعون دامية يحتاج إلى محاسبة دقيقة
وأقول دقيقة لا لان كتاب فجر الاسلام جائنا بشئ جديد لم يفتريه
من قبل ابن تيمية والشهرستاني وابن حزم الظاهري ولم يلصقوه بالشيعة،
وإنما يوم احمد امين بماضي سلفه وليس ما في كتابه الا حلقة تتلقى
بأخواتها المختفية خلف التاريخ وكأن تلك الأنفس التي لفها الماضي بطياته تقمصت
في هذا الانسان الذي يسمونه اليوم احمد امين.
وهكذا أسئ إلى العلم والحق مرة ثانية ولكن مع الفرق بين
الإسائتين فان تلك كانت في عصور مظلمة ظالمة غايتها ارضاء المحكوم لحاكمه

14
من عقيدة أو سياسة لا للحق والحقيقة، وتعتبر اليوم انها انحرفت عن وجهة
الحق وغادرته لكن إلى عقبى وخيمة سيئة أدت إلى سخط المنصفين، وليس
معنى هذا انه لا يوجد اليوم بين المسلمين من لا يحترم الأقلام المهوشة فان
كتاب فجر الاسلام يعلن بان لا تزال باقية ولكن حتما ان هؤلاء سيفقدون
قيمتهم الاجتماعية.
والإساءة الثانية كانت في عصر النور والحريات ولكنها تستقى من
تلك العصور المظلمة، ولا نعلم الهدف الذي يرمى إليه الأستاذ احمد امين وأمثاله
وقد أنار العلم طريق الحياة، واخذ الشعور بحب التحرر من تلك الآراء البالية
يراود النفوس الحرة لها الطريق، ولم يبق لتلك العناصر الهدامة اي قيمة
غير أنه يلوح في الأفق ان عوامل الوراثة لم تمت في النفوس، وإنما ركدت
قليلا وهي تعود إلى سيرتها الأولى والى ما كانت عليه من قبل في عهدها الأول
تسير في الأفق الضيق منبعثة عن ذلك الشعور الذي لم يعرف الحق، وإنما
هدفه النفوذ إلى مأرب خاصة، ولا يبالي من اي كان طريق النفوذ لا يعلم
واجبه العلمي، وغير مقدر تبعة ذلك.
هذه حقيقة راهنة لا سبيل إلى نكرانها ما دام يكشف عنها كتاب
فجر الاسلام وليس من موضوعنا ان نسير وراء أهداف الكتاب وقد كشفت
عن نوايا الأستاذ احمد امين طعونه التقليدية.
وبالجملة فقد انصرفنا عن كتاب المباهلة إلى الرد على مطاعن فجر
الاسلام وكتبنا كتاب " تحت راية الحق " وقدمناه إلى المطبعة ثم خرج منها

15
عائدا إلى العراق المأوى الذي خرج منه ولكن مع الأسف لم يكن بالحسبان
ان الكتاب يحبس في زاوية من زوايا الكمرك في العراق ثم يحرق.
أحرق الكتاب فكانت الصدمة عنيفة جدا وعلمت آنئذ ان الحق لا
يزال سجيا في قفصه وكل ما يستطيع ان يفعله فعل الأسود في المحبس الضيق،
وعلمت أيضا ان العلم لا يزال في محبسه الضيق تحوطه سيوف السياسة ورماحها
ولم يتهئ له الانطلاق والتحرر لان اللحظة المرجوة لبروز العلم والحقائق لم
يأت وقتها.
وفي يوم من أيام سنة 1366 كنت جالسا في مكتبة الجامعة في بغداد
مع جماعة من أهل الفضل والأدب وكان الحديث متنوعا لم تحدد أطرافه وإذا
بالأستاذ.. وهو أحد المحامين المطلعين يدخل علينا ولم يمهلنا نحن الجالسين لحظة
واحدة لنعطيه مكانه من مجلسنا وإنما توجه إلي بالسؤال التالي:
" أرأيت كتاب الاقبال؟...
استقبلت السؤال بهدوء. ولماذا؟! وما في الاقبال؟ كأنه كتاب يقرؤه
أولئك البررة الذين يجأرون إلى الله بالدعاء فان فيه اعمال الشهور وادعيتها
فهل أنت ممن يقرأه
- " ان فيه حديث مؤتمر وفيه أدب جم وتاريخ أهملته
كتب التاريخ وفيه التعريف بفضل أهل بيت النبوة آل رسول الله (ص) الذين
غمط حقهم المؤرخون.. أخرجه.. أخرجه للناس وللمستشرقين ".

16
لقد كان في دعوته حرارة، وفي كلماته صدق، وعلى قسمات وجهه
شئ من الجد الصريح.
كلمات لمست بإحدى يديها قلبي، وبالأخرى أزاحت الستار عن تلك
الفكرة المدفونة، وكأنه شعر ان لحديث نجران موطن في نفسي، فأراد ان
يزيح الرماد وينفخ في النار.
نفخ النار. وعاد ذلك الصوت من فم الرجل العظيم الجالس في " صور "
بجرسه الرنان صيحة عالية عذبة الرنة قرعت السمع فهفا إليها القلب فتقدمت إلى
القلم والكتاب وعدت إلى الموضوع الذي أهملته من قبل وها انا أقدم هذا
الكتاب إلى قرائي الكرام تلبية لذلك الصوت الذي حفظه الأثير بين ذراته
فان كنت أصبت الهدف فذلك من فضل الله علي وان أخطأني الحظ فتلك زلة
يغفرها لي الداعي الأول وقرائي الكرام.

17
نجران
من الأمور القطعية التي لا شبهة فيها تطور الديانات على اختلاف
الأدوار التي مرت عليها ولم تطرد في طريق واحد متدرجة صعودا أو
متراجعة هبوطا، والديانات التي نشأت في الشعوب كانت على أطوار مختلفة لا
يمكن الحكم عليها بالتدرج، وإنما كانت صاعدة هابطة ولم تكن على
طور واحد.
ومن الصعب جدا التعرف على تلك الأطوار التي مرت عليها مختلفة
في شكلها وطقوسها، لان كل ما وصل إلينا ظن لم يؤيد بالبرهان الصحيح على أنه
ليس من موضوعنا الحديث عنها لنتبسط في ذلك ولا تهمنا بقليل ولا كثير.
واما العقيدة بالإله أو الرب فهي فكرة سايرت الانسان في كل الأدوار
وآمن بها في أقدم العصور وان كانت أحيطت بكثير من الضلال والسخف
ولقد تعددت الأرباب عند الأمم الغابرة فتجاوزت العشرات إلى المئات وربما كان
لكل أسرة من الأسر ربا تعبده مضافا إلى آله القبيلة وربما كان للشخص الواحد
ربا يعبده وإذا خرج للسفر - ان اذن له - يصحبه كما هو الشأن عند
بعض العرب.
ولم تكن هذه الأرباب نوعا واحدا، وإنما هي أنواع شتى، تمثل
أفكارا شتى كالأرباب التي تمثل مشاهد الطبيعة كالبرق والرعد والمطر وأرباب

18
الأسر والقبائل واله الخلق إلى غير ذلك، وربما أشاروا بتماثيل مختلفة الصور
والاشكال وقد اختلفت درجات قدسها بنظرهم.
وفي نهاية مطاف أطوار الديانات المختلفة جاء " التوحيد " ومعناه
عندهم كما يلوح لنا: هو اله يعلو جميع الالهة وينفرد بالعظمة والجلال.
ثم الأديان الكتابية - بعد تلك الأطوار - هي التي أشارت إلى
الله سبحانه وأثارت فكرة التوحيد الصحيح وعلمت الناس عبادة الاله الواحد
الاحد الذي خلق كل شئ ووسعت قدرته كل موجود في السماوات والأرض
وانه لا شريك له في خلقه ولا شبيه له في عظمته تفرد بالكمال وتنزه عن
النقص لا تدركه الابصار وأحاط بكل شئ علمه وهو على كل شئ قدير لم يلد
ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.
والسيد المسيح سلام الله عليه هو أحد الدعاة إلى توحيد الله جاء في
جو مضطرب بالعقائد المفتونة بالفلسفة فدعا الناس إلى الله وذكرهم بالله الرؤوف
الرحيم وأمرهم بعبادة الله الواحد الاحد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن في دعوته
ما يمس الوحدانية بشئ ولكن الأناجيل - وقد جاءت بعد عصره بجيلين -
أشارت إلى أن المسيح ابن الله " وانا قد رأيت وشهدت ان هذا هو ابن
الله " يوحنا 24 اصحاح 1 وأشارت إلى أنه قال " انا الراعي الصالح " يوحنا
14 اصحاح 10. وأشارت إلى أنه ابن الله " قد اتيت باسم أبي ". يوحنا 43
اصحاح 5 " وكما أن الأب يعرفني اعرف الأب " يوحنا..
ثم تطورت النصرانية وامتزجت بعقائد وثنية واعتقدت الثالوث
المقدس أو الأقانيم الثلاثة: الأب والابن وروح القدس، واعتقدت الكنيسة

19
اتحاد هذه الأقانيم الثلاثة " وان الأب والابن وجود واحد، وانك حين
تقول الأب لا تدل على ذات منفصلة عن الابن أو روح القدس، لأنه لا
انفصال ولا تركيب في الذات الإلهية " وهم شئ واحد " وإن كان يستحيل
على العقل البشري ادراك كيفية الاتحاد " (1)
ولم يكن هذا التثليث المتحد معروفا عند العرب ولا مما يصل إليه عقل
العربي ولا من ديانتهم ولكنه عبر حوض البحر المتوسط والبحر الأحمر -
بحر القلزم - إلى شبه جزيرة العرب واستقر في " نجران " إلى جانب الوثنية في
" مكة " يتضارعان.
ان الوثنية كانت تتصرف بعقول الأسر والقبائل العربية في شبه
جزيرة العرب، ووجدت فيها تربة خصبة، ومنهلا عذبا، ومرتعا صالحا،
وقد كان للعرب أفانين شتى في عبادة الأوثان وكان لهذه الأوثان في نفوسهم
مكانة جليلة، وقدسية عظيمة، ويلوح انها لم تكن في درجة واحدة من
القداسة فصنم القبيلة أفضل من صنم البيت، وصنم الكعبة أفضل من صنم القبيلة
وقد اختلفت اشكال هذه المعبودات، فالصنم - وهو ما كان متخذا من خشب
أو معدن على شكل الانسان، غير الوثن المتخذ من حجر على شكل الانسان
وهما غير النصب وهو صخرة غير ذات صورة معينة.
وكذلك اختلفت درجات هذه الأصنام، فهبل مثلا كبير آلهة
العرب وهو منصوب على ظهر الكعبة يحجون إليه من كل فج عميق.



(1) المسيحية والاسلام للأب لويس ادء.
20
ولم يكتف العرب بهذه الأصنام الكبرى، بل ربما كان بعضهم أو
أكثرهم يتخذ له صنما في بيته يطوف به عند خروجه وساعة أوبته، وربما
صحبه معه في سفره.
وكانوا يعتبرونها الوسيط بينهم وبين الله ويعبدونها لتقربهم من الله
زلفى، فهم يذكرون الله على ألسنتهم، ويسمون عبد الله وتيم الله الا انهم
نسوا عبادة الله واقتصروا على عبادة هذه الأصنام.
ولقد تسرب إلى الجزيرة العربية ديانات اصطدمت مع ديانتهم
تسربت إليها اليهودية وكونت لها مستعمرات في شبه الجزيرة أهمها يثرب، ونشط
اليهود لبث دعوتهم وعملوا على نشرها في الجنوب وتهود كثير من
أهل اليمن.
وتسربت إليها النصرانية، ولم يكن طريقها من الشمال فقط، فان
النصرانية امتدت إلى الحبشة ثم عبرت البحر الأحمر إلى اليمن ثم استقرت
في نجران وكذلك تسربت من الشام إلى الحيرة وامتدت على شاطئي
دجلة والفرات.
النصرانية الحقيقة التي جاء بها عيسى عليه السلام ديانة روحية مقدسة
لم تكن لتختلف بجوهرها عن الديانة اليهودية التي جاء بها موسى عليه السلام
وكذلك لا تختلف عن الاسلام بقدر ما يتراءى اليوم من الذين يدينون
بالأديان الثلاثة.

21
وهي دين سامي متقشف دعى إلى الزهد والمسالمة " اترك القيصر لقيصر
وما لله لله " " ومن ضربك على خدك الأيمن فادر له الأيسر " ولم يكن فيها
اي جدل في طبيعة السيد المسيح ولكنها اصطدمت بمدرسة الإسكندرية -
وكانت ملتقى ثقافات ومجمعا من مجامع العلم والحركة الفكرية - والتقى الفكر
السامي القائل بطبيعة واحدة بالفكر الروماني الوثني، ولم تخرج المسيحية بريئة من
هذا المجتمع وإنما تلقحت بالتثليث وبهذا تزحلقت النصرانية عن سموها الروحي
وهوت من علياء مراتب الايمان الكامل إلى الجدل في المسيح وأمه عليهما
السلام وعبادة الصور مما قربها إلى الوثنية.
ولم تكن النصرانية من قبل تعرف الصور ولكن المؤتمرات التي كانت
تعقد تباعا وتقرر بشأن طبيعة المسيح عليه السلام هي التي كانت تقرر ادخال
الصور وبعض المؤتمرات كان ينفيها والذي يلوح انه كان للأهواء الشخصية
اثر كبير في ذلك.
وقد انشقت النصرانية على نفسها إلى فرق عديدة: فرقة يرون
ان المسيح هو الله وان الله والانسان اتحدا في طبيعة واحدة هي المسيح.
وأخرى قالت إن للمسيح طبيعتين متميزتين الطبيعة اللاهوتية والطبيعة الناسوتية
إلى غير ذلك من الفرق، وقد أشار القرآن المجيد ورد عليها فقال: " لقد
كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم.. وقال المسيح يا بني إسرائيل
اعبدوا الله ربي وربكم انه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار.
وما للظالمين من أنصار. لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من اله
الا اله واحد. قل فمن يملك من الله شيئا ان أراد ان يهلك المسيح بن

22
مريم وأمه ومن في الأرض جميعا " والمسيح نفسه نفى ما ينسب إليه من ادعاء
الألوهية كما نص على ذلك الكتاب المجيد " وإذ قال الله يا عيسى بن مريم
أنت قلت للناس اتخذوني وأمي الهين من دون الله. قال سبحانك ما يكون
لي ان أقول ما ليس لي بحق ان كنت قد قلته فقد علمته فإنك تعلم ما في نفسي
ولا اعلم ما في نفسك انك أنت علام الغيوب "
" ويلوح ان فكرة التثليث لم تكن قبل القرن الثالث للميلاد وان
أول من نشر فكرة التثليث هو راهب مصري اسمه انناسيوس كان البابا العشرين
الكنيسة الإسكندرية من سنة 326 - 373 " (1)
والذي يظهر ان الذي عبر إلى الجزيرة العربية من هذه العقائد
عقيدتان: العقيدة النسطورية والعقيدة اليعقوبية وانتشرت النسطورية في الحيرة
واليعقوبية عند الغسانيين وسائر بلاد الشام، ويظن بعضهم ان نجران ان كانت على
مذهب اليعاقبة.
وقد انتشرت التعاليم المسيحية بين العرب ووجد فيهم من يميل إلى
الرهبنة، وبناء الأديرة، واشتهر منهم قس بن ساعدة وذكروا انه " كان
يتقفز القفار، ولا تكنه دار، يتحسى الطعام ويأنس بالوحش والهوام "
وذكروا ان قسا هذا كان أسقف نجران، وكذلك اشتهر منهم
أمية بن السلط وورقة بن نوفل.
وقد نشط القسس والرهبان للتبشير بالدين المسيحي وكانوا يردون
أسواق العرب لهذه الغاية.



(1) راجع تاريخ الكنيسة المصرية هلال شهر ديسمبر 1927
23
وكان أهم موطن للنصرانية في الجزيرة العربية نجران - وهي من
مخاليف اليمن من ناحية مكة - وكانت بلدة زراعية خصبة " عامرة بالسكان
تصنع الأنسجة الحريرية وتتاجر في الجلود وفي صنع الأسلحة وكانت إحدى
المدن التي تصنع الحلل اليمانية التي تغني فيها الشعراء وكانت قريبة من الطريق
التجاري الذي يمتد إلى الحيرة ". وتغنى بنجران وبكعبتها الشعراء يقول الأعشى:
وكعبة نجران حتم * عليك حتى تناخى بأبوابها
نزور بزيدا وعبد المسيح * وفيساهم خير أربابها
وشاهدنا الجل والياسمون * والمسمعات بقصابها
ويربطنا دائم معمل * فأي الثلاثة ازرى بها
وذكروا ان أهلها كانوا قبل النصرانية " على دين العرب يعبدون
نحلة عظيمة بين أظهرهم، ولها في كل سنة عيد، فإذا كان ذلك العيد علقوا عليها كل
ثوب حسن وجدوه وحلى النساء " وقد ذكروا أسبابا لاعتناق أهلها دين
النصرانية ولكن في كلها مجال للشك ولا يهمنا تحقيق ذلك.
ومهما يكن من مر فان نجران تنصرت وصارت مركزا مهما للنصرانية،
وبنوا فيها كعبة غرار الكعبة في مكة قال ياقوت:
" وكعبة نجران هذه - يقال - بناها بنو عبد المدان بن
الديان الحارثي على بناء الكعبة، وعظموها مضاهاة للكعبة وسموها كعبة
نجران وكان فيها أساقفة معتمون، وهم الذين جاءوا إلى النبي صلى الله عليه
وآله وسلم ودعاهم إلى المباهلة " (1)



(1) معجم البلدان ج 8 ص 264.
24
وقد غزوا ذو نواس نجران بجنوده ودعاهم إلى اليهودية فأبوا عليه،
وذكروا في سبب ذلك " ان يهوديا كان بنجران عدا أهلها على ابنين له
فقتلوهما ظلما فرفع امره إلى ذي نواس وتوسل إليه اليهودية واستنصره على
أهل نجران - وهم نصارى - فحمى له ولدينه وغزاهم " وقتل جماعة بالسيف
وجماعة خدد لهم أخدودا من نار وألقاهم فيه وبعضهم يرى أنه نزل في تلك
الواقعة قوله تعالى " قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود إذ هم عليها
قعود وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود وما نقموا منهم الا ان يؤمنوا بالله
العزيز الحكيم " وللشك في ذلك مجال واسع. وقد استنجد نصارى نجران
بالحبشة فأنجدوهم وغزوا بلاد العرب وهزموا ذا نواس واستمرت النصرانية
في نجران تحميها الحبشة من الجنوب والروم من الشمال.
وكان يتولى كعبة نجران - وان شئت فقل نجران وتوابعها -
ثلاثة: السيد - واسمه وهب - ويظهر انه كان يدير الأمور الخارجية وبتولي
أمور العلاقات بينهم وبين القبائل من غيرهم وهو ما نسميه اليوم وزير الخارجية
وكان أيضا رئيسهم في الحرب وهو ما نسميه وزير الحريبة أو وزير الدفاع.
والعاقب - واسمه عبد المسيح - وكان يتولى الأمور الداخلية وهو ما نسميه
اليوم وزير الداخلية والأسقف - وهو أبو حارثة - وكان يتولى الأمور
الدينية. ولكن المهمات كان يشتور الثلاثة فيها. قال ياقوت:
" ووفد على رسول الله (ص) وفد نجران وفيهم السيد - واسمه
وهب - والعاقب - واسمه عبد المسيح - والأسقف - وهو أبو حاتم -
وأراد رسول الله (ص) مباهلتهم فامتنعوا وصالحوا النبي (ص) فكتب لهم كتابا
فلما ولى أبو بكر نفذ ذلك لهم ولي عمر أجلاهم واشتري أموالهم "

25
وفد نجران
في لحظة قصيرة من الزمن خفق علم الاسلام في الجزيرة العربية
وانطلقت الألسن في البيوت وفي المساجد وعلى المآذن تشهد ان لا إله إلا الله
وحده لا شريك له وأن محمدا رسول الله في كل يوم خمس مرات.
في لحظة قصيرة جدا رأيت القلوب تهتز طربا عندما تنطق الشفاه بهذا
الاسم المبارك الأغر.
فان قرابة عشرين سنة يستظهر بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
على وثنية العرب دين آبائهم وأجدادهم هي لحظة من الزمن قصيرة جدا، وما
عشرون عاما إذا قسناها إلى الجهود الجبارة، والفتح العظيم، والانتصار الباهر
على الوثنية.
لم يكن من حاجة لدين محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى زمن طويل
ليظهر فيه على الأديان كلها، فإنه دين تسكن إليه نفوس مؤمنة بدوام ظله
وشمول عدله.
ولم يكن من حاجة لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى زمن طويل
ليستظهر على الوثنية الرعناء، وعلى النصرانية المتزحلقة، وعلى اليهودية المتكالبة لأنها دعوة ليس فيها ما ينفيه العقل.

26
وهل محمد الا رسول الله أرسله رحمة للعالمين؟
وهل محمد الا بشير ونذير؟
وأي نفس سامية تتردد في ترك عبادة الأوثان لعبادة الله الواحد
الاحد؟... وأي نفس سامية مفتوحة للحق ولا تتسع لتعاليم محمد صلى الله
عليه وآله وسلم؟.. أليس يدعو الناس إلى الحب والمودة والإخاء في الله،
والى التراحم والبر والاحسان واعطاء السائل والمحروم، والبر باليتيم؟
ويدعوهم فيما يدعوهم إلى فك العقل من قيوده والى الحرية المطلقة، ويدعوهم
إلى ترك الرذيلة، والى التمسك بأهداب الفضيلة، ويدعوهم إلى توحيد الله الذي
خلق كل شئ وبيده ملكوت كل شئ، يدعوهم إلى تحطيم كل ما بينهم وبين
الله سبحانه من أغلال لا هبل ولا اللات ولا العزى فإنها كلها لا تغني عن
الله شيئا.
لقد أعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم كل العدد، وهيأ الله له الأسباب
وجاء نصر الله والفتح وفتح رسول الله (ص) مكة، ودخل الناس في دين الله
أفواجا، وأقام الرسول (ص) في المدينة ومعه المسلمون مستريحين إلى نصر الله
وقد كال جهادهم بالفوز والظفر واستتب الامر لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم
استتابا جعل العرب الذين لم يؤمنوا بالله ورسوله (ص) يخافون سطوة الاسلام
فتوافدوا على رسول الله (ص) ليدخلوا في دين الله.
ولكن هذا كله لم يكن تمهيدا كافيا للانتقال العظيم الذي أعد له الاسلام،
ولنشر الدعوة في المملكتين العظيمتين فارس والروم، فان رسالة الاسلام عامة

27
لم تكن لبلاد دون أخرى، أو لقوم دون آخرين والنصر وإن كان بيد الله،
يؤتيه من يشاء من عباده، لكن لا يؤتيه الا لمن أعد له كل عدده.
والدعوة الاسلامية قد بلغت يومئذ من النضوج في النفوس ما يجعل
الاسلام دين الكافة من الناس، والدعوة في ذلك العهد تعدت عن دور
التوحيد، والوعد والوعيد، إلى النواحي الاجتماعية والأخلاقية والسياسية.
وقد آن للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ان يهئ المسلمين للانتقال
العظيم إلى خارج الجزيرة إلى الشمال والى الجنوب.. وآن له ان يبعث في نفوسهم
روح النشاط لفتح المملكتين فارس والروم. وآن للمسلمين ان يفهموا ان
هذا العلم المبارك الذي يرفرف فوق شبه جزيرة العرب يجب ان يخرج إلى خارجها
ليرف أيضا فوق عروش القياصرة والا كاسرة، ثم ليطوف حول حوض البحر
الأبيض ثم ينتهي به المطاف إلى ما وراء البحار..
ولم يكن في الدعوة الاسلامية ما يخشى معه رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم الدعوة إليه فإنه دين الحرية والمساواة، والبر والرحمة وفك العقل
من القيود والاغلال، تتقبله النفوس مرتاحة إليه.. ولم يكن رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم ليتردد يوما في دعوة الملوك إلى الاسلام ولكنه أراد ان يهئ
أصحابه للنهوض فخرج عليهم يوما فقال:
" أيها الناس: ان الله بعثني رحمة وكافة، فلا تختلفوا علي كما اختلف
الحواريون على عيسى بن مريم "
- وكيف اختلف الحواريون يا رسول الله "
- دعاهم إلى الذي دعوتكم إليه، فاما من بعثه مبعثا قريبا قر وسلم،

28
واما من بعثه مبعثا بعيدا فكره وجهه وتثاقل "
ثم ذكر لهم انه مرسل إلى هرقل وكسرى والمقوقس والحارث
الغساني ملك الحيرة، والحارث الحميري ملك اليمن، والى نجاشي الحبشة.
وذكروا انه لما فتح النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة وانقادت له
العرب وأرسل رسله ودعاته إلى الأمم، وكاتب الملكين كسرى وقيصر يدعوهما
إلى الاسلام أو الاقرار بالخزية أو الاذان بالحرب أكبر شأنه أهل نجران
وخلطاؤهم من بني عبد المدان وجميع بني الحرث بن كعب ومن انضوى إليهم
ونزل بهم من دهماء الناس على اختلافهم هناك في المذاهب النصرانية من الأروسية
والسالوسية والمارونية والنسطورية، وقد امتلأت قلوبهم - على تفاوت
منازلهم - رهبة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورعبا، وانهم لكذلك
إذ وردت عليهم رسل رسول الله (ص) وهم: عتبة بن غزوان وعبد الله بن
أبي أمية والهديل بن عبد الله أخو تيم بن مرة وصبيب بن سنان يدعوهم
إلى الاسلام، فان أجابوا فإخوان في الله، فان أبوا فإلى خطة الخسف الجزية
عن يد وهم صاغرون، وان أبوا فأذنوهم على سواء، وكان في كتابه صلى الله
عليه وآله وسلم لهم:
" قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم " لا نعبد الا
الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فان تولوا
فاشهدوا بانا مسلمون "
ذعر الأساقفة ذعرا شديدا وهز الكتاب نجران هزا عنيفا فعقدوا
مؤتمرا عاما في كعبتهم اجتمع فيه رؤساء نجران، وأهل الرأي من الأقيال

29
واجتمع من القبائل من عك وحمير وأنمار ومن دنا منهم سببا ونسبا، فكان
مؤتمرا عاما اشتوروا فيه وأفاضوا فيه الرأي والجدل العنيف في حديث مفصل
بجده القارئ في خاتمة هذا الكتاب (1)
ويلوح لنا ان المشادة كانت عنيفة بينهم فيما يجب ان يتخذوه من
حيطة ليأمنوا غزو الاسلام، وليحتفظوا بكعبتهم " لأنهم أصابوا بموضعهم من
دينهم شرفا ووجها عند ملوك النصرانية جميعا. "
ويلوح أيضا انه كان في هؤلاء الأساقفة من هو مؤمن برسالة محمد
صلى الله عليه وآله وسلم مصدق بدعوته.
وذكروا انه اجتمع عامة الناس على السيد والعاقب يسألونهما -
بعد هذا الجدال العنيف - " عن رأيهما وما يعملان في دينهم فقالوا لهم
" تمسكوا بدينكم حتى يكشف لنا دين محمد وسنسير إلى يثرب وننتظر ما
جاء به وفيما يدعوا إليه "
قالوا: " وتجهز السيد والعاقب والأسقف ومعهم أربعة عشر راكبا
من نصارى نجران وسبعون رجلا من اشراف بني الحرث بن كعب وساداتهم
- وفيهم قيس بن الحصين ويزيد بن عبد المدان - فاغترز (2) القوم ظهور



(1) أهمل المؤرخون هذا المؤتمر كما أهملوا كثيرا من الحقائق الأخرى
ومروا بيوم المباهلة وبالمؤتمر مرورا عابرا ونحن وضعنا هذه الرسالة لنقدم
للقراء هذا المؤتمر المنعقد في نجران بما فيه من حوار وإشادة بفضل آل رسول
الله وصدق رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
(2) غرز الرجل رجله في الغروز - الركاب - وضعها فيه
30
خيولهم واقبلوا لوجوههم إلى المدينة "
وقالوا: " ولما استراث (1) رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خبر
أصحابه انفذ إليهم خالد بن الوليد في خيل سرحها معه لمشارفة أمرهم فألفوهم
وهم عائدون "
وقالوا أيضا: " ولما دنوا من المدينة أحب السيد والعاقب ان يباهيا
المسلمين وأهل المدينة بأصحابهما، وبمن خف من بني الحرث معهما فاعترضاهم
وقالا لو كففتم صدور ركابكم ومسستم الأرض فألقيتم عنكم تفثكم (2) وثياب
سفركم وشننتم (3) عليكم من باقي مياهكم كان ذلك أمثل، فانحدر القوم عن
الركاب، فأماطوا من شعثهم (4) والقوا عنهم ثياب بذلتهم (5) ولبسوا ثياب صونهم
(6) من الانحميات (7) والحرير والحبر، وذروا المسك في لممهم (8) ومفاوقهم
ثم ركبوا الخيل واعترضوا الرماح على مسابح (9) خيلهم، واقبلوا يسيرون
زردقا (10) واحدا، وكانوا من أجمل العرب صورا وأصحهم أجساما وخلقا،



(1) استراث الخبر استبطأه
(2) اي أزلتم الوسخ عنكم (3) شن الماء عليه اي صبه (4) الشعث
ككتف المغبر الرأس وأماط كشف اي أزالوا الغبرة التي لحقتهم من السفر
(5) البذلة من الثياب ما يستعمل كل يوم (6) الثياب التي تحفظ فيهم وتلفت انظار
الناس إليهم (7) اتحم الحاثك الثوب وشاه (8) الشعر المجاوز شحمة الأذن فهو لمة
فإذا بلغ المنكبين فهواجمة (9) المسبح منتهى معرفة الفرس وقيل هو منتهى
منبت العرف تحت القربوس اي وضعوا الرماح على فرابيس الخيل عرضا استهانة
بالمسلمين وعدم المبالاة على حد قول الشاعر:
جاء شقيق عارضا رمحه ان بني عمك فيهم رماح
والذي يتهيب الامر لابد ان يكون على استعداد فيحمل رمحه متهيئا للطوارئ
31
فلما كشفوهم الناس اقبلوا نحوهم، فقالوا " ما رأينا وفدا أجمل من هؤلاء " وكان
الحارث بن كعب يقول " ما رأينا وفدا مثلهم "
" واقبل القوم حتى دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في
مسجده وحانت صلاتهم فضربوا ناقوسهم في المسجد وقاموا يصلون إلى المشرق
فأراد الناس ان ينهوهم عن ذلك فكفهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،
ثم أمهلهم وأمهلوه ثلاثا، فلم يدعهم ولم يسألوه، لينظروا إلى هديه ويعتبروا
ما يشاهدون منه مما يجدون من صفته فلما كان بعد ثلاث دعاهم إلى الاسلام
فقالوا:
" يا أبا القاسم ما أخبرتنا كتب الله عز وجل بشئ من صفة النبي
المبعوث من بعد الروح عيسى " عليه السلام " الا وقد تعرفناه فيك الا خلة
هي أعظم الخلال آية ومنزلة، وأجلاها امارة ودلالة "!!..
رسول الله (ص) - " وما هي "؟.
- " انا نجد في الإنجيل من صفة النبي.. من بعد المسيح انه يصدق
به ويؤمن به وأنت تسبه وتكذبه وتزعم انه عبد "!!...
- " بل أصدقه واصدق به وأؤمن به، واشهد انه النبي المرسل من



(10) اي صفحا واحدا.
32
ربه عز وجل وأقول: انه عبد لا يملك نفعا ولا ضرا، ولا موتا، ولا حياة
ولا نشورا.
- وهل تستطيع العبيد ان تفعل ما كان يفعل؟ وهل جاءت
الأنبياء بما جاء من القدرة القاهرة؟!. ألم يكن يحى الموتى ويبرأ الأكمه
والأبرص، وينبئهم بما كانوا يكنون في صدورهم، وما يدخرونه في بيوتهم؟
فهل يستطيع هذا الامر الا الله عز وجل أو ابن الله؟!.
- وقد كان عيسى أخي كما قلتم يحي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص
ويخبر قومه بما في نفوسهم وبما يدخرون في بيوتهم، وكل ذلك بإذن الله
عز وجل وهو عبد الله.. غير مستنكف، فقد كان لحما ودما وشعرا وعظما
وعصبا وأمشاجا يأكل الطعام ويظمأ وينصب والله باريه وربه الاحد الحق الذي
ليس كمثله شئ وليس له ند "
-: " فأرنا مثله جاء من غير فحل ولا أب
-: " هذا آدم عليه السلام أعجب منه خلقا من غير أب ولا أم،
وليس شئ من الخلق بأهون على الله عز وجل في قدرته من شئ ولا أصعب
وإنما امره ان أراد شيئا ان يقول له كن فيكون.
" ان مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن
فيكون.
فقالوا: " فما نزداد منك في أمر صاحبنا الا تبينا، وهذا الامر
الذي لا نقره لك فهلم فلنلاعنك (1) أينا أولى بالحق ونجعل على الكاذبين



(1) يلوح من هذه الرواية ان وفد نجران طلب الملاعنة، ويخالفها
روايات شتى ويظهر منها ان الذي طلب المباهلة هو رسول الله (ص) وهذا
الذي يظهر من القرآن المجيد.
33
فإنها مثله وآية معجلة "
" فغشيه الوحي ونزل عليه قوله تعالى " فمن حاجك فيه من بعد ما
جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا
وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين "
وتلا عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما نزل في ذلك عليه
من القرآن وقال:
" ان الله امرني ان أصير إلى ملتمسكم وأمرني بمباهلتكم ان أقمتم
وأصررتم على قولكم "
- ذلك آية ما بيننا وبينك وإذا كان الغد باهلناك. ثم انصرفوا إلى
أماكنهم "
تذوق الرجال العارفون من الوفد حلاوة ما قرأ عليهم رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم من آي القرآن الحكيم وادركوا صدق الحديث
وادركوا شدة الخطر الذي يحوطهم فيما إذا باهلوا، ولقد توفرت لدى بعضهم
الامارات الدالة على صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وصحة رسالته
وإن كان الجهل والتعصب كانا يسيطران على بعض ذوي الشأن منهم
فكان يعتز بالحول والطول!..
ويظهر لنا ان بعضهم غلبت عليه شهواته في حب الرياسة والجاه العريض

34
الذي نالوه من ملوك النصرانية وهذا النعيم الترف الباذخ " اما رأيت ما فعل
بنا هؤلاء القوم؟. أكرمونا ومولونا ونصبوا لنا كنايسنا وأعلوا فيها ذكرنا
فكيف تطيب نفوسنا بدين يستوفي فيه الشريف والوضيع؟ "
ومن اليسير ان نعرف ان هذه الأرستقراطية هي التي عصبت عيونهم عن
الالتجاء إلى الواقع المحسوس وتغلبت على عقولهم والانتقال من ارستقراطية
إلى ديمقراطية تتصل بالروح والعقل لا تقوى عليها النفوس المشغوفة بالملكية
والثراء وحب الرياسة.
وعلى الغالب ان فكرة القوة وفكرة الثراء وحب الجاه شعور مرده
في بعض الأحيان إلى الغيرة النفسية التي تحصل عادة من المفضول على فاضله
المتغلب عليه بالبرهان القطعي والدليل الواضح وقد برز الان واضحا في نفوس
النجرانيين، بيد انه مهما كان لهذه العناصر من مظاهر الجد في النفوس وإرادة
ان تظهر بالمظهر الحازم في الساعة الحاسمة فإنها لا تلبث ان تنهزم مخذولة من
قوة الحق. وبحسبنا ان نطالع صورة ثانية يرسمها النجرانيون حينما انصرفوا
إلى منزلهم من الحري وخلا بعضهم إلى بعض وقد اعتصرت يد الأسى تلك
القلوب المشغوفة بذلك البذخ وتلك الأموال التي تغدقها عليهم النصرانية من
الشمال ومن الجنوب. وهذا رجل من العارفين يرشد قومه إلى الحقيقة فيقول
لهم: " قد جاءكم محمد بالفصل من امره وأمركم فانظروا أولا بمن يباهلكم؟
أبكافة اتباعه أم باهل المكانة من أصحابه. أم بذوي التخشع.. والصفوة ة دينا
وهم القليل منهم عددا؟! فان جاءكم بالكثرة وذوي الشدة فإنما جاءكم مباهيا كما
يصنع الملوك فالفلج إذا لكم دونه.. وان جاءكم بنفر قليل ذوي تخشع فهؤلاء

35
سجية الأنبياء وصفوتهم وموضع بهلتهم. فإياكم والاقدام إذا على مباهلتهم.
فهذه لكم امارة فانظروا حينئذ ما تصنعون بينكم وبينهم "!!
هذا قسط من الرأي الصائب والنصيحة الرشيدة وهو كاف للقارئ
ان يفهم منه انهم على علم سابق من سيرة الرسل وأوليائهم الذين طبعوا على
غرارهم، وجلي بعد هذا ان أهل التخشع هم الصفوة من اتباع الرسل
والأنبياء، وموضع ثقتهم وبهلتهم.
وهذه كلمات تلقي ضوءا على جانب كبير من الحق وهي في مجموعها
صورة صادقة للحقيقة رسمتها كلمات الله في كتبه المنزلة على أنبيائه ورسله وهي
نصيحة على كل حال. ونصيحة موفقة في كثير من نواحيها.
وجدير بمن كان يصطفيهم الأنبياء ان يكونوا القدوة لكل جيل من
الأجيال، يجب على المؤمنين الاقتداء بهم والاسترشاد برشدهم وحقيق بالمؤمنين
اتباعهم في الطريق التي يسيرون عليها لأنهم لا يدلون الا على خير ولا يرشدون
الا إلى حق كما ورد في الحديث عن عمار بن ياسر ".. يا عمار ان سلك الناس
كلهم واديا وسلك عليا واديا فاسلك وادي علي وخل عن الناس. ان عليا لا
يردك عن هدى ولا يدلك على ردى. يا عمار طاعة علي طاعتي وطاعتي
طاعة الله "
وأصحاب محمد صلى الله عليه وآله أو بتعبير أوسع المسلمون وان
بلغوا مئات الألوف في عهد صاحب الرسالة (ص) ولم يكن طريقهم إلى الدين
طريقا واحدا ولم يكن هدفهم واحدا ولم يصل الدين إلى أعماق قلوبهم

36
بنسبة واحدة والذين امتازوا بهديهم واخلاقهم وكمالهم النفسي كانوا افرادا قلائل
أولئك النخبة الممتازة ة ومن بين هذه النخبة الممتازة افراد هم الصفوة الصفوة ولباب
اللباب هم " أهل بهلة الأنبياء " وموضع عناية الله سبحانه وهداة الخلق إلى
الحق لا يقاس بهم أحد ولا يساويهم في المنزلة عند الله أحد وهم " سجية الأنبياء وصفوتهم " الذين اصطفوهم من بين سائر المؤمنين ولو سئل الله بهم سؤال السائلين.
وما كادت تطالع أساقفة نجران ان وجوه أهل بهلة الأنبياء حتى ارتدوا
على أعقابهم ترتعد فرائصهم بعد لم يثوبوا إلى رشدهم من الدهشة التي
اخذتهم حينما شاهدوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى طالعتهم هذه
الوجوه المشعة بالنور الرباني في الساعة الحاسمة فاحتوتهم الدهشة ثانية وطاشت
عقولهم فقد رأوا وجوها لو سئل الله ان يزيل بها جبلا لازاله.
ودنت اللحظة الفاصلة التي كادت ان تفصل بين عهدين، وتحسم بين
مبدأين إلى النهاية ة التي لا تتصل بحد من الزمن، وقد جاء رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم بالقول الفصل من امره وأمرهم، ولا بقاء على الدوام الا للأصلح.
ولا شك بان المسيحية لم يبق لها شكلها الروحي، والعالم يحتاج
المصلح الذي يطهر العقيدة من دنس الرذائل التي عمت أطراف العالم.
وأسقف نجران أبى وامتنع عن أن يباهل، فان تلمس الحقيقة في
الوجوه التي خرجت لتباهله وليس في نجران ولا في غيرها من يدفع لعنة الله
الحاطمة والعذاب النازل فيما لو سأل محمد صلى الله عليه وآله وسلم ربه ان يجعل لعنته
على الكاذبين ورفعت تلك الأيدي للتأمين على دعاء نبيه، وعرفوا انه لن
يخطئهم السهم المراش فيما إذا باهلوه وانهم في نقطة التحول، والعقل لا يتصور

37
في البراهين أقوى من برهان الوجدان والعيان وهذه سحب البلاء تتدافع
في الفضاء.
وعرفوا أيضا ان النصرانية قد بلغت حدها المحدود برسالة محمد صلى الله
عليه وآله وانتهى اجلها الذي أجلت له وانطوى بين تلافيف الزمن كما
طويت شرائع من قبل وليلحق آخرها بأولها وحاضرها بماضيها.
واستيقن الأسقف ان يومهم هذا لم يعد موصولا بماضيه، وإنما هي
شريعة جديدة وعدوا بها على لسان السيد المسيح، وكتاب جديد ورسالة
نهجت للناس الطريق الأمثل ومضت تشق طريقها إلى أرواح الناس لتجلوها
من صدء الاجرام الخلقي الذي انغمس في مبائتها العالم باسره.
وهذا محمد رسول الله بحق يتقدم إلى الأمم وبيده كتاب الله المجيد
ينير البصائر، ويرسم المثل العليا من الفضائل التي تأخذ بيد البشرية إلى
السعادة الدائمة.

38
السمر
اجتاز الركب سكك المدينة على خيولهم المطهمة تفوح منه رائحة
المسك وعليهم ثياب صونهم من الحرير اللماع، والحبر الموشى، على سرج
مزركشة بالذهب الوهاج، قد اعترضوا الرماح على مناسج خيلهم، وكانوا من
أجمل العرب صورا.
وبعد - لم يكن عجبا إذا افتتن الضعفاء بالوفد النجراني الذي يتمتع
بكل المغريات للنفوس الضعيفة.
وليس عجبا إذا كان هذا الوفد حديث أهل المدينة، فقد
دخلها وفود كثيرة في السنة العاشرة وقبلها يقدمون الطاعة للنبي صلى الله عليه
وآله وسلم، ولكن ليس فيهم مثل وفد نجران في معالمه الفاخرة وزينته اللماعة
يقول المحارث ابن كعب: " ما رأينا وفد مثلهم ".
كانت صورة الوفد تمر في نفس أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم
جميعا، ولكنه مرور عابر في نفوس بعضهم، وهي أهون عليهم من أن تثير
شيئا، فان الرسالة السماوية نهجت لهم الطريق الأمثل. على حين استقرارها

39
في نفوس البعض الاخر مجلوة بترفها المغدق، ونعيمها الباذخ، رهيبة اللمعان،
رنانة الجرس، هفت إليها النفوس الضعيفة واستوعبت مشاعرا وقلوبا ما أضاءها
النور المنبثق من رسالة السماء، والضوء المنير من مصباح محمد صلى الله عليه
وآله وسلم..
كان الترف الناعم، والنعيم الباذخ، والعيش اللين الذي يتمتع به وفد
نجران حديث جماعة من أهل المدينة في سمرهم ومجالسهم.
وأين المحتاج الذي يستطيع ان يرد طرفه عن حياة ناعمة، ونعيم
ترف ودنيا مزهوة؟
وأي المحرومين لا يفكر في هذا النضار الوهاج المدلى في صدورهم؟
وقد صنعوا منه مقابض سيوفهم ووشوا به حبرهم، وسرج خيولهم، ثم لا
تنكمش نفسه ولا يستهويه الذهب اللماع ولم تكن نفوسهم قد اكتملت بمناهج
الدعوة الاسلامية ولم تتصل بأرواحهم لينظروا إلى زخرف الحياة نظر ازدراء
وليجعلوا متعها تحت مواطئ الاقدام، فان الاسلام هدى إلى الصراط القويم،
والهدى رحمة من الله تجلو النفس، وصفاء يمحو الظلمة، وسعادة تصوغ النفس
من جوهر تتضاءل امامه المادة فلا يبقى لها اي ثمن.
ليلة مظلمة. لا يكاد ملتمس يحس فيها بطريقة لولا قبس ترسله النجوم
المتلألئة في صفحة السماء تفتح يدها مرة وتقبضها أخرى.. تقدمت جيوش
الظلام تسدل الستائر - وقد القى النهار سلاحه - على يثرب مدينة الرسول

40
(ص) ومصدر النور.. هو ذا الليل يوغل ايغالا ويلبس القضاء بردته السوداء
فتمتد على الكون روعة السكون، وليس فيه ما يعكر صفحة السماء الا هذه
الغيوم التي تدفعها الرياح إلى الفناء.
ليلة مشهودة، لم تتصل بما قبلها ولا بما بعدها، فان اضطرابات فكرية
ضربت حصارها على الأفكار والعقول فحارت في شأنها، فان يدا قوية تمرست
بعواصم من القوة لم تؤثر فيها قوة الحق.
ليلة مشهودة، تزخر بالحوادث وتموج بألوان من الأفكار والناس
لا يعلمون انها تحمل الحادث الخطير، وان له شأنا بين الحوادث الخالدة الذكر
وكل ما يعلمون ان الأفكار تتدافع كلما اجتمع اثنان أو أكثر كما تتدافع أمواج
البحر في الريح العاصفة.
فرغ المسلمون من صلاتهم وما كان ليطيب لأكثرهم العودة إلى
منازلهم ولكنهم تكتلوا في مسجدهم حيث أقاموا صلاتهم يتحدثون كل وما
يعنيه من أمر الحياة أو شؤون المسلمين العامة.
ولقد كان الوفد النجراني سفرا ضخما تجمعت فيه كل الأحاديث
وفيه نواح كثيرة للحديث فليس عجبا إذا كان حديث جماعات من المسلمين في
هذه اللحظة من الزمن الحالك السواد، فقد كان هذا الاغراق في الترف
حريا بان يدفع الناس للحديث عنه، وكان هذا العنت الشديد منه حريا بان يكون
موضعا للعجب وللحديث، وان النفوس الفاحصة عن الوقائع أميل إلى التوغل
في الحديث عن نهاية الطاف في الحادث وانه مشهد يعسر نسيانه وفيه مغريات

41
قد لمست أكثر القلوب بكلتا راحتيها.
وفي زاوية المسجد حلقة مستديرة كبيرة فيها ألوان الأفكار ومختلف
الأذواق والميول يتصل حديثها بالوفد مباشرة.
المحارث بن كعب - أرأيتم وفد نجران في معالمه الفاخرة، وزينته
وقد ملأت القلوب؟ والحق اننا " ما رأينا وفد مثلهم " ولكن في حديثهم
عن المسيح استحالة لا تصل إليها العقول وما أقر بها إلى الوثنية التي كنا ندين
بها قبل الاسلام، ولا أدري كيف يتوصل العقل البشري إلى اتحاد أقانيم
ثلاثة في حقيقة واحدة ثم لا يؤثر اطلاق الأب على الابن أو الابن على الأب
أو هما على روح القديس، ان هذه لشئ عجاب.
بشير - ليس الذنب ذنب الأديان، وإنما الأديان جميعها غايتها
الاندماج في الكمال الروحي، وانها جميعها تربط البشرية في فكرة واحدة
- الله - الواحد الاحد، وما تراه من تشعب المذاهب، واختلاف العقائد،
ليس هو من طبيعة الأديان التي جاءت بها رسل الله إلى خلفه وإنما هو من
ذنب القائمين عليها من بعد الرسل، والفكرة المسيحية التي قررها الإنجيل
فكرة ة واحدة لا تختلف عن الاسلام وهي لا تتصل بما نراه اليوم من نزاع
حول طبيعة المسيح وأمه والأقانيم الثلاثة.
والمسيحية في حقيقتها دين مقدس بحث عن العلاقة بين الانسان وخالقه
وبين الروح ومصدرها والشبهات المرتكزة التي نراها هي بعيدة عن الناموس
الأكبر الذي جاء به عيسى بن مريم.
وهذه النصرانية المنتشرة في طول البلاد وعرضها واعتنقها الملوك والامراء

42
وأهل الغنى والثراء قد تزحلقت إلى ما تراه وهي أقرب إلى الوثنية:
ونجران أهم موطن للنصرانية في البلاد العربية وهؤلاء القسس قد
شاهدوا وثنية العرب تنهزم امام الاسلام، وهم اليوم يحاولون ان لا تنهزم
النصرانية كما انهزمت الوثنية، ويحاولون ان لا ينخذلوا امام محمد صلى الله
عليه وآله وسلم كما انخذل زعماء الوثنية واذن ليس عجبا ان يظهروا بهذا
المظهر الخلاب، واحسب ان الخاطر الأول لهذا الوفد هو العبث بالمسلمين عن
طريق الغني والثراء، فإنه المشهد الذي يشق طريقه إلى النفوس سريعا،
ويعسر على الذاكرة نسيانه طوال الأيام ولكن ما اقصر مرمى عيونهم،
فان رسالة الاسلام مضت تشق طريقها إلى الأرواح والقلوب، ونهجت للناس
المنهج الأمثل وتلقى الناس الاسلام مرتاحين إليه فلا يغري المسلمين الثراء.
وركام المادة قد داسه المسلمون تحت حوافر خيولهم في ساحات التضحية في
سبيل الله.
انس - التوحيد دعامة الاسلام الكبرى وطبيعي ان يصطدم
بالعقائد التقليدية التي عليها الناس ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
لم يدع إلى ذلك قبل ان يدعو إلى فك قيود العقل والتأمل في ملكوت
السماوات والأرض والتوحيد أشرف العقائد وأجدرها بالانسان في ارفع
حالاته العقلية، غير أن هؤلاء القسس لم يأتوا عن طريق المعقول في دعواهم
في عيسى عليه السلام، وليس في حقائبهم من البراهين على الثالوث المتحد الا
الخوارق التي جاء بها عيسى من ابراء الأكمه والأبرص واحياء الموتى وانه
خلق من غير أب وليس هذا بالشئ الجديد في رسالة الرسل والأنبياء، ولقد

43
كان لموسى من قبل عيسى أمثال هذه المعجزات وقد خلق الله آدم من غير أب
ولا أم فخلقه أبلغ من خلق عيسى.
لقد حاججهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن طريق المنطق
والعقل الا انه يلوح انهم ركبوا متن غرورهم وسدروا في الغي جاحدين كل
دليل وبرهان، وكأنه كتب على الانسانية ان تبقى على الأعين هذه الحجب
والغشاوات التي تصد عن الهدى.
أبو سعيد - ان الامر تعدى عن طوره المعقول وقد أفسد الديانون
القائمون على الشرائع وتنفيذها فكرة التوحيد لأهواء نفسية وأغراض شخصية
وفكرة الله في الاسلام بلغت غاية المثل الاعلى في صفات الذات الإلهية المقدسة
وهذا رسول الله صلى الله عليه وآله يحمل بكلتا راحتيه القرآن يشع
بالنور وسحر البيان وقد بالغ في تقرير ما ينبغي الاعتقاد به في الذات الإلهية
كل ذلك بقياس من العقل والمنطق والبرهان الواضح.
ولكن القسس واتباعهم عصبوا عيونهم بعصابة من التقليد فلم يبصروا
النور ولا تلمسوا الهدى الذي يدعو إليه القرآن، وقد غلبت على عقولهم فتنة
البذخ والترف الذي هم عليه.
ان هذه المتع الجوفاء التي تحجب عن الابصار الضوء، وعن القلوب النور
وهذه المعالم الفاخرة تسهل السبل للانسان من أن ينغمس في النعيم الزائل، أفلا
تنظر إليهم وما من واحد منهم الا ويهمس في اذن الاخر مشيرا إلى حالة المسلمين
الزاهدة، وكيف يولى بني المسلمين الدنيا ظهره معرضا عنها؟. ولقد حدثني
بعض من أرسله النبي إلى نجران ان أحد رجال هذا الوفد التفت إلى محدثه وقال

44
: ".. اما رأيت ما فعل بنا هؤلاء القوم؟ أكرمونا ومولونا ونصبوا لنا كنايسنا
وأعلوا فيها ذكرنا، فكيف تطيب النفوس بدين يستوى فيه الشريف
والوضيع "
ابن أرقم - هذه حقيقة واضحة يستطيع كل واحد ان يتلمسها في
رجال هذا الوفد وكأنهم يرون الحياة في أثوابهم لا بقلوبهم وقديما، قالوا إن
قوة المرء بقلبه ورجال نجران انحرفوا عن جادة المسيح عليه السلام إلى
اصطناع أساليب تضمن لهم العيش باسم الدين
في اللحظة الأخيرة ولم تنفع البراهين ولم يؤمن وفد نجران بحجج
الوحي المبين أوحى الله تعالى إلى نبيه (ص) " فمن حاجك فيه
من بعد ما جاءك من العلم، فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا
ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين "
وليس وراء برهان المشاهدة برهان آخر
طائف - ان الله سبحانه أمر نبيه ان يباهل وفد نجران
صوت ججل في فضاء المسجد رنان الجرس لم يسمعه أحد الا تلفت
حواليه وتهللت أسارير وجهه، وسرى في المدينة كنسمة الصبح
العليلة تحمل صوت الحق الناعم إلى النفوس الخاشعة ويعبق شذاها
بالامل الباسم في مرحلة التمييز - تمييز الحق من الباطل -
والترجيح في كفتي الميزان العادل
البراء بن عازب - لقد انبلج الصبح عن شمسه، واستبان الحق
من الباطل، فان كشف الحقيقة عن طريق المشاهدة ة أوقع تجليا بأكمل الوجوه

45
وأوضحها في النفوس. ولهذه المباهلة قيمة تزيد عن قيمة المنطق والأقيسة
لأنها قيمة الشهود في النفس الحساسة والعقل الواعي. وان البراهين والأدلة
جميعا لا تغني في ساعة الجدل إذا لم يلتمس العقل قيمها المحسوسة، وإذا كانت
أدلة المؤمن أرجح من أدلة المنكر وتلمسها المنكر بعقله الواعي فقد اغنى الدليل
غناه، والا فليس في البراهين شئ أدل وأصلح للاقناع من وضع
الحق والباطل في كفتي الميزان.
قيس - حقا ما تقول قد أينع الغرس إذا كان هؤلاء يبصرون بعين
أو يسمعون بأذن أو يرجعون إلى عقل، واما وهم ليسوا كذلك - وقد فتنهم
زخرف الحياة - فان الجدل لا تغني فيه البراهين والأدلة، ولا تجلوه الأقيسة
والحقائق والعقيدة فأن 1 زائد 1 يساوي 2 هذا في واقع الامر، اما في الجدل
الديني والعقيدة فأن 1 زائد 1 يساوي 4 أو 5 أو ألفا وكأنه خفى عليكم ان مسألة
الثالوث مشكلة ة تطلب الحل ولقد استحال حلها ويستحيل على العقول حلها
ولكن النصرانية اليوم قررتها وان امتنع الحل وهل هذا الا من عمل الرهبان القائمين
على تنفيذ شريعة المسيح.
البراء - ان للانسان وعيا يشعر معه بما في هذا الكون من جمال
ونظام، واسرار والغاز، وقد يحتجب ذلك عن انسان فلا يدرك شيئا
من هذا الجمال والنظام والاسرار ولكن هذه المباهلة ترجيح بين نوعين من
الأدلة والبراهين. وليس أدل على تهيئ الجو الصالح لانبثاق النور والهدى من
ترجيح هذا النوع من البرهان الملموس بالمشاهدة، فإن لعنة الله الأبدية لا بد
ان تقع على الكاذب منهما، ولا يسلم الكاذب من العذاب المحيط الشامل.

46
رجل - أترون ان رسول الله (ص) يخرج لمباهلتهم منفردا أم
يخرج معه أصحابه وأهله؟؟
انس - لاشك بأنه يخرج ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وأبو عبيده
وجماعة من الأنصار.
البراء - على هونك ان هذا تراث من عوسج خلقته لنا النوازع
النفسية والميول الشخصية التي حاربها الاسلام، وما أجملها لو اننا تحررنا من
سيطرة هذه النوازع التي تقلبت على سائر الحدود ولم يقيدها حد، ولقد كانت
الميول من قديم الزمن وقد أشغلت المفكرين ورجال الاصلاح لكن بدون
جدوى.
انك لتعلم وكل واحد ان صحب محمد (ص) ليسوا فئة واحدة
موحدة الهدف وإنما هم فئات وأغراضهم شتى وأهدافهم مختلفة ولا أريد ان
أقول انا نحيط بحكمة الله تعالى لتعلل هذا الاختلاف، ولكن الميزان الذي
بأيدينا والذي يحسن ان نزن به الاشخاص إنما هو العمل فقط، واعمال كل
شخص هي التي ترجحه في كفة الميزان، وأغلب الظن ان رسول الله (ص)
إذا أراد ان يصحب أحدا إنما يصحب معه الرجل المعدوم العثرات الزاهد في
الحياة، وإذا كنا لا نحكم النوازع النفسية ولا نميل مع الأغراض، فكل
أحد يعلم بان في صحب محمد من هم أدنى إليه مجلسا وأقرب من ربه مقاما أثمة
ايمان أذلوا النفوس، وقهروا الأبدان وفنيت قلوبهم ونفوسهم في ذات الله
رضوا من الحياة بما دون الكفاف وهم غير من ذكرت.
غلب على الجالسين وجوم آفتة ضيق أفق نفوسهم

47
عن تفهم الصحابة واحدا واحدا وكأنهم رجعوا
إلى الماضي يفتشونه حادثا فحادثا ليميزوا
بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
سهل - حقا انا لا نملك الميزان الصحيح ولكن شيئا واحد لا يجوز
ان ننساه ونغفل عنه فان منطق الحوادث التي رأيناها منذ بدء الدعوة إلى
الاسلام يقضى قضاء لا معدى عنه ان رسول الله سيصحب معه ابن عمه علي
ابن أبي طالب فإنه " من أهل البيت لا يقاس به أحد مع رسول الله
(ص) في درجته " وهو وزيره وكاشف الكرب عن وجهه. في المواقف
الكثيرة من حروبه وليس في المسلمين من يضاهي عليا بمكانه
وزهده واخلاصه وعلمه وفضله ومنزلته فقد بلغ الغاية القصوى وارتقى
إلى أعلى مرتقى ولقد حدثني من سمع رسول الله يقول:
" من أراد ان ينظر إلى آدم في علمه والى نوح في عزمه والى
إبراهيم في حلمه والى موسى في هيبته والى عيسى في زهده فلينظر إلى علي بن
أبي طالب " (1) وهو الرجل الذي لا يخزيه الله ابدا يحب الله ورسوله ويحبه
الله ورسوله (2) وهو من رسول الله بمنزله هارون من موسى. ومولى
كل مؤمن ومؤمنه.



(1) أخرجه أحمد في مسنده والبيهقي في صحيحه والتفسير الكبير في
تفسير آية المباهلة انه متفق على صحته (2) من حديث سهل الساعدي رواه
البخاري ومسلم.
48
البراء - لم يكن ما حدثتنا به الا حلقة من حلقات فضائل علي ولقد
تساندت فضائله بعضها إلى بعض وانتشرت انتشار عمود الصبح تجلي ظلمته
القلوب وله في قلوب خلص المسلمين حضوة وفي نفوسهم ولاء.
ان عليا نهج لنفسه الرسالة السماوية مثلا يسير عليه في كل خطوة من
خطواته وفي كل حركة من حركاته وعند كل نفس من أنفاسه، ومن استوعب
حياة هذا الفتى عرف كيف ذهب يشق طريقه إلى الله تعالى ولقد تفتحت
جوانب قلبه للرسالة المحمدية فوعاها وآمن بها ايمانا لا بشبهة ايمان، ورأيناه في
البدء أول من يبادر إلى اعتناق الاسلام ثم سار مع الأيام يشبع غرائزه من
المنهلين العذبين القرآن واخلاق النبي، وصفت نفسه صفاء استوعب لب الاسلام
من مصدريه.
ولقد أصبح الرجل الأول بين المسلمين والمصدر الأول والأخير
بعد رسول الله، نضج هذا الفتى نضوجا لم ينضجه أحد من صحب محمد
(ص) نضج في تفكيره في هذا الكون ونضج بملازمته لصاحب الرسالة منذ
فجر صباه في سن الطفولة فليس ثمة أحد يضاهي عليا بما دلف إليه من تعاليم
الاسلام واخلاق محمد (ص).
وفي الحق ان هذا الفتى نبتة غرسها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
في الاسلام، فندفع يسير كما يشاء له النبي ويريد له كتاب الله فبلغ غاية
الشأو كما صار ملتقى المنبعين كتاب الله وسنة رسوله وقد
قرن النبي حب علي بحبه وبغضه ببغضه.

49
ولكن هذا حدث خطير يحمل في دقائقه معالم الحكمة وفي روحه
وتشريعه معالم الانذار بغضب الله، وقد أنبأت عنه كلمات الله ولم يسبق له مثيل في
الاسلام ولا قبله فلا تسيره مشيخه الأصحاب ولا كثرة الرجال والعدد وأن محمدا
في كل عمل من أعماله مقيد بمبدأ يسيره ربه عليه في الطريق الأخاذ إلى
المثل العليا التي أعدت للانسان الكامل بسائر أنواع الكمالات النفسية والسياسية
فقد يسمح له ظرفه بأن يصحب عليا وغيره وقد لا يسمح له وقد يكون من
السياسة ان يصحبه وقد لا يكون، والامر وراء ذلك كله ينزل من السماء.
يمر حذيفة بن اليمان وسلمان الفارسي وأبو ذر وعمار
يتحدثون بدعوة رسول الله (ص) وفد نجران إلى
المباهلة وحذيفة يقول: ان الوحي غشى النبي ونزل
عليه " قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم
وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين "
البراء - صدق الله العظيم هذا ما كان يختلج في نفسي ويعتقده ضميري.
بشير - أترى يخرج ومعه جميع نسائه أم يقتصر على عائشة وحفصة وأم
سلمة.
زيد - أيم الله ان المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم
يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها ونساؤه من حرمت عليهن الصدقة (1)
رجل - يلتفت إلى البراء بن عازب - الانسان لا يدعو نفسه
فمن هي النفس التي هي رسول الله ويدعوها إلى المباهلة؟.. ومن هم الأبناء
الذين تعينهم الآية الكريمة.



(1) أخرجه مسلم في صحيحه في باب فضائل علي.
50
البراء - لا اعلم! إلى حذيفة وسلمان وعمار وأبي ذر فأنهم من
خلص أصحاب النبي واعلم بالسر.
يذهبون إلى حلقة مؤلفة من أربعة يتناجون بصوت
خافت كأنهم يحفرون قبرا لسر يريدون ان يدفنوه
في ضمائرهم.
بشير - إلى حذيفة: يا أبا عبد الله لقد أشار الله سبحانه إلى قصة
الوفد في كتابه المجيد بأبلغ واسمى ما تعرفه البلاغة من السمو وان
هذه المباهلة ة قد رسمت المنهج الأمثل للمتخاصمين في الله.. ولكن
من هم الأبناء الذين يدعوهم رسول الله؟ ومن هم النساء والأنفس؟..
حذيفة - ان الحافز لهذه المباهلة هو الحرص على توطيد دعامة الحق،
وواضح ان مقياس الاختيار إنما هو فضل الاشخاص الذين يقع عليهم الاختيار
وعلى مقدار تمتعهم بالفضيلة والتقوى يقع على الاختيار، ورسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم لا يتجه الا حيث يوجهه الله تعالى ويلوح لي ان الذين سيقع
عليهم اختياره هم: علي من الأنفس وفاطمة من النساء والحسن والحسين
من الأبناء.
بريدة - " يلتفت إلى حذيفة وهو مضطرب الأعصاب " أيترك عمه
العباس وأبا بكر وعمر ويختار هذا الشاب الفتى ويجعله كنفسه؟! ثم يترك أحب
نسائه إليه، واعزهم عليه عائشة؟ ثم يترك أبناء عمه وعمومته وأبناء المهاجرين
والأنصار ثم يختار طفلين ليباهل بهم هذا الوفد الجبار؟!.. ليس هذا من المنطق

51
الصحيح في شئ.
أبو ذر - يلتفت إلى بريرة بغضب شديد - لامك الهبل، انها كلمات
جوفاء لا تملاء جوفا تملؤه ذرة من هذه الذرات المبعثرة في الفضاء، ولا
يجهل أحد انك خاضع في حديثك لتيارات جاشت بها نفسك حقدا وحسدا
وهما يصطنعان لك هذه الأساليب. أيقال لمثل ابن أبي طالب ذلك؟!
قل لي هل وقعت عينك أو عين أحد على أحد انقى صحيفة من علي
صنو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن فاطمة بضعته التي من أغضبها فقد
اغضب رسول الله ومن اغضب رسول الله فقد اغضب الله ومن ريحانتيه من الدنيا سيدي
شباب أهل الجنة.
ولا أظن أن أحدا من المسلمين لم يسمع رسول الله يقول " ان مثل
أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك (1)
وان مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بني إسرائيل من دخله غفر له (2)
ولقد رأيته آخذا بيد علي فيقول " يا علي أنت أخي ووصي ووزيري وأميني
مكانك مني مكان هارون من موسى الا انه لا نبي بعدي من مات وهو يحبك ختم
الله عز وجل له بالأمن والايمان ومن مات وهو يبغضك لم يكن له نصيب
في الاسلام.
حذيفة - (إلى بريده) أرى الأفضل لنا ان نهئ قوانا العقلية لتصل



(1) أخرجه أحمد. وللبزار - كما في ينابيع المودة - من تركها غرق.
(2) أخرجه الطبراني في الأوسط وأبو يعلى واحمد عن
أبي ذر.
52
عن طريق الروح والعقل إلى الواقع، وان الاهتداء لواقع الامر عن طريق
القوى الروحية والعقلية هو أعلى ما تصل إليه أفكار المفكرين، وانه العنت كل
العنت الوصول إلى الحقائق عن طريق الرأي وكم رأينا وسمعنا ان الرأي يخلق
المصاعب ويضع العقبات في طريق التفكير وبالأخير لا أراه يصل وان وصل
فان يصل وهو محطم القوى وحسبنا جميعا ان نرجع إلى كتاب الله، فإنه حفظ
لنا كثيرا من الآيات في فضل هؤلاء النفر ولحظات قصيرة في تلك الآيات
الكريمة كافية للتدليل على فضل العترة المباركة " ولكن الحسد أهلك الجسد "
وأخيرا أحب ان أطلعك ان الله سبحانه اختار عليا وفاطمة وحسنا وحسينا
ليؤمنوا على دعاء رسول الله صلى الله عليه وآله ولم يكن الاختيار من
رسول الله.

53
يوم المباهلة
استيقظت المدينة المنورة من نومها ومسحت عن عينها فترى الكرى
وشبحت العيون فإذا صورة ثانية من الزمن غير التي يعرفونها بالأمس الماضي.
الأرض واجفة.. والشمس كاسفة.. والسحب داكنة..
أصبحت البلدة الطيبة غيرها بالأمس.. ولم تكن كعهدها بالهدوء..
الناس في جيئة وذهوبة..
أصبحوا وفي القلوب خلجات..
أصبحوا وعلى الشفاه همسات صغت إليها الاذان وأرهفت غرب
الأذهان..
لم يبق من لا يتحدث ثم هو لا يستفيض في الحديث.. والحديث
كله عن المباهلة والمباهلة سفر ضخم فيه كل لون وكل حديث.
انهم ليحزنهم التطير المشفي على الجزع! انهم يشفقون من
المستقبل!.
مدت الأعناق لترى الساعة الرهيبة وصغت الاذان للرعدة
القاصفة.
انها لقريبة جدا ساعة المباهلة أو ساعة الانذار بلعنة الله على
الكاذبين.

54
هذه الشمس تركت خباءها تزحف وشئ مجهول يزحف معها يجلجل
صوته كالرعدة القاصفة. ها هي المسامع تستك والفرائص ترتعد.
ساعة من الزمن منتظرة هي الزمن كله.. انها الساعة الأخيرة على
أحد المتباهلين أكانت هذه الساعة وليدا جديدا لم يشاهد لها مثيلات من قبل؟!
أم هي خلجات القلوب ترقب الحادث الجديد؟..
انها ارتسامات الشعور الهادئ المضطرب معا.. عيون تنظر من
كوة الحياة إلى صنفين.. انها العقل الواعي يقارن بين عهدين: العهد الماضي
والعهد الحاضر.. وبين مبدئين.. كلمة واحدة وليس بعدها أخرى ثم ترتفع
السجف ويتضح الحق مشعا..
أمل باسم يطفح بالنور.. وقلوب معتمة حيرى عصف بها الأسى
وتكاد تفر من أقفاصها لو فتح لها الباب.
يوم مشهود يوم الرابع والعشرين من ذي الحجة (1) تطلع الناس
فيه إلى بزوغ شمسه كما تطلعوا إلى سابقه يوم دخل الوفد ولكل يوم منهما
حدوده ومقاييسه فلا تغيب اثارهما. يحمل اليوم الأول فتنة البذخ إلى
نفوس الضعفاء.
والثاني يحمل الدعوة سافرة.. اجل انه اليوم الذي يحمل بين



(1) هذا هو المشهور وقيل كانت المباهلة في يوم الواحد والعشرين
وقيل الخامس والعشرين وقيل في السابع والعشرين.
55
تلافيفه المفاجأة الكبرى، والدعوة سافرة لا يسترها شئ، وهي من مقولة
الأرقام وليست من مقولة الجدل والبرهان..
يوم ليس كمثله يوم. يحمل بين طرفيه الحادث الخطير يجر في اعقابه
الف حادث وحادث، يحمل في طياته عدالة السماء وغضب جبار السماوات
والأرض ليعطي كلا من المتباهلين نصيبه منهما، ويكاد الناس ان يؤمنوا انها
النهاية بعد أن ترفع الأكف للابتهال، وتجأر الألسن بالدعاء.
يوم الرابع والعشرين من ذي الحجة يوم مشهود.. مصدر عظمة
في سلسلة الأيام الاسلامية.. يوم تألق نوره بين الأيام المشعة في
الرسالة المحمدية..
يوم مشهود حقت فيه كلمة الله العليا.. وتمت الغلبة للاسلام. و.
يوم مشهود. عنت قبة رقاب أولئك السادة لشريعة الحق، وأعطوا
الجزية عن يد..
يوم مشهود.. يبسم بالامل الزاهر. يطوي صفحة من حياة ويفتح
صفحة أخرى، يتلقاها العقل من مصدرها بالبرهان المشاهد. ولا شك في أنها
من المع صفحات تاريخ الاسلام.
يوم مشهود. لا شبيه له ولا مثيل، ولا يقاس به يوم الا كان
القياس خطأ لما تبين فيه من الحق، وظهر فيه من فضل آل محمد صلى الله عليه
وعليهم وسلم على سائر الناس.. وآل محمد لا يقاس بهم أحد.
يوم الرابع والعشرين من ذي الحجة ناصع الحبين مشرق المحيا تتراءى
خلاله العظمة باهرة الحلال، تلفت إلى حيث شئت فإنك ترى روحية عالية،

56
وقدسية سامية تتصلان بأعماق النفس.
يوم مشهود. قف منه حيث شئت فإنما تقف على عظمة الرسالة
المحمدية تتجلى في نفس واحدة من الأنفس الكثيرة وامرأة واحدة من
نساء كثيرات وطفلين، طفلين لا غير. هم جميعا صفوة الصفوة ولباب
اللباب، الذين اختارهم الله لكرامته، واعدهم لهداية أمته من بعد نبيه...
يوم مشهود.. اختصم فيه خصمان بربهم..
لقد جاءت الساعة المرتقبة. واللحظة المنتظرة لحظة فقط تتفجر فيها
براكين الأرض وترسل السماء شهب النار. لحظة واحدة يهلك فيها الكبير ويفنى
الصغير حيث زلزلت الأرض زلزالها.
انطلقت الابصار إلى الجهة التي فيها رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم ترقب الثغر الباسم والجبين المشرق والوجه الأغر..
يالجلال الله.. هو ذا رسول الله ووجهه يشع بالنور تسبيحه
هيبة الله...
يالعظمة الحق وجلال الايمان. هو ذا يحتضن الحسين ويمسك بيمناه
الحسن وخلفه بضعته الزهراء مغشاة بملاءة من نور الله، وهذا علي يمشي
خلفها باهر الجلال، يرتدي بردة من مهابة الله.
المباهلة هي القول الفصل في نهاية الجدل وقد اختارها الله لنبيه واختار
له الاشخاص الذين يؤمنون على دعائه.

57
وبعد - فالعقل لا يصل إلى صورة ارفع من هذه الصورة والى اشخاص
في رتبة هؤلاء أو ارفع لئلا يقع من العليم الحكيم الترجيح بدون مرجح في
المرحلة الحاسمة.. ولان العقل لا يساند الاختيار الا إذا وقع على الأمثل
الأمثل من المثل العليا. وليس في مكنون علم الله سبحانه أمثل من هؤلاء.
فالله " عالم الغيب والشهادة.. ولا يعزب عنه مثال ذرة "
" أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشجرتين ففصدتا (1)
وكسح (2) ما بينهما حتى إذا كان الغد أمر بكساء اسود رقيق فنشر على
الشجرتين " على هيئة المخيم.
" وخرج السيد والعاقب بولديهما وعليهما من الحلي واحلل ما يلفت
الانظار ومعهم نصارى نجران وفرسان بني الحرث على خيولهم، وهم على
أحسن هيئة كأنهم ليوث غاب " واجتمع الناس من أهل المدينة ومن حولها
من الاعراب وأهل الألوية يرقبون الحادث لا يعرفون ما هو مقبل عليهم،
عندهم ثقة تامة ولكن يرتادهم شك، ولهم ايمان راسخ ولكن يراوده قلق،
وقد ضرب الاضطراب عليهم نطاقه والقلق مد روافه، فهذه وجوه عليها غبرة
ترهقها قترة، وهذه وجوه مسفرة ضاحكة مستبشرة.. الشمس تسير بأفقها
مضطربة كاضطراب هذه القلوب... هذه الرياح تهب من حول الناس بألوان
مختلفة تارة مهيبا وأخرى رهيبا. الناس جمود يتحركون.. صامتون يتكلمون
آمنون وجلون.. حيارى وما هم بحيارى، وأوشك الناس يتبينوا ان الانقلاب



(1) اي كسرتا (2) كنس ما بينهما
58
العظيم، فخذلتهم عقولهم وخانهم صلب ايمانهم.
" وخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم محتضنا الحسين وبيده
الحسن ومن خلفه فاطمة الزهراء ومن خلفها علي.. فتقدموا إلى أن وقفوا
تحت ذلك الكساء على الهيئة التي خرج عليها " يقول لهم: " إذا دعوت
امنوا - قولوا آمين - وأرسل إلى السيد والعاقب يدعوهما إلى المباهلة.
جفل الوفد وانكمش على نفسه، فإنهم لم يثوبوا إلى أنفسهم من
دهشتهم بالأمس حينما اجتمعوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد اخذ
عليهم آفاق الأرض والسماء حتى احتوتهم الدهشة ثانية من هذه الأوجه الكريمة
- لم يأتنا أبو القاسم باهل الكبر والشدة من اتباعه. وإنما جاءنا
بالأعزة والأحبة من أهل التخشع وبهلة الأنبياء والصفوة الصفوة المختارة
تمر لحظات يتهيب فيها الوفد ويحار.. لحظات كأنها الدهر الخالد.
لحظات قاسية لم يعانها أحد على نحو ما عاناها القسس، ولم يشق بها أحد مثل
ما شقي بها هؤلاء. انها الساعة الأخيرة وانه ليكاد اليقين يمس قلوبهم بصدق
محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. يأس جامح ملك قلوبهم.
يتقدم السيد والعاقب إلى رسول الله (ص)
- " يا أبا القاسم بمن تباهلنا؟!
- " أباهلكم بخير أهل الأرض وأكرمهم على الله. هؤلاء وأشار إلى

59
علي وفاطمة والحسن والحسين "
- " فما نراك جئت لتباهلنا بالكبر ولا الكثر. ولا أهل الشارة
ممن نرى ممن آمن بك واتبعك، وما نرى هنا معك الا هذا الشاب والمرأة
والصبيين أبهؤلاء جئتنا نباهلك؟!
- اجل: " بهؤلاء وهم خير أهل الأرض وأفضل الخلق "
استكت اسماعهم وارتعدوا كأنما الأرض تريدان تسيخ بهم، ساعة
خاصمتها الرياح المختلفة في هبوبها والأعاصير الهوجاء، ثم رجعوا إلى أسقفهم.
- أبا حارثة ماذا ترى؟
- ماذا أرى؟ " اني لأرى وجوها لو سئل الله بها ان يزيل جبلا
من مكانه لازاله.. أفلا ترون محمدا رافعا يديه ينظر إلى ما تجيئان به؟ وحق المسيح
ان نطق فوه بكلمة فلا نرجع إلى أهل ولا إلى مال "
أفلا ترون الشمس تغير لونها، والأفق تتجمع فيه السحب الداكنة
والرياح تهب هائجة سوداء حمراء وهذه الجبال يتصاعد منها الدخان؟
" لقد أطل العذاب انظروا إلى الطير وهي تقئ حواصلها والى
الشجر كيف تساقط أوراقها، والى هذه الأرض كيف ترجف تحت
اقدامنا؟! "
" والله لقد عرفتم يا معشر النصارى ان محمدا نبي مرسل، ولقد
جاءكم بالامر الفصل من أمر صاحبكم، والله ما باهل قوم نبيا قط فعاش كبيرهم
ولا نبت صغيرهم ولئن فعلتم لتهلكن وكان الاستئصال.. وإنما عهدكم بإخوانكم
حديث وقد مسخوا قردة وخنازير.. "

60
وبحكم لا تباهلوه..
" لا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى
يوم القيامة "
- إلى يوم القيامة!.
- نعم: إلى يوم القيامة.
وذكروا انهم قالوا: " يا أبا القاسم رأينا ان لا نباهلك.. وان نقرك
دينك، وان نثبت على ديننا.
فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما على المسلمين
- لا نسلم.. ولا نترك دين ابائنا!.
- أناجزكم القتال
انها الحرب المهلكة.. لا طاقة لنا بحرب العرب ولكن..
- ولكن ماذا؟!
نصالحك على أن لا تغزونا، ولا تردنا عن ديننا على أن نؤدي إليك
في كل عام حلة ألفا في صفر وألفا في رجب وثلاثين درعا عاديه من حديد
يقول اليعقوبي وغيره: فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
على الفي حلة من حلل الأواقي (كذا) قيمة كل حلة أربعون درهما فما زاد
ونقص فعلى حساب ذلك وكتب لهم رسول الله (ص) كتابا.
بسم الله الرحمن الرحيم.
" هذا كتاب من محمد رسول الله لنجران وحاشيتها إذ كان له عليهم

61
حكمة في كل بيضاء وصفراء وثمرة ورقيق فما زاد ونقص فعلى هذا الحساب
الف حلة في صفر والف في رجب وعليهم ثلاثون دينارا مثواة رسلي فما فوق
وعليهم في كل حرب باليمن دروع عارية مضمونة لهم بذلك جوار الله وذمه
محمد فمن اكل الربا بعد عامهم هذا فذمتي منه بريئة "
فقال العاقب:
يا رسول الله انا نخاف ان نأخذ بجناية غيرنا
فقال اكتبوا: " ولا يؤخذ أحد بجناية غيره "
وذكروا ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لأصحابه:
" والذي نفسي بيده ان الهلاك تدلى على أهل نجران ولو لاعنوا
لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي نارا ولاستأصل الله نجران
وأهله حتى الطير على رؤوس الشجر ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى
يهلكوا. "
موقف حساس وهل من سامع لهذا الكلام من رسول الله، ومشاهد
لموقف هؤلاء النفر إلى جانبه صلى الله عليه وآله وسلم ثم لا يمثل قلبه اجلالا
واكبارا ثم لا يعترف بفضل الأنفس والنساء والأبناء، والمؤمنون العازفون
عن الدنيا شعروا بمقامهم وامتلأت قلوبهم ايمانا بمنزلتهم السامية، واعترفوا بتقدمهم.
ولم يشأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ان يقف هنا ولم يدع
الناس ان يمضوا قبل ان يتحدث إليهم عن ربه في نقاء هؤلاء الأربعة وطهرهم.
في هذه الساعة التي لا يزال الناس في دهشتهم وروعة الجلال التي

62
ملكتهم يعلن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نقاء آل رسول الله وطهرهم
من كل دنس. تقول السيدة عائشة:
" خرج رسول الله وعليه مرط مرجل من شعر اسود فجاء الحسن
فادخله ثم جاء الحسين فادخله ثم فاطمة ثم علي ثم قال:
" إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت "
ماذا بقي بعد هذا ما يحمل القلوب على الالتفاف حول أهل البيت
وأي شئ بعد الطهر والنقاء من كل رجس يحمل الناس على التهافت إلى
حضيرتهم السامية؟.
صوت رفيع من فم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انطلق من
حاضرة الاسلام مع الريح ثم صار يشق طريقه في الفضاء رنان الجرس يقرع
في سمع الأجيال جيلا فجيل حتى اليوم وحتى قيام الساعة صارخا.
هؤلاء فقط أهل بيت النبوة وموضع الرسالة.. هؤلاء فقط. الذين
اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
كلمات طرقت الاذان واستوعبها مشاعر المؤمنين رسالة السماء وكلمات
الله تنهج للناس الطريق الأمثل الا يلج، انه التنزيل بنصوص آياته وروح
معانيه يرسم لنا صورة مثالية لأولياء ارتفعت عن التفكير والتصوير.
انه صوت الله يفرع الاسماع فأين أين؟. والى أين؟
انها الرواسب المادية في نفوس جعلت من المسلمين صنفين.

63
أفضل الخلق
يجدر بنا ان نقف عند هذا الحادث الخطير قليلا، فأن لهذه المثالية
السامية التي رسمها كتاب الله لآل رسوله حقوق في ذمة المسلمين لا يستطيع
الزمن ان يقضى عليها أو يتناولها بتحريف، مهما انتهج من أساليب واصطنع
من أعوان، لان النهج الذي نهجه كتاب الله واضح لا يدخله اي تعديل
ولا يمكن ان يتناوله التحريف، وان تناوله التأويل، ومن ثمة تشعب الطريق
بين المسلمين وذر الخلاف قرنه، ولكن الحق عزيز الجانب قد بث عيونه ونشر جنده
ومن المستصوب ان نقف هنا موقف المعقب على هامش المباهلة علنا
نخرج مع القاري ولم يفتنا الصواب حينما يسفر البحث عن براهين متنوعة لاثبات
مثالية الأنفس والنساء والأبناء وحينما تكون النتيجة انهم أفضل الخلق
وهذا صحيح عن وجهة العقل ومن وجهة الواقع من وجهة الاختيار
الذي وقع عليهم.
فإنه واضح جلى ان الاختيار الذي وقع على علي وفاطمة وحسن
وحسين له أهميته الكبرى في تقرير مرتبة الفضيلة وانحصارها.
ولان السبب الذي طوى نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم جميعا
وخفرات المجد من عمر العلى وشبيبة الحمد جميعا، وأصحابه جميعا، وأبناء

64
المسلمين جميعا في زاوية ولم يدع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحد من
هؤلاء لم يبق مجالا بأن الذين وقع عليهم الاختيار، لا يقاس بهم أحد
من الناس الا كان القياس خطأ لان القياس إنما يقع في المرحلة التي يصح بها
القياس، والذي لا مثيل له لا يقاس عليه.
والاختيار دلنا على أنهم لا مثيل لهم، والبداهة تستلزم ذلك، والعقل يحكم
ونحن لا نجد صعوبة في الفهم حين نفهم من هذا الاختيار التفضيل
المطلق والكمال المطلق في المرحلة الأخيرة.
ليس على الانسان حساب في فهم التفضيل حينما يعلم أن الله سبحانه
اختارهم في ساعة المقايسة والموازنة. " والله بكل شئ عليم ".
وهداية الله سبحانه تأخذ بيد الانسان فتخطو به إلى المثالية الرفيعة
وليس في العقل ما يمنع من الوصول إلى أعلى درجات الكمال، ولكن
العقل لا يفهم هذا الا باعتبار الوصول إلى فهم الحقيقة الإلهية فهما كاملا إلى
حد الفناء في الله.
كما وانه ليس لاختيار الله مقاييس أخرى غير مقاييس الفضيلة على اعتبار
الوصول إليه تعالى وصولا مقربا منه، وقد فنيت قلوب آل رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم في ذات الله وكان لهم من الحياة الفضلى والفناء ما يثبت لهم المثالية
المطلقة في كل مقاييس الفضل، والكمال النفسي والشخصي، وقد جاء
الاختيار منه برهانا ساطعا لا يفسح مجالا إلى قيل وقال ولا إلى استدلال..
وبعد - فالعقل لا يتصور مثالية ولا عبقرية ارفع من مثاليتهم
وعبقريتهم، فهم الراجحون في مقاييس الفضل والسبق والشرف والايمان

65
أولئك هم كيف واجهتهم، ومن اي النواحي أتيتهم، تجدهم الراجحين في
مقاييس الفضل والفضيلة.
في بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تسع نسوة، ولسنا في
حاجة ة إلى تصوير من فيه منهن الكفاية من ناحية الدين والخلق والكمال
فإنهن أمهات المؤمنين حقا، وفي المدينة من المهاجرين والأنصار وبني هاشم
جمع غفير تجاوز عشرات المئات إلى عشرات الألوف، وفيهم النخبة الصالحة
الممتازة من المقيمين على الحق، اعتصموا بحبل الله وحبل الرسول صبروا على
الأذى، وجاهدوا في سبيل الله، أولو سابقة في الاسلام، أخلصوا لله في
نياتهم، وتوجهوا إليه بقلوبهم واعمالهم، راضوا أنفسهم في سبيل كمالها فرضوا من
الدنيا بالكفاف، وفي بني هاشم والمسلمين من الأبناء ما يزيد عن العد
احتفل بهم التاريخ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طوى هؤلاء
جميعا، وأولئك جميعا وتركهم جانبا، ثم خرج بعلي (ع) من الأنفس
وبفاطمة (ع) من النساء وبالحسن والحسين (ع) من الأبناء ولم يخرج معه
أحدا غيرهم.
ولماذا؟؟..
حدثونا فيما حدثونا به عن أبي رباح مولى أم سلمة يرفعه إلى رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم في جواب هذا السؤال أنه قال:
" لو علم الله تعالى ان في الأرض عبادا أكرم من علي وفاطمة
والحسن والحسين لأمرني ان أباهل بهم، ولكن امرني بالمباهلة مع هؤلاء

66
- وهم أفضل الخلق - فغلبت بهم النصارى "
بهذا يواجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه حيث يسأل
وبهذه الكلمات الوجيزة يعلن عن قيم أصحاب الكساء وأهل آية المباهلة
وقدسهم وسموهم وعن مكانتهم من الله عز وعلا
حقا ان مثل هذا الخبر له قيمته في تعرف قيم آل رسول الله الذين
اختارهم الله ليباهل بهم رسوله قسس نجران
ونحن لا نجد تصويرا لسمو فضلهم أدق وأصدق من هذا التصوير
المعلن برفيع مكانهم وكبير قدرهم وسامي منزلتهم وعظيم فضلهم، ويحسبنا ان
نستمع إليه يقول " لو علم أن في الأرض أكرم من علي وفاطمة والحسن
والحسين لأمرني ان أباهل بهم " بخ بخ ليس في علم الله أحد أفضل منهم،
لا في الأرض ولا في السماء.
وان هذا التعبير ينشئ في نفوسنا صورا شتى من القيم المثالية التي
تعبر عن قيمهم الرفيعة في المجتمع الروحاني الاقدس وهذا هو الشرف العظيم
الذي تطامن إليه الرقاب نجوعا
ولهذا الحديث منشآة عالية في النفوس فهو ينشئ في نفوسنا صورا
من قدس النفس وعظيم المنزلة، وينشئ في نفوسنا صورة من الفضل والكرامة
عند الله تعالى، وانه ليس أحد أكرم عليه منهم، وينشئ في نفوسنا صورة
مثالية رفيعة ارتفعت عن كل تفكير، فان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
باهل بهم وهم أفضل الخلق وبهم غلب النصارى، وحسب الناظر في هذا
الحديث وغيره من الأحاديث الصحيحة ان يثبت أعلى درجة الكمال، ويحسبه

67
ان يكون رجع إلى وعيه، وثاب إلى رشده فأثبت ذلك بعقله
ونحن اليوم نعيش في عصر المحاكمات وقياس الأمور بأقيسة الأرقام
لا بأقيسة الثقل.
وبعد - فلا احسب ان أحدا من المسلمين يستطيع ان يرجع هذا
إلى مظهر من مظاهر عطف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أهل بيته،
وان وجد فيهم من يعتقد مثل هذا - والعياذ بالله - فقد قصدت نفسه إلى
نوازع الشيطان التي تحيك في السرائر، وزلقت قدمه فتدحرج إلى هوة
سحيقة، فخسر الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين فان رسول الله.
" لا ينطق عن الهوى، ان هو الا وحي يوحى علمه شديد القوى
انه لقول رسول كريم. وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون. ولا بقول
كاهن قليلا ما تذكرون. تنزيل من رب العالمين. ولو تقول علينا بعض
الأقاويل لاخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين. فما منكم من أحد عنه
حاجزين ".
وليست آية المباهلة بالآية الأولى والأخيرة التي التقى فيها القرآن المجيد
بآل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد التقى بهم مرات في كثير من
النواحي. يقول بن العباس:
" نزل في علي أكثر من ثلاثمائة آية في مدحه وعن الأعمش
عن أصحاب بن عباس قال: ما انزل الله يا أيها الذين آمنوا الا وعلي أميرها
وشريفها ولقد عاتب الله أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم في غير مكان

68
وما ذكر عليا الا بخير "
ولا نريد هنا ان ننقل إلى القارئ كل ما نزل فيه وفي أصحاب
الكساء، إذ ربما يكون في النقل الكثير شئ من الاطناب، ولكن مع
امساكنا عن التبسط في الحديث لا يسعنا الا ان نلفت القارئ إلى شئ
ميسور فهمه: ذلك أن المفسرين وحملة الحديث لم يتفقوا على شئ من الآيات
التي يدعى نزولها في بعض الصحابة كما اتفقوا على الآيات التي نزلت في أصحاب
الكساء في مدحهم والثناء عليهم ونظرة عجلى في ذلك تثبت لنا صحة الدعوة
ومثلا واحدا نضعه بين يديك، اقرأ قوله تعالى من سورة الدهر:
" ان الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا. عينا يشرب بها
عباد الله يفجرونها تفجيرا. يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا
يطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا. إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد
منكم جزاء ولا شكورا "
اقرأ ذلك إلى قوله تعالى " ان هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم
مشكورا "
اقرأ ذلك لتعلم مقام أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة، وقد ورد من
طرق عديدة ان هذه الآيات نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين (1)



(1) اخرج غير واحد من اعلام أهل السنة عن ابن عباس، ان
هذه الآيات نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين واليك نص ما قاله
الزمخشري في كشافه: " وعن ابن عباس (رض) ان الحسن والحسين مرضا
فعادهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ناس معه، فقالوا يا أبا الحسن
لو نذرت على ولديك، فنذر علي وفاطمة وفضة - جارية لهما - ان برئا مما بهما ان
يصوموا ثلاثة أيام، فشفيا وما معهما شئ، فاستقرض علي من شمعون الخيبري
اليهودي ثلاثة أصوع من شعير، فطحنت فاطمة صاعا واختبزت خمسة
أقراص على عددهم فوضعوها بين أيديهم ليفطروا، فوقف عليهم سائل
فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد، مسكين من مساكين المسلمين أطعموني
أطعمكم الله من موائد الجنة، فاثروه وباتوا لم يذوقوا الا الماء، وأصبحوا
صياما، فلما أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فأثروه،
ووقف عليهم أسير في الثالثة ففعلوا مثل ذلك، فلما أصبحوا اخذ علي (رض)
بيد الحسن والحسين واقبلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما
ابصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع، قال ما أشد ما يسوؤني ما
أرى بكم، وقام فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها، وقد التصق بطنها في
ظهرها، وغارت عيناها فساءه ذلك، فنزل عليه جبرئيل عليه السلام وقال:
خذها يا محمد، هناك الله في أهل بيتك فاقرأه السورة " انتهى. من الكشاف
في تفسير هل أتى - الدهر.
69
وهل من قارئ لهذه الآيات لا يمتلئ قلبه اكبارا واجلالا
وتقديسا لهؤلاء الأبرار؟ وهذه ناحية من نواحي عظمتهم المرموقة.
أجل. ان هذه الآيات وغيرها من الآيات الكثيرة تلقي ضوءا
على عبقرية أهل البيت عليهم السلام، ويكاد ان يعتقد كل منصف انه لا يجد
في المسلمين من يشاركهم في فضلهم، وبوضوح ترسم لنا ألوانا من السمو،
وتحتفل بضروب من العظمة، وهي بمجموعها تمثل لنا صورة من المنزلة العالية

70
والمقام الرفيع عند الله تعالى، وبالأخير المثالية التي خرجت عن حدود
المقاييس والموازين.
وليس هناك ما يمنعهم من هذه المثالية وقد خرجوا من البيت الذي
خرجت منه الدعوة الاسلامية وساروا في الطريق التي يسير فيها القرآن
المجيد ويدخلون كل بيت يدخله القرآن ولا يفترقون حتى يردوا على
رسول الله يوم القيامة (1)
ليس من السهل الهين على الانسان ان ينتزع من نفسه الأنسجة



(1) من جملة حديث ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وعرف بين المحدثين بحديث الثقلين أو حديث التمسك ولفظه عند الترمذي " اني
تارك فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا بعدي الثقلين أحدهما أعظم من الاخر:
كتاب الله عز وجل حبل ممدود من السماء إلى الأرض. وعترتي أهل بيتي
ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما "؟!.
ولقد بسطنا البحث فيه في كتابنا " تحت راية الحق " وهو من
الأخبار المتواترة أجمع المحدثون على رواية أخرجوه من طرق عديدة
أخرجه مسلم في صحيحه وصاحب الجمع بين الصحاح الست وصاحب الجمع
بين الصحيحين والترمذي والنسائي والحاكم والطبراني والطبري والبيهقي
والبزار والملا وأبو يعلي إلى كثير منهم وقد اجمعوا على صحته. نعم البخاري لم
يخرجه وان صح من طريقه ولكن حال البخاري في أمثال هذا الحديث
معلوم كل متتبع ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.
71
التي يحاك منها الخطأ ليشاهد الحقيقة الماثلة امام عينيه واضحة جلية لا يسترها
ستر، ولكن من السهل الهين ان يوقظ في نفسه الروح العلمية فتقوده إلى
دراسة النفسيات والشخصيات عن طريق الحوادث التاريخية وبهذا يستطيع
- إذا كان جريئا وكان صافي النفس - ان يكشف الستار عن الحقائق ويجليها من
الأصداء المتراكمة عليها طوال السنين ومن السهل عليه اذن ان يكون ضميره
أسرع إلى اقتباس الحقائق من عينيه ويأمن كل خطأ.
وأيضا يجب ان لا نشك ان لكل جيل ولكل حضارة قيم اجتماعية
هي مقياس الفضيلة في الموازين.
وكذلك لاشك في اختلاف هذه القيم وتفاوت نسبها سموا واعتبارا،
وواجب الباحث الفصل بينها بكل الاعتبارات المقومة لهذه القيم.
والانسان الذي يرجح في كفة الميزان هو الذي تحف بشخصه
اعلا القيم وأمثلها وذلك بالحصول على أمثل الصفات وأعلاها التي هي تجعله
فريدا وحيدا، وان يتصف بالصفات التي تقربه من الله " تخلقوا باخلاق الله "
وكلما كان الانسان قريبا من الله فانيا في ذات الله كانت انسانيته أكمل ومنزلته
اعلا وارفع.
فإنه " في كل ناحية من نواحي الانسانية ملتقى بسيرته (1) " وقد " ورث
اما علي علي بحكم مولده ومرباه مناقب النبوة ومواهب الرسالة وبلاغة الوحي
وصراحة المؤمن " (2) وقد تجمعت فيه أخلاق محمد صلى الله عليه وآله



(1) عبقرية الامام للعقاد.
(2) تاريخ الآداب العربية للزيات.
72
وسلم، ومحمد انسان تجمعت في انسانيته صفات روحية جعلته أفضل
مخلوق وأشرف مخلوق وفوق كل مخلوق.
وعلي رديف محمد صلى الله عليه وآله وسلم. هذا للنبوة وهذا
للإمامة وهو غرسه قد اخذ عنه أمثل الأخلاق واسمى الصفات فكان عنوانا
كاملا لاسمى الصفات وامثل الأخلاق. والاسلام لم يعرف قط أصدق اسلاما
ولا أشد ايمانا منه ولم ينفذ الاسلام إلى أعماق قلب مسلم كما نفذ إلى أعماق
قلبه كان يؤثر الآخرة على الأولى ويعمل لارضاء الله ورسوله لا لارضاء الناس
ولقد وصفه ضرار فأجاد الوصف فقال:
" كان والله بعيد المدى شديد القوى، يقول فصلا ويحكم عدلا،
يتفجر العلم من جوانبه، وتنطف الحكمة من نواحيه يستوحش من الدنيا
وزهرتها ويستأنس بالليل وظلمته، كان والله غزير الدمعة، طويل الفكرة
يقلب كفه ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما قصر ومن الطعام ما خشن
وكان فينا كأحدنا يجيبنا إذا سألناه وينبئنا إذا استنبأناه، ونحن مع تقريبه
إيانا وقربه منا لا نكاد نكلمه لهيبته ولا نبتدئه لعظمته بعظم أهل الدين ويحب
المساكين، لا يطمع القوي في باطله ولا ييأس الضعيف من عدله، واشهد
لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه، وقد مثل
في محرابه قابضا على لحيته يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين يقول:
يا دنيا إليك عني غري غيري، أبي تعرضت أم إلي تشوقت؟ هيهات
قد باينتك ثلاثا لا رجعة لي عليك، فعمرك قصير، وخطرك حقير وخطبك يسير
آه منن قلة الزاد وبعد السفر "

73
حقا هذا هو علي عليه السلام، الشديد في محاسبة نفسه، وهذا هو
علي حقا في كفة الميزان. فهل يرجح عليه أحد أو يساويه أحد من صحب
رسول الله صلى الله عليه وآله؟
هذا هو علي (ع) وتاريخه المجيد من طفولته مفعم بمئات من الأدلة
والشواهد، وحسب القارئ ان يرجع إلى الأحاديث الصحيحة والمشهورة
والمتواترة الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في فضل علي عليه
السلام وقد مر عليك شئ منها ونزيدك هنا بما يرجحه في كفة الميزان إذا
نصبت الموازين:
رووا انه قد لرسول الله (ص) طير مشوي فقال:
" اللهم آتني بأحب خلقك إليك يأكل معي هذا الطير " فجاءه علي
(ع) فأكل معه (2)
وعن سعد بن أبي وقاص (1) " أمر معاوية بسب علي فامتنعت،
فقال: ما منعك ان تسب أبا تراب قال: اما ما ذكرت ثلاثا قالهن له رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم فلن أسبه، ولان تكون لي واحدة منهن أحب



(1) احمد في مسنده وموفق بن أحمد عن ابن عباس وعن انس
والترمذي عن انس وابن أبي داود وابن المعازي من عشرين طريق.
(2) أخرجه أحمد في مسنده ومسلم في صحيحه عن عامر أيضا الا
أنه قال " اما ما ذكرت ثلاثا قالهن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلن
أسبه، لان تكون لي واحدة منهن خير لي من حمر النعم والترمذي أيضا
بعين ما عند مسلم.
74
إلى من حمر النعم سمعت رسول الله (ص) يقول له حين خلفه في بعض مغازيه
فقال له علي يا رسول الله خلفتني مع النساء والصبيان. فقال له رسول الله (ص)
أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى الا انه لا نبوة بعدي وسمعته
يقول يوم خيبر: " لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله
قال فتطاولنا لها فقال ادعوا عليا فأتي به أرمدا، فبصق في عينيه ودفع الراية
له ففتح الله عليه ولما نزلت الآية ندع أبناءنا وأبناءكم الآية دعا رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال اللهم هؤلاء أهلي.
ومن رواية أبي بكر " رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
خيم خيمته وهو متكئ على قوس عربية، وفي الخيمة علي وفاطمة والحسن
والحسين فقال يا معشر المسلمين انا سلم لمن سالم أهل الخيمة، حرب لمن حاربهم
ولي لمن والاهم، لا يحبهم الا سعيد الجد طيب المولد، ولا يبغضهم الا شقى الجد
ردئ الولادة "
وبحسب علي عليه السلام ان يكون مع القرآن والقرآن معه. وأن
يكون مع الحق والحق معه يدور معه كيف دار. وأن يكون عنوان
صحيفة المؤمن حب علي.
فبحسبها أن تكون مختارة الله ليباهل بها رسول الله من
واما الزهراء تسع نسوة هن أمهات المؤمنين ومن بين نسوة زكيات المغرس
في المنبت الأثيل والشرف الموروث في المجد المؤثل خفرات عمر العلي غرة المجد
وعقائل شبية الحمد كأم هاني وصفية.

75
ولا يجوز عند العقل ان يكون اختيار ولا تكون أفضلية ولا يتأتي الاختيار
إذا لم يكن هناك كمال مطلق وأفضلية على سائر النساء والا لزم الترجيح بدون
مرجح وهذا مستحيل عند العقل لا يجوز على الحكيم.
ومن اجل هذا الاختيار نفهم التفضيل المطلق بدون مشاركة لان
العقل لا يفهم الاختيار مع التساوي في الفضيلة والمشاركة في الكمال.
فلا بد اذن من أفضلية وأكملية ليقع الاختيار صحيحا طبق
العقل.
وإذا كانت سلام الله عليها قد اختارها الله مع من اختار فما ذلك
الا من سمو القدس وغلبة الروحانية في الانسانية الطاهرة المهذبة وإذا غلبت
الروحانية فقد تكاملت المثل العليا في النسوية العالية.
وعلى قدر نشأة النواميس القدسية في هذا الملاك
النسوي الطاهر فقد تهيأت النفس للمثل العليا وخرقت العادة في اطرادها
البشري حتى استحيل إلى معجزة في كمال الوجود وكمال الفضيلة.
وهكذا كانت فاطمة بنت محمد عليه وعليها السلام، فقد تجمع في نسويتها
نواميس روحية وكمالات نفسية رفعتها في الانسانية إلى اسمى الدرجات التي
يصح في العقل ان ترتفع إليها امرأة، فهي اذن سيدة نساء العالمين وكتب الحديث
مليئة بالشواهد والبراهين على فضلها وعلو مقامها وحسبها انها بضعة رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم من آذاها آذى رسول الله ومن أغضبها أغضبه.

76
فبحسبهما هذا الاختيار لهما من الله تعالى.
اما الحسنان هذا الاختيار يجب ان يقطع جميع النوازع التي تحاك في الصدور
وقد لا يكون صعوبة في فهم الأفضلية حينما نفهم ان الاختيار من الله الحكيم،
وقد رأينا من قبل ان الحكيم لا يختار الا الأكمل الأفضل.
والقول بان الله اختارهما أمر يقتضيه العقل ويقره البرهان والمنطق
السديد.
والناس يخطئون فهم العقل ويخطئون صواب المنطق ويخطئون النبي
حين يفهمون ان هذا الاختيار كان من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان
تفسيرا منه للأنفس والنساء والأبناء مأخوذا بالعاطفة الانسانية.
والمباهلة تشريع في المرحلة الحاسمة جاء النص بها من الله سبحانه
وكما ترى المسألة الزام الخصم لم ينفع معه البرهان واذن ليس لرسول
الله (ص) ان يختار مأخوذا بالعاطفة إذا جوزنا عليه ذلك تمشيا مع الخصم.
على أنه في عرف اللغة العربية ما يشهد لنا ببنوة الحسنين عليهما السلام
لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واذن فالآية نص صريح.

77
المفسرون
توطئه القرآن الكريم هو كتاب الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وآله
وسلم لهداية البشر، وهو آخر كتاب سماوي منزل على آخر نبي
مبعوث من عند الله سبحانه مربيا وهاديا ومنميا للاحساس " ان هذا القران
يهدي للتي هي أقوم " وما أرسلناك الا رحمة للعالمين "
والقرآن هو الكتاب الخالد الذي لا تخلق جدته وما زال ولا يزال
ولن يزال مظهرا من مظاهر هداية الله طبقا لما في علمه الأزلي يسير مع العصور
في كل بيئة ولكل جيل حتى النهاية والى قيام الساعة، وهو الكتاب الذي
يتسامى عند العقل على كل كتاب أنزله الله جل وعلا ومهمته هداية الناس
إلى السعادتين.
وانه لمن الميسور جدا فهم القرآن الكريم سواء في ذلك محكمه
ومتشابهه لان مرده إلى اللغة والى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والراسخين في
العلم من بعده حفظته، ومنفذي احكامه، واعرف بحلاله وحرامه وخاصه
وعامه ومطلقه ومقيده.
والقرآن هو المصدر الأول للتشريع الاسلامي، والمخلصون لله
وللدين لا يعدمون فيه الدليل على اي تكليف من التكاليف أصولا وفروعا

78
فان في القرآن تبيان كل شئ يحتاجه المسلمون لمعالم دينهم " لم يغادر صغيرة
ولا كبيرة " مما يرجع إلى احكام الاسلام وأصوله " الا أحصاها " القرآن
وأشار إليها صريحا حينا وتلويحا حينا آخر.
واما الصراع الذي نشاهده أحيانا في التفسير فليس مرجعه عجز
القرآن أو قصور لغته، أو عجز النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة من
بعده عن تفسيره، وإنما مرجع ذلك الصراع إلى الخلاف الذي انغمس فيه
المسلمون منذ الساعة الأولى، وأكبر عناصر هذا الصراع هو الصراع الذي
شق المسلمين إلى نصفين نصف إلى اليمين ونصف إلى الشمال والقرآن بينهما.
ولعل المفسرين انحرفوا مع ميولهم متأثرين بالسياسة من ناحية
وبالعقيدة من ناحية أخرى وأسدلوا على الواقع ستائر كثيفة مستندين إلى
أحاديث أحسن ما توصف به انها من وضع السياسة، ومالوا إلى تأويلات
تتجافاها اللغة وتأباها الملابسات في البداية والنهاية.
ولعل السياسة في الصدر الأول شاءت ان تزج آية في غير مكانها
لغرض صرف الآية عن المعنى الذي سيقت له كما ترى ذلك في آية " إنما يريد
الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا "
وليس أدل على تأثير العقيدة والسياسة على تفكير المفسرين من ذلك
الصراع الحاد في تفسير قوله تعالى " يا آيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك
وان لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس " فان هذه الآية الكريمة
أحيطت بميول ونوازع دفعت المفسرين إلى التفسير البعيد الذي لا يتصل بالآية
ولا بملابساتها، ولعل تلك الميول أرادت ان تصرف الآية عن معناها إلى معنى آخر

79
يكاد ان يكون غريبا عن المعنى الذي يلوح به قوله " فإن لم تفعل فما بلغت
رسالته " فإنه ليس في الشريعة من احكام يخشي اظهارها رسول الله صلى الله
عليه وآله وكذلك ليس فيها تكاليف هي موضع العتبي ليعصمه الله من الناس
وعند نزول الآية كانت الشريعة تامة كاملة.
ولا نريد ان ننكر ان في المفسرين من لا قصد له ولكنه انخدع في
الظواهر فسار في طريقه ورائده حسن الظن.
ولكن يجب ان لا نشك بان التفسير مع الاخلاص وحسن النية
يلزمه البحث في كل مرحلة من مراحل الملابسات والعلل وأسباب النزول وبدايتها
ونهايتها وموقع الآية من الكلام وما إلى ذلك من مراحل ظواهر الآيات وسياقها
وان تغاضي المفسر عن شئ من ذلك فقد أشطط في القول وصرف الكلام
العربي البليغ عن معناه.
وكذلك نرى العقيدة حكمت على بعض المفسرين بصرف معني الولاية
في آية " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويأتون
الزكاة وهم راكعون " فلقد فرقوا بين الولاية لله ولرسوله والولاية لاولي
الامر الذين يعطون الزكاة وهم راكعون ولم يكن من داع لذلك سوى ان
ان الذي اعطى الزكاة هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.
وانه لمن المؤسف أشد الأسف ان نجد من المفسرين من جرفته
السياسة الخادعة إلى اصطناع أساليب بعيدة عن المقصد السامي الذي يحاوله
كتاب الله المجيد، ويجترئون على صرف الآيات عن مقصدها لغرض أكثر ما
يتصل بالسياسة والعقيدة، وهذه الجرأة قد أدت إلى القول بالرأي في كتاب

80
الله المجيد.
ولا نريد ان ننكر ان الميول كانت منذ الزمن الأول، وقد كانت
تجد طريقها إلى القلوب سهلا، وان لها اثرا كبيرا في النفوس ولكن لم نكن
لنظن انها تمد يدها إلى كتب الله المرسلة إلى هداية البشر، ولكن مع الأسف
الشديد فقد مدت يدها مأولة ومفسرة تفسيرا بعيدا عن المقصد، ووجد
أولئك الميالون من العقيدة مرتعا خصبا لتأويلاتهم ففسروا كما يشتهون وكما
تشتهي السياسة التي وضعت أحاديث كثيرة لا تثبت تحت مبضعة المشرحين من
أطباء الجرح والتعديل.
لم يكن حظ آية الأنفس والأبناء عند بعض المفسرين أحسن من
غيرها على صراحتها، فقد طواها طيا ولفها لفا وقد تعوز الفاحص المعاذير عن
هذا الطي واللف ولكن لا أراه تعوزه معرفة الدواعي الباعثة ولا أراه يخطئ
الدوافع النفسية، وقل ما تجد مفسرا مر على آية المباهلة ولم تنقبض نفسه، ولم
تتمرد عليه عقيدته، ولم تطوح به سريرته ووجد في الوسط المسلم اذانا
مستعدة للسمع، وقلوبا ساذجة مستعدة للتصديق.
ويسع المنصف ان يقف من آية المباهلة الموقف الذي تقتضيه دلالة
المطابقة، ولكن بعضهم لم يكن منصفا ولا رشيدا وذهب في التفسير مسرعا
إلى أن الوفد امتنع عن المباهلة وصالح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على
الفي حلة وثلاثين درعا كأن الآية سيقت لهذا فقط، وكأن هذا الصلح هو
مدلول الآية المطابقي والالتزامي والعقلي ولم يخرج في تفسيره عن الوهم في

81
الشعور والخطأ في التفكير، لان الآية الكريمة سيقت لاسمى من ذلك.
وكانت الطريقة المثلى للمفسرين - إذا أرادوا الانتفاع بهذه التفاسير
انتفاعا صحيحا - ان يعني المفسرون بالأخبار الصحيحة ملاحظين ما ورد عن أهل
بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومهبط الوحي، وخزان العلم، فان القرآن
لهم، ونزل عليهم في بيتهم، وهم اعلم الناس به خاصا وعاما، ومجملا ومبينا
وناسخا ومنسوخا، ومحكما ومتشابها، والقرآن معهم وهم معه لن يفترقا حتى
يردا على رسول الله صلى الله عليه وآله الحوض. ولكن شاءت السياسة
للناس ان يعرضوا عن آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - أئمة العلم،
الراسخين في الدين قدما، الثابتين على منهاج رسول الله (ص) البعيدين عن
الزلل المطهرين من الرجس - وشاءت لهؤلاء الناس ان يرجعوا إلى القدري
والجبري والمرجئي والى الوضاعين المتزلفين إلى رجال السلطة.
ولا نريد ان نتبسط في الحديث مع المفسرين فان لهم ما يرتأون من
تفسير ولهم ما يشتهون من الطريقة التي يسيرون عليها.
وكذلك لا نريد ان نتساءل عن المدى الذي أصابوه في ما ذهبوا إليه من
تفسير أو تأويل وما استدعى ذلك من تغيير خطير لان البحث في ذلك يستدعي
عناية خاصة ليس موضوعها هذا الكتاب.
ومهما يكن من اتمر فان الأغراض اتسعت وكان إلى جانبها مولود شاب
يسير الأغراض في رقعتها الوسيعة، ولكن بالرغم عن ذلك فان في المفسرين
من تحلل بعض التحلل فحدثونا عن النجرانيين انهم حينما رأوا أبا القاسم صلى
الله عليه وآله ومعه " أهل بهلته " جفلوا وقال قائلهم:

82
" اني لأرى وجوها لو سئل الله ان يزيل جبلا من مكانه لازاله بها "
ولابد ان نحفظ لهم هذه المقالة لأنها خرجت من طريق ملتوية
بالرغم عن المولود الذي يسير الأقلام والى القارئ نقدم نموذجا من
التفاسير.
قال جار الله محمود عمر الزمخشري:
" فمن حاجك " من النصارى " فيه " في عيسى " من بعد ما جاءك
من العلم " اي من البينات الموجبة للعلم " تعالوا " هلموا والمراد المجئ بالرأي
والعزم.. " ندع أبناءنا وأبناءكم " أي يدع كل منا ومنكم أبناءه ونساءه
ونفسه إلى المباهلة.
" وروي انهم لما دعاهم إلى المباهلة قالوا حتى نرجع وننظر " فلما
تخالوا قالوا للعاقب - وكان ذا رأيهم - يا عبد المسيح ما تري؟ فقال:
" والله لقد عرفتم يا معشر النصارى ان محمدا نبي مرسل ولقد جاءكم
بالفصل من أمر صاحبكم. والله ما باهل قوم نبيا فعاش كبيرهم ونبت
صغيرهم ولئن فعلتم لتهلكن... وقد غدا محتضنا الحسين آخذا بيد الحسن
وفاطمة تمشي خلفه وعلي خلفها وهو يقول:
إذا دعوت فأمنوا..
فقال أسقف نجران:
يا معشر النصارى اني لأرى وجوها لو شاء الله ان يزيل جبلا من
مكانه لازاله بها فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى

83
يوم القيامة..
وقال:
وعن عائشة (رض) ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج
وعليه مرط مرجل من شعر اسود، فجاء الحسن فادخله ثم جاء الحسين فادخله
ثم فاطمة ثم علي ثم قال:
" إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت "
قال الزمخشري:
" وفيه دليل لا شئ أقوى منه على فضل أصحاب الكساء عليهم السلام "
وقال نظام الدين الحسن بن محمد النسابوري في تفسير غرائب
القرآن ورغائب الفرقان.
".. روى أنه صلى الله عليه وآله وسلم لما أورد الدلائل على نصارى
نجران ثم إنهم اصروا على جهلهم قال صلى الله عليه وآله وسلم ان الله امرني
ان لم تقبلوا الحجة ان أباهلكم، فقالوا يا أبا القاسم بل نرجع وننظر في أمرنا
ثم نأتيك، فلما رجعوا قالوا للعاقب - وكان ذا رأيهم - يا عبد المسيح ما
ترى؟.. قال:
والله لقد عرفتم يا معشر النصارى ان محمدا نبي مرسل، ولقد
جاءكم بالكلام الفصل من أمر صاحبكم، والله ما باهل قوم نبيا فعاش كبيرهم
ولا نبت صغيرهم ولئن فعلتم لكان الاستئصال، فان أبيتم الا الاصرار على
دينكم والإقامة على ما أنتم عليه فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم، وقد
خرج صلى الله عليه وسلم مرط من شعر اسود وكان صلى الله عليه

84
وسلم قد احتضن الحسين واخذ بيد الحسن وفاطمة تمشى خلفه وعلي
خلفها وهو يقول: إذا دعوت فأمنوا. فقال الأسقف
يا معشر النصارى اني لأرى وجوها لو دعت الله ان يزيل جبلا من
مكانه لازاله فلا تباهلوا فتهلكوا
وروي عن عائشة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وعليه مرط
مرجل من شعر اسود فجاء الحسن فادخله ثم جاء الحسين فادخله ثم فاطمة ثم
علي ثم قال:
" إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت.. واما فضل أهل
الكساء فلا شك في دلالة الآية على ذلك.. "
وقال المحقق ناصر الدين عبد الله الشيرازي البيضاوي في تفسيره: أنوار
التنزيل واسرار التأويل.
" فقل تعالوا " هاموا بالرأي والعزم " ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا
ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم " اي يدعو كل منا ومنكم نفسه واعز أهله وألصقهم
بقلبه إلى المباهلة.. " ثم نبتهل " اي تتباهل بان نعلن الكاذب منا.. فنجعل
لعنة الله على الكاذبين.
روي أنه لما دعوا إلى المباهلة قالوا حتى تنظر فلما تخالفوا قالوا للعاقب
- وكان ذا رأيهم - ما ترى؟ فقال والله لقد عرفتم نبوته ولقد جاءكم بالفصل
في أمر صاحبكم والله ما باهل قوم نبيا قط الا هلكوا فان أبيتم الا الف دينكم
فوادعوا الرجل وانصرفوا فإنه رسول الله (ص) وقد غدا محتضنا الحسين
آخذا بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعلي رضي الله عنه خلفها وهو يقول إذا دعوت

85
فأمنوا فقال الأسقف يا معشر النصارى اني لأرى وجوها لو سألوا الله ان يزيل
جبلا من مكانه لازاله فلا تباهلوا فتهلكوا "
قال الشيخ محمد نهاوندي في تفسيره " نفحات الرحمن ":
".. روي أنه صلى الله عليه وآله لما أورد الدلائل على النصارى
ثم إنهم اصروا على جهلهم فقال صلى الله عليه وسلم ان لم تقبلوا الحجة
أباهلكم فقالوا يا أبا القاسم بل نرجع وننظر في أمرنا ثم نأتيك فلما رجعوا
قالوا للعاقب - وكان ذا رأيهم - يا عبد المسيح ما ترى فقال والله لقد عرفتم
يا معشر النصارى ان محمدا صلى الله عليه وسلم نبي مرسل ولقد جاءكم
بالكلام من أمر صاحبكم والله ما باهل قوم نبيا قط فعاش كبيرهم ولا نبت
صغيرهم ولان فعلتم لكنا الاستئصال فان أبيتم الا الاصرار على دينكم
والإقامة على ما أنتم عليه فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم.. وكان
رسول الله خرج وعليه مرط من شعر اسود وكان قد احتضن الحسين واخذ
بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعلي خلفها وهو يقول إذا دعوت فأمنوا فقال أسقف
نجران يا معشر النصارى اني لأرى وجوها لو سألوا الله ان يزيل جبلا من
مكانه لازاله، فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني "
وقال الفخر الرازي في تفسيره الكبير " مفاتيح الغيب ":
".. ولما أورد الدلائل على نصارى نجران ثم إنهم اصروا على
جهلهم فقال عليه السلام ان الله امرني ان لم تقبلوا الحجة ان أباهلكم فقالوا
يا أبا القاسم بل نرجع فننظر في أمرنا ثم نأتيك فلما رجعوا قالوا للعاقب
- وكان ذا رأيهم - يا عبد المسيح ما ترى فقال والله لقد عرفتم يا معشر

86
النصارى ان محمدا نبي مرسل ولقد جاءكم بالكلام الحق من أمر صاحبكم
والله ما باهل قوم نبيا قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ولان فعلتم لكان
الاستئصال فان أبيتم الا الاصرار على دينكم والإقامة على ما أنتم عليه
فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم. وكان رسول الله خرج وعليه مرط
من شعر اسود وكان قد احتضن الحسين واخذ بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه
وعلي خلفها وهو يقول إذا دعوت فأمنوا فقال أسقف نجران يا معشر النصارى
اني لأرى وجوها لو سألوا الله ان يزيل جبلا من مكانه لازاله بها فلا تباهلوا
فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة..
وروي انه عليه السلام لما خرج في المرط الأسود فجاءه الحسن
فادخله ثم جاء الحسين فادخله ثم فاطمة ثم علي ثم قال:
" إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا "
قال الفخر الرازي: " واعلم أن هذه الرواية كالمتفق على صحتها بين أهل
التفسير والحديث ".
هذا نموذج من التفسير الذي وقفنا عليه نضعه بين يدي القارئ وهو
كما ترى لم يختلف تفكيرا ولا تعبيرا، ولم يتفاوت فيه العربي والفارسي ولا
اختلف الذوق العربي مع الذوق الفارسي، وهو يشبه بعضه بعضا ومعنى هذا
- فيما نرى - ان المفسرين لم يعنوا الحقائق العميقة القائمة في اللفظ والتركيب
والحقيقة والمجاز إلى آخره. ولا يتزودون منها الا باللمحات القصيرة الخاطفة
والنظرات العابرة، ولا ندري لماذا هذا المرور العابر؟!. مع أن لكتاب

87
الله المجيد حكمته وخصائصه في أساليبه وميزته في تعبيره عن المعاني المقصودة،
وان في القرآن آيات محكمة واضحة المعنى قد يستوي في فهمها الناس، وفيه آيات
متشابهة غامضة المعنى لا يستوى في فهمها الناس، وربما يحتاج إلى الايضاح من
المصدر الأول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والراسخين في العلم، وفيه
المفردات التي تعبر عن الحقيقة حينا والمجاز حينا آخر، وعن الاستعارة والكناية
إلى غير ذلك، هذا مضافا إلى ما في القرآن الكريم من " آيات لا يكفي
في تفهمها معرفة ألفاظ اللغة وأساليبها مثل - والعاديات ضبحا والذاريات ذروا
إلى غيرها من مثيلاتها.
وبعد - فلا احسب ان يكون القرآن في متناول الجميع على نمط
واحد من الفهم، واستجلاء المعاني واكتشاف الدقائق أو بنسبة واحدة، للاختلاف
في مقدار الفهم والادراك العقلي، فلابد ان يختلفوا في فهمه وادراك معانيه
والوصول إلى حقائقه ومجازاته حسب درجات أفهامهم ومداركهم العقلية.
ونحن حينما نقول هذا نكون قد حكمنا الذوق والمقاييس العلمية
ونراه واضحا لا يحتاج إلى التدليل عليه.
ولابد اذن - والحالة هذه - ان يكون لهم مدرك واحد في فهم
القرآن لا تتصل بالأذواق الفنية التي تطلبها اللغة العربية والمقاييس العلمية، ولا
بمعان الألفاظ من حقيقة أو مجاز، واستعارة وكناية إلى آخره، ولم تجد فيما رأينا
وعنينا به مدركا سوى الرأي والاجتهاد وهما مصدران من مصادر التفسير عند
الكثيرين.. والرأي والاجتهاد يتصلان بمعرفة الألفاظ وأسباب النزول
حينا وبالعقيدة حينا آخر.

88
ونراهم في أمثال آية المباهلة حكموا بالعقيدة فقط ولم يتصلوا بالألفاظ
وأسباب النزول، ففسروا بالرأي والاجتهاد لكن عن العقيدة فقط.
ونحن لا نريد ان نلتقي مع المفسرين هذا الملتقى عبثا أو جنوحا
عن الحقيقة ولقد رأيت قولهم " يدع كل منكم نفسه واعز أهله " فهم يفسرون
النفس بنفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا " ولهذا ضمهم إلى نفسه
بل قدمهم بالذكر " وقالوا أيضا " ولم يقتصر على تعريض نفسه.. وخص
الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل وألصقهم في القلوب وربما فداهم الرجل بنفسه
وحارب دونهم... وقدمهم بالذكر على الأنفس لينبه على لطف مكانتهم، وقرب
منزلتهم وليؤذن بأنهم مقدمون على الأنفس مفدون بها " إلى أمثال هذه التعبيرات
التي تشير إلى أن " النفس " في آية (قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا
ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم) إنما هي نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
ولم يلتفت أولئك الارائيون إلى أن هذا لا يستقيم لمكان لفظة " ندع " من
عدة وجوه:
(1) ان الله سبحانه أمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ان يدعو
من المسلمين الأبناء والنساء والأنفس، ومعلوم باجماع المسلمين كافة ان رسول
الله إنما دعا الحسنين وأباهما وأمهما عليهم السلام ولم يدع غيرهم، فالصرف دعاء
الأبناء إلى الحسنين والنساء إلى فاطمة والأنفس إلى علي عليه السلام لأنه لا
يصح في العرف ان يدع الانسان نفسه، كما لا يصح في مقام الامر ان يأمر
نفسه وقد قال الفقهاء: " ان الامر لا يجوز ان يدخل تحت الامر لان من
حقه ان يكون فوق المأمور بالرتبة، ويستحيل ان يكون فوق نفسه " فلا يشمله

89
امرء قطعا كما إذا أمر القائد جنده بالهجوم على حصون العدو فهذا الامر منه
لا يشمل القائد نفسه، فلو تخلف عن الهجوم لا يكون عاصيا، وإذا هجم مع
الجند لا يكون ممتثلا لأمر نفسه، وهذا بخلاف الجندي فإنه يتصف بالعصيان
إذا تخلف كما يتصف بالطاعة إذا تقدم.
ولعله يستدل على ذلك بما ذكره الشريف الرضى في كتابه " حقائق
التأويل " عن الواقدي في كتاب " المغازي " " من أن رسول الله (ص)
لما اقبل ومن معه من أسارى المشركين كان سهيل بن عمر مقرونا إلى ناقة النبي
فلما صار من أميال عن المدينة انتشط (1) نفسه من القرن (2) وهرب فقال النبي:
" من وجد سهيل بن عمرو فليقتله وافترق القوم في طلبه، فوجده
النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بينهم منقبعا إلى جذم (3) شجرة فلم يقتله
وأعاد إلى الوثاق "
قال الشريف الرضي في تعليل ذلك:
" لأنه لم يصح دخوله تحت أمر نفسه، ولو وجده غيره من أصحابه
لوجب عليه ان يقتله لما صح ان يدخل تحت أمر النبي (ص) "
وأنت جد عالم انه لا يصح قطعا ان يكون المراد من " أنفسنا "
نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهذا واضح لمن تأول وتجنب وحي
العقيدة.



(1) انتشط اجتذب
(2) القرن الحبل
(3) جذم الشجرة أصلها
90
(2) وإذا كان المراد من الأنفس نفس رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم فقد خرج بنفسه ومعه الأبناء والنساء وانتهى كل شئ فكيف جاء
أمير المؤمنين علي عليه السلام مع المتباهلين؟!...
وليس من السهل ان تجر العاطفة رسول الله فيخرج معه عليا إذا
لم يكن مأمورا بذلك، فان رسول الله (ص) لم يكن سيد حزب، وإنما هو
سيد أمة ولم تكن أعماله مما يشتهيه وإنما أعماله ضمن حدود الله سبحانه
فلا يتجاوز حدود الله، وبالاجماع خرج معه علي.
ولماذا يا مفسرون؟
فان قيل لمكان صيغة الجمع في " أنفسنا " قلنا إن صيغة الجمع لا
تستلزم ان يخرج عليا من بين مئات الألوف من صحبه فاما ان يفرض
المفسرون ان رسول الله كان مأمورا باخراجه وهذا ما نقوله، واما ان يفرضوا
ان اختاره من تلقاء نفسه، ولا محيص لهم عن الاعتماد على سبب مفهوم لهذا
الاختيار، لامتناع تأثر النبي بالعاطفة.
على أن الصيغة باعتبارها جمع تدل على الثلاثة على الأقل فأين الثالث
يا ترى؟ وهل ان النبي لم يجد بين أصحابه الرجل الذي يليق لان يخرج معه؟!.
وأيضا الكلام يأتي في صيغة " نساءنا " فلماذا اخرج الزهراء
عليها السلام فقط ولم يخرج معه غيرها وفي بيته صلى الله عليه وآله وسلم تسع
نسوة؟.. ولماذا..؟ والأسئلة كثيرة ومحرجة.
اذن ليس المراد هو أبناء المسلمين ونساءهم وأنفسهم، وإنما المراد
هؤلاء فقط لاغيره واذن الامر من عند الله " ان هو الا وحي يوحى علمه

91
شديد القوى " واذن لابد ان يكون المراد من " الأنفس " نفس علي فقط
تنزيلا، وهذا يتأدى من الآية الكريمة، ومن مكان (ندع) في عرف اللغة
كما هو واضح.
(3) وفي أسباب النزول للواحدي ص 75 " وكان الشعبي يفسر
الآية فيقول " أبناءنا " الحسن والحسين و " نساءنا " فاطمة و " أنفسنا "
علي بن أبي طالب "
وفي الصواعق المحرقة لابن حجر في الآية التاسعة من الباب الحادي
عشر " اخرج الدارقطني ان عليا يوم الشورى احتج على أهلها فقال لهم: أنشدكم الله
هل فيكم أحد جعله الله نفس النبي وأبناءه أبناءه ونساءه نساءه غيري؟ قالوا:
اللهم لا. "
وفي دلائل النبوة ج 2 ص 124 قال الشعبي قال جابر " وأنفسنا أنفسكم
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي وأبناءنا وأبناءكم الحسن والحسين
ونساءنا ونساءكم فاطمة رضي الله عنهم أجمعين "
وقال جابر فيهم نزلت " تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم
وأنفسنا وأنفسكم. "

92
تعقيب
قد يظن الظانون ان قصة المباهلة مضت بطريقها إلى الأبدية، ولم
يبق لاحد فيها مطمع، ولا لعين مأرب، ولا لاذن في سماعها من حاجة، فقد
طواها الزمن بين طياته، وانقضت في يومها الذي وقعت فيه، وذهبت
ليومها وساعتها.
والواقع ان هذا الظن قد يتصل بالحقيقة من بعض جهاتها وفي بعض
نواحيها، وكان الأولى ان لا يكون هذا الظن، لان قصة المباهلة قصة قومية
اسلامية روحية، كان الواجب على المسلمين ان يتبنوا ذلك اليوم الذي وقعت
فيه، ويجعلونه عيدا قوميا في مصاف الأعياد القومية، لأنه ان صح - وهو
صحيح - ان الاسلام أمنية الحضارة العالمية، فيوم المباهلة أحد الأيام التي
كانت سبيلا إلى هذه الأمنية الغالية بما ظهر للاسلام من عزة ومنعة، ولرسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم من عظمة وكرامة، بانزواء أولئك القسس في
زاوية من الخيبة والفشل في آمالهم، وقد ارتعدت فرائصهم، وانخلعت قلوبهم
وعادوا إلى كعبتهم خائبين خاسرين، وأعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون،
ولم يبق لنجران تلك المنزلة التي كانت لها في نفوس النصرانية، وذلك السمو
الذي تغنى به الشعراء وذلك القدس الذين تدين له الملوك.

93
ومن حق يوم المباهلة ان يهز أعصاب المسلمين وأن يكون موئل
هنائهم، له ذمته التي لا تضاع، وعهده الذي لا يخفر، وموثقه الذي لا ينقض
ومن حقه ان يكون بدر هالة الأيام الاسلامية الزاهرة، ومن حقه ان تتجاوب
فيه اصداء الشعور الاسلامي وتتبادل فيه التهاني، فإنه اختل في ذلك اليوم
توازن نجران، وجهة النصرانية في الجزيرة العربية وكعبتها وقبلة آمالها.
ولكن شاءت السياسة ان ينشق المسلمون نصفين وان تصنفهم صنفين
صنف مال مع السياسة وسار إلى جنبها أصابت أم أخطأت. وليس من موضوعنا
ان نتحدث عن مصاير هذه السياسة ومبلغ قسوتها، ولكنا نلاحظ انه ليس
من مصلحة السياسة ان تذكره بخير حيث لا تستطيع ان تذكره بشر، ولا
أقل من أن تلقيه في سلة مهملاتها إلى أن يشاء الله غير ما تشاء السياسة.
وصنف مال إلى رسول الله صلى الله عليه وعليهم وسلم فتبنى يوم المباهلة
فكان عيدا من أعيادهم، وكان يوما من أيام فرحهم وسرورهم بما ظهر لرسول
الله صلى الله عليه وعليهم وسلم من الكرامة والشأن العظيم وللاسلام من
عزة الجانب.
ويوم المباهلة عند هذا الصنف من الناس يوم شريف مبارك، يجأرون
فيه إلى الله سبحانه بالدعاء، وهو عندهم من الأيام الجليلة العظيمة بما فتح الله
على الاسلام وعلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم من الفتح العظيم.
مضت السنون وكرت الأعوام وهذا اليوم المبارك ما زال جديدا
عظيما عند هذا الصنف من المسلمين، منسيا مهجورا عند الصنف الاخر لا
يعرفون عنه شيئا! الا ما يثيره الجدل المذهبي الحين بعد الحين والفينة بعد الفينة

94
بين هذين الصنفين. وفي النهاية خلق الجدل العنيف عالما مفعما بالأقوال
والآراء. ولا تزال المعركة الجدلية مشبوبة حارة يسعر نارها الحقد الكامن
في النفوس.
اجل. قضت السياسة ان ينشق المسلمون على أنفسهم وان يفترقوا
إلى طائفتين، وسياسة قاسية كهذه السياسة تستطيع ان تحطم عظماء الرجال
وتتغلب على الأمور، ولكن لا تستطيع ان تحطم المبادئ ولا تجرأ ان
تقتحم القلوب فالمبادئ يسيرها رجال خلقوا لان يعملوا تحت قوارع النكبات
في ظلمات الصعاب وهي أبعد من أن يتناولها السياسيون الخياليون.
وعلى كر السنين ومر الأعوام يتطور النزاع ويكثر الجدل ولم يشعر
الناس شدة الخطر المحدق وتفشي هذا المرض الخبيث ولم يمنعهم مانع من أن
ينشأ عليه صغيرهم، ويشب كبيرهم، ولعل ما نكب به الدين الاسلامي
والمسلمون كان نتيجة لهذا الجدل أو المرض، وحتى الان لا يزال ينمو ويثمر
هذه الثمرة الخبيثة.
وطبيعي ان يكون ليوم المباهلة نصيب ليس بالقليل من هذا الجدل
العنيف، ونحن وإن كان موضوعنا التحدث عن يوم المباهلة وعن المباهلة، ولكن
لا نريد ان نتغمس في هذا النزاع العقيم ولكن نريد ان نعقب حديث المباهلة
بشئ من النوادر لمحناها حين مطالعتنا، وهي تتصل بهذه القصة.
قال الشريف الرضي في كتابه " حقائق التأويل ":

95
" من شجون (1) هذه المسألة ما حكي عن القاسم بن سهل
النوشجاني قال:
" كنت بين يدي المأمون في إيوان مسلم بمرو، وعلي بن موسى
الرضا (ع) قاعد عن يمينه فقال لي المأمون يا قاسم اي فضائل
صاحبك أفضل؟!
فقلت: " ليس شئ أفضل من آية المباهلة، فان الله سبحانه جعل
نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونفس علي عليه السلام واحدة "
فقال لي:
ان قال خصمك ان الناس قد عرفوا الأبناء في هذه الآية والنساء
وهم الحسن والحسين وفاطمة والأنفس هي نفس رسول الله (ص) باي
شئ تجيب؟.
قال النوشجاني: فأظلم علي ما بيني وبينه وأمسكت لا اهتدي بحجة!.
فقال المأمون للرضا عليه السلام: ما تقول فيها يا أبا الحسن؟
فقال له الرضا عليه السلام: في هذا شئ لا مذهب عنه
المأمون - ما هو
الرضا - هو ان رسول الله صلى الله عليه وآله داع ولذلك
قال الله سبحانه:
" قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم "
والداعي لا يدعو نفسه وإنما يدعو غيره فلما دعا الأبناء والنساء ولم يصح ان



(1) جمع شجن بالتحريك وهو الشعبة من كل شئ
96
يدعو نفسه لم يصح ان يتوجه دعاء الأنفس الا إلى علي بن أبي طالب عليه
السلام، إذ لم يكن بحضرته - بعد من ذكرنا - غيره ممن يجوز توجه دعاء
الأنفس إليه، ولو لم يكن ذلك كذلك لبطل معنى الآية.
قال النوشجاني:
" فانجلى عن بصري، وامسك المأمون قليلا ثم قال يا أبا الحسن
" إذا أصيب الصواب انقطع الجواب "
هذه هي الكلمة المتصفة ما جاءت عابرة ولا هي خاطرة جرت
ما قصد بنطقها إلى دلالة الألفاظ وإنما هي بيان لفهم مدلول اللفظ المطابقي
واعتراف منه بالحقيقة التي لا مفر منها، والحق أحق ان يتبع وحرى بالعاقل
ان لا يندفع وراء تيارات نفسية كانت تسوق الكثيرين إلى مناجزة رجل
كل جرمه وجريرته انه علي ابن أبي طالب. هذا كل جرمه.
ومن نوادر قصة المباهلة ما ذكره بعض العلماء - ولم يسمه
الشريف الرضي - من أن للعرب في لسانها ان تخبر عن ابن العم اللاصق والقريب
المقارب بأنه نفس ابن عمه وان الحميم نفس حميمه. ومن الشاهد على ذلك
قوله تعالى " ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب " أراد تعالى ولا تعيبوا
اخوانكم المؤمنين فاجرى الاخوة بالديانة مجرى الاخوة بالقرابة وإذا وقعت
النفس عنده على البعيد النسب كانت اخلق ان تقع على القريب النسب..
لعل هذه النظرية محاولة أخرى لصرف النفس عن المراد منها
وانكار هذه الفضيلة ليعسوب الدين.. ونحن إذا ما قبلنا النظر وأنعمنا القسر

97
في هذا القول لرأينا انه ليس له من قيمة تشفع له في تصحيح اطلاق اللفظ
على المعنى المدعى سوى هذه الأسس الهدامة التي يوحيها الوهم وليس لهذا
القول الذي أرسله بعض العلماء! وهو " ان للعرب في لسانها ان تخبر عن
ابن العم اللاصق والقريب المقارب بأنه نفس ابن عمه " صورة في الخارج الا
هذه الصورة المغلوطة التي قامت على أساس الوهم والخيال صورها وحي
العقيدة.
ولعل القارئ يفهم من التعبير " ان للعرب في لسانها ان تخبر "
ان العرب لم تخبر وإنما يريد ان يجيز لهم ان يخبروا عن ابن العم اللاصق بأنه
نفس ابن عمه.
ولو أخبروا عن ابن العم بالنفس لكان حق التعبير " ان العرب
أخبرت " ولما لم يكن شئ من ذلك أراد ان يتحكم ليصرف ذلك الفضل عن
علي أمير المؤمنين عليه السلام.
على أن اللغة توقيفية لا يجوز ان يتصرف بها باي نوع من أنواع
التصرف فما ورد من الألفاظ نستعمله فيما ورد فيه سواء كان على سبيل الحقيقة
أو المجاز أو الكناية وما لم يرد فلا يصح استعماله ولم نقف في معاجم اللغة ولا
في موارد الاستعمال التي بين أيدينا على صحة هذا الاستعمال.
وما ذكره من الشواهد لا تدل على أكثر من اطلاق النفس
على الأخ في الدين وهذا صحيح بنص القرآن الحكيم لا يستطيع ان ينكره
أحد، ونحن لا ندعي ان عليا نفس رسول الله حقيقة وإنما الدعوة ان الله
سبحانه نزل نفس علي عليه السلام منزلة نفس رسول الله صلى الله عليه وآله

98
وسلم وما ذلك الا لمكانة علي من الله وسمو نفسه وعلو قدره وفنائه في ذات
الله، وليس في المسلمين - وهم مئات الألوف يومئذ - من يصلح ان
ينزل هذه المنزلة وليس فيهم من له مكانة ليصح تنزيله حقيقة وليس فيهم من
يستحق هذه المرتبة السامية والمكانة الرفيعة والمنزلة العظيمة غير على صنو رسول
الله وصهره على ابنته.
ولو كان فيهم من له مكانته لما جاز من الحكيم ان يخصه دونه لأنه
ترجيح بدون مرجح، وحيث لم يدع غيره علما انه ليس في المسلمين ولا في
الصحابة من يضاهيه ليصح تنزيله هذه المنزلة السامية.
وواضح انه ليس اطلاق النفس على علي عليه السلام كان من اطلاق
النفس على ابن العم القريب المقارب فان هذا الاطلاق لم يوجد في كلام العرب
ولم تقصده الآية الكريمة.
على أنه ربما يكون ذلك مجازفة باللغة إذا فسخنا المجال للوهم في تفسير
المفردات ولرأينا انقسام امام سيل جارف من الاعتراضات.
ومن ذيول المباهلة ما ذكره الفخر الرازي في تفسيره الكبير قال:
" وكان في الري رجل يقال له محمود بن الحسن الحمصي وكان معلم
الاثني عشرية وكان يزعم أن عليا رضي الله عنه أفضل من جميع الأنبياء سوى
محمد صلى الله عليه وآله وسلم، واستدل على ذلك بقوله تعالى " وأنفسنا وأنفسكم "
إذ ليس المراد بقوله " أنفسنا " نفس محمد صلى الله عليه وآله وسلم لان الانسان
لا يدعو نفسه بل المراد غيره، واجمعوا على أن ذلك الغير كان علي بن أبي

99
طالب رضي الله عنه فدلت الآية على أن نفس علي هي نفس محمد صلى الله عليه
وسلم، ولا يمكن ان يكون المراد ان هذه النفس هي عين تلك النفس، فالمراد
ان هذه النفس مثل تلك النفس، وذلك يقتضي المساواة في جميع الوجوه،
تركنا العمل بهذا العموم في حق النبوة وفي حق الفضل لقيام الدلائل على أن
محمدا عليه الصلاة والسلام كان أفضل من علي رضي الله عنه فبقي فيما وراءه معمولا
به، ثم دل الاجماع على أن محمدا عليه السلام كان أفضل من سائر الأنبياء
عليهم السلام فيلزم ان يكون علي أفضل من سائر الأنبياء فهذا الاستدلال من
ظواهر هذه الآية. ثم قال:
ويؤيد الاستدلال بهذه الآية الحديث المقبول عند الموافق والمخالف
وهو قوله عليه السلام: من أراد ان يرى آدم في علمه ونوحا في طاعته وإبراهيم
في خلته وموسى في هيبته وعيسى في صفوته فلينظر إلى علي بن أبي طالب
رضي الله عنه " فالحديث دل على أنه اجتمع فيه ما كان متفرقا فيهم وذلك
يدل على أن عليا رضي الله عنه أفضل من جميع الأنبياء سوى محمد صلى الله
عليه وسلم "
قال الرازي:
" واما سائر الشيعة وقد كانوا قديما وحديثا يستدلون بهذه الآية
على أن عليا أفضل من سائر الصحابة لان الآية دلت على أن نفس علي رضي
الله عنه مثل نفس محمد عليه السلام الا فيما خصه الدليل وكانت نفس محمد صلى
الله عليه وسلم أفضل من الصحابة رضوان الله عليهم فوجب أن تكون نفس

100
علي أفضل من سائر الصحابة. هذا تقرير كلام الشيعة.
والجواب انه كما انعقد الاجماع بين المسلمين على أن محمدا عليه السلام
أفضل من علي فكذلك انعقد الاجماع بينهم قبل ظهور هذا الانسان - محمود
بن حسن الحمصي - على أن النبي أفضل ممن ليس بنبي واجمعوا ان عليا ما كان
نبيا فلزم القطع بان ظاهر الآية كما أنه مخصوص في حق محمد صلى الله عليه وسلم
فكذلك مخصوص في حق سائر الأنبياء عليهم السلام " انتهى كلام الرازي.
والقارئ يلاحظ معنا انه لم يناقش في دلالة الآية على أفضلية علي عليه السلام
على سائر الصحابة ويلاحظ أيضا انه لم يناقش في اتفاق المسلمين على صحة
الخبر الدال على ما تفرق من الصفات في الأنبياء قد اجتمعت جميعا في شخص
علي عليه السلام وهذا يتضح من جوابه على دعوى ابن الحسن الحمصي ان
عليا أفضل من سائر الأنبياء سوى محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكذلك لم
يرد على الشيعة ما استفادوه من دلالة الآية الكريمة على أفضلية علي عليه السلام
وكل ما في الامر انه ناقش ابن الحسن الحمصي فيما ادعاه من الاجماع باجماع
ادعاه هو نفسه وفرضه على المسلمين فرضا.
ولمحمود الحمصي ان يقول إن اجماعا يخرج منه النخبة الممتازة من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويخرج منه الهاشميون جميعا ويخرج
منه الشيعة جميعا ليس باجماع على كل تفسير يفسر به الفخر الرازي الاجماع
ولا يقام لهذا الاجماع وزن بين الاجماعات التي يدعيها المسلمون.
وغير جائز في حكم العقل ان يكون اجماع ونصف المسلمين على التقريب
يقولون بأفضلية علي عليه السلام على سائر الأنبياء.

101
ثم يعود محمود بن الحسن الحمصي فيقول: ان المسلمين والنخبة الممتازة
من صحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اجمعوا قبل ان يخلق الله
هذا الانسان - أعني الفخر الرازي - ومن على راية. على أن عليا
أفضل من خلق الله باستثناء محمد رسول الله. ويبدوا لنا ان هذا صحيح من
وجهة الامر الواقع وان هذا الاجماع هو الاجماع الصحيح المعتبر الذي يصح
ان يحتج به المسلمون إذا رجعنا إلى شروط حجية الاجماع وامكان تحققه ووقوعه.
لقد رأينا من قبل ان الروايات متفقة على أن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم اختار معه للمباهلة عليا وفاطمة وحسنا وحسينا عليهم السلام واجمع أهل
القبلة كافة على أنه صلى الله عليه وآله خرج بهؤلاء ولم يخرج معه غيرهم،
وواضح من هذا الاجماع ومن الروايات ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
لم يدع مجالا لأي احتمال، فقد فسر لفظة الأنفس والنساء.
وأيضا لم يترك مجالا للشك أو التشكيك في صحة استعمال اللفظ أو صحة
اطلاقه، فقد خرج وأخرجهم معه على أن الحسنين مصداق الأبناء وفاطمة
مصداق النساء، وعلي مصداق الأنفس، وحيث يفسر
النبي العربي فلا متسع للقول، ويكفي ان يكون ذلك برهانا على
صحة الاستعمال.
ولكن بعض الصحفيين نسب إلى بعض المفسرين ان حمل كلمة
" نساءنا " على فاطمة فقط وكلمة " أنفسنا " على علي فقط لا تتصل باللغة

102
وإنما تستفى من مصدر شيعي وان هذه الروايات الكثيرة المتفق عليها مصدرها
شيعي أيضا! وان مقصد الشيعة منها معروف! وقد اجتهدوا في ترويجها ما
استطاعوا، وقد نجحوا في ذلك إلى حد بعيد! فإنهم استطاعوا ان يؤثروا على
كثير من أهل السنة. وعلل ذلك بان كلمة " نساءنا " لا يقولها العربي ويريد
بها بنته لا سيما إذا كان له أزواج وابعد من ذلك أن يراد من كلمة " أنفسنا "
علي فقط.
ولعلك ترى معنا ان مصدر هذا القول فكرة واحدة متأصلة في
النفوس، تلك هي الكراهية لعلي عليه السلام، لا لجرم له الا انه علي بن أبي
طالب زوج الزهراء البتول. والا فقد فسر رسول الله لفظ " الأنفس " بعلي
ولفظ " النساء " بفاطمة وإذا كان هذا لا يصح فعمن نأخذ التفسير والى من
ترجع في تصحيح الاستعمال يا مسلمون؟؟!
وبعد - فليست هذه النوازع بالشئ الجديد في تاريخ أمير
المؤمنين عليه السلام وإنما الجديد فيها ان تقع في العصر الحاضر الذي تفتحت
فيه جوانب النفوس وان يتخذ الباحثون اليوم من تلك النوازع شيئا وهو أقرب إلى
الثورة العصبية التي كانت تسيطر على عقول رجال الدين، وعلى الأقلام في
الأزمنة الغابرة.
ومن الغريب جدا ان الزمن لم يغير من نفوس هؤلاء شيئا والعلم لم
يخفف من هذه الفكرة المغلوطة مع العلم بان النفوس اليوم السبت لفهم الحقائق
أكثر من قبل وبدأت العيون تنفتح على الحقائق التي غابت عنها طويلا وان

103
عليها من أصداء واخذت اليوم تتجلى وتتضح، ومع العلم أيضا بان مبضع
التشريح أصبح حادا يستطيع ان يضع كل شخص وكل حقيقة تاريخية
على المنضدة.
وفي الأزمنة الغابرة كان الناس يميلون إلى هذه النوازع ويصدقونها
من غير بحث عن حقيقتها بيد ان هذا الزمن أصبح ينكر كل هذه الظواهر
المنبعثة عن النوازع النفسية أو تقليد أولئك العصبيين، فلا الحقائق الدينية ولا
الحقائق العلمية هي حقائق ما لم تعرض على الميزان وتوضع على المنضدة.
والعجيب كيف فقد هؤلاء المقاييس المنطقية والتوازن العقلي فضلوا
الصواب حينما نسبوا الجهل إلى كبار علمائهم ومفسريهم وكبار محدثيهم ومؤرخيهم
وأين القواعد والشروط التي تأسست لحفظ الحديث وتدوينه وتصحيحه؟!
وأين موازين الجرح والتعديل التي كانت تزن الرجال فتخرج من تخرج
وتعدل من تعدل؟! وكأنها بنظر هؤلاء كلها جفاء لا ترتكز على شئ واعجب
من ذلك تضليل كبار محدثيهم وكبار علمائهم وطعنهم بالضعف العلمي الذي يرميهم
به وينسبه إليهم ذلك المفسر - أو ذلك الصحفي بعبارة أصح - إلى حد تمكن
الشيعة بصحة ما يصح عندهم، كأنه لا يعلم بأنه في كل ذلك يعترف والى
الاعتراف وتفسخ ميزان الجرح والعديل عندهم ولربما كان هذا فرضا صادقا أو
راجحا أو على الأقل مما يوجب الشك في تصحيح ما صح عندهم من الاخبار.
غريب جدا ان تمر آية المباهلة على أجيال من الناس وعلى
طبقات من المؤرخين والمحدثين والمفسرين ثم تمر على موازين الجرح والتعديل

104
وفي كل هذه الأدوار يلعب بعقول أولئك العلماء وبعلمهم وبموازين
المحدثين وفيهم أصحاب الصحاح - فإنهم جميعا رووا اخبار المباهلة - ثم لا
يرشدهم علمهم ولا تهديهم موازينهم (1) وانا لا أدري اي منطق هذا،
وكيف يتقبله علماء أهل السنة ويغضي عليهم الأزهر الشريف؟! أليس فيهم
من يأسوا على السلف ويثأر لهم؟!
وأيضا لا أدري الهدف الذي يرمي إليه المفكرون والمصلحون من
وراء هذه الطعون القاتلة؟ وما الذي يمنونه باخراجها على هذا الشكل من
الطعن في الصميم؟ ألم يكن لهم حاجز من ورع، وحريجة من دين عن



(1) لا ترمي بالحكم على أهل الصحاح بأنهم رووا تفصيل آية
المباهلة ولكنهم اتفقوا على أنه لما نزلت دعا رسول الله (ص) عليا وفاطمة
وحسنا وحسينا.
روى ذلك مسلم في صحيحه والحاكم على شرط الشيخين وصححه
الذهبي على شرط البخاري ومسلم والحميدي في الجمع بين الصحيحين والثعلبي
في تفسيره وابن المغازي وأبو نعيم في حليته والحمويني في فوائده وابن إسحاق
في مغازيه وابن الصباغ المالكي في فصله والطبري في تفسيره والواحدي في
أسباب النزول والزمخشري في كشافه والفخر الرازي في تفسيره وغيرهم ممن
ذكرنا في مطاوي هذه الفصول التي مرت عليك وغيره ممن لم نذكر
وبعبارة أوضح قيام الاجماع من المسلمين كافة على أن النبي (ص) لم يدع
للمباهلة غيرهم.
105
الطعن في علم السلف، سلفهم الصالح؟! حتى نزلوا بأقدارهم العلمية إلى أحط
منزلة يسعهم ان ينزلوا بهم إليها، فنسبوا لهم الضعف بالتفكير ونسبا لهم عدم
التمييز بين الموضوع وغير الموضوع، والصحيح وغير الصحيح، ونسبوا لهم
عدم النضوج العلمي الكافي لتمييز الصحيح من الموضوع كل ذلك بكلمة
واحدة - ما أهونها عليهم - وهي " انهم - يعني الشيعة - استطاعوا ان يؤثروا
على كثير من أهل السنة " وسهل عليهم هذا المنطق المخذول الذي حط من
قدرهم العلمي وحط من قدر صحاحهم التي أفنوا أعمارهم في جمعها ويكفي في
اختلالها والحط من قدرها وعدم الوثوق بها ان أصحابها لا يملكون الميزان
الصحيح حيث استطاع الشيعة ان يؤثروا عليهم وتأثر هؤلاء وهم غافلون أو
وهم جاهلون!
وواضح بعد هذا ان لا يبقى وثوق باي كتاب وأي حديث وأي
محدث وأي جرح وأي تعديل، ولا أراه ينفع ذلك الصحفي اخراج بعض
الصحاح، على إنا لا نراه يتمكن من ذلك بحكم الضرورة، وليس من موضوعنا ان
ندخل في هذا البحث لان الكلام فيه طويل وعريض وهذا فيما أراه هو
الخطأ أحط من هذا الاسفاف، وحتى الان لم نعلم السبب الذي حمله على أن
يسف وعلى ان يقع في هذا الخطأ. وعجيب ان ينسب الغفلة لكثير من سلفه
وهل لأنهم رووا اخبار قصة المباهلة كما وقعت؟! أو لأنهم حملوا كلمة " نساءنا "
على فاطمة عليها السلام وكلمة " أنفسنا " على علي عليه السلام وهذا لا يصح
يعرف اللغة كما يزعم؟!

106
وقد يكون من الواضح انه يشير إلى الثاني من القولين لينجو من
الطعن في مسانيد الحديث حتى الصحاح منها.
ويكاد يبدو ذلك غريبا لان هذا الرأي في حاجة إلى تمحيص قبل
اثارته لان الواقع بين فرضين اثنين لا مفر من أحدهما:
فاما ان يفرض ان الشيعة هم الذين فسروا كلمة " نساءنا " وحملوها على
فاطمة وكلمة " أنفسنا " على علي عليه السلام.
واما ان يفرض ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي
فسر هذا التفسير، والذي لا يرتاب فيه أحد انه لا سبيل إلى الأول قطعا،
وإنما التفسير كان من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد رأينا من قبل ان
المسلمين كافة بما فيهم الخوارج اجمعوا على أنه لم يخرج مع النبي للمباهلة سوى علي
عليه السلام من الأنفس وسوى فاطمة عليها السلام من النساء وسوى الحسن
والحسين من الأبناء وهذا تفسير عملي على اي اعتبار أراد الناس ان يعتبروا
هذا التفسير منه، وغير جائز بحكم العقل وبحكم اللغة العربية ان يكون تفسيره
لا يصح بعرف اللغة كما يزعمون.
وهذا صحيح من وجهة العقيدة الاسلامية ومن جهة اللسان لان
رسول الله عربي وهو سيد العرب.
ثم نعود فنقول لهؤلاء: ان هذا التفسير منه صلى الله عليه وآله وسلم
سواء أكان مبعثه العاطفة أم صحة الاستعمال العربي أم تفسير من الله سبحانه
فهو لا يتصل بأحد من الشيعة ليموه هؤلاء على كثير من علماء السنة
ويستجهلونهم.

107
ونحن لا يسعنا ان ننسب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم التأثر
بالعاطفة بل لا يجوز عليه التأثر بالعاطفة في مثل هذا الموقف بل في كل مقام
وهو الذي لم ينس في وقت من الأوقات الدعوة إلى المساواة بين افراد
المسلمين، تلك المساواة التي أراد الاسلام ان يجمع بها بين كل الشعوب
والافراد ويؤلف بينهم جميعا ليكون منهم أمة واحدة تسودها المحبة والإخاء.
لقد كان بين أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أهل
الشرف والمكانة واللياقة والاحساس وأهل البلاء الحسن في بناء الهيكل
الاسلامي من لا يصبر على هذا التحيز الذي تجره العاطفة، إن كان ذلك عن
عاطفة، بل كان في صحبه من كان يجرأ على رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم في مواقف لا تصح فيها الجرأة ولا تحمد، أفتراهم يقفون منه موقف
الجامد حينما يرونه عاطفيا متحيزا لذوي قرباه في ساحة الشرف الخالد بخلود
الاسلام وخلود كتاب الله الذي يرتله المسلمون في اناء الليل وأطراف النهار؟؟
مع أنهم فهموا ان الدعوة كانت عامة لانفس المسلمين ولنسائهم ولأبنائهم ثم
لا يخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معه منهم سوى ابنته وابن عمه
وولديهما عليهم السلام!.
وليس عندي - بل في واقع الامر - أضعف من هذا الاحتمال على اي
تفسير أرادوا ان يفسروا خلق محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وعظمته وسمو
مقامه ومركزه الاجتماعي كنبي مرسل لهداية البشر وسعادتهم ورفع التنابز من،
بينهم، ومن عرف أخلاق النبي وتركيب مزاجه يدفع عنه كل احتمال من

108
هذا القبيل.
ولعله ليس لهؤلاء المهوسين اعتراض بجيش في نفوسهم سوى اعتراض
واحد: هو انه لماذا لم يخرج معه أحدا من أصحابه والفضيلات من نسائه؟..
هذا هو الاعتراض الواضح الصريح الذي يختلج في نفوس كثيرة!!
ولكن ابن عساكر أراد ان يشبع تلك النفوس فاخرج رواية نسبها إلى
جعفر بن محمد الباقر عليه السلام عن أبيه " انه لما نزلت آية قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم "
الآية جاء بابي بكر وولده وبعمر وولده وبعثمان وولده وبعلي وولده "!.
أخرجها بهذا الترقيم الرباعي المألوف في كل الحوادث.
ولكن ليس في ذلك عرض صحيح متزن حري بان يعقل الألسن
ويكم الأفواه، وان حسب المهوسون ذلك عرضا صحيحا. فقد غاب
عنهم رشدهم إذ لم يفقهوا ان هذا منازلة منه صلى الله عليه وآله وسلم لذوي
المكانة السامية من كبار صحبه وأهل الجهاد والبلاء في سبيل الله. ومنازلة
منه لعمه العباس شيخ الهاشميين. ومنازلة منه لعمته صفية بنت عبد المطلب وأم
هاني بنت عمه ابن طالب وهما من صفوة الهاشميات.
على أن هؤلاء ليسوا بأجل أصحابه وفيهم عمه العباس وسلمان وأبو
ذر وعمار والمقداد وأمثالهم كسعد سيد الخزرج وحذيفة وأبو عبيدة وغيرهم كثير.
وعلى انه يلوح لنا ان الترقيم الثلاثي بهذا الشكل لم يكن في عصر
النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنما وضعته السياسة في عهد الأمويين والترقيم
الرباعي وضعته السياسة في عصر العباسيين ومن يلاحظ الاخبار التي ترقم الترقيم الثلاثي
والتي ترقم الترقيم الرباعي ويلاحظ مواردها يعلم أن منطق السياسة هو الذي قضى قضاء لا

109
معدى عنه بهذا الترقيم حسب ترتيب الخلافة!..
ولعل سائلا يسأل كيف لم يتخلف هذا الترتيب الثلاثي في حادثة
من الحوادث التي اقتضت ان يتوارد الصحاب فيها على رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم؟. سواء أكان ذلك بدعوة أم كانت على سبيل الصدفة،
وكيف لم يتفق ان سبق عثمان صاحبيه أو سبقهما عمر؟! ولكن ليس على
السائل المنصف الا ان يتأمل الحوادث التي ورد فيها هذا الترقيم ليعلم انه ترقيم
مصطنع في عصرين متضاربين، وكلما القى ببصره على الحوادث المفاجئة وغير
المفاجئة لا يلبث ان تطالعه الشكوك من جميع جهاته.
وكانت السياسة قد أباحت لمصطنعيها في سبيل تحقيق غاياتها ان ينتهجوا
من الوسائل ما يكفل لرجال السلطة سلطتهم الأرستقراطية ومثل هذا كثير
في كثير من الحوادث السياسية والدينية سواء في الصدر الأول أم في العصر
الأموي أم في العصر العباسي وليس هذا الترقيم بهذا الترتيب لازما طبيعيا فلا
ينفك، ولا هو تكوين ذاتي فلا يتخلف، على أن العادة قد تحيله على هذا
الاطراد المصطنع مرتبا على ترتيب الخلافة وإنما رقمته السياسة ثم فرضته على رواة
الحديث والوقائع ووجد هؤلاء من أنفسهم دوافعا وبواعث دفعتهم لاعتناق
هذه السياسة فرقموا هذا الترقيم وأعانها على ذلك ميل في النفوس!...
وإنا نستطيع ان نفهم ان هذا الترتيب مصطنع ولم يكن في عصر النبي
صلى الله عليه وآله وسلم وانه حدث متأخرا من حوادث كثيرة لا نريد
سردها، ولكن مثلا واحدا نضعه بين أيدي المنصفين من قرائنا ليحللوه ثم

110
لهم الحكم بعد ذلك.
حدثونا عن عمر (رض) أنه قال - ودماؤه تنزف - لو كان أبو عبيده
حيا لاستخلفته وقال لو كان سالم مولى أبي عبيدة حيا لاستخلفته!! وهذا
يدلنا على أن عثمان كان في مرتبة متأخرة ولو أن الترتيب والترقيم كان على
أساس الفضيلة في عهد النبي لما صح من أبي حفص ان يستخلف أبا عبيده أو
سالم مولاه.
وبعد - فواضح ان معدن الترقيم سياسي ومن الميسور للباحث ان
يلتمس العلل التي كانت تبعث على الاصطناع، ويسير عليه إذا رجع إلى العصر
الأموي والى أحوال الصحابة الذين اصطنعهم الأمويون. ولم يأت الوقت
لدرس هذه الناحية.
على أن الرواية لو صحت نسبتها إلى الإمام جعفر الصادق عليه السلام
لأخرجها شيعته وهم الذين لا تأخذهم في الحق لومة لائم كيف والرواية
منسوبة إلى امامهم الذي ينتسبون إليه..
وبقى شئ واحد لابد ان نلفتك إليه هو ان كلمة " نساءنا " لا
يقولها العربي ويريد بنته لا سيما إذا كان له أزواج. دعوى كبيرة جازف فيها
بنفسه لأنها تحتاج إلى تتبع عام واستقصاء شامل تام.
على أن سيد العرب استعمل كلمة " نساءنا " في ابنته فقط مع أن في
بيته تسع نسوة وفسر كلمة " أنفسنا " بعلي فقط مع أن حوله الألوف من أصحابه
وبعد هذا لا تكون الدعوى الاهراء من نوازع الشيطان التي تحاك في الصدور.

111
وشئ واحد نريد ان نشير إليه هنا وهو ما ذكره سماحة البحاثة
حجة الاسلام الامام السيد عبد الحسين شرف الدين في كلمته الغراء قال ما نصه
بالحرف:
" وأنت تعلم أن مباهلته صلى الله عليه وآله وسلم بهم. والتماسه منهم
التأمين على دعائه بمجرده فضل عظيم - وانتخابه إياهم لهذه المهمة العظيمة.
واختصاصهم بهذا الشأن الكبير وايثارهم فيه على من سواهم من أهل السوابق
فضل على فضل لم يسبقهم إليه سابق. ولن يلحقهم فيه لاحق - ونزول
القرآن العزيز آمرا بالمباهلة بهم بالخصوص فضل ثالث يزيد فضل المباهلة ظهورا
ويضيف إلى شرف اختصاصهم بها شرفا والى نوره نورا
" وهناك نكتة يعرف كنهها علماء البلاغة، ويقدر قدرها الراسخون
في العلم، العارفون باسرار القرآن. وهي ان الآية الكريمة ظاهرة في عموم
الأبناء والنساء والأنفس كما يشهد به علماء البيان. ولا يجهله أحد ممن عرف
ان الجمع المضاف حقيقة في الاستغراق. وإنما أطلقت هذه العمومات عليهم
بالخصوص تبيانا لكونهم ممثلي الاسلام، واعلانا لكونهم أكمل الأنام وأذانا
بكونهم صفوة العالم، وبرهانا على أنهم خيرة الخيرة من بني آدم، وتنبها
إلى أن فيهم من الروحانية الاسلامية والاخلاص لله في العبودية ما ليس في
جميع البرية. وان دعوتهم إلى المباهلة بحكم دعوى الجميع، وحضورهم خاصة
فيها منزل منزلة حضور الأمة عامة وتأمينهم عليهم بالخصوص - ومن غاص على
اسرار الكتاب الحكيم، وتدبره ووقف على اغراضه يعلم أن اطلاق هذه

112
العمومات عليهم بالخصوص إنما هو على حد قول القائل:
ليس على الله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد
ولذا قال الزمخشري في تفسير الآية من كشافه: وفيه دليل لا شئ
أقوى منه على فضل أصحاب الكساء "
وقال: " بقيت نكتة يجب التنبيه لها وحاصلها ان اختصاص الزهراء
من النساء والمرتضى من الأنفس. مع عدم الاكتفاء بأحد السبطين من
الأبناء دليل على ما ذكرناه من تفضيلهم عليهم السلام لان عليا وفاطمة لما لم
يكن لهما نظير في الأنفس والنساء وكان وجودهما مغنيا عن وجود من سواهما
بخلاف كل من السبطين، فان وجود أحدهما لا يغني عن وجود الاخر
لتكافئهما. ولذا دعاهما (ص) جميعا. ولو دعا أحدهما دون ضوء كان ترجيحا
بلا مرجح وهذا ينافي العدل والحكمة.

113
مؤتمر نجران
قال جمال العارفين وفخر المحققين الثبت الورع والمتتبع المحقق السيد
على ابن طاووس في كتاب الاقبال من اعمال شهر ذي الحجة " فصل فيما نذكر
من انفاذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لرسله إلى نصارى نجران ومناظرتهم
فيما بينهم وظهور تصديقه فيما دعاه.
روينا ذلك بالأسانيد الصحيحة، والروايات الصريحة إلى أبي الفضل
محمد بن عبد المطلب الشيباني رحمه الله من كتاب المباهلة ومن أصل كتاب
الحسن ابن إسماعيل بن اشناس من كتاب عمل ذي الحجة فما رويناه بالطرق
الواضحة، عن ذوي الهمم الصالحة، لا حاجة إلى ذكر أسمائهم لان المقصود
ذكر كلامهم.
قالوا: لما فتح النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة وانقادت له العرب
وأرسل رسله ودعاته إلى الأمم وكاتب الملكين كسرى وقيصر يدعوهما
إلى الاسلام أو الاقرار بالجزية والصغار وإلا اذانا بالحرب العوان، أكبر
شأنه نصارى نجران وخلطاؤهم من بني عبد المدان، وجميع بني الحرث بن كعب

114
ومن ضوي إليهم (1) ونزل بهم من دهماء الناس (2) على اختلافهم في دين النصرانية.
وامتلأت قلوبهم - على تفاوت منازلهم - رهبة منه ورعبا، فإنهم كذلك من شأنهم
إذ وردت عليهم رسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وكان رسول الله
(ص) لا يقاتل قوما حتى يدعوهم فازداد القوم لورود رسل نبي الله (ص)
وكتابه نفورا وامتزاجا (واهتياجا) ففرعوا لذلك إلى بيعتهم العظمى، وأمروا ففرش
أرضها والبس جدرها بالحرير والديباج، ورفعوا الصليب العظيم وكان من ذهب
مرصع انفذه إليهم قيصر الأكبر وحضر ذلك (المجلس) بنو الحرث بن كعب
وكانوا ليوث الحرب، فاجتمع القوم جميعا للمشورة والنظر في أمورهم، وأسرعت
إليهم القبائل من مذحج وعك وحمير وانمار ومن دنا منهم نسبا ودارا من
قبائل سبأ وكلهم قد ورم انفه غضبا منن قومهم (لقومه) ونكص من تكلم
بالاسلام ارتدادا فحاضروا (فخاضوا) وأفاضوا في ركز المسير بنفسهم وجمعهم
إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والنزول به بيثرب لمناجزته، فلما رأى
أبو حامد (حارثة) حصين بن علقمة أسقفهم الأول، وصاحب مدارسهم
وعلامهم - وكان رجلا من بني بكر بن وائل - ما أزمع القوم عليه من اطلاق
الحرب، دعا بعصابة فرفع بها حاجبيه عن عينيه وقد بلغ يومئذ عشرين ومائة
سنة ثم قام خطيبا معتمدا على عصى، وكانت فيه بقية وله رأي وروية، وكان
موحدا يؤمن بالمسيح وبالنبي عليه السلام ويكتم (ايمانه) ذلك من كفرة



(1) يقال ضويت إذا اويت إليه وانضمت
(2) دهماء الناس عامتهم وجماعتهم
115
قومه وأصحابه فقال:
مهلا بني عبد المدان مهلا استديموا العافية والسعادة فإنهما مطويان في
الهوادة (1) دبوا إلى قوم في هذا الامر دبيب الذر، وإياكم والسورة (2)
العجلي، فان البديهة بها لا ينجب (3) انكم والله على فعل ما لم تفعلوا أقدر
منكم على رد ما فعلتم، الا ان النجاة مقرونة بالانات، الإرب احجام أفضل
من اقدام، وكائن من قول أبلغ من صول، ثم أمسك.
فاقبل عليه كرز بن مسيرة (سيرة) الحارثي وكان يومئذ زعيم بني الحارث
بن كعب وفي بيت شرفهم، والمعصب (4) فيهم، وأمير حروبهم فقال:
لقد انتفخ سحرك، واستطير قلبك (5) أبا حارثة كالمسبوع (6)
النزاعة " اليراعة " (7) المهلوع (8) تضرب لنا الأمثال، وتخوفنا النزال،
لقد علمت - وحق المنان - الحرب وهم عقيم (10) تثقف أود (11) الملك
الحيار، ولنحن أركان " الرايش " وذوي المنار الذين شددنا ملكهما واخرنا ملكهما
فأي أيامنا ينكر أم لأيها ويك تلمز " 12 "؟!



(1) الصلح (2) السورة الشدة (3) لا تحسن (4) السيد
(5) السحر الريه يقال للجبان انتفخ سحر اي جبنت واستطار
الفجر انتشر (6) الذي افترسه السبع (7) الأحمق الجبان (8) الهلع
أفحش الجزع (9) حمل الأثقال العظيمة يقال: ناء بالجمل إذا نهض
(10) جعل الحرب ذات حمل وهي عقيم (11) الأود الاعوجاج.
" 12 " ويك ويلك واللمز العيب.
116
فما اتى على آخر كلامه حتى انتضم نصل نبلة كانت في يده بكفه غيظا
وغضبا وهو لا يشعر فلما أمسك كرز بن سيرة اقبل عليه العاقب - واسمه
عبد المسيح بن شرحبيل - وهو يومئذ عميد القوم وأمير رأيهم وصاحب مشورتهم
الذي لا يصدرون جميعا الا عن قوله فقال:
أفلح وجهك وانس ربعك " 1 " وعز جارك وامتنع ذمارك " 2 "
ذكرت وحق مغيرة الجباه حسبا صميما وعيصا " 3 " كريما وعزا قديما،
ولكن أبا سيرة لكل مقام مقال ولكل عصر رجال والمرء بيومه أشبه منه
بأمسه، وهي الأيام تهلك جيلا وتديل قبيلا " 4 " والعافية أفضل جلباب
وللآفات أسباب، فمن أوكد أسبابها التعرض لأبوابها.
ثم صمت العاقب مطرقا فاقبل عليه السيد - واسمه اهتم " أهم " بن
النعمان - وهو يومئذ أسقف نجران، وكان نظير العاقب في علو المنزلة وهو رجل
من عاملة وعداده في لخم فقال له:
سعد جدك وعلا جدك " 5 " أبا وائلة ان لكل لامعة ضياء، وعلى
كل صواب نورا ولكن لا يدركه وحق واهب العقل الا من كان بصيرا،
انك أفضيت وهذان فيما تفرق بكم الكلم إلى سبيلي حزن " 6 " وسهل،



" 1 " الربع الدار.
" 2 " الذمار ما يلزمك حفظه " 3 " العيص بالكسر
" 4 " الشجر الكثير الملتف اي شجرة كريمة " 4 " من الدالة اي الهلاك
" 5 " الجد الثانية بمعنى الحظ.
" 6 " ضد السهل الطريق الوعرة.
117
ولكل على تفاوتكم حظ من الرأي الربيق " 1 " والامر الوثيق إذا
أصيب به مواضعه.
ثم إن أخا قريش قد نجدكم " 2 " لخطب عظيم، وامر جسيم، فما
عندكم فيه قولوا " تولوا " وانجزوا، انجوع واقرار أم نزوع؟ " 3 "
قال عتبه والهدير والنفر من أهل نجران: فعاد كرز بن سبرة
لكلامه وكان كمتا (كميا) أبيا فقال:
انحن نفارق دينا رسخت عليه عروقنا، ومضى عليه آباؤنا، وعرف
ملوك الناس ثم العرب ذلك؟! انتهالك إلى ذلك، أم نقر بالجزية وهي الخزية
حقا؟! لا والله حتى تجرد البواتر من أغمادها وتذهل الحلائل عن أولادها،
أو نشرق نحن ومحمد بدمائنا ثم يديل " 4 " الله عز وجل بنصره من يشاء
قال السيد:
أربع على نفسك، وعلينا أبا سبرة " 5 " فان سل السيف يسل
السيوف، وأن محمدا قد بخعت له العرب وأعطته طاعتها، وملك رجالها
وأعنتها، وجرت احكامه في أهل الوبر منهم والمدر، ورمقه الملكان العظيمان
كسرى وقيصر، فلا أراكم - والروح - لو تهدلكم الا وقد تصدع عنكم من



" 1 " أي الرأي الذي عزم عليه كأنه مشدود بحبل.
" 2 " نجدكم دعاكم.
" 3 " اي اما اطاعته انتهاء عنها والبخوع بالموحدة الخضوع والطاعة
" 4 " دال نصر " 5 " أربع بفتع البا أي ارفق بنفسك وبنا.
118
خف معكم من هذه القبائل، فصرتم جفاء (1) كامس الذاهب، أو كلحم
على وضم (2) وكان فيهم رجل يقال له جهرة بن سراقة البارقي من زنادقة
نصارى العرب، وكان له منزلة من ملوك النصرانية، وكان مثواه في بنجران
فقال له:
أبا سعيد قل في أمرنا، وأنجدنا برأيك، فهذا مجلس له ما بعده فقال:
فاني أرى لكم ان تقاربوا محمدا وتستطيعوه " وتطيعوه " في بعض
ملتمسه عندكم، ولينطلق وفودكم إلى ملوك أهل ملتكم إلى الملك الأكبر
بالروم قيصر والى ملوك هذه الجلدة السوداء الخمسة - يعني ملوك السودان: ملك
النوبة وملك الحبشة وملك العلوة " علوة " وملك الرعادة وملك الراحات
ومريس والقبط وكل هؤلاء كانوا نصارى - وقال: وكذلك من ضوي
إلى الشام وحل بها من ملوك غسان ولخم وجذام وقضاعة وغيرهم من ذوي
يمنكم فهم لكم عشيرة وموالي وأعوان وفي الدين اخوان - يعني انهم نصارى -
وكذلك نصارى الحيرة من العباد وغيرهم فقد صبت إلى دينهم قبائل تغلب بنت
وائل وغيرهم من ربيعة بن نزار لتسير وفودكم ثم لنخرق (3) إليهم البلاد



(1) جفا الوادي رمى بالزبد والقذى
(2) الوضم خشبة الجزار وكل شئ يوقى به اللحم عن الأرض
(3) خرق المفازة قطعها.
119
اغذاذا (1) فيستصرخونهم لدينكم، فستنجدكم الروم وتسير إليكم الأساودة
مسير أصحاب الفيل، وتقبل إليكم نصارى العرب من ربيعة اليمن، فإذا وصلت
الامداد واردة سرتم أنتم في قبائلكم وسائر من ظافركم وبذل نصره وموازرته
لكم حتى تضاهؤن من أنجدكم وأصرخكم من الأجناس والقبائل الواردة عليكم
فأموا محمدا حتى نكجوا " تنجو " به جميعا فسيعنق إليكم وافدا لكم من
صبا إليه مغلوبا مقهورا، وينعتق به من كان منهم في مدرته مكثورا (2)
فيوشك ان تصطلموا حوزته (3) وتطفئوا جمرته، ويكون تتهافت دخولا في دينكم،
ثم لتعظمن بيعتكم هذه ولتشرفن حتى تصير كالكعبة المحجوجة بتهامة هذا
الرأي فانتهزوه فلا رأي لكم بعده!.
فاعجب القوم كلام جهيرة بن سراقة ووقع منهم كل موقع، فكادوا
ان يفترقوا على العمل به وكان فيهم رجل من ربيعة بن نزار من بني قيس بن
ثعلبة يدعى حارثة بن اثاك (اتاك) على دين المسيح عليه السلام فقام على قدميه واقبل
على جهير وقال متمثلا:
متى ما تقد بالباطل الحق بابه * وان قدت بالحق الرواسي ينقد
إذا ما اتيت الامر من غير بابه * ضللت وان تقصد إلى الباب تهتد
ثم استقبل السيد العاقب والقسيسين والرهبان وكافة نصارى نجران



(1) الاغذاذ في السير الاسراع.
(2) المدرة البلدة والمكثور المغلوب.
(3) تصطلموا تستأصلوا والحوزة الناحية.
120
بوجهه لم يخلط معهم غيرهم فقال:
سمعا سمعا يا أبناء الحكمة وبقايا حملة الحجة ان السعيد والله من نفعته
الموعظة ولم يعش (1) عن التذكرة، الأواني أنذركم وأذكركم قول مسيح الله
عز وجل، ثم شرح وصيته ونصه على وصيه شمعون بن يوحنا وما يحدث على
أمته من الافتراق.
ثم ذكر عيسى عليه السلام وقال:
ان الله جل جلاله أوحى إليه فخذ يا ابن أمتي كتابي بقوة ثم فسره لأهل
سوريا بلسانهم وأخبرهم اني انا الله لا اله الا انا الحي القيوم البديع الدائم،
الذي لا أحول ولا أزول، واني بعثت رسلي وأنزلت كتبي رحمة ونور أو عصمة
لخلقي، ثم اني باعث بذلك نجيب رسالتي احمد صفوتي من خيرتي البار قليطا
عبدي أرسله في خلو من الزمان ابعثه (ابتعثه) بمولده فاران من مقام أبيه
إبراهيم انزل عليه توراة حديثة افتح بها أعينا عميا وأذانا صما، وقلوبا غلفا،
طوبى لمن شهد أيامه، وسمع كلامه فامن من، واتبع النور الذي جاء به فإذا
ذكرت يا عيسى ذلك النبي فصل عليه، فاني وملائكتي نصلي عليه.
قال فما اتي حارثة بن اتاك على قوله حتى أظلم السيد والعاقب
مكانهما، وكرها ما قام به في الناس معربا ومخبرا عن المسيح عليه السلام بما أخبر
وأقدم على (من ذكر النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " لأنهما كانا قد أصابا
بموضعهما من دينهما شرفا بنجران ووجها عند ملوك النصرانية جميعا وكذا
(وكذلك) عند سوقتهم وعربهم في البلاد فأشفقا ان يكون ذلك سببا لانصراف



(1) عشى الرجل ساء بصره.
121
قومهما عن طاعتهما لدينهما، وفسخا لمنزلتهما في الناس فاقبل العاقب على
حارثة فقال:
أمسك عليك ياحار (1) فان راد هذا الكلام عليك أكثر من
قابله، ورب قول يكون بينة على قائله، وللقلوب نفرات عند الاصداع (2)
بمظنون الحكمة فاتق نفورها فلكل بناء أهل، ولكل خطب محل، وإنما
الدرك (3) ما اخذ لك بمواضي النجاة وألبسك جنة السلامة (4) فلا تعدلن
بهما حظا، فاني لم آلك - لا أبا لك - نصحا.
ثم ارم - يعني أمسك - فأوجب السيد ان يشرك العاقب فاقبل على
حارثة فقال:
اني لم أزل أتعرف لك فضلا تميل إليك الألباب، فإياك ان تقتعد مطية
اللجاج وان ترجف " توجف " إلى السراب فمن عذر بذلك فلست فيها
أيها المرء بمعذور، وقد أخبرك أبو واثلة وهو ولي أمرنا وسيد حضرنا عتابا
فاوله اعتبارا، ثم تعلم أن ناجم (5) قريش - يعني رسول الله - يكون
دره قليلا ثم ينقطع ويخلو (ويكون) بعد ذلك قرن يبعث في آخره النبي



(1) منادى مرخم
(2) الصدع الشق وصدع بالامر تظلم به جهارا
(3) الدرك الوصول واللحاق
(4) كل ما وقى من سلاح وغيره
(5) نجم الشئ ظهر
122
المبعوث بالحكمة والبيان، والسيف والسلطان، يملك ملكا مؤجلا تطبق فيه
أمته المشارق والمغارب، ومن ذريته الأمير الظاهر يظهر على جميع الملكات
والأديان، ويبلغ ملكه ما طلع عليه الليل والنهار وذلك يا حار امل من ورائه
امد، ومن دونه اجل، فتمسك بدينك " من دينك " وتمتع - لله أبوك - عن
" من " انس منصرم بالزمان، أو لعارض من الحدثان، فإنما نحن ليومنا،
ولغد أهله.
فاجابه حارثة بن اتاك فقال:
ايه عليك أبا قرة فإنه لاحظ في يومه لمن لا درك له في غده " غدوه "
واتق الله تجد الله جل وتعالى بحيث لا مفزع الا إليه، وعرضت مشيدا بذكر أبي
واثلة، فهو العزيز المطاع الرحب الباع، وإليكما معا يلقى الرجل " ملقى الرجال "
فلو أضربت التذكرة عن أحد لتبريز فضل لكنتما، لكنها ابكار الكلام
" الكلمة " تهدي لأربابها، ونصيحة كنتما أحق من اصغي لها، انكما مليكا
ثمرات قلوبنا، ووليا طاعتنا في ديننا فالكيس الكيس يا آيها المعظمان عليكما به
ارمقا ما بدهكما نواحيه " بواجبه " واهجرا التسويف فما أنتما بعرضه، آثرا
الله فيما كان يؤثر كما بالمزيد من فضله ولا تخلدا فما أظلكما إلى الونية " 1 " فإنه
من أطال عنان الامر أهلكته العزة، ومن اقتعد مطية الحذر كان بسبيل
آمن من المتالف، ومن استنصح عقله كان العبرة له لا به، ومن نصح الله
عز وجل آنسه الله جل وتعالى بعزة الحياة، وسعادة المنقلب.
ثم اقبل على العاقب معاتبا فقال:



" 1 " ونيت في الامر خففت
123
وزعمت أبا واثلة ان راد ما قلت أكثر من قائله وأنت لعمر الله حري
الا يؤثر هذا عنك فقد علمت وعلمنا أمة الإنجيل معا بسيرة ما قام به المسيح في
حواريه ومن آمن له من قومه وهذه منك فهة " 1 " لا يرحضها " 2 " الا التوبة
والاقرار بما سبق به من الانكار.
فلما اتي على هذا الكلام صرف إلى السيد وجهه فقال.
لا سيف الا ذو نبوة، ولا علم الا ذو هفوة فمن نزع عن وهله واقلع
فهو السعيد الرشيد، وإنما الآفة في الاصرار، وأعرضت بذكر نبيين
يخلقان زعمت بعد ابن البتول، فأين يذهب بك عما خلد في الصحف من
ذكرى ذلك؟ ألم تعلم ما أنبأنا به المسيح عليه السلام في بني إسرائيل؟
وقوله لهم كيف بكم إذا ذهب بي إلى أبي وأبيكم (كذا) وخلف بعد اعصار تخلو من
بعدي وبعدكم صادق وكاذب؟ قالوا ومن هما يا مسيح الله؟ قال: نبي من ذرية
إسماعيل عليهما السلام صادق ومتنبئ من بني إسرائيل كاذب، فالصادق منبعث
منهما برحمة وملحمة يكون له الملك والسلطان ما دامت الدنيا واما الكاذب
فله نبز يذكر به المسيح الدجال يملك فواقا ثم يقتله الله بيدي إذا رجع بي.
قال حارثة:
وأحذركم يا قوم ان يكون من قبلكم من اليهود أسوة انهم أنذروا
بمسيحين: مسيح رحمة وهدى ومسيح ضلالة وجعل لهم على كل واحد منهما



" 1 " الفهة بالفتح والتشديد السقطة
" 2 " الرحض بالحاء المهملة والضاد المعجمة غسل الثوب اي لا
يغسلها الا التوبة
124
آية وامارة فجحدوا مسيح الهدى وكذبوا به وآمنوا بمسيح الضلالة
الدجال واقبلوا على انتظاره، واضربوا في الفتنة وركبوا بختها " نصحها "
ومن قبل ما نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، وقتلوا أنبياءه والقوامين بالقسط
من عباده، فحجب الله عز وجل عنهم البصيرة بعد التبصرة بما كتبت
(كسبت) أيديهم ونزع ملكهم منهم ببغيهم والزمهم الذلة والصغار وجعل
منقلبهم إلى النار.
قال العاقب:
فما أشعرك يا حار ان يكون هذا النبي المذكور في الكتب وهو
قاطن في يثرب؟! ولعله ابن عمك صاحب اليمامة فإنه يذكر من النبوة ما يذكر
منها أخو قريش، وكلاهما من ذرية إسماعيل ولجميعهما اتباع وأصحاب يشهدون
بنبوته ويقرون برسالته فهل تجد بينهما في ذلك من فاصلة فتذكرها؟!
قال حارثة:
اجل والله أجدها، والله أكبر وابعد مما بين السحاب والتراب
وهي الأسباب التي بها وبمثلها تثبت حجة الله في قلوب المعتبرين من عباده
لرسله وأنبيائه، واما صاحب اليمامة فيكفيكم ما أخبركم به سفراؤكم (سفهاؤكم)
وغيركم والمنتجعة (1) منكم ارضه ومن قدم من أهل اليمامة إلى احمد بيثرب فعادوا
إليه جميعا بما تعرفوا هناك في بني قيلة وتبينوا به، قالوا قدم علينا احمد بيثرب



(1) المنتجعة طالبي الكلاء
125
وبيارنا ثماد (1) ومياهنا ملحة، وكنا من قبله لا نستطيب ولا نستعذب فبصق
في بعضها ومج في بعض فعادت عذابا محلولية وجاش (2) منها ما كان ماؤها
ثمادا فصار بحرا، قالوا وتفل محمد في عيون رجال ذوي رمد وعلى كلوم رجال
ذوي جروح فبرئت لوقته عيونهم فما اشتكوها واندملت جراحاتهم فما الموها
في كثير مما أدوا ونبئوا عن محمد (ص) من دلالة وآية، وأرادوا صاحبهم
مسيلمة على بعض ذلك فانعم لهم كارها، واقبل بهم إلى بعض بيارهم فمج فيها.
وكانت الركى (3) معذوذبة فحارت ملحا لا يستطاع، وبصق في بئر كان
ماؤها وشلا فعادت ولم تبض (4) بقطرة من ماء، وتفل في عين رجل كان بها
رمد فعميت وعلى جراح، فاكتسى جلده برصا فقالوا: لمسيلمة فيما ابصروا
ذلك منه واستبرأوه. فقال: ويحكم بئس الأمة أنتم لنبيكم، والعشيرة لابن
عمكم انكم تحيفتموني يا هؤلاء من قبل ان يوحى إلي في شئ، مما سألتم، والآن
فقد اذن لي في أجسادكم وأشعاركم دون بياركم ومياهكم، هذا لمن كان منكم
بي مؤمنا. واما من كان مرتابا فإنه لا يزيده تفلي عليه الا بلاء فمن شاء الان
منكم فليأت لأتفل في عينه وعلى جلده. قالوا: ما فينا - وأبيك -
أحد يشاء ذلك. انا نخاف ان يشمت بك أهل يثرب واضربوا عنه حمية
لنسبه فيهم وتذمما لمكانه منهم.



(1) قليلة الماء
(2) جاش الوادي كثر ماؤه
(3) البئر ذات الماء
(4) وشل الماء سال وبعض الماء سال قليلا اي قطر
126
فضحك السيد والعاقب حتى فحا الأرض بأرجلهما وقالا:
ما النور والظلام والحق والباطل باشد بيانا وتفاوتا مما بين هذين
الرجلين صدقا وكذبا
قالوا: وكان العاقب أحب مع ما تبين من ذلك أن يشيد ما فرط من
تفريط مسيلمة ويوثل منزلته ليجعله لرسول الله (ص) كفأ. استظهارا
بذلك في بقاء عزه، وما طار له من السمو في أهل ملته فقال:
ولئن فخر أخو بني حنيفة في زعمه ان الله عز وجل أرسله وقال من
ذلك ما ليس له بحق فلقد بر في أن نقل قومه من عبادة الأوثان إلى
الايمان بالرحمن.
قال حارثة:
أنشدك بالله الذي دحاها واشرق باسمه قمراها هل تجد فيما انزل الله
عز وجل في السابقة (السالفة) يقول الله عز وجل: انا الله ولا اله الا انا ديان
يوم الدين أنزلت كتبي وأرسلت رسلي لأستنقذ بهم عبادي من حبائل
الشيطان، وجعلتهم في بريتي وأرضي كالنجوم الدراري في سمائي يهدون
بوحي وامري، من أطاعهم أطاعني ومن عصاهم فقد عصاني. واني لعنت
وملائكتي في سمائي وارضى واللاعنون من خلقي من جحد ربوبيتي أو عدل
بي شيئا من بريتي أو كذب بأحد من أنبيائي ورسلي أو قال أوحي إلي ولم
يوح إليه شئ أو غمص (1) سلطاني أو نقضه متبرا وأكمه عبادي وأضلهم عني
الا وإنما يعبدوني من عرف ما أريد في (من) عبادتي وطاعتي من خلقي فمن لم



(1) احتقر وعاب
127
يقصد إلي من السبيل التي نهجتها برسلي لم يزدد في عبادته مني الا بعدا.
قال العاقب: رويدك لقد نبأت حقا.
قال حارثة:
فما دون الحق من مقنع وما بعده لامرء مفزع ولذلك قلت الذي
قلت.
فاعترضه السيد وكان ذا مجال (1) وجدال شديد فقال:
ما احرى وما أرى أخا قريش مرسلا الا إلى قومه بني إسماعيل
(في دينه) وهو مع ذلك يزعم أن الله عز وجل أرسله إلى الناس جميعا.
فقال حارثة: أفتعلم أنت يا أبا قرة؟ ان محمدا مرسل إلى قومه خاصة.
قال: أجل!
- أتشهد له بذلك؟
- ويحك وهل يستطاع دفع الشواهد! نعم اشهد غير مرتاب بذلك
وبذلك شهدت له الصحف الدارسة، والانباء الخالية!..
فاطرق حارثة ضاحكا ينكث الأرض بسبابته.
قال السيد: ما يضحكك يا ابن اتاك؟
حارثة - عجبت فضحكت
السيد - أو عجب ما تسمع؟
حارثة - نعم العجب أجمع أليس - بالإله - بعجيب من رجل
أوتي اثرة من علم وحكمة يزعم أن الله عز وجل اصطفى لنبوته واختص



(1) صاحب مكر وحيل
128
برسالته وأيد بروحه وحكمته رجلا خراصا يكذب عليه، ويقول أوحى إلي
ولم يوحى إليه، فيخلط كالكاهن كذبا بصدق، وباطلا بحق!
فارتدع السيد وعلم أنه قد وهل فامسك محجوجا. قالوا وكان حارثة
بنجران حثيثا - يعني غريبا - فاقبل عليه العاقب وقد قطعه ما فرط إلى السيد من
قوله فقال له:
عليك " 1 " أخا بني قيس من ابن تغلبة واحبس عليك ذلق " 2 " لسانك
وما لم تزل تستحم لنا من مثابة سفهك، فرب كلمة ترفع صاحبها رأسا قد
ألقته في قعر مظلمة ورب كلمة لامت ورأيت قلوبا نغله " 3 " فدع عنك ما يسبق
إلى القلوب انكاره وإن كان عندك مالك اعتذاره. ثم اعلم أن لكل شئ
صورة وصورة الانسان العقل وصورة العقل الأدب، والأدب أدبان طباعي
ومرتاضي فأفضلها أدب الله جل جلاله، ومن أدب الله سبحانه وحكمته ان
يرى لسلطانه حقا ليس لشئ من خلقه، لان الحبل بين الله وبين عباده..
والسلطان اثنان سلطان مملكة وقهر وسلطان حكمة وشرع. فأعلاهما فوقا
سلطان الحكمة وقد ترى يا هذا ان الله عز وجل قد صنع لنا حتى جعلنا حكاما
وقواما على ملوك ملتنا ومن بعدهم من حشونهم وأطرافهم، فاعرف لذي الحق
حقه أيها المرء وخلاك ذم ثم قال: وذكرت أخا قريش وما جاء به من
الآيات والنذر فأطلت وأعرضت ولقد برزت. فنحن بمحمد عالمون، وبه جدا



1) اسم فاعل بمعنى أمسك.
2) اللسان الذلق اللسان الحديد البليغ.
3) نغلة فاسدة.
129
موقنون شهدت لقد انتظمت له الآيات والبيانات سالفها وآنفها الا آية هي أسماها
(أشفاها) وأشرفها وإنما مثلها فيما جاء به كمثل الرأس للجسد، فما حال جسد
لا رأس له فامهل رويدا نتجسس الاخبار ونعتبر الآثار ولنستشف ما ألفينا
مما افضى إلينا فان أنسنا الآية الجامعة الخاتمة لديه فنحن إليه أسرع واليه (له) أطوع
والا فاعلم ما تذكر به النبوة والسفارة عن الرب الذي لا تفاوت في امره، ولا
تغاير في حكمه.
قال حارثة:
قد ناديت فأسمعت وفزعت فصدعت وسمعت وأطعت، فما هذه الآية
التي أوحش بعد الأنسة فقدها واعقب الشك بعد البينة عدمها؟
العاقب - قد أثلجك أبو قرة بها فذهبت عنها في غير مذهب وحاورتنا
فأطلت في غير ما طائل حوارنا.
حارثة - وانى ذلك فحلها الان لي فداك أبي وأمي.
العاقب - أفلح من سلم للحق وصدع به ولم يرغب عنه، وقد أحاط
به علما. فقد علمنا وعلمت من أنباء الكتب المستودعة علم القرون وما كان
منها وما يكون، فإنها استهلت بلسان كل أمة منهم معربة مبشرة ومنذرة بأحمد
النبي العاقب الذي تطبق أمته المشارق والمغارب يملك وشيعته من بعده ملكا مؤجلا
يستأثر مقتبلهم ملكا على الاحم " 1 " منهم بذلك النبي وتباعة وبيتا ويوسع
من بعدهم امنهم عدوانا وهضما فيملكون بذلك سبتا " 2 " طويلا حتى لا يبقى



" 1 " الاحم الأقرب.
" 2 " السبت الدهر.
130
في جزيرة العرب بيت الا وهو راغب إليهم أو راهب لهم ثم يدال بعد لأي منهم " 1 "
ويشعث سلطانهم " 2 " حدا حدا وبيتا فبيتا حتى تجنى أمثال النغف " 3 " من الأقوام فيهم
ثم يملك أمرهم عبدانهم وقنهم يملكون جيلا فجيلا يسيرون في الناس بالقعرة خيطا
خيطا " 4 " ويكون سلطانهم سلطانا عضوضا ضروسا فننقص الأرض حينئذ من أطرافها
ويشتد البلاء وتشتمل الأوقات حتى يكون الموت أعز من الحياة الحمراء وأحب
حينئذ إلى أحدهم من الحياة إلى المعافاة السليم، وما ذلك الا لما يدلون به من
الضر والضراء والفتنة العشواء، وقوام الدين يومئذ وزعماؤه أناس ليسوا من
أهله فيمج الدين بهم وتعفو آياته ويدبر توليا وامحاقا، فلا يبقى الا اسمه حتى
ينعاه ناعيه والمؤمن يومئذ غريب، والديانون قليل ما هم حتى يستيئس الناس
من روح وفرجة الا أقلهم، ويظن أقوام ان لن ينصر الله رسله ويحق وعده
فإذا بهم الشصائب " 5 " والنقم واخذ من جميعهم بالكظم " 6 " تلافي الله دينه
وراش عباده " 7 " من بعد ما قنطوا برجل من ذرية نبيهم احمد ونجله يأتي
به الله عز وجل من حيث لا يشعرون تصلي عليه السماوات وسكانها وتفرج به



" 1 " أي يتقلب من حال إلي حال بعد مدة طويلة.
" 2 " شعث السلطان تشتت.
" 3 " النغف دود في أنوف الإبل والغنم.
" 4 " خيطا بالياء المثناة من تحت الجماعة وبالموحدة كذلك.
" 5 " الشصائب الشدائد.
" 6 " مخرج النفس.
" 7 " جمع عباده.
131
الأرض وما عليها من هوام، وطائر وأنام وتخرج له أمكم - يعني الأرض - بركتها
وزينتها وتلقي إليها كنوزها وأفلاذ كبدها حتى تعود كهيئتها على عهد آدم عليه
السلام، وترفع عنهم المسكنة والعاهات في عهده والنقمات التي كانت تضرب بها الأمم
من قبل وتلقى أفي البلاد الامنة وتنزع حمة كل ذات حمة ومخلب كل ذي مخلب وناب كل
ذي ثاب حتى أن الجويرية اللكاع لتلعب بالأفعوان فلا يضرها شيئا، وحتى
يكون الأسد في الباقر (1) كأنه راعيها والذئب في البهم كأنه ربها ويظهر الله عبده
على الدين كله فيملك مقاليد الأقاليم إلى بيضاء الصين حتى لا يكون على عهده
في الأرض اجمعها الا دين الله الحق الذي ارتضاه لعباده وبعث به آدم بديع
فطرته واحمد خاتم رسالته ومن بينهما من أنبيائه ورسله.
وما ان انتهى العاقب من اقتصاصه هذا قبل عليه حارثة مجيبا فقال:
(اشهد بالله البديع يا أيها النبيه الخطير والعليم الأثير، لقد ابتسم الحق بقلبك
واشرق الجنان بعدل منطقك وتنزلت كتب الله التي جعلها نورا في بلاده
وشاهدة على عباده بما اقتصصت من سطورها حقا فلم يخالف طرس منها ولا
رسم من آياتها رسما فما بعد هذا؟
قال العاقب:
فإنك زعمته أخا قريش فكنت بما تؤثر من هذا حق غالط.
حارثة - وبم؟ ألم تعترف له بنبوته ورسالته الشواهد؟!
العاقب - بلى لعمر الله ولكنهما نبيان رسولان يعتقبان بين مسيح
الله عز وجل وبين الساعة اشتق اسم أحدهما من صاحبه محمد واحمد بشر بأولهما



(1) الباقر جماعة البقر.
132
موسى وثانيهما عيسى فأخو قريش هذا مرسل إلى قومه ويقفوه من بعده ذو الملك
الشديد والا كل الطويل يبعثه الله عز وجل خاتما للدين وحجة على الخلائق
أجمعين ثم تأتي من بعده فترة تتزايل فيها القواعد من مراسيها فيعيدها الله عز
جل على الدين كله فيملك هو والملوك الصالحون من عقبه جميع ما طلع عليه
الليل والنهار، من ارض وجبل وبر وبحر يرثون ارض الله عز وجل ملكا كما ورثها
وملكها الأبوان آدم ونوح. يلقون - وهم الملوك الأكابر - وفي مثل
هيئة المساكين بذاذة واستكانة، فأولئك الأكرمون الأماثل لا تصلح عباد
الله وبلاده الا عليهم ينزل عيسى ابن البشر على اخرهم بعد مكث طويل شديد
لا خير في العيش بعدهم وتردفهم رجراجة (واخراجة) طغام في مثل أحلام
العصافير، (و) عليهم تقوم الساعة وإنما تقوم على شرار الناس واخا فيهم فذلك الوعد
الذي صلى به الله عز وجل على احمد كما صلى به على خليله إبراهيم (ع) في كثير
مما لأحمد من البراهين والتأييد الذي خبرت به كتب الله الأولى.
حارثة - فمن الأثر (الامر) المستقر عندك أبا وائلة في صدق هذين
الاسمين انهما لشخصين لنبيين مرسلين في عصرين مختلفين؟.
العاقب - أجل
حارثة - فهل يخالجك في ذلك ريب أو يعرض لك فيه
ظن؟
العاقب - كلا والمعبود ان هذا لأجلى من يوخ (1) - وأشار
إلى جرم الشمس فأكب حارثة مطرقا وجعل ينكث الأرض عجبا.



" 1 " يوخ بالمثناة الشمس
133
حارثة - إنما الآفة أيها الزعيم المطاع، ان يكون المال عند من
يخزنه لامن ينفقه والسلاح عند من يتزين به لامن يقاتل به. والرأي عند
من يملكه لا من ينصره.
العاقب - لقد أسمعت يا حويرث فأقذعت، وطفقت فأقدمت فمه.
الحارث - أقسم بالذي قامت به السماوات والأرضون باذنه وغلبت
الجبابرة بأمره انهما اسمان مشتقان لنفس واحدة ولنبي واحد ورسول واحد
انذر به موسى بن عمران، وبشر به عيس بن مريم ومن قبلهما أشارت به صحف
إبراهيم.
فتضاحك السيد بري قومه ومن حضرهم ان ضحكة هزؤ من حارثة
وتعجبا وانتشط العاقب (من) ذلك فاقبل على حارثة مؤنبا فقال:
لا يغررك باطل أبي قرة فإنه وان ضحك لك فإنما يضحك منك.
حارثة - لئن فعلها لأنها لاحدى الدهارس " 1 " أو بؤة (سؤة) أفلم
تتعرفا - راجع الله بكما - من موروث الحكمة لا ينبغي للحكيم ان يكون
عابسا في غير إرب ولا ضاحكا من غير عجب؟ ألم يبلغكما عن سيدكما المسيح
عليه السلام قال: فضحك العالم في غير حينه غفلة من قلبه أو سكرة ألهته عما
في غده؟
السيد - يا حارثة لا يعيش واحد بعقله حتى يعيش بظنه " 2 " وإذا



" 1 " دهرس كجعفر. الداهية
" 2 " يريد ان التعيش بالظنون الفاسدة أكثر من التعيش بالعقل
ومراده ان هذا الكلام صادق وان ضحكه لم يكن عبثا.
134
انا لم اعلم الا ما رويت فلا علمت، أو لم يبلغك أنت عن سيدنا المسيح علينا سلامه
ان لله عبادا ضحكوا جهرا من سعة رحمة ربهم وبكوا سرا من
خيفة ربهم!
حارثة - إذا كان هذا فنعم
السيد - فما هنا فليكن مراجم ظنونك بعباد ربك؟ وعد بنا إلى ما
نحن بسبيله فقد طال التنازع والخصام بيننا يا حارثة.
وذكروا ان هذا كان - جلسة - ثالثة في يوم ثالث من اجتماعهم
للنظر من أمرهم.
فقال السيد - يا حارثة ألم ينبئك أبو واثلة بأفصح لفظ اخترق اذنا
ودعا ذلك بمثله مخبرا فألقاك مع عرفائك (عزماتك) بموارده حجرا وها
انا ذا أوكد عليك التذكرة من معدن ثالث فأنشدك الله وما انزل إلى
كلمته من كلماته هل تجد في الزاجرة المنقولة من لسان أهل سوريا إلى لسان
العرب - يعنى صحيفة شمعون بن حمون الصفا التي توارثها عنه أهل نجران -
ألم يقل بعد بند طويل من كلام فإذا طبقت وقطعت الأرحام وعفيت (وعلفت)
الاعلام بعث الله عبده البارقليطا بالرحمة والمعدلة قالوا وما البارقليطا
يا روح الله (يا مسيح الله) قال احمد النبي الخاتم الوارث ذلك الذي يصلي عليه حيا
ويصلي عليه بعد ما يقبضه إليه بابنه الطاهر الخاير ينشره الله في آخر الزمان بعدما
انقضت (انقضمت) عرى الدين وخبت مصابيح الناموس فأفلت (وافلت)
نجومه فلا يلبث العبد الصالح الا أمما حتى يعود به الدين كما بدا ويقر الله
عز وجل سلطانه في عبده ثم في الصالحين من عقبه وينشر منه حتى يبلغ ملكه

135
منقطع التراب.
حارثة - قد أنشدتما (بهذه المأثرة لأحمد وكررتما بها القول وهي
كما) قد أنشدتما حق لا وحشة مع (من) الحق ولا انس في غيره فمه.
السيد - فان من الحق ان لاحظ في هذه الأكرومة للأبتر.
حارثة - انه لكذلك أليس لمحمد ولد
السيد - انك ما علمت الا لدا " 1 " ألم يخبرنا سفرنا وأصحابنا فيما
تجسسنا من خبره ان ولديه الذكران (من) القرشية والقبطية بادا، يعني هلكا
وغودر محمد كقرن الا عضب " 2 " موف على ضريحه، فلو كان بقية لكان
لك بذلك مقالا إذا ولت أبناؤه الذي ينكر (تذكر)
الحارث - العبر لعمرو الله كثيرة والاعتبار بها قليل، والدليل موف
على سنن السبيل ان لم يغش عنه ناظر وكما أن ابصار الرمد لا تستطيع النظر في قرص
الشمس لسقمها فكذلك البصائر القصيرة لا تتعلق بنور الحكمة لعجزها الا
ومن كان كذلك فلستماه - وأشار إلى السيد والعاقب - انكما ويمين الله
لمحجوجين بما أتاكما الله عز وجل من ميراث الحكمة واستودعكما من بقايا
الحجة ثم بما أوجب لكما من الشرف والمنزلة في الناس فقد جعل الله عز وجل
من أتاه سلطانا ملوكا للناس وأربابا وجعلكما حكما وقواما على ملوك ملتنا
وذادة لهم يفزعون اليكما في دينهم ولا تفزعان إليهم وتأمرانهم فيأتمرون لكما وحق
لكل ملك أو موطأ الأكتاف (الأكناف) ان يتواضع لله عز وجل إذ رفعه



" 1 " الد الخصومة الشديدة
" 2 " كناية عن الهلاك اي لم يبق له أحد
136
وان ينصح لله عز وجل في عباده ولا يدهن في امره، وذكرتما محمدا بما
حكمت له بالشهادات (الشهادات) الصادقة وبينته فيه الاسفار المستحفظة،
ورأيتماه مع ذلك مرسلا إلى قومه لا إلى الناس جميعا وان ليس بالخاتم
الحاشر " 1 " ولا الوارث العاقب لأنكما زعمتما أبترا أليس كذلك؟!
السيد والعاقب - نعم.
حارثة - أرأيتما لو كان له بقية وعقب هل كنتما تمتريان (ممتريان)
لما تجدان؟. وبما تكذبان من الوراثة والظهور على النواميس؟. انه النبي
الخاتم والمرسل إلى كافة البشر.
السيد والعاقب - لا.
حارثة - أفليس هذا القيل لهذه الحال مع طول اللوائم والخصايم
عندكما مستقرا.
السيد والعاقب - اجل.
حارثة - الله أكبر.
السيد والعاقب - كبرت كبيرا فما دعاك إلى ذلك؟
حارثة - الحق أبلج، والباطل لجلج، ولنقل ماء البحر ونشق
الصخر أهون من إماتة ما أحياه الله عز وجل واحياء ما اماته الان،
فاعلما ان محمدا غير ابتر، وانه الخاتم الوارث والعاقب الحاشر حقا فلا نبي
بعده وعلى أمته تقوم الساعة ويرث الله الأرض ومن عليها وان من ذريته
الأمير الصالح الذي بينتماه، ونبئتما انه يملك مشارق الأرض ومغاربها، ويظهره



" 1 " الحاشر من أسماء النبي (ص) لأنه يحشر الناس ممن على دينه خلفه.
137
الله عز وجل بالحنفية (الحنيفية) الإبراهيمية على النواميس كلها.
السيد والعاقب - أولى لك يا حارثة، لقد أغفلناك وتأتي الامر مراوغة
كالثعالبة فما تسأم المنازعة ولا تمل من المراجعة، ولقد زعمت مع ذلك
عظيما فما برهانك؟
حارثة - اما وجدكما لأنبئكما ببرهان من الشبهة ويشفى به جوى
الصدور. ثم اقبل على ابن حارثة حصين بن علقمة شيخهم وأسقفهم الأول فقال:
أرأيت أيها الأب الأثير ان تؤنس قلوبنا، وتثلج صدورنا باحضار
الجامعة والزاجرة؟ - وكان هذا المجلس الرابع من اليوم الرابع - وذلك لما
خلقت " 1 " الأرض (الشمس) وفي زمن قيظ شديد.
فاقبلا على حارثة فقالا ارج هذا إلى غد القلوب منا الصدور ففرقوا على
احظار الزاجرة والجامعة من غد للنظر فيهما والعمل بما يتراؤن (يترائيان) منهما فلما كان
من الغد صار أهل نجران إلى بيعتهم لاعتبار ما أجمع صاحباهما مع حارثة على اقتباسه وتبينه
(وتتبعه) من الجامعة، ولما رأى السيد والعاقب اجتماع الناس لذلك قطع
بهما " 2 " لعلمهما بصواب حارثة، واعترضاه ليصدانه عن تصفح الصحف عن أعين
الناس وكانا من شياطين الانس فقال السيد انك قد أكثرت وأمللت فض " 3 "



" 1 " حلقت الشمس ارتفعت وركدت
" 2 " قطع بفلان إذا عجز عن سفره من نفقة الذهاب
" 3 " بالفاء المعجمة والضاد المعجمة الكسر اي دعنا نترك الكلام
ونكسر الحديث وبالقاف والصادق المهملة من قطع جناح الطائر اي نقطع
الكلام علنا ونجعله بيننا وقض بالقاف المثنات من قض اللؤلؤ.
138
الحديث لنا مع قضة (قص الحديث لنا مع قصة) ودعنا من (مع تبيانه
حارثة - وهل هذا الا منك ومن صاحبك؟. فمن الان فقولا
ما شئتما!.
العاقب - ما من مقال الا قلنا، وسنعود فننجز بعض ذلك (لك)
تنجيزا غير كاتمين لله عز وجل من حجة ولا جاحدين له آية ولا مفترين مع
ذلك على الله عز وجل لعبد انه مرسل منه وليس برسوله، فنحن نعترف يا هذا
بمحمد انه رسول من الله عز وجل إلى قومه من بني إسماعيل (إسرائيل)
في غير أن تجيب له بذلك على غيرهم من عرب الناس ولا أعاجمهم ولا طاعة
بخروج له عن ملة ولا دخول معه في ملة الا الاقرار له بالنبوة والرسالة إلى
أعيان قومه ودينه.
حارثة - بما شهدتما له بالنبوة والامر؟
السيد والعاقب - حيث جاءتنا فيه البينة من تباشير الأناجيل والكتب
الخالية.
حارثة - منذ وجب هذا لمحمد عليكما في طويل الكلام وقصيره،
وبدئه وعوده، فمن أين زعمتما انه ليس بالوارث الحاشر ولا المرسل إلى
كافة البشر؟؟
السيد والعاقب - لقد علمت وعلمنا فما نمتري بان حجة الله عز وجل
لم ينته أمرها وانها كلمة الله جارية في الأعقاب ما اعتقب الليل والنهار، وما
بقي من الناس شخصان، وقد ظننا من قبل ان محمدا ربها وانه القائد بزمامها
فلما أعقمه الله عز وجل بمهلك الذكورة من ولده علمنا أنه ليس به، لان

139
محمدا ابتر، وحجة الله عز وجل الباقية ونبيه الخاتم بشهادة كتب الله عز وجل
المنزلة ليس بأبتر فاذن هو نبي يأتي بعد محمد اسمه من اسم محمد
وهو احمد الذي أنبأ المسيح باسمه وبنبوته ورسالاته (ورسالته) الخاتمة
ويملك ابنه القاهر (القاهرة) الجامعة للناس جميعا ناموس الله عز وجل
الأعظم، ليس بمظهر (بمظهرة) دينه ولكنه ذريته وعقبه يملك قرى
الأرض وما بينهما من لوب 1 وسهل وصخر وبحر ملكا مورثا موطأ وهذا
نبأ أحاطت سفرة الأناجيل به علما وقد أوسعناك بهذا القيل سمعا وعدنا لك
به آنفة بعد سالفة فما إربك إلى تكراره؟!.
حارثة - قد اعلم انا وإياكم في رجع من القول منذ ثلاث وما ذاك
الا ليذكر ناس ويرجع فارط ويظهر (وتطمئن) لنا الكلم (ويظهر لنا
الكلام) وذكرتما نبيين يبعثان يعتقبان بين مسيح الله عز وجل والساعة
قلتما وكلاهما من بني إسماعيل أولهما محمد بيثرب وثانيهما احمد العاقب واما محمد
أخو قريش هذا الفاطن بيثرب فآياته (فانابه) حق مؤمن اجل وهو
- والمعبود - احمد الذي نبأت به كتب الله عز وجل ودلت عليه آياته وهو حجة
الله عز وجل ورسوله والخاتم الوارث حقا ولا نبوة ولا رسول لله عز وجل ولا
حجة بين ابن البتول والساعة غيره بلى ومن كان (منه) من ابنته البهلولة 2
(البتولة) الصديقة فأنتما ببلاغ الله لكنكما (اليكما) من نبوة محمد في
أمر مستقر ولولا انقطاع نسله لما ارتبتما فيما زعمتما به انه السابق العاقب.



(1) اللوب جمع لابة: الحرة من الأرض
(2) البهلول بالضم السيد الجامع لكل خير
140
حارثة - فأنتما والله فيما تزعمان من نبي ثان من بعده في أمر ملتبس
والجامعة تحكم في ذلك بيننا!.
السيد والعاقب - اجل ان ذلك لمن أكبر اماراته عندنا.
فتنادى الناس من (في) كل ناحية الجامعة يا أبا حارثة الجامعة وذلك
لما مسهم في طول محاورة الثلاثة من السآمة والملل وظن القوم مع ذلك أن
الفلج (الفلح) لصاحبيهما بما كانا يدعيان في تلك المجالس من ذلك، فاقبل أبو
حارثة إلى علج " 1 " واقف منه أمما فقال امض يا غلام فات بها فجاء بالجامعة يحملها على
رأسه وهو لا يكاد يتماسك بها لثقلها - قال - يعني الراوي - فحدثني رجل
صدق من النجرانية ممن كان يلزم السيد والعاقب ويخف لهما في بعض أمورهما
ويطلع على كثير من شأنهما - لما حضرت الجامعة بلغ ذلك من السيد والعاقب كل
مبلغ لعلمهما بما يهجمان عليه في تصفحها من دلائل رسول الله وصفته، وذكر
أهل بيته وأزواجه وذريته، وما يحدث في أمته وأصحابه، من بوائق الأمور
من بعده إلى فناء الدنيا وانقطاعها فاقبل أحدهما على صاحبه فقال هذا يوم ما
بورك لنا في طلوع شمسه، لقد شهدته أجسامنا وغابت عنه آراؤنا بحضور
صغاتنا وسفلتنا، ولقل ما شهد سفهاء قوم مجمعة الا كانت لهم الغلبة قال الآخر فهم
شر غالب لمن غلب، ان أحدهم ليفيق بأدنى كلمة، ويفسد في بعض ساعته مالا
يستطيع الأسى الحليم " 2 " له رتقا ولا الخولي النفيس اصلاحا " 3 " في حول



" 1 " العلج الرجل الضخم من كفار العجم وقيل الكافر مطلقا.
" 2 " الأسى الطبيب " 3 " الخولي الراعي الصالح.
141
محرم، ذلك لان السفيه هادم، والحليم بان، وشتان بين الهدم والبنيان،
فانتهز حارثة الفرصة فأرسل في خفية وسر إلى النفر من أصحاب رسول الله
فاستحضرهم استظهارا بمشهدهم فحضروا، فلم يستطع الرجلان فض ذلك المجلس، ولا
ارجاءه وذلك لما بيناه من تطلع عامتهما من نصارى نجران إلى معرفة ما تضمنته
الجامعة من صفة رسول الله (وانبعاث له مع حضور رسل رسول الله) لذلك
وتأليب حارثة عليهما فيه وصفوا (كذا) " 1 " أبو حارثة شيخهم إليه. قال
ذلك النجراني فكان الرأي عندهما ان ينقادا لما بذههما من هذا الخطب ولا
يظهر ان شماسا منه (منهم) ولا نفورا حذار ان يطرقا الظنة فيه إليهما، وان
يكونا أيضا أول معتبر للجامعة ومستحث (ومستحب) لها لئلا يفتات في شئ
من ذلك المقام والمنزلة عليهما، ثم يستبين ان الصواب في الحال ويستنجد انه
بموجبه، فتقدما لما تقدم أنفسهما من ذلك إلى الجامعة وهي بين يدي
أبي حارثة وحاذاهما حارثة بن اتاك، وتطاولت إليهما فيه الأعناق، وحفت
رسل رسول الله صلى بهم فامر أبو حارثة بالجامعة ففتح ظرفها واستخرج منها
صحيفة آدم الكبرى المستودعة علم ملكوت الله عز وجل جلاله، وما ذرأ
وما برأ في ارضه وسمائه، وما وصلهما جل جلاله من ذكر عالميه وهي الصحيفة
التي ورثها شيت من أبيه عما دعا من الذكر المحفوظ فقرأ القوم
- السيد والعاقب وحارثة - في الصحيفة تطلبا لما تنازعوا فيه من نعت رسول الله
وصفته ومن حضرهم من الناس مصبحون (يصبحون) مرتفقون لما يستدرك
من ذكر ذلك، فألفوا في المصباح (المسباح) الثاني من فواصلها بسم الله الرحمن الرحيم أنا



" 1 " يريد الميل.
142
الله لا اله الا انا الحي القيوم، معقب الدهور وفاصل الأمور سبقت بمشيتي
الأسباب وذللت بقدرتي الصعاب فانا العزيز الحكيم الرحمن الرحيم ارحم ترحم
سبقت رحمتي غضبي وعفوي عقوبتي، خلقت عبادي لعبادتي، وألزمتهم حجتي
الا ان باعث فيهم رسلي ومنزل عليهم كتبي ابرم ذلك من لدن أول مذكور من يشر إلى
احمد نبيي وخاتم رسلي ذلك الذي اجعل عليه صلواتي واسلك في قلبه بركاتي
وبه أكمل أنبيائي ونذري.
قال آدم الهي من هؤلاء الرسل ومن احمد هذا الذي رفعت وشرفت
قال كل من ذريتك واحمد عاقبهم قال رب أنت باعثهم ومرسلهم
قال بتوحيدي ثم أقفي ذلك بثلاثمائة وثلاثين شريعة أنظمها وأكملها لأحمد جميعا
فأذنت (فاذن) لمن جاءني بشريعة منها مع الايمان بي وبرسلي ان
ادخله الجنة.
ثم ذكر ما جملته: ان الله عرض على آدم معرفة الأنبياء وذريتهم
ونظرهم آدم ثم قال ما هذا لفظه:
ثم نظر آدم إلى نور قد لمع فسد الجو المنخرق فاخذ بالمطامع من المشارق
ثم سرى كذلك حتى طبق المغارب ثم سما حتى بلغ ملكوت السماء. فنظر فإذا
هو محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإذا الأكناف قد تضوعت طيبا
وإذا أنوار أربعة قد اكتنفته عن يمينه وشماله ومن خلفه وامامه أشبه شئ به
ارجا ونورا يتلوها أنوار من بعدها تستمد منها وإذا هي شبيهة بها في ضيائها
ونشرها ثم دنت منها فتكللت عليها وحفت بها ونظر فإذا أنوار من بعد ذلك
في مثل عدد الكواكب ودون منازل الأوائل جدا جدا وبعض هذه أضواء

143
من بعض وهم في ذلك متقاربون جدا ثم طلع عليه سواد كالليل وكالسيل ينسلون
من كل وجه وأوب فاقبلوا كذلك حتى ملأوا القاع والاكم فإذا هم أقبح شئ
صورا وهيئة وانته ريحا فبهر آدم ما رأي من ذلك وقال:
يا عالم الغيوب وغافر الذنوب يا ذا القدرة الباهرة (القاهرة) والمشيئة الغالبة
من هذا الخلق السعيد الذي كرمت ورفعت على العالمين؟ ومن هذه الأنوار المنبعثة
المكتنفة له؟ فأوحى الله عز وجل إليه يا آدم هذا وهؤلاء وسيلتك ووسيلة من أسعدت
من خلقي هؤلاء السابقون المقربون والشافعون المشفعون وهذا احمد سيدهم
وسيد بريتي اخترته بعلمي واشققت (واشتققت) اسمه من اسمي فانا المحمود
وهو محمد وهذا صنوه ووصيه آزرته به وجعلت بركاتي وتطهيري في عقبه
وهذه سيدة إمائي والبقية في علمي من احمد نبيي وهذان السبطان والخلفان
لهم وهذه الأعيان المضارع نورها أنوارهم بقية منهم الا ان كلا اصطفيت
وطهرت وعلى كل باركت وترحمت فكلا بعلمي جعلت قدوة عبادي ونور
بلادي.
ونظر فإذا شيخ في آخرهم يزهر في ذلك الصفيح كما يزهر كوكب
الصبح لأهل الدنيا فقال الله تعالى:
وبعبدي هذا افك عن عبادي الأغلال واضع عنهم الاصار
وأملأ أرضي به حنانا ورأفة وعدلا كما ملئت من قبله قسوة وقشعرية وجورا
قال آدم: رب ان الكريم من أكرمت والشريف من شرفت
وحق يا الهي لمن رفعت وأعليت ان يكون كذلك فيا ذا النعم التي لا تنقطع



(1) الاصار - الذنوب
144
والاحسان الذي لا يجارى ولا ينفذ بم بلغ عبادك هؤلاء العالون هذه المنزلة
من شرف عطائك وعظيم فضلك وحبائك وكذلك من كرمت من عبادك
المرسلين؟؟
قال الله تبارك وتعالى: انا الله لا " اله الا انا " الرحمن الرحيم العزيز الحكيم عالم
الغيوب ومضمرات القلوب اعلم ما لم يكن مما يكون (و) كيف يكون ومالا يكون
كيف لو كان يكون واني اطلعت يا عبدي في علمي على قلوب عبادي فلم أر فيهم
أطوع لي ولا انصح لخلقي من أنبيائي ورسلي فجعلت لذلك فيهم روحي وكلمتي
وألزمتهم عببء (هناء) حجتي واصطفيتهم على البرايا برسالتي ووحي ثم ألقيت بمكاناتهم
تلك في منازلهم حوامهم (1) وأوصيائهم من بعدهم فألحقتهم بأنبيائي ورسلي
وجعلتهم من بعدهم ودائع حجتي والسادة في بريتي لاجبر بهم كسر عبادي
وأقيم بهم أودهم ذلك انى بهم وبقلوبهم لطيف خبير ثم اطلعت على قلوب
المصطفين من رسلي فلم أجد فيهم أطوع ولا انصح لخلقي من محمد خيرتي
وخالصتي فاخترته على علم ورفعت ذكره إلى ذكري ثم وجدت قلوب حامته
اللائي من بعده على صبغة قلبه فألحقتهم به وجعلتهم ورثة كتابي ووحي وأوكار
حكمتي ونوري وآليت بي الا أعذب بناري من لقيتني معتصما بتوحيدي وحبل
مودتهم ابدا.
ثم أمرهم أبو حارثة ان يصيروا إلى صحيفة شيث الكبرى التي انتهى ميراثها
إلى إدريس النبي قال وكان كتابتها بالقلم السرياني القديم وهو الذي كتب من
بعد نوح من ملوك الهياطلة (2) وهم النماردة قال فافتض القوم الصحيفة



(1) - قرابتهم (2) جنس من الترك وقيل من الهند لهم شوكة
145
وأفضوا منها إلى هذا الرسم:
أجمع إلى إدريس قومه وصحابته وهو يومئذ في بيت من ارض
كوفان فخبرهم فيما اقتص عليهم قال: ان بني أبيكم آدم (الصلبية) لصلبه وبني بنيه
وذريته اختصموا فيما بينهم وقالوا: اي الخلق عندكم أكرم على الله عز وجل
وارفع لديه مكانة وأقرب منه منزلة؟ فقال بعضهم أبوكم آدم خلقه الله عز وجل
بيده واسجد له ملائكته وجعله الخليفة في ارضه وسخر له جميع خلقه.
وقال آخرون بل الملائكة الذين لم يعصوا الله عز وجل وقال بعضهم لا بل
رؤساء الملائكة الثلاثة جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وقال بعضهم لا بل امين
الله جبرائيل فانطلقوا إلى آدم فذكروا الذين قالوا واختلفوا فيه فقال:
يا بني انا أخبركم بأكرم الخلائق جميعا على الله عز وجل انه والله لما نفخ
في الروح حتى استويت جالسا فبرق لي العرش العظيم فنظرت فيه فإذا فيه لا إله
إلا الله محمد رسول الله فلان امين الله فلان خيرة الله عز وجل فذكر عدة أسماء
مقرونة بمحمد ثم لم أر في السماء موضع أديم أو صفيح منها الا فيه مكتوب لا
إله إلا الله وما من موضع فيه مكتوب لا إله إلا الله ومكتوب خلقا لا خطا محمد رسول
الله وما من موضع مكتوب فيه محمد رسول الله الا ومكتوب علي (فلان) ولي
الله الحسن (فلان) خيرة الله الحسين (فلان) صفوة الله فذكر عدة
أسماء ينتظم حساب المعدود.
قال آدم فمحمد يا بني ومن خط من تلك الأسماء معه أكرم الخلائق
على الله جميعا.
ثم ذكر ان أبا حارثة سأل السيد والعاقب ان يقفا على صلاة إبراهيم

146
الذي جاء " بها " الاملاك من عند الله عز وجل فقنعوا بما وقفوا عليه في الجامعة. قال
أبو حارثة لا بل شارفوها بأجمعها، وأسبروها فإنه اصرم للعذور وارفع لحكمة
(لحسكة) الصدور وأجدر الا ترتابوا في الامر من بعد علم فلم يجد من المصير
إلى قوله من بد فعمد القوم إلى تابوت في الامر من بعد علم فلم يجد من المصير
إلى قوله من بد فعمد القوم إلى تابوت إبراهيم. وكان الله عز وجل يفضله على
من يشاء من خلقه قد اصطفى إبراهيم عليه بخلته وشرفه بصلواته وبركاته وجلعه قبلة
واماما لمن يأتي من بعده وجعل النبوة والكتاب والإمامة في ذريته يتلقاها آخرين
أول، وورثه تابوت آدم المتضمن للحكمة والعلم الذي فضله الله عز وجل به على
الملائكة طرا، فنظر إبراهيم في ذلك التابوت فابصر بيوتا بعدد ذوي العزم
من الأنبياء المرسلين وأوصيائهم من بعدهم ونظر فإذا بيت محمد آخر الأنبياء وعن
يمينه علي ابن أبي طالب اخذا بحجزته فإذا شكل عظيم يتلألأ نورا فيه هذا
صنوه ووصيه المؤيد بالنصر. فقال إبراهيم:
الهي وسيدي من هذا الخلق الشريف؟ فأوحى الله عز وجل
هذا عبدي وصفوتي الفاتح الخاتم وهذا وصيه الوارث
قال: ربي ما الفاتح الخاتم؟
قال: هذا محمد خيرتي وبكر فطرني وحجتي الكبرى في بريتي نبئته
واجتبيته. إذ آدم بين الطين والجسد. اني باعثه عند (بعد) انقطاع الزمان
لتكملة ديني وخاتم به رسالتي (رسالاتي) ونذري وهذا علي اخوه وصديقه
الأكبر آخيت بينهما واخترتهما وصليت وباركت عليهما وطهرتهما وأخلصتهما
والأبرار منهما وذرياتهما، قبل ان اخلق سمائي وأرضي وما فيها من خلقي، وذلك
لعلمي بهم وبقلوبهم، اني بعبادي عليم خبير.

147
ونظر إبراهيم فإذا اثنا عشر عظيما يكاد تلالا أشكالهم لحسنها نورا
فسأل ربه جل وتعالى فقال ربي نبئني بأسماء هذه الصور المقرونة بصورة محمد
ووصيه، وذلك لما رأى من رفيع درجاتهم والتحاقهم بشكلي محمد ووصيه فأوحى
الله عز وجل. أمتي والبقية من بنى فاطمة الصديقة الزهراء وجعلتها مع خليلها
عصبة لذرية نبي هؤلاء وهذان الحسنان وهذا فلان وهذا فلان وهذه كلمتي التي
انشر به رحمتي في بلادي وبه انتاش ديني وعبادي، ذلك بعد يأس منهم وقنوط
منهم من غياثي، فإذا ذكرت محمدا نبيي لصلواتك فصل عليهم معه يا إبراهيم.
فعندها صلى عليهم إبراهيم فقال رب صل على محمد وآل محمد كما
اجتبيتهم وأخلصتهم اخلاصا.
فأوحى الله عز وجل: لتهنك كرامتي وفضلي عليك فاني صائر
بسلالة محمد ومن اصطفيت معه منهم إلى قناة صلبك ومخرجهم منك ثم من بكرك
إسماعيل فأبشر يا إبراهيم فاني واصل صلاتك بصلاتهم، ومتبع ذلك بركاني
ورحمتي عليك وعليهم، وجاعل حسناتي وحجتي إلى الأمد المعدود، واليوم
الموعود الذي ارث فيه سمائي وارضى، وابعث له خلقي لفصل قضائي وإفاضة
رحمتي وعدلي.
فلما سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما أفضى إليه
القوم من تلاوة ما تضمنت الجامعة والصحف الدارسة من نعت رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم وصفة أهل بيته المذكورين معه بما هم به وبما شاهدوا من
مكانتهم عنده ازداد القوم بذلك يقينا وايمانا واستطيروا له فرحا.
ثم صار القوم إلى ما نزل على موسى فألفوا في السفر الثاني من التوراة

148
" اني باعث في الأميين من ولد إسماعيل رسولا انزل عليه كتابي وابعثه بالشريعة
القيمة إلى جميع خلقي اتيته حكمتي وأيدته بملائكتي وجنودي تكون ذريته
من ابنة له مباركة باركتها ثم من شبلين لهما كإسماعيل وإسحاق أصلين لشعبتين
عظيمتين أكثرهم جدا جدا يكون منهم اثنا عشر قيما أكمل بمحمد وما أرسله
به من بلاغ وحكمة ديني واختم به أنبيائي ورسلي فعلى محمد وأمته
تقوم الساعة.
فقال حارثة الان أسفر الصبح لذي عينين ووضح الحق لمن رضى به
دينا فهل في أنفسكما من مرض تستشفيان به؟ فلم يرجعا إليه قولا.
أبو حارثة - اعتبروا الامارة الخاتمة من قول سيدكم المسيح فصاروا
إلى الكتب والأناجيل التي جاء بها عيسى فألفوا في المفتاح الرابع من الوحي
إلى المسيح.
يا عيسى يا ابن الطاهرة البتول اسمع قولي وجد في أمري اني خلفتك
من غير فحل وجعلتك آية للعالمين فإياي فاعبد وعلي توكل وخذ الكتاب بقوة
ثم فسره لأهل سوريا وأخبرهم اني انا الله لا إله إلا أنا الحي القيوم الذي لا
أحول ولا أزول فامنوا بي وبرسولي النبي الأمي الذي يكون في آخر الزمان
نبي الرحمة والملحمة الأول والاخر - أول النبيين خلفا وآخرهم مبعثا -
ذلك العاقب الحاشر فبشر به بني إسرائيل.
قال عيسى: يا مالك الدهور وعلام الغيوب من هذا العبد الصالح الذي
قد أحبه قلبي ولم تره عيني؟.
- ذلك خالصتي ورسولي المجاهد بيده في سبيلي الموافق (يوافق)

149
قوله فعله وسريرته وعلانيته انزل عليه توراة جديدة (حديثة) افتح بها
أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا فيها ينابيع العلم وفهم الحكمة وربيع القلوب
وطوباه طوبي أمته.
- ربي ما اسمه وعلامته وما اكل أمته (وما ملك أمته) وهل
له من بقية - يعني ذريته -؟؟
- سأنبئك بما سألت اسمه احمد منتجب (منتخب) من ذرية
إبراهيم ومصطفى من سلالة إسماعيل ذو الوجه الأقمر والجبين الأزهر راكب
الجمل تنام عيناه ولا ينام قلبه يبعثه الله " كذا " في أمة أمية ما بقي الليل
والنهار مولده في بلد أبيه إسماعيل مكة كثير الأزواج قليل الأولاد نسله من
مباركة صديقة يكون له منها ابنة لها فرخان سيدان يستشهدان جعل نسل احمد
منهما فطوباهما ولمن أحبهما وشهد أيامهما فنصرهما.
- الهي وما طوبي؟!
- شجرة في الجنة ساقها وأغصانها من ذهب حلل وحملها
كثدي الابكار أحلى من العسل والين من الزبد وماؤها من تسنيم لو أن غرابا
طار وهو فرخ لأدركه الهرم قبل ان يقطعها وليس منزل من منازل أهل الجنة
الا وظلاله فنن من تلك الشجرة.
فلما اتي القوم على دراسة ما أوحى الله عز وجل إلى المسيح (ع)
من بعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصفته وملك أمته وذكر ذريته وأهل بيته
أمسك الرجلان مخصومين وانقطع التحاور بينهم في ذلك فلما فلج حارثة
على السيد والعاقب بالجامعة وما تبينوه في الصحف القديمة ولم يتم لهما ما قدروا

150
من تحريفها ولم يمكنهما ان يلبسا على الناس في تأويلهما أمسكا عن المنازعة من
هذا الوجه وعلما انهما قد أخطئا سبيل الصواب فسارا إلى بيعتهما آسفين.
والحمد لله رب العالمين أولا وآخرا
ونرجو ان يعصمنا من الزلل والخطأ (*)
لقد اطلع فضيلة خطيب الكاظمية المفوه الأستاذ الشيخ كاظم آل نوح على
بعض فصول الكتاب في أثناء الطبع فقال مؤرخا عام طبعه
قد تم طبع كتاب فذ كامل * بحاثة في عصرنا هذا اشتهر
ذاك السبيتي الذي في مزبر * قد خط ما في اللوح فيه واستطر
علامة بحاثة في بحثه * لم يعره أبدا من البحث الضجر
متعمق في البحث يفلج خصمه * وهو الذي في العصر منه يفتخر
قد تم طبع كتاب آل محمد * آرخ لآل محمد حق ظهر
61 92 108 1105 1366



* لقد اعتمدنا في نقل حديث أهل نجران على عدة نسخ تحريا
للصحة والضبط وقد رأينا بعض الاختلاف بين بعض الكتب لذلك أثبتنا
الكلمات التي اختلفت فيها بعض الكتب بين أقواس على أنها نسخ بدل.
151
/ 1