بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
الكتاب: شرح مسلم المؤلف: النووي الجزء: 7 الوفاة: 676 المجموعة: مصادر الحديث السنية ـ قسم الفقه تحقيق: الطبعة: سنة الطبع: 1407 - 1987 م المطبعة: الناشر: دار الكتاب العربي - بيروت - لبنان ردمك: ملاحظات: صحيح مسلم بشرح النووي الجزء السابع الناشر دار الكتاب العربي بيروت - لبنان 1407 ه - 1987 م دار الكتاب العربي الرملة البيضاء - ملكارت سنتر - الطابق الرابع، تلفون 800832 - 800811 - 805478 تلكس: 40139. E. L كتاب. برقيا: الكتاب ص. ب: 5769 - 11 بيروت - لبنان
1 قوله (عن أم عطية نهينا عن اتباع الجنائز ولا يعزم علينا) معناه نهانا رسول الله وسلم عن ذلك نهى كراهة تنزيه لا نهى عزيمة تحريم ومذهب أصحابنا أنه مكروه ليس بحرام لهذا الحديث قال القاضي قال جمهور العلماء بمنعهن من اتباعها وأجازه علماء المدينة وأجازه مالك وكره للشابة قوله صلى الله عليه وسلم (اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك) وفي رواية ثلاثا أو خمسا أو سبعا أو أكثر من ذلك ان رأيتن ذلك وفي رواية اغسلنها وترا ثلاثا أو خمسا وفي رواية اغسلنها وترا خمسا أو أكثر هذه الروايات متفقة في المعنى وان اختلفت ألفاظها والمراد اغسلنها وترا وليكن ثلاثا فان احتجتن إلى زيادة عليها للانقاء فليكن خمسا فان احتجتن إلى زيادة الانقاء فليكن سبعا وهكذا أبدا وحاصله أن الايتار مأمور به والثلاث مأمور بها ندبا فان حصل الانقاء بثلاث لم تشرع الرابعة والا زيد حتى يحصل
2 الانقاء ويندب كونها وترا وأصل غسل الميت فرض كفاية وكذلك حمله وكفنه والصلاة عليه ودفنه كلها فروض كفاية والواجب في الغسل مرة واحدة عامة للبدن هذا مختصر الكلام فيه وقوله صلى الله عليه وسلم (ان رأيتن ذلك) بكسر الكاف خطاب لأم عطية ومعناه ان احتجن وليس معناه التخيير وتفويض ذلك إلى شهوتهن وكانت أم عطية غاسلة للميتات وكانت من فاضلات الصحابيات الضارية واسمها نسيبة بضم النون وقيل بفتحها وأما بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه التي غسلتها فهي زينب رضي الله عنها هكذا قاله الجمهور قال القاضي عياض وقال بعض أهل السير انها أم كلثوم والصواب زينب كما صرح به مسلم في روايته التي بعد هذه قوله صلى الله عليه وسلم (بماء وسدر) فيه دلى على استحباب السدر في غسل الميت وهو متفق على استحبابه ويكون في المرة الواجبة وقيل يجوز فيهما قوله صلى الله عليه وسلم (واجعلن في الآخرة كافورا أو شيئا من كافور) فيه استحباب شئ من الكافور في الأخيرة وهو متفق عليه عندنا وبه قال مالك وأحمد وجمهور العلماء وقال أبو حنيفة لا يستحب وحجة الجمهور هذا الحديث ولأنه يطيب الميت ويصلب بدنه ويبرده ويمنع اسراع فساده أو يتضمن اكرامه قولها (فألقى الينا حقوه فقال أشعرنها إياه) هو بكسر الحاء وفتحها لغتان يعنى ازاره وأصل الحقو معقد الإزار وجمعه أحق وحقى وسمى به الإزار مجازا لأنه يشد فيه ومعنى أشعرنها إياه اجعلنه شعارا لها وهو الثوب الذي يلي الجسد سمى شعارا لأنه يلي شعر الجسد والحكمة في اشعارها به تبريكها به ففيه التبرك بآثار الصالحين ولباسهم وفيه جواز تكفين المرأة في ثوب الرجل قولها (فمشطناها ثلاثة قرون) أي ثلاث ضفائر جعلنا قرنيها ضفيرتين
3 وناصيتها ضفيرة كما جاء مبينا في غير هذه الرواية ومشطناها بتخفيف الشين فيه استحباب مشط رأس الميت وضفره وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق وقال الأوزاعي والكوفيون لا يستحب المشط ولا الضفر بل يرسل الشعر على جانبيها مفرقا ودليلنا عليه الحديث والظاهر اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك واستئذانه فيه كما في باقي صفة غسلها قوله صلى الله
4 عليه وسلم (ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها) فيه استحباب تقديم الميامن في غسل الميت وسائر الطهارات ويلحق بها أنواع الفضائل والأحاديث في هذا المعنى كثيرة في الصحيح مشهورة وفيه استحباب وضوء الميت وهو مذهبنا ومذهب مالك والجمهور وقال أبو حنيفة لا يستحب يكون الوضوء عندنا في أول الغسل كما في وضوء الجنب وفي حديث أم عطية هذا دليل لأصح الوجهين عندنا أن النساء أحق بغسل الميتة من زوجها وقد تمنع دلالته حتى يتحقق أن زوج زينب كان حاضرا في وقت وفاتها لا مانع له من غسلها وأنه لم يفوض الأمر إلى النسوة ومذهبنا ومذهب الجمهور أن له غسل زوجته وقال الشعبي والثوري وأبو حنيفة لا يجوز له غسلها وأجمعوا أن لها غسل زوجها واستدل بعضهم بهذا الحديث على أنه لا يجب
5 الغسل على من غسل ميتا ووجه الدلالة أنه موضع تعليم فلو وجب لعلمه ومذهبنا ومذهب الجمهور أنه لا يجب الغسل من غسل الميت لكن يستحب قال الخطابي لا أعلم أحدا قال بوجوبه وأوجب أحمد واسحق الوضوء منه والجمهور على استحبابه ولنا وجه شاذ أنه واجب وليس بشئ والحديث المروى فيه من رواية أبي هريرة من غسل ميتا فليغتسل ومن مسه فليتوضأ ضعيف بالاتفاق قوله (فوجب أجرنا على الله) معناه وجوب انجاز وعد بالشرع لا وجوب بالعقل كما تزعمه المعتزلة وهو نحو ما في الحديث حق العباد على الله وقد سبق شرحه في كتاب الايمان قوله فمنا من مضى لم يأكل من أجره شيئا معناه لم يوسع عليه الدنيا ولم يعجل له شئ من جزاء عمله قوله (فلم يوجد له شئ يكفن فيه الا نمرة) هي كساء وفيه دليل على أن الكفن من رأس المال وأنه مقدم على الديون لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتكفينه في نمرته ولم يسأل هل عليه دين مستغرق أم لا ولا يبعد من حال من لا يكون عنده الا نمرة أن يكون عليه دين واستثنى أصحابنا من الديون الدين المتعلق بعين المال فيقدم على الكفن وذلك كالعبد الجاني والمرهون والمال الذي تعلقت به زكاة أو حق بائعه بالرجوع بافلاس ونحو ذلك قوله صلى الله عليه وسلم (ضعوها مما يلي رأسه واجعلوا على رجليه من الإذخر) هو بكسر الهمزة والخاء وهو حشيش
6 معروف طيب الرائحة وفيه دليل على أنه إذا ضاق الكفن عن ستر جميع البدن ولم يوجد غيره جعل مما يلي الرأس وجعل النقص مما يلي الرجلين ويستر الرأس فان ضاق عن ذلك سترت العورة فان فضل شئ جعل فوقها فان ضاق عن العورة سترت السوأتان لأنهما أهم وهما الأصل في العورة وقد يستدل بهذا الحديث على أن الواجب في الكفن ستر العورة فقط ولا يجب استيعاب البدن عند التمكن فن قيل لم يكونوا متمكنين من جميع البدن لقوله لم يوجد له غيرها فجوابه أن معناه لم يوجد مما يملك الميت الا نمرة ولو كان ستر جميع البدن واجبا لوجب على المسلمين الحاضرين تتميمه ان لم يكن له قريب تلزمه نفقته فإن كان وجب عليه فان قيل كانوا عاجزين عن ذلك لأن القضية جرت يوم أحد وقد كثرت القتلى من المسلمين واشتغلوا بهم وبالخوف من العدو وغير ذلك فجوابه أنه يبعد من حال الحاضرين المتولين دفنه أن لا يكون مع واحد منهم قطعة من ثوب ونحوها والله أعلم قوله (منا من أينعت له ثمرته) أي أدركت ونضجت قوله (فهو يهدبها) هو بفتح أوله وبضم الدال وكسرها أي يجتنيها يقال ينع الثمر وأينع ينعا وينوعا فهو يانع وهدبها يهدبها إذا جناها وهذا استعارة لما فتح عليهم من الدنيا قولها (كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاث أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة) السحولية بفتح السين وضمها والفتح أشهر وهو رواية الأكثرين قال ابن الأعرابي وغيره
7 هي ثياب بيض نقية لا تكون الا من القطن وقال ابن قتيبة ثياب بيض ولم يخصها بالقطن وقال آخرون هي منسوبة إلى سحول قرية باليمن تعمل فيها وقال الأزهري السحولية بالفتح منسوبة إلى سحول مدينة باليمن يحمل منها هذه الثياب وبالضم ثياب بيض وقيل إن القرية أيضا بالضم حكاه ابن الأثير في النهاية في هذا الحديث وحديث مصعب بن عمير السابق وغيرهما وجوب تكفين الميت وهو اجماع المسلمين ويجب في ماله فإن لم يكن له مال فعلى من عليه نفقته فإن لم يكن ففي بيت المال فإن لم يكن وجب على المسلمين يوزعه الامام على أهل اليسار وعلى ما يراه وفيه أن السنة في الكفن ثلاثة أثواب للرجل وهو مذهبنا ومذهب الجماهير والواجب ثوب واحد كما سبق والمستحب في المرأة خمسة أثواب ويجوز أن يكفن الرجل في خمسة لكن المستحب أن لا يتجاوز الثلاثة وأما الزيادة على خمسة فاسراف في حق الرجل والمرأة قولها (بيض) دليل لاستحباب التكفين في الأبيض وهو مجمع عليه وفي الحديث الصحيح في الثياب البيض وكفنوا فيها موتاكم ويكره المصبغات ونحوها من ثياب الزينة وأما الحرير فقال أصحابنا يحرم تكفين الرجل فيه ويجوز تكفين المرأة فيه مع الكراهة وكره مالك وعامة العلماء التكفين في الحرير مطلقا قال ابن المنذر ولا أحفظ خلافه وقولها ليس فيها قميص ولا عمامة معناه لم يكفن في قميص ولا عمامة وإنما كفن في ثلاثة أثواب غيرهما ولم يكن مع الثلاثة شئ آخر هكذا فسره الشافعي وجمهور العلماء وهو الصواب الذي يقتضيه ظاهر الحديث قالوا ويستحب أن لا يكون في الكفن قميص ولا عمامة وقال مالك وأبو حنيفة يستحب قميص وعمامة وتأولوا الحديث على أن معناه ليس القميص والعمامة من جملة الثلاثة وإنما هما زائدان عليهما وهذا ضعيف فلم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم كفن في قميص وعمامة وهذا الحديث يتضمن أن القميص الذي غسل فيه النبي صلى الله عليه وسلم نزع عنه عند تكفينه وهذا هو الصواب الذي لا يتجه غيره لأنه لو بقي مع رطوبته لأفسد الأكفان وأما الحديث الذي في سنن أبي داود عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب الحلة ثوبان وقميصه الذي توفى فيه فحديث ضعيف لا يصح الاحتجاج به لأن يزيد بن أبي زياد أحد رواته مجمع على ضعفه لا سيما وقد خالف بروايته الثقاة قوله (من كرسف) هو القطن وفيه دليل على استحباب كفن القطن
8 قولها (اما الحلة فإنما شبة على الناس فيها) هو بضم الشين وكسر الباء المشددة ومعناه اشتبه عليهم قال أهل اللغة ولا تكون الحلة الا ثوبين إزارا ورداء قولها (حلة يمنية كانت لعبد الله بن أبي بكر) ضبطت هذه اللفظة في مسلم على ثلاثة أوجه حكاها القاضي وهي موجودة في النسخ أحدها يمنية بفتح أوله منسوبة إلى اليمن والثاني يمانية منسوبة إلى اليمن أيضا والثالث يمنة بضم الياء واسكان الميم وهو اشهر قال القاضي وغيره وهي على هذا مضادة حلة يمنة قال الخليل هي ضرب من برود اليمن قولها (وكفن في ثلاثة أثواب سحول يمانية) هكذا هو في جميع الأصول سحول اما يمانية فبتخفيف الياء على اللغة الفصيحة المشهورة وحكى سيبويه والجوهري وغيرهما لغة في تشديدها ووجه الأول ان الألف بدل ياء النسب فلا يجتمعان
9 بل يقال يمنية أو يمانية بالتخفيف وأما قوله سحول فبضم السين وفتحها والضم أشهر والسحول بضم السين جمع سحل وهو ثوب القطن قولها (سجى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات بثوب حبرة) معناه غطى جميع بدنه والحبرة بكسر الحاء وفتح الباء الموحدة وهي ضرب من برود اليمن وفيه استحباب تسجية الميت وهو مجمع عليه وحكمته صيانته من الانكشاف وستر عورته المتغيرة عن الأعين قال أصحابنا ويلف طرف الثوب المسجى به تحت رأسه وطرفه الآخر تحت رجليه لئلا ينكشف عنه قالوا تكون التسجية بعد نزع ثيابه التي توفى فيها لئلا يتغير بدنه بسببها قوله (أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوما فذكر رجلا من أصحابه قبض فكفن
10 في كفن غير طائل وقبر ليلا فزجر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبر الرجل بالليل حتى يصلى عليه الا أن يضطر انسان إلى ذلك وقال النبي صلى الله عليه وسلم إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه) قوله غير طائل أي حقير غير كامل الستر وقوله صلى الله عليه وسلم حتى يصلى عليه هو بفتح اللام وأما النهى عن القبر ليلا حتى يصلى عليه فقيل سببه أن الدفن نهارا يحضره كثيرون من الناس ويصلون عليه ولا يحضره في الليل الا أفراد وقيل لأنهم كانوا يفعلون ذلك بالليل لرداءه الكفن فلا يبين في الليل ويؤيده أول الحديث وآخره قال القاضي العلتان صحيحتان قال والظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم قصدهما معا قال وقد قيل هذا قوله صلى الله عليه وسلم (الا أن يضطر انسان إلى ذلك) دليل أنه لا بأس به في وقت الضرورة وقد اختلف العلماء في الدفن في الليل فكرهه الحسن البصري الا لضرورة وهذا الحديث مما يستدل له به وقال جماهير العلماء من السلف والخلف لا يكره واستدلوا بأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وجماعة من السلف دفنوا ليلا من غير انكار وبحديث المرأة السوداء والرجل الذي كان يقم المسجد فتوفي بالليل فدفنوه ليلا وسألهم النبي صلى الله عليه وسلم عنه فقالوا توفي ليلا فدفناه في الليل فقال ألا آذنتموني قالوا كانت ظلمة ولم ينكر عليهم وأجابوا عن هذا الحديث أن النهي كان لترك الصلاة ولم ينه عن مجرد الدفن بالليل وإنما نهى لترك الصلاة أو لقلة المصلين أو عن إساءة الكفن أو عن المجموع كما سبق وأما الدفن في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها والصلاة على الميت فيها فاختلف العلماء فيها فقال الشافعي وأصحابه لا يكرهان الا أن يتعمد التأخير إلى ذلك الوقت لغير سبب به قال ابن عبد الحكم المالكي وقال مالك لا يصلى عليها بعد الاسفار والاصفرار حتى تطلع الشمس أو تغيب الا أن يخشى عليها وقال أبو حنيفة عند الطلوع والغروب ونصف النهار وكره الليث الصلاة عليها في جميع أوقات النهي وفي الحديث الأمر باحسان الكفن قال العلماء وليس المراد باحسانه السرف فيه والمغالاة ونفاسته وإنما المراد نظافته ونقاؤه وكثافته وستره وسترة وتوسطه وكونه من جنس لباسه في الحياة غالبا لا أفخر منه ولا أحقر
11 وقوله (فليحسن كفنه) ضبطوه بوجهين فتح الفاء واسكانها وكلاهما صحيح قال القاضي والفتح أصوب وأظهر وأقرب إلى لفظ الحديث قوله صلى الله عليه وسلم (أسرعوا بالجنازة) فيه الأمر بالاسراع للحكمة التي ذكرها صلى الله عليه وسلم قال أصحابنا وغيرهم يستحب الاسراع بالمشي بها ما لم ينته إلى حد يخاف انفجارها ونحوه وإنما يستحب بشرط أن لا يخاف من شدته انفجارها أو نحوه وحمل الجنازة فرض كفاية قال أصحابنا
12 ولا يجوز حملها على الهيئة المزرية ولا هيئة يخاف معها سقوطها قالوا ولا يحملها الا الرجال وان كانت الميتة امرأة لأنهم أقوى لذلك والنساء ضعيفات وربما انكشف من الحامل بعض بدنه وهذا الذي ذكرناه من استحباب الاسراع بالمشي بها وأنه مراد الحديث هو الصواب الذي عليه جماهير العلماء ونقل القاضي عن بعضهم أن المراد الاسراع بتجهيرها إذا استحق موتها وهذا قول باطل مردود بقوله صلى الله عليه وسلم فشر تضعونه عن رقابكم وجاء عن بعض السلف كراهة الاسراع وهو محمول على الاسراع المفرط الذي يخاف معه انفجارها أو خرجوا شئ منها قوله صلى الله عليه وسلم (فشر تضعونه عن رقابكم) معناه أنها بعيدة من الرحمة فلا مصلحة لكم في مصاحبتها ويؤخذ منه ترك صحية أهل البطالة غير الصالحين قوله صلى الله عليه وسلم (من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط ومن شهدها حتى تدفن) فيه الحث على الصلاة على الجنازة واتباعها ومصاحبتها حتى تدفن وقوله صلى الله عليه وسلم (من شهدها حتى تدفن فله قيراطان) معناه بالأول فيحصل بالصلاة قيراط وبالاتباع مع حضور الدفن قيراط آخر فيكون الجميع قيراطين تبينه رواية البخاري في أول صحيحه في كتاب الايمان من شهد جنازة وكان معها حتى يصلى عليها ويفرغ من دفنها رجع من الاجر بقيراطين فهذا صريح في أن المجموع بالصلاة والاتباع وحضور الدفن قيراطان وقد سبق بيان هذه المسألة ونظائرها والدلائل عليها في مواقيت الصلاة في حديث من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله وفي رواية البخاري هذه مع رواية مسلم التي ذكرها بعد هذا من حديث عبد الاعلى حتى يفرغ منها دليل على أن القيراط الثاني لا يحصل الا لمن دام معها من حين صلى إلى أن فرغ وقتها وهذا هو الصحيح
13 عند أصحابنا وقال بعض أصحابنا يحصل القيراط الثاني إذا ستر الميت في القبر باللبن وان لم يلق عليه التراب والصواب الأول وقد يستدل بلفظ الاتباع في هذا الحديث وغيره من يقول المشي وراء الجنازة أفضل من أمامها وهو قول علي بن أبي طالب ومذهب الأوزاعي وأبي حنيفة وقال جمهور الصحابة والتابعين ومالك والشافعي وجماهير العلماء المشي قدامها أفضل وقال الثوري وطائفة هما سواء قال القاضي وفي اطلاق هذا الحديث وغيره إشارة إلى أنه لا يحتاج المنصرف عن اتباع الجنازة بعد دفنها إلى استئذان وهو مذهب جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وهو المشهور عن مالك وحكى ابن عبد الحكم عنه أنه لا ينصرف الا بإذن وهو قول جماعة من الصحابة قوله (قيل وما القيراطان قال مثل الجبلين العظيمين) القيراط مقدار من الثواب معلوم عند الله تعالى وهذا الحديث يدل على عظم مقداره في هذا الموضع ولا يلزم من هذا أن يكون هذا هو القيراط المذكور فيمن اقتنى كلبا الا كلب صيد أو زرع أو ماشية نقص من أجره كل يوم قيراط وفي روايات قيراطان بل ذلك قدر معلوم ويجوز أن يكون مثل هذا
14 وأقل وأكثر قوله (عن ابن عمر لقد ضيعنا قراريط كثيرة) هكذا ضبطناه وفي كثير من الأصول أو أكثرها ضيعنا في قراريط بزيادة في والأول هو الظاهر والثاني صحيح على أن ضيعنا بمعنى فرطنا كما في الرواية الأخرى وفيه ما كان الصحابة عليه من الرغبة في الطاعات حين يبلغهم والتأسف على ما يفوتهم منها وان كانوا لا يعلمون عظم موقعه قوله (وفي حديث عبد الأعلى حتى يفرغ منها) ضبطناه بضم الياء وفتح الراء عكسه والأول أحسن وأعم وفيه دليل لمن يقول القيراط الثاني لا يحصل الا بفراغ الدفن كما سبق بيانه وقوله في حديث عبد الرزاق (حتى توضع في اللحد) وفي رواية بعده حتى توضع في القبر فيه دليل لمن يقول يحصل القيراط الثاني بمجرد الوضع في اللحد وان لم يلق عليه التراب وقد سبق أن الصحيح أنه لا يحصل الا بالفراغ من إهالة التراب لظاهر الروايات الأخرى حتى يفرغ منها تتأول هذه الرواية على أن المراد يوضع في اللحد ويفرغ منه ويكون المراد الإشارة إلى أنه لا يرجع قبل وصولها القبر قوله (فقال ابن عمر أكثر علينا أبو هريرة) معناه أنه خاف لكثرة رواياته أنه اشتبه عليه الامر في ذلك واختلط عليه حديث بحديث لا أنه نسبه إلى رواية ما لم يسمع لأن مرتبة ابن عمر
15 وأبي هريرة أجل من هذا قوله (عبد الله بن قسيط) هو بضم القاف وفتح السين المهملة واسكان الياء قوله (وأخذ ابن عمر قبضة من حصباء المسجد يقلبها في يده) وقال في آخره (فضرب ابن عمر بالحصى الذي كان في يده الأرض) هكذا ضبطناه الأول حصباء بالباء والثاني بالحصى مقصور جمع حصاة وهكذا هو في معظم الأصول وفي بعضها عكسه وكلاهما صحيح والحصباء هو الحصى وفيه أنه لا بأس بمثل هذا الفعل وإنما بعث ابن عمر إلى عائشة يسألها بعد اخبار أبي هريرة لأنه خاف على أبي هريرة النسيان والاشتباه كما قدمنا بيانه فلما وافقته عائشة علم أنه حفظ
16 وأتقن قوله صلى الله عليه وسلم (ما من ميت يصلى عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له الا شفعوا فيه) وفي رواية ما من رجل يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا الا شفعهم الله فيه وفي حديث آخر ثلاثة صفوف رواه أصحاب السنن قال القاضي قيل هذه الأحاديث خرجت أجوبة لسائلين سألوا عن ذلك فأجاب كل واحد منهم عن سؤاله هذا كلام القاضي ويحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بقبول شفاعة مائة فأخبر به ثم بقبول شفاعة أربعين ثم ثلاث صفو ف وان قل عددهم فأخبر به ويحتمل أيضا أن يقال هذا مفهوم عدد ولا يحتج به جماهير الأصوليين فلا يلزم من الاخبار عن قبول شفاعة مائة منع قبول ما دون ذلك وكذا في الأربعين مع ثلاثة صفوف وحينئذ كل الأحاديث معمول بها ويحصل الشفاعة بأقل الأمرين من ثلاثة صفوف وأربعين
17 قوله (فحدثت به شعيب بن الحبحاب فقال حدثني به أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم) القائل فحدثت به هو سلام بن أبي مطيع الراوي أولا عن أيوب هكذا بينه النسائي في روايته وهذا الحديث ما من ميت تصلى عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة قال القاضي عياض رواه سعيد بن منصور موقوفا على عائشة فأشار إلى تعليله بذلك وليس معللا لأن من رفعه ثقة وزيادة الثقة مقبولة وقد قدمنا بيان هذه القاعدة في الفصول في مقدمة الكتاب ثم في مواضع قوله (مر بجنازة فاثني عليها خيرا فقال النبي صلى الله عليه وسلم وجبت وجبت وجبت ومر
18 بجنازة فأثني عليها شرا فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم وجبت وجبت وجبت فقال عمر رضي الله عنه فدى لك أبي وأمي مر بجنازة فأثني عليها خيرا فقلت وجبت وجبت وجبت ومر بجنازة فأثني عليها شرا فقلت وجبت وجبت وجبت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة ومن أثنيتم عليه شرا وجبت له النار أنتم شهداء الله في الأرض أنتم شهداء الله في الأرض أنتم شهداء الله في الأرض) هكذا وقع هذا الحديث في الأصول وجبت وجبت وجبت ثلاث مرات في المواضع الأربعة وأنتم شهداء الله في الأرض ثلاث مرات وقوله في أوله (فأثني عليها خيرا فأثني عليها شرا) هكذا هو في بعض الأصول خيرا وشرا بالنصب وهو منصوب باسقاط الجار أي فأثني بخير وبشر وفي بعضها مرفوع وفي هذا الحديث استحباب توكيد الكلام المهتم بتكراره ليحفظ وليكون أبلغ وأما معناه ففيه قولان للعلماء أحدهما أن هذا الثناء بالخير لمن أثنى عليه أهل الفضل فكان ثناؤهم مطابقا لأفعاله فيكون من أهل الجنة فإن لم يكن كذلك فليس هو مرادا بالحديث والثاني وهو الصحيح المختار أنه على عمومه واطلاقه وأن كل مسلم مات فألهم الله تعالى الناس أو معظمهم الثناء عليه كان ذلك دليلا على أنه من أهل الجنة سواء كانت أفعاله تقتضي ذلك أم لا وان لم تكن أفعاله تقتضيه
19 فلا تحتم عليه العقوبة بل هو في خطر المشيئة فإذا ألهم الله عز وجل الناس الثناء عليه استدللنا بذلك على أنه سبحانه وتعالى قد شاء المغفرة له وبهذا تظهر فائدة الثناء وقوله صلى الله عليه وسلم (وجبت وأنتم شهداء الله) ولو كان لا ينفعه ذلك الا أن تكون أعماله تقتضيه لم يكن للثناء فائدة وقد أثبت النبي صلى الله عليه وسلم له فائدة فان قيل كيف مكنوا بالثناء بالشر مع الحديث الصحيح في البخاري وغيره في النهي عن سب الأموات فالجواب أن النهي عن سب الأموات هو في غير المنافق وسائر الكفار وفي غير المتظاهر بفسق أو بدعة فأما هؤلاء فلا يحرم ذكرهم بشر للتحذير من طريقتهم ومن الاقتداء بآثارهم والتخلق بأخلاقهم وهذا الحديث محمول على أن الذي أثنوا عليه شرا كان مشهورا بنفاق أو نحوه مما ذكرنا هذا هو الصواب في الجواب عنه وفي الجمع بينه وبين النهي عن السب وقد بسطت معناه بدلائله في كتاب الأذكار قوله (فأثني عليها شرا) قال أهل اللغة الثناء بتقديم الثاء وبالمد يستعمل في الخير ولا يستعمل في الشر هذا هو المشهور وفيه لغة شاذة أنه يستعمل في الشر أيضا وأما النثا بتقديم النون وبالقصر فيستعمل في الشر خاصة وإنما استعمل الثناء الممدود هنا في الشر مجازا لتجانس الكلام كقوله تعالى سيئة سيئة " ومكر الله " قوله (فدى لك) مقصور بفتح الفاء وكسرها قوله (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر عليه بجنازة فقال مستريح ومستراح ثم فسره بأن المؤمن يستريح من نصب الدنيا والفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب) معنى الحديث أن الموتى قسمان مستريح ومستراح منه ونصب الدنيا تعبها وأما استراحة العباد
20 من الفاجر معناه اندفاع أذاه عنهم وأذاه يكون من وجوه منها ظلمه لهم ومنها ارتكابه للمنكرات فان أنكروها قاسوا مشقة من ذلك وربما نالهم ضرره وان سكتوا عنه أثموا واستراحة الدواب منه كذلك لأنه كان يؤذيها ويضربها ويحملها ما لا تطيقه ويجيعها في بعض الأوقات وغير ذلك واستراحة البلاد والشجر فقيل لأنها تمنع القطر بمصيبته قاله الداودي وقال الباجي لأنه يغصبها ويمنعها حقها من الشرب وغيره قوله (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى للناس النجاشي في اليوم الذي مات فيه فخرج إلى المصلى وكبر أربع تكبيرات) فيه اثبات الصلاة على الميت وأجمعوا على أنها فرض كفاية والصحيح عند أصحابنا أن فرضها يسقط بصلاة رجل واحد وقيل يشترط اثنان وقيل ثلاثة وقيل أربعة وفيه أن تكبيرات الجنازة أربع وهو مذهبنا ومذهب الجمهور وفيه دليل للشافعي وموافقيه في الصلاة على الميت الغائب وفيه معجزة ظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لاعلامه بموت النجاشي وهو في الحبشة في اليوم الذي مات فيه وفيه استحباب الاعلام بالميت لا على صورة نعي الجاهلية بل مجرد اعلام الصلاة عليه وتشييعه وقضاء حقه في ذلك والذي جاء من النهي عن النعي ليس المراد به هذا وإنما المراد نعي الجاهلية المشتمل على ذكر المفاخر وغيرها وقد يحتج أبو حنيفة في أن صلاة الجنازة لا تفعل في المسجد بقوله خرج إلى المصلى ومذهبنا ومذهب الجمهور جوازها فيه ويحتج
21 بحديث سهل بن بيضا ويتأول هذا على أن الخروج إلى المصلى أبلغ واظهار أمره المشتمل على هذه المعجزة وفيه أيضا اكثار المصلين وليس فيه دلالة أصلا لأن الممتنع عندهم ادخال الميت المسجد لا مجرد الصلاة قوله (عن سليم بن حيان) هو بفتح السين وكسر اللام وليس في الصحيحين سليم بفتح السين غيره ومن عداه بضمها مع فتح اللام قوله (صلى على أصحمة النجاشي) هو بفتح الهمزة واسكان الصاد وفتح الحاء المهملتين وهذا الذي وقع في رواية مسلم هو الصواب المعروف فيه وهكذا هو في كتب الحديث والمغازي وغيرها ووقع في مسند ابن أبي شيبه في هذا الحديث تسميته صحمة بفتح الصاد واسكان الحاء وقال هكذا قال لنا يزيد وإنما هو صمحة يعنى بتقديم الميم على الحاء وهذان شاذان والصواب أصحمة بالألف قال ابن قتيبة وغيره ومعناه بالعربية عطية قال العلماء
22 والنجاشي لقب لكل من ملك الحبشة وأما أصحمة فهو اسم علم لهذا الملك الصالح الذي كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قال المطرر وابن خالويه وآخرون من الأئمة كلاما متداخلا حاصله أن كل من ملك المسلمين يقال له أمير المؤمنين ومن ملك الحبشة النجاشي ومن ملك الروم قيصر ومن ملك الفرس كسرى ومن ملك الترك خاقان ومن ملك القبط فرعون ومن ملك مصر العزيز ومن ملك اليمن تبع ومن ملك حمير القيل بفتح القاف وقيل القيل أقل درجة من الملك قوله صلى الله عليه وسلم فقوموا فصلوا عليه فيه وجوب الصلاة على الميت وهي فرض كفاية بالاجماع كما سبق قوله في حديث النجاشي (وكبر أربع تكبيرات) وكذا في حديث ابن عباس كبر أربعا وفي حديث زيد بن أرقم بعد هذا خمسا قال القاضي اختلف الآثار في ذلك فجاء في رواية ابن أبي خيثمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر أربعا وخمسا وستا وسبعا وثمانيا حتى مات النجاشي فكبر عليه أربعا وثبت على ذلك حتى توفى صلى الله عليه وسلم قال واختلف الصحابة في ذلك من ثلاث تكبيرات إلى تسع وروى عن علي رضي الله عنه أنه كان يكبر على أهل بدر ستا وعلى سائر الصحابة خمسا وعلى غيرهم أربعا قال ابن عبد البر وانعقد الاجماع بعد ذلك على أربع
23 وأجمع الفقهاء وأهل الفتوى بالأمصار على أربع على ما جاء في الأحاديث الصحاح وما سوى ذلك عندهم شذوذ لا يلتفت إليه قال ولا نعلم أحدا من فقهاء الأمصار يخمس الا ابن أبي ليلى ولم يذكر في روايات مسلم السلام وقد ذكره الدارقطني في سننه وأجمع العلماء عليه ثم قال جمهورهم يسلم تسليمة واحدة وقال الثوري وأبو حنيفة والشافعي وجماعة من السلف تسليمتين واختلفوا هل يجهر الامام بالتسليم أم يسر وأبو حنيفة والشافعي يقولان يجهر وعن مالك روايتان واختلفوا في رفع الأيدي في هذه التكبيرات ومذهب الشافعي الرفع في جميعها وحكاه ابن المنذر عن ابن عمر وعمر بن عبد العزيز وعطاء وسالم ابن عبد الله وقيس بن أبي حازم والزهري والأوزاعي وأحمد وإسحاق واختاره ابن المنذر وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحاب الرأي لا يرفع الا في التكبيرة الأولى وعن مالك ثلاث روايات الرفع في الجميع وفي الأولى فقط وعدمه في كلها قوله (انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قبر رطب فصلى عليه) يعنى جديدا وترابه رطب بعد لم تطل مدته فيبس فيه دليل لمذهب الشافعي وموافقيه في الصلاة على القبور قوله (من شهده ابن عباس) وابن عباس بدل من قوله تقم المسجد أي تكنسه وفي حديث لسوداء هذه التي صلى النبي صلى الله عليه وسلم على قبرها وحديث ابن عباس السابق
24 وحديث أنس دلالة لمذهب الشافعي وموافقيه في الصلاة على الميت في قبره سواء كان صلى عليه أم لا وتأوله أصحاب مالك حيث منعوا الصلاة على القبر بتأويلات باطلة لا فائدة في ذكرها لظهور فسادها والله أعلم وفيه بيان ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من التواضع والرفق بأمته وتفقد أحوالهم والقيام بحقوقهم والاهتمام بمصالحهم في آخرتهم ودنياهم
25 قوله صلى الله عليه وسلم (أفلا كنتم آذنتموني) أي أعلمتموني وفيه دلالة لاستحباب الاعلام بالميت وسبق بيانه قوله صلى الله عليه وسلم (ان هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها وان الله تعالى ينورها لهم بصلاتي عليهم) قوله (كان زيد يكبر على جنائزنا أربعا وأنه كبر على جنازة خمسا فسألته فقال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبرها) زيد هذا هو زيد بن أرقم وجاء مبينا في رواية أبي داود وهذا الحديث عند العلماء منسوخ دل الاجماع على نسخه وقد سبق أن ابن عبد البر وغيره نقلوا الاجماع على أنه لا يكبر اليوم الا أربعا وهذا دليل على أنهم أجمعوا بعد زيد بن أرقم والأصح أن الاجماع بعد الخلاف يصح والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (إذا رأيتم الجنازة فقوموا حتى تخلفكم أو توضع) وفي رواية إذا رأى أحدكم الجنازة فليقم حين يراها حتى تخلفه وفي رواية إذا اتبعتم جنازة فلا تجلسوا حتى توضع وفي رواية إذا رأيتم الجنازة فقوموا فمن تبعهم فلا يجلس حتى توضع وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم
26 حيان بن حصين قوله (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يبنى عليه وأن يقعد عليه) وفي الرواية الأخرى نهى عن تقصيص القبور التقصيص بالقاف وصادين مهملتين هو التجصيص والقصة بفتح القاف وتشديد الصاد هي الجص وفي هذا الحديث كراهة تجصيص القبر والبناء عليه وتحريم القعود والمراد بالقعود الجلوس عليه هذا مذهب الشافعي وجمهور العلماء وقال مالك في الموطأ المراد بالقعود الجلوس ومما يوضح الرواية المذكورة بعد هذا لا تجلسوا على القبور وفي الرواية الأخرى (لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر) قال أصحابنا تجصيص القبر مكروه والقعود عليه حرام وكذا الاستناد إليه والاتكاء عليه وأما البناء عليه فإن كان في ملك الباني فمكروه وإن كان في مقبرة مسبلة فحرام نص عليه الشافعي والأصحاب قال الشافعي في الأم ورأيت الأئمة بمكة يأمرون بهدم ما يبنى ويؤيد الهدم قوله
27 المتولي من أصحابنا أنه مستحب وهذا هو المختار فيكون الأمر به للندب والقعود بيانا للجواز ولا يصح دعوى النسخ في مثل هذا لأن النسخ إنما يكون إذا تعذر الجمع بين الأحاديث ولم يتعذر والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (حتى تخلفكم) بضم التاء وكسر اللام المشددة أي تصيرون وراءها غائبين عنها قوله صلى الله عليه وسلم (فليقم حين يراها) ظاهره أنه يقوم بمجرد الرؤية قبل أن تصل إليه قوله (انها من أهل الأرض) معناه جنازة كافر من أهل
29 تلك الأرض قوله (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة فحفظت من دعائه إلى آخره) فيه اثبات الدعاء في صلاة الجنازة وهو مقصودها ومعظمها وفي استحباب هذا الدعاء وفيه إشارة إلى الجهر بالدعاء في صلاة الجنازة وقد اتفق أصحابنا على أنه ان صلى عليها بالنهار أسر بالقراءة وان صلى بالليل ففيه وجهان الصحيح الذي عليه الجمهور يسر والثاني يجهر وأما الدعاء فيسر به بلا خلاف وحينئذ يتأول هذا الحديث على أن قوله حفظت من دعائه أي علمنيه
30 بعد الصلاة فحفظته قوله (وحدثني عبد الرحمن بن جبير) القائل وحدثني هو معاوية بن
31 صالح الراوي في الاسناد الأول عن حبيب قوله (إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على النفساء وقام وسطها) هو باسكان السين وفيه اثبات الصلاة على النفساء وأن السنة أن يقف الامام عند عجيزة الميتة قوله (أتى النبي صلى الله عليه وسلم بفرس معرورى فركبه) معناه بفرس عرى وهو بضم الميم وفتح الراء قال أهل اللغة اعروريت الفرس إذا ركبته عريا فهو معرورى قالوا ولم يأت افعولي معدى الا قولهم اعروريت الفرس واحلوليت الشئ قوله (فركبه
32 حين انصرف من جنازة ابن الدحداح) فيه إباحة الركوب في الرجوع عن الجنازة وإنما يكره الركوب في الذهاب معها وابن الدحداح بدالين وحائين مهملات ويقال أبو الدحداح ويقال أبو الدحداحة قال ابن عبد البر لا يعرف اسمه قوله (ونحن نمشي حوله) فيه جواز مشى الجماعة مع كبيرهم الراكب وأنه لا كراهة فيه في حقه ولا في حقهم إذا لم يكن فيه مفسدة وإنما كره ذلك إذا حصل فيه انتهاك للتابعين أو خيف اعجاب ونحوه في حق التابع أو نحو ذلك من المفاسد قوله (فعقله رجل فركبه) معناه أمسكه له وحبسه وفيه إباحة ذلك وأنه لا بأس بخدمة التابع متبوعه برضاه قوله (فجعل يتوقص به) أي يتوثب قوله (كم من عذق معلق) العذق هنا بكسر العين المهملة وهو الغصن من النخلة أما العذق بفتحها فهو النخلة بكمالها وليس مرادا هنا قوله صلى الله عليه وسلم (كم من عذق معلق في الجنة لأبى الدحداح) قالوا سببه أن يتيما خاصم أبا لبابة في نخلة فبكى الغلام فقال النبي صلى الله عليه وسلم له اعطه إياها ولك بها عذق في الجنة فقال لا فسمع بذلك أبو الدحداح فاشتراها من أبي لبابة بحديقة له ثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم إلى بها عذق ان أعطيتها اليتيم قال نعم فقال النبي صلى الله عليه وسلم
33 كم من عذق معلق في الجنة لأبي الدحداح قوله (الحدوا لي لحدا) بوصل الهمزة وفتح الحاء ويجوز بقطع الهمزة وكسر الحاء يقال لحد يلحد كذهب يذهب وألحد يلحد إذا حفر اللحد واللحد بفتح اللام وضمها معروف وهو الشق تحت الجانب القبلي من القبر وفيه دليل لمذهب الشافعي والأكثرين في أن الدفن في اللحد أفضل من الشق إذا أمكن اللحد وأجمعوا على جواز اللحد والشق قوله (ألحدوا لي لحدا وانصبوا على اللبن نصبا كما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم) فيه استحباب اللحد ونصب اللبن وانه فعل ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم باتفاق الصحابة رضي الله عنهم وقد نقلوا أن عدد لبناته صلى الله عليه وسلم تسع قوله (جعل في قبر النبي صلى الله عليه وسلم قطيفة حمراء) هذه القطيفة ألقاها شقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال كرهت أن يلبسها أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد نص الشافعي وجميع أصحابنا وغيرهم من العلماء على كراهة وضع قطيفة أو مضربة أو مخدة ونحو ذلك تحت الميت في القبر وشذ عنهم البغوي من أصحابنا فقال في كتابه التهذيب لا بأس بذلك لهذا الحديث والصواب كراهته كما قاله الجمهور وأجابوا عن هذا الحديث بأن شقران انفرد بفعل ذلك لم يوافقه غيره من الصحبة ولا علموا ذلك وإنما فعله شقران لما ذكرناه عنه من كراهته أن يلبسها أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبسها ويفترشها فلم تطب نفس شقران أن يستبدلها أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم وخالفه غيره فروى البيهقي عن ابن عباس أنه كره أن يجعل تحت الميت ثوب في قبره والله أعلم والقطيفة كساء له خمل
34 قوله (قال مسلم أبو جمرة اسمه نصر بن عمران الضبعي وأبو التياح يزيد بن حميد ماتا بسرخس) وهو أبو جمرة بالجيم والضبعي بضم الضاد المعجمة وفتح الباء الموحدة وأما سرخس فمدينة معروفة بخراسان وهي بفتح السين والراء واسكان الخاء المعجمة ويقال أيضا باسكان الراء وفتح الخاء والأول أشهر ونما ذكر مسلم أبا جمرة وأبا التياح جميعا مع أن أبا جمرة مذكور في الاسناد ولا ذكر لأبي التياح هنا لاشتراكهما في أشياء قل أن يشترك فيها اثنان من العلماء لأنهما جميعا ضبعيان بصريان تابعيان ثقتان ماتا بسرخس في سنة واحدة سنة ثمان وعشرين ومائة وذكر ابن عبد البر وابن منده وأبو نعيم الأصبهاني عمران والد أبي جمرة في كتبهم في معرفة الصحابة قالوا واختلف العلماء هل هو صحابي أم تابعي قالوا وكان قاضيا على البصرة روى عنه ابنه أبو جمرة وغيره قال الحاكم أبو أحمد في كتابه في الكنى ليس في الرواة من يكنى أبا جمرة بالجيم غير أبي جمرة هذا قوله (أن أبا على الهمداني حدثه) وفي رواية هارون أن ثمامة بن شفى حدثه فأبو على هو ثمامة بن شفى بضم الشين المعجمة وفتح الفاء وتشديد الياء والهمداني باسكان الميم وبالدال المهملة قوله (كنا مع فضالة بأرض الروم برودس) هو براء مضمومة ثم واو ساكنة ثم دال مهملة مكسورة ثم سين مهملة هكذا ضبطناه في صحيح مسلم وكذا نقله القاضي عياض في المشارق عن الأكثرين ونقل عن بعضهم بفتح
35 الراء وعن بعضهم بفتح الدال وعن بعضهم بالشين المعجمة وفي رواية أبي داود في السنن بذال معجمة وسين مهملة وقال هي جزيرة بأرض الروم قال القاضي عياض رضي الله عنه ذكر مسلم رضي الله عنه تكفين النبي صلى الله عليه وسلم واقباره ولم يذكر غسله والصلاة عليه ولا خلاف أنه غسل واختلف هل صلى عليه فقيل لم يصل عليه أحد أصلا وإنما كان الناس يدخلون أرسالا يدعون وينصرفون واختلف هؤلاء في علة ذلك فقيل لفضيلته فهو غنى عن الصلاة عليه وهذا ينكسر بغسله وقيل بل لأنه لم يك هناك امام وهذا غلط فان امامة الفرائض لم تتعطل ولأن بيعة أبي بكر كانت قبل دفنه وكان امام الناس قبل الدفن والصحيح إلي عليه الجمهور أنهم صلوا عليه فرادى فكان يدخل فوج يصلون فرادى ثم يخرجون ثم يدخل فوج آخر فيصلون كذلك ثم دخلت النساء بعد الرجال ثم الصبيان وإنما أخروا دفنه صلى الله عليه وسلم من يوم الاثنين إلى ليلة الأربعاء أواخر نهار الثلاثاء للاشتغال بأمر البيعة ليكون لهم امام يرجعون إلى قوله إن اختلفوا في شئ من أمور تجهيزه ودفنه وينقادون لامره لئلا يؤدى إلى النزاع واختلاف الكلمة وكان هذا أهم الأمور والله أعلم قوله (يأمر بتسويتها) وفي الرواية الأخرى ولا قبرا مشرفا الا سويته فيه أن السنة أن القبر لا يرفع على الأرض رفعا كثيرا ولا يسنم بل يرفع نحو شبر ويسطح وهذا مذهب الشافعي ومن وافقه ونقل القاضي عياض عن أكثر العلماء أن الأفضل عندهم تسنيمها وهو مذهب مالك قوله (أن لا تدع تمثالا الا طمسته) فيه الأمر بتغيير صور ذوات الأرواح قوله (عن أبي الهياج) هو بفتح الهاء وتشديد الياء واسمه
36 وأصحابه قاموا لجنازة فقالوا يا رسول الله انها يهودية فقال إن الموت فزع فإذا رأيتم الجنازة فقوموا وفي رواية قام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لجنازة يهودي حتى توارت وفي رواية قيل إنه يهودي فقال أليست نفسا وفي رواية علي رضي الله عنه قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قعد وفي رواية رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فقمنا وقعد فقعدنا قال القاضي اختلف الناس في هذه المسألة فقال مالك وأبو حنيفة والشافعي القيام منسوخ وقال أحمد وإسحاق وابن حبيب وابن الماجشون المالكيان هو مخير قال واختلفوا في قيام من يشيعها عند القبر فقال جماعة من الصحابة والسلف لا يقعد حتى توضع قالوا والنسخ إنما هو في قيام من مرت به وبهذا قال الأوزاعي وأحمد وإسحاق ومحمد بن الحسن قال واختلفوا في القيام على القبر حتى تدفن فكره قوم وعمل به آخرون روى ذلك عن عثمان وعلى وابن عمر وغيرهم رضي الله عنهم هذا كلام القاضي والمشهور في مذهبنا أن القيام ليس مستحبا وقالوا هو منسوخ بحديث على واختار
37 ولا قبرا مشرف الا سويته قوله (عن بسر بن عبيد الله) هو بضم الباء وبالسين المهملة قوله (عن أبي مرثد) هو بالمثلثة واسمه كناز بفتح الكاف وتشديد النون وآخره زاي قوله صلى الله عليه وسلم (لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها) فيه تصريح بالنهي عن الصلاة إلى القبر قال الشافعي رحمه الله وأكره أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجدا مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده من الناس قولها (ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء الا في
38 المسجد) وفي الرواية الأخرى (والله لقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابني بيضاء في المسجد) وفي الرواية الأخرى (والله لقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابني بيضاء في المسجد سهيل وأخيه) قال العلماء بنو بيضاء ثلاثة اخوة سهل وسهيل وصفوان وأمهم البيضاء اسمها دعد والبيضاء وصف وأبوهم وهب بن ربيعة القرشي الفهري وكان سهيل قديم الاسلام
39 هاجر إلى الحبشة ثم عاد إلى مكة ثم هاجر إلى المدينة وشهد بدرا وغيرها توفى سنة تسع من الهجرة رضي الله عنه وفي هذا لحديث دليل للشافعي والأكثرين في جواز الصلاة على الميت في المسجد وممن قال به أحمد وإسحاق قال ابن عبد البر ورواه المدنيون في الموطأ عن مالك وبه قال ابن حبيب المالكي وقال ابن أبي ذئب وأبو حنيفة ومالك على المشهور عنه لا تصح الصلاة عليه في المسجد بحديث في سنن أبي داود من صلى على جنازة في المسجد فلا شئ له ودليل الشافعي والجمهور حديث سهيل بن بيضاء وأجابوا عن حديث سنن أبي داود بأجوبة أحدها أنه ضعيف لا يصح الاحتجاج به قال أحمد بن حنبل هذا حديث ضعيف تفرد به صالح مولى التوأمة وهو ضعيف والثاني أن الذي في النسخ المشهورة المحققة المسموعة من سنن أبي داود ومن صلى على جنازة في المسجد فلا شئ عليه ولا حجة لهم حينئذ فيه الثالث أنه لو ثبت الحديث وثبت أنه قال فلا شئ لوجب تأويله على فلا شئ عليه ليجمع بين الروايتين وبين هذا الحديث وحديث سهيل بن بيضاء وقد جاء له بمعنى عليه كقوله تعالى وان أسأتم فلها الرابع أنه محمول على نقص الأجر في حق من صلى في المسجد ورجع ولم يشيعها إلى المقبرة لما فاته من تشييعه إلى المقبرة وحضور دفنه والله أعلم وفي حديث سهيل هذا دليل لطهارة الآدمي الميت وهو الصحيح في مذهبنا قوله (وحدثني هارون بن عبد الله ومحمد بن رافع قالا حدثنا ابن أبي فديك أخبرنا الضحاك يعنى ابن عثمان عن أبي النضر عن أبي سلمة عن عائشة) هذا الحديث مما استدركه الدارقطني على مسلم وقال خالف الضحاك حافظان مالك والماجشون فروياه عن أبي النضر عن عائشة مرسلا وقيل عن الضحاك عن أبي النضر عن أبي بكر بن عبد الرحمن ولا يصح الا مرسلا هذا كلام الدارقطني وقد سبق الجواب عن مثل هذا الاستدراك في الفصول السابقة في مقدمة هذا الشرح في مواضع منه وهو أن هذه الزيادة التي زادها الضحاك زيادة
40 ثقة وهي مقبولة لأنه حفظ ما نسيه غيره فلا تقدح فيه والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (السلام عليكم دار قوم مؤمنين) دار منصوب على النداء أي يا أهل دار فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه وقيل منصوب على الاختصاص قال صاحب المطالع ويجوز جره على البدل من الضمير في عليكم قال الخطابي وفيه أن اسم الدار يقع على المقابر قال وهو صحيح فان الدار في اللغة يقع على الربع المسكون وعلى الخراب غير المأهول وأنشد فيه وقوله صلى الله عليه وسلم (وانا إن شاء الله بكم لاحقون) التقييد بالمشيئة على سبيل التبرك وامتثال قول الله تعالى تقولن لشئ اني فاعل ذلك غدا الا أن يشاء الله وقيل المشيئة عائدة إلى تلك التربة بعينها وقيل غير ذلك وفي هذا الحديث دليل لاستحباب زيارة القبور والسلام على أهلها والدعاء لهم والترحم عليهم قولها (يخرج من آخر الليل إلى البقيع) فيه فضيلة زيارة قبور البقيع قوله صلى الله عليه وسلم السلام عليكم دار قوم مؤمنين قال الخطابي وغيره فيه أن السلام على الأموات والأحياء سواء في تقديم السلام على عليكم بخلاف ما كانت عليه الجاهلية من قولهم عليك سلام الله قيس بن عاصم ورحمته ما شاء أن يترحما قوله صلى الله عليه وسلم (اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد) البقيع هنا بالباء بلا خلاف وهو مدفن أهل المدينة سمى بقيع الغرقد لغرقد كان فيه وهو ما عظم من العوسج وفيه اطلاق لفظ الأهل على ساكن المكان من حي وميت قوله (حدثنا هارون بن سعيد الأيلي حدثنا عبد الله ابن وهب أخبرنا ابن جريج عن عبد الله بن كثير بن المطلب أنه سمع محمد بن قيس يقول سمعت
41 عائشة تحدث فقالت ألا أحدثكم عن النبي صلى الله عليه وسلم وعنى قلنا بلى ح وحدثني من سمع حجاجا الأعور واللفظ له قال حدثنا حجاج بن محمد بن جريج أخبرني عبد الله رجل من قريش عن محمد بن قيس بن مخرمة بن المطلب أنه قال يوما ألا أحدثكم عنى وعن أمي) إلى آخره قال القاضي هكذا وقع في مسلم في اسناد حديث حجاج عن ابن جريج أخبرني عبد الله رجل من قريش وكذا رواه أحمد بن حنبل وقال النسائي وأبو نعيم الجرجاني وأبو بكر النيسابوري وأبو عبد الله الجرجاني كلهم عن يوسف بن سعيد المصيصي حدثنا حجاج عن ابن جريج أخبرني عبد الله بن أبي ملكية وقال الدارقطني هو عبد الله بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة قال أبو علي الغساني الجياني هذا الحديث أحد الأحاديث المقطوعة في مسلم قال وهو أيضا من الأحاديث التي وهم في رواتها وقد رواه عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جريج قال أخبرني محمد بن قيس ابن مخرمة أنه سمع عائشة قال القاضي قوله إن هذا مقطوع لا يوافق عليه بل هو مسند وإنما لم يسم رواته فهو من باب المجهول لا من باب المنقطع إذ المنقطع ما سقط من رواته راو قبل التابعي قال القاضي ووقع في سنده اشكال آخر وهو ان قول مسلم وحدثني من سمع حجاجا الأعور واللفظ له قال حدثنا حجاج بن محمد يوهم أن حجاجا الأعور حدث به عن آخر يقال له حجاج ابن محمد وليس كذا بل حجاج الأعور هو حجاج بن محمد بلا شك وتقدير كلام مسلم حدثني من سمع حجاجا الأعور قال هذا المحدث حدثني حجاج بن محمد فحكى لفظ المحدث هذا كلام القاضي قلت ولا يقدح رواية مسلم لهذا الحديث عن هذا المجهول الذي سمعه منه عن حجاج
42 الأعور لأن مسلما ذكره متابعة لا متأصلا معتمدا عليه بل الاعتماد على الاسناد الصحيح قبله قولها (فلم يلبث الا ريثما) هو بفتح الراء واسكان الياء وبعدها ثاء مثلثة أي قدر ما قولها (فأخذ رداءه رويدا) أي قليلا لطيفا لئلا ينبهها قولها (ثم أجافه) بالجيم أي أغلقه وإنما فعل ذلك صلى الله عليه وسلم في خفية لئلا يوقظها ويخرج عنها فربما لحقها وحشة في انفرادها في ظلمة الليل قولها (وتقنعت إزاري) هكذا هو في الأصول إزاري بغير باء في أوله وكأنه بمعنى لبست إزاري فلهذا عدى بنفسه قولها (جاء البقيع فأطال القيام ثم رفع يديه ثلاث مرات) فيه استحباب إطالة الدعاء وتكريره ورفع اليدين فيه وفيه أن دعاء القائم أكمل من دعاء الجالس في القبور قولها (فأحضر فأحضرت) الاحضار العدو قولها (فقال مالك يا عائش حشيا رابية) يجوز في عائش فتح الشين وضمها وهما وجهان جاريان في كل المرخمات وفيه جواز ترخيم الاسم إذا لم يكن فيه ايذاء للمرخم وحشيا بفتح الحاء المهملة واسكان الشين المعجمة مقصور معناه وقد وقع عليك الحشا وهو الربو والتهيج الذي يعرض للمسرع في مشيه والمحتد في كلامه من ارتفاع النفس وتواتره يقال امرأة حشياء وحشية ورجل حشيان وحشش قيل أصله من أصاب الربو حشاه وقوله رابية أي مرتفعة البطن قولها (لا بي شئ) وقع في بعض الأصول لا بي شئ بباء الجر وفي بعضها لأي شئ بتشديد الياء وحذف الباء على الاستفهام وفي بعضها لا شئ وحكاها القاضي قال وهذا الثالث
43 أصوبها قوله صلى الله عليه وسلم (فأنت السواد) أي الشخص قولها (فلهدنى) هو بفتح الهاء والدال المهملة وروى فلهزني بالزاي وهما متقاربان قال أهل اللغة لهده ولهده بتخفيف الهاء وتشديدها أي دفعه ويقال لهزه إذا ضربه بجمع كفه في صدره ويقرب منهما لكزه ووكزه قوله (قالت مهما يكتم الناس يعلمه الله نعم) هكذا هو في الأصول وهو صحيح وكأنها لما قالت مهما يكتم الناس يعلمه الله صدقت نفسها فقالت نعم قولها (قلت كيف أقول يا رسول الله قال قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منكم ومنا والمستأخرين وانا إن شاء الله تعالى بكم للاحقون) فيه استحباب هذا القول لزائر القبور وفيه ترجيح لقول من قال في قوله سلام عليكم دار قوم مؤمنين أن معناه أهل دار قوم مؤمنين وفيه أن المسلم والمؤمن قد يكونان بمعنى واحد وعطف أحدهما على الآخر لاختلاف اللفظ وهو بمعنى قوله تعالى من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين ولا يجوز أن يكون المراد بالمسلم في هذا الحديث غير المؤمن لأن المؤمن إن كان منافقا لا يجوز السلام عليه
44 والترحم وفيه دليل لمن جوز للنساء زيارة القبور وفيها خلاف للعلماء وهي ثلاثة أوجه لأصحابنا أحدها تحريمها عليهن لحديث لعن الله زوارات القبور والثاني يكره والثالث يباح ويستدل له بهذا الحديث وبحديث كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ويجاب عن هذا بأن نهيتكم ضمير ذكور فلا يدخل فيه النساء على المذهب الصحيح المختار في الأصول والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي) فيه جواز زيارة المشركين في الحياة وقبورهم بعد الوفاة لأنه إذا جازت زيارتهم بعد الوفاة ففي الحياة أولى وقد قال الله تعالى صلى الله عليه وسلم في الدنيا معروفا وفيه النهى عن الاستغفار للكفار قال القاضي عياض رحمه الله سبب زيارته صلى الله عليه وسلم قبرها أنه قصد قوة الموعظة والذكرى بمشاهدة قبرها ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث فزوروا القبور فإنها تذكركم الموت قوله (حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب قالا حدثنا محمد ابن عبيد عن يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة قال زار النبي صلى الله عليه وسلم
45 قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكركم الموت) هذا الحديث وجد في رواية أبي العلاء ابن ماهان لأهل المغرب ولم يوجد في روايات بلادنا من جهة عبد الغافر الفارسي ولكنه يوجد في كثير من الأصول في آخر كتاب الجنائز ويصيب عليه وربما كتب في الحاشية رواه أبو داود وفي سننه عن محمد بن سليمان الأنباري عن محمد بن عبيد بهذا الاسناد ورواه النسائي عن قتيبة عن محمد بن عبيد ورواه ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة عن محمد بن عبيد وهؤلاء كلهم ثقات فهو حديث صحيح بلا شك قوله (فبكى وأبكى من حوله) قال القاضي بكاؤه صلى الله عليه وسلم على ما فاتها من ادراك أيامه والايمان به قوله (محارب بن دثار) هو بكسر الدال وتخفيف المثلثة قوله صلى الله عليه وسلم (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها) هذا من الأحاديث التي تجمع الناسخ والمنسوخ وهو صريح في نسخ نهى الرجال عن زيارتها وأجمعوا على أن زيارتها
46 سنة لهم وأما النساء ففيهن خلاف لأصحابنا قدمناه وقدمنا أن من منعهن قال النساء لا يدخلن في خطاب الرجال وهو الصحيح عند الأصوليين وأما الانتباذ في الأسقية فسبق بيانه في كتاب الايمان في حديث وفد عبس القيس وستأتي بقيته في كتاب الأشربة إن شاء الله تعالى وأما الأضاحي فسيأتي ايضاحها في بابها إن شاء الله تعالى قوله (أتى النبي صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه) المشاقص سهام عراض واحدها مشقص بكسر الميم وفتح القاف وفي هذا الحديث دليل لمن يقول لا يصلى على قاتل نفسه لعصيانه وهذا مذهب عمر ابن عبد العزيز والأوزاعي وقال الحسن والنخعي وقتادة ومالك وأبو حنيفة والشافعي وجماهير العلماء يصلى عليه وأجابوا عن هذا الحديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل عليه بنفسه زجرا للناس عن مثل فعله وصليت عليه الصحابة وهذا كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة في أول الأمر على من عليه دين زجرا لهم عن التساهل في الاستدانة وعن اهمال وفائه وأمر أصحابه بالصلاة عليه فقال صلى الله عليه وسلم صلوا على صاحبكم قال القاضي مذهب العلماء كافة الصلاة على كل مسلم ومحدود ومرجوم وقاتل نفسه وولد الزنا وعن مالك وغيره أن الامام يجتنب الصلاة على مقتول في حد وأن أهل الفضل لا يصلون على الفساق زجرا لهم وعن الزهري لا يصلى على
47 مرجوم ويصلى على المقتول في قصاص وقال أبو حنيفة لا يصلى على محارب ولا على قتيل الفئة الباغية وقال قتادة لا يصلى على ولد الزنا وعن الحسن لا يصلى على النفساء تموت من زنا ولا على ولدها ومنع بعض السلف الصلاة على الطفل الصغير واختلفوا في الصلاة على السقط فقال بها فقهاء المحدثين وبعض السلف إذا مضى عليه أربعة أشهر ومنعها جمهور الفقهاء حتى يستهل وتعرف حياته بغير ذلك وأما الشهيد المقتول في حرب الكفار فقال مالك والشافعي والجمهور لا يغسل ولا يصلى عليه وقال أبو حنيفة يغسل ولا يصلى عليه وعن الحسن يغسل ويصلى عليه والله أعلم كتاب الزكاة هي في اللغة النماء والتطهير فالمال ينمى بها من حيث لا يرى وهي مطهرة لمؤديها من الذنوب وقيل ينمى أجرها عند الله تعالى وسميت في الشرع زكاة لوجود المعنى اللغوي فيها وقيل لأنها تزكى صاحبها وتشهد بصحة ايمانه كما سبق في قوله صلى الله عليه وسلم والصدقة برهان قالوا وسميت صدقة لأنها دليل لتصديق صاحبها وصحة ايمانه بظاهره وباطنه قال القاضي عياض قال المازري رحمه الله قد أفهم الشرع أن الزكاة وجبت للمواساة وأن المواساة لا تكون الا في مال له بال وهو النصاب ثم جعلها في الأموال الثابتة وهي العين والزرع والماشية وأجمعوا على وجوب الزكاة في هذه الأنواع واختلفوا فيما سواها كالعروض فالجمهور يوجبون زكاة العروض وداود يمنعها تعلقا بقوله صلى الله عليه وسلم ليس على الرجل في عبده ولا فرسه صدقة وحمله الجمهور على ما كان للقنية وحدد الشرع نصاب كل جنس بما يحتمل المواساة فنصاب الفضة خمس أواق وهي مائتا درهم بنص الحديث والاجماع وأما الذهب فعشرون مثقالا والمعول فيه على الاجماع قال وقد حكى فيه خلاف شاذ وورد فيه أيضا
48 حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وأما الزروع والثمار والماشية فنصبها معلومة ورتب الشرع مقدار الواجب بحسب المؤنة والتعب في المال فأعلاها وأقلها تعبا الركاز وفيه الخمس لعدم التعب فيه ويليه الزرع والتمر فان سقى بماء السماء ونحوه ففيه العشر وإلا فنصفه ويليه الذهب والفضة والتجارة وفيها ربع العشر لأنه يحتاج إلى العمل فيه جميع السنة ويليه الماشية فإنه يدخلها الأوقاص بخلاف الأنواع السابقة والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) الأوسق جمع وسق فيه لغتان فتح الواو وهو المشهور وكسرها وأصله في اللغة الحمل والمراد بالوسق ستون صاعا كل صاع خمسة أرطال وثلث بالبغدادي وفي رطل بغداد أقوال أظهرها أنه مائة درهم وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم وقيل مائة وثمانية وعشرون بلا أسباع وقيل مائة وثلاثون فالأوسق الخمسة ألف وستمائة رطل بالبغدادي وهل هذا التقدير بالأرطال تقريب أم تحديد فيه وجهان لأصحابنا أصحهما تقريب فإذا نقص عن ذلك يسيرا وجبت الزكاة والثاني تحديد فمتى نقص شيئا وان قل لم تجب الزكاة وفي هذا الحديث فائدتان إحداهما وجوب الزكاة في هذه المحدودات الثانية أنه لا زكاة فيما دون ذلك ولا خلاف بين المسلمين في هاتين الا ما قال أبو حنيفة وبعض السلف أنه تجب الزكاة في قليل الحب وكثيره وهذا مذهب باطل منابذ لصريح الأحاديث الصحيحة وكذلك أجمعوا على أن في عشرين مثقالا من الذهب زكاة الا ما روى عن الحسن البصري والزهري أنهما قالا لا تجب في أقل من أربعين مثقالا والأشهر عنهما الوجوب في عشرين كما قاله الجمهور قال القاضي عياض وعن بعض السلف وجوب الزكاة في الذهب إذا بلغت قيمته مائتي درهم وإن كان دون عشرين مثقالا قال هذا القائل ولا زكاة في العشرين حتى تكون قيمتها مائتي درهم وكذلك أجمعوا فيما زاد في الحب والتمر أنه يجب فيما زاد على خمسة أوسق بحسابه وأنه لا أوقاص فيها واختلفوا في الذهب والفضة فقال مالك والليث والثوري والشافعي وابن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد وأكثر أصحاب أبي حنيفة وجماعة أهل الحديث أن فيما زاد من الذهب والفضة ربع العشر في قليله وكثيره ولا وقص وروى ولك عن علي وابن عمر وقال أبو حنيفة وبعض السلف لا شئ فيما زاد على مائتي درهم حتى يبلغ أربعين درهما ولا فيما زاد على عشرين دينارا حتى يبلغ أربعة دنانير فإذا زادت ففي كل أربعين درهما درهم وفي كل
49 أربعة دنانير درهم فجعل لها وقصا كالماشية واحتج الجمهور بقوله صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري في الرقة ربع العشر والرقة الفضة وهذا عام في النصاب وما فوقه بالقياس على الحبوب ولأبي حنيفة في المسألة حديث ضعيف لا يصح الاحتجاج به قال القاضي ثم إن مالكا والجمهور يقولون بضم الذهب والفضة بعضهما إلى بعض في اكمال النصاب ثم إن مالكا يراعى الوزن ويضم على الاجزاء لا على القيم ويجعل كل دينار كعشرة دراهم على الصرف الأول وقال الأوزاعي والثوري وأبو حنيفة يضم على القيم في وقت الزكاة وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور وداود لا يضم مطلقا قوله صلى الله عليه وسلم (ولا فيما دون خمس ذود صدقة) الرواية المشهورة خمس ذود بإضافة ذود إلى خمس وروى بتنوين خمس ويكون ذود بدلا منه حكاه ابن عبد البر والقاضي وغيرهما والمعروف الأول ونقله ابن عبد البر والقاضي عن الجمهور قال أهل اللغة الذود من الثلاثة إلى العشر لا واحد له من لفظه إنما يقال في الواحد بعير وكذلك النفر والرهط والقوم والنساء وأشباه هذه الألفاظ لا واحد لها من لفظها قالوا وقوله خمس ذود كقوله خمسة أبعرة وخمسة جمال وخمس نوق وخمس نسوة قال سيبويه تقول ثلاث ذود لان الذود مؤنث وليس باسم كسر عليه مذكره ثم الجمهور على أن الذود من ثلاثة إلى العشرة وقال أبو عبيد ما بين ثلاث إلى تسع وهو مختص بالإناث وقال الحربي قال الأصمعي الذود ما بين الثلاث إلى العشرة والصبة خمس أو ست والصرمة ما بين العشرة إلى العشرين والعكرة ما بين العشرين إلى الثلاثين والهجمة ما بين الستين إلى السبعين والهنية مائة والحظر نحو مائتين والعرج من خمسمائة إلى ألف وقال أبو عبيدة وغيره الصرمة ما بين العشر إلى الأربعين وأنكر ابن قتيبة أن يقال خمس ذود كما لا يقال خمس ثوب وغلطه العلماء بل هذا اللفظ شائع في الحديث الصحيح ومسموع من العرب معروف في كتب اللغة وليس هو جمعا لمفرد بخلاف الأثواب قال أبو حاتم السجستاني تركوا القياس في الجمع فقالوا خمس ذود لخمس
50 من الإبل وثلاث ذود لثلاث من الإبل وأربع ذود وعشر ذود على غير قياس كما قالوا ثلاثمائة وأربعمائة والقياس مئين ومئات ولا يكادون يقولونه وقد ضبطه الجمهور خمس ذود ورواه بعضهم خمسة ذود وكلاهما لرواة كتاب مسلم والأول أشهر وكلاهما صحيح في اللغة فاثبات الهاء لانطلاقه على المذكر والمؤنث ومن حذفها قال الداودي أراد أن الواحدة منه فريضة قوله صلى الله عليه وسلم (وليس فيما دون خمس أواقي صدقة) هكذا وقع في الرواية الأولى أواقي بالياء وفي باقي الروايات بعدها أواق بحذف الياء وكلاهما صحيح قال أهل اللغة الأوقية بضم الهمزة وتشديد الياء وجمعها أواقي بتشديد الياء وتخفيفها وأواق بحذفها قال ابن السكيت في الاصلاح كل ما كان من هذا النوع واحده مشددا جاز في جمعه التشديد والتخفيف فالأوقية والأواقي والسرية والسراري والختية والعلية والاثفية ونظائرها وأنكر جمهورهم أن يقال في الواحدة وقية بحذف الهمزة وحكى اللحياني جوازها بحذف الواو وتشديد الياء وجمعها وقايا
51 وأجمع أهل الحديث والفقه وأئمة أهل اللغة على أن الأوقية الشرعية أربعون درهما وهي أوقية الحجاز قال القاضي عياض ولا يصح أن تكون الأوقية والدراهم مجهولة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوجب الزكاة في أعداد منها ويقع بها البياعات والأنكحة كما ثبت في الأحاديث الصحيحة قال وهذا يبين أن قول من زعم أن الدراهم لم تكن معلومة إلى زمان عبد الملك بن مروان وأنه جمعها برأي العلماء وجعل كل عشرة وزن سبعة مثاقيل ووزن الدرهم ستة دوانيق قول باطل وإنما معنى ما نقل من ذلك أنه لم يكن منها شئ من ضرب الاسلام وعلى صفة لا تختلف بل كانت مجموعات من ضرب فارس والروم وصغارا وكبارا وقطع فضة غير مضروبة ولا منقوشة ويمنية ومغربية فرأوا صرفها إلى ضرب الاسلام ونقشه وتصييرها وزنا واحدا لا يختلف وأعيانا ليستغني فيها عن الموازين فجمعوا أكبرها وأصغرها وضربوه على وزنهم قال القاضي ولا شك أن الدراهم كانت حينئذ معلومة والا فكيف كانت تعلق بها حقوق الله تعالى في الزكاة وغيرها وحقوق العباد ولهذا كانت الأوقية معلومة هذا كلام القاضي وقال أصحابنا أجمع أهل العصر الأول على التقدير بهذا الوزن المعروف وهو أن الدرهم ستة دوانيق وكل عشرة دراهم سبعة مثاقيل ولم يتغير المثقال في الجاهلية ولا الاسلام قوله صلى الله عليه وسلم في رواية أبي بكر بن أبي شيبة (ليس فيما دون خمسة أوساق) هكذا هو في الأصول خمسة أوساق وهو
52 صحيح جمع وسق بكسر الواو كحمل وأحمال وقد سبق أن الوسق بفتح الواو وبكسرة قوله صلى الله عليه وسلم (من تمر أو حب) هو تمر بفتح التاء المثناة واسكان الميم وفي رواية محمد بن رافع عن عبد الرزاق ثمر بفتح المثلثة وفتح الميم قوله صلى الله عليه وسلم (ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة) قال أهل اللغة يقال ورق وورق بكسر الراء واسكانها والمراد به هنا الفضة كلها مضروبها وغيره واختلف أهل اللغة في أصله فقيل يطلق في الأصل على جميع الفضة وقيل هو حقيقة للمضروب دراهم ولا يطلق على غير الدراهم الا مجازا وهذا قول كثير من أهل اللغة وبالأول قال ابن قتيبة وغيره منهم وهو مذهب الفقهاء ولم يأت في الصحيح بيان نصاب الذهب وقد جاءت فيه أحاديث بتحديد نصابه بعشرين مثقالا وهي ضعاف ولكن أجمع من يعتد به في الاجماع على ذلك وكذا اتفقوا على اشتراط الحول في زكاة الماشية والذهب والفضة دون المعشرات وفي هذا الحديث دلالة لمذهب الشافعي وموافقيه في الفضة إذا كانت دون مائتي درهم رائجة أو نحوها لا زكاة فيها لقوله صلى الله عليه وسلم ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة وقد سبق أن الأوقية أربعون درهما وهي أوقية الحجاز
53 الشرعية وقال مالك إذا نقصت شيئا يسيرا بحيث تروج رواج الوازنة وجبت الزكاة ودليلنا أنه يصدق أنها دون خمس أواق وفيه دليل أيضا للشافعي وموافقيه في الدراهم المغشوشة أنه لا زكاة فيها حتى تبلغ الفضة المحضة منها مائتي درهم قوله صلى الله عليه وسلم (فيما سقت الأنهار والغيم العشور وفيما سقى بالسانية نصف العشر) ضبطناه العشور بضم العين جمع عشر وقال القاضي عياض ضبطناه عن عامة شيوخنا بفتح العين جمع وهو اسم للمخرج من ذلك وقال صاحب مطالع الأنوار أكثر الشيوخ يقولونه بالضم وصوابه الفتح وهذا الذي ادعاه من الصواب ليس بصحيح وقد اعترف بأن أكثر الرواة رووه بالضم وهو الصواب جمع عشر وقد اتفقوا على قولهم عشور أهل الذمة بالضم وهو الصواب جمع عشر ولا فرق بين اللفظين وأما الغيم هنا فبفتح الغين المعجمة وهو المطر وجاء في غير مسلم الغيل باللام قال أبو عبيد هو ما جرى من المياه في الأنهار وهو سيل دون السيل الكبير وقال ابن السكيت هو الماء الجاري على الأرض وأما السانية فهو البعير الذي يسقى به الماء من البئر ويقال له الناضح يقال منه سنا يسنو إذا أسقى به وفي هذا الحديث وجوب العشر فيما سقى بماء السماء والأنهار ونحوها مما ليس فيه مؤنة كثيرة ونصف العشر فيما سقى بالنواضح وغيرها مما فيه مؤنة كثيرة وهذا متفق عليه ولكن اختلف العلماء في أنه هل تجب الزكاة في كل ما أخرجت الأرض من الثمار والزروع والرياحين وغيرها الا الحشيش والحطب ونحوهما أم يختص فعمم أبو حنيفة وخصص الجمهور على اختلاف لهم فيما يختص به
54 وهو معروف في كتب الفقه قوله صلى الله عليه وسلم (ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة) هذا الحديث أصل في أن أموال القنية لا زكاة فيها وأنه لا زكاة في الخيل والرقيق إذا لم تكن للتجارة وبهذا قال العلماء كافة من السلف والخلف الا أن أبا حنيفة وشيخه حماد بن أبي سليمان ونفرا أوجبوا في الخيل إذا كانت إناثا أو ذكورا وإناثا في كل فرس دينارا وان شاء قومها وأخرج عن كل مائتي درهم خمسة دراهم وليس لهم حجة في ذلك وهذا الحديث صريح في الرد عليهم وقوله في العبد (الا صدقة الفطر) صريح في وجوب صدقة الفطر على السيد عن عبده سواء كان للقنية أم للتجارة وهو مذهب مالك والشافعي والجمهور وقال أهل الكوفة لا يجب في عبيد التجارة وحكى عن داود أنه قال لا تجب على السيد بل تجب على العبد ويلزم السيد تمكينه من الكسب ليؤديها وحكاه القاضي عن أبي ثور أيضا ومذهب الشافعي وجمهور العلماء أن المكاتب لا فطرة عليه ولا على سيده وعن عطاء ومالك وأبي ثور وجوبها على السيد وهو وجه لبعض أصحاب الشافعي لقوله صلى الله عليه وسلم المكاتب عبد ما بقي عليه
55 درهم وفيه وجه أيضا لبعض أصحابنا أنها تجب على المكاتب لأنه كالحر في كثير من الأحكام قوله (منع ابن جميل) أي منع الزكاة وامتنع من دفعها قوله صلى الله عليه وسلم (ما ينقم ابن جميل الا أنه كان فقيرا فأغناه الله) قوله ينقم بكسر القاف وفتحها والكسر أفصح قوله صلى الله عليه وسلم (وأما خالد فإنكم تظلمون خالدا فقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله) قال أهل اللغة الأعتاد آلات الحرب من السلاح والدواب وغيرها والواحد عتاد بفتح العين ويجمع أعتادا وأعتدة ومعنى الحديث أنهم طلبوا من خالد زكاة أعتاده ظنا منهم أنها للتجارة وأن الزكاة فيها واجبة فقال لهم لا زكاة لكن على فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ان خالدا منع الزكاة فقال لهم انكم تظلمونه لأنه حبسها ووقفها في سبيل الله قبل الحول عليها فلا زكاة فيها ويحتمل أن يكون المراد لو جبت عليه زكاة لأعطاها ولم يشح بها لأنه قد وقف أمواله لله تعالى متبرعا فكيف يشح بواجب عليه واستنبط بعضهم من هذا وجوب زكاة التجارة وبه قال جمهور العلماء من السلف والخلف خلافا لداود وفيه دليل على صحة الوقف وصحة وقف المنقول وبه قالت الأمة بأسرها الا أبا حنيفة وبعض الكوفيين وقال بعضهم هذه الصدقة التي منعها ابن جميل
56 وخالد والعباس لم تكن زكاة إنما كانت صدقة تطوع حكاه القاضي عياض قال ويؤيده ان عبد الرزاق روى هذا الحديث وذكر في روايته أن النبي صلى الله عليه وسلم ندب الناس إلى الصدقة وذكر تمام الحديث قال ابن القصار من المالكية وهذا التأويل أليق بالقصة فلا يظن بالصحابة منع الواجب وعلى هذا فعذر خالد واضح لأنه أخرج ماله في سبيل الله فما بقي له مال يحتمل المواساة بصدقة التطوع ويكون ابن جميل شح بصدقة التطوع فعتب عليه وقال في العباس هي على ومثلها معها أي أنه لا يمتنع إذا طلبت منه هذا كلام ابن القصار وقال القاضي لكن ظاهر الأحاديث في الصحيحين أنها في الزكاة لقوله بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة وإنما كان يبعث في الفريضة قلت الصحيح المشهور أن هذا كان في الزكاة لا في صدقة التطوع وعلى هذا قال أصحابنا وغيرهم قوله صلى الله عليه وسلم (هي على ومثلها معها) معناه انى تسلفت منه زكاة عامين وقال الذين لا يجوزون تعجيل الزكاة معناه أنا أؤديها عنه قال أبو عبيد وغيره معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخرها عن العباس إلى وقت يساره من أجل حاجته إليها والصواب أن معناه تعجلتها منه وقد جاء في حديث آخر في غير مسلم إنا تعجلنا منه صدقة عامين قوله صلى الله عليه وسلم (عم الرجل صنو أبيه) أي مثل أبيه وفيه تعظيم حق العم زكاة الفطر قوله (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر من رمضان على الناس صاعا
57 من تمر أو صاعا من شعير على كل حر أو عبد ذكر أو أنثى من المسلمين) اختلف الناس في معنى فرض هنا فقال جمهورهم من السلف والخلف معناه ألزم وأوجب فزكاة الفطر فرض واجب عندهم لدخولها في عموم قوله تعالى الزكاة ولقوله وهو غالب في استعمال الشرع بهذا المعنى وقال إسحاق بن راهويه ايجاب زكاة الفطر كالاجماع وقال بعض أهل العراق وبعض أصحاب مالك وبعض أصحاب الشافعي وداود في آخر آمره أنها سنة ليست واجبة قالوا ومعنى فرض قدر على سبيل الندب وقال أبو حنيفة هي واجبة ليست فرضا بناء على مذهبه في الفرق بين الواجب والفرض قال القاضي وقال بعضهم الفطرة منسوخة بالزكاة قلت هذا غلط صريح والصواب أنها فرض واجب قوله (من رمضان) إشارة إلى وقت وجوبها وفيه خلاف للعلماء فالصحيح من قول الشافعي أنها تجب بغروب الشمس ودخول أول جزء من ليلة عيد الفطر والثاني تجب لطلوع الفجر ليلة العيد وقال أصحابنا تجب بالغروب والطلوع معا فان ولد بعد الغروب أو مات قبل الطلوع لم تجب وعن مالك روايتان كالقولين وعند أبي حنيفة تجب بطلوع الفجر قال المازري قيل إن هذا الخلاف مبنى على أن قوله الفطر من رمضان هل المراد به الفطر المعتاد في سائر الشهر فيكون الوجوب بالغروب أو الفطر الطارئ بعد ذلك فيكون بطلوع الفجر قال المازري وفي قوله الفطر من رمضان دليل لمن يقول لا تجب الا على من صام من رمضان ولو يوما واحدا قال وكان سبب هذا أن العبادات التي تطول ويشق التحرز منها من أمور تفوت كمالها جعل الشرع فيها كفارة مالية بدل النقص كالهدي في الحج والعمرة وكذا الفطرة لما يكون في الصوم من لغو وغيره وقد جاء في حديث آخر أنها طهرة للصائم من اللغو والرفث واختلف العلماء أيضا في اخراجها عن الصبي فقال الجمهور يجب اخراجها للحديث المذكور بعد هذا صغير أو كبير وتعلق من لم يوجبها بأنها تطهير والصبي ليس محتاجا إلى التطهير لعدم الاثم وأجاب الجمهور عن هذا بأن التعليل
58 بالتطهير لغالب الناس ولا يمتنع أن لا يوجد التطهير من الذنب كما أنها تجب على من لا ذنب له كصالح محقق الصلاح وككافر أسلم قبل غروب الشمس بلحظة فإنها تجب عليه مع عدم الاثم وكما أن القصر في السفر جوز للمشقة فلو وجد من لا مشقة عليه فله القصر وأما قوله صلى الله عليه وسلم على كل حر أو عبد فان داود أخذ بظاهره فأوجبها على العبد بنفسه وأوجب على السيد تمكينه من كسبها كما يمكنه من صلاة الفرض ومذهب الجمهور وجوبها على سيده عنه وعند أصحابنا في تقديرها وجهان أحدهما أنها تجب على السيد ابتداء والثاني تجب على العبد ثم يحملها عنه سيده فمن قال بالثاني فلفظه على على ظاهرها ومن قال بالأول قال لفظه على بمعنى عن وأما قوله على الناس على كل حر أو عبد ذكر أو أنثى ففيه دليل على أنها تجب على أهل القرى والأمصار والبوادي والشعاب وكل مسلم حيث كان وبه قال مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وجماهير العلماء وعن عطاء والزهري وربيعة والليث أنها لا تجب الا على أهل الأمصار والقرى دون البوادي وفيه دليل للشافعي والجمهور في أنها تجب على من ملك فاضلا عن قوته وقوت عياله يوم العيد وقال أبو حنيفة لا تجب على من حيل له أخذ الزكاة وعندنا أنه لو ملك من الفطرة المعجلة فاضلا عن قوته ليلة العيد ويومه لزمته الفطرة عن نفسه وعياله وعن مالك وأصحابه في ذلك خلاف وقوله ذكر أو أنثى حجة للكوفيين في أنها تجب على الزوجة في نفسها ويلزمها اخراجها من مالها وعند مالك والشافعي والجمهور يلزم الزوج فطرة زوجته لأنها تابعة للنفقة وأجابوا عن الحديث بما سبق في الجواب لداود في فطره العيد وأما قوله من المسلمين فصريح في أنها لا تخرج الا عن مسلم فلا يلزمه عن عبده وزوجته وولده ووالده الكفار وان وجبت عليه نفقتهم وهذا مذهب مالك والشافعي وجماهير العلماء وقال الكوفيون واسحق وبعض السلف تجب عن العبد الكافر وتأول الطحاوي قوله من المسلمين على أن المراد بقوله من المسلمين السادة
59 دون العبيد وهذا يرده ظاهر الحديث وأما قوله صاعا من كذا وصاعا من كذا ففيه دليل على أن الواجب في الفطرة عن كل نفس صاع فإن كان في غير حنطه وزبيب وجب صاع بالاجماع وإن كان حنطة وزبيبا وجب أيضا صاع عند الشافعي ومالك والجمهور وقال أبو حنيفة وأحمد نصف صاع بحديث معاوية المذكور بعد هذا وحجة الجمهور حديث أبي سعيد بعد هذا في قوله صاعا من طعام أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر أو صاعا من أقط أو صاعا من زبيب والدلالة فيه من وجهين أحدهما أن الطعام في عرف أهل الحجاز اسم للحنطة خاصة لا سيما وقد قرنه بباقي المذكورات والثاني أنه ذكر أشياء قيمها مختلفة وأوجب في كل نوع منها صاعا فدل على أن المعتبر صاع ولا نظر إلى قيمته ووقع في رواية لأبي داود أو صاعا من حنطة قال وليس بمحفوظ وليس للقائلين بنصف صاع حجة الا حديث معاوية وسنجيب عنه إن شاء الله تعالى واعتمدوا أحاديث ضعيفة ضعفها أهل الحديث وضعفها بين قال القاضي واختلف في النوع المخرج فأجمعوا أنه يجوز البر والزبيب والتمر والشعير الا خلافا في البر لمن لا يعتد بخلافه وخلافا في الزبيب لبعض المتأخرين وكلاهما مسبوق بالاجماع مردود به وأما الأقط فأجازه مالك والجمهور ومنعه الحسن واختلف فيه قول الشافعي وقال أشهب لا تخرج الا هذه الخمسة وقاس مالك على الخمسة كل ما هو عيش أهل كل بلد من القطاني وغيرها وعن مالك قول آخر أنه لا يجزى غير المنصوص في الحديث وما في معناه ولم يجز عامة الفقهاء اخراج
60 القيمة وأجازه أبو حنيفة قلت قال أصحابنا جنس الفطرة كل حب وجب فيه العشر ويجزى الأقط على المذهب والأصح أنه يتعين عليه غالب قوت بلده والثاني يتعين قوت نفسه والثالث يتخير بينهما فان عدل عن الواجب إلى أعلى منه أجزأه وان عدل إلى ما دونه لم يجزه قوله (من المسلمين) قال أبو عيسى الترمذي وغيره هذه اللفظة انفرد بها مالك دون سائر أصحاب نافع وليس كما قالوا ولم ينفرد بها مالك بل وافقه فيها ثقتان وهما الضحاك بن عثمان وعمر بن نافع فالضحاك ذكره مسلم في الرواية التي بعد هذه وأما عمر ففي البخاري قوله عن معاوية أنه كلم الناس على المنبر فقال إني أرى أن مدين من سمراء الشام يعدل صاعا من تمر فأخذ الناس بذلك قال أبو سعيد فأما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه أبدا ما عشت فقوله سمراء الشام هي الحنطة وهذا الحديث هو الذي يعتمده أبو حنيفة وموافقوه في جواز نصف صاع حنطة والجمهور يجيبون عنه بأنه قول صحابي وقد خالفه أبو سعيد وغيره ممن هو أطول صحبة وأعلم بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم وإذا اختلفت الصحابة لم يكن قول بعضهم بأولى من بعض فنرجع إلى دليل آخر وجدنا ظاهر الأحاديث والقياس متفقا على اشتراط الصاع من الحنطة كغيرها فوجب اعتماده وقد صرح معاوية بأنه رأى رآه لا أنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان عند أحد من حاضري مجلسه مع كثرتهم في تلك اللحظة علم في موافقة معاوية عن النبي صلى الله عليه وسلم لذكره كما جرى
61 لهم في غير هذه القصة قوله في حديث أبي سعيد (أو صاعا من أقط) صريح في اجزائه وابطال لقول من منعه قوله (حدثنا محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن إسماعيل بن أمية قال أخبرني عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح أنه سمع أبا سعيد الخدري) هذا الحديث مما استدركه الدارقطني على مسلم فقال خالف سعيد بن مسلمة معمرا فيه فرواه عن إسماعيل ابن أمية عن الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذباب عن عياض قال الدارقطني والحديث محفوظ عن الحارث قلت وهذا الاستدراك ليس بلازم فان إسماعيل بن أمية صحيح السماع عن عياض والله أعلم وقوله (ابن أبي ذباب) هو بضم الذال المعجمة وبالباء الموحدة قوله (عن كل صغير وكبير حر ومملوك)
62 فيه دليل على وجوبها على السيد عن عبده لا على العبد نفسه وقد سبق الكلام فيه ومذاهبهم بدلائلها قوله (أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة) فيه دليل للشافعي والجمهور في أنه لا يجوز تأخير الفطرة عن يوم العيد وأن الأفضل اخراجها قبل الخروج إلى المصلى والله أعلم
63 اثم مانع الزكاة قوله صلى الله عليه وسلم (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدى منها حقها) إلى آخر الحديث هذا الحديث صريح في وجوب الزكاة في الذهب والفضة ولا خلاف فيه وكذا باقي المذكورات من الإبل والبقر والغنم قوله صلى الله عليه وسلم (كلما بردت أعيدت له) هكذا هو في بعض النسخ بردت بالباء وفي بعضها ردت بحذف الباء وبضم الراء وذكر القاضي الروايتين وقال الأولى هي الصواب قال والثانية رواية الجمهور قوله صلى الله عليه وسلم (حلبها يوم وردها) هو بفتح اللام على اللغة المشهورة وحكى اسكانها وهو غريب ضعيف وإن كان هو القياس قوله صلى الله عليه وسلم (بطح لها بقاع قرقر) القاع المستوى الواسع من الأرض يعلوه ماء السماء فيمسكه قال الهروي وجمعه قيعة وقيعان مثل جار وجيرة وجيران والقرقر المستوى أيضا من الأرض الواسع وهو بفتح القافين قوله (بطح) قال جماعة معناه ألقى على وجهه قال القاضي قد جاء في رواية البخاري يخبط وجهه بأخفافها قال وهذا يقتضى أنه ليس من شرط البطح كونه على الوجه وإنما هو في اللغة بمعنى البسط والمد فقد يكون على وجهه وقد يكون على ظهر
64 ومنه سميت بطحاء مكة لانبساطها قوله صلى الله عليه وسلم (كلما مر عليه أولاها رد عليه آخرها) هكذا هو في جميع الأصول في هذا الموضع قال القاضي عياض قالوا هو تغيير وتصحيف وصوابه ما جاء بعده في الحديث الآخر من رواية سهيل عن أبيه وما جاء في حديث المعرور بن سويد عن أبي ذر كلما مر عليه أخراها رد عليه أولاها وبهذا ينتظم الكلام قوله صلى الله عليه وسلم (فيرى سبيله) ضبطناه بضم الياء وفتحها وبرفع لام سبيله ونصبها قوله صلى الله عليه وسلم (ليس فيها عقصاء ولا جلحاء ولا عضباء) قال أهل اللغة العقصاء ملتوية القرنين والجلحاء التي لا قرن لها والعضباء التي انكسر قرنها الداخل قوله صلى الله عليه وسلم (تنطحه) بكسر الطاء وفتحها لغتان حكاهما الجوهري وغيره الكسر أفصح وهو المعروف في الرواية قوله صلى الله عليه وسلم (ولا صاحب بقر) إلى آخره فيه دليل على وجوب الزكاة في البقر وهذا أصح الأحاديث الواردة في زكاة البقر قوله صلى الله عليه وسلم (أوفر ما كانت لا يفقد منها فصيلا واحدا) في الرواية الأخرى أعظم ما كانت هذا للزيادة في عقوبته بكثرتها وقوتها وكمال خلقها فتكون أثقل في وطئها كما أن ذوات القرون تكون بقرونها ليكون أنكى وأصوب لطعنها ونطحها قوله صلى الله عليه وسلم (وتطؤه بأظلافها) الظلف للبقر والغنم والظباء وهو المنشق من القوائم والخف للبعير والقدم للآدمي والحافر للفرس والبغل والحمار
65 قوله صلى الله عليه وسلم في الخيل (فأما التي هي له وزر) هكذا هو في أكثر النسخ التي ووقع في بعضها الذي وهو أوضح وأظهر قوله صلى الله عليه وسلم (ونواء لأهل الاسلام) هو بكسر النون وبالمد أي مناوأة ومعاداة قوله صلى الله عليه وسلم (ربطها في سبيل الله) أي أعدها للجهاد وأصله من الربط ومنه الرباط وهو حبس الرجل نفسه في الثغر واعداده الأهبة لذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الخيل (ثم لم ينس حق الله في ظهورها ولا رقابها) استدل به أبو حنيفة على وجوب الزكاة في الخيل ومذهبه أنه ان كانت الخيل كلها ذكورا فلا زكاة فيها وان كانت إناثا أو ذكورا وإناثا وجبت الزكاة وهو بالخياران شاء أخرج عن كل فرس دينارا وان شاء قومها وأخرج ربع عشر القيمة وقال مالك والشافعي وجماهير العلماء لا زكاة في الخيل بحال للحديث السابق ليس على المسلم في فرسه صدقة وتأولوا هذا الحديث على أن المراد أنه يجاهد بها وقد يجب الجهاد بها إذا تعين وقيل يحتمل ان المراد بالحق في رقابها الاحسان إليها والقيام بعلفها وسائر مؤنها والمراد بظهورها اطراق فحلها إذا طلبت عاريته وهذا على الندب وقيل المراد حق الله مما يكسب من مال العدو على ظهورها وهو خمس الغنيمة قوله صلى الله عليه وسلم (ولا تقطع طولها) هو بكسر الطاء وفتح الواو ويقال طيلها بالياء كذا جاء في الموطأ والطول والطيل الحبل الذي تربط فيه قوله صلى الله عليه وسلم ولا يقطع طولها فاستنت شرفا أو شرفين
66 معنى استنت أي جرت والشرف بفتح الشين المعجمة والراء وهو العالي من الأرض وقيل المراد هنا طلقا أو طلقين قوله صلى الله عليه وسلم (فشربت ولا يريد أن يسقيها الا كتب الله له عدد ما شربت حسنات) هذا من باب التنبيه لأنه إذا كان تحصل له هذه الحسنات من غير أن يقصد سقيها فإذا قصده فأولى باضعاف الحسنات قوله صلى الله عليه وسلم (ما أنزل الله على في الحمر شئ الا هذه الآية الفاذة الجامعة) معنى الفاذة القليلة النظير والجامعة أي العامة المتناولة لكل خير ومعروف وفيه إشارة إلى التمسك بالعموم ومعنى الحديث لم ينزل على فيها نص بعينها لكن نزلت هذه الآية العامة وقد يحتج به من قال لا يجوز الاجتهاد للنبي صلى الله عليه وسلم وإنما كان يحكم بالوحي ويجاب للجمهور القائلين بجواز الاجتهاد بأنه لم يظهر له فيها شئ قوله صلى الله عليه وسلم (ما من صاحب كنز لا يؤدى زكاته) قال الإمام أبو جعفر الطبري الكنز كل شئ مجموع بعضه على بعض سواء كان في بطن الأرض أم على ظهرها زاد صاحب العين وغيره وكان مخزونا
67 قال القاضي واختلف السلف في المراد بالكنز المذكور في القرآن والحديث فقال أكثرهم هو كل مال وجبت فيه الزكاة فلم تؤد فأما مال أخرجت زكاته فليس بكنز وقيل الكنز هو المذكور عن أهل اللغة ولكن الآية منسوخة بوجوب الزكاة وقيل المراد بالآية أهل الكتاب المذكورون قبل ذلك وقيل كل ما زاد على أربعة آلاف فهو كنز وان أديت زكاته وقيل هو ما فضل عن الحاجة ولعل هذا كان في أول الاسلام وضيق الحال واتفق أئمة الفتوى على القول الأول وهو الصحيح لقوله صلى الله عليه وسلم ما من صاحب كنز لا يؤدى زكاته وذكر عقابه وفي الحديث الآخر من كان عنده مال فلم يؤد زكاته مثل له شجاعا أقرع وفي آخره فيقول أنا كنزك قوله صلى الله عليه وسلم (الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة) جاء تفسيره في الحديث الآخر في
68 الصحيح الاجر والمغنم وفيه دليل على بقاء الاسلام والجهاد إلى يوم القيامة والمراد قبيل القيامة بيسير أي حتى تأتى الريح الطيبة من قبل اليمن تقبض روح كل مؤمن ومؤمنة كما ثبت في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم (وأما التي هي عليه وزر فالذي يتخذها أشرا أو بطرا وبذخا ورياء الناس) قال أهل اللغة الأشر بفتح الهمزة والشين وهو المرح واللجاج وأما البطر فالطغيان عند الحق وأما
69 البذخ فبفتح الباء والذال المعجمة وهو بمعنى الأشر والبطر قوله صلى الله عليه وسلم (الا جاءت يوم القيامة أكثر ما كانت قط وقعد لها) وكذلك في البقر والغنم هكذا هو في الأصول بالثاء المثلثة وقعد بفتح القاف والعين وفي قط لغات حكاهن الجوهري والفصيحة المشهورة قط مفتوحة القاف مشددة الطاء قال الكسائي كانت قطط بضم الحروف الثلاثة فأسكن الثاني ثم أدغم والثانية قط بضم القاف تتبع الضمة كقولك مد يا هذا والثالثة قط بفتح القاف وتخفيف الطاء والرابعة قط بضم القاف والطاء المخففة وهي قليلة هذا إذا كانت بمعنى الدهر فأما التي بمعنى حسب وهو الاكتفاء فمفتوحة ساكنة الطاء تقول رأيته مرة فقط فان أضفت قلت قطك هذا الشئ أي حسبك وقطني وقطي وقطه وقطاه قوله صلى الله عليه وسلم (شجاعا أقرع)
70 الشجاع الحية الذكر والأقرع الذي تمعط شعره لكثرة سمه وقيل الشجاع الذي يواثب الراجل والفارس ويقوم على ذنبه وربما بلغ رأس الفارس ويكون في الصحارى قوله صلى الله عليه وسلم (مثل له شجاعا أقرع) قال القاضي ظاهره أن الله تعالى خلق هذا الشجاع لعذابه ومعنى مثل أي نصب وصير بمعنى أن ماله يصير على صورة الشجاع قوله صلى الله عليه وسلم (سلك بيده في فيه فيقضمها قضم الفحل) معنى سلك أدخل ويقضمها بفتح الضاد يقال قضمت الدابة شعيرها بكسر الضاد تقضمه بفتحها إذا أكلته قوله صلى الله عليه وسلم (ليس فيها جماء) هي التي لا قرن لها قوله (قلنا يا رسول الله وما حقها قال طراق فحلها وإعارة دلوها ومنيحتها وحلبها على الماء وحمل عليها في سبيل الله) قال القاضي قال المازري يحتمل أن يكون هذا الحق في موضع تتعين فيه المواساة قال القاضي هذه الألفاظ صريحة في أن هذا الحق غير الزكاة قال ولعل هذا كان قبل وجوب الزكاة وقد اختلف السلف في معنى قول الله تعالى أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم فقال الجمهور المراد به الزكاة وأنه ليس في المال حق سوى الزكاة وأما ما جاء غير ذلك فعلى وجه الندب ومكارم الأخلاق ولأن الآية اخبار عن وصف قوم أثنى عليهم بخصال كريمة فلا يقتضى الوجوب كما لا يقتضيه قوله تعالى قليلا من الليل ما يهجعون وقال بعضهم هي منسوخة بالزكاة وإن كان لفظه لفظ خبر فمعناه أمر قال وذهب جماعة منهم الشعبي والحسن وطاوس وعطاء ومسروق وغيرهم إلى أنها محكمة وأن في المال حقا سوى الزكاة من فك الأسير واطعام المضطر والمواساة في العسرة وصلة القرابة قوله صلى الله عليه وسلم (ومنيحتها) قال أهل اللغة المنيحة ضربان أحدهما أن يعطى
71 الانسان آخر شيئا هبه وهذا النوع يكون في الحيوان والأرض والأثاث وغير ذلك الثاني أن المنيحة ناقة أو بقرة أو شاة ينتفع بلبنها ووبرها وصوفها وشعرها زمانا ثم يردها ويقال منحه يمنحه بفتح النون في المضارع وكسرها فأما حلبها يوم وردها ففيه رفق بالماشية وبالمساكين لأنه أهون على الماشية وأرفق بها وأوسع عليها من حلبها في المنازل وهو أسهل على المساكين وأمكن في وصولهم إلى موضع الحلب ليواسوا والله أعلم ارضاء السعاة وهم العاملون على الصدقات قوله (ان ناسا من المتصدقين يأتوننا فيظلموننا فقال رسول الله
72 صلى الله عليه وسلم أرضوا مصدقيكم) المصدقون بتخفيف الصاد وهم السعاة العاملون على الصدقات وقوله صلى الله عليه وسلم (أرضوا مصدقيكم) معناه ببذل الواجب وملاطفتهم وترك مشاقهم وهذا محمول على ظلم لا يفسق به الساعي إذا لو فسق لا نعزل ولم يجب الدفع إليه بل لا يجزى والظلم قد يكون بغير معصية فإنه مجاوزة الحد ويدخل في ذلك المكروهات تغليظ عقوبة من لا يؤدى الزكاة قوله (لم أتقار أي لم يمكني القرار والثبات قوله صلى الله عليه وسلم (هم الأخسرون ورب الكعبة) ثم فسرهم فقال (هم الأكثرون أموالا الا من قال هكذا وهكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وقليل ما هم) فيه الحث على الصدقة في وجوه الخير
73 وأنه لا يقتصر على نوع من وجوه البر بل ينفق في كل وجه من وجوه الخير يحضر وفيه جواز الحلف بغير تحليف بل هو مستحب إذا كان فيه مصلحة كتوكيد أمر وتحقيقه ونفى المجاز عنه وقد كثرت الأحاديث الصحيحة في حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا النوع لهذا المعنى وأما إشارته صلى الله عليه وسلم إلى قدام ووراء والجانبين فمعناها ما ذكرنا أنه ينبغي أن ينفق متى حضى أمر مهم قوله صلى الله عليه وسلم (كلما نفدت أخراها عادت عليه أولاها) هكذا ضبطناه نفدت بالدال المهملة ونفذت بالذال المعجمة وفتح الفاء وكلاهما صحيح
74 قوله (سمعت لغطا) هو بفتح الغين واسكانها لغتان أي جلبة وصوتا غير مفهوم قوله صلى الله عليه وسلم (يا أبا ذر) فيه مناداة العالم والكبير صاحبه بكنيته إذا كان جليلا قوله (من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة قلت وان زنى وان سرق قال وان زنى وان سرق) فيه دلالة لمذهب أهل الحق أنه لا يخلد أصحاب الكبائر في النار خلافا للخوارج والمعتزلة وخص الزنى والسرقة بالذكر لكونهما من أفحش الكبائر وهو داخل في
75 أحاديث الرجاء قوله (فالتفت فرآني فقال من هذا فقلت أبو ذر) فيه جواز تسمية الانسان نفسه بكنيته إذا كان مشهورا بها دون اسمه وقد كثر مثله في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم (الا من أعطاه الله خيرا فنفح فهي يمينه وشماله وبين يديه ووراءه وعمل فيه خيرا) المراد بالخير الأول المال كقوله تعالى لحب الخير أي المال والمراد بالخير الثاني طاعة الله تعالى والمراد بيمينه وشماله ما سبق أنه جميع وجوه المكارم والخير ونفح بالحاء المهملة أي ضرب يديه فيه بالعطاء والنفح الرمي والضرب قوله (فانطلق في الحرة) هي الأرض الملبسة حجارة سوداء قوله صلى الله عليه وسلم (قلت وان سرق وان زنى قال نعم وان شرب الخمر) فيه تغليظ تحريم الخمر
76 قوله (فبينا انا في حلقة فيها ملأ من قريش) الملأ الأشراف ويقال أيضا للجماعة والحلقة باسكان اللام وحكى الجوهري لغة رديئة في فتحها وقوله (بينا أنا في حلقة) أي بين أوقات قعودي في الحلقة قوله (إذ جاء رجل أخشن الثياب أخشن الجسد أخشن الوجه) هو بالخاء والشين المعجمتين في الألفاظ الثلاثة ونقله القاضي هكذا عن الجمهور وهو من الخشونة قال وعند ابن الحذاء في الأخير خاصة حسن الوجه من الحسن ورواه القابسي في البخاري حسن الشعر والثياب والهيئة من الحسن ولغيره خشن من الخشونة وهو أصوب قوله (فقام عليهم) أي وقف قوله (عن أبي ذر قال بشر الكانزين برضف يحمى عليه في نار جهنم فيوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفيه ويوضع على نغض كتفيه حتى يخرج من حلمة ثديه يتزلزل) أما قوله بشر الكانزين فظاهره أنه أراد الاحتجاج لمذهبه في أن الكنز كل ما فضل عن حاجة الانسان هذا هو المعروف من مذهب أبي ذر وروى عنه غيره والصحيح الذي عليه الجمهور أن الكنز هو المال الذي لم تؤد زكاته فأما إذا أديت زكاته فليس بكنز سواء كثر أم قل وقال القاضي الصحيح أن انكاره إنما هو على السلاطين الذين يأخذون لأنفسهم من بيت المال ولا ينفقونه في وجوهه وهذا الذي قاله القاضي باطل لأن السلاطين في زمنه لم تكن هذه صفتهم ولم يخونوا في بيت المال إنما كان في زمنه أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وتوفى في زمن عثمان سنة ثنتين وثلاثين قوله (برضف) هي الحجارة المحماة وقوله يحمى عليه أي يوقد عليه وفي جهنم مذهبان لأهل العربية أحدهما أنه اسم عجمي فلا ينصرف للعجمة والعلمية قال الواحدي
77 قال يونس وأكثر النحويين هي أعجمية لا تنصرف للتعريف والعجمة وقال آخرون هو اسم عربي سميت به لبعد قعرها ولم ينصرف للعلمية والتأنيث قال قطرب عن رؤبة يقال بئر جهنام أي بعيدة القعر وقال الواحدي في موضع آخر قال بعض أهل اللغة هي مشتقة من الجهومة وهي الغلظ يقال جهم الوجه أي غليظه وسميت جهنم لغلظ أمرها في العذاب وقوله (ثدي أحدهم) فيه جواز استعمال الثدي في الرجل وهو الصحيح ومن أهل اللغة من أنكره وقال لا يقال ثدي الا للمرأة ويقال في الرجل ثندؤة وقد سبق بيان هذا مبسوطا في كتاب الايمان في حديث الرجل الذي قتل نفسه بسيفه فجعل ذبابه بين ثدييه وسبق أن الثدي يذكر ويؤنث قوله (نغض كتفيه) هو بضم النون واسكان الغين المعجمة وبعدها ضاد معجمة وهو العظم الرقيق الذي على طرف الكتف وقيل هو أعلى الكتف ويقال له أيضا الناغض وقوله يتزلزل أي يتحرك قال القاضي قيل معناه أنه بسبب نضجه يتحرك لكونه يهترى قال والصواب أن الحركة والتزلزل إنما هو للرضف أي يتحرك من نغض كتفه حتى يخرج من حلمه ثديه ووقع في النسخ على حلمة ثدي أحدهم إلى قوله حتى يخرج من حلمة ثدييه بافراد الثدي في الأول وتثنيته في الثاني وكلاهما صحيح قوله (لا تعتريهم) أي تأتيهم وتطلب منهم يقال عروته واعتريته واعتررته إذا أتيته تطلب منه حاجة قوله (لا أسألهم عن دنيا ولا أستفتيهم عن دين) هكذا هو في الأصول
78 عن دنيا وفي رواية البخاري لا أسألهم دنيا بحذف عن وهو الأجود أي لا أسألهم شيئا من متاعها قوله (حدثنا خليد العصري) هو بضم الخاء المعجمة وفتح اللام واسكان الياء والعصري بفتح العين والصاد المهملتين منسوب إلى بنى عصر الحث على النفقة وتبشير المنفق بالخلف قوله عز وجل (أنفق أنفق عليك) هو معنى قوله عز وجل وما أنفقتم من شئ فهو يخلفه فيتضمن الحث على الانفاق معنى في وجوه الخير والتبشير بالخلف من فضل الله تعالى قوله صلى الله عليه وسلم (يمين الله ملأى وقال ابن نمير ملآن هكذا وقعت رواية ابن نمير بالنون قالوا وهو غلظ منه وصوابه كما في سائر الروايات ثم ضبطوا رواية ابن نمير من وجهين أحدهما اسكان اللام وبعدها همزة والثاني ملآن بفتح اللام بلا همز قوله صلى الله عليه وسلم
79 (يمين الله ملأى سحاء لا يغيضها شئ الليل والنهار) ضبطوا سحاء بوجهين أحدهما سحاء بالتنوين على المصدر وهذا هو الأصح الأشهر والثاني حكاه القاضي سحاء بالمد على الوصف ووزنه فعلاء صفة لليد والسيح الصب الدائم والليل والنهار في هذه الرواية منصوبان على الظرف ومعنى لا يغيضها شئ أي لا ينقصها يقال غاض الماء وغاضه الله لازم ومتعد قالا القاضي قال الامام المازري هذا مما يتأول لان اليمين إذا كانت بمعنى المناسبة للشمال لا يوصف بها الباري سبحانه وتعالى لأنها تتضمن اثبات الشمال وهذا يتضمن التحديد ويتقدس الله سبحانه عن التجسيم والحد وإنما خاطبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يفهمونه وأراد الاخبار بأن الله تعالى لا ينقصه الانفاق ولا يمسك خشية الاملاق جل الله عن ذلك وعبر صلى الله عليه وسلم عن توالي النعم بسح اليمين لأن الباذل منا يفعل ذلك بيمينه قال ويحتمل أن يريد بذلك أن قدرة الله سبحانه وتعالى على الأشياء على وجه واحد لا يختلف ضعفا وقوة وأن المقدورات تقع بها على جهة واحدة ولا تختلف قوة وضعفا كما يختلف فعلنا باليمين والشمال تعالى الله على صفات المخلوقين ومشابهة المحدثين وأما قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الثانية وبيده الأخرى القبض فمعناه أنه وان كانت قدرته سبحانه وتعالى واحدة فإنه يفعل بها المختلفات ولما كان ذلك فينا لا يمكن الا بيدين عبر عن قدرته على التصرف في ذلك باليدين ليفهمهم المعنى المراد بما اعتادوه من الخطاب على سبيل المجاز هذا آخر كلام المازري قوله في رواية محمد بن رافع (لا يغيضها سحاء الليل والنهار) ضبطناه بوجهين نصب الليل
80 والنهار ورفعهما النصب على الظرف والرفع على أنه فاعل قوله صلى الله عليه وسلم (وبيده الأخرى القبض يخفض ويرفع) ضبطوه بوجهين أحدهما الفيض بالفاء والياء المثناة تحت والثاني القبض بالقاف والباء الموحدة وذكر القاضي أنه بالقاف وهو الموجود لأكثر الرواة قال وهو الأشهر والمعروف قال ومعنى القبض الموت وأما الفيض بالفاء فالاحسان والعطاء والرزق الواسع قال وقد يكون بمعنى القبض بالقاف أي الموت قال البكراوي والفيض الموت قال القاضي قيس يقولون فاضت نفسه بالضاد إذا مات وطى يقولون فاظت نفسه بالظاء وقيل إذا ذكرت النفس فبالضاد وإذا قيل فاظ من غير ذكر النفس فبالظاء وجاء في رواية أخرى وبيده الميزان يخفض ويرفع فقد يكون عبارة عن الرزق ومقاديره وقد يكون عبارة عن جملة المقادير ومعنى يخفض ويرفع قيل هو عبارة عن تقدير الرزق يقتره على من يشاء ويوسعه على من يشاء وقد يكونان عبارة عن تصرف المقادير بالخلق بالعز والذل والله أعلم فضل النفقة على العيال والمملوك (وإثم من ضيعهم أو حبس نفقتهم عنهم) مقصود الباب الحث على النفقة على العيال وبيان عظم الثواب فيه لأن منهم من تجب نفقته بالقرابة ومنهم من تكون مندوبة وتكون صدقة وصلة ومنهم من تكون واجبة بملك النكاح
81 أو ملك اليمين وهذا كله فاضل محثوث عليه وهو أفضل من صدقة التطوع ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في رواية ابن أبي شيبة (أعظمها أجرا الذي أنفقته على أهلك) مع أنه ذكر قبله النفقة في سبيل الله وفي العتق والصدقة ورجح النفقة على العيال على هذا كله لما ذكرناه وزاد تأكيدا بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر (كفى بالمرء اثما أن يحبس عمن يملك قوته) فقوته مفعول يحبس قوله (حدثنا سعيد بن محمد الجرمي) هو بالجيم قوله (قهرمان) بفتح القاف واسكان الهاء وفتح الراء وهو الخازن القائم بحوائج الانسان وهو بمعنى الوكيل وهو بلسان الفرس الابتداء في النفقة بالنفس ثم أهله ثم القرابة فيه حديث جابر (أن رجلا أعتق عبدا له عن دبر فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال ألك
82 مال غيره فقال لا فقال من يشتريه منى فاشتراه نعيم بن عبد الله العدوي بثمانمائة درهم فجاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفعها إليه ثم قال ابدأ بنفسك فتصدق عليها فان فضل شئ فلأهلك فان فضل عن أهلك شئ فلذى قرابتك فان فضل عن قرابتك شئ فهكذا وهكذا يقول فبين يديك وعن يمينك وعن شمالك) في هذا الحديث فوائد منها الابتداء في النفقة بالمذكور على هذا الترتيب ومنها أن الحقوق والفضائل إذا تزاحمت قدم الأوكد فالأوكد ومنها أن الأفضل في صدقة التطوع أن ينوعها في جهات الخير ووجوه البر بحسب المصلحة ولا ينحصر في جهة بعينها ومنها دلالة ظاهرة للشافعي وموافقيه في جواز بيع المدبر وقال مالك وأصحابه لا يجوز بيعه الا إذا كان على السيد دين فيباع فيه وهذا الحديث صريح أو ظاهر في الرد عليهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما باعه لينفقه سيده على نفسه والحديث صريح أو ظاهر في هذا ولهذا قال صلى الله عليه وسلم أبدأ بنفسك فتصدق عليها إلى آخره والله أعلم
83 فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج والأولاد (والوالدين ولو كانوا مشركين) قوله (وكان أحب أمواله إليه بيرحاء) اختلفوا في ضبط هذه اللفظة على أوجه قال القاضي رحمه الله روينا اللفظة عن شيوخنا بفتح الراء وضمها مع كسر الباء وبفتح الباء والراء قال الباجي قرأت هذه اللفظة على أبي ذر البروي بفتح الراء على كل حال قال وعليه أدركت أهل العلم والحفظ بالمشرق وقال لي الصوري هي بالفتح واتفقا على أن من رفع الراء وألزمها حكم الاعراب فقد أخطأ قال وبالرفع قرأناه على شيوخنا بالأندلس وهذا الموضع يعرف بقصر بنى جديلة قبلي المسجد وذكر مسلم رواية حماد بن سلمة هذا الحرف بريحاء بفتح الباء وكسر الراء وكذا سمعناه من أبي بحر عن العذري والسمرقندي وكان عند ابن سعيد عن البحري من رواية حماد بيرحاء بكسر الباء وفتح الراء وضبطه الحميدي من رواية حماد بيرحاء بفتح الباء والراء ووقع في كتاب أبي داود جعلت أرضى بأريحا لله وأكثر رواياتهم في هذا الحرف بالقصر ورويناه عن بعض شيوخنا بالوجهين وبالمد وجدته بخط الأصيلي وهو حائط يسمى بهذا الاسم وليس اسم بئر والحديث يدل عليه والله أعلم هذا آخر كلام القاضي قوله (قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن الله تعالى يقول في كتابه) إلى آخره فيه دلالة للمذهب الصحيح وقول الجمهور انه يجوز أن يقال إن الله يقول كما يقال إن الله قال وقال مطرف بن عبد الله بن شخير التابعي
84 لا يقال الله يقول وإنما يقال قال الله أو الله قال ولا يستعمل مضارعا وهذا غلط والصواب جوازه وقد قال الله تعالى والله يقول الحق وهو يهدى السبيل وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة باستعمال ذلك وقد أشرت إلى طرف منها في كتاب الأذكار وكأن من كرهه ظنه أنه يقتضى استئناف القول وقول الله تعالى قديم وهذا ظن عجيب فان المعنى مفهوم ولا لبس فيه وفي هذا الحديث استحباب الانفاق مما يحب ومشاورة أهل العلم والفضل في كيفية الصدقات ووجوه الطاعات وغيرها قوله صلى الله عليه وسلم (بخ ذلك ما رابح ذلك مال رابح) قال أهل اللغة يقال بخ باسكان الخاء وتنوينها مكسورة وحكى القاضي الكسر بلا تنوين وحكى الأحمر التشديد فيه قال القاضي وروى بالرفع فإذا كررت فالاختيار تحريك الأول منونا واسكان الثاني قال ابن دريد معناه تعظيم الأمر وتفخيمه وسكنت الخاء فيه كسكون اللام في هل وبل ومن قال بخ بكسره منونا شبهه بالأصوات كصه ومه قال ابن السكيت بخ بخ وبه به
85 بمعنى واحد وقال الداودي بخ كلمة تقال إذا حمد الفعل وقال غيره تقال عند الاعجاب وأما قوله صلى الله عليه وسلم مال رابح فضبطناه هنا بوجهين بالياء المثناة وبالموحدة وقال القاضي روايتنا فيه في كتاب مسلم بالموحدة واختلفت الرواة فيه عن مالك في البخاري والموطأ وغيرهما فمن رواه بالموحدة فمعناه ظاهر ومن رواه رايح بالمثناة فمعناه رايح عليك أجره ونفعه في الآخرة وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما سبق من أن الصدقة على الأقارب أفضل من الأجانب إذا كانوا محتاجين وفيه أن القرابة يرعى حقها في صلة الأرحام وان لم يجتمعوا الا في أب بعيد لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا طلحة أن يجعل صدقته في الأقربين فجعلها في أبي بن كعب وحسان ابن ثابت وإنما يجتمعان معه في الجد السابع قوله صلى الله عليه وسلم في قصة ميمونة حين أعتقت الجارية (لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك) فيه فضيلة صلة الأرحام والاحسان إلى الأقارب وأنه أفضل من العتق وهكذا وقعت هذه اللفظة في صحيح مسلم أخوالك باللام ووقعت في رواية غير الأصيلي في البخاري وفي رواية الأصيلي أخواتك بالتاء قال القاضي ولعله أصح بدليل رواية مالك في الموطأ أعطيتها أختك قلت الجميع صحيح ولا تعارض وقد قال صلى الله عليه وسلم ذلك كله وفيه الاعتناء بأقارب الأم اكراما بحقها وهو زيادة في برها وفيه جواز تبرع المرأة بما لها بغير اذن زوجها قوله صلى الله عليه وسلم (يا معشر النساء تصدقن) فيه أمر ولى الأمر رعيته بالصدقة وفعال الخير ووعظه النساء إذا لم يترتب عليه فتنة والمعشر الجماعة الذين صفتهم واحدة قوله صلى الله عليه وسلم (ولو من حليكن) هو بفتح الحاء واسكان اللام مفرد وأما الجمع فيقال بضم الحاء
86 وكسرها واللام مكسورة فيهما والياء مشددة قولها (فإن كان ذلك يجزى عنى) هو بفتح الياء أي يكفي وكذا قولها بعد أتجزي الصدقة عنهما بفتح التاء وقولها (أتجزي الصدقة عنهما على زوجيهما) هذه أفصح اللغات فيقال على زوجيهما وعلى زوجهما وعلى أزواجهما وهي أفصحهن وبها جاء القرآن العزيز في قوله تعالى فقد صغت قلوبكما وكذا قولها (وعلى أيتام في حجورهما) وشبه ذلك مما يكون لكل واحد من الاثنين منه واحد قولهما (ولا تخبر من نحن ثم أخبر بهما) قد يقال أنه اخلاف للوعد وافشاء للسر وجوابه أنه عارض ذلك جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوابه صلى الله عليه وسلم واجب محتم لا يجوز تأخيره ولا يقدم عليه غيره وقد تقرر أنه إذا تعارضت المصالح بدئ بأهمها قوله صلى الله عليه وسلم (لهما أجران أجر القرابة وأجر الصدقة)
87 فيه الحث على الصدقة على الأقارب وصلة الأرحام وأن فيها أجرين قوله (فذكرت لإبراهيم فحدثني عن أبي عبيدة) القائل فذكرت لإبراهيم هو الأعمش ومقصوده أنه رواه عن شيخين شقيق وأبي عبيدة وهذا المذكور في حديث امرأة ابن مسعود والمرأة الأنصارية من النفقة على أزواجهما وأيتام في حجورهما ونفقة أم سلمة على بنيها المراد به كله صدقة تطوع وسياق الأحاديث يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم (ان المسلم إذا أنفق على أهله نفقة يحتسبها كانت له صدقة) فيه بيان أن المراد بالصدقة والنفقة المطلقة في باقي الأحاديث إذا احتسبها ومعناه أراد بها وجه الله تعالى
88 فلا يدخل فيه من أنفقها ذاهلا ولكن يدخل المحتسب وطريقه في الاحتساب أن يتذكر أنه يجب عليه الانفاق على الزوجة وأطفال أولاده والمملوك وغيرهم ممن تجب نفقته على حسب أحوالهم واختلاف العلماء فيهم وأن غيرهم ممن ينفق عليه مندوب إلى الانفاق عليهم فينفق بنية أداء ما أمر به وقد أمر بالاحسان إليهم والله أعلم قوله (عن أسماء بنت أبي بكر قالت قدمت على أمي وهي راهبة أو راغبة) وفي الرواية الثانية راغبة بلا شك وفيها وهي مشركة فقلت للنبي صلى الله عليه وسلم أفأصل أمي قال نعم صلى أمك قال القاضي الصحيح راغبة بلا شك قال قيل معناه راغبة عن الاسلام وكارهة له وقيل معناه طامعة فيما أعطيتها حريصة عليه وفي رواية أبي داود قدمت على أمي راغبة في عهد قريش وهي راغمة مشركة فالأول راغبة بالباء أي طامعة طالبة صلتي والثانية بالميم معناه كارهة للاسلام ساخطته وفيه جواز صلة القريب المشرك وأم أسماء اسمها قيلة وقيل قتيلة بالقاف وتاء مثناة من فوق وهي قيلة بنت عبد العزى القرشية العامرية واختلف العلماء في أنها أسلمت أم ماتت على كفرها والأكثرون على موتها مشركة وصول ثواب الصدقة عن الميت إليه قوله (يا رسول الله ان أمي افتلتت نفسها ضبطناه نفسها ونفسها بنصب السين ورفعها فالرفع
89 على أنه مفعول ما لم يسم فاعله والنصب على أنه مفعول ثان قال القاضي أكثر روايتنا فيه بالنصب وقوله افتلتت بالفاء هذا هو صواب الذي رواه أهل الحديث وغيرهم ورواه ابن قتيبة اقتتلت نفسها بالقاف قال وهي كلمة يقال لمن مات فجأة ويقال أيضا لمن قتلته الجن والعشق والصواب الفاء قالوا ومعناه ماتت فجأة وكل شئ فعل بلا تمكث فقد افتلت ويقال افتلت الكلام واقترحه واقتضبه إذا ارتجله وقولها (أفلها أجر إن تصدقت عنها قال نعم) فقوله ان تصدقت هو بكسر الهمزة من إن وهذا لا خلاف فيه قال القاضي هكذا الرواية فيه قال ولا يصح غيره لأنه إنما سأل عما لم يفعله بعد وفي هذا الحديث أن الصدقة عن الميت تنفع الميت ويصله ثوابها وهو كذلك باجماع العلماء وكذا أجمعوا على وصول الدعاء وقضاء الدين بالنصوص الواردة في الجميع ويصح الحج عن الميت إذا كان حج الاسلام وكذا إذا وصى بحج التطوع على الأصح عندنا واختلف العلماء في الصوم إذا مات وعليه صوم فالراجح جوازه عنه للأحاديث الصحيحة فيه والمشهور في مذهبنا أن قراءة القرآن لا يصله ثوابها وقال جماعة من أصحابنا يصله ثوابها وبه قال أحمد بن حنبل وأما الصلاة وسائر الطاعات فلا تصله عندنا ولا عند الجمهور وقال أحمد يصله ثواب الجميع كالحج
90 بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف قوله صلى الله عليه وسلم (كل معروف صدقة) أي له حكمها في الثواب وفيه بيان ما ذكرناه في الترجمة وفيه أنه لا يحتقر شيئا من المعروف وأنه ينبغي أن لا يبخل به بل ينبغي أن يحضره قوله (ذهب أهل الدثور بالأجور) الدثور بضم الدال جمع دثر بفتحها وهو المال الكثير قوله صلى الله عليه وسلم (أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون ان بكل تسبيحة صدقة وكل تكبيرة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهى عن منكر صدقة) أما قوله صلى الله عليه وسلم ما تصدقون فالرواية فيه بتشديد الصاد والدال جميعا ويجوز في اللغة تخفيف الصاد وأما قوله صلى الله عليه وسلم وكل تكبيره صدقة وكل تحميده صدقة وكل تهليلة صدقة فرويناه بوجهين رفع صدقة ونصبه فالرفع على الاستئناف والنصب عطف على أن بكل تسبيحة صدقة قال القاضي يحتمل تسميتها صدقة أن لها أجرا كما للصدقة أجر وأن هذه الطاعات تماثل الصدقات في الأجور وسماها صدقة على طريق المقابلة وتجنيس الكلام وقيل معناه أنها صدقة على نفسه
91 قوله صلى الله عليه وسلم (وأمر بالمعروف صدقة ونهى عن منكر صدقة) فيه إشارة إلى ثبوت حكم الصدقة في كل فرد من أفراد الامر بالمعروف والنهى عن المنكر ولهذا نكره والثواب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أكثر منه في التسبيح والتحميد والتهليل لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية وقد يتعين ولا يتصور وقوعه نفلا والتسبيح والتحميد والتهليل نوافل ومعلوم أن أجر الفرض أكثر من أجر النفل لقوله عز وجل وما تقرب إلى عبدي بشئ أحب إلى من أداء ما افترضت عليه رواه البخاري من رواية أبي هريرة وقد قال أمام الحرمين من أصحابنا عن بعض العلماء أن ثواب الفرض يزيد على ثواب النافلة بسبعين درجة واستأنسوا فيه بحديث قوله صلى الله عليه وسلم (وفي بضع أحدكم صدقة) هو بضم الباء ويطلق على الجماع ويطلق على الفرج نفسه وكلاهما تصح ارادته هنا وفي هذا دليل على أن المباحات تصير طاعات بالنيات الصادقات فالجماع يكون عبادة إذا نوى به قضاء حق الزوجة ومعاشرتها بالمعروف الذي أمر الله تعالى به أو طلب ولد صالح أو اعفاف نفسه أو اعفاف الزوجة ومنعهما جميعا من النظر إلى حرام أو الفكر فيه أو الهم به أو غير ذلك من المقاصد الصالحة قوله (قالوا يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر قال أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر) فيه جواز القياس وهو مذهب العلماء كافة ولم يخالف فيه الا أهل الظاهر ولا يعتد بهم واما المنقول عن التابعين ونحوهم من ذم القياس فليس المراد به القياس الذي يعتمده الفقهاء المجتهدون وهذا القياس المذكور في الحديث هو من قياس العكس واختلف الأصوليون في العمل به وهذا الحديث دليل
92 لمن عمل به وهو الأصح والله أعلم وفي هذا الحديث فضيلة التسبيح وسائر الأذكار والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واحضار النية في المباحات وذكر العالم دليلا لبعض المسائل التي تخفى وتنبيه المفتى على مختصر الأدلة وجواز سؤال المستفتى عن بعض ما يخفى من الدليل إذا علم من حال المسؤول أنه لا يكره ذلك ولم يكن فيه سوء أدب والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر) ضبطنا أجرا بالنصب والرفع وهما ظاهران قوله صلى الله عليه وسلم (خلق كل انسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة مفصل) هو بفتح الميم وكسر الصاد قوله صلى الله عليه وسلم (عدد تلك الستين والثلثمائة السلامي) قد يقال وقع هنا إضافة ثلاث إلى مائة مع تعريف الأول وتنكير الثاني والمعروف لأهل العربية عكسه وهو تنكير الأول وتعريف الثاني وقد سبق بيان هذا والجواب عنه وكيفية قراءته في كتاب الايمان في حديث حذيفة في حديث أحصوا لي كم يلفظ بالاسلام قلنا أتخاف علينا ونحن بين الستمائة وأما السلامي فبضم السين المهملة وتخفيف اللام وهو المفصل وجمعه سلاميات بفتح الميم وتخفيف الياء قوله صلى الله عليه وسلم (زحزح نفسه عن النار) أي باعدها قوله (فإنه يمشى يومئذ وقد زحزح نفسه عن النار) قال أبو توبة وربما قال يمسى ووقع لأكثر رواة كتاب مسلم الأول يمشى بفتح
93 الياء وبالشين المعجمة والثاني بضمها وبالسين المهملة ولبعضهم عكسه وكلاهما صحيح وأما قوله بعده في رواية الدارمي وقال أنه يمشى فبالمهملة لا غير وأما قوله بعده في حديث أبي بكر بن نافع وقال فإنه يمشى يومئذ فبالمعجمة باتفاقهم قوله صلى الله عليه وسلم (تعين ذا الحاجة الملهوف) الملهوف عند أهل اللغة يطلق على المتحسر وعلى المضطر وعلى المظلوم وقولهم يا لهف نفسي على كذا كلمة يتحسر بها على ما فات ويقال لهف بكسر الهاء يلهف بفتحها لهفا باسكانها أي حزن وتحسر وكذلك التلهف قوله صلى الله عليه وسلم (تمسك عن الشر فإنها صدقة) معناه صدقة على نفسه كما في غير هذه الرواية والمراد أنه إذا أمسك عن الشر لله تعالى كان له أجر على ذلك كما أن للمتصدق بالمال أجرا قوله صلى الله عليه وسلم (كل سلامي من الناس عليه
94 صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس) قال العلماء المراد صدقة ندب وترغيب لا ايجاب والزام قوله صلى الله عليه وسلم (يعدل بين الاثنين صدقة) أي يصلح بينهما بالعدل قوله (عن معاوية بن أبي مزرد) هو بضم الميم وفتح الزاي وكسر الراء المشددة واسم أبي مزرد عبد الرحمن بن يسار قوله صلى الله عليه وسلم (ما من يوم يصبح العباد فيه الا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا) قال العلماء هذا في الاتفاق في الطاعات ومكارم الأخلاق وعلى العيال والضيفان والصدقات ونحو ذلك بحيث لا يذم ولا يسمى سرفا والامساك المذموم هو الامساك عن هذا قوله صلى الله عليه وسلم (تصدقوا فيوشك الرجل يمشى بصدقته فيقول الذي أعطيها لو جئتنا بها بالأمس قبلتها
95 فاما الآن فلا حاجة لي بها فلا يجد من يقبلها) معنى أعطيها أي عرضت عليه وفي هذا الحديث و الأحاديث بعده مما ورد في كثرة المال في آخر الزمان وأن الانسان لا يجد من يقبل صدقته الحث على المبادرة بالصدقة واغتنام امكانها قبل تعذرها وقد صرح بهذا المعنى بقوله صلى الله عليه وسلم في أول الحديث تصدقوا فيوشك الرجل إلى آخره وسبب عدم قبولهم الصدقة في آخر الزمان لكثرة الأموال وظهور كنوز الأرض ووضع البركات فيها كما ثبت في الصحيح بعد هلاك يأجوج ومأجوج وقلة آمالهم وقرب الساعة وعدم ادخارهم المال وكثرة الصدقات والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (يطوف الرجل بصدقته من الذهب) إنما هذا يتضمن التنبيه على ما سواه لأنه إذا كان الذهب لا يقبله أحد فكيف الظن بغيره وقوله صلى الله عليه وسلم يطوف إشارة إلى أنه يتردد بها بين الناس فلا يجد من يقبلها فتحصل المبالغة والتنبيه على عدم قبول الصدقة بثلاثة أشياء كونه يعرضها ويطوف بها وهي ذهب قوله ويرى الرجل الواحد ثم قال وفي رواية ابن براد وترى هكذا هو في جميع النسخ الأول يرى بضم الياء المثناة تحت والثاني بفتح المثناة فوق قوله صلى الله عليه وسلم (ويرى الرجل الواحد تتبعه أربعون امرأة يلذن به من قلة الرجال وكثرة النساء) معنى يلذن به أي ينتمين إليه ليقوم بحوائجهن ويذب عنهن كقبيلة بقي من رجالها واحد فقط وبقيت نساؤها فيلذن بذلك الرجل ليذب عنهن ويقوم بحوائجهن ولا يطمع فيهن أحد بسببه وأما سبب قلة الرجال وكثرة النساء فهو الحروب والقتال
96 الذي يقع في آخر الزمان وتراكم الملاحم كما قال صلى الله عليه وسلم ويكث الهرج أي القتل قوله (حدثنا يعقوب وهو ابن عبد الرحمن القاري) هو بتشديد الياء منسوب إلى القارة القبيلة المعروفة وسبق بيانه مرات قوله صلى الله عليه وسلم (حتت عود أرض العرب مروجا وأنهارا) معناه والله أعلم أنهم يتركونها ويعرضون عنها فتبقى مهملة لا تزرع ولا تسقى من مياهها وذلك لقلة الرجال وكثرة الحروب وتراك الفتن وقرب الساعة وقلة الآمال وعدم الفراغ لذلك والاهتمام به قوله صلى الله عليه وسلم (حتى يهم رب المال من يقبل صدقته) ضبطوه بوجهين أجودهما وأشهرهما يهم بضم الياء وكسر الهاء ويكون رب المال منصوبا مفعولا والفاعل من وتقديره يحزنه ويهتم له والثاني يهم بفتح الياء وضم الهاء ويكون رب المال مرفوعا فاعلا وتقديره يهم رب المال من يقبل صدقته أي يقصده قال أهل اللغة يقال أهمه إذا أحزنه وهمه إذا أذابه ومنه قولهم همك ما أهمك أي أذابك الشئ الذي أحزنك فأذهب شحمك وعلى الوجه الثاني هو من هم به إذا قصده قوله صلى الله عليه وسلم (لا أرب لي فيه) بفتح الهمزة والراء أي لا حاجة قوله (محمد بن يزيد الرفاعي) منسوب إلى جد له وهو محمد بن يزيد بن محمد بن كثير
97 ابن رفاعة بن سماعة أبو هشام الرفاعي قاضى بغداد قوله صلى الله عليه وسلم (تقئ الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة) قال ابن السكيت الفلذ القطعة من كبد البعير وقال غيره هي القطعة من اللحم ومعنى الحديث التشبيه أي تخرج ما في جوفها من القطع المدفونة فيها والأسطوان بضم الهمزة والطاء وهو جمع أسطوانة وهي السارية والعمود وشبهه بالأسطوان لعظمه وكثرته قوله صلى الله عليه وسلم (ولا يقبل الله الا الطيب) المراد بالطيب هنا الحلال قوله صلى الله عليه وسلم (الا أخذها الرحمن بيمينه وان كانت تمرة فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل) قال المازري قد ذكرنا استحالة الجارحة على الله سبحانه وتعالى وأن هذا الحديث وشبهه إنما عبر به على ما اعتادوا في خطابهم ليفهموا فكنى هنا عن قبول الصدقة بأخذها في الكف وعن تضعيف أجرها بالتربية قال القاضي عياض لما كان الشئ الذي يرتضى ويعز يتلقى باليمين ويؤخذ بها استعمل في مثل هذا واستعير للقبول والرضا كما قال الشاعر إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين قال وقيل عبر باليمين هنا عن جهة القبول والرضا إذ الشمال بضده في هذا قال وقيل المراد بكف الرحمن هنا ويمينه كف الذي تدفع إليه الصدقة واضافتها إلى الله تعالى إضافة ملك واختصاص لوضع
98 هذه الصدقة فيها لله عز وجل قال وقد قيل في تربيتها وتعظيمها حتى تكون أعظم من الجبل أن المراد بذلك تعظيم أجرها وتضعيف ثوابها قال ويصح أن يكون على ظاهره وأن تعظم ذاتها ويبارك الله تعالى فيها ويزيدها من فضله حتى تثقل في الميزان وهذا الحديث نحو قول الله تعالى يمحق الله الربا ويربى الصدقات قوله صلى الله عليه وسلم (كما يربى أحدكم فلوه أو فصيله) قال أهل اللغة الفلو المهر سمى بذلك لأنه فلى عن أمه أي فصل وعزل والفصيل ولد الناقة إذا فصل من ارضاع أمه فعيل بمعنى مفعول كجريح وقتيل بمعنى مجروح ومقتول وفي الفلو لغتان فصيحتان أفصحهما وأشهرهما فتح الفاء وضم اللام وتشديد الواو والثانية كسر الفاء واسكان اللام وتخفيف الواو قوله صلى الله عليه وسلم (فلوه أو قلوصه) هي بفتح القاف وضم اللام وهي الناقة الفتية
99 ولا يطلق على الذكر قوله صلى الله عليه وسلم (ان الله طيب لا يقبل الا طيبا) قال القاضي الطيب في صفة الله تعالى بمعنى المنزه عن النقائص وهو بمعنى القدوس وأصل الطيب الزكاة والطهارة والسلامة من الخبث وهذا الحديث أحد الأحاديث التي هي قواعد الاسلام ومباني الاحكام وقد جمعت منها أربعين حديثا في جزء وفيه الحث على الانفاق من الحلال والنهى عن الانفاق من غيره وفيه أن المشروب والمأكول والملبوس ونحو ذلك ينبغي أن يكون حلالا خالصا لا شبهة فيه وأن من أراد الدعاء كان أولى بالاعتناء بذلك من غيره قوله (ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب) إلى آخره معناه والله أعلم أنه يطيل السفر في وجوه الطاعات كحج وزيارة مستحبة وصلة رحم وغير ذلك قوله صلى الله عليه وسلم (وغذي بالحرام) هو بضم الغين وتخفيف الذال المكسورة قوله صلى الله عليه وسلم (فأنى يستجاب لذلك) أي من أين يستجاب لمن هذه صفته وكيف يستجاب له الحث على الصدقة ولو بشق تمرة (أو كلمة طيبة وأنها حجاب من النار) قوله صلى الله عليه وسلم (من استطاع منكم أن يستتر من النار ولو بشق تمرة فليفعل) شق
100 التمرة بكسر الشين نصفها وجانبها وفيه الحث على الصدقة وأنه لا يمتنع منها لقلتها وأن قليلها سبب للنجاة من النار قوله (ليس بينه وبينه ترجمان) هو بفتح التاء وضمها وهو المعبر عن لسان بلسان قوله (ولو بكلمة طيبة) فيه أن الكلمة الطيبة سبب للنجاة من النار وهي الكلمة التي فيها تطيب قلب انسان إذا كانت مباحة أو طاعة قوله (حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن خيثمة عن عدى بن حاتم) هذا الاسناد كله كوفيون وفيه ثلاثة تابعيون بعضهم عن بعض الأعمش وعمرو وخيثمة قوله (فأعرض وأشاح) هو بالشين المعجمة والحاء المهملة ومعناه قال الخليل وغيره معناه نجاه وعدل به وقال
101 الأكثرون المشيح الحذر والجاد في الأمر وقيل المقبل وقيل الهارب وقيل المقبل إليك المانع لما وراء ظهره فأشاح هنا يحتمل هذه المعاني أي حدر النار كأنه ينظر إليها أو جد في الايضاح بايقانها أو أقبل إليك خطابا أو أعرض كالهارب قوله (مجتابي النمار أو العباء) النمار بكسر النون جمع نمرة بفتحها وهي ثياب صوف فيها تنمير والعباء بالمد وبفتح العين جمع عباءة وعباية لغتان وقوله مجتابي النمار أي خرقوها وقوروا وسطها قوله (فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم) هو بالعين المهملة أي تغير قوله (فصلى ثم خطب) فيه استحباب جمع الناس للأمور المهمة ووعظهم وحثهم على مصالحهم وتحذيرهم من القبائح قوله (فقال أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة أو سبب قراءة هذه الآية أنها أبلغ
102 في الحث على الصدقة عليهم ولما فيها من تأكد الحق لكونهم أخوة قوله (رأيت كومين من طعام وثياب) هو بفتح الكاف وضمها قال القاضي ضبطه بعضهم بالفتح وبعضهم بالضم قال ابن سراج هو بالضم اسم لما كومه وبالفتح المرة الواحدة قال والكومة بالضم الصبرة والكوم العظيم من كل شئ والكوم المكان المرتفع كالرابية قال القاضي فالفتح هنا أولى لأن مقصوده الكثرة والتشبيه بالرابية قوله (حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة) فقوله يتهلل أي يستنير فرحا وسرورا وقوله مذهبة ضبطوه بوجهين أحدهما وهو المشهور وبه جزم القاضي والجمهور مذهبة بذال معجمة وفتح الهاء وبعدها باء موحدة والثاني ولم يذكر الحميدي في الجمع بين الصحيحين غيره مدهنة بدال مهملة وضم الهاء وبعدها نون وشرحه الحميدي في كتابه غريب الجمع بين الصحيحين فقال هو وغيره ممن فسر هذه الرواية ان صحت المدهن الاناء الذي يدهن فيه وهو أيضا اسم للنقرة في الجبل التي يستجمع فيها ماء المطر فشبه صفاء وجهه الكريم بصفاء هذا الماء وبصفاء الدهن والمدهن وقال القاضي عياض في المشارق وغيره من الأئمة هذا تصحيف وهو بالذال المعجمة والباء الموحدة وهو المعروف في الروايات وعلى هذا ذكر القاضي وجهين في تفسيره أحدهما معناه فضة مذهبة فهو أبلغ في حسن الوجه واشراقه والثاني شبهه في حسنه ونوره بالمذهبة من الجلود وجمعها مذاهب وهي شئ كانت العرب تصنعه من جلود وتجعل فيها خطوطا مذهبة يرى بعضها أثر بعض وأما سبب سروره صلى الله عليه وسلم ففرحا بمبادرة المسلمين إلى طاعة الله تعالى وبذل أموالهم لله وامتثال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولدفع حاجة هؤلاء المحتاجين وشفقة المسلمين بعضهم على بعض وتعاونهم على البر والتقوى وينبغي للانسان إذا رأى شيئا من هذا القبيل أن يفرح ويظهر سروره ويكون فرحه لما ذكرناه قوله صلى الله عليه وسلم
103 (من سن في الاسلام سنة حسنة فله أجرها) إلى آخره فيه الحث على الابتداء بالخيرات وسن السنن الحسنات والتحذير من اختراع الأباطيل والمستقبحات وسبب هذا الكلام في هذا الحديث أنه قال في أوله فجاء رجل بصرة كادت كفه تعجز عنها فتتابع الناس وكان الفضل العظيم للبادي بهذا الخير والفاتح لباب هذا الاحسان وفي هذا الحديث تخصيص قوله صلى الله عليه وسلم كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وأن المراد به المحدثات الباطلة والبدع المذمومة وقد سبق بيان هذا في كتاب صلاة الجمعة وذكرنا هناك أن البدع خمسة أقسام واجبة
104 ومندوبة ومحرمة ومكروهة ومباحة قوله (عن عبد الرحمن بن هلال العبسي) هو بالباء الموحدة الحمل بأجرة يتصدق بها والنهى الشديد (عن تنقيص المتصدق بقليل) قوله (كنا نحامل) وفي الرواية الثانية كنا نحامل على ظهورنا معناه نحمل على ظهورنا بالأجرة ونتصدق من تلك الأجرة أو نتصدق بها كلها ففيه التحريض على الاعتناء بالصدقة وأنه إذا لم يكن له مال يتوصل إلى تحصيل ما يتصدق به من حمل بالأجرة أو غيره من الأسباب المباحة
105 فضل المنيحة قوله صلى الله عليه وسلم (ألا رجل يمنح أهل بيت ناقة تغدو بعس وتروح بعس) العس بضم العين وتشديد السين المهملة وهو القدح الكبير هكذا ضبطناه وروى بعشاء بشين معجمة ممدودة قال القاضي وهذه رواية أكثر رواة مسلم قال والذي سمعناه من متقنى شيوخنا بعس وهو القدح الضخم قال وهذا هو الصواب المعروف قال وروى من رواية الحميدي في غير مسلم بعساء بالسين المهملة وفسره الحميدي بالعس الكبير وهو من أهل اللسان قال وضبطنا عن أبي مروان بن سراج بكسر العين وفتحها معا ولم يقيده الجياني وأبو الحسن ابن أبي مروان عنه الا بالكسر وحده هذا كلام القاضي ووقع في كثير من نسخ بلادنا أو أكثرها من صحيح مسلم بعساء بسين مهملة ممدودة والعين مفتوحة وقوله يمنح بفتح النون أي يعطيهم ناقة يأكلون لبنها مدة ثم يردونها إليه وقد تكون المنيحة عطية للرقبة بمنافعها مؤبدة ثم الهبة قوله صلى الله عليه وسلم (من منح منيحة غدت بصدقة وراحت بصدقة صبوحها وغبوقها) وقع في بعض النسخ منيحة وبعضها منحة بحذف الياء قال أهل اللغة المنحة بكسر الميم والمنيحة بفتحها مع زيادة الياء هي العطية وتكون في الحيوان وفي الثمار وغيرهما وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم منح أم أيمن عذاقا أي نخيلا ثم قد تكون المنيحة عطية للرقبة بمنافعها وهي الهبة وقد تكون عطية اللبن أو الثمرة مدة وتكون الرقبة باقية على ملك صاحبها ويردها إليه إذا انقضى اللبن
106 أو الثمر المأذون فيه وقوله صبوحها وغبوقها الصبوح بفتح الصاد الشرب أول النهار والغبوق بفتح الغين أول الليل والصبوح والغبوق منصوبان على الظرف وقال القاضي عياض هما مجروران على البدل من قوله صدقة قال ويصح نصبهما على الظرف وقوله (عن أبي هريرة يبلغ به ألا رجل يمنح) معناه يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه قال عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا رجل يمنح ولا فرق بين هاتين الصيغتين باتفاق العلماء والله أعلم مثل المنفق والبخيل قوله (قال عمر وحدثنا سفيان بن عيينة قال وقال ابن جريج) هكذا هو في النسخ وقال ابن جريج بالواو وهي صحيحة مليحة وإنما أتى بالواو لأن ابن عيينة قال لعمرو وقال ابن جريج كذا فإذا روى عمرو الثاني من تلك الأحاديث أتى بالواو لأن ابن عيينة قال في الثاني وقال ابن جريج كذا وقد سبق التنبيه على مثل هذا مرات في أول الكتاب قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عمرو الناقد (مثل المنفق والمتصدق كمثل رجل عليه جبتان أو جنتان من لدن ثديهما إلى تراقيهما) ثم قال (فإذا أراد المنفق أن يتصدق سبغت وإذا أراد البخيل أن ينفق قلصت) هكذا وقع هذا الحديث في جميع النسخ من رواية عمرو مثل المنفق والمتصدق قال القاضي وغيره هذا وهم وصوابه مثل ما وقع في باقي الروايات مثل البخيل والمتصدق وتفسيرهما آخر الحديث يبين هذا وقد يحتمل أن صحة رواية عمرو هكذا أن تكون على وجهها وفيها محذوف تقديره مثل المنفق والمتصدق وقسيمهما
107 وهو البخيل وحذف البخيل لدلالة المنفق والمتصدق عليه كقول الله تعالى تقيكم الحر أي والبرد وحذف ذكر البرد لدلالة الكلام عليه وأما قوله والمتصدق فوقع في بعض الأصول المتصدق بالتاء وفي بعضها المصدق بحذفها وتشديد الصاد وهما صحيحان وأما قوله كمثل رجل فهكذا وقع في الأصول كلها كمثل رجل بالافراد والظاهر أنه تغيير من بعض الرواة وصوابه كمثل رجلين وأما قوله جبتان أو جنتان فالأول بالباء والثاني بالنون ووقع في بعض الأصول عكسه وأما قوله من لدن ثديهما فكذا هو في كثير من النسخ المعتمدة أو أكثرها ثديهما بضم الثاء وبياء واحدة مشددة على الجمع وفي بعضهما ثدييهما بالتثنية قال القاضي عياض وقع في هذا الحديث أوهام كثيرة من الرواة وتصحيف وتحريف وتقديم وتأخير ويعرف صوابه من الأحاديث التي بعده فمنه مثل المنفق والمتصدق وصوابه المتصدق والبخيل ومنه كمثل رجل وصوابه رجلين عليهما جنتان ومنه قوله جنتان أو جبتان بالشك وصوابه جنتان بالنون بلا شك كما في الحديث الآخر بالنون بلا شك والجنة الدرع ويدل عليه في الحديث نفسه قوله (فأخذت كل حلقة موضعها) وفي الحديث الآخر جنتان من حديد ومنه قوله سبغت عليه أو مرت كذا هو في النسخ مرت بالراء قيل إن صوابه مدت بالدال بمعنى سبغت وكما قال في الحديث الآخر انبسطت لكنه قد يصح مرت على نحو هذا المعنى والسابغ الكامل وقد رواه البخاري مادت بدال
108 مخففة من ماد إذا مال ورواه بعضهم مارت ومعناه سالت عليه وامتدت وقال الأزهري معناه ترددت وذهبت وجاءت يعنى لكمالها ومنه قوله وإذا أراد البخيل أن ينفق قلصت عليه وأخذت كل حلقة موضعها حتى تجن بنانه ويعفو أثره قال فقال أبو هريرة يوسعها فلا تتسع وفي هذا الكلام اختلال كثير لأن قوله تجن بنانه ويعفو أثره إنما جاء في المتصدق لا في البخيل وهو على ضد ما هو وصف البخيل من قوله قلصت كل حلقة موضعها وقوله يوسعها فلا تتسع وهذا من وصف البخيل فأدخله في وصف المتصدق فاختل الكلام وتناقض وقد ذكر في الأحاديث على الصواب ومنه رواية بعضهم تحز ثيابه بالحاء والزاي وهو وهم والصواب رواية الجمهور تجن بالجيم والنون أي تستتر ومنه رواية بعضهم ثيابه بالثاء المثلثة وهو وهم والصواب بنانه بالنون وهو رواية الجمهور كما قال في الحديث الآخر أنامله ومعنى تقلصت انقبضت ومعنى يعفو أثره أي يمحى أثر مشيه بسبوغها وكمالها وهو تمثيل لنماء المال بالصدقة والانفاق والبخل بضد ذلك وقيل هو تمثيل لكثرة الجود والبخل وأن المعطى إذا أعطى انبسطت يداه بالعطاء وتعود ذلك وإذا أمسك صار ذلك عادة له وقيل معنى يمحو أثره أي يذهب بخطاياه ويمحوها وقيل في البخيل قلصت ولزمت كل حلقة مكانها أي يحمى عليه يوم القيامة فيكوى بها والصواب الأول والحديث جاء على التمثيل لا على الخبر عن كائن وقيل ضرب المثل بهما لأن المنفق يستره الله تعالى بنفقته ويستر عوراته في الدنيا والآخرة كستر هذه الجنة لابسها والبخيل كمن لبس جبة إلى ثدييه فيبقى مكشوفا بادي العورة مفتضحا في الدنيا والآخرة وهذا آخر كلام القاضي عياض رحمه الله تعالى قوله صلى الله عليه وسلم في الروايتين الأخريين (كمثل رجلين ومثل رجلين عليهما جنتان) هما بالنون في هذين الموضعين بلا شك ولا خلاف قوله (فانا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بإصبعه في جيبه فلو رأيته
109 يوسعها فلا توسع فقوله رأيته بفتح التاء قوله توسع بفتح التاء وأصله تتوسع وفي هذا الدليل على لباس القميص وكذا ترجم عليه البخاري باب جيب القميص من عند الصدر لأنه المفهوم من لباس النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة مع أحاديث صحيحة جاءت به والله أعلم ثبوت أجر المتصدق وان وقعت الصدقة في يد فاسق ونحوه فيه حديث المتصدق على سارق وزانية وغنى وفيه ثبوت الثواب في الصدقة وإن كان الآخذ فاسقا وغنيا ففي كل كبد حرى أجر وهذا في صدقة التطوع وأما الزكاة فلا يجزى دفعها إلى غنى
110 أجر الخازن الأمين والمرأة إذا تصدقت من بيت زوجها (غير مفسدة باذنه الصريح والعرفي) قوله صلى الله عليه وسلم في الخازن الأمين الذي يعطى ما أمر به أحد المتصدقين وفي رواية (إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة كان لها أجرها بما أنفقت ولزوجها أجره بما كسب وللخازن مثل ذلك لا ينقص بعضهم أجر بعض شيئا) وفي رواية من طعام زوجها وفي رواية في العبد إذا أنفق من مال مواليه قال الأجر بينكما نصفان وفي رواية ولا تصم المرأة وبعلها شاهد الا باذنه ولا تأذن في بيته وهو شاهد الا باذنه وما أنفقت من كسبه من غير أمره فان نصف أجره له معنى هذه الأحاديث أن المشارك في الطاعة مشارك في الأجر ومعنى المشاركة أن له اجرا كما لصاحبه أجر وليس معناه أن يزاحمه في أجره والمراد المشاركة في أصل الثواب
111 فيكون لهذا ثواب ولهذا ثواب وإن كان أحدهما أكثر ولا يلزم أن يكون مقدار ثوابهما سواء بل قد يكون ثواب هذا أكثر وقد يكون عكسه فإذا أعطى المالك لخازنه أو امرأته أو غيرهما مائة درهم أو نحوها ليوصلها إلى مستحق الصدقة على باب داره أو نحوه فأجر المالك أكثر وان أعطاه رمانة أو رغيفا ونحوهما مما ليس له كثير قيمة ليذهب به إلى محتاج في مسافة بعيدة بحيث يقابل مشى الذاهب إليه بأجرة تزيد على الرمانة والرغيف فأجر الوكيل أكثر وقد يكون عمله قدر الرغيف مثلا فيكون مقدار الاجر سواء وأما قوله صلى الله عليه وسلم (الأجر بينكما نصفان) فمعناه قسمان وإن كان أحدهما أكثر كما قال الشاعر إذا مت كان الناس نصفان بيننا وأشار القاضي إلى أنه يحتمل أيضا أن يكون سواء لأن الأجر فضل من الله تعالى يؤتيه من يشاء ولا يدرك بقياس ولا هو بحسب الاعمال بل ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والمختار الأول وقوله صلى الله عليه وسلم الاجر بينكما ليس معناه أن الأجر الذي لأحدهما يزدحمان فيه بل معناه أن هذه النفقة والصدقة التي أخرجها الخازن أو المرأة أو المملوك ونحوهم بإذن المالك يترتب على جملتها ثواب على قدر المال والعمل فيكون ذلك مقسوما بينهما لهذا نصيب بماله ولهذا نصيب بعمله فلا يزاحم صاحب المال العامل في نصيب عمله ولا يزاحم العامل صاحب المال في نصيب ماله واعلم أنه لا بد لعامل وهو الخازن وللزوجة والمملوك من اذن المالك في ذلك فإن لم يكن اذن أصلا فلا أجر لأحد من هؤلاء الثلاثة بل عليهم وزر بتصرفهم في مال غيرهم بغير اذنه والاذن ضربان أحدهما الإذن الصريح في النفقة والصدقة والثاني الاذن المفهوم من اطراد العرف والعادة كاعطاء السائل كسرة ونحوها مما جرت العادة به واطرد العرف فيه وعلم بالعرف رضاء الزوج والمالك به فاذنه في ذلك حاصل وان لم يتكلم وهذا إذا علم رضاه لاطراد العرف وعلم أن نفسه كنفوس غالب الناس في السماحة بذلك والرضا به فان اضطرب العرف وشك في رضاه أو كان شخصا يشح بذلك وعلم من حاله ذلك أو شك فيه لم يجز للمرأة وغيرها التصدق من ماله الا بصريح اذنه وأما قوله صلى الله عليه وسلم (وما أنفقت من كسبه من غير أمره فان نصف أجره له) فمعناه من غير أمره الصريح في ذلك القدر المعين ويكون معها اذن عام سابق متناول لهذا القدر وغيره وذلك الاذن الذي قد بيناه سابقا اما بالصريح واما بالعرف ولابد من هذا التأويل لأنه صلى الله عليه وسلم جعل
112 الأجر مناصفة وفي رواية أبى داود فلها نصف أجره ومعلوم أنها إذا أنفقت من غير اذن صريح ولا معروف من العرف فلا أجر لها بل عليها وزر فتعين تأويله واعلم أن هذا كله مفروض في قدر يسير يعلم رضا المالك به في العادة فان زاد على المتعارف لم يجز وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة فأشار صلى الله عليه وسلم إلى أنه قدر يعلم رضا الزوج به في العادة ونبه بالطعام أيضا على ذلك لأنه يسمح به في العادة بخلاف الدراهم والدنانير في حق أكثر الناس وفي كثير من الأحوال واعلم أن المراد بنفقة المرأة والعبد والخازن النفقة على عيال صاحب المال وغلمانه ومصالحه وقاصديه من ضيف وابن سبيل ونحوهما وكذلك صدقتهم المأذون فيها بالصريح أو العرف والله أعلم وقوله صلى الله عليه وسلم (الخازن المسلم الأمين) إلى آخره هذه الأوصاف شروط لحصول هذا الثواب فينبغي أن يعتنى بها ويحافظ عليها قوله صلى الله عليه وسلم (أحد المتصدقين) هو بفتح القاف على التثنية ومعناه له أجر متصدق وتفصيله كما سبق وقوله صلى الله عليه وسلم (إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها) أي من طعام زوجها الذي في بيتها كما صرح به في الرواية الأخرى قوله صلى الله عليه وسلم (إذا أنفقت المرأة من بيتها زوجها غير مفسدة كان لها أجرها وله مثله بما اكتسب ولها بما أنفقت وللخازن مثل ذلك من غير أن ينتقص من أجورهم
113 شيئا) هكذا وقع في جميع النسخ شيئا بالنصب فيقدر له ناصب فيحتمل أن يكون تقديره من غير أن ينقص الله من أجورهم شيئا ويحتمل أن يقدر من غير أن ينقص الزوج من أجر المرأة والخازن شيئا وجمع ضميرهما مجازا على قول الأكثرين ان أقل الجمع ثلاثة أو حقيقة على قول من قال أقل الجمع اثنان قوله (مولى آبي اللحم) هو بهمزة ممدودة وكسر الباء قيل لأنه كان لا يأكل اللحم وقيل لا يأكل ما ذبح للأصنام واسم آبي اللحم عبد الله وقيل خلف وقيل الحويرث الغفاري وهو صحابي استشهد يوم حنين روى عمير مولاه قوله (كنت مملوكا فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أأتصدق من مال موالي بشئ قال نعم الأجر بينكما نصفان) هذا محمول على ما سبق أنه استأذن في الصدقة بقدر يعلم رضا سيده به وقوله (أمرني مولاي أن أقدد لحما فجاءني مسكين فأطعمته فعلم ذلك مولاي فضربني فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فدعاه فقال لم ضربته فقال يعطى طعامي بغير أن آمره فقال الأجر بينكما) هذا محمول على أن عميرا تصدق بشئ يظن أن مولاه يرضى به ولم يرض به مولاه فلعمير أجر لأنه فعل شيئا يعتقد طاعة بنية الطاعة ولمولاه أجر لأن ماله تلف عليه ومعنى الأجر بينكما أي لكل منكما أجر وليس المراد أن أجر نفس المال يتقاسمانه وقد سبق بيان هذا قريبا فهذا الذي ذكرته من تأويله هو المعتمد وقد وقع
114 في كلام بعضهم ما لا يرتضى من تفسيره قوله صلى الله عليه وسلم (لا تصم المرأة وبعلها شاهد الا باذنه) هذا محمول على صوم التطوع والمندوب الذي ليس له زمن معين وهذا النهى للتحريم صرح به أصحابنا وسببه أن الزوج له حق الاستمتاع بها في كل الأيام وحقه فيه واجب على الفور فلا يفوته بتطوع ولا بواجب على التراخي فان قيل فينبغي أن يجوز لها الصوم بغير اذنه فان أراد الاستمتاع بها كان له ذلك ويفسد صومها فالجواب أن صومها يمنعه من الاستمتاع في العادة لأنه يهاب انتهاك الصوم بالافساد وقوله صلى الله عليه وسلم وزوجها شاهد أي مقيم في البلد أما إذا كان مسافرا فلها الصوم لأنه لا يتأتى منه الاستمتاع إذا لم تكن معه قوله صلى الله عليه وسلم (ولا تأذن في بيته وهو شاهد الا باذنه) فيه إشارة إلى أنه لا يفتات على الزوج وغيره من مالكي البيوت وغيرها بالاذن في أملاكهم الا باذنهم وهذا محمول على ما لا يعلم رضا الزوج ونحوه به فان علمت المرأة ونحوها رضاه به جاز كما سبق في النفقة فضل من ضم إلى الصدقة غيرها من أنواع البر قوله صلى الله عليه وسلم (من أنفق زوجين في سبيل الله نودي في الجنة يا عبد الله هذا خير)
115 قال القاضي قال الهروي في تفسير هذا الحديث قيل وما زوجان قال فرسان أو عبدان أو بعيران وقال ابن عرفة كل شئ قرن بصاحبه فهو زوج يقال زوجت بين الإبل إذا قرنت بعيرا ببعير وقيل درهم ودينار أو درهم وثوب قال والزوج يقع على الاثنين ويقع على الواحد وقيل إنما يقع على الواحد إذا كان معه آخر ويقع الزوج أيضا على الصنف وفسر بقوله تعالى أزواجا ثلاثة وقيل يحتمل أن يكون هذا الحديث في جميع أعمال البر من صلاتين أو صيام يومين والمطلوب تشفيع صدقة بأخرى والتنبيه على فضل الصدقة والنفقة في الطاعة والاستكثار منها وقوله في سبيل الله قيل هو على العموم في جميع وجوه الخير وقيل هو مخصوص بالجهاد والأول أصح وأظهر هذا آخر كلام القاضي قوله صلى الله عليه وسلم (نودي في الجنة يا عبد الله هذا خير) قيل معناه لك هنا خير وثواب وغبطة وقيل معناه هذا الباب فيما نعتقده خير لك من غيره من الأبواب لكثرة ثوابه ونعيمه فتعال فادخل منه ولا بد من تقدير ما ذكرناه أن كل مناد يعتقد ذلك الباب أفضل من غيره قوله صلى الله عليه وسلم (فمن كان من أهل الصلاة دعى من باب الصلاة) وذكر مثله في الصدقة والجهاد والصيام قال العلماء معناه من كان الغالب عليه في عمله وطاعته ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في صاحب الصوم (دعى من باب الريان) قال العلماء سمى باب الريان تنبيها على أن العطشان بالصوم في الهواجر سيروى
116 وعاقبته إليه وهو مشتق من الري قوله صلى الله عليه وسلم (دعاه خزنة الجنة كل خزنة باب أي فل هلم) هكذا ضبطناه أي فل بضم اللام وهو المشهور ولم يذكر القاضي وآخرون غيره وضبطه بعضهم باسكان اللام والأول أصوب قال القاضي معناه أي فلان فرخم ونقل اعراب الكلمة على احدى اللغتين في الترخيم قال وقيل فل لغة في فلان في غير النداء والترخيم قوله (لا توى عليه) وهو بفتح المثناة فوق مقصور أي لاهلاك قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه (انى لأرجو أن تكون منهم) فيه منقبة لأبي بكر رضي الله عنه وفيه جواز الثناء على الانسان في وجهه إذا لم يخف عليه فتنة باعجاب وغيره والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم من باب كذا ومن باب كذا فذكر باب الصلاة والصدقة والصيام والجهاد قال القاضي
117 وقد جاء ذكر بقية أبواب الجنة الثمانية في حديث آخر في باب التوبة وباب الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس وباب الراضين فهذه سبعة أبواب جاءت في الأحاديث وجاء في حديث السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب أنهم يدخلون من الباب الأيمن فلعله الباب الثامن الحث على الانفاق وكراهة الاحصاء قوله صلى الله عليه وسلم (انفقي وانفحي وانضحي) أما انفحي فبفتح الفاء وبحاء مهملة واما انضحي فبكسر الضاد ومعنى انفحي وانضحي أعطي والنفح والنضح العطاء ويطلق النضح أيضا على الصب فلعله المراد هنا ويكون أبلغ من النفح قوله صلى الله عليه وسلم (انفحي وانضحي وانفقي ولا تحصي فيحصي الله عليك ولا توعي فيوعي الله عليك) معناه الحث على
118 النفقة في الطاعة والنهي عن الامساك والبخل وعن ادخار المال في الوعاء قوله (عن أسماء بنت أبي بكر أنها جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا نبي الله ليس لي من شئ الا ما أدخل علي الزبير فهل علي جناح أن أرضخ مما يدخل علي فقال ارضخي ما استطعت ولا توعي فيوعي الله عليك) هذا محمول على ما أعطاها الزبير لنفسها بسبب نفقة وغيرها أو مما هو ملك الزبير ولا يكره الصدقة منه بل رضي بها على عادة غالب الناس وقد سبق بيان هذه المسألة قريبا قوله صلى الله عليه وسلم (ارضخي ما استطعت) معناه مما يرضى به الزبير وتقديره أن لك في الرضخ مراتب مباحة بعضها فوق بعض وكلها يرضاها الزبير فافعلي أعلاها أو يكون معناه ما استطعت مما هو ملك لك وقوله صلى الله عليه وسلم (ولا تحصي فيحصي الله عليك ويوعى عليك) هو من باب مقابلة اللفظ باللفظ للتجنيس كما قال تعالى ومكروا ومكر الله ومعناه يمنعك كما منعت ويقتر عليك كما قترت ويمسك فضله عنك كما أمسكته وقيل معنى لا تحصي أي لا تعديه فتستكثريه فيكون سببا لانقطاع انفاقك الحث على الصدقة ولو بالقليل ولا تمتنع من القليل لاحتقاره قوله صلى الله عليه وسلم (لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة) قال أهل اللغة هو بكسر الفاء
119 والسين وهو الظلف قالوا وأصله في الإبل وهو فيها مثل القدم في الانسان قالوا ولا يقال إلا في الإبل ومرادهم أصله مختص بالإبل ويطلق على الغنم استعارة وهذا النهي عن الاحتقار نهي للمعطية المهدية ومعناه لا تمتنع جارة من الصدقة والهدية لجارتها لاستقلالها واحتقارها الموجود عندها بل تجود بما تيسر وإن كان قليلا كفرسن شاة وهو خير من العدم وقد قال الله تعالى فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره وقال النبي صلى الله عليه وسلم اتقوا النار ولو بشق تمرة قال القاضي هذا التأويل هو الظاهر وهو تأويل مالك لادخاله هذا الحديث في باب الترغيب في الصدقة قال ويحتمل أن يكون نهيا للمعطاة عن الاحتقار قوله صلى الله عليه وسلم (يا نساء المسلمات) ذكر القاضي في اعرابه ثلاثة أوجه أصحها وأشهرها نصب النساء وجر المسلمات على الإضافة قال الباجي وبهذا رويناه عن جميع شيوخنا بالمشرق وهو من باب إضافة الشئ إلى نفسه والموصوف إلى صفته والأعم إلى الأخص كمسجد الجامع وجانب الغربي ولدار الآخرة وهو عند الكوفيين جائز على ظاهره وعند البصريين يقدرون فيه محذوفا أي مسجد المكان الجامع وجانب المكان الغربي ولدار الحياة الآخرة وتقدر هنا يا نساء الأنفس المسلمات أو الجماعات المؤمنات وقيل تقديره يا فاضلات المؤمنات كما يقال هؤلاء رجال القوم أي ساداتهم وأفاضلهم والوجه الثاني رفع النساء ورفع المسلمات أيضا على معنى النداء والصفة أي يا أيها النساء المسلمات قال الباجي وهكذا يرويه أهل بلدنا والوجه الثالث رفع نساء وكسر التاء من المسلمات على أنه منصوب على الصفة على الموضع كما يقال يا زيد العاقل برفع زيد ونصب العاقل والله أعلم فضل اخفاء الصدقة قوله صلى الله عليه وسلم (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل الا ظله) قال القاضي إضافة
120 الظل إلى الله تعالى إضافة ملك وكل ظل فهو لله وملكه وخلقه وسلطانه والمراد هنا ظل العرش كما جاء في حديث آخر مبينا والمراد يوم القيامة إذا قام الناس لرب العالمين ودنت منهم الشمس واشتد عليهم حرها وأخذهم العرق ولا ظل هناك لشئ الا للعرش وقد يراد به هنا ظل الجنة وهو نعيمها والكون فيها كما قال تعالى وندخلهم ظلا ظليلا قال القاضي وقال ابن دينار المراد بالظل هنا الكرامة والكنف والكف من المكاره في ذلك الموقف قال وليس المراد ظل الشمس قال القاضي وما قاله معلوم في اللسان يقال فلان في ظل فلان أي في كنفه وحمايته قال وهذا أولى الأقوال وتكون اضافته إلى العرش لأنه مكان التقريب والكرامة والا فالشمس وسائر العالم تحت العرش وفي ظله قوله صلى الله عليه وسلم (الإمام العادل) قال القاضي هو كل من إليه نظر في شئ من مصالح المسلمين من الولاة والحكام وبدأ به لكثرة مصالحه وعموم نفعه ووقع في أكثر النسخ الإمام العادل وفي بعضها الإمام العدل وهما صحيحان قوله صلى الله عليه وسلم (وشاب نشأ بعبادة الله) هكذا هو في جميع النسخ نشأ بعبادة الله والمشهور في روايات هذا الحديث نشأ في عبادة الله وكلاهما صحيح ومعنى رواية الباء نشأ متلبسا للعبادة أو مصاحبا لها أو ملتصقا بها قوله صلى الله عليه وسلم (ورجل قلبه معلق في المساجد) هكذا هو في النسخ كلها في المساجد وفي غير هذه الرواية بالمساجد ووقع في هذه الرواية في أكثر النسخ معلق في المساجد وفي بعضها متعلق بالتاء وكلاهما صحيح ومعناه شديد الحب لها والملازمة للجماعة فيها وليس معناه دوام القعود في المسجد قوله صلى الله عليه وسلم (ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه) معناه اجتمعا على حب الله وافترقا على حب الله أي كان سبب اجتماعهما حب الله واستمرا على ذلك حتى تفرقا من مجلسهما وهما صادقان في حب كل واحد منهما صاحبه لله تعالى حال اجتماعهما وافتراقهما وفي هذا الحديث الحث على التحاب في الله وبيان عظم فضله وهو من المهمات فان الحب في الله والبغض في الله من الايمان وهو بحمد الله كثير يوفق له
121 أكثر الناس أو من وفق له قوله صلى الله عليه وسلم (ورجل دعته امرأته ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله) قال القاضي يحتمل قوله أخاف الله باللسان ويحتمل قوله في قلبه ليزجر نفسه وخص ذات المنصب والجمال لكثرة الرغبة فيها وعسر حصولها وهي جامعة للمنصب والجمال لا سيما وهي داعية إلى نفسها طالبة لذلك قد أغنت عن مشاق التوصل إلى مراودة ونحوها فالصبر عنها لخوف الله تعالى وقد دعت إلى نفسها مع جمعها المنصب والجمال من أكمل المراتب وأعظم الطاعات فرتب الله تعالى عليه أن يظله في ظله وذات المنصب هي ذات الحسب والنسب الشريف ومعنى دعته أي دعته إلى الزنا بها هذا هو الصواب في معناه وذكر القاضي فيه احتمالين أصحهما هذا والثاني أنه يحتمل أنها دعته لنكاحها فخاف العجز عن القيام بحقها أو أن الخوف من الله تعالى شغله عن لذات الدنيا وشهواتها قوله صلى الله عليه وسلم (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله) هكذا وقع في جميع نسخ مسلم في بلادنا وغيرها وكذا نقله القاضي عن جميع روايات نسخ مسلم لا تعلم يمينه ما تنفق شماله والصحيح المعروف حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه هكذا رواه مالك في الموطأ والبخاري في صحيحه وغيرهما من الأئمة وهو وجه الكلام لأن المعروف في النفقة فعلها باليمين قال القاضي ويشبه أن يكون الوهم فيها من الناقلين عن مسلم لا من مسلم بدليل ادخاله بعده حديث مالك رحمه الله وقال بمثل حديث عبيد وبين الخلاف في قوله وقال رجل معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود فلو كان ما رواه مخالفا لرواية مالك لنبه عليه كما نبه على هذا وفي هذا الحديث فضل صدقة السر قال العلماء وهذا في صدقة التطوع فالسر فيها أفضل لأنه أقرب إلى الإخلاص وأبعد من الرياء وأما الزكاة الواجبة فاعلانها أفضل وهكذا حكم الصلاة فاعلان فرائضها أفضل واسرار نوافلها أفضل لقوله صلى الله عليه وسلم أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته الا المكتوبة قال العلماء وذكر اليمين والشمال مبالغة في الاخفاء والاستتار بالصدقة وضرب المثل بهما لقرب اليمين من الشمال وملازمتها لها ومعناه لو قدرت الشمال رجلا متيقظا لما علم صدقة اليمين لمبالغته في الاخفاء ونقل القاضي عن بعضهم أن المراد من عن يمينه وشماله من الناس والصواب الأول قوله صلى الله عليه وسلم (ورجل ذكر الله تعالى خاليا ففاضت عيناه)
122 فيه فضيلة البكاء من خشية الله تعالى وفضل طاعة السر لكمال الاخلاص فيها بيان أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح قوله (يا رسول الله أي الصدقة أعظم فقال أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا ألا وقد كان لفلان) قال الخطابي الشح أعم من البخل وكأن الشح جنس والبخل نوع وأكثر ما يقال البخل في أفراد الأمور والشح عام كالوصف للازم وما هو من قبل الطبع قال فمعنى الحديث أن الشح غالب في حال الصحة فإذا سمح فيها وتصدق كان أصدق في نيته وأعظم لاجره بخلاف من أشرف على الموت وآيس من الحياة ورأي مصير المال لغيره فان صدقته حينئذ ناقصة بالنسبة إلى حالة الصحة والشح رجاء البقاء وخوف الفقر وتأمل الغنى بضم الميم أي تطمع به ومعنى بلغت الحلقوم بلغت الروح والمراد قاربت بلوغ الحلقوم إذ لو بلغته حقيقة لم تصح وصيته ولا صدقته ولا شئ من تصرفاته باتفاق الفقهاء وقوله صلى الله عليه وسلم (لفلان كذا ولفلان كذا ألا وقد كان لفلان) قال الخطابي المراد به الوارث وقال غيره المراد به سبق القضاء به
123 للموصى له ويحتمل أن يكون المعنى أنه قد خرج عن تصرفه وكمال ملكه واستقلاله بما شاء من التصرف فليس له في وصيته كبير ثواب بالنسبة إلى صدقة الصحيح الشحيح قوله صلى الله عليه وسلم (أما وأبيك لتنبأنه به) قد يقال حلف بأبيه وقد نهى عن الحلف بغير الله وعن الحلف بالآباء والجواب أن النهى عن اليمين بغير الله لمن تعمده وهذه اللفظة الواقعة في الحديث تجرى على اللسان من غير تعمد فلا تكون يمينا ولا منهيا عنها كما سبق بيانه في كتاب الايمان بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى وأن اليد العليا (هي المنفقة وأن السفلى هي الآخذة) قوله صلى الله عليه وسلم في الصدقة (اليد العليا خير من اليد السفلى واليد العليا المنفقة والسفلى السائلة) هكذا وقع في صحيح البخاري ومسلم العليا المنفقة من الانفاق وكذا ذكره أبو داود
124 عن أكثر الرواة قال ورواه عبد الوارث عن أيوب عن نافع عن ابن عمر العليا المتعففة بالعين من العفة ورجح الخطابي هذه الرواية قال لأن السياق في ذكر المسألة والتعفف عنها والصحيح الرواية الأولى ويحتمل صحة الروايتين فالمنفقة أعلى من السائلة والمتعففة أعلى من السائلة وفي هذا الحديث الحث على الانفاق في وجوه الطاعات وفيه دليل لمذهب الجمهور أن اليد العليا هي المنفقة وقال الخطابي المتعففة كما سبق وقال غيره العليا الآخذة والسفلى المانعة حكاه القاضي والله أعلم والمراد بالعلو علو الفضل والمجد ونيل الثواب قوله صلى الله عليه وسلم (وخير الصدقة عن ظهر غنى) معناه أفضل الصدقة ما بقي صاحبها بعدها مستغنيا بما بقي معه وتقديره أفضل الصدقة ما أبقت بعدها غنى يعتمده صاحبها ويستظهر به على مصالحه وحوائجه وإنما كانت هذه أفضل الصدقة بالنسبة إلى من تصدق بجميع ماله لأن من تصدق بالجميع يندم غالبا أو قد يندم إذا احتاج ويود أنه لم يتصدق بخلاف من بقي بعدها مستغنيا فإنه لا يندم عليها بل يسر بها وقد اختلف العلماء في الصدقة بجميع ماله فمذهبنا أنه مستحب لمن لا دين عليه ولا له عيال لا يصبرون بشرط أن يكون ممن يصبر على الإضاقة والفقر فإن لم تجتمع هذه الشروط فهو مكروه قال القاضي جوز جمهور العلماء وأئمة الأمصار الصدقة بجميع ماله وقيل يرد جميعها وهو مروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقيل ينفذ في الثلث هو مذهب أهل الشام وقيل إن زاد على النصف ردت الزيادة وهو محكى عن مكحول قال أبو جعفر والطبري ومع جوازه فالمستحب أن لا يفعله وأن يقتصر على الثلث قوله صلى الله عليه وسلم (وابدأ بمن تعول) فيه تقديم نفقة نفسه وعياله لأنها منحصرة فيه بخلاف نفقة غيرهم وفيه الابتداء بالأهم فالأهم
125 في الأمور الشرعية قوله صلى الله عليه وسلم (ان هذا المال خضرة حلوة) شبهه في الرغبة فيه والميل إليه وحرص النفوس عليه بالفاكهة الخضراء الحلوة المستلذة فان الأخضر مرغوب فيه على انفراده والحلو كذلك على انفراده فاجتماعهما أشد وفيه إشارة إلى عدم بقائه لأن الخضروات لا تبقى ولا تراد للبقاء والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه ومن أخذه باشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع) قال العلماء اشراف النفس تطلعها إليه وتعرضها له وطعمها فيه وأما طيب النفس فذكر القاضي فيه احتمالين أظهرهما أنه عائد إلى الآخذ ومعناه من أخذه بغير سؤال ولا اشراف وتطلع بورك له فيه والثاني أنه عائد إلى الدافع ومعناه من أخذه ممن يدفع منشرحا بدفعه إليه طيب النفس لا بسؤال اضطره إليه أو نحوه مما لا تطيب معه نفس الدافع وأما قوله صلى الله عليه وسلم كالذي يأكل ولا يشبع فقيل هو الذي به داء لا يشبع بسببه وقيل يحتمل أن المراد التشبيه بالبهيمة الراعية وفي هذا الحديث وما قبله وما بعده الحث على التعفف والقناعة والرضا بما تيسر في عفاف وإن كان قليلا والاجمال في الكسب وأنه لا يغتر الانسان بكثرة ما يحصل له باشراف ونحوه فإنه لا يبارك له فيه هو قريب من قول الله تعالى يمحق الله الربا ويربى الصدقات قوله صلى الله عليه وسلم (يا ابن آدم
126 انك أن تبذل الفضل خير لك وأن تمسكه شر لك ولا تلام على كفاف) هو بفتح همزة أن ومعناه أن بذلت الفاضل عن حاجتك وحاجة عيالك فهو خير لك لبقاء ثوابه وان امسكته فهو شر لك لأنه إن أمسك عن الواجب استحق العقاب عليه وان أمسك عن المندوب فقد نقص ثوابه وفوت مصلحة نفسه في آخرته وهذا كله شر ومعنى لا تلام على كفاف أن قدر الحاجة لا لوم على صاحبه وهذا إذا لم يتوجه في الكفاف حق شرعي كمن كان له نصاب زكوي ووجبت الزكاة بشروطها وهو محتاج إلى ذلك النصاب لكفافه وجب عليه اخراج الزكاة ويحصل كفايته من جهة مباحة ومعنى أبدأ بمن تعول أن العيال والقرابة أحق من الأجانب وقد سبق النهى عن المسألة مقصود الباب وأحاديثه النهى عن السؤال واتفق العلماء عليه إذا لم تكن ضرورة واختلف أصحابنا في مسألة القادر على الكسب على وجهين أصحهما أنها حرام لظاهر الأحاديث والثاني حلال مع الكراهة بثلاث شروط أن لا يذل نفسه ولا يلح في السؤال ولا يؤذى المسؤول فان فقد أحد هذه الشروط فهي حرام بالاتفاق والله أعلم قوله (عن عبد الله بن عامر اليحصبي) هو أحد القراء السبعة وهو بضم الصاد وفتحها منسوب إلى بنى يحصب قوله (سمعت معاوية يقول إياكم وأحاديث الا حديثا كان في عهد عمر فان عمر كان يخيف الناس في الله) هكذا هو في أكثر النسخ وأحاديث وفي بعضها والأحاديث وهما صحيحان ومراد معاوية النهى عن الاكثار من الأحاديث بغير تثبت لما شاع في زمنه من التحدث عن أهل الكتاب وما وجد في كتبهم حين
127 فتحت بلدانهم وأمرهم بالرجوع في الأحاديث إلى ما كان في زمن عمر رضي الله عنه لضبطه الأمر وشدته فيه وخوف الناس من سطوته ومنعه الناس من المسارعة إلى الأحاديث وطلبه الشهادة على ذلك حتى استقرت الأحاديث واشتهرت السنن قوله صلى الله عليه وسلم (من يرد الله به خيرا يفقه في الدين) فيه فضيلة العلم والتفقه في الدين والحث عليه وسببه أنه قائد إلى تقوى الله تعالى قوله صلى الله عليه وسلم (إنما أنا خازن) وفي الرواية الأخرى (وإنما أنا قاسم ويعطى الله)
128 معناه أن المعطى حقيقة هو الله تعالى ولست أنا معطيا وإنما أنا خازن على ما عندي ثم أقسم ما أمرت بقسمته على حسب ما أمرت به فالأمور كلها بمشيئة الله تعالى وتقديره والانسان مصرف مربوب قوله صلى الله عليه وسلم (لا تلحفوا في المسألة) هكذا هو في بعض الأصول في المسألة بالفاء وفي بعضها بالباء وكلاهما صحيح والالحاف الالحاح قوله صلى الله عليه وسلم (ليس المسكين هذا الطواف) إلى قوله صلى الله عليه وسلم في المسكين (الذي لا يجد غنى يغنيه) إلى آخره معناه المسكين الكامل المسكنة الذي هو أحق بالصدقة وأحوج إليها ليس هو هذا الطواف بل هو الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له ولا يسأل الناس وليس معناه نفى أصل المسكنة عن الطواف بل معناه نفى كمال المسكنة كقوله تعالى ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر إلى آخر الآية قوله (قالوا فما المسكين) هكذا هو في الأصول كلها فما المسكين وهو صحيح لأن ما تأتى كثيرا
129 لصفات من يعقل كقوله تعالى فانحكوا ما طلب لكم من النساء قوله صلى الله عليه وسلم (لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم) بضم الميم واسكان الزاي أي قطعة قال القاضي قيل معناه يأتي يوم القيامة ذليلا ساقطا لا وجه له عند الله وقيل هو على ظاهره فيحشر ووجهه عظم لا لحم عليه عقوبة له وعلامة له بذنبه حين طلب وسأل بوجهه كما جاءت الأحاديث الأخر بالعقوبات في الأعضاء التي كانت بها المعاصي وهذا فيمن سأل لغير ضرورة سؤالا منهيا عنه وأكثر منه كما في الرواية الأخرى من سأل تكثرا والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (من سأل الناس أموالهم تكثرا فإنما يسأل جمرا فليستقل أو ليستكثر) قال القاضي
130 معناه أن يعاقب بالنار ويحتمل أن يكون على ظاهره وأن الذي يأخذه يصير جمرا يكوى بها كما ثبت في مانع الزكاة قوله صلى الله عليه وسلم (لأن يغدو أحدكم فيحطب على ظهره فيتصدق به ويستغنى به من الناس خير من أن يسأل رجلا) فيه الحث على الصدقة والأكل من عمل يده والاكتساب بالمباحات كالحطب والحشيش النابتين في موات وهكذا وقع في الأصول فيحطب بغير تاء بين الحاء والطاء في الموضعين وهو صحيح وهكذا أيضا في النسخ ويستغنى به من الناس بالميم وفي نادر منها عن الناس بالعين وكلاهما صحيح والأول محمول على الثاني
131 قوله (عن أبي إدريس الخولاني عن أبي مسلم الخولاني) اسم أبي إدريس عابد الله ابن عبد الله واسم أبي مسلم عبد الله بن ثوب بضم المثلثة وفتح الواو وبعدها موحدة ويقال ابن ثواب بفتح الثاء وتخفيف الواو ويقال ابن أثوب ويقال ابن عبد الله ويقال ابن عوف ويقال ابن مسلم ويقال اسمه يعقوب بن عوف وهو مشهور بالزهد والكرامات الظاهرة والمحاسن الباهرة أسلم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وألقاه الأسود العنسي في النار فلم يحترق فتركه فجاء مهاجرا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوفى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الطريق فجاء إلى المدينة فلقي أبا بكر الصديق وعمر وغيرهما من كبار الصحابة رضي الله عنهم هذا هو الصواب المعروف ولا خلاف فيه بين العلماء وأما قول السمعاني في الأنساب أنه أسلم في زمن معاوية فغلط باتفاق أهل العلم من المحدثين وأصحاب التواريخ والمغازي والسير وغيرهم والله أعلم قوله (فلقد رأيت أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحدا يناوله إياه) فيه التمسك بالعموم لأنهم نهوا عن السؤال فحملوه على عمومه وفيه الحث على التنزيه عن جميع ما يسمى سؤالا وإن كان حقيرا والله أعلم
132 من تحل له المسألة قوله (عن هارون بن رياب) هو بكسر الراء وبمثناة تحت ثم ألف موحدة قوله (تحملت حمالة) هي بفتح الحاء وهي المال الذي يتحمله الانسان أي يستدينه ويدفعه في اصلاح ذات البين كالاصلاح بين قبيلتين ونحو ذلك وإنما تحل له المسألة ويعطى من الزكاة بشرط أن يستدين لغير معصية قوله صلى الله عليه وسلم (حتى تصيب قواما من عيش) أو قال سدادا من عيش القوام والسداد بكسر القاف والسين وهما بمعنى واحد وهو ما يغنى من الشئ وما تسد به الحاجة وكل شئ سددت به شيئا فهو سداد بالكسر ومنه سداد الثغر والقارورة وقولهم سداد من عوز قوله صلى الله عليه وسلم (حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجى من قومه لقد أصابت فلانا فاقة) هكذا هو في جميع النسخ يقوم ثلاثة وهو صحيح أي يقومون بهذا الأمر فيقولون لقد أصابته فاقة والحجى مقصور وهو العقل وإنما قال صلى الله عليه وسلم من قومه لأنهم من أهل الخبرة بباطنه والمال مما يخفى في العبادة فلا يعلمه الا من كان خبيرا بصاحبه وإنما شرط الحجى تنبيها على أنه يشترط في الشاهد التيقظ فلا تقبل من مغفل وأما اشتراط الثلاثة فقال
133 بعض أصحابنا هو شرط في بينة الاعسار فلا يقبل الا من ثلاثة لظاهر هذا الحديث وقال الجمهور يقبل من عدلين كسائر الشهادات غير الزنا وحملوا الحديث على الاستحباب وهذا محمول على من عرف له مال فلا يقبل قوله في تلفه والاعسار الا ببينة وأما من لم يعرف له مال فالقول قوله في عدم المال قوله صلى الله عليه وسلم (فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتا) هكذا هو في جميع النسخ سحتا ورواية غير مسلم سحت وهذا واضح ورواية مسلم صحيحة وفيه اضمار أي اعتقده سحتا أو يؤكل سحتا جواز الأخذ بغير سؤال ولا تطلع قوله (سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء فأقول اعطه أفقر إليه منى حتى أعطاني مرة مالا فقلت أعطه أفقر إليه منى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خذه وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه ومالا فلا تتبعه نفسك) هذا الحديث فيه منقبة لعمر رضي الله عنه وبيان فضله وزهده وايثاره والمشرف إلى الشئ هو المتطلع إليه الحريص عليه ومالا فلا تتبعه نفسك معناه ما لم يوجد فيه هذا الشرط لا تعلق النفس به واختلف العلماء فيمن جاءه مال هل يجب قبوله أم يندب على
134 ثلاثة مذاهب حكاها أبو جعفر محمد بن جرير الطبري وآخرون والصحيح المشهور الذي عليه الجمهور أنه يستحب في غير عطية السلطان وأما عطية السلطان فحرمها قوم وأباحها قوم وكرمها قوم والصحيح أنه إن غلب الحرام فيما في يد السلطان حرمت وكذا ان أعطى من لا يستحق وان لم يغلب الحرام فمباح ان لم يكن في القابض مانع يمنعه من استحقاق الأخذ وقالت طائفة الأخذ واجب من السلطان وغيره وقال آخرون هو مندوب في عطية السلطان دون غيره والله أعلم قوله (وحدثني أبو الطاهر أخبرنا ابن وهب قال عمرو وحدثني ابن شهاب بمثل ذلك عن السائب ابن يزيد عن عبد الله بن السعدي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ) هكذا وقع هذا الحديث وقوله قال عمر ومعناه قال قال عمرو فحذف كتابه قال ولا بد للقارئ من النطق بقال مرتين وإنما حذفوا إحداهما في الكتاب اختصارا وأما قوله قال عمرو وحدثني فهكذا هو في النسخ وحدثني بالواو وهو صحيح مليح ومعناه أن عمرا حدث عن ابن شهاب بأحاديث عطف بعضها على بعض فسمعها ابن وهب كذلك فلما أراد ابن وهب رواية غير الأول أتى بالواو العاطفة لأنه سمع غير الأول من عمرو معطوفا بالواو فأتى به كما سمعه وقد سبق بيان هذه المسألة في أول الكتاب والله أعلم واعلم أن هذا الحديث مما استدرك على مسلم قال القاضي عياض قال أبو علي بن السكن بين السائب بن يزيد وعبد الله بن السعدي رجل وهو حويطب ابن عبد العزى قال النسائي لم يسمعه السائب من ابن السعدي بل إنما رواه عن حويطب عنه قال غيره هو محفوظ من طريق عمرو بن الحارث رواه أصحاب شعيب والزبيدي وغيرهما عن الزهري قال أخبرني السائب بن يزيد أن حويطبا أخبره أن عبد الله بن السعدي أخبره أن عمرا أخبره وكذلك رواه يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب هذا كلام القاضي قلت وقد رواه النسائي في سننه كما ذكر عن ابن عيينة عن الزهري عن السائب عن حويطب عن ابن السعدي عن عمر رضي الله عنه ورويناه عن الحافظ عبد القادر الرهاوي في كتابه الرباعيات قال وقد رواه هكذا عن الزهري محمد بن الوليد والزبيدي وشعيب بن أبي حمزة الحمصيان وعقيل بن خالد ويونس بن يزيد الأيليان وعمرو بن الحارث المصري والحكم بن عبد الله الحمصي ثم
135 ذكر طرقهم بأسانيدها مطولة مطرقة كلهم عن الزهري عن السائب عن حويطب عن ابن السعدي عن عمر وكذا رواه البخاري من طريق شعيب قال عبد القادر ورواه النعمان بن راشد عن الزهري فأسقط حويطبا ورواه معمر عن الزهري واختلف عنه فيه فرواه عنه سفيان بن عيينة وموسى بن أعين كما رواه الجماعة عن الزهري ورواه ابن المبارك عن معمر فأسقط حويطبا كما رواه النعمان بن راشد عن الزهري ورواه عبد الرزاق عن معمر فأسقط حويطبا وابن السعدي ثم ذكر الحافظ عبد القادر طرقهم كذلك قال فهذا ما انتهى من طرق هذا الحديث قال والصحيح ما اتفق عليه الجماعة يعنى عن الزهري عن السائب عن حويطب عن ابن السعدي عن عمر وهذا الحديث فيه أربعة صحابيون يروى بعضهم عن بعض وهم عمر وابن السعدي وحويطب والسائب رضي الله عنهم وقد جاءت جملة من الأحاديث فيها أربعة صحابيون يروى بعضهم عن بعض وأربعة تابعيون بعضهم عن بعض وأما ابن السعدي فهو أبو محمد عبد الله ابن قدان بن عبد شمس بن عبد ود بن نضر بن مالك بن حنبل بن عامر بن لؤي بن غالب قالوا واسم وقدان عمرو ويقال عمرو بن وقدان وقال مصعب هو عبد الله بن عمرو بن وقدان ويقال له ابن السعدي لأن أباه استرضع في بنى سعد بن بكر بن هوازن صحب ابن السعدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قديما وقال وفدت في نفر من بنى سعد بن بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سكن الشام روى عنه السائب بن يزيد وروى عنه جماعات من كبار التابعين وأما حويطب فهو بضم الحاء المهملة أبو محمد ويقال أبو الإصبع حويطب بن عبد العزى بن أبي قيس بن عبد ود ابن نضر ابن مالك بن حنبل بن عامر بن لؤي القرشي العامري أسلم يوم فتح مكة ولا تحفظ له رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم الا شئ ذكره الواقدي والله أعلم وقد وقع في مسلم بعد هذا من رواية قتيبة قال عن ابن الساعدي المالكي فقوله المالكي صحيح منسوب إلى مالك بن
136 حنبل بن عامر وأما قوله الساعدي فأنكروه قالوا وصوابه السعدي كما رواه الجمهور منسوب إلى بنى سعد بن بكر كما سبق والله أعلم قوله (أمر لي بعمالة) هي بضم العين وهي المال الذي يعطاه العامل على عمله قوله (عملت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعملني) هو بتشديد الميم أي أعطاني أجرة عملي وفي هذا الحديث جواز أخذ العوض على أعمال المسلمين سواء كانت لدين أو لدنيا كالقضاء والحسبة وغيرهما والله أعلم
137 كراهة الحرص على الدنيا قوله صلى الله عليه وسلم (قلب الشيخ شاب على حب اثنتين حب العيش والمال) هذا مجاز واستعارة ومعناه أن قلب الشيخ كامل الحب للمال محتكم في ذلك كاحتكام قوة الشاب في شبابه هذا صوابه وقيل تفسيره غير هذا مما لا يرتضى قوله صلى الله عليه وسلم (وتشب منه اثنتان) بفتح التاء وكسر الشين وهو بمعنى قلب الشيخ شاب على حب اثنتين قوله صلى الله عليه وسلم
138 (لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم الا التراب ويتوب الله على من تاب) وفي رواية ولن يملأ فاه الا التراب وفي رواية ولا يملأ نفس ابن آدم الا التراب فيه ذم الحرص على الدنيا وحب المكاثرة بها والرغبة فيها ومعنى لا يملأ جوفه الا التراب أنه لا يزال حريصا على الدنيا حتى يموت ويمتلئ جوفه من تراب قبره وهذا الحديث
139 خرج على حكم غالب بني آدم في الحرص على الدنيا ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم ويتوب الله على من تاب وهو متعلق بما قبله ومعناه أن الله يقبل التوبة من الحرص المذموم وغيره من المذمومات فضل القناعة والحث عليها قوله صلى الله عليه وسلم (ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس) العرض هنا بفتح العين والراء جميعا وهو متاع الدنيا ومعنى الحديث الغنى المحمود غنى النفس وشبعها وقلة حرصها لا كثرة المال مع الحرص على الزيادة لأن من كان طالبا للزيادة لم يستغن بما معه فليس له غنى
140 التحذير من الاغترار بزينة الدنيا وما يبسط منها قوله صلى الله عليه وسلم (لا والله ما أخشى عليكم أيها الناس الا ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا) فيه التحذير من الاغترار بالدنيا والنظر إليها والمفاخرة بها وفيه استحباب الحلف من غير استحلاف إذا كان فيه زيادة في التوكيد والتفخيم ليكون أوقع في النفوس قوله (يا رسول الله أيأتي الخير بالشر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الخير لا يأتي الا بخير أو خير هو أن كل ما ينبت الربيع يقتل حبطا أو يلم الا آكلة الخضر أكلت حتى امتلأت خاصرتاها استقبلت الشمس ثلطت أو بالت ثم اجترت فعادت فأكلت فمن يأخذ مالا بحقه يبارك له فيه ومن يأخذ مالا بغير حقه فمثله كمثل الذي يأكل ولا يشبع) أما قوله صلى الله عليه وسلم أو خير هو فهو بفتح الواو والحبط بفتح الحاء المهملة والباء الموحدة التخمة وقوله صلى الله عليه وسلم أو يلم معناه أو يقارب القتل
141 وقوله صلى الله عليه وسلم الا آكلة الخضر هو بكسر الهمزة من الا وتشديد اللام على الاستثناء هذا هو المشهور الذي قاله الجمهور من أهل الحديث واللغة وغيرهم قال القاضي ورواه بعضهم الا بفتح الهمزة وتخفيف اللام على الاستفتاح وآكلة الخضر بهمزة ممدودة والخضر بفتح الخاء وكسر الضاد هكذا رواه الجمهور قال القاضي وضبطه بعضهم الخضر بضم الخاء وفتح الضاد وقوله ثلطت هو بفتح الثاء المثلثة أي ألقت الثلط وهو الرجيع الرقيق وأكثر ما يقال للإبل والبقر والفيلة قوله اجترت أي مضغت جرتها قال أهل اللغة الجرة بكسر الجيم ما يخرجه البعير من بطنه ليمضغه ثم يبلعه والقصع شدة المضغ وأما قوله صلى الله عليه وسلم (ما أخشى عليكم أيها الناس الا ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا فقال رجل يا رسول الله أيأتي الخير بالشر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الخير لا يأتي الا بخير أو خير هو) فمعناه أنه صلى الله عليه وسلم حذرهم من زهرة الدنيا وخاف عليهم منها فقال هذا الرجل إنما يحصل ذلك لنا من جهة مباحة كغنيمة وغيرها وذلك خير وهل يأتي الخير بالشر وهو استفهام انكار واستبعاد أي يبعد أن يكون الشئ خيرا ثم يترتب عليه شر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أما الخير الحقيقي فلا يأتي الا بخير أي لا يترتب عليه الا خير ثم قال أو خير هو معناه أن هذا الذي يحصل لكم من زهرة الدنيا ليس بخير وإنما هو فتنة وتقديره الخير لا يأتي الا بخير ولكن ليست
142 هذه الزهرة بخير لما تؤدى إليه من الفتنة والمنافسة والاشتغال بها عن كمال الاقبال على الآخرة ثم ضرب لذلك مثلا فقال صلى الله عليه وسلم ان كل ما ينبت الربيع يقتل حبطا أو يلم الا آكلة الخضر إلى آخره ومعناه أن نبات الربيع وخضرة يقتل حبطا بالتخمة لكثرة الأكل أو يقارب القتل الا إذا اقتصر منه على اليسير الذي تدعو إليه الحاجة وتحصل به الكفاية المقتصدة فإنه لا يضر وهكذا المال هو كنبات الربيع مستحسن تطلبه النفوس وتميل إليه فمنهم من يستكثر منه ويستغرق فيه غير صارف له في وجوهه فهذا يهلكه أو يقارب اهلاكه ومنهم من يقتصد فيه فلا يأخذ الا يسيرا وان أخذ كثيرا فرقه في وجوهه كما تثلطه الدابة فهذا لا يضره هذا مختصر معنى الحديث قال الأزهري فيه مثلان أحدهما للمكثر من الجمع المانع من الحق واليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم ان مما ينبت ما الربيع ما يقتل لأن الربيع ينبت اجرار البقول فتستكثر منه الدابة حتى تهلك والثاني للمقتصد واليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم الا آكله الخضر لأن الخضر ليس من اجرار البقول وقال القاضي عياض ضرب صلى الله عليه وسلم لهم مثلا بحالتي المقتصد والمكثر فقال صلى الله عليه وسلم أنتم تقولون ان نبات الربيع خير وبه قوام الحيوان وليس هو كذلك مطلقا بل منه ما يقتل أو يقارب القتل فحالة المبطون المتخوم كحالة من يجمع المال ولا يصرفه في وجوهه فأشار صلى الله عليه وسلم إلى أن الاعتدال والتوسط في الجمع
143 أحسن ثم ضرب مثلا لمن ينفعه اكثاره وهو التشبيه بآكلة الخضر وهذا التشبيه لمن صرفه في وجوهه الشرعية ووجه الشبه أن هذه الدابة تأكل من الخضر حتى تمتلئ خاصرتها ثم تثلط وهكذا من يجمعه ثم يصرفه والله أعلم (فأفاق يمسح الرحضاء) هو بضم الراء وفتح الحاء المهملة وبضاد معجمة ممدودة أي العرق من الشدة وأكثر ما يسمى به عرق الحمى قوله صلى الله عليه وسلم (ان هذا السائل) هكذا هو في بعض النسخ وفي بعضها أين وفي بعضها أنى وفي بعضها أي وكله صحيح فمن قال أنى أو أين فهما بمعنى ومن قال إن فمعناه والله أعلم أن هذا هو السائل الممدوح الحاذق الفطن ولهذا قال وكأنه حمده ومن قال أي فمعناه أيكم فحذف الكاف والميم والله أعلم قول صلى الله عليه وسلم (وان مما ينبت الربيع) ووقع في الروايتين السابقتين ان كل ما ينبت الربيع أو أنبت الربيع ورواية كل محمولة على رواية مما وهو من باب تدمر كل شئ وأوتيت من كل شئ قوله صلى الله عليه وسلم (وان هذا المال خضر حلو ونعم صاحب المسلم) هو لمن أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل فيه فضيلة المال لمن أخذه بحقه وصرفه في وجوه الخير وفيه حجة لمن يرجح الغنى على الفقير والله أعلم
144 فضل التعفف والصبر والقناعة والحث على كل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم (وما أعطى أحد من عطاء خير وأوسع من الصبر) هكذا هو في جميع نسخ مسلم خير مرفوع وهو صحيح وتقدير وهو خير كما وقع في رواية البخاري وفي هذا الحديث الحث على التعفف والقناعة والصبر على ضيق العيش وغيره من مكاره الدنيا قوله (عن أبي عبد الرحمن الحبلى) هو منسوب إلى بنى الحبل والمشهور في استعمال المحدثين ضم الباء منه والمشهور عند أهل العربية فتحها ومنهم من سكنها قوله صلى الله عليه وسلم (قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله ما آتاه) الكفاف الكفاية بلا زيادة ولا نقص وفيه فضيلة هذه الأوصاف وقد يحتج به لمذهب من يقول الكفاف
145 أفضل من الفقر ومن الغنى قوله صلى الله عليه وسلم (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا) قال أهل اللغة العربية القوت ما يسد الرمق وفيه فضيلة التقلل من الدنيا والاقتصار على القوت منها والدعاء بذلك اعطاء المؤلفة ومن يخاف على ايمانه ان لم يعط (واحتمال من سأل بجفاء لجهله وبيان الخوارج وأحكامهم) قوله صلى الله عليه وسلم (خيروني بين أن يسألوني بالفحش أو يبخلوني ولست بباخل) معناه أنهم ألحوا في المسألة لضعف ايمانهم وألجأوني بمقتضى حالهم إلى السؤال بالفحش أو نسبتي إلى البخل ولست بباخل ولا ينبغي احتمال واحد من الأمرين ففيه مداراة أهل الجهالة والقسوة وتألفهم إذا كان فيهم مصلحة وجواز دفع المال إليهم لهذه المصلحة قوله (فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة نظرت إلى صفحة عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أثرت بها حاشية الرداء
146 من شدة جبذته ثم قال يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك ثم أمر له بعطاء) فيه احتمال الجاهلين والاعراض عن مقابلتهم ودفع السيئة بالحسنة اعطاء من يتألف قلبه والعفو عن مرتكب كبيرة لا حد فيها بجهله وإباحة الضحك عند الأمور التي يتعجب منها في العادة وفيه كمال خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلمه وصفحه الجميل قوله (فجاذبه) هو بمعنى جبذه في الرواية السابقة فيقال جبذ وجذب لغتان مشهورتان قوله (حتى انشق البرد وحتى بقيت حاشيته في عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال القاضي يحتمل أنه على ظاهره وأن الحاشية انقطعت وبقيت في العنق ويحتمل أن يكون معناه بقي أثرها لقوله في الرواية الأخرى
147 أثرت بها حاشية الرداء قوله صلى الله عليه وسلم لمغرمة (خبأت هذا لك) هو من باب التألف قوله في حديث سعد (أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطا) إلى آخره معنى هذا الحديث أن سعدا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطى ناسا ويترك من هو أفضل منهم في الدين وظن أن العطاء يكون بحسب الفضائل في الدين وظن أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم حال هذا الانسان المتروك فأعلمه به وحلف أنه يعلمه مؤمنا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أو مسلما فلم يفهم منه النهى عن الشفاعة فيه مرة أخرى فسكت ثم رآه يعطى من هو دونه بكثير فغلبه ما يعلم من حسن حال ذلك الانسان فقال يا رسول اله مالك عن فلان تذكيرا وجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم هم بعطائه من المرة الأولى ثم نسيه فأراد تذكيره وهكذا المرة الثالثة إلى أن أعلمه النبي صلى الله عليه وسلم إن العطاء ليس هو على حسب الفضائل في الدين فقال صلى الله عليه وسلم انى لأعطى الرجل وغيره أحب إلى منه مخافة أن يكبه الله في النار معناه أنى أعطى ناسا مؤلفة في ايمانهم
148 ضعف لو لم أعطهم كفروا فيكبهم الله في النار وأترك أقواما هم أحب إلى من الذين أعطيتهم ولا أتركهم احتقارا لهم ولا لنقص دينهم ولا اهمالا لجانبهم بل أكلهم إلى ما جعل الله في قلوبهم من النور والايمان التام وأثق بأنهم لا يتزلزل ايمانهم لكماله وقد ثبت هذا المعنى في صحيح البخاري عن عمرو بن تغلب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بمال أو سبي فقسمه فأعطى رجالا وترك رجالا فبلغه أن الذين ترك عتبوا فحمد الله تعالى ثم أثنى عليه ثم قال أما بعد فوالله انى لأعطى الرجل وأدع الرجل والذي أدع أحب إلي من الذي أعطى ولكني أعطى أقواما لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع وأكل أقواما إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير قوله (أخبرني عامر بن سعد عن أبيه أنه أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطا) هكذا هو في النسخ وهو صحيح وتقديره قال أعطى فحذف لفظه قال قوله (وهو أعجبهم إلى) أي أفضلهم عندي قوله (فقمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فساررته فقلت مالك عن فلان) فيه التأدب مع الكبار وأنهم يسارون بما كان من باب التذكير لهم والتنبيه ونحوه ولا يجاهرون به فقد يكون في المجاهرة به مفسدة قوله (اني لأراه مؤمنا قال أو مسلما) هو بفتح الهمزة لأراه واسكان واو أو مسلما وقد سبق شرح هذا الحديث
149 مستوفى في كتاب الايمان قوله في حديث أنس (أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى يوم حنين من غنائم هوازن رجالا من قريش المائة من الإبل فعتب ناس من الأنصار) إلى آخره قال القاضي عياض ليس في هذا تصريح بأنه صلى الله عليه وسلم أعطاهم قبل اخراج الخمس وأنه لم يحسب ما أعطاهم من الخمس قال والمعروف في باقي الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم إنما أعطاهم من الخمس ففيه أن للامام صرف الخمس وتفضيل الناس فيه على ما يراه وأن
150 يعطى الواحد منه الكثير وأنه يصرفه في مصالح المسلمين وله أن يعطى الغنى منه لمصلحة قوله صلى الله عليه وسلم (فإنكم ستجدون أثرة شديدة) فيها لغتان إحداهما ضم الهمزة واسكان الثاء وأصحهما وأشهرهما بفتحهما جميعا والأثرة الاستئثار بالمشترك أيستأثر عليكم ويفضل
151 عليكم غيركم بغير حق قوله صلى الله عليه وسلم (ابن أخت القوم منهم) استدل به من يورث ذوي الأرحام وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد وآخرون ومذهب مالك والشافعي وآخرين أنهم لا يرثون وأجابوا بأنه ليس في هذا اللفظ ما يقتضى توريثه وإنما معناه أن بينه وبينهم ارتباطا وقرابة ولم يتعرض للإرث وسياق الحديث يقتضى أن المراد أنه كالواحد منهم في افشاء سرهم بحضرته ونحو ذلك والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (لسلكت شعب الأنصار) قال الخليل هو ما انفرج بين جبلين وقال ابن السكيت هو الطريق في الجبل وفيه فضيلة الأنصار ورجحانهم قوله (وإبراهيم بن محمد بن عرعرة) هو بعينين مهملتين مفتوحتين
152 قوله (ومعه الطلقاء) هو بضم الطاء وفتح اللام وبالمد وهم الذين أسلموا يوم فتح مكة وهو جمع طليق يقال ذاك لمن أطلق من أسار أو وثاق قال القاضي في المشارق قيل لمسلمي الفتح الطلقاء لمن النبي صلى الله عليه وسلم قوله (ومع النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ عشرة آلاف ومعه الطلقاء) وقال في الرواية التي بعد هذه نحن بشر كثير قد بلغنا ستة آلاف الرواية الأولى أصح لأن المشهور في كتب المغازي أن المسلمين كانوا يومئذ اثنى عشر ألفا عشرة آلاف شهدوا الفتح وألفان من أهل مكة
153 ومن انضاف إليهم وهذا معنى قوله معه عشرة آلاف ومعه الطلقاء قال القاضي قوله ستة آلاف وهم من الراوي عن أنس والله أعلم قوله (حدثني السميط عن أنس) هو بضم السين المهملة تصغير سمط قوله (وعلى مجنبة خيلنا خالد) المجنبة بضم الميم وفتح الجيم وكسر النون قال شمر المجنبة هي الكتيبة من الخيل التي تأخذ جانب الطريق الأيمن وهما مجنبتان ميمنة وميسرة بجانبي الطريق والقلب بينهما قوله (فجعلت خيلنا تلوى خلف ظهورنا) هكذا هو في أكثر النسخ وفي بعضها تلوذ وكلاهما صحيح قوله صلى الله عليه وسلم (يال المهاجرين يال المهاجرين ثم قال يال الأنصار يال الأنصار) هكذا في جميع النسخ في المواضع الأربعة يال بلام مفصولة مفتوحة والمعروف وصلها بلام التعريف التي بعدها قوله (قال أنس هذا حديث عمية)
154 هذه اللفظة ضبطوها في صحيح مسلم على أوجه أحدها عمية بكسر العين والميم وتشديد الميم والياء قال القاضي كذا روينا هذا الحرف عن عامة شيوخنا قال وفسر بالشدة والثاني عمية كذلك الا أنه بضم العين والثالث عمية بفتح العين وكسر الميم المشددة وتخفيف الياء وبعدها هاء السكت أي حدثني به عمى وقال القاضي على هذا الوجه معناه عندي جماعتي أي هذا حديثهم قال صاحب العين العم الجماعة وأنشد عليه ابن دريد في الجمهرة (أفنيت عما وجبرت عما) قال القاضي وهذا أشبه بالحديث والوجه الرابع كذلك الا أنه بتشديد الياء وهو الذي ذكره الحميدي صاحب الجمع بين الصحيحين وفسره بعمومتي أي هذا حديث فضل أعمامي أو هذا الحديث الذي حدثني به أعمامي كأنه حدث بأول الحديث عن مشاهدة ثم لعله لم يضبط هذا الموضع لتفرق الناس فحدثه به من شهده من أعمامه أو جماعته الذين شهدوه ولهذا قال بعده قال قلنا لبيك يا رسول الله والله أعلم قوله (أتجعل نهبي ونهب العبيد) العبيد اسم فرسه قوله (يفوقان مرداس في المجتمع) هكذا هو في جميع الروايات مرداس غير مصروف وهو حجة لمن جوز
155 ترك الصرف بعلة واحدة وأجاب الجمهور بأنه في ضرورة الشعر قوله (وعلقمة بن علاثة) هو بضم العين المهملة وتخفيف اللام وبثاء مثلثة قوله (وحدثنا مخلد بن خالد الشعيري) هو بفتح الشين المعجمة وكسر العين منسوب إلى الشعير الحب المعروف وهو مخلد بن خالد بن يزيد أبو محمد بغدادي سكن طرسوس روى عن عبد الرزاق بن همام وإبراهيم بن خالد الصنعانيين وسفيان روى عنه مسلم وأبو داود وابن عوف البزدوي وابنه أحمد بن أبي عوف والمنذر بن شاذان قال أبو داود وهو ثقة وذكر هذه الجملة من أحواله الحافظ عبد الغنى المقدسي وذكره أبو محمد ابن أبي حاتم في كتابه المشهور في الجرح والتعديل مختصرا وذكره الحافظ أبو الفضل محمد ابن طاهر بن علي بن أحمد المقدسي في كتابه رجال الصحيحين فقال مخلد بن خالد الشعيري سمع سفيان بن عيينة في الزكاة وإنما ذكرت هذا كله لأن القاضي عياض قال لم أجد أحدا ذكر مخلد بن خالد الشعيري في رجال الصحيح ولا في غيرهم قال ولم يذكره الحاكم ولا الباجي ولا الجياني ومن تكلم على رجال الصحيح ولا أحد من أصحاب المؤتلف والمختلف ولا من أصحاب التقييد ولا ذكروا مخلد بن خالد غير منسوب أصلا وبسط القاضي الكلام في انكار هذا الاسم وأنه ليس في الرواة أحد يسمى مخلد بن خالد لا في الصحيح ولا في غيره وضم إليه كلاما عجيبا وهذا الذي ذكره من العجائب فمخلد بن خالد مشهور كما ذكرناه أولا وبالله
156 التوفيق قوله صلى الله عليه وسلم (الأنصار شعار والناس دثار) قال أهل اللغة الشعار الثوب الذي يلي الجسد والدثار فوقه ومعنى الحديث الأنصار هم البطانة والخاصة والأصفياء وألصق بي من سائر الناس وهذا من مناقبهم الظاهرة وفضائلهم الباهرة
157 قوله (فتغير وجهه حتى كان كالصرف) هو بكسر الصاد المهملة وهو صبغ أحمر يصبغ به الجلود قال ابن دريد وقد يسمى الدم أيضا صرفا قوله (فقال رجل والله ان هذه لقسمة ما عدل فيها وما أريد فيها وجه الله) قال القاضي عياض رحمه الله تعالى حكم الشرع أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم كفر وقتل ولم يذكر في هذا الحديث أن هذا الرجل قتل قال المازري يحتمل أن يكون لم يفهم منه الطعن في النبوة وإنما نسبه إلى ترك العدل في القسمة والمعاصي ضربان كبائر وصغائر فهو صلى الله عليه وسلم معصوم من الكبائر بالاجماع واختلفوا في أماكن وقوع الصغائر ومن جوزها منع من اضافتها إلى الأنبياء على طريق التنقيص وحينئذ فلعله صلى الله عليه وسلم لم يعاقب هذا القائل لأنه لم يثبت عليه ذلك وإنما نقله عنه واحد وشهادة الواحد لا يراق بها الدم قال القاضي هذا التأويل باطل يدفعه قوله اعدل يا محمد واتق الله يا محمد وخاطبه خطاب المواجهة بحضرة الملأ حتى استأذن عمر وخالد النبي صلى الله عليه وسلم في قتله فقال معاذ الله أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه فهذه هي العلة وسلك
158 معه مسلكه مع غيره من المنافقين الذين آذوه وسمع منهم في غير موطن ما كرهه لكنه صبر استبقاء لانقيادهم وتأليفا لغيرهم لئلا يتحدث الناس أنه يقتل أصحابه فينفروا وقد رأى الناس هذا الصنف في جماعتهم وعدوه من جملتهم قوله صلى الله عليه وسلم (ومن يعدل إذا أكن أعدل لقد خبت وخسرت) روى بفتح التاء في خبت وخسرت وبضمهما فيهما ومعنى الضم ظاهر وتقدير الفتح خبت أنت أيها التابع إذا كنت لا أعدل لكونك تابعا ومقتديا بمن لا يعدل والفتح أشهر والله أعلم قوله (فقال عمر بن الخطاب دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق) وفي روايات أخر أن خالد بن الوليد استأذن في قتله ليس فيهما تعارض بل كل واحد منهما استأذن فيه قوله صلى الله عليه وسلم (يقرؤن القرآن لا يجاوز حناجرهم) قال القاضي فيه تأويلان أحدهما معناه لا تفقهه قلوبهم ولا ينتفعون بما تلوا منه ولا لهم حظ سوى تلاوة الفم والحنجرة والحلق إذ بهما تقطيع الحروف والثاني معناه لا يصعد لهم عمل ولا تلاوة ولا يتقبل قوله صلى الله عليه وسلم (يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية) وفي الرواية الأخرى يمرقون من الاسلام وفي الرواية الأخرى يمرقون من الدين قال القاضي معناه يخرجون منه خروج السهم إذا نفذ الصيد من جهة أخرى ولم يتعلق به شئ منه والرمية هي الصيد المرمى وهي فعيلة بمعنى مفعولة
159 قال والدين هنا هو الاسلام كما قال سبحانه وتعالى الدين عند الله الاسلام وقال الخطابي هو هنا الطاعة أي من طاعة الامام وفي هذه الأحاديث دليل لمن يكفر الخوارج قال القاضي عياض رحمه الله تعالى قال المازري اختلف العلماء في تكفير الخوارج قال وقد كادت هذه المسألة تكون أشد اشكالا من سائر المسائل ولقد رأيت أبا المعالي وقد رغب إليه الفقيه عبد الحق رحمهما الله تعالى في الكلام عليها فرهب له من ذلك واعتذر بأن الغلط فيها يصعب موقعه لان ادخال كافر في الملة واخراج مسلم منها عظيم في الدين وقد اضطرب فيها قول القاضي أبي بكر الباقلاني وناهيك به في علم الأصول وأشار ابن الباقلاني إلى أنه من المعوصات لأن القوم لم يصرحوا بالكفر وإنما قالوا أقوالا لا تؤدى إليه وأنا أكشف لك نكتة الخلاف وسبب الاشكال وذلك أن المعتزلي مثلا يقول إن الله تعالى عالم ولكن لا علم له وحى ولا حياة له يوقع الالتباس في تكفيره لأنا علمنا من دين الأمة ضرورة أن من قال إن الله تعالى ليس بحي ولا عالم كان كافرا وقامت الحجة على استحالة كون العالم لا علم له فهل نقول أن المعتزلي إذا نفى العلم نفى أن يكون الله تعالى عالما وذلك كفر بالاجماع ولا ينفعه اعترافه بأنه عالم مع نفيه أصل العلم أو نقول قد اعترف بأن الله تعالى عالم وانكاره العلم لا يكفره وإن كان يؤدي إلى أنه ليس بعالم فهذا موضع الاشكال هذا كلام المازري ومذهب الشافعي وجماهير أصحابه العلماء أن الخوارج لا يكفرون وكذلك القدرية وجماهير المعتزلة وسائل أهل الأهواء قال الشافعي رحمه الله تعالى أقبل شهادة أهل الأهواء الا الخطابية وهم طائفة من الرافضة يشهدون لموافقيهم في المذهب بمجرد قولهم فرد شهادتهم لهذا لا لبدعتهم والله أعلم
160 قوله (بعث علي رضي الله عنه وهو باليمن بذهبة في تربتها) هكذا هو في جميع نسخ بلادنا بذهبة بفتح الذال وكذا نقله القاضي عن جميع رواة مسلم عن الجلودي قال وفي رواية ابن ماهان بذهيبة على التصغير قوله في هذه الرواية (عيينة بن بدر الفزاري) وكذا في الرواة التي بعد هذه رواية قتيبة قال فيها عيينة بن بدر وفي بعض النسخ في الثانية عيينة بن حصن وفي معظمها عيينة بن بدر ووقع في الرواية التي قبل هذه وهي الرواية التي فيها الشعر عيينة بن حصن في جميع النسخ وكله صحيح فحصن أبوه وبدر جد أبيه فنسب تارة إلى أبيه وتارة إلى جد أبيه لشهرته ولهذا نسبه إليه الشاعر في قوله فما كان بدر ولا حابس وهو عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر بن عمرو بن جويرية ابن لوذان بن ثعلبة بن عدي بن فزارة بن دينار الفزاري قوله في هذه الرواية (وزيد الخير الطائي) كذا هو في جميع النسخ الخير بالراء وفي الرواية التي بعدها زيد الخيل باللام وكلاهما صحيح يقال بالوجهين كان يقال له في الجاهلية زيد الخيل فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاسلام زيد الخير قوله (أيعطى صناديد نجد) أي ساداتها واحدهم صنديد بكسر الصاد قوله (فجاء رجل كث اللحية مشرف الوجنتين) أما كث اللحية فبفتح الكاف وهو كثيرها والوجنة بفتح الواو وضمها وكسرها ويقال أيضا أجنة وهو لحم الخد قوله (ناتئ الجبين) هو بهمز ناتئ
161 وأما الجبين فهو جانب الجبهة ولكل انسان جبينان يكتنفان الجبهة قوله صلى الله عليه وسلم (ان من ضئضئ هذا قوما) هو بضادين معجمتين مكسورتين وآخره مهموز وهو أصل الشئ وهكذا هو في جميع نسخ بلادنا وحكاه القاضي عن الجمهور وعن بعضهم أنه ضبطه بالمعجمتين والمهملتين جميعا وهذا صحيح في اللغة قالوا ولأصل الشئ أسماء كثيرة منها الضئضئ بالمعجمتين والمهملتين والنجار بكسر النون والنحاس والسنخ بكسر السين واسكان النون وبخاء معجمة والعنصر والعنض والأرومة قوله صلى الله عليه وسلم (لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) أي قتلا عاما مستأصلا كما قال تعالى ترى لهم من باقية وفيه الحث على قتالهم وفضيلة لعلى رضي الله عنه في قتالهم (في أديم مقروظ) أي مدبوغ بالقرظ قوله (لم تحصل من ترابها) أي لم تميز قوله في هذه الرواية (والرابع اما علقمة بن علاثة واما عامر بن الطفيل) قال العلماء ذكر عامر هنا غلط ظاهر لأنه توفى قبل هذا بسنين والصواب الجزم بأنه علقمة بن علاثة
162 كما هو مجزوم باقي الروايات والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (انى لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم) معناه أنى أمرت بالحكم بالظاهر والله يتولى السرائر كما قال صلى الله عليه وسلم فإذا قالوا ذلك فقد عصموا منى دماءهم وأموالهم الا بحقها وحسابهم على الله وفي الحديث هلا شققت عن قلبه قوله (وهو مقف) أي مولى قد أعطانا قفاه قوله صلى الله عليه وسلم (يتلون كتاب الله تعالى لينا رطبا) هكذا هو في أكثر النسخ لينا بالنون أي سهلا
163 وفي كثير من النسخ ليا بحذف النون وأشار القاضي إلى أنه رواية أكثر شيوخهم قال ومعناه سهلا لكثرة حفظهم قال وقيل ليا أي يلوون ألسنتهم به أي يحرفون معانيه وتأويله قال وقد يكون من اللي في الشهادة وهو الميل قاله ابن قتيبة (قوله (فسألاه عن الحرورية) هم الخوارج سموا حرورية لأنهم نزلوا حروراء وتعاقدوا عندها على قتال أهل العدل وحروراء بفتح الحاء وبالمد قرية بالعراق قريبة من الكوفة وسموا خوارج لخروجهم على الجماعة وقيل لخروجهم عن طريق الجماعة وقيل لقوله صلى الله عليه وسلم يخرج من ضئضئ هذا قوله (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يخرج في هذه الأمة ولم يقل منها) قال المازري هذا من أدل الدلائل على سعة علم الصحابة رضي الله عنهم ودقيق نظرهم وتحريرهم الألفاظ وفرقهم بين مدلولاتها الخفية لأن لفظة من تقتضي كونهم من الأمة لا كفارا بخلاف في ومع هذا فقد جاء بعد هذا من رواية علي رضي الله عنه يخرج من أمتي قوم وفي رواية أبي ذر ان
164 بعدي من أمتي أو سيكون بعدي من أمتي وقد سبق الخلاف في تكفيرهم وأن الصحيح عدم تكفيرهم قوله صلى الله عليه وسلم (فينظر الرامي إلى نصله إلى رصافه فيتمارى في الفوقة) وفي الرواية الأخرى ينظر إلى نضيه وفيها ثم ينظر إلى قذذه وفي الرواية الأخرى فينظر في النضى فلا يرى بصيرة وينظر في الفوق فلا يرى بصيرة أما الرصاف فبكسر الراء وبالصاد المهملة وهو مدخل النصل من السهم والنص هو حديدة السهم والقدح عوده والقذذ بضم القاف وبذالين معجمتين وهو ريش السهم والفوق والفوقة بضم الفاء هو الحز الذي يجعل فيه الوتر والنضى بفتح النون وكسر الضاد المعجمة وتشديد الياء وهو القدح كذا جاء في كتاب مسلم مفسرا وكذا قاله الأصمعي وأما البصير فبفتح الباء الموحدة وكسر الصاد المهملة وهي الشئ من الدم أي لا يرى شيئا من الدم يستدل به على إصابة الرمية قوله صلى الله عليه وسلم (قد خبت وخسرت ان لم أعدل) قد سبق الخلاف في فتح التاء وضمها في هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم
165 (ومثل البضعة تدردر) البضعة بفتح الباء لا غير وهي القطعة من اللحم وتدردر معناه تضطرب وتذهب وتجئ قوله صلى الله عليه وسلم (يخرجون على حين فرقة من الناس) ضبطوه في الصحيح بوجهين أحدهما حين فرقه بحاء مهملة مكسورة ونون وفرقة بضم الفاء أي في وقت افتراق الناس أي افتراق يقع بين المسلمين وهو الافتراق الذي كان بين على ومعاوية رضي الله عنهما والثاني خير فرقة بخاء معجمة مفتوحة وراء وفرقة بكسر الفاء أي أفضل الفرقتين والأول أشهر وأكثر ويؤيده الرواية التي بعد هذه يخرجون في فرقة من الناس فإنه بضم الفاء بلا خلاف ومعناه ظاهر وقال القاضي على رواية الخاء المعجمة المراد وخير القرون وهم الصدر الأول قال أو يكون المراد عليا وأصحابه فعليه كان خروجهم حقيقة لأنه كان الامام حينئذ وفيه حجة لأهل السنة أن عليا كان مصيبا في قتاله والآخرون بغاة لا سيما مع قوله صلى الله عليه وسلم يقتلهم أولى الطائفتين بالحق وعلى وأصحابه الذين قتلوهم وفي هذا الحديث معجزات ظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه أخبر بهذا وجرى كله كفلق الصبح ويتضمن بقاء الأمة بعده صلى الله عليه وسلم وأن لهم شوكة وقوة خلاف ما كان المبطلون يشيعونه وأنهم يفترقون فرقتين وأنه يخرج عليه طائفة مارقة وأنهم يشددون في الدين في غير موضع التشديد ويبالغون في الصلاة والقراءة ولا يقيمون بحقوق الإسلام بل يمرقون منه وأنهم يقاتلون أهل الحق
166 وأن أهل الحق يقتلونهم وأن فيهم رجلا صفة يده كذا وكذا فهذه أنواع من المعجزات جرت كلها ولله الحمد قوله صلى الله عليه وسلم (سيماهم التحالق) السيما العلامة وفيها ثلاث لغات القصر وهو الأفصح وبه جاء القرآن والمد والثالثة السيمياء بزيادة ياء مع المد لا غير والمراد بالتحالق حلق الرؤوس وفي الرواية الأخرى التحلق واستدل به بعض الناس على كراهة حلق الرأس ولا دلالة فيه وإنما هو علامة لهم والعلامة قد تكون بحرام وقد تكون بمباح كما قال صلى الله عليه وسلم آيتهم رجل أسود احدى عضديه مثل ثدي المرأة ومعلوم أن هذا ليس بحرام وقد ثبت في سنن أبي داود باسناد على شرط البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (رأى صبيا قد حلق بعض رأسه فقال احلقوه كله أو اتركوه كله) وهذا صريح في إباحة حلق الرأس لا يحتمل تأويلا قال أصحابنا حلق الرأس جائز بكل حال لكن ان شق عليه تعهده بالدهن والتسريح استحب حلقه وان لم يشق استحب تركه قوله صلى الله عليه وسلم (هم شر الخلق أو من أشر الخلق) هكذا هو في كل النسخ أو من أشر بالألف وهي لغة قليلة والمشهور شر بغير ألف وفي هذا اللفظ دلالة لمن قال بتكفيرهم وتأوله الجمهور أي شر المسلمين ونحو ذلك قوله صلى الله عليه وسلم (يقتلهم أولى الطائفتين إلى الحق) وفي رواية أولى الطائفتين بالحق وفي رواية تكون أمتي فرقتين فتخرج من بينهما مارقة تلي قتلهم أولاهما
167 بالحق هذه الرواية صريحة في أن عليا رضي الله عنه كان هو المصيب المحق والطائفة الأخرى أصحاب معاوية رضي الله عنه كانوا بغاة متأولين وفيه التصريح بأن الطائفتين مؤمنون لا يخرجون بالقتال عن الايمان ولا يفسقون وهذا مذهبنا ومذهب موافقينا قوله (حدثنا القاسم وهو ابن الفضل الحداني) هو بضم الحاء المهملة وتشديد الدال بعد الألف نون قوله (عن
168 الضحاك المشرقي) هو بكسر الميم واسكان الشين المعجمة وفتح الراء وكسر القاف وهذا هو الصواب الذي ذكره جميع أصحاب المؤتلف والمختلف وأصحاب الأسماء والتواريخ ونقل القاضي عياض عن بعضهم أنه ضبطه بفتح الميم وكسر الراء قال وهو تصحيف كما قال واتفقوا على أنه منسوب إلى مشرق بكسر الميم وفتح الراء بطن من همدان وهو الضحاك الهمداني المذكور في الرواية السابقة من رواية حرملة وأحمد بن عبد الرحمن قوله (في حديث ذكر فيه قوما يخرجون على فرقة مختلفة) ضبطوه بكسر الفاء وضمها قوله (عن سويد بن غفلة) هو بفتح الغين المعجمة والفاء قوله (وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فان الحرب خدعة) معناه أجتهد رأيي وقال القاضي فيه جواز التورية والتعريض في الحرب فكأنه تأول الحديث على هذا وقوله خدعة بفتح الخاء واسكان الدال على الأفصح ويقال بضم الخاء ويقال خدعة بضم الخاء وفتح الدال ثلاث لغات مشهورات قوله صلى الله عليه وسلم (أحداث الأسنان سفهاء الأحلام) معناه صغار الأسنان صغار العقول قوله صلى الله عليه وسلم يقولون من خير قول البرية معناه في ظاهر الأمر كقولهم لا حكم الا لله ونظائره من دعائهم إلى كتاب الله تعالى والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (فإذا لقيتموهم فاقتلوهم فان في قتلهم أجرا) هذا تصريح بوجوب قتال الخوارج
169 والبغاة وهو اجماع العلماء قال القاضي أجمع العلماء على أن الخوارج وأشباههم من أهل البدع والبغي متى خرجوا على الامام وخالفوا رأى الجماعة وشقوا العصا وجب قتالهم بعد إنذارهم والاعتذار إليهم قال الله تعالى التي تبغى حتى تفئ إلى أمر الله لكن لا يجهز على جريحهم ولا يتبع منهزمهم ولا يقتل أسيرهم ولا تباح أموالهم وما لم يخرجوا عن الطاعة وينتصبوا للحرب لا يقاتلون بل يوعظون ويستتابون من بدعتهم وباطلهم وهذا كله ما لم يكفروا ببدعتهم فان كانت بدعة مما يكفرون به جرت عليهم أحكام المرتدين وأما البغاة الذين لا يكفرون فيرثون ويورثون ودمهم في حال القتال هدر وكذا أموالهم التي تتلف في القتال والأصح أنهم لا يضمنون أيضا ما أتلفوه على أهل العدل في حال القتال من نفس ومال وما أتلفوه في غير حال القتال من نفس ومال ضمنوه ولا يحل الانتفاع بشئ من دوابهم وسلاحهم في حال الحرب عندنا وعند الجمهور وجوزه أبو حنيفة والله أعلم قوله عن محمد عن عبيدة هو بفتح العين وهو
170 قوله (فيهم رجل مخدج اليد أو مودن اليد أو مثدون اليد) أما المخدج فبضم الميم واسكان الخاء المعجمة وفتح الدال أي ناقص اليد والمودن بضم الميم واسكان الواو وفتح الدال ويقال بالهمز وبتركه وهو ناقص اليد ويقال أيضا ودين والمثدون بفتح الميم وثاء مثلثة ساكنة وهو صغير اليد مجتمعها كثندوة الثدي وهو بفتح الثاء بلا همز وبضمها مع الهمز وكان أصله مثنود
171 فقدمت الدال على النون كما قالوا جبذ وجذب وعاث في الأرض وعثا قوله (فنزلني زيد ابن وهب منزلا حتى قال مررنا على قنطرة) هكذا هو في معظم النسخ مرة واحدة وفي نادر منها منزلا منزلا مرتين وكذا ذكره الحميدي في الجمع بين الصحيحين وهو وجه الكلام أي ذكر لي مراحلهم بالجيش منزلا منزلا حتى بلغ القنطرة التي كان القتال عندها وهي قنطرة الدبرجان كذا جاء مبينا في سنن النسائي وهناك خطبهم علي رضي الله عنه وروى لهم هذه الأحاديث والقنطرة بفتح القاف قولهم (فوحشوا برماحهم) أي رموا بها عن بعد قوله (وشجرهم الناس برماحهم) هو بفتح الشين المعجمة والجيم المخففة أي مددوها إليهم وطاعنوهم بها ومنه التشاجر في الخصومة قوله (وما أصيب من الناس يؤمئذ رجلان) يعنى من أصحاب على وأما
172 الخوارج فقتلوا بعضهم على بعض قوله (فقام إليه عبيدة السلماني) إلى أخره وحاصله أنه استحلف عليها ثلاثا وإنما استحلفه ليسمع الحاضرين ويؤكد ذلك عندهم ويظهر لهم المعجزة التي أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويظهر لهم أن عليا وأصحابه أولى الطائفتين بالحق وأنهم محقون في قتالهم وغير ذلك مما في هذه الأحاديث من الفوائد وقوله السلماني هو باسكان اللام منسوب إلى سلمان جد قبيلة معروفة وهم بطن من مراد قاله ابن أبي داود السجستاني أسلم عبيدة قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين ولم يره وسمع عمر وعليا ابن مسعود وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم قوله (قالوا لا حكم الا لله قال على كلمة حق أريد بها باطل) معناه أن الكلمة أصلها صدق قال الله تعالى الحكم الا لله لكنهم أرادوا بها
173 الانكار على علي رضي الله عنه في تحكيمه قوله صلى الله عليه وسلم (احدى يديه طبي شاه) هو بطاء مهملة مضمومة ثم باء موحدة ساكنة والمراد به ضرع الشاة وهو فيها مجاز واستعار إنما أصله للكلبة والسباع قال أبو عبيد ويقال أيضا لذوات الحافر ويقال للشاة ضرع وكذا للبقرة ويقال للناقة خلف وقال أبو عبيد الاخلاف لذوات الأخفاف والأظلاف وقال الهروي يقال في ذات الخف والظلف خلف وضرع قوله (عن يسير بن عمرو) وفي الرواية الأخرى أسير بن عمرو وهو هو بضم
174 الياء المثناة من تحت وفتح السين المهملة والثاني مثله الا أنه بهمزة مضمومة وكلاهما صحيح يقال يسير وأسير قوله صلى الله عليه وسلم (يتيه قوم قبل المشرق) أي يذهبون عن الصواب وعن طريق الحق يقال تاه إذا ذهب ولم يهتد لطريق الحق والله أعلم تحريم الزكاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم (وعلى آله وهم بنو هاشم وبنو المطلب دون غيرهم) قوله (أخذ الحسن بن علي تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كخ كخ ارم بها أما علمت أنا لا نأكل الصدقة) وفي رواية لا تحل لنا الصدقة قال القاضي يقال كخ كخ بفتح الكاف وكسرها وتسكين الخاء ويجوز كسرها مع التنوين وهي كلمة يزجر بها الصبيان عن المستقذرات فيقال له كخ أي اتركه وارم به قال الداودي هي عجمية معربة بمعنى بئس وقد أشار إلى هذا البخاري بقوله في ترجمة باب من تكلم بالفارسية والرطانة وفي الحديث أن الصبيان يوقون ما يوقاه الكبار وتمنع من تعاطيه وهذا واجب على الولي قوله صلى الله عليه وسلم (أما علمت أنا لا نأكل الصدقة) هذه اللفظة تقال في الشئ الواضح التحريم
175 ونحوه وان لم يكن المخاطب عالما به وتقديره عجب كيف خفى عليك هذا مع ظهور تحريم الزكاة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله وهم بنو هاشم وبنو المطلب هذا مذهب الشافعي وموافقيه أن آله صلى الله عليه وسلم هو بنو هاشم وبنو المطلب وبه قال بعض المالكية وقال أبو حنيفة ومالك هم بنو هاشم خاصة قال القاضي وقال بعض العلماء هم قريش كلها وقال أصبغ المالكي هم بنو قصي دليل الشافعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن بني هاشم وبني المطلب شئ واحد وقسم بينهم سهم ذوي القربى وأما صدقة التطوع فللشافعي فيها ثلاثة أقوال أصحها أنها تحرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحل لآله والثاني تحرم عليه وعليهم والثالث تحل له ولهم وأما موالي بني هاشم وبني المطلب فهل تحرم عليهم الزكاة فيه وجهان لأصحابنا أصحهما تحرم للحديث الذي ذكره مسلم بعد هذا حديث أبي رافع والثاني تحل وبالتحريم قال أبو حنيفة وسائر الكوفيين وبعض المالكية وبالإباحة قال مالك وادعى ابن بطال المالكي أن الخلاف إنما هو في موالي بني هاشم وأما موالي غيرهم فتباح لهم بالاجماع وليس كما قال بل الأصح عند أصحابنا تحريمها على موالي بني هاشم وبني المطلب ولا فرق بينهما والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (انا لا تحل لنا الصدقة) ظاهره تحريم صدقة الفرض والنفل وفيهما الكلام السابق قوله صلى الله عليه وسلم (انى لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي
176 ثم أرفعها لآكلها ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها) فيه تحريم الصدقة عليه صلى الله عليه وسلم وأنه لا فرق بين صدقة الفرض والتطوع لقوله صلى الله عليه وسلم الصدقة بالألف واللام وهي تعم النوعين ولم يقل الزكاة وفيه استعمال الورع لأن هذه التمرة لا تحرم بمجرد الاحتمال لكن الورع تركها قوله (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بتمرة في الطريق فقال لولا أن تكون من الصدقة لأكلتها) فيه استعمال الورع كما سبق وفيه أن التمرة ونحوها من محقرات الأموال لا يجب تعريفها بل يباح أكلها والتصرف فيها في الحال لأن صلى الله عليه وسلم إنما تركها خشية أن تكون من الصدقة لا لكونها لقطة وهذا الحكم متفق عليه وعلله أصحابنا وغيرهم
177 بأن صاحبها في العادة لا يطلبها ولا يبقى له فيها مطمع والله أعلم قوله (فانتحاه ربيعة بن الحارث) هو بالحاء ومعناه عرض له وقصده (قوله ما تفعل هذا الا نفاسة منك علينا) معناه حسدا منك لنا قوله (فما نفسنا عليك) هو بكسر الفاء أي ما حسدناك ذلك قوله صلى الله عليه وسلم (أخرجا ما تصرران) هكذا هو في معظم الأصول ببلادنا وهو الذي ذكره الهروي والمازري وغيرهما من أهل الضبط تصرران بضم التاء وفتح الصاد وكسر الراء وبعدها راء أخرى ومعناه تجمعانه في صدوركما من الكلام وكل شئ جمعته فقد صررته ووقع في بعض النسخ تسرران بالسين من السر أي ما تقولانه لي سرا وذكر القاضي عياض فيه أربع روايات هاتين الثنتين والثالثة تصدران باسكان الصاد وبعدها دال مهملة معناه ماذا ترفعان إلى قال وهذه رواية السمرقندي والرابعة تصوران بفتح
178 الصاد وبواو مكسورة قال وهكذا ضبطه الحميدي قال القاضي وروايتنا عن أكثر شيوخنا بالسين واستبعد رواية الدال والصحيح ما قدمناه عن معظم نسخ بلادنا ورجحه أيضا صاحب المطالع فقال الأصوب تصرران بالصاد والرائين قوله (قد بلغنا النكاح) أي الحلم كقوله تعالى حتى إذا بلغوا النكاح قوله (وجعلت زينب تلمع الينا من وراء الحجاب) هو بضم التاء واسكان اللام وكسر الميم ويجوز فتح التاء والميم يقال ألمع ولمع إذا أشار بثوبه أو بيده قوله صلى الله عليه وسلم لعبد المطلب بن ربيعة والفضل بن عباس وقد سألاه العمل على الصدقة بنصيب العامل (ان الصدقة لا تنبغي لآل محمد) دليل على أنها محرمة سواء كانت بسبب العمل أو بسبب الفقر والمسكنة وغيرهما من الأسباب الثمانية وهذا هو الصحيح عند أصحابنا وجوز بعض أصحابنا لبنى هاشم وبني المطلب العمل عليها بسهم العامل لأنه إجارة وهذا ضعيف أو باطل وهذا الحديث صريح في رده قوله صلى الله عليه وسلم (إنما هي أوساخ الناس) تنبيه على العلة في تحريمها على بني هاشم وبني المطلب وأنها لكرامتهم وتنزيههم عن الأوساخ ومعنى أوساخ الناس أنها تطهير لأموالهم ونفوسهم كما قال تعالى من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها فهي كغسالة الأوساخ قوله
179 (حدثنا هارون بن معروف حدثنا ابن وهب أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن عبد الله ابن الحارث بن نوفل الهاشمي أن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب أخبره) هكذا وقع في مسلم من رواية يونس عن ابن شهاب وسبق في الرواية التي قبل هذه عن جويرية عن مالك عن الزهري أن عبد الله بن عبد الله بن نوفل وكلاهما صحيح والأصل هو رواية مالك ونسبه في رواية يونس إلى جده ولا يمتنع ذلك قال النسائي ولا نعلم أحدا روى هذا الحديث عن مالك الا جويرية بن أسماء قوله صلى الله عليه وسلم (أصدق عنهما من الخمس) يحتمل أن يريد من سهم ذوي القرى من الخمس لأنهما من ذوي القربى ويحتمل ان يريد من سهم النبي صلى الله عليه وسلم من الخمس قوله عن علي رضي الله عنه (وقال أنا أبو حسن القرم) هو بتنوين حسن وأما القرم فالبراء مرفوع وهو السيد وأصله فحل الإبل قال الخطابي معناه المقدم في المعرفة بالأمور والرأي كالفحل هذا أصح الأوجه في ضبطه وهو المعروف في نسخ بلادنا والثاني حكاه القاضي أبو الحسن القوم بالواو بإضافة حسن إلى القوم ومعناه عالم القوم وذو رأيهم والثالث حكاه القاضي أيضا أبو حسن بالتنوين والقوم بالواو مرفوع أي أنا من علمتم رأيه أيها القوم وهذا ضعيف لأن حروف النداء لا تحذف في نداء القوم ونحوه قوله (لا أريم مكاني) هو بفتح الهمزة وكسر الراء أي لا أفارقه قوله (والله لا أريم مكاني حتى يرجع اليكما ابناكما بحور ما بعثتما به)
180 قوله بحور هو بفتح الحاء المهملة أي بجواب ذلك قال الهروي في تفسيره يقال كلمته فما رد على حورا ولا حويرا أي جوابا قال ويجوز أن يكون معناه الخيبة أي يرجعا بالخيبة واصل الحور الرجوع إلى النقص قال القاضي هذا أشبه بسياق الحديث أما قوله ابناكما فهكذا ضبطناه ابناكما بالتثنية ووقع في بعض الأصول أبناؤكما بالواو على الجمع وحكاه القاضي أيضا قال وهو وهم والصواب الأول وقال وقد يصح الثاني على مذهب من جمع الاثنين قوله صلى الله عليه وسلم (ادعوا إلى محمية بن جزء وهو رجل من بني أسد) أما محمية فبميم مفتوحة ثم حاء مهملة ساكنة ثم ميم أخرى مكسورة ثم ياء مخففة وأما جزء فبجيم مفتوحة ثم زاي ساكنة ثم همزة هذا هو الأصح قال القاضي هكذا تقوله عامة الحفاظ وأهل الإتقان ومعظم الرواة وقال عبد الغنى بن سعيد يقال جزى بكسر الزاي يعنى وبالياء وكذا وقع في بعض النسخ في بلادنا قال القاضي وقال أبو عبيد هو عندنا جز مشدد الزاي وأما قوله وهو رجل من بنى أسد فقال القاضي كذا وقع والمحفوظ أنه من بنى زبيد لا من بنى أسد إباحة الهدية للنبي صلى الله عليه وسلم (ولبني هاشم وبني المطلب وإن كان المهدى ملكها بطريق الصدقة) (وبيان أن الصدقة إذا قبضها المتصدق عليه زال عنها وصف الصدقة) (وحلت لكل أحد ممن كانت الصدقة محرمة عليه) قوله (أن عبيد بن السباق) هو بفتح السين المهملة وتشديد الباء الموحدة قوله صلى الله عليه وسلم
181 في لحم الشاة الذي أعطيته مولاة جويرية من الصدقة (قربيه فقد بلغت محلها) هو بكسر الحاء أي زال عنها حكم الصدقة وصارت حلالا لنا وفيه دليل للشافعي وموافقيه أن لحم الأضحية إذا قبضه المتصدق عليه وسائر الصدقات يجوز لقابضها بيعها ويحل لمن أهداها إليه أو ملكها منه بطريق آخر وقال بعض المالكية لا يجوز بيع لحم الأضحية لقابضها قوله (كلاهما عن شعبة عن قتادة عن أنس) ثم قال في الطريق الآخر (حدثنا شعبة عن قتادة سمع أنس بن مالك) فيه التنبيه على انتقاء تدليس قتادة لأنه عنعن في الرواية الأولى وصرح بالسماع في الثانية وقد سبق مرات أن المدلس لا يحتج بعنعنته الا أن يثبت سماعه لذلك الحديث من ذلك الشيخ من طريق آخر فنبه مسلم رحمه الله تعالى على ذلك
182 قوله (عن الأسود عن عائشة وأتى النبي صلى الله عليه وسلم بلحم بقر) هكذا هو في كثير من الأصول المعتمدة أو أكثرها وأتى بالواو وفي بعضها أتى بغير واو وكلاهما صحيح والواو عاطفة على بعض من الحديث لم يذكره هنا قوله (كان في بريرة ثلاث قضيات) فذكر منها قوله صلى الله عليه وسلم هو عليها صدقة ولكم هدية ولم يذكر هنا الثانية والثالثة وهما
183 الولاء لمن أعتق وتخييرها في فسخ النكاح حين أعتقت تحت عبد وسيأتي بيان الثلاث مشروحة إن شاء الله تعالى في كتاب النكاح قولها (الا أن نسيبة بعثت الينا) هي نسيبة بضم النون وفتح السين المهملة واسكان الياء ويقال فيها أيضا نسيبة بفتح النون وكسر السين وهي أم عطية قوله (ان النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتي بطعام سأل عنه فان قيل هدية أكل منها وان قيل صدقة لم يأكل منها) فيه استعمال الورع والفحص عن أصل المآكل والمشارب الدعاء لمن أتى بصدقة قوله (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال اللهم صل عليهم فأتاه أبى أبو أوفى بصدقته فقال اللهم صل على آل أبي أوفى) هذا الدعاء وهو الصلاة امتثال لقول الله عز وجل
184 عليهم ومذهبنا المشهور ومذهب العلماء كافة أن الدعاء لدافع الزكاة سنة مستحبة ليس بواجب وقال أهل الظاهر هو واجب وبه قال بعض أصحابنا حكاه أبو عبد الله الحناطي بالحاء المهملة واعتمدوا الأمر في الآية قال الجمهور الأمر في حقنا للندب لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا وغيره لأخذ الزكاة ولم يأمرهم بالدعاء وقد يجيب الآخرون بأن وجوب الدعاء كان معلوما لهم من الآية الكريمة وأجاب الجمهور أيضا بأن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وصلاته سكن لهم بخلاف غيره واستحب الشافعي في صفة الدعاء أن يقول آجرك الله فيما أعطيت وجعله لك طهورا وبارك لك فيما أبقيت وأما قول الساعي اللهم صل على فلان فكره جمهور أصحابنا وهو مذهب ابن عباس ومالك وابن عيينة وجماعة من السلف وقال جماعة من العلماء ويجوز ذلك بلا كراهة لهذا الحديث قال أصحابنا لا يصلى على غير الأنبياء الا تبعا لأن الصلاة في لسان السلف مخصوصة بالأنبياء صلاة الله وسلامه عليهم كما أن قولنا عز وجل مخصوص بالله سبحانه وتعالى فكما لا يقال محمد عز وجل وإن كان عزيزا جليلا لا يقال أبو بكر صلى الله عليه وسلم وان صح المعنى واختلف أصحابنا في النهى عن ذلك هل هو نهى تنزيه أم محرم أو مجرد أدب على ثلاثة أوجه الأصح الأشهر أنه مكروه كراهة تنزيه لأنه شعار لأهل البدع وقد نهينا عن شعارهم والمكروه هو ما ورد فيه نهى مقصود واتفقوا على أنه يجوز أن يجعل غير الأنبياء تبعا لهم في ذلك فيقال اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وأزواجه وذريته وأتباعه لأن السلف لم يمنعوا منه وقد أمرنا به في التشهد وغيره قال الشيخ أبو محمد الجويني من أئمة أصحابنا السلام في معنى الصلاة ولا يفرد به غير الأنبياء لأن الله تعالى قرن بينهما ولا يفرد به غائب ولا يقال قال فلان عليه السلام وأما المخاطبة به لحي أو ميت فسنة فيقال السلام عليكم أو عليك أو سلام عليك أو عليكم والله أعلم
185 (فاقدروا له) وفي رواية فاقدروا له ثلاثين وفي رواية إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فافطروا فان غم عليكم فاقدروا له وفي رواية فان غم عليكم فصوموا ثلاثين يوما وفي رواية فان غمي عليكم فأكملوا العدد وفي رواية فان عمى عليكم الشهر فعدوا ثلاثين وفي رواية فان أغمي عليكم فعدوا ثلاثين هذه الروايات كلها في الكتاب على هذا الترتيب وفي رواية للبخاري فان غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين واختلف العلماء في معنى فاقدروا له فقالت طائفة من العلماء معناه ضيقوا له وقدروه تحت السحاب وممن قال بهذا أحمد بن حنبل وغيره ممن يجوز صوم يوم ليلة الغيم عن رمضان كما سنذكره إن شاء الله تعالى وقال ابن سريج وجماعة منهم مطرف بن عبد الله وابن قتيبة وآخرون معناه قدروه بحساب المنازل وذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وجمهور السلف والخلف إلى أن معناه قدروا له تمام العدد ثلاثين يوما قال أهل اللغة يقال قدرت الشئ أقدره وأقدره وقدرته وأقدرته بمعنى واحد وهو من التقدير قال الخطابي ومنه قول الله تعالى فقدرنا فنعم القادرون واحتج الجمهور بالروايات المذكورة فأكملوا العدة ثلاثين وهو تفسير لا قدروا له ولهذا لم يجتمعا في رواية بل تارة يذكر هذا وتارة يذكر هذا ويؤكده الرواية السابقة فاقدروا له ثلاثين قال المازري حمل جمهور الفقهاء قوله صلى الله عليه وسلم فاقدروا له على أن المراد اكمال العدة ثلاثين كما فسره في حديث آخر قالوا ولا يجوز أن يكون المراد حساب المنجمين لأن الناس لو كلفوا به ضاق عليهم لأنه لا يعرفه الا أفراد والشرع إنما يعرف الناس بما يعرفه جماهيرهم والله أعلم وأما قوله صلى الله عليه وسلم (فان غم عليكم) فمعناه حال بينكم وبينه غيم يقال غم وأغمي وغمى وغمى بتشديد الميم وتخفيفها والغين مضمومة فيهما ويقال غبي بفتح الغين وكسر الباء وكلها صحيحة وقد غامت السماء وغيمت وأغامت وتغيمت وأغمت وفي هذه الأحاديث دلالة لمذهب مالك والشافعي والجمهور أنه لا يجوز صوم يوم الشك ولا يوم الثلاثين
186 قوله صلى الله عليه وسلم (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين) وفي الرواية الأخرى (إذا كان رمضان فتحت أبواب الرحمة وغلقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين) وفي رواية (إذا دخل رمضان) فيه دليل للمذهب الصحيح المختار الذي ذهب إليه البخاري والمحققون أنه يجوز أن يقال رمضان من غير ذكر الشهر بلا كراهة وفي هذه المسألة ثلاثة مذاهب قالت طائفة لا يقال رمضان على انفراده بحال وإنما يقال شهر رمضان هذا قول أصحاب مالك وزعم هؤلاء أن رمضان اسم من أسماء الله تعالى فلا يطلق على غيره الا بقيد وقال أكثر أصحابنا وابن الباقلاني إن كان هناك قرينة تصرفه إلى الشهر فلا كراهة والا فيكره قالوا فيقال صمنا رمضان قمنا رمضان ورمضان أفضل الأشهر ويندب طلب ليلة القدر في أواخر رمضان وأشباه ذلك ولا كراهة في هذا كله وإنما يكره أن يقال جاء رمضان ودخل وحضر رمضان وأحب رمضان ونحو ذلك والمذهب الثالث مذهب البخاري والمحققين أنه لا كراهة في اطلاق رمضان بقرينة وبغير قرينة وهذا المذهب هو الصواب
187 والمذهبان الأولان فاسدان لأن الكراهة إنما تثبت بنهي الشرع ولم يثبت فيه نهى وقولهم إنه اسم من أسماء الله تعالى ليس بصحيح ولم يصح في شئ وإن كان قد جاء فيه أثر ضعيف وأسماء الله تعالى توقيفية لا تطلق الا بدليل صحيح ولو ثبت أنه اسم لم يلزم منه كراهة وهذا الحديث المذكور في الباب صريح في الرد على المذهبين ولهذا الحديث نظائر كثيرة في الصحيح في اطلاق رمضان على الشهر من غير ذكر الشهر وقد سبق التنبيه على كثير منها في كتاب الايمان وغيره والله أعلم وأما قوله صلى الله عليه وسلم فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين فقال القاضي عياض رحمه الله تعالى يحتمل أنه على ظاهره وحقيقته وأن تفتيح أبواب الجنة وتغليق أبواب جهنم وتصفيد الشياطين علامة لدخول الشهر وتعظيم لحرمته ويكون التصفيد ليمتنعوا من ايذاء المؤمنين والتهويش عليهم قال ويحتمل أن يكون المراد المجاز ويكون إشارة إلى كثرة الثواب والعفو وان الشياطين يقل اغواؤهم وايذاؤهم ليصيرون كالمصفدين ويكون تصفيدهم عن أشياء دون أشياء ولناس دون ناس ويؤيد هذه الرواية الثانية فتحت أبواب الرحمة وجاء في حديث آخر صفدت مردة الشياطين قال القاضي ويحتمل أن يكون فتح أبواب الجنة عبارة عما يفتحه الله تعالى لعباده من الطاعات في هذا الشهر التي لا تقع في غيره عموما كالصيام والقيام وفعل الخيرات والانكفاف عن كثير من المخالفات وهذه أسباب لدخول الجنة وأبواب لها وكذلك تغليق أبواب النار وتصفيد الشياطين عبارة عما ينكفون عنه من المخالفات ومعنى صفدت غللت والصفد بفتح الفاء الغل بضم الغين وهو معنى سلسلت في الرواية الأخرى هذا كلام القاضي أو فيه أحرف بمعنى كلامه وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال والفطر لرؤية الهلال (وأنه إذا غم في أوله أو آخره أكملت عدة الشهر ثلاثين يوما) قوله صلى الله عليه وسلم (لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فان أغمي عليكم
188 فاقدروا له) وفي رواية فاقدروا له ثلاثين وفي رواية إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فافطروا فان غم عليكم فاقدروا له وفي رواية فان غم عليكم فصوموا ثلاثين يوما وفي رواية فان غمي عليكم فأكملوا العدد وفي رواية فان عمى عليكم الشهر فعدوا ثلاثين وفي رواية فان أغمي عليكم فعدوا ثلاثين هذه الروايات كلها في الكتاب على هذا الترتيب وفي رواية للبخاري فان غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين واختلف العلماء في معنى فاقدروا له فقالت طائفة من العلماء معناه ضيقوا له وقدروه تحت السحاب وممن قال بهذا أحمد بن حنبل وغيره ممن يجوز صوم يوم ليلة الغيم من رمضان كما سنذكره إن شاء الله تعالى وقال ابن سريج وجماعة منهم مطرف بن عبد الله وابن قتيبة وآخرون معناه قدروه بحساب المنازل وذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وجمهور السلف والخلف إلى أن معناه قدروا له تمام العدد ثلاثين يوما قال أهل اللغة يقال قدرت الشئ أقدره وأقدره وقدرته وأقدرته بمعنى واحد وهو من التقدير قال الخطابي ومنه قول الله تعالى الرحمن فنعم القادرون واحتج الجمهور بالروايات المذكورة فأكملوا العدة ثلاثين وهو تفسير لا قدروا له لهذا لم يجتمعا في رواية بل تارة يذكر هذا وتارة يذكر هذا ويؤكده الرواية السابقة فاقدروا له ثلاثين قال المازري حمل جمهور الفقهاء قوله صلى الله عليه وسلم فاقدروا له على أن المراد اكمال العدة ثلاثين كما فسره في حديث آخر قالوا ولا يجوز أن يكون المراد حساب المنجمين لأن الناس لو كلفوا به ضاق عليهم لأنه لا يعرفه الا أفراد والشرع إنما يعرف الناس بما يعرفه جماهيرهم والله أعلم وأما قوله صلى الله عليه وسلم (فان غم عليكم) فمعناه حال بينكم وبينه غيم يقال غم وأغمي وغمى وغمى بتشديد الميم وتخفيفها والغين مضمومة فيهما ويقال غبي بفتح الغين وكسر الباء وكلها صحيحة وقد غامت السماء وغيمت وأغامت وتغيمت وأغمت وفي هذه الأحاديث دلالة لمذهب مالك والشافعي والجمهور أنه لا يجوز صوم يوم الشك ولا يوم الثلاثين
189 من شعبان عن رمضان إذا كانت ليلة الثلاثين ليلة غيم قوله صلى الله عليه وسلم (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) المراد رؤية بعض المسلمين ولا يشترط رؤية كل انسان بل يكفي جميع الناس رؤية عدلين وكذا عدل على الأصح هذا في الصوم وأما الفطر فلا يجوز بشهادة عدل واحد على هلال شوال عند جميع العلماء الا أبا ثور فجوزه بعدل قوله صلى الله عليه وسلم (الشهر هكذا وهكذا) وفي رواية الشهر تسع وعشرون معناه أن الشهر قد يكون تسعا وعشرين وحاصله أن الاعتبار بالهلال فقد يكون تاما ثلاثين وقد يكون ناقصا تسعا وعشرين وقد لا يرى الهلال فيجب اكمال العدد ثلاثين قالوا وقد يقع النقص متواليا
190 في شهرين وثلاثة وأربعة ولا يقع في أكثر من أربعة وفي هذا الحديث جواز اعتماد الإشارة المفهمة في مثل هذا قوله (حدثنا زياد بن عبد الله البكائي) هو بفتح الباء وتشديد الكاف
191 قوله صلى الله عليه وسلم (انا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا وهكذا) قال العلماء أمية باقون على ما ولدتنا عليه الأمهات لا نكتب ولا نحسب ومنه النبي الأمي وقيل هو نسبة
192 إلى الأم وصفتها لأن هذه صفة النساء غالبا قوله (سمع ابن عمر رجلا يقول الليلة النصف فقال له وما يدريك أن الليلة النصف) وذكر الحديث معناه أنك لا تدري أن الليلة النصف أم لا لأن الشهر قد يكون تسعا وعشرين وأنت أردت أن الليلة ليلة اليوم الذي بتمامه يتم النصف وهذا إنما يصح على تقدير تمامه ولا تدرى أنه تام أم لا قوله صلى الله عليه وسلم (فان غمي عليكم الشهر) هو بضم الغين وكسر الميم مشددة ومخففة قوله صلى الله عليه وسلم
193 (لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين الا رجل كان يصوم صوما فليصمه) فيه التصريح بالنهي عن استقبال رمضان بصوم يوم ويومين لمن لم يصادف عادة له أو يصله بما قبله فإن لم يصله ولا صادف عادة فهو حرام هذا هو الصحيح في مذهبنا لهذا الحديث وللحديث الآخر في سنن أبي داود وغيره إذا انتصف شعبان فلا صيام حتى يكون رمضان فان وصله بما قبله أو صادف عادة له فان كانت عادته صوم يوم الاثنين ونحوه فصادفه فصامه تطوعا بنية ذلك جاز لهذا الحديث وسواء في النهى عندنا لمن لم يصادف عادته ولا وصله يوم الشك وغيره فيوم الشك داخل في النهي وفيه مذاهب للسلف فيمن صامه تطوعا وأوجب صومه عن رمضان أحمد وجماعة بشرط
194 أن يكون هناك غيم والله أعلم قوله في حلفه صلى الله عليه وسلم (لا يدخل على أزواجه شهرا ثم دخل لما مضت تسع وعشرون ليلة ثم قال الشهر تسع وعشرون) وفي رواية فخرج الينا في تسعة وعشرين فقلنا له إنما اليوم تسعة وعشرون وفي رواية فخرج الينا صباح تسع وعشرين فقال
195 ان الشهر يكون تسعا وعشرين وفي رواية فلما مضى تسع وعشرون يوما غدا عليهم أو راح قال القاضي رحمه الله تعالى معناه كله بعد تمام تسعة وعشرين يوما يدل عليه رواية فلما مضى تسع وعشرون يوما وقوله صباح تسع وعشرين أي صباح الليلة التي بعد تسعة وعشرين يوما وهي صبيحة ثلاثين ومعنى الشهر تسعة وعشرون أنه قد يكون تسعة وعشرين كما صرح به في بعض هذا الروايات والله أعلم
196 بيان أن لكل بلد رؤيتهم (وأنهم إذا رأوا الهلال ببلد لا يثبت حكمه لما بعد عنهم) فيه حديث كريب عن ابن عباس وهو ظاهر الدلالة للترجمة والصحيح عند أصحابنا أن الرؤية لا تعم الناس بل تختص بمن قرب على مسافة لا تقصر فيها الصلاة وقيل إن اتفق المطلع لزمهم وقيل إن اتفق الإقليم والا فلا وقال بعض أصحابنا تعم الرؤية في موضع جميع أهل الأرض فعلى هذا نقول إنما لم يعمل ابن عباس بخبر كريب لأنه شهادة فلا تثبت بواحد لكن ظاهر حديثه أنه لم يرده لهذا وإنما رده لأن الرؤية لم يثبت حكمها في حق البعيد قوله (واستهل على رمضان) هو بضم التاء من استهل
197 بيان أنه لا اعتبار بكبر الهلال وصغره (وأن الله تعالى أمده للرؤية فان غم فليكمل ثلاثون) فيه حديث أبي البختري عن ابن عباس وهو ظاهر الدلالة للترجمة وقوله (تراءينا الهلال) أي تكلفنا النظر إلى جهته لنراه قوله (عن ابن عباس فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مده للرؤية) هكذا هو في بعضا لنسخ وفي بعضها فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله مده للرؤية وجميع النسخ متفقة على مده من غير ألف فيها وفي الرواية الثانية فقال ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان اله قد أمده لرؤيته هكذا هو في جميع النسخ أمده بألف في أوله قال القاضي قال بعضهم الوجه أن يكون أمده بالتشديد من الامداد ومده من الامتداد قال
198 القاضي والصواب عندي بقاء الرواية على وجهها ومعناه أطال مدته إلى الرؤية يقال منه مد وأمد قال الله تعالى وإخوانهم يمدونهم في الغي قرئ بالوجهين أي يطيلون لهم قال وقد يكون أمده من المدة التي جعلت له قال صاحب الأفعال أمددتكها أي أعطيتكها قوله في الاسناد (عن أبي البختري) هو بفتح الموحدة واسكان الخاء المعجمة وفتح التاء واسمه سعيد بن فيروز ويقال ابن عمران ويقال ابن أبي عمران الطائي توفى سنة ثلاث وثمانين عام الجماجم بيان معنى قوله صلى الله عليه وسلم شهرا عيد لا ينقصان قوله صلى الله عليه وسلم (شهرا عيد لا ينقصان رمضان وذو الحجة) الأصح أن معناه لا ينقص أجرهما والثواب المرتب عليهما وان نقص عددهما وقيل معناه لا ينقصان جميعا في سنة واحدة غالبا وقيل لا ينقص ثواب ذي الحجة عن ثواب رمضان لأن فيه المناسك حكاه الخطابي وهو ضعيف والأول هو الصواب المعتمد ومعناه أن قوله صلى الله عليه وسلم من صام رمضان ايمانا واحتسابا غفر ما تقدم من ذنبه وقوله صلى الله عليه وسلم من قام رمضان ايمانا واحتسابا وغير ذلك فكل هذه الفضائل تحصل سواء تم عدد رمضان أم نقص والله أعلم
199 بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر (وأن له الأكل وغيره حتى يطلع الفجر وبيان صفة الفجر الذي تتعلق به الأحكام) (من الدخول في الصوم ودخول وقت صلاة الصبح وغير ذلك وهو الفجر الثاني) (ويسمى الصادق والمستطير وأنه لا أثر للفجر الأول في الأحكام وهو الفجر الكاذب) (المستطيل باللام كذنب السرحان وهو الذئب) قوله (عن عدى بن حاتم لما نزلت يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر قال له عدى يا رسول الله أنى أجعل تحت وسادتي عقالين عقالا أبيض وعقالا اسود أعرف الليل من النهار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان وسادك لعريض إنما هو سواد الليل وبياض النهار) هكذا هو في كثير من النسخ أو أكثرها فقال له عدى وفي بعضها قال عدى بحذف له وكلاهما صحيح ومن أثبتها أعاد الضمير إلى معلوم أو متقدم الذكر عند المخاطب وفي أكثر النسخ أو كثير منها ان وسادك لعريض وفي بعضها أن وسادتك لعريض بزيادة تاء وله وجه أيضا مع قوله عريض ويكون المراد بالوسادة الوساد كما في الرواية الأخرى فعاد الوصف على المعنى لا على اللفظ وأما معنى الحديث فللعلماء فيه شروح أحسنها كلام القاضي عياض رحمه الله تعالى قال إنما أخذ العقالين وجعلهما تحت رأسه وتأول الآية لكونه سبق إلى فهمه أن المراد
200 بها هذا وكذا وقع لغيره ممن فعله حتى نزل قوله تعالى الفجر فعلموا أن المراد به بياض النهار وسواد الليل وليس المراد أن هذا كان حكم الشرع أولا ثم نسخ بقوله تعالى من الفجر كما أشار إليه الطحاوي والداودي قال القاضي وإنما المراد أن ذلك فعله وتأوله من لم يكن مخالطا للنبي صلى الله عليه وسلم بل هو من الأعراب ومن لا فقه عنده أو لم يكن من لغته استعمال الخيط في الليل والنهار لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ولهذا أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على عدى بقوله صلى الله عليه وسلم ان وسادك لعريض إنما هو بياض النهار وسواد الليل قال وفيه ان الألفاظ المشتركة لا يصار إلى العمل بأظهر وجوهها وأكثر استعمالها الا إذا عدم البيان وكان البيان حاصلا بوجود النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو عبيد الخيط الأبيض الفجر الصادق والخيط الأسود الليل والخيط اللون وفي هذا مع قوله صلى الله عليه وسلم سواد الليل وبياض النهار دليل على أن ما بعد الفجر هو من النهار لا من الليل ولا فاصل بينهما وهذا مذهبنا وبه قال جماهير العلماء وحكى فيه شئ عن الأعمش وغيره لعله لا يصح عنهم قوله صلى الله عليه وسلم ان وسادك لعريض قال القاضي معناه إن جعلت تحت وسادك الخيطين الذين أرادهما الله تعالى وهما الليل والنهار فوسادك يعلوهما ويغطيهما وحينئذ يكون عريضا وهو معنى الرواية الأخرى في صحيح البخاري انك لعريض القفا لان من يكون هذا وساده يكون عظم قفاه من نسبته بقدره وهو معنى الرواية الأخرى إنك لضخم وأنكر القاضي قول من قال إنه كناية عن الغباوة أو عن السمن لكثرة أكله إلى بيان الخيطين وقال بعضهم المراد بالوساد النوم أي ان نومك كثير وقيل أراد
201 به الليل أي من لم يكن النهار عنده الا إذ بان له العقالان طال ليله وكثر نومه والصواب ما اختاره القاضي والله أعلم قوله (ربط أحدهم في رجليه الخيط الأسود والخيط الأبيض ولا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رئيهما) هذه اللفظة ضبطت على ثلاثة أوجه أحدها رئيهما براء مكسورة ثم همزة ساكنة ثم ياء ومعناه منظرهما ومنه قول الله تعالى أحسن أثاثا ورئيا والثاني زيهما بزاي مكسورة وياء مشددة بلا همزة ومعناه لونهما والثالث ريهما بفتح الراء وكسرها وتشديد الياء قال القاضي هذا غلط هنا لأن الري التابع من الجن قال فان صح رواية فمعناه مري والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (ان بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى تسمعوا تأذين ابن أم مكتوم) فيه جواز الاذان للصبح قبل طلوع الفجر وفيه جواز الأكل والشرب والجماع وسائر الأشياء إلى طلوع الفجر وفيه جواز أذان الأعمى قال أصحابنا هو جائز فإن كان معه بصير كابن أم مكتوم مع بلال فلا كراهة فيه وان لم يكن معه بصير كره للخوف من غلطه وفيه استحباب أذانين للصبح أحدهما قبل الفجر والآخر بعد طلوعه أول الطلوع وفيه اعتماد صوت المؤذن واستدل به مالك والمزني وسائر من يقبل شهادة الأعمى وأجاب الجمهور عن هذا بأن الشهادة يشترط فيها العلم ولا يحصل علم بالصوت لأن الأصوات تشتبه وأما الاذان ووقت الصلاة فيكفي فيها الظن وفيه دليل لجواز
202 الأكل بعد النية ولا تفسد نية الصوم بالأكل بعدها لأن النبي صلى الله عليه وسلم أباح الأكل إلى طلوع الفجر ومعلوم أن النية لا تجوز بعد طلوع الفجر فدل على أنها سابقة وأن الأكل بعدها لا يضر وهذا هو الصواب المشهور من مذهبنا ومذهب غيرنا وقال بعض أصحابنا متى أكل بعد النية أو جامع فسدت ووجب تجديدها والا فلا يصح صومه وهذا غلط صريح وفيه استحباب السحور وتأخيره وفيه اتخاذ مؤذنين للمسجد الكبير قال أصحابنا وان دعت الحاجة جاز اتخاذ أكثر منهما كما اتخذ عثمان أربعة وان احتاج إلى زيادة على أربعة فالأصح اتخاذهم بحسب الحاجة والمصلحة قوله (ولم يكن بينهما الا أن ينزل هذا ويرقى هذا) قال العلماء
203 معناه أن بلال كان يؤذن قبل الفجر ويتربص بعد أذانه للدعاء ونحوه ثم يرقب الفجر فإذا قارب طلوعه نزل فأخبر ابن أم مكتوم فيتأهب ابن أم مكتوم بالطهارة وغيرها ثم يرقى ويشرع في الأذان مع أول طلوع الفجر والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (لا يمنعن أحدا منكم أذان بلال أو نداء بلال من سحوره فإنه يؤذن أو قال ينادي ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم) فلفظة قائمكم منصوبة مفعول يرجع قال الله تعالى فان رجعك الله ومعناه أنه إنما يؤذن بليل ليعلمكم بأن الفجر ليس ببعيد فيرد القائم المتهجد إلى راحته لينام غفوة ليصبح نشيطا أو يوتر ان لم يكن أوتر أو يتأهب للصبح ان احتاج إلى طهارة أخرى أو نحو ذلك من مصالحه المترتبة على علمه بقرب الصبح وقوله صلى الله عليه وسلم ويوقظ نائمكم أي ليتأهب للصبح أيضا بفعل ما أراد من تهجد قليل أو ايتار ان لم يكن أوتر أو سحور أن أراد الصوم أو اغتسال أو وضوء أو غير ذلك مما يحتاج إليه قبل الفجر قوله صلى الله عليه وسلم في صفة الفجر (ليس أن يقول هكذا وهكذا وصوب يده ورفعها حتى يقول هكذا وفرج بين أصبعه) وفي الرواية الأخرى (ان الفجر ليس الذي يقول هكذا وجمع أصابعه ثم نكسها إلى الأرض ولكن الذي يقول هكذا ووضع المسبحة على المسبحة ومد يده) وفي الرواية الأخرى
204 (هو المعترض وليس بالمستطيل) وفي الرواية الأخرى (لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا) قال الراوي يعنى معترضا في هذه الأحاديث بيان الفجر الذي يتعلق به الأحكام وهو الفجر الثاني الصادق والمستطر بالراء وقد سبق في ترجمة الباب بيان الفجرين وفيها أيضا الايضاح في البيان والإشارة لزيادة البيان في التعليم والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (لا يغرن أحدكم نداء بلال من السحور) ضبطناه بفتح السين وضمها فالمفتوح اسم
205 للمأكول والمضموم اسم للفعل وكلاهما صحيح هنا فضل السحور وتأكيد استحبابه (واستحباب تأخيره وتعجيل الفطر) قوله صلى الله عليه وسلم (تسحروا فان في السحور بركة) روى بفتح السين من السحور وضمها وسبق قريبا بيانهما فيه الحث على السحور وأجمع العلماء على استحبابه وأنه ليس بواجب وأما البركة التي فيه فظاهره لأنه يقوى على الصيام وينشط له وتحصل بسببه الرغبة في الازدياد من الصيام لخفة المشقة فيه على المتسحر فهذا هو الصواب المعتمد في معناه وقيل لأنه يتضمن الاستيقاظ والذكر والدعاء في ذلك الوقت الشريف وقت تنزل الرحمة وقبول الدعاء والاستغفار وربما توضأ صاحبه وصلى أو أدام الاستيقاظ للذكر والدعاء والصلاة أو التأهب لها حتى يطلع الفجر
206 قوله (عن موسى بن علي) هو بضم العين على المشهور وقيل بفتحها قوله صلى الله عليه وسلم (فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر) معناه الفارق والمميز بين صيامنا وصيامهم السحور فإنهم لا يتسحرون ونحن يستحب لنا السحور وأكلة السحر هي السحور وهي بفتح الهمزة هكذا ضبطناه وهكذا ضبطه الجمهور وهو المشهور في روايات بلادنا وهي عبارة عن المرة الواحدة من الأكل كالغدوة والعشوة وان كثر المأكول فيها وأما الأكلة بالضم فهي اللقمة وادعى القاضي عياض أن الرواية فيه بالضم ولعله أراد رواية أهل بلادهم فيها بالضم قال والصواب الفتح لأنه المقصود هنا قوله (تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قمنا إلى الصلاة قلت كم بينهما قال خمسين آية) معناه بينهما قدر قراءة خمسين آية أو أن يقرأ
207 خمسين وفيه الحث على تأخير السحور إلى قبيل الفجر قوله صلى الله عليه وسلم (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر) فيه الحث على تعجيله بعد تحقق غروب الشمس ومعناه لا يزال أمر الأمة منتظما وهم بخير ما داموا محافظين على هذه السنة وإذا أخروه كان ذلك علامة على فساد يقعون فيه قوله (لا يألو عن الخير) أي لا يقصر عنه
208 بيان وقت انقضاء الصوم وخروج النهار قوله صلى الله عليه وسلم (إذا أقبل الليل وأدبر النهار وغابت الشمس فقد أفطر الصائم) معناه انقضى صومه وتم ولا يوصف الآن بأنه صائم فان بغروب الشمس خرج النهار ودخل الليل والليل ليس محلا للصوم وقوله صلى الله عليه وسلم أقبل الليل وأدبر النهار وغربت الشمس قال العلماء كل واحد من هذه الثلاثة يتضمن الآخرين ويلازمهما وإنما جمع بينها لأنه قد يكون في واد ونحوه بحيث لا يشاهد غروب الشمس فيعتمد اقبال الظلام وادبار الضياء والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (انزل فاجدح لنا فنزل فجدح) هو بجيم ثم حا مهملة وهو خلط الشئ بغيره والمراد هنا خلط السويق بالماء وتحريكه حتى يستوى والمجدح بكسر الميم عود
209 مجنح الرأس ليساط به الأشربة وقد يكون له ثلاث شعب قوله (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فلما غابت الشمس قال لرجل أنزل فاجدح لنا فقال يا رسول الله لو أمسيت فقال إنزل فاجدح لنا قال إن علينا نهارا فنزل فجدح فشرب ثم قال إذا رأيتم الليل إلى آخره) معنى الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا صياما وكان ذلك في شهر رمضان كما صرح به في رواية يحيى بن يحيى فلما غربت الشمس أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالجدح ليفطروا فرأى المخاطب آثار الضياء والحمرة التي بعد غروب الشمس فظن أن الفطر لا يحل الا بعد ذهاب ذلك واحتمل عنده ان النبي صلى الله عليه وسلم لم يرها فأراد تذكيره واعلامه بذلك ويؤيد
210 هذا قوله إن عليك نهارا لتوهمه أن ذلك الوضوء من النهار الذي يجب صومه وهو معنى لو أمسيت أي تأخرت حتى يدخل المساء وتكريره المراجعة لغلبة اعتقاده على أن ذلك نهار يحرم فيه الأكل مع تجويزه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينظر إلى ذلك الضوء نظرا تاما فقصد زيادة الاعلام ببقاء الضوء وفي هذا الحديث جواز الصوم في السفر وتفضيله على الفطر لمن لا تلحقه بالصوم مشقة ظاهرة وفيه بيان انقضاء الصوم بمجرد غروب الشمس واستحباب تعجيل الفطر وتذكير العالم ما يخاف أن يكون نسيه وأن الفطر على التمر ليس بواجب وإنما هو مستحب لو تركه جاز وأن الأفضل بعده الفطر على الماء وقد جاء هذا الترتيب في الحديث الآخر في سنن أبي داود وغيره في لأمر بالفطر على تمر فإن لم يجد فعلى الماء فإنه طهور النهى عن الوصال اتفق أصحابنا على النهى عن الوصال وهو صوم يومين فصاعدا من غير أكل أو شرب بينهما ونص الشافعي وأصحابنا على كراهته ولهم في هذه الكراهة وجهان أصحهما أنها كراهة تحريم والثاني كراهة تنزيه وبالنهي عنه قال جمهور العلماء وقال القاضي عياض اختلف العلماء في
211 أحاديث الوصال فقيل النهى عنه رحمة وتخفيف فمن قدر فلا حرج وقد واصل جماعة من السلف الأيام قال وأجازه ابن وهب وأحمد وإسحاق إلى السحر ثم حكى عن الأكثرين كراهته وقال الخطابي وغيره من أصحابنا الوصال من الخصائص التي أبيحت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحرمت على الأمة واحتج لمن اباحه بقوله في بعض طرق مسلم نهاهم عن الوصال رحمة لهم وفي بعضها لما أبوا أن ينتهوا واصل بهم يوما ثم يوما ثم رأوا الهلال فقال لو تأخر الهلال لزدتكم وفيه بعضها لو مد لنا الشهر لواصلنا وصالا يدع المتعمقون تعمقهم واحتج الجمهور بعموم النهى وقوله صلى الله عليه وسلم لا تواصلوا وأجابوا على قوله رحمة بأنه لا يمنع ذلك كونه منهيا عنه للتحريم وسبب تحريمه الشفقة عليهم لئلا يتكلفوا ما يشق عليهم وأما الوصال بهم يوما ثم يوما فاحتمل للمصلحة في تأكيد زجرهم وبيان الحكمة في نهيهم والمفسدة المترتبة على الوصال وهي الملل من العبادة والتعرض للتقصير في بعض وظائف الدين من اتمام الصلاة بخشوعها وأذكارها وآدابها وملازمة الأذكار وسائر الوظائف المشروعة في نهاره وليله والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (أني أبيت يطعمني ربي ويسقيني) معناه يجعل الله تعالى في قوة الطاعم الشارب وقيل هو على ظاهره وأنه يطعم من طعام الجنة كرامة له والصحيح الأول لأنه
212 لو أكل حقيقة لم يكن مواصلا ومما يوضح هذا التأويل ويقطع كل نزاع قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية التي بعد هذا أني أظل يطعمني ربي ويسقيني ولفظة ظل لا يكون الا في النهار كما سنوضحه قريبا إن شاء الله تعالى ولا يجوز الاكل الحقيقي في النهار بلا شك والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (فاكلفوا من الأعمال ما تطيقون) هو بفتح اللام ومعناه خذوا وتحملوا قوله (فلما حس النبي صلى الله عليه وسلم أنا خلفه جعل يتجوز في الصلاة ثم دخل رحله) هكذا هو في جميع النسخ حس بغير ألف ويقع في طرق بعض النسخ أحس بالألف وهذا هو الفصيح الذي جاء به القرآن وأما حس بحذف الألف فلغة قليلة وهذه الرواية تصح على هذه اللغة وقوله يتجوز أن يخفف ويقتصر على الجائز المجزى مع بعض المندوبات والتجوز هنا للمصلحة وقوله دخل رحله اي منزله قال الأزهري رحل الرجل عند العرب هو منزله سواء كان من حجر أو مدر أو وبر أو شعر وغيرها
213 قوله صلى الله عليه وسلم (أما والله لو تماد لي الشهر) هكذا هو في معظم الأصول وفي بعضها تمادى وكلاهما صحيح وهو بمعنى مد في الرواية الأخرى قوله صلى الله عليه وسلم (يدع المتعمقون تعمقهم) هم المشددون في الأمور المجاوزون الحدود في قول أو فعل قوله في حديث عاصم بن النضر (واصل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول شهر رمضان) كذا هو في كل النسخ ببلادنا وكذا نقله القاضي عن أكثر النسخ قال وهو وهم من الراوي وصوابه آخر شهر رمضان وكذا رواه بعض رواة صحيح مسلم وهو الموافق للحديث الذي قبله ولباقي الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم (أني أظل يطعمني ربي ويسقيني) قال أهل اللغة يقال ظل يفعل كذا إذا عمله في النهار دون الليل وبات يفعل كذا إذا عمله في الليل ومنه قول عنترة ولقد أبيت على الطوى وأظله أي أظل عليه فيستفاد من هذه الرواية دلالة للمذهب الصحيح الذي قدمناه في تأويل أبيت يطعمني ربي لأن ظل لا يكون الا في النهار
214 ولا يجوز أن يكون أكلا حقيقيا في النهار والله أعلم بيان أن القبلة في الصوم ليست محرمة على من لم تحرك شهوته قال الشافعي والأصحاب القبلة في الصوم ليست محرمة على من لم تحرك شهوته لكن الأولى له تركها ولا يقال إنها مكروهة له وإنما قالوا إنها خلاف الأولى في حقه مع ثبوت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعلها لأنه صلى الله عليه وسلم كان يؤمن في حقه مجاوزة حد القبلة ويخاف على غيره مجاوزتها كما قالت عائشة كان أملككم لإربه وأما من حركت شهوته فهي حرام في حقه على الأصح عند أصحابنا وقيل مكروهة كراهة تنزيه قال القاضي قد قال باباحتها للصائم مطلقا جماعة من الصحابة والتابعين وأحمد وإسحاق وداود وكرهها على الاطلاق مالك وقال ابن عباس وأبو حنيفة والثوري والأوزاعي والشافعي تكره للشاب دون الشيخ الكبير وهي رواية عن مالك وروى ابن وهب عن مالك رحمه الله اباحتها في صوم النفل دون الفرض ولا خلاف أنها لا تبطل الصوم الا أن ينزل المنى بالقبلة واحتجوا له بالحديث المشهور في السنن وهو قوله صلى الله عليه وسلم أرأيت لو تمضمضت ومعنى الحديث أن المضمضة مقدمة الشرب وقد علمتم أنها لا تفطر وكذا القبلة مقدمة للجماع فلا تفطر وحكى الخطابي وغيره عن ابن مسعود وسعيد بن المسيب أن من قبل قضى يوما مكان يوم القبلة قوله (عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل احدى نسائه وهو صائم ثم تضحك) قال القاضي قيل يحتمل ضحكها
215 التعجب ممن خالف في هذا وقيل التعجب من نفسها حيث جاءت بمثل هذا الحديث الذي يستحى من ذكره لا سيما حديث المرأة به عن نفسها للرجال لكنها اضطرت إلى ذكره لتبليغ الحديث والعلم فتتعجب من ضرورة الحال المضطرة لها إلى ذلك وقيل ضحكت سرورا بتذكر مكانها من النبي صلى الله عليه وسلم وحالها معه وملاطفته لها قال القاضي ويحتمل أنها ضحكت تنبيها على أنها صاحبة القصة ليكون أبلغ في الثقة بحديثها قوله (فسكت ساعة) أي ليتذكر قولها وأيكم يملك إربه كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك إربه هذه اللفظة رووها على وجهين أشهرهما رواية الأكثرين إربه بكسر الهمزة واسكان الراء وكذا نقله الخطابي والقاضي عن رواية الأكثرين والثاني بفتح الهمزة والراء ومعناه بالكسر الوطر والحاجة وكذا بالفتح ولكنه يطلق المفتوح أيضا على العضو قال الخطابي في معالم السنن هذه اللفظة تروى على وجهين الفتح والكسر قال ومعناهما واحد وهو حاجة النفس ووطرها يقال لفلان على فلان إرب وأرب وأربة ومأربة أي حاجة قال والإرب أيضا العضو قال العلماء معنى كلام عائشة رضي الله عنها أنه ينبغي لكم الاحتراز عن القبلة ولا تتوهموا من أنفسكم أنكم مثل النبي صلى الله عليه وسلم في استباحتها لأنه يملك نفسه ويأمن الوقوع في قبلة يتولد منها انزال أو شهوة أو هيجان نفس ونحو ذلك
216 وأنتم لا تأمنون ذلك فطريقكم الانكفاف عنها وفيه جواز الاخبار عن مثل هذا مما يجرى بين الزوجين على الجملة للضرورة وأما في غير حال الضرورة فمنهى عنه قولها (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم ويباشر وهو صائم) معنى المباشرة هنا اللمس باليد وهو من التقاء البشرتين قوله (دخلا على عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ليسألانها) كذا هو في كثير من الأصول ليسألانها باللام والنون وهي لغة قليلة وفي كثير من الأصول يسألانها بحذف
217 اللام وهذا واضح وهو الجاري على المشهور في العربية قوله (حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا الحسن بن موسى حدثنا شيبان عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة أن عمر بن عبد العزيز أخبره أن عروة بن الزبير أخبره أن عائشة أم المؤمنين أخبرته) هذا الاسناد فيه أربعة تابعيون بعضهم عن بعض وهم يحيى وأبو سلمة وعمر وعروة رضي الله عنهم قوله (حدثنا يحيى بن بشر الحريري) هو بفتح الحاء المهملة قوله (عن زياد بن علاقة) هو بكسر العين المهملة وبالقاف قولها (يقبل في شهر الصوم) يعنى في حال الصيام
218 قوله (عن شتير بن شكل) أما شتير فبشين معجمة مضمومة ثم مثناة من فوق مفتوحة وأما شكل فبشين معجمة ثم كاف مفتوحتين ومنهم من سكن الكاف والمشهور فتحها قوله (يا رسول الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أما والله اني لأتقاكم لله وأشدكم خشية له) سبب قول هذا القائل قد غفر الله لك انه ظن أن جواز التقبيل للصائم من خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم وانه لا حرج عليه فيما يفعل لأنه مغفور له أنكر عليه صلى الله عليه وسلم هذا وقال أنا أتقاكم لله تعالى وأشدكم خشية فكيف تظنون بي أو تجوزون على ارتكاب منهى عنه ونحوه وقد جاء في هذا الحديث في غير مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم غضب حين قال القائل هذا القول وجاء في الموطأ فيه يحل الله
219 لرسوله ما شاء والله أعلم صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب) قوله (أخبرنا عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن عبن أبي بكر قال سمعت أبا هريرة يقول في قصصه من أدركه الفجر جنبا فلا يصم قال فذكرت ذلك لعبد الرحمن بن الحارث لأبيه فأنكر ذلك فانطلق عبد الرحمن وانطلقت معه حتى دخلنا على عائشة وأم سلمة فسألهما عبد الرحمن إلى آخره) هكذا هو في جميع النسخ فذكرت ذلك لعبد الرحمن بن الحارث لأبيه وهو صحيح مليح ومعناه ذكره أبو بكر بأبيه عبد الرحمن فقوله لأبيه بدل من عبد الرحمن بإعادة حرف الجر قال القاضي ووقع في رواية ابن ماهان فذكر ذلك عبد الرحمن لأبيه وهذا غلط فاحش لأنه تصريح بأن الحارث والد عبد الرحمن هو المخاطب بذلك وهو باطل لأن هذه القصة كانت في ولاية مروان على المدينة في خلافة معاوية والحارث توفي في طاعون عمواس في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة ثمان عشرة والله أعلم قوله (عن أبي هريرة أنه قال من أدركه الفجر جنبا فلا يصم) ثم ذكر أنه حين بلغه قول عائشة وأم سلمة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنبا ويتم صومه رجع أبو هريرة عن قوله مع أنه كان رواه عن الفضل عن النبي صلى الله عليه وسلم فلعل سبب رجوعه أنه تعارض عنده الحديثان فجمع بينهما وتأول أحدهما وهو قوله من أدركه الفجر جنبا فلا يصم وفي رواية مالك أفطر فتأوله على ما سنذكره من
220 الأوجه في تأويله إن شاء الله تعالى فلما ثبت عنده أن حديث عائشة وأم سلمة على ظاهره وهذا متأول رجع عنه وكان حديث عائشة وأم سلمة أولى بالاعتماد لأنهما أعلم بمثل هذا من غيرهما ولأنه موافق للقرآن فان الله تعالى أباح الأكل والمباشرة إلى طلوع الفجر قال الله تعالى باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر بالمباشرة الجماع ولهذا قال الله تعالى وابتغوا ما كتب الله لكم ومعلوم أنه إذا جاز الجماع إلى طلوع الفجر لزمه منه أن يصبح جنبا ويصح صومه لقوله تعالى أتموا الصيام إلى الليل وإذا دل القرآن وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على جواز الصوم لمن أصبح جنبا وجب الجواب عن حديث أبي هريرة عن الفضل عن النبي صلى الله عليه وسلم وجوابه من ثلاثة أوجه أحدها أنه ارشاد إلى الأفضل فالأفضل أن يغتسل قبل الفجر فلو خالف جاز وهذا مذهب أصحابنا وجوابهم عن الحديث فان قيل كيف يكون الاغتسال قبل الفجر أفضل وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه فالجواب أنه صلى الله عليه وسلم فعله لبيان الجواز ويكون في حقه حينئذ أفضل لأنه يتضمن البيان للناس وهو مأمور بالبيان وهذا كما توضأ مرة مرة في بعض الأوقات بيانا للجواز ومعلوم أن الثلاث أفضل وهو الذي واظب عليه وتظاهرت به الأحاديث وطاف على البعير لبيان الجواز ومعلوم أن الطواف ساعيا أفضل وهو الذي تكرر منه صلى الله عليه وسلم ونظائره كثيرة والجواب الثاني لعله محمول على من أدركه الفجر مجامعا فاستدام بعد طلوع الفجر عالما فإنه يفطر ولا صوم له والثالث جواب ابن المنذر فيما رواه عن البيهقي أن حديث أبي هريرة منسوخ وأنه كان في أول الأمر حين كان الجماع محرما في الليل بعد النوم كما كان الطعام والشراب محرما ثم نسخ ذلك ولم يعلمه أبو هريرة فكان يفتى بما علمه حتى بلغه الناسخ فرجع إليه قال ابن المنذر هذا أحسن ما سمعت فيه والله أعلم قولها (يصبح جنبا من غير حلم) هو بضم الحاء وبضم اللام وإسكانها وفيه دليل لمن يقول بجواز الاحتلام على
221 الأنبياء وفيه خلاف قدمناه الأشهر امتناعه قالوا لأنه من تلاعب الشيطان وهم منزهون عنه ويتأولون هذا الحديث على أن المراد يصبح جنبا من جماع ولا يجنب من احتلام لامتناعه منه ويكون قريبا من معنى قول الله تعالى النبيين بغير حق ومعلوم أن قتلهم لا يكون بحق قوله (عزمت عليك الا ما ذهبت إلى أبي هريرة) أي أمرتك أمرا جازما عزيمة محتمة وأمر ولاة الأمور تجب طاعته في غير معصية قوله (فرد أبو هريرة ما كان يقول في ذلك إلى الفضل ابن العباس) فقال أبو هريرة سمعت ذلك من الفضل وفي رواية النسائي قال أبو هريرة أخبرنيه أسامة بن زيد وفي رواية أخبرنيه فلان وفلان فيحمل على أنه سمعه من الفضل وأسامة أما حكم المسلة فقد أجمع أهل هذه الأمصار على صحة صوم الجنب سواء كان من احتلام أو جماع وبه قال جماهير الصحابة والتابعين وحكى عن الحسن بن صالح ابطاله وكان عليه أبو هريرة والصحيح أنه رجع عنه كما صرح به هنا في رواية مسلم وقيل لم يرجع عنه وليس بشئ وحكى عن طاوس وعروة والنخعي أن علم بجنابته لم يصح والا فيصح وحكى مثله عن أبي هريرة وحكى أيضا عن الحسن البصري والنخعي أنه يجزيه في صوم التطوع دون الفرض وحكى عن سالم بن عبد الله والحسن البصري والحسن بن صالح يصومه ويقضيه ثم ارتفع هذا الخلاف وأجمع العلماء بعد هؤلاء على صحته كما قدمناه وفي صحة الاجماع بعد الخلاف خلاف مشهور لأهل الأصول وحديث عائشة وأم سلمة حجة على كل مخالف والله أعلم وإذا انقطع دم الحائض والنفساء في الليل ثم طلع الفجر قبل اغتسالهما صح صومهما ووجب عليهما اتمامه سواء تركت الغسل عمدا أو سهوا
222 بعذر أم بغيره كالجنب هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة الا ما حكى عن بعض السلف مما لا نعلم صح عنه أم لا قوله (أبو طوالة) هو بضم الطاء المهملة
223 تغليط تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم (ووجوب الكفارة الكبرى فيه وبيانها وأنها تجب على الموسر والمعسر) (وتثبت في ذمة المعسر حتى يستطيع) في الباب حديث أبي هريرة في المجامع امرأته في نهار رمضان ومذهبنا ومذهب العلماء كافة وجوب الكفارة عليه إذا جامع عامدا جماعا أفسد به صوم يوم رمضان والكفارة عتق رقبة مؤمنة سليمة من العيوب التي تضر بالعمل اضرارا بينا فان عجز عنها فصوم شهرين متتابعين فان عجز فاطعام ستين مسكينا كل مسكين مد من طعام وهو رطل وثلث بالبغدادي فان عجز عن الخصال الثلاث فللشافعي قولان أحدهما لا شئ عليه وان استطاع بعد ذلك فلا شئ عليه واحتج لهذا القول بأن حديث هذا المجامع ظاهر بأنه لم يستقر في ذمته شئ لأنه أخبر بعجزه ولم يقل له رسول الله صلى الله عليه وسلم
224 أن الكفارة ثابتة في ذمته بل أذن له في اطعام عياله والقول الثاني وهو الصحيح عند أصحابنا وهو المختار أن الكفارة لا تسقط بل تستقر في ذمته حتى يمكن قياسا على سائر الديون والحقوق والمؤاخذات كجزاء الصيد وغيره وأما الحديث فليس فيه نفي استقرار الكفارة بل فيه دليل لاستقرارها لأنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه عاجز عن الخصال الثلاث ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعرق التمر فأمره باخراجه في الكفارة فلو كانت تسقط بالعجز لم يكن عليه شئ ولم يأمره باخراجه فدل على ثبوتها في ذمته وإنما أذله في اطعام عياله لأنه كان محتاجا ومضطرا إلى الانفاق على عياله في الحال والكفارة على التراخي فأذن له في أكله واطعام عياله وبقيت الكفارة في ذمته وإنما لم يبين له بقاءها في ذمته لأن تأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز عند جماهير الأصوليين وهذا هو الصواب في معنى الحديث وحكم المسألة وفيها أقوال وتأويلات أخر ضعيفة وأما المجامع ناسيا فلا يفطر ولا كفارة عليه هذا هو الصحيح من مذهبنا وبه قال جمهور العلماء ولأصحاب مالك خلاف في وجوبها عليه وقال أحمد يفطر وتجب به الكفارة وقال عطاء وربيعة والأوزاعي والليث والثوري يجب القضاء ولا كفارة دليلنا أن الحديث صح أن أكل الناسي لا يفطر والجماع في معناه وأما الأحاديث الواردة في الكفارة في الجماع فإنما هي في جماع العامد ولهذا قال في بعضها هلكت وفي بعضها احترقت احترقت وهذا لا يكون الا في عامد فان الناسي لا اثم عليه بالاجماع قوله صلى الله عليه وسلم (هل تجد ما تعتق رقبة) رقبة منصوب بدل من ما قوله (فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بعرق) هو بفتح العين والراء هذا هو الصواب المشهور في الرواية واللغة وكذا حكاه القاضي عن رواية الجمهور ثم قال ورواه كثير من شيوخنا وغيرهم باسكان الراء قال والصواب الفتح ويقال للعرق والزبيل بفتح الزاي من غير نون والزنبيل بكسر الزاي وزيادة نون ويقال له القفة والمكتل بكسر الميم وفتح التاء المثناة فوق والسفيفة بفتح
225 السين المهملة وبالفائين قال القاضي قال ابن دريد سمى زبيلا لأنه يحمل فيه الزبل والعرق عند الفقهاء ما يسع خمسة عشر صاعا وهي ستون مدا لستين مسكينا لكل مسكين مد قوله (قال أفقر منا) كذا ضبطناه أفقر بالنصب وكذا نقل القاضي أن الرواية فيه بالنصب على ضمان فعل تقديره أتجد أفقر منا أو أتعطى قال ويصح رفعه على تقدير هل أحد أفقر منا كما قال في الحديث الآخر بعده أغيرنا كذا ضبطناه بالرفع ويصح النصب على ما سبق هذا كلام القاضي وقد ضبطنا الثاني بالنصب أيضا فهما جائزان كما سبق توجيههما قوله (فما بين لابتيها هما الحرتان والمدينة بين حرتين والحرة الأرض الملبسة حجارة سودا ويقال لابة ولو به ونوبة بالنون حكاهن أبو عبيد والجوهري ومن لا يحصى من أهل اللغة قالوا ومنه قيل للأسود لوبى ونوبى باللام والنون قالوا وجمع اللابة لوب ولاب ولابات وهي غير مهموزة قوله (وهو الزنبيل) هكذا ضبطناه بكسر الزاي وبعدها نون وقد سبق بيانه قريبا قوله (إن رجلا وقع بامرأته) كذا هو في معظم النسخ وفي
226 بعضها واقع امرأته وكلاهما صحيح قوله (أمر رجلا أفطر في رمضان أن يعتق رقبة أو يصوم شهرين أو يطعم ستين مسكينا) لفظة أو هنا للتقسيم لا للتخيير تقديره يعتق أو يصوم ان عجز عن العتق أو يطعم ان عجز عنهما وتبينه الروايات الباقية وفي هذه الروايات دلالة لأبي حنيفة ومن يقول يجزي عتق كافر عن كفارة الجماع والظهار وإنما يشترطون الرقبة المؤمنة في كفارة القتل لأنها منصوص على وصفها بالايمان في القرآن وقال الشافعي والجمهور يشترط الايمان في جميع الكفارات تنزيلا للمطلق على المقيد والمسألة مبينة على ذلك فالشافعي يحمل المطلق على المقيد وأبو حنيفة يخالفه قوله (احترقت) فيه استعمال المجاوز وأنه لا انكار على مستعمله قوله صلى الله عليه وسلم (تصدق تصدق) هذا التصدق مطلق وجاء مقيدا في الروايات السابقة اطعام ستين مسكينا وذلك ستون مدا وهي خمسة عشر صاعا
227 قوله (فجاءه عرقان فيهما طعام فأمره أن يتصدق به) هذا أيضا مطلق محمول على المقيد كما سبق قوله صلى الله عليه وسلم (هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين) فيه حجة لمذهبنا ومذهب الجمهور وأجمع عليه في الأعصار المتأخرة وهو اشتراط التتابع في صيام هذين الشهرين حكى عن ابن أبي ليلى أنه لا يشترطه قوله صلى الله عليه وسلم (تطعم ستين مسكينا) فيه حجة لنا وللجمهور وأجمع عليه
228 العلماء في الأعصار المتأخرة وهو اشتراط طعام ستين مسكينا وحكى عن الحسن البصري أنه اطعام أربعين مسكينا عشرين صاعا ثم جمهور المشترطين ستين قالوا لكل مسكين مد وهو ربع صاع وقال أبو حنيفة والثوري لكل مسكين نصف صاع جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية (إذا كان سفره مرحلتين فأكثر وأن الأفضل لمن أطاقه بلا ضرر أن يصوم) (ولمن يشق عليه أن يفطر) اختلف العلماء في صوم رمضان في السفر فقال بعض أهل الظاهر لا يصح صوم رمضان في السفر فان صامه لم ينعقد ويجب قضاؤه لظاهر الآية ولحديث ليس من البر الصيام في السفر وفي الحديث الآخر أولئك العصاة وقال جماهير العلماء وجميع أهل الفتوى يجوز صومه في السفر وينعقد ويجزيه واختلفوا في أن الصوم أفضل أم الفطر أم هما سواء فقال مالك وأبو حنيفة والشافعي والأكثرون الصوم أفضل لمن أطاقه بلا مشقة ظاهرة ولا ضرر فان تضرر به فالفطر أفضل واحتجوا بصوم النبي صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة وغيرهما وبغير ذلك من الأحاديث ولأنه يحصل به براءة الذمة في الحال وقال سعيد بن المسيب والأوزاعي وأحمد وإسحاق وغيرهم الفطر أفضل مطلقا وحكاه بعض أصحابنا قولا للشافعي وهو غريب واحتجوا بما سبق لأهل الظاهر وبحديث حمزة بن عمرو الأسلمي المذكور في مسلم في آخر الباب وهو قوله صلى الله عليه وسلم هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه وظاهره ترجيح الفطر وأجاب الأكثرون بأن هذا كله فيمن يخاف ضررا أو يجد مشقة كما هو صريح في الأحاديث واعتمدوا حديث أبي سعيد الخدري المذكور في الباب قال كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فمنا الصائم ومنا المفطر فلا يجد الصائم على المفطر ولا
229 المفطر على الصائم يرون أن من وجد قوة فصام فان ذلك حسن ويرون أن من وجد ضعفا فأفطر فان ذلك حسن وهذا صريح في ترجيح مذهب الأكثرين وهو تفضيل الصوم لمن أطاقه بلا ضرر ولا مشقة ظاهرة وقال بعض العلماء الفطر والصوم سواء لتعادل الأحاديث والصحيح قول الأكثرين والله أعلم قوله (خرج عام الفتح في رمضان فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر) يعنى بالفتح فتح مكة وكان سنة ثمان من الهجرة والكديد بفتح الكاف وكسر الدال المهملة وهي عين جارية بينها وبين المدينة سبع مراحل أو نحوها وبينها وبين مكة قريب من مرحلتين وهي أقرب إلى المدينة من عسفان قال القاضي عياض الكديد عين جارية على اثنين وأربعين ميلا من مكة قال وعسفان قرية جامعة بها منبر على ستة وثلاثين ميلا من مكة قال والكديد ما بينها وبين قديد وفي الحديث الآخر فصام حتى بلغ كراع الغميم وهو بفتح الغين المعجمة وهو واد أمام عسفان بثمانية أميال يضاف إليه هذا الكراع وهو جبل أسود متصل به والكراع كل أنف سال من جبل أو حرة قال القاضي وهذا كله في سفر واحد في غزاة الفتح قال وسميت هذه المواضع في هذه الأحاديث لتقاربها وان كانت عسفان متباعدة شيئا عن هذه المواضع لكنها كلها مضافة إليها ومن عملها فاشتمل اسم عسفان عليها قال وقد يكون علم حال الناس ومشقتهم في بعضها فأفطر وأمرهم بالفطر في بعضها هذا كلام القاضي وهو كما قال الا في مسافة عسفان فان المشهور أنها على أربعة برد من مكة وكل بريد أربعة فراسخ وكل فرسخ ثلاثة أميال فالجملة ثمانية وأربعون ميلا هذا هو الصواب المعروف الذي قاله الجمهور قوله (فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر) فيه دليل لمذهب الجمهور أن الصوم والفطر جائزان وفيه أن المسافر له أن يصوم بعض رمضان دون بعض ولا يلزمه بصوم بعضه اتمامه وقد غلط بعض العلماء في فهم هذا الحديث فتوهم أن الكديد وكراع الغميم قريب من المدينة وأن قوله فصام حتى بلغ الكديد وكراع الغميم كان في اليوم الذي خرج فيه من المدينة فزعم أنه خرج من المدينة صائما فلما بلغ كراع الغميم في يومه أفطر في نهار واستدل به
230 هذا القائل على أنه إذا سافر بعد طلوع الفجر صائما له أن يفطر في يومه ومذهب الشافعي والجمهور أنه لا يجوز الفطر في ذلك اليوم وإنما يجوز لمن طلع عليه الفجر في السفر واستدلال هذا القائل بهذا الحديث من العجائب الغريبة لأن الكديد وكراع الغميم على سبع مراحل أو أكثر من المدينة والله أعلم قوله (وكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره صلى الله عليه وسلم) هذا محمول على ما علموا منه النسخ أو رجحان الثاني مع جوازهما والا فقد طاف صلى الله عليه وسلم على بعيره وتوضأ مرة مرة ونظائر ذلك من الجائزات التي عملها مرة أو مرات قليلة لبيان جوازها وحافظ
231 على الأفضل منها قوله (قال ابن عباس فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفطر فمن شاء صام ومن شاء أفطر) فيه دلالة لمذهب الجمهور في جواز الصوم والفطر جميعا قوله (فقيل له بعد ذلك أن بعض الناس قد صام فقال أولئك العصاة أولئك العصاة) هكذا هو مكرر مرتين وهذا محمول على من تضرر بالصوم أو أنهم أمروا بالفطر أمرا جازما لمصلحة بيان جوازه
232 فخالفوا الواجب وعلى التقديرين لا يكون الصائم اليوم في السفر عاصيا إذا لم يتضرر به ويؤيد التأويل الأول قوله في الرواية الثانية إن الناس قد شق عليهم الصيام قوله (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فرأى رجلا قد اجتمع عليه الناس وقد ظلل عليه فقال ماله قالوا رجل صائم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس من البر أن تصوموا في السفر) معناه إذا شق عليكم وخفتم الضرر وسياق الحديث يقتضى هذا التأويل وهذه الرواية مبينة للروايات المطلقة ليس من البر الصيام في السفر ومعنى الجميع فيمن تضرر بالصوم قوله في حديث محمد بن رافع (فصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة لثلاث عشرة خلت من رمضان) ثم ذكر عن أبي سعيد قال غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لست عشرة مضت من رمضان وفي رواية
233 لثمان عشرة خلت وفي رواية في ثنتى عشرة وفي رواية لسبع عشرة أو تسع عشرة والمشهور في كتب المغازي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في غزوة الفتح من المدينة لعشر خلون من رمضان ودخلها لتسع عشرة خلت منه ووجه الجمع بين هذه الروايات أن
234 قوله (فتحزم المفطرون) هكذا هو في جميع نسخ بلادنا فتحزم بالحاء المهملة والزاي وكذا نقله القاضي عن أكثر رواة صحيح مسلم قال ووقع لبعضهم فتخدم بالخاء المعجمة والدال المهملة قال وادعوا أنه صواب الكلام لأنهم كانوا يخدمون قال القاضي والأول صحيح أيضا ولصحته ثلاثة أوجه أحدها معناه شدوا أوساطهم للخدمة والثاني أنه استعارة للاجتهاد في الخدمة ومنه إذا دخل العشر اجتهد وشد المئزر والثالث أنه من الحزم وهو الاحتياط والأخذ بالقوة والاهتمام بالمصلحة قوله (وهو مكثور
236 عليه) أي عنده كثيرون من الناس قوله في حديث حمزة بن عمرو الأسلمي (يا رسول الله انى رجل أسرد الصوم أفأصوم في السفر فقال صم ان شئت وأفطر ان شئت) فيه دلالة لمذهب الجمهور أن الصوم والفطر جائزان وأما الأفضل منهما فحكمه ما سبق في أول الباب وفيه دلالة لمذهب الشافي وموافقيه أن صوم الدهر وسرده غير مكروه لمن لا يخاف منه ضررا ولا يفوت به حقا بشرط فطر يومى العيدين والتشريق لأنه أخبر بسرده ولم ينكر عليه بل أقره عليه وأذن له فيه في السفر ففي الحضر أولى وهذا محمول على أن حمزة بن عمرو كان يطيق السرد بلا ضرر ولا تفويت حق كما قال في الرواية التي بعدها أجد بي قوة على الصيام وأما انكاره صلى الله عليه وسلم على ابن عمرو بن العاص صوم الدهر فلأنه علم صلى الله عليه وسلم أنه سيضعف عنه وهكذا جرى فإنه ضعف في آخر عمره وكان يقول يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب العمل الدائم وان قل ويحثهم عليه قوله (عن أبي مراوح)
237 هو بضم الميم وكسر الواو وبالحاء المهملة واسمه سعد