رسالة في الإمامة نسخه متنی

This is a Digital Library

With over 100,000 free electronic resource in Persian, Arabic and English

رسالة في الإمامة - نسخه متنی

عباس بن حسن آل كاشف الغطاء

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید
الكتاب: رسالة في الإمامة
المؤلف: الشيخ عباس ( نجل الشيخ حسن صاحب كتاب أنوار الفقاهة )
الجزء:
الوفاة: 1323
المجموعة: من مصادر العقائد عند الشيعة الإمامية
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:
رسالة في الإمامة
بسم الله الرحمن الرحيم
ترجمة المؤلف
اسمه ونسبه: -
هو الشيخ عباس نجل الشيخ حسن صاحب كتاب (أنوار الفقاهة) ابن الشيخ الأكبر الشيخ جعفر صاحب كتاب (كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغراء)، ولد في النجف الأشرف سنة 1253 ه‍.
شيوخه: -
حضر على جماعة من علماء عصره وفقهاء مصره، قرأ المبادئ من النحو والصرف والمنطق والبيان والمعاني والباب الحادي عشر على الشيخ إبراهيم قفطان، وقرأ المعالم والشرائع على الشيخ محمد حسين الأعسم، وحضر خارجا على ابن عمه الشيخ مهدي الشيخ علي كاشف الغطاء، وعلى علم الهدى الثاني الشيخ مرتضى الأنصاري، والمجدد السيد ميرزا حسن الشيرازي، عاصر كثيرا من العلماء واستفاد منهم كالشيخ محمد الزريجي والميرزا حبيب الله الرشتي والحاج ملا علي الخليلي والسيد مهدي القزويني وغيرهم حتى استغنى بعدهم عن الحضور، ورجعت إليه جميع الأمور.
مكانته العلمية: -
كان فقيها أصوليا، حسن الذهن متوقد الذكاء قوي الحافظة، وكان أديبا شاعرا، سريع البديهية في النظم، وله في مدح أمير المؤمنين (ع) النصيب الأوفى، فلا عجب فهو من بيت زقوا العلم زقا، ومن أسرة تتجدد غر مساعيهم وتبقى، فبيتهم في الغري معروف وينهى عن المنكر ويأمر بالمعروف، قد ورثوا العلم والدين ولد عن والد وماجد عن ماجد.
آثاره العلمية: -
برز من يراعه الشريف وقلمه المنيف هذه المؤلفات: - -
1. منهل الغمام في شرح شرائع الإسلام في المعاملات متعرضا لكلمات أستاذه علم الهدى الثاني الشيخ مرتضى الأنصاري (رحمه الله).
2. منظومة في الصوم والخمس والحج حذو ما نظمه السيد الأجل المرحوم بحر العلوم، ولا غرو فلقد خصه الله بمنحة عجيبة وقوة عربية في جزالة التحرير وحسن التحبير وفصاحة ما تنفثه أقلامه وما تحكيه أرقامه فله اليد الطولى في الأدب.
3. الفوائد الجعفرية يحتوي على مائة فائدة في الأصول والفقه.
4. رسالة في الإمامة، لله در مصنفها لا فض فوه، وصعق إلى الحضيض حاسدوه، قال فأوجز وكتب فأعجز، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. وهي هذه التي بين يديك.
5. الرد على الرسالة اللاهورية لمفتي بغداد السيد محمود أفندي الآلوسي زاده بهر بها أهل السنة والجماعة وأتى بما يروق للبصر ويعذب سماعه إلى غير ذلك مما لا يطيق اليراع ولا اللسان تبيانه.
6. شرح اللمعة الدمشقية من كتاب الطهارة وبعض الصلاة.
7. رسالة في الاجتهاد والتقليد.
8. رسالة في مواليد الأئمة ووفياتهم.
9. رسالة في الأخلاق والمواعظ.
10. كتاب في المسائل الأصولية أطنب فيها الكلام لمسألة الضد ومقدمة الواجب واجتماع الأمر والنهي وغيرها.
وفاته: -
توفي في الثامن عشر من رجب سنة 1323 هجرية، وشيع بكل تبجيل ودفن في النجف الأشرف في مقبرة آبائه، وأرخ وفاته ولده العلامة الشيخ مرتضى فقال:
بسحاب الرحمة الله بجنان الخلد مثواه يا له من مرقد خصه طاب للعباس أرخه

ترجمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
الرابع من أصول الدين:
الإمامة
وهي الاعتقاد والتدين بإمامة الأئمة الاثني عشر صلوات الله عليهم أجمعين.
والأمام عند الإمامية رضوان الله عليهم: - هو الوارث لعلم النبي ورياسته بعده المتخلق بأخلاقه، والمتحلي بأوصافه الجميلة، والخالي من جميع الأخلاق الرذيلة، السالك في الأمة سلوكه والثابت له كلما ثبت له عدا ربقة النبوة من السياسة والرياسة ووجوب الإطاعة، والعالم بالأحكام جملة حتى أرش الخدش علما حضوريا، لا يعزب عنه شئ منها، وإن كان إراديا في غير الأحكام مما كان ويكون حسب ما تقرر ذلك في كيفية علم الإمام (ع) ويلزم إن يكون معينا ومنصوبا من قبل النبي (ص) ولا يكفي نصب الأمة له، وهذه المسألة من أعظم مسائل أصول الدين، وهي معركة الآراء بين العامة والخاصة، فكم زلت بها الأقدام، وحادت فيها عن الحق أقوام بلا تروي ولا بصيرة حتى هلكوا وأهلكوا، والعقل والنقل لا يعذران الغافل والمتغافل، ولا من أخذته حمية الآباء فاقتدى آثارهم وسلك

1
سبيلهم، بل لو أدعي عدم وجود جاهل قاصر في هذا العصر عن هذا الأمر لم يكن بعيدا، فمن خلع برود العناد، ونظر بعين الإنصاف، وجانب جادت الاعتساف هداه الله إلى سواء الطريق، فإن النبوة والإمامة من واد واحد فمن أنكر أو حاد عن إحداهما أنكر الأخر وحاد عنه، وإن اعترف به لسانه أو عقد عليه قلبه، فإن ذلك
لا يجدي في الخلاص من العذاب الدائم والخلود الأبدي في سقر وهو الكفر الباطني، وفي الأثر الصحيح (من لم يعرف إمام زمانه مات ميتة الجاهلية) وفيه بالمعنى لو إن عبدا صلى وصام، وجاء بالفرض والسنة مدة عمره ثم لم يعرف ولاية ولي الله فيواليه، ولا يتبرى من معاديه لا ينفعه ذلك كله، فإن النبي والإمام معا سفيرا حق منصوبان من جانب الله تعالى، والإقرار بأحدهما لا يكفي، وإنكار أحدهما كفر، نعم مشهور أصحابنا على عدم نجاسة منكر الإمامة، وهو لا ينفي الكفر، فإن ارتفاع حكم من أحكام الكفر لمصلحة لا يوجب ارتفاعه بعد إجماعهم على عد أصول الدين خمسة، واتفاقهم بأن المنكر لأحدها كافر
وأما العامة فلا يرون إن الإمامة من أصول الدين، وظاهرهم إنهم يرون إنها من الفروع، حيث إنهم حصروا الأصول بالتوحيد والنبوة والمعاد وبنوا على إن الاعتقاد بالإمامة من واجبات الشريعة على حد وجوب الصلاة والصوم وباقي الفروع الضرورية، وظاهر
إن مقالاتهم إن تعيين الإمام واجب عيني على الأمة لتوقف بعض الشرعيات على ذلك، كإجراء الحدود وسياسة الإسلام وغير ذلك مما لا بد له من وال يقوم به، وذلك مما لا مدخليه له في حقيقة الإسلام،

2
بل له مدخليه في توقف النظام، فإذا أجمع الأمة على نصب واحد مشخص أو نصب نفسه، وتعقبه رضاء العموم وجب عليهم حينئذ إطاعته والانقياد له ما دام قائما بتلك الوظائف الشرعية، وصريح مقالة بعضهم أن لو زاغ أو مال به الهوى فترك سياسة المسلمين خلع وإن لم تخلعه الأمة، وما دام باقيا عليها حرم البغي عليه ووجب جهاد من خرج عن طاعته وقتله، وإن قتله من باب إجراء الحد كإجرائه بالنسبة إلى المفسد والمحارب، وحيث قام الحرب بين الفريقين
على ساق، وكل منهما جاء بالدلائل والبراهين على صحة ما ذهب إليه، ودونت في ذلك الكتب للفريقين لا بأس علينا بأن نكشف النقاب عن ذلك في هذه الرسالة، وانظر إلى ما قيل، وجانب الاعتساف فإنا قد أنصفناهم غاية الإنصاف، وربما أثرنا فيها إلى الرائق من أدلة الطرفين بأوضح إشارة، وأضفنا إلى ذلك ما سنح في ذهن هذا العبد الطالب للتوفيق من مبديه رجاء إن يكون ثالث العمل الذي لا ينقطع،
وإن يسهل الأمر على طالب الحق فلا يراجع كتب الفريقين، فإن فيما نذكر كفاية للبصير النيقد، وأوضحنا عباراتها لينتفع
بها العالم والمتعلم، وقبل الشروع في المقصود لا بد من ذكر مقدمات تورث سهولة المطلب للطالب: -
المقدمة الأولى
إنا قد أشرنا قبل إجمالا بأن النزاع دائر بين النفي والإثبات في النبوة بين المسلم والكافر، فمنكر النبوة في قبال مدعيها ناف، ومدعيها مثبت، وعلى المثبت الدليل، ومثله النزاع في الإمامة فإن مدعيها على الوجه الذي تقوله الشيعة مثبت في قبال النافي لها فيحتاج المثبت إلى الحجة لا النافي، فلا وقع حينئذ لما يتخيل من إن العامة كالخاصة

3
يعترفان بالإمامة إجمالا غير إن كل منهما يدعي إمامة شخص بخصوصه، فالعامة تقول بإمامة الخلفاء والخاصة ترى إمامة علي (ع) وأولاده الأحد عشر عليهم السلام، لأن دعوى خلافة الخلفاء لا تمكن إلا بعد الفراغ من بطلان دعوى الإمامية في إثبات الإمامة على وجه السابق من إن ذلك بتعيين الله والرسول، وعليه فبين الدعويين ترتب طبيعي إذ مستند دعواهم الإجماع المحكي في ألسنتهم حيث لا نص قاطع في الإمامة، ومستند دعوى الإمامية ورود النص الواجب اتباعه بما اعتقدوه من الإمامة، فيلزم أولا إبطال حجتهم ثم إيراد الدليل على خلافة الخلفاء، وليس لقائل إن يقول بعدم الفرق بين خلافة الأمير (ع) وبين خلافة غيره بحيال إن كل منهما قابل لإقامة الدليل عليه، فدعوى كل منهما يحتاج إلى البرهان، فإذا ثبت أحدهما بدليله بطل الثاني، وقد أورد علماء العامة من الأدلة العقلية والنقلية على خلافة الخلفاء ما يغني عن التفكر في أدلة الإمامية وحينئذ لا يلتفت إلى أدلتهم في إثبات خلافة الأمير (ع) لما هو مقرر من إن قيام الدليل العلمي على أحد الضدين يورث العلم الإجمالي بفساد أدلة الضد الأخر، ولا حاجة إلى التعرض إلى نقض أدلة الضد الأخر والجواب عنها تفصيلا، وتعرض علمائهم للجواب عنها تفصيلا إنما كان لرفع الشبهة
عن جهالهم إذ ذلك كلام شعري لا محصل له فإن لم ندع إن خلافة الخلفاء لا تحتاج إلى الدليل أو إنها ليست بضد لخلافة الأمير (ع)،

4
أو إن الدليل على حقيقتها لا يكون دليلا على فساد خلافة الأمير (ع) وإنما قلنا بأن دعوى الإمامية بإمامة حضرة أسد الله
الغالب (ع) بحسب المرتبة لها تقدم على دعوى المخالفين بحقية خلافة الخلفاء غيره، فإذا لم تبطل هذه الدعوى لا يمكن إثبات دعواهم على حقية خلافة خلفائهم نظير ذلك مثلا لو قبض الحاكم الشرعي مال من لا وارث له بحسب الظاهر، وأراد صرفه فيما يترجح في نظره من المصارف، ثم حصل من يدعي إنه يرث صاحب المال المقبوض، فإن الحاكم ليس له قطع المدعي بإقامة الدليل
على صرفه فيما ترجح في نظره من المصارف، بل اللازم عليه
أن يسمع تلك الدعوى من مدعيها فإن اتضحت لديه بطريق شرعي من بينة وغيرها رفع يده عن المال، وإلا فعليه بيان دليل صحت المصرف وغب (1) 1 بيانه صرف المال في مصرفه، وهذا أمر لا يسع الخصم إنكاره ولو ادعى الخصم بأن خلافة الخلفاء عند مثبتها كخلافة الأمير (ع) في كونها بالنص لا بالإجماع، فحينئذ لا مسرح لترتب المذكور، بل تحصل المعارضة، ويفزع إلى الترجيح لرددناه بأن ذلك
لو قيل به فهو مخالف للإجماع من العامة في ثبوتها بالإجماع عندهم دون النص، ومخالف لما تواتر عن عمر ورواه المعتبرون من أهل السنة والجماعة في قضية الشورى من قول عمر لابن عباس أن أترك الاستخلاف فلقد ترك من هو خير مني يعني رسول الله (ص)، وأن استخلف فقد استخلف من هو خير مني يعني به أبا بكر في



(غب: بعد
5
حقه، ثم ما معنى الشورى بعد النص وما معنى الأمر بقتل المستخلف بالنص من النبي (ص) فما ذلك إلا اختلاق
فلا يلتفت حينئذ إلى لقلقة الرازي وبعض من تبعه وتلفيقا تهم
في إثبات خلافة بن أبي قحافة ببعض الإبهامات والنصوص التي بعد إمعان النظر فيها هي كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، وعساك تقف في طي كلماتنا الآتية على ما يوضح ذلك أي إيضاح فانتظر.
المقدمة الثانية: -
إن خوارق العادات المعبر عنها بالكشف والكرامات لو حصل لشخص يدعي النبوة أو إمامة من جانب الحق سبحانه، فهي مما يعول عليها ويثبت بذلك المنصب المدعى من نبوة أو إمامة، وهي التي يطلق عليها بالمعجزة، وبها ثبتت نبوة أكثر الأنبياء، وأما حصولها عند غير من يدعي ذلك، فهي من التمويهات التي لا طائل تحتها، ولا بد
من ظهور بطلانها، فإن محض جريان خارق العادة على يد شخص، لا يثبت مطلبا أبدا، لا بحسب الشرع، ولا بحسب العادة، بل لا يقضى أكثرها بجلالة من حصلت منه لإمكان أن تكون من تأثيرات بعض الأسباب والطلسمات، وعسى إن بعضها يورث البعد من الله تعالى، فإن من المشاهد إن بعض خوارق العادة كثيرا ما ظهرت من بعض الكفرة المرتاضين والملحدين من المفسدين.
والحاصل إن خوارق العادة لو ظهرت ممن يدعي منصبا يتعلق بالخالق، ويستدل بها على حقيقة منصبه، يثبت بها ذلك المنصب الإلهي، وتسمى بالمعجزة، وأما مجرد ظهورها ممن لا يدعي منصبا إلاهيا أو يدعيه ولا يستند بما ظهر منه على إثبات تلك الدعوى، فظهورها كعدمه بالنسبة إلى ذلك الشخص لا تدل على شأن

6
من الشؤون، ولا منصب من المناصب وذلك أمر بديهي لا يحتاج
إلى تجشم الاستدلال.
المقدمة الثالثة: -
إنك بعد ما عرفت إن وجوب نصب الإمام عند المخالفين
هو على الأمة لا على الله تعالى ورسوله، وإن مسألة الإمامة من فروع الدين لا من أصوله، على خلاف ما تدعيه الفرقة المحقة، ومر عليك
في المقدمة الأولى إن النزاع في مسألة الإمامة راجع إلى النفي والإثبات، وينبغي إن تحيط خبرا بأن كل دليل تركن إليه الإمامية
في تنوير دعواهم، وإثبات مدعاهم من آية أو نص ينافي طبعا ما تعلق به أهل الخلاف من ذلك بتعيين المخلوقين من الأمة، فحينئذ ثبوت أدلة الفرقة المحقة قاض بفساد خلافة الخلفاء، وبطلان تصرفهم في الأمور الراجعة إلى منصب الإمامة، ولا يحتاج بعد إلى نصب دليل على فساد خلافة الخلفاء، ولا إلى التفكر في أدلتهم نقضا وإبراما، بل أدلة الشيعة حاكمة على تلك الأدلة ومزيلة لها، إذ الأدلة التي تعلقوا بها على إثبات خلافة الخلفاء لا تخلو عن وجهين: لأنها إما أن تقتضي بعدم تعيين إمام بالنص من النبي، وإما أن تكون ساكتة عن تعيين الإمام.
والوجه الأول على ضربين: - - (الأول) إن ما دل منها على عدم التعيين يعارض الدليل الدال عليه ويقاومه، ومعنى المعارضة هو إن اجتماع الدليلين يستحيل واقعا، ويلزم أن يكون أحدهما حقا والأخر باطلا عقلا.
(الثاني) ما يتوقف دلالته على عدم تعيين الإمام على عدم دليل يقضى بتعينه، فمتى دل دليل على التعيين يسقط دلالته على حقية خلافة الخلفاء ولا تتم.

7
الوجه الثاني مع القسم الثاني لا تنافي بينهما وبين ما قضى
من الأدلة بالتعيين لأن جمعهما أمر ممكن، نعم ما كان من أدلتهم على الوجه الأول يعارض وينافي الأدلة الدالة على تعيين الإمامة بالنص، ولا يمكن الجمع بينهما البتة، ضرورة إن فرض صدق كل واحد منهما يدل دلالة عقلية إجمالية على فساد الثاني، وأدلة المخالفين إذا تصفحتها ألفيتها تشتمل على جميع الضروب السابقة، لكن ما كان منها من قبيل الوجه الأول قليل وضعيف جدا، وما كان بزعمهم قوي فهو غير نافع وغير مجد لما عرفت من إمكان الجمع بين الدليلين، وسيأتي القول في تفصيل ذلك إن شاء الله.
المقدمة الرابعة: -
إن جميع الأمور تنقسم إلى ممكن ومحال والمحال ينقسم إلى محال عادي وعقلي والمحال العادي هو ما حصل العلم بعدم وجوده بملاحظة العادة، والمحال العقلي هو ما استحال وجوده بملاحظة العقل، ولازم المحال العقلي إنه لا يثبت خلافه بدليل عقليا كان الدليل أو عاديا، لأن العادي لا يعارض العقل، والعقليان
لا يتعارضان، ولا بد أن يرمى أحدهما بالاشتباه فيكشف المعارض عن إن المعارض - بالفتح - غير محال عقلي، بل ممكن عقلي، وكذا المحال العادي لا يمكن إثباته بالعادة، وإلا يلزم إنه غير محال عادي، نعم يمكن إثبات خلافه بدليل عقلي إذ لا منافاة بين امتناع الشيء بحسب العادة وبين وقوعه بقدرة الله تعالى.
وأما الأدلة الشرعية فقسمان قطعية وظنية: -
والأول هو الذي لا يتطرقه احتمال الخلاف، والثاني ما يحتمل فيه ذلك. والقسم الأول لا يقبل المعارضة حتى بالدليل العقلي، ولو

8
ورد مثل ذلك معارضا فهو صورة دليل لا دليل عقلي حقيقي، هذا إذا لم يظهر طريق فساده، ولو ظهر كفى الله المؤمنين القتال.
والثاني وهو الظني وحكمه إنه يبطله الدليل العقلي والعادي ويجعله هباء منثورا لا يعارضانه.
المقدمة الخامسة: -
إن الإمامة كالنبوة تثبت بكل ما تثبت به النبوة، وتزيد عليها بأن تثبت بالنص دونها لأنه غير معقول، قتثبت بالمعجزة، وقد تثبت بقرائن الأحوال المفيدة للقطع بها، وتثبت بالنص من النبي (ص).
إذا عهدت هذه المقدمات فلنشرع بالمقصود من إثبات صحة مذهب الإمامية بالأدلة القطعية. وفي المقصود مقاصد: -
أولها في إقامة البرهان الساطع على إمامة النور اللامع أسد الله الغالب (ع) وخلافته بلا فصل.
ثانيها إقامة الحجة الواضحة على فساد خلافة الخلفاء، وضلالة من تابعهم، وأوجب إطاعتهم، وإن كان في إثبات خلافة الأمير
ما يغني عن إثبات فساد خلافة الخلفاء كما تقدم في المقدمة الثالثة، لكن حيث جرت عادة السلف رضوان الله تعالى عنهم أجمعين
على ذلك، لزمنا أن نحتذي مثالهم وإن كان لم يسبقن أحد إلى تدوين مثل هذه المقدمات غير إن الفضل للمتقدم، مضافا إلى إن وضع هذه الرسالة للخواص والعوام، فلا بد من أن نورد فيها ما ينتفع
به الفريقان إن شاء الله بتوفيق صاحب الشريعة.
وثالثها في إثبات إمامة باقي الأئمة الإثنا عشر في مقابل الفرق التي تزعم خلاف ذلك، وتقتصر على البعض منهم: -
المقصد الأول: -

9
إعلم إن علماء الإمامية خلفا عن سلف كم أقاموا الحجج والبراهين على ذلك شكر الله سعيهم حتى إن العلامة الحلي دون كتابا سماه بالألفين أورد فيه ألف دليل عقلي وألف دليل نقلي
على هذا الأمر، ولكن بناء الحقير على عدم التعرض لتلك الأدلة بالتفصيل، وإنما نذكر الحجج التي تسلم مقدماتها الخصوم ولا يحتاج فهمها إلى مراجعة غير هذه الرسالة من كتب الأخبار، لأن أكثر
ما نذكره لا ينكره المخالف فإن المهم في تأليف هذه الرسالة انتفاع الضعفاء وذي القوة العادي عن الأسباب، وأما من له قوة الترجيح والاستنباط وأخذ الأشياء من مواضعها فحاله حال المؤلف، وفقنا الله لمراضيه وجعل مستقبل عمرنا أحسن من ماضيه، ثم إنا قد آثرنا سابقا في إثبات النبوة، إن الدليل على ضربين إقناعي وإلزامي، والأول
في حق المنصف المائل عن جادة الاعتساف. الثاني في حق العنود الجحود المجادل في البديهيات، والمقدمات الواضحة التي تنتج المقصود حتى لو تحاكما عند ثالث تراضيا عليه صدق المستدل وكذب المنكر، كما لو تواتر خبر مائة بأن وراء الجدار يانع شجر مثمر أو لا ثمرة فيه، وحصل من يرد أنباء تلك المائة، ويدعي إن أخبارهم لا تفيد علما بالمخبر به في حقي، فإن مثله إما خارج عن طريقة العقلاء، وإما يطلقون عليه المعاند الجاحد، والشرط في حصول العلم للخصم صفاء ذهنه من الشبه وسلامة فطرته من الخبائث والقذارات المعنوية، كمن دخل في الإسلام رغبة وأراد أن يميز الفرقة المحقة عن غيرها من الفرق التي تنتهي إلى السبعين أو أكثر، وأما من كان مسبوقا بشبهة تشوش ذهنه منها، أو لم تطهر نطفته، أو أخذته حمية الآباء فاقتفى آثارهم،

10
فمثله لا تنفعه الأدلة، وهدايته موقوفة على عناية ربانية، ومن هنا ترى
مشايخ أهل الخلاف ممن تبحر في العلوم مال به الهوى، وأخذته الحمية حمية الجاهلية أو الجهالة فلم يحصل لهم العلم من الأدلة الإمامية إلا نفر قليل ممن أذعن بالحق وأعترف بصدق بعد تشيخه، وأسماءهم في كتب الرجال مسطورة، ونسب إلى إمام الحرمين بعدما شاخ هذين البيتين
تخف الجبال وهي ثقال
حملوا يوم السقيفة أوزارا
وهيهات عثرة لا تقال
ثم جاءوا من بعدها يستقيلون
أشار بهن إلى قول الأول بعد السقيفة (أقيلوني فلست بخيركم وعلي فيكم)، ولم يسمع انعكاس القضية، بأن كان الشيعي بسبب نظره
في أدلة المخالفين معوجا وزائغا عن مستقيم الصراط، ولو اتفق
ذلك لشخص نعوذ بالله لم يدرج في سلسلة العلماء، بل هو
من الهمج الرعاع الذين ينعقون مع كل ناعق، وأراء مثل هؤلاء
لا عبرة بها أبدا، ولنرجع إلى الأدلة فنقول: -
الأدلة التي أقاموها على المقصود قسمان عقلية ونقلية، والعقلية منها قرر بتقارير: -
الدليل الأول: الدليل العقلي
أولها: توقف حكم العقل بخلافة الأمير (ع) على إحراز مقدمات لو سلمها الخصم فلا بد له عقلا من الإقرار بذلك.
المقدمة الأولى: -
إن النبي خاتم الأنبياء، وشريعته خاتمة الشرائع، وبقائها إلى يوم القيامة لازم، لأن المفروض إنها خاتمة فلو لم تبق يلزم عدم الختم، والختم من الضروريات مع تصريح الكتاب به، فالبقاء مثله، وقوله تعالى

11
(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)، أقوى دليل على البقاء
إلى يوم الانقضاء.
المقدمة الثانية: -
إن البقاء إلى يوم النفخ يحتاج إلى حافظ، ومع عدمه يضمحل شيئا فشيئا، إذ هو في معرض الزوال والاندراس، وتوفر الدواعي
إلى اندراسه من وجود الكافر والمنافق وغيرهما، وليس ذلك
إلا كالبناء الذي ليس له حافظ فإنه يسقط وإن بني محكما، ومع الحارس والمداومة على إصلاحه يبقى ويدوم، ثم لا فرق بين الدوام والحدوث، فكما إن الحدوث محتاج إلى بعث الرسول من جهة احتجاب النفوس البشرية وعدم لياقتها وقابليتها إلى استفادة الأحكام الإلهية بلا واسطة من مصدرها، فكذلك البقاء حذو النعل بالنعل يحتاج إلى مبين ومرجع وحافظ للأحكام، وهو الذي يطلق عليه الأمام، ولا بد إن يكون معينا ومشخصا لتعرفه الأمة فترجع إليه.
المقدمة الثالثة: -
في إن العلم بذلك الحافظ المبين مختص بالله وبرسوله وليس للأمة في ذلك مسرح ولا نصيب لعدم إحاطة عقولهم بمعرفته، فيرجع تعيينه إلى الله وإلى رسوله، ويجب على الله ورسوله تعيينه كي لا تضيع الأمة الطريق فتقع في الضلالة، فإن كان موجودا بين الناس أشارا إليه وعيناه، وإن لم يكن موجودا لزم على الله تعالى إيجاده، وعليهما إرشاد الناس إليه لكي يبين الأحكام ويحفظ النظام، ويقوم بأمور الدنيا والدين.
المقدمة الرابعة: -
إنه يلزم أن يكون ذلك الشخص المعين خال عن المفسدة، وصلاحيته للاستخلاف معلوم بين الأمة.

12
المقدمة الخامسة: -
إنه بعد أن اتضح لزوم تعيين الإمام على الله ورسوله (ص)، وإن في ذلك صلاح أمر الدنيا والدين، وإن ترك المصلحة على الله ورسوله قبيح، فلا جرم إن تستقل حكومة العقل بأن حضرت الرسالة لم تفارق روحه الدنيا إلا بعد أن عين للناس إماما يرجعون إليه في الأحكام، وإلا يلزم أحد محذورين محالين،
أما عدم أمر الخالق جل جلاله بتعيين الإمام، أو إن الرسول (ص) خالف الأمر الوارد من الله بالتعيين، وكلاهما باطلان بالضرورة، فإن عدم أمر الله تعالى بذلك مع الاحتياج إليه قبيح، وهو المنزه عن كل قبيح، على إنه يلزم منه تكليف ما لا يطاق، لأنه مع عدم الأمر بتعيين الإمام، إما أن يريد من الأمة امتثال أحكامه أو لا يريد ذلك، فإن أراد لزم التكليف بالممتنع كما لو أراد الامتثال ولم يرسل رسولا يبين أحكامه، وإن لم يرد ذلك كشف عدم إرادته عن عدم إرادة بقاء الشريعة إلى يوم القيامة، وهو ينافي المقدم المفروض من بقاء الشريعة إلى قيام الساعة، وإن كان الله تعالى أمر رسوله بتعيين
من شخصه وعينه للإمامة، والرسول (ص) ما أطاع ولم يبلغ ما أمره به، لزم نسبة العصيان إلى النبي (ص) واللازم باطل باتفاق الإمامية وأهل السنة، إذ لا شك ولا إشكال في وجوب عصمة النبي حال النبوة فيثبت بهذه المقدمة إن الله جل وعلا والرسول (ص) قد عينا للإمامة من يصلح لها.
المقدمة السادسة: -
هو إن القبيح لا يصدر من الله ورسوله أبدا، وإن ذلك ممتنع

13
في حقهما.
المقدمة السابعة: -
إن الذي أمرا بالرجوع إليه وعيناه إماما للرعية هو أمير المؤمنين (ع)، إذ لم يدع التعيين غيره أحد من الناس لما مر عليك بأن كل من ادعى إمامة غيره ينكر أصل
وجوب تعيين الله ورسوله للإمام، وينكر وقوعه منهما، وعلى تقدير ثبوته فالإجماع قائم من كل الأمة إن المعين هو الأمير (ع).
وهذا الدليل المركب من هذه المقدمات على الإجمال مذكور
في كتب العلماء، ولكن سبق إلى بعض الأذهان القاصرة إنه لا ينتج المقصود، وأظن ذلك من إجمال تعبيرهم لهذا الدليل، وإلا فبعد تحريره على الوجه المذكور لا جرم إنه يفيد العلم الضروري بالمقصود، ومع ذلك فقد وقع في أذهان بعض المشككين من بعض علماء أهل السنة بعض الشبهات في الدليل المزبور، ورد أكثر مقدماته، بل كأنهم لم يعترفوا إلا بالمقدمة الأولى، وهي بقاء الشريعة إلى يوم القيامة، وناقشوا في باقي المقدمات.
مناقشة المقدمة الثانية: -
فقد ذكروا إن الشريعة محتفظة بنفسها لا تحتاج إلى حافظ ومأمونة من الزوال بحسب العادة، وليست هي إلا مثل الكتاب العزيز،
فإن الشرع عبارة عن الأحكام الثابتة بالكتاب والسنة، والكتاب
لا يحتاج إلى حافظ بل الوجود ببركاته مأمون غير الزمان وآفة الدوران، ولو عرض عليه أحيانا ما يوجب تلفه أو زواله من سوانح الدهر فحفظه نظير محافظة النفوس والأموال والأمور الخطيرة التي

14
لا تحتاج إلى وجود شخص معين، على إنه يجب كفاية حفظه
على جميع المكلفين نظير حفظ بيضة الإسلام عند خوف غلبة الكفار.
وأما السنة فهي أيضا محفوظة من جهة وجود الصحابة الكرام، فإنهم صحبوا النبي (ص) برهة من الدهر حتى أخذوا أحكام الله تعالى بأسرها منه وتلقوها عنه وبلغوها غيرهم، وأخذتها الناس يدا بيد، أو إحتفظوها كالقرآن ودونها، فهي والقرآن مأمونان من الزوال إلى أبد الآباد، فلا يلزم تعيين حافظ غير الصحابة من جانب الله تعالى، إذ هو تحصيل حاصل نظير بعث نبي بعد نبي في تبليغ شريعة واحدة في عصر واحد، فحينئذ دعوى احتياج الشريعة إلى إمام حافظ مثل النبي ممنوعة أشد المنع، هذا أقصى ما يقرر في الإشكال على المقدمة المزبورة من جانب الخصم، ومع ذلك هو صورة بلا معنى أو هيولا بلا صورة، كسراب بقيعة، فإن قياس السنة بكتاب الله تعالى قياس مع الفارق، نظرا إلى أن الكتاب المجيد صدر من مصدر الجلال الإلهي، والحفاظ والكتاب عند نزوله دونوه وحفظوه وضبطوه أشد الضبط، واجتهدوا في حراسته على حد المحافظة لساير كتب العلوم، حتى إنهم طالما يتنازعون في الهمزة والضمة والكسرة منه، إلى أن دونت الكتب في ذلك، ولذلك كان الكتاب المجيد متواترا وباقيا إلى يوم القيامة نظير الكتب الدينية وغير الدينية الباقية في الناس على الدوام لاشتمالها على المصالح الدينية والدنيوية، أو لميل طباع النوع الإنساني إلى بقاءها كما هو المشاهد
في كتب القصص والحكايات والأشعار، وليس الكتاب العزيز بأقل منها.
وأما السنة النبوية المشتملة على بيان النبي (ص) للأحكام فمن المعلوم إن بيان الأحكام بأسرها دفعة واحدة لم يقع منه، بل غير ممكن

15
عادة، وإنما الصادر منه (ص) البيان في مواقع الابتلاء، وفي مقامات الاحتياج للمحتاج عند سؤاله أو ابتلائه بحكم لا يعلمه، ولم ينقل عنه ولا عرف منه إنه عند بيان الحكم لسائل يحضر (ص) جميع الصحابة لسماع ذلك الحكم، أو جمعا منهم يفيد قولهم القطع إذا نقلوا الحكم وضبطوه، أو إن الصحابة تصدوا لهذا الأمر بحيث لم يصدر حكم من النبي (ص) إلا وضبطوه وحرروه على نسق اهتمامهم بضبط المنزل من القرآن وتدوينه، حنى إنه عين لكتابة الوحي أربعة عشر كاتبا، والقرآن كان ينزل منجما، وكان كلما هبط الأمين بشيء منه، كتبه أولئك ودونوه وضبطوه ونشروه بين الصحابة، ولا كذلك السنة قطعا، نعم نحن لا ننكر بأن جمعا من الصحابة تصدوا لحفظ الحديث واجتهدوا في ضبطه لكن كونهم اتفقوا على تلك المحفوظات واتفاقهم عليها صار سببا لبقائها بحيث صارت كالكتاب أمر غير معلوم، بل المعلوم عدمه وإن كان ذلك يدعى أو ذلك قد يقال به في بعض المتواترات من الأحاديث، فنحن ما ادعينا السلب الكلي، بل إنما أنكرنا الإيجاب الكلي الذي لا ينافيه الاعتراف ببعض الأفراد، وحينئذ فينحصر الحفظ في جملة السنة النبوية بما تواتر وحصل الاتفاق عليه من الصحابة، فلا يقال للصحابة إنهم حافظين إلا في هذا المقدار، ويختص الحفظ بمن أدرك شرف الحضور، وأقتبس من ذلك النور، وإما من شحطت دياره عن المدينة فلا يأتيها إلا إلماما، وكذلك التابعين وتابعيهم إلى زماننا هذا فلا يجري هذا المعنى في حقهم، نعم تلقوه منهم يدا بيد وأخذوه عنهم بلا اختلاف يلزم قبوله، ولكن ذلك أقل قليل لا يف بمثقال ذرة من الأحكام

16
ولا يتم به المقصود من بقاء الشريعة، أنى وكل واحد من الصحابة محتاج إلى الآخر، كاحتياج الآخر إليه في محفوظاته، والبعيد من الأمة لا شك باحتياجهم إلى الأحكام أشد الاحتياج وقول أحاد الصحابة في حقهم لا يفيد ظنا فضلا عن العلم لظهور وجود الطعن في حقهم الذي صار به كالشبهة المحصورة فيهم، وعلى ما حررناه فالشريعة معطلة بين الصحابة حيث لم يكن عند
كل واحد منهم جميع الأحكام، وعند غيرهم ممن بعد عنهم أو جاء بعدهم أشد تعطيلا. ولو سلمنا احتفاظ الشريعة من جهة وجود الصحابة في العصر الأول، فلا نسلمه قطعا في الأعصار اللاحقة، وبقاء الشريعة إلى أبد الآباد لا يمكن إن يكون مستندا إلى محفوظات الصحابة في العصر الأول، ولا يسع الخصم ادعاء ما هو ضروري البطلان وأوهن
من بيت العنكبوت. لا يقال إن بقاء الشريعة مطلوب في جميع الأعصار على نسق طلبه في عصر النبي (ص)، ومعلوم إن ما كان
في عصره (ص) هو بيان كليات المسائل، وهي التي تتحملها نوابه ورسله إلى النواحي، وأما الجزئيات فكانوا يجتهدون فيها، كما إن النبي (ص) بنفسه كان أيضا
يجتهد في الجزئيات، وقد ورد عنه وتكرر منه في كثير من القضايا والمحاكمات إنه كان يشاور أصحابه، ودعوى إنه كان لا يعمل إلا بالوحي لا بالاجتهاد ولا المشورة حتى
في الجزئيات كما تدعيه الإمامية لا يعترف بها الخصم، وهي عنده في غاية الضعف، فتلخص من هذا النظر إن حفظ الشريعة بما اتفق عليه الصحابة من الأحكام بانضمام اجتهادهم في الجزئيات، وانضمام اجتهاد الولاة والنواب فيها عن تلك الكليات المأخوذة من الصحابة في جميع الأطراف

17
والجوانب البعيدة والقريبة وهذا المقدار من الحفظ غير قابل للإنكار في العصر الأول، بل في جميع الأعصار منظما ذلك إلى الأحكام القرآنية، وكون المطلوب من الحفظ أكثر من ذلك غير معلوم فلا يتم الدليل المزبور، ولا يلزم به المنكر بل ولا المشكك، لأنا نقول إن الدليل على بقاء الشريعة لا يخلوا من أمرين: -
أحدهما الإجماع والضرورة. والثاني الكتاب والسنة.
فأما الإجماع والضرورة فإنما يدلان على البقاء فقط، وأما كيفيته فما كانا ليدلان عليها فهما إنما يقضيان ببقاء الشريعة في الجملة
من دوام الاعتقاد بالمعارف وضروريات الفروع.
وأما الكتاب والسنة فالمستفاد منهما بقاء الأحكام الواقعية الإلهية إلى يوم الدين على نهج واحد، وفي قوله تعالى (وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ (والحديث المتواتر (حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه كذلك) وأمثاله من السنة، صراحة بينه ودليل قاطع على ما ذكرنا من بقاء الأحكام الواقعية إلى يوم القيامة على ما نزلت، ومن البديهيات التي لا تقبل الإنكار إن من الممتنع المستحيل أن تبقى الشريعة من دون تغيير وتبديل وزيادة ونقصان على نهج زمان نزول الوحي وعصر حضرت الرسالة إلى أبد الآباد بلا حافظ رباني، وعالم حقاني يتلقى الأحكام من مصادرها ومواردها، ويعرف محكمها ومتشابهها، وبالجملة إن الله تعالى إذا جرى في علمه إرادة بقاء الشريعة بما هي عليه من غير تغيير وتبديل يلزمه عقلا أن يعين لذلك عالم معصوم من الزلل في جميع الأعصار حتى تتم الحجة في إرادة وإلا يلزم

18
الحكم بعدم إرادته لذلك، ولا يعقل القول بأن إرادة ذلك مع عدم النصب يجتمعان، إذ ذلك أمر لا يمكن اجتماعه في المخلوق فضلا عن الخالق.
ولو ادعى الخصم بأن التغيير والتبديل من لوازم الاجتهاد، والاجتهاد واقع في عصر النبي (ص)، ومعمول به بالبداهة واعتقاد أهل السنة على جواز اجتهاد الرسول في الجزئيات، فكيف بسفرائه وأمنائه في الأصقاع والبلدان؟ ومنه يظهر إن التأبيد المذكور
في الخبر لحرامه وحلاله يجتمع مع التغيير والتبديل الاجتهادي، ولا منافاة بينهما، فالمراد بالتأبيد بقاء الكتاب المجيد والأخبار المتواترة والفروع الضرورية. وأما غيرها من الجزئيات يرجع فيها من له قابلية الاجتهاد إليه في جميع الأعصار من العلماء وحفظة الأحاديث.
والحاصل إن أحكام الله تطلب وتراد من الأمة في الأزمنة المتأخرة على نحو ما كانت تطلب في عهد النبي (ص)، فكما إنها
في زمانه مستغنية عن حافظ معصوم كذلك في باقي الأعصار، وإرادة أكثر من ذلك لا دليل عليه بل في ملاحظة حال السلف وحال أهل عصر النبي أقوى دليل على ذلك. لأجبناه: -
أولا: إنا ننكر اجتهاد النبي (ص) في جزئيات الأحكام وننكر معلومية ذلك في الأمة، وجريان العمل عليه، فإن القول بذلك خلاف قوله تعالى (وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى (وغير ذلك مما يفيد مفاد الآية.
وأما رسله وسفراؤه في الأصقاع فمن الممكن المحتمل إنهم

19
لا يعملون إلا بما سمعوه أو علموه من حضرت الرسالة، والحوادث الواقعة لا يفتون بها ولا يحكمون إلا بعد مراجعة النبي (ص)، وما هم إلا كنواب المجتهد في هذا الزمان بتبليغ الأحكام إلى المقلدين، فإن ما يحدث من الوقائع وما لم يسمعوه من المجتهد ولم يروه في زبره ورسائله لا يفتون الناس به بالاجتهاد أبدا بل يتوقفون من الإفتاء حتى يراجعوه، وإبداء هذا الاحتمال يكفي في نهوض الدليل العقلي على إثبات مدعانا بتقرير إن الكتاب والسنة صرحا ببقاء الأحكام الإلهية إلى منتهى الأبد، والتغير والتبديل الاجتهادي ينافي الأمر بالبقاء المذكور وإن كان في الجزئيات من الحوادث، والتحفظ عنها حادثة موقوفة على حافظ معين فإذا لم يثبت العمل بالاجتهاد في الجزئيات في زمن الحضور مطلقا، بل هي محتاجة إلى السماع ثبت وجوب وجود الحافظ ليرجع إليه فيها، والقول بثبوت ذلك يلزمه التصرف والتأويل لما قضى بتأبيد الأحكام مطلقا، والتأويل خلاف الظاهر بل يحتاج إلى الدليل، فالحكم العقلي بحاله على وجوب تعيين الحافظ بلا شبهة.
وثانيا: إنا لو سلمنا إمكان الاجتهاد في الجزئيات في حق الرسول (ص) وسفرائه وتنزلنا مع الخصم فحكمنا بوقوعه فغاية الأمر إن وقوع ذلك كان في عصر النبي وهو موجود بين أظهرهم، وأما بعد فقده فلا، إلا بوجود حافظ لأن المماثلة بين العصرين تقتضي وجود المعصوم في كل عصر وإلا يلتزم أن لا تساوي بين بقاء الشريعة وحدوثها وهو باطل.
وبعبارة أخرى إن تغيير الأحكام بسبب الاجتهاد مع عدم وجود الإمام يزيد على التغيير مع وجوده كثيرا، ومقتضى دوام الشريعة وبقائها

20
هو البقاء على نهج عصر الحضور، ومع فقد المعصوم
لا يتساوى البقاء والحدوث فلا بد من وجوده كيما يحصل التساوي.
لا يقال إن ما دل هذا الدليل هو الاستدلال بظواهر الأدلة القاضية بتأييد الأحكام الواقعية وهو أولا خروج عن الاستدلال بالدليل العقلي، وثانيا هذا دليل ظني وهو لا ينفع في مسألة إثبات الإمامة المطلوب فيها الاعتقاد والعلم. لأنا نقول إن استفادة وجوب نصب الإمام من الكتاب والسنة التي أقمناها إنما كان بمداليلها الالتزامية، وهي من
الأدلة العقلية
كما صرح به المحققون من الفريقين في الأصول.
وإما الثاني من إن الدليل أفاد ظنا، والظن لا يغني ولا يكفي
في أصول العقائد.
فجوابه إن الإمامة ليست من العقائد المحضة حتى لا تكون منشأ للتكاليف العملية، بل هنالك تكاليف عملية مرتبة على وجود الإمام كترتبها على وجود الرسول، وكل مسألة يترتب عليها تكليف عملي تجري فيها الدليل الظني ويؤخذ به ويلزم الخصم فيه، ألا ترى إن أدلة المخالفين على حجية الإجماع في خلافة الخلفاء كلها ظنية، فغاية الأمر إن هذا الدليل على نسق أدلتهم فيعارض أدلتهم، فكما إنهم
قد استندوا إلى ظواهر الآيات والأخبار على حجية الإجماع، وبعد إثبات حجيته بذلك أثبتوا خلافة خلفائهم، كذلك الإمامية يمكن
أن تتمسك بأدلة بقاء التكاليف على فساد مذهب أهل السنة وحقية مذهبهم، فإن كانت الظواهر لا تنفع في باب الإمامة يسقط تمسك الفريقين بها، وإن نفعت نفعتها معا على إن التمسك بأدلة بقاء التكاليف على تعيين الإمام له جنبتان عقلي من جهة ونقلي من جهة أخرى.
فإن قلت إن مصلحة نصب الإمام لا تزيد قطعا على مصلحة بعث

21
الرسول، وبعث الرسول قد يختص بزمان دون زمان وبقطر دون قطر وبقوم دون قوم، وكثير ما يوجد في الربع المسكون من الناس
من لم تبلغهم دعوة النبي، وذكر أهل التواريخ إن كثيرا من الخلق
في الأزمنة السابقة لم يرسل لهم رسول ولا تدينوا بدين وذلك لمصالح لا يعلمها إلا علام الغيوب، فعسى أن يدعى إن علة نصب الإمام
بعد رحلت النبي (ص) لم تكن كاملة ليترتب عليها وجود المعلول.
قلنا نعم نحن نعترف بإمكان ما ذكر بل بوقوعه، غير إنا نقول
إن أدلة استدامة الشريعة وبقائها إلى يوم الحساب يرفع هذا الاحتمال ويدل على قابلية الزمان وأهله بعد النبي (ص) للعمل بأحكام الشريعة، وبعد دلالتها كذلك نقضي بلزوم وجود الإمام فقياس بقاء التكاليف على وجوب بعث الرسول لا محصل له لوجود الفارق بينهما كما بينا. نعم نصب الإمام (ع) بعد النبي (ص) مع الإعراض عن أدلة بقاء الشريعة هو كبعث النبي (ص) في عدم حكومة العقل بلزومه على الله تعالى ولا كذلك بعد فرض وجوب بقاء الأحكام والشريعة، وتوقف البقاء على الحافظ فلا محيص عن القول بوجوب النصب وحكم العقل به إذ عدم النصب يلزمه عدم البعث وعدم إرسال من يبين الأحكام ويبلغ الأنام، ونتيجته إن الله لا يريد من العباد ارتكاب ما أمر به واجتناب ما نهى عنه اللذان يطلق عليهما الواجب والحرام.
وربما يعترض كما وقع ذلك لجماعة من محققي أهل السنة

22
وهو إن وجوب نصب الإمام على الله في كل عصر منقوض بزمان الغيبة عند الإمامية، فالقول بوجوب حافظ منصوب متصرف مع القول بغيبة ذلك الحافظ لا يكاد يجتمعان إذ لا زم القول بالغيبة إنه في زماننا يكون مدار الشرع الأخبار والأحاديث المروية عن الصحابة والتابعين والإمام المعصوم الذي يجب تلقي أحكام الله تعالى منه لا وجود له بين الأمة فيكشف ذلك كشفا إجماليا عن فساد الدليل العقلي المزبور، أو فساد المقدمة الأولى من لزوم بقاء الشرع على ما هو عليه إلى يوم القيامة، أو بطلان ثاني المقدمات من إن البقاء على هذا النهج لا يمكن بلا وجود إمام معصوم، أو منع الثالثة وفسادها من إن النصب والتعيين لازم على الله لا على الأمة بل يلزم بطلان سائر مقدمات هذا الدليل من جهة فساده إجمالا.
وجواب هذا الإشكال حيث كان مشترك الورود بين هذا الدليل ودليل اللطف - لم نتعرض لرده وجوابه هنا بل أخرنا ذلك
إلى التعرض لذلك الدليل إن شاء الله تعالى - فإن أعظم ما تعلق به أهل السنة في نقض الدليلين المزبورين هو زمان الغيبة لأنهم نسبوا الإمامية المدعين ذلك إلى السفه والجنون، حتى قال شاعرهم (1)



(1) ذكره صاحب الصواعق المحرقة: بن حجر المكي، وشطره السيد عبد المطلب الحلي في البابليات رادا على الأصل بقوله:
(ما آن للسرداب أن يلد الذي) فيه تغيب عنكم كتمانا
هو نور رب العرش إلا أنكم (صيرتموه بزعمكم إنسانا)
(فعلى عقولكم العفى لأنكم) أنكرتم بجحوده القرآنا
لو لم تثنوا العجل ما قلتم لنا (ثلثتم العنقاء والغيلانا)
23
ما آن للسرداب أن يلد الذي صيرتموه بزعمكم إنسانا
فعلى عقولكم العفا لأنكم ثلثتم العنقاء والغيلانا
ونحن بحول الله تعالى وقوته نجيب عن هذا النقض بأوضح عبارة وألطف إشارة بما يلقم المعترض الحجر، فانتظر وأستمع لما يتلى عليك لترى أي الفريقين أحق بالنقصان.
مناقشة المقدمة الثالثة: -
وأما المقدمة الثالثة فغاية ما يزعم في ردها إن الإمام الحافظ للشرع لا يشترط فيه إلا معرفة أمور الدين والدنيا من العدل والإنصاف وسياسة الرعية، ولهذه الأوصاف آثار ظاهرة فمتى كشفت تلك الآثار عن تلك الأوصاف في شخص معين ومشخص في الأمة، واشتهر أمره وعرف بذلك بين القريب والبعيد من الأمة أغنى ذلك عن تعيين الله تعالى ورسوله له، لأن فائدة التعيين إرشاد العالم وإعلامهم بصلاح من أحرز الشرط كيما يأتمرون بأمره وينزجرون عن ما نهى عنه، ومتى كان ذلك معلوما انتفت فائدة التعيين فلا يجب حينئذ، بل هو تحصيل حاصل إن كان المقصود بالإعلام حقيقته، نعم إذا كان الأعلام
من باب الترغيب والتحريض على الأمر المعلوم كان ذلك من المقاصد الحسنة لكنه لا يجب على الله تعالى، كما لو ثبتت نبوة نبي بمعجزة أجراها الله على يديه، وبعد ثبوتها أجرى الله تعالى على يده معاجز أخرى للتأكيد والمبالغة فإن عدم وجوب إجراء المؤكد من المعجزات
لا يجب على الله تعالى بعد إثبات النبوة بغيرها بالبديهية.
ولو قيل بأن الأمة لا تطيع من أحرز شرط الإمامة وإن عرف بذلك إلا بالنص عليه من الله تعالى كيما ترجع الخلق إليه، ولا تتمرد عن ذلك كمن عرف بالاجتهاد وأحرز له ممن كان مستجيزا عمن قبله وهكذا.

24
لقلنا في الجواب إن الأمة لو علمت بمن أحرز شرط الإمامة، واحتاجت الرجوع إلى الإمام وجب عليهم من باب المقدمة الرجوع إليه في الشرعيات من دون حاجة إلى الأعلام الإلهي، وأما من تمرد وعاند منهم فهو معاقب كسائر العصاة المتمردين على الله بعد معلومية الحلال والحرام لديهم، ولا يجب على الله تعالى إلا الإعلام وإبداء الحجة وقطع الأعذار، وإن صدر أمر من الباري أو نهي من باب التأكيد فهو من باب الفضل والإحسان لا من باب الوجوب والحتم.
والجواب عن هذا الرد: -
أولا: إن العلم والعدالة وأمثالهما من الصفات غير محسوسة، وإن كان لها أثار محسوسة يتوصل بها إلى العلم بغير المحسوس لكن حصول العلم بذلك موقوف على المعاشرة والمخالطة التامة فيختص بمن عاشر وخالط. وأما في حق غير المخالطين عمن شحطت دياره أو دنى ولم يخالط لا طريق يحصل له العلم منه إلا الاشتهار وهو لا يفيد إلا الظن، فإن حصول العلم من الاشتهار لا دائمي ولا غالبي. نعم يمكن
أن يفيد العلم أحيانا لبعض الناس كما إنه قد لا يفيدهما حتى اشتهر (كم من مشهور لا أصل له)، ولو قلنا بإفادته العلم غالبا أيضا لا يكفي، فإن من لم يحصل له العلم منه معذور في المخالفة لعدم قيام الحجة عليه، فما حال من لم يحصل له الظن فإنه معذور بالأولوية القطعية فلا يعاقب من لم يحصل له العلم مطلقا على عدم الرجوع في الشرعيات وغيرها إلى الذي أحرز تلك الخصال.
وقد يدعي إنه لا تفيد تلك الآثار المحسوسة بعد المعاشرة إلا الظن، لأن حصول العلم من تلك الآثار راجع إلى قرائن الأحوال وشاهد الحال، ومن الواضح إن شاهد الحال يختلف باختلاف الأشخاص

25
المشاهدين، فالاعتماد حينئذ على الآثار في معرفة المرجع وترك التنصيص عليه من الله تعالى ونبيه (ص) لا يكاد يجري على القاعدة
على إن طريقة العقلاء جارية بأن المطلب المهم المراد إتقانه وإحكامه يلزمه صاحبه إن يحكمه بجميع أنواع الإحكامات، ولا يعتمد على سبب لا كلية فيه، وقد يتخلف عن حصول المقصود كما هو واضح.
وثانيا: إن الآثار الظاهرة من العلم والعمل تصلح أن تكون طريقا إلى الأمور المستقبلة دون الماضية، وقد سبق في المقدمة الأولى
إن من اللازم أن يكون الإمام عالما بجميع الأحكام ماضيها
ومضارعها إلى يوم التناد فلا يمكن إن يتأتى للأمة معرفة مثل هذا الشخص بمشاهدة الآثار الكاشفة، بل من الأمور الممتنعة إن تحيط العقول بشخص عنده علم ما كان وما يكون من الأحكام والحوادث اللاحقة والسالفة من دون نص علام الغيوب عليه، كلا بل تختص معرفته بذاته المقدسة، وعليه بيان ذلك للعباد بما يعرفهم به غيره مما اختص علمه به، ودعوى إمكان تمييز الأمة لمثل هذا الشخص بآرائهم القاصرة وعقولهم الفاسدة من بين المخلوقين لا يلتفت إليها ولا يعول عليها لظهور فسادها.
وثالثا: إن الأمة بعد فرض عدم النص من الله تعالى على الإمام يمكنهم عدم إطاعة من عينوه للإمامة لأن وجوب الرجوع في الأحكام لا يلازم وجوب الإطاعة في الأمور الدنيوية والسياسات،
ومن هنا وجب الرجوع إلى العلماء في زمن الغيبة في الأحكام فقط دون الأمور الدنيوية، ولا كذلك الإمام المنصوص عليه إذ هو مما تجب إطاعته مطلقا في الأحكام وغيرها، فإنه أولى بالناس من أنفسهم.

26
ولو قيل: بأن أمر الإمام إذا تعلق بالأمور الدنيوية لا تلزم إطاعته عقلا حتى لو كان فيها صلاح الدين أيضا، بل يختص وجوب الرجوع إليه بالأحكام فقط.
نقول: إن أمر الإمام بالأمور الدنيوية لجهة إصلاح الدين
قد تختلف فيه آراء الناس كما لو أمر الإمام بسرية على طائفة طاغية والعموم ترى أن لا صلاح في ذلك، فإنه لا دليل على وجوب العمل برأي الإمام، وقاعدة وجوب المقدمة لا تنفع، وحينئذ وجوب الإطاعة يلزم أن يكون من الله تعالى، وليعلم إنه بناء على ما أجبناه به ثالثا
عن أصل المقدمة من إنه يختص معرفة الشخص القابل للإمامة بالله تعالى لو بطل وأذعنا بإمكان تشخيص ما هو قابل للإمامة بنظر الأمة لا يورث ذلك الوهن في الدليل العقلي المزبور ولا تخريمه، بل يوجب مضافا إلى تعليل مقدماته إتقانه لأن إطاعة الإمام في السياسات واجب ولا يكفي في وجوبه تشخيص الخلق للإمام، بل يتوقف على النص عليه من الله تعالى فيجب فليفهم.
مناقشة المقدمة الرابعة: -
وأما طريق المناقشة في رابع المقدمات: - -
إن غاية ما ثبت هو اشتمال تعيين الإمام على مصلحة تقتضي الأمر به وتعيينه وذلك غير كاف في وجوب إيجاده وتعيينه على الله تعالى، بل يلزم مضافا إلى ذلك كون
تعيينه خال عن المفسدة أيضا، وإحراز الخلو عن المفسدة لا يمكن إلا بعد تعيينه لتوقف العلم بالخلو على التعيين البتة فيدور، إذ تعيينه متوقف على عرائه من المفسدة، وخلوه عنها لا يعلم إلا بعد التعيين، فهو موقوف عليه وهو خلف.
وجوابه: عدم توقف التعيين على الخلو عن المفسدة لإمكان معرفة

27
الخلو قبل التعيين فلا دور. وتوضيحه إن لزوم بقاء الشريعة دليل
على وجوب التعيين، وخلوه عن المفسدة فالتعيين والخلو عن المفسدة مستندها لزوم دوام الشريعة، فهما شريكان في ذلك الدليل الدال على البقاء ومعلولان لعلة واحدة، والشركة في الدليل تكون سببا للتلازم
لا سببا للتوقف كيما يكون دورا، والمورد رأى التلازم فحسبه توقفا وأين هذا من ذلك؟، وكيفية الملازمة بين بقاء الشريعة وسلامة تعيين الإمام من المفسدة مر في المقدمة الثانية مفصلا وخلاصته إن أدلة بقاء الشريعة ودوامها تقضي بعدم المفسدة في تعيين الإمام، لأن بقاء الشريعة بلا إمام معين لا يمكن فإذا كان في تعيينه مفسدة يلزم أن يكون في البقاء أيضا مفسدة والمفروض خلافه فتدبر.
مناقشة المقدمة الخامسة: -
فقد يدعى منعها بأن الحسن والقبح في أفعال الخالق والمخلوق فيه خلاف للعلماء ومعركة الآراء، وأكثر أهل السنة على تنكر الحسن والقبح، ويزعمون إنه لا معنى له في الأفعال. نعم في المأكولات والمشروبات والملبوسات والألوان والصفات يمكن أن تكون حسنة
وقبيحة، فيقال المأكول والمشروب والملبوس الفلاني حسن أو قبيح، والجود حسن والبخل قبيح وكذا العلم والجهل.
وأما الأفعال فلا تتصف بحسن ولا قبح، ومن هذه
الجهة قالوا لا شئ يجب على الله كيما يكون تركه قبيحا
عليه، حتى إنهم نفوا قبح الظلم على الخالق والمخلوق،
ولم يذعنوا بلزوم العدل عليهما كذلك، فغاية ما في الباب
أن يقال إن تعيين الإمام مشتمل على المصلحة، لكن لزوم
العمل بالمصلحة في حق الله تعالى أول الكلام، بل لا معنى للقول

28
بلزوم شئ على الله تعالى لأنه فاعل مختار وقادر فعال يفعل ما يريد
لا يعترض عليه أحد في تدبيره، وحكمه في كل ما كان أو يكون بين الكاف والنون لا يسأل عن ما يفعل وهم يسألون، فلو بعث نبيا في زمان ولم يبعث في وقت أخر لا يقال الأول إنه حسن ولازم عليه ولا للثاني إنه قبيح وممتنع عليه، وكذلك نصب الوصي والإمام على فرض اشتماله على المصلحة حسبما تدعيه الإمامية فإنه ليس بلازم على الله تعالى
إذ لا يمكن الحكم بوجوب شئ على الله تعالى لكي يتفرع عليه نصب الإمام، ومن هذه الجهة كان الدليل المز بور عقيما لا نتيجة له ولا يثبت هذه الدعوى. والجواب عن ذلك كله: -
أولا: إن من المحقق الثابت في محله الذي لا يعتريه شوب الإشكال بالبراهين القطعية الحسن العقلي والقبح العقلي،
ولا يمكن لمن له أدنى شعور إن ينكر قبح بعض الأشياء عند العقل بحيث إن فاعلها يستحق المؤاخذة والعقاب وحسنها كذلك بحيث إن فاعلها يستحق المدح والثواب، وعجبا أي عاقل لا يقبح الظلم المطلق، ومن الخالق أعظم، ولا يحسن العدل، ويجوز عذاب المطيع على الله تعالى بلا سبب وإعزاز المنكر له والكافر به.
والحاصل إن إنكار الحسن والقبح في الأشياء مما قضت البداهة ببطلانه، ولا يحتاج إلى تكلف الاستدلال عليه إذ مفاسده لا نهاية لها.
وثانيا: إن المنكرين للحسن والقبح من أهل السنة شرذمة قليلة
في قبال المعترفين كيف وعلماء المعتزلة كلهم وكثير من غيرهم يقولون به ولا ينكرونه فدع عنك من مالت به الأهواء، وأدركه مرض الجهل وأعظم داء.
ولو زعموا إن الحسن والقبح بالوجوه والاعتبارات، فالحسن يتصف

29
بالقبح وبالعكس كالكذب النافع، وقالوا إن تعيين الإمام
وإن كان حسنا وخلافه قبيح لكن لعله لأمر ما يقتضي تركه في عصر النبي (ص) من المصالح ترك الله ذلك الحسن ولم يأمر به ومع قيام هذا الاحتمال لا يمكن الحكم بأن الله تعالى عين الإمام المخصوص إذ التعيين منه متوقف على نفي هذا الاحتمال ولم يعلم عدم اشتمال التعيين في ذلك العصر على صفة مقبحة له.
لرددناهم: بأن نصب الإمام كوجوب بعث النبي (ص) لا تعرض لهما صفة مقبحة، ولو أمكن ذلك لتوفرت الدواعي
إلى فعله وليس، وبعد ملاحظة أدلة بقاء الشريعة واحتياجها
إلى حافظ كما تقدم ينتج العلم بأنه لا يمكن أن يعتري نصب الإمام مفسدة ملزمة تخرجه عن الحسن، وسيجئ في جواب سابع المقدمات ما يوضح ذلك.
وثالثا: على فرض تسليم بطلان الحسن والقبح العقليين مماشاة للخصم نقول إن امتناع الظلم على الله مسلم لم ينكره أحد من أهل السنة حتى من نفى الحسن والقبح ولا من
الإمامية ولا غيرهم من أهل الكتاب ممن يوحد الله، بل كل من جعل له إلها من سائر المخلوقين نفى عن ربه الظلم مضافا إلى إن نفي الظلم عن الله تعالى وقع في محكم كتابه وسنة نبيه فلا محيص لمن اعترف بها إن يجوزه على الله ولا ينفيه عنه، ومن الأشياء الغنية عن البيان إن في عدم نصب الإمام مع احتياج الأمة إليه وشدة ضرورتهم إلى العمل بأحكام الشريعة ظلما لا يجب تنزيه الخالق عنه جل وعلا لأدائه إلى التكليف بما لا يطاق وإضلال العباد وتركهم يخوضون بحار الفتن والأهوال العظيمة، فإنه وقع ذلك رأي

30
العين بعد رحلة النبي وإنكار النص في حق الوصي وهذا المقدار يكفي
في لزوم تعيين الله للإمام، وبعد ثبوت المقدمة الثانية للدليل العقلي وهي احتياج الشريعة إلى إمام حافظ يتضح ثبوت الظلم على الله في عدم النصب، فمنع المقدمة أولى بالمنكر فتفكر، ومن منع هذه المقدمة يظهر منع السادسة أيضا.
مناقشة المقدمة السادسة: -
إذ غب ما قبح الظلم في حقه تعالى، امتنع صدوره منه البتة. فالقول بأن امتناع الظلم لا يمنع الصدور لأنه ممكن، وكل ممكن يمكن وقوعه، بل قال علماء الكلام إن كلما شككت في إمكان شئ وعدمه فذره في بقعة الإمكان، فإن القبح لا يصير الشيء واجب الامتناع كشريك الباري، وكذلك الحسن لا يجعل الشيء واجب الوجود، على إن الوجوب والامتناع فعل ممكن يتوقف على إرادة ومشيئة، والمشيئة واللا مشيئة كل منهما يحتاج إلى دليل، فإذا لم يدل على أحد الطرفين لا جرم أن يكون الصدور واللا صدور فعلين مشكوكين، ولم يثبت مما مضى إن صدور القبيح ممتنع على الباري كيما ينتج الحكم البتي بنصب الإمام.
موهون بأن الثابت من الشرع عدم صدور القبح والظلم
من الباري، وهو يفيد الجزم بنصب الإمام الذي تركه ظلم وقبح
على إن امتناع صدور القبح من الله تعالى ثابت في محله فليطلب ونشير إليه إجمالا، وهو صدور الفعل من الفاعل إما أن يكون لغرض اقتضى صدوره منه أو لا، والأول يلزم إن يصدر منه ما يحصل به ذلك الغرض، فلو قلنا بصدور الظلم من جانب الله تعالى لتحصيل ذلك الغرض فقد نسبنا العجز للقادر عن تحصيله بغير الظلم تعالى الله عن ذلك، والثاني عبث محض أيضا تعالى الله عنه، ويلزم ما هو محال من وجود المعلول

31
بدون علته، إذ علة الأفعال الاختيارية هو الداعي والغرض فإذا فرض وجود فعل اختياري بلا داع ولا غرض فقد فرض وجود المعلول بلا علة وهو محال، فثبت من مجموع ما تلونا عليك من المقدمات إن الله سبحانه نصب إماما وبعد ثبوت ذلك تثبت سابع المقدمات.
مناقشة المقدمة السابعة: -
من إن الإمام الصادع بالحق هو علي بن أبي طالب (ع) دون غيره من سائر الصحابة رضوان الله عليهم، ولنا على ذلك أمور: -
أولها: اعتراف الخصم بأن خلافة الخلفاء لم تكن بالنص من النبي (ص)، وإن الرسول أهمل ذلك لعدم الحاجة إليه،
أو لعدم اقتضاء مصلحة الوقت لذلك ولكن الإجماع من الصحابة مهاجريهم وأنصاريهم أجمعوا على خلافة أبي بكر فلزم اتباعهم.
نعم قد تقدم إن بعض من ليس له قدم ولا روية ولا اطلاع
في التواريخ والأخبار ادعى النص على خلافة أبي بكر، كما إن بعض آخر ادعاه في حق العباس عم النبي، وهما موهونان بما مر عليك، وبأن الجمهور من أهل السنة ما أشاروا إلى ذلك في زبرهم بيد ولا بلسان بل تراهم يثبتون خلافة الأول بالإجماع والثاني بنص الأول والثالث بالشورى.
ثانيها: إن أبي بكر في حديث معتبر قال (أقيلوني فلست بخيركم وعلي فيكم)، فإن فيه إمارة ظاهرة وإيماء بين إلى صلاحية علي (ع) للخلافة، ووقوع النص عليه من الرسول، وإلا كيف يطلب الإقالة وهو منصوص عليه بالخلافة؟، وقد قال الله سبحانه (وما كان لمؤمن ولا

32
مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا إن يكون لهم الخيرة من أمرهم (ولو زعم إنه قال ذلك عملا بما ورد من تصغير النفس، وكراهة مدح الإنسان نفسه، وإظهار عدم القابلية لنفسه أمر مستحسن.
لرددناه بأن مثل هذا المحل ليس من المقامات التي يستحسن فيها تصغير النفس، والحال إن الله سبحانه أمر بذلك والرسول بلغ.
والحاصل إن صدور هذا الكلام من أبي بكر رواه أكثر أهل السنة فلا ريب في صحته وهو لا يخل إما إن يكون على سبيل الحقيقة
أو على تصغير النفس أو لبعض المصالح الباعثة على ذلك، وعلى كل حال فيه مخالفة للكتاب، وجرأة على الله ورسوله في مخالفة عما أمر الله به، أترى يصلح للنبي إن يقول أقيلوني من النبوة؟ فإن الإمامة أختها.
ولو عورض ذلك بصنع الأمير علي بن أبي طالب (ع) بعد قتل عثمان، فإنه امتنع من بيعة الناس يوما أو أياما، وذلك ينافي امتثال النص، فما يعتذر به عن هذا فهو بعينه يكون عذرا عن ذاك.
نقول في منعه بالفرق بين عدم قبول البيعة له وبين الاستقالة،
لأن عدم القبول من الأمير - علي بن أبي طالب (ع) - قد يكون لمصالح أظهرها تأكيد الحجة عليهم، فما في ذلك مخالفة لله ورسوله، وأما الاستقالة فالمخالفة فيها ظاهرة.
ثالثها: إن النص على أبي بكر لو كان معلوما لما احتاج
إلى الاجتماع في سقيفة بني ساعدة وانتهاز الفرصة والركون
إلى من يعادي الأمير - علي بن أبي طالب (ع) - من معاذ بن جبل وخالد بن الوليد وغيرهما، وطلب المساعدة منهم، واغتنام الفرصة

33
في مشغولية الأمير بتجهيز النبي (ص)، وعدم حضوره وصاحبه وهما من كبار المهاجرين تجهيز النبي (ص)، ودفنه ومنازعته مع الأنصار أشد النزاع في طلب الرياسة، بل لا معنى لطلب الأنصار إن يكون منهم أمير، ومن البعيد بل الممتنع عادة إن هنا نص والأنصار كلهم لم يعلموا به، أو خالفوه بعد العلم، ثم إن من المتواتر الذي لا يقبل الإنكار تخلف علي (ع) وجماعة من أجلاء الصحابة عن البيعة له حتى صدر ما صدر بينهم مما لا يليق إن يخطه اليراع، والتخلف مع وجود النص من مثل أمير المؤمنين لا يمكن إن يكون، إذ ذاك يورث العصيان الذي لا يعقل تحققه في المتخلفين، ونقل عن سلمان الفارسي رضي الله عنه وهو من أجل الصحابة وخيارهم إنه قال ذلك اليوم بمحشد من المهاجرين والأنصار (كردى ونه كردى ونه ميداني جكردي)
أليس في ذلك كفاية عن عدم صدور النص، ولو ضربت
عن ذلك كله صفحا ففي قول عمر على المنبر حسبما رواه الفريقان واعتمده الطائفتان (إن بيعة أبي بكر كانت فلتة، وقى الله المسلمين شرها) فإن في قوله (فلتة) أقوى شاهد إن لا نص هناك، وجملة الأمر إن دعوى إن هناك نص من النبي في حق أبي بكر أو غيره من الصحابة،
أو ادعاه أحدا منهم غير علي (ع) لعله من المزخرفات التي لا تليق بأن تدون أو يلتفت إليها، وأوهن منها إن العباس عم النبي كان منصوصا عليه، فإن ذلك مخالف لإجماع الفريقين وقد أغنانا غير واحد منهما عن التعرض له.
رابعها: إن تجهيز جيش أسامة إلى مؤتة، وهو المكان الذي استشهد

34
أبوه فيه في مرض النبي (ص)، وعقد اللواء له بأمره وتأميره على المهاجرين والأنصار الذين منهم أبو بكر وصاحبه أقوى دلالة على عدم النص عليه بالإمامة، فإن النبي (ص) لو فرض إن الخصم ادعى عدم علمه بموته في ذلك المرض فلا أقل من إنه (ص) يظن ذلك ظنا قويا، فينبغي استثناء أبي بكر عن ذلك وإبقاء وصيه ومن نص عليه بالإمامة عنده، فعدم استثنائه له يقضي بعدم النص عليه البتة.
ودعوى إن أبا بكر لم يكن مأمورا من النبي (ص) بالمسير مع أسامة بل المأمور غيره. يكذبها ذكر أصحاب السير والتواريخ لذلك، وقد أخرج البلاذري في تأريخه، وهو المعروف بالوثاقة والضبط، وبرئ من الميل إلى الشيعة، إن أبا بكر وعمر كانا في جيش أسامة، ولعمري
إن الإنكار لما يجري هذا المجرى لا يغني شيئا، وما ذاك ألا كمناقشات بعض علماء أهل السنة لما ضاق عليهم الخناق في دلالة حديث أسامة على عدم أهلية أبي بكر للخلافة، ودلالته على عصيانه لتأخره عن جيش أسامة مع أمر النبي (ص) بتنفيذه، فإنهم تفصوا عن ذلك طورا بأن الأمر لا يقتضي الفور فلا يلزم من التأخر العصيان. وجوابه في الأصول مفصلا ومحصله تحقق العصيان بمجرد المخالفة وإن لم نقل بأن الأمر للفور على ما حققناه في كتبنا الأصولية.
وأخرى بأن الخبر إن النبي (ص) خاطب أبا بكر بقوله (نفذوا جيش أسامة)، والمخاطب خارج، ونقل أبو الثنا الآلوسي تبعا لغيره عن قاضي القضاة ما نصه (إن خطابه (ص) بتنفيذ الجيش يلزم أن يكون متوجها إلى القائم بعده، لأنه من خطاب الأئمة، وهذا

35
يقتضي أن لا يدخل المخاطب بالتنفيذ بالجملة حتى قال (وهو يدل على إنه لم يكن إمام منصوص عليه، وإلا لأقبل بالخطاب عليه، وخصه بالأمر بالتنفيذ دون الجميع) ثم ذكر إن الرسول (ص) إنما يأمر بما يتعلق بمصالح الدنيا من الحروب عن اجتهاده، ولا يجب أن يكون ذلك عن وحي مثل الأحكام الشرعية، واجتهاده يجوز إن يخالف بعد وفاته، فتخلف أبي بكر وعدم تنفيذه الجيش بعد النبي (ص) لا عصيان فيه، ثم إن أمر الرسول عن اجتهاده لا بد وأن يكون منوطا بالمصلحة، وأن لا يعرض ما أهم منه فإذا وجدوا إن تنفيذ الجيش يعقب ضررا في الدين لهم أن لا يمتثلوه (انتهى.
والجواب عن ذلك كله يعلم من سالف كلماتنا من مقدمات الدليل العقلي، ونزيده هنا إن عدم امتثال أبي بكر لهذا الأمر لا يمكن إن ينكر في حال حياة النبي (ص)، بل وبعد مفارقته الدنيا، أما في حال الحياة فلأنه أراد تنفيذ الجيش فهو واجب، ولا يتم هذا الواجب إلا بمسير أبي بكر إذ هو من الجيش فهو واجب، والرواية المعروفة إنه أقبل عليه في المسجد، وقال (ص): نفذوا جيش أسامة، وهو من جملة الجيش، فلا بد أن يكون أمرا له بالخروج، واستثنائه من الجيش يحتاج إلى دليل وليس في كلامه ما يقتضي بالاستثناء.
ومقالة الخصم إنه من خطاب الأئمة وإن المخاطب خارج لبعد شموله لنفسه، لا محصل لها بعد أمره بتنفيذ أمره في مسير الجيش، وكان أبو بكر منصوصا عليه بالمسير مع أسامة، وخيال إن الجيش ليس مثل العشرة التي لا تتحقق بنقصان واحد منها إذ هو اسم لجماعة من الناس

36
أعدت للحرب، فلا يضر في صدق الجيش خروج واحد والاثنين باطل لعدم ما يقضى بسقوط الأمر عنه بعد أمره بالخروج، وعدم رضاء النبي (ص) بالتخلف، والأمر بالتنفيذ لا يقتضي خروجه وإن كان مخاطبا.
وأوهن من ذلك زعمه بأن النبي (ص) يأمر بالحروب
وما شابهها عن اجتهاد لا عن وحي فمعاذ الله أن يكون كذلك،
لأن حروبه لم تكن مما تختص بأمور الدنيا، بل الدين فيها أقوى تعلق، والحال إن عز الإسلام وقوته وفتوحه منحصر به، وليس يجري
ذلك مجرى أكله وشربه ونومه مما يجوز إن يكون عن رأيه لعدم تعلق له
بالدين، ولو جاز أن كون مغازيه وبعوثه مع التعلق القوي لها بالدين عن اجتهاد أيضا، لجاز ذلك في الأحكام قطعا، وعلى فرض كونه عن اجتهاد أيضا لا تجوز مخالفته لا في حياته ولا بعد مماته كما مر ذلك عليك، وأغرب من ذلك ادعاءه اشتراط الأمر بالنفوذ بالمصلحة إذ إطلاق الأمر يمنع من إثبات الشرط، فإن الأمر مطلقا بالنسبة إلى غير البلوغ والقدرة والعقل والاختيار، والشرطية تحتاج إلى شئ يقضي بها، ومن هنا يحمل على الإطلاق في حالة الشك. ثم إن الحكيم كيف يأمر بشرط المصلحة، بل إطلاق الأمر منه يلزمه ثبوت المصلحة وعدم المفسدة، ولو فتح هذا الباب لحصل الخلل في الأوامر كلها.
وأما قوله (لو كان هنالك إمام مخصوص منصوص عليه كما تقوله الإمامية لخصه بالخطاب). ففيه: -
أولا: إن الخطاب كان للمتخلفين فلا يلزم إن يكون للإمام بعده.
وثانيا: إنه (ص) مرامه التنفيذ في حياته لا بعد موته ليأمر

37
الإمام بعده والأمر أمره في حياته، ويلزم أيضا التنفيذ بعد رحلته
عن الدنيا.
والحاصل لم نعلم كيف جاز لأبي بكر وغيره ممن تخلف
عن جيش أسامة إن يتأخر عن المسير وأن يرجع إلى المدينة، وهلا نفذ لوجهه ولم يرجع حتى بلغه موت النبي (ص) لتحقق عدم الامتثال لو لم يفعل وهو معصية. ولو عورض بأن الأمير - علي بن أبي طالب (ع) - لم لم يخرج مع أسامة وتخلف مع بغض النبي (ص) لمن تخلف على العموم ولا استثناء في الخبر.
نقول في جوابه إن استثناء الأمير (ع) عن الخروج في ذلك الجيش محقق وإلا لنقل في كتاب إنه لم يمتثل أمر الخروج ولأعابته بذلك مبغضيه، فإنه كان مع النبي ليلا ونهارا يمرضه ولا يفارقه
ثم إن من المتفق عليه بين الفريقين إن النبي (ص) أمر عليا
في كثير من المواطن ولم يجعل عليه أمير، وبالبداهة إن من جعل عليه أميرا مثل أسامة ممن ليس له قدم ولا سابقه لا يساوي من لم يجعل عليه أميرا أبدا، ولنقل ذلك أحد من المؤرخين، ولا يخفى إن الظاهر من الأمر بتنفيذ الجيش، وإرسال أسامة ومن معه إلى هذا المكان البعيد هو خلو المدينة ممن له طمع بالخلافة ليستقيم الأمر لعلي (ع) وتخلو المدينة عن المنازع، فإن النبي (ص) علم برحلته، فأمر عن الله بما أمر من مسير أسامة وتصغير من يتطلع إلى الخلافة بجعله مأمورا لأسامة. ولو قيل إن الأمر إذا كان كذلك فلم لم يصرح النبي (ص) بخلافة الأمير (ع)

38
وإمامته في مرضه، ولم لم يشدد على أبي بكر بالخروج إلى الجيش، فإن احتمال توثبه على الأمر وإنكاره النص بخلافة الأمير كان من المقطوع به.
قلنا إن النصوص من النبي (ص) بذلك لعلها كادت إن تلحق بالمتواترات كما ستمر عليك إن شاء الله، ولقد هم أن يكتب في مرض موته كتابا لن تضل الأمة بعده، ومن القرائن الحالية والمقالية يظهر إنه ما أراد إلا أن يكتب ما يؤكد به النص على خلافة الأمير (ع) ولذلك منعه عمر وقال ما قال، ولو إن النبي (ص) يصر على
هذا الأمر وعلى إخراج من يأمل الإمارة والخلافة من المدينة لحصل التشويش في المسلمين، وربما أورث الاختلال في الدين، وبهذا اعتذر عند الأمين جبريل لما أمره في مكة المكرمة عن الله بتنصيب علي (ع) إماما، قال (ص)) إن قومي حديث عهد بالإسلام فأخشى أن يقولوا عمد لابن عمه وصهره ونصبه)، وأمسك عن ذلك إلى إن رجع إلى غدير خم فأنزل الله عليه (ص) قرآنا (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس (إلى أخر الآية ولمثل هذا المحذور صبر الأمير (ع) على البلوى وأمسك عن الخلافة، ولم يشهر سيفه كل ذلك حفظا لبيضة الإسلام فجمع النبي (ص) بين إظهار الحق والخروج من الطاعة، فإنه مأمور بمداراة الأعداء والحكمة الإلهية البالغة تعلقت بعدم انقطاع أسباب

39
المعصية بالمرة وإليه يرشد قوله تعالى (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا امنا وهم لا يفتنون (وليمتاز العاصي من المطيع ولا ينقطع الامتحان، وتظهر فائدة أوضاع الوعد والوعيد والجنة والنار، ولو لا ذلك لم يبق امتحان، ولم يفرق بين العاصي والمطيع ولو أراد الله تعالى هداية خلقه لهداهم جميعا ولكنه تعالى شأنه أهمل لخفي من المصالح التي أحاط بها علمه حتى نطق بذلك الكتاب قال جل وعلا (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم (وقال تعالى: (ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا (الآية. ثم ذلك منقوض بالمنافقين الذين يعلم الرسول (ص) بهم فردا فردا فإنه أهمل عقابهم وتركهم في خوضهم يلعبون مع قدرته عليهم، وأنزل الله فيهم سورة خاصة، فلم لم يأمر بإخراجهم عن مدينته أو يقتلهم أو غير ذلك مما يشتت شملهم به فكل جواب يجاب به عن ذلك بعينه ندفع به كلام المعترض هنا.
الدليل الثاني: دليل اللطف
الدليل الثاني: من الأدلة غير الشرعية التي أقيمت على الإمامة هو دليل اللطف. وتقريره حسب ما ذكره العلماء إن نصب الإمام
بعد النبي لطف في حق الأمة، وهو واجب على الله تعالى فيكون نصب الإمام واجبا، واللطف عبارة عن التقريب إلى الطاعة والبعد عن المعصية اختيارا من دون إلجاء لأحدهما من الله تعالى، إما كون وجود الإمام بالمعنى المذكور لطف فهو مما لم يتنازع فيه أحد من أهل السنة والشيعة، بل هو على مذهب أهل السنة أوضح لأنهم يرون

40
إن نصب الإمام واجب على الأمة من باب المقدمة، والإمامية تقول إن نصب الإمام له تمام المدخلية في الإطاعة والانقياد لأوامر الله تعالى ونواهيه، وإجراء حدوده
وإغاثة المظلوم والانتقام من الظالم، وإزالة الفساد من الأمة، وحصول التعزير لمن يستحقه على ارتكاب المعاصي، وبيان الأحكام بأسرها وبيان المصالح دينا ودنيا، فلا ريب في إن مثل هذا الشخص الجامع لتلك الخصال لطف من الله تعالى ووجوبه على الله تعالى من جهة اشتمال النصب على المصلحة، وتركها مع الإمكان قبح، ولا يصدر منه تعالى على إنه مع ترك النصب يلزم نقض الغرض وخلاف المقصود، وقبح ذلك واضح، مثاله إن من دعا أحدا للضيافة وهو يعلم إنه لا يأتي إلا بمألكة تايقه من الداعي وبدونها لا تحصل الإجابة منه، ومن دعاه يريد وفوده عليه فإن ترك المألكة مع دعوته بغيرها وإرادته يلزم منه نقض غرض الداعي، كذلك ترك نصب الإمام مع علم الله تعالى بتعطيل جملة من الأحكام في تركه، فإنه نقض للغرض وخلاف المقصود، والفرق بين هذا الدليل وسابقه إن مبنى الأول بقاء الأحكام واحتياج الأمة إلى الإمام في تمييز الحلال من الحرام إلى الدوام، وهذا الدليل مبناه مدخلية وجود الإمام في الإطاعة والانقياد بعد معلومية أحكام الله تعالى فحينئذ نصب الإمام من باب اللطف يلزم على الله تعالى من جهتين لكنه من الجهة الأولى مشترك بين وجود الإمام والنبي (ص)، ومن الثانية مختص بوجود الإمام كما إن الدليل إنما يوجب نصب الإمام على الله من حيثيته توقف بقاء الشريعة المطلوب لله تعالى عليه، والثاني يوجب النصب لمدخلية وجود الإمام (ع) في امتثال أحكام الشريعة لا من جهة توقف بقائها عليه، ودليل اللطف

41
عبارة عن إثبات وجوب النصب من الجهة الثانية، ولما كان اللطف من أفعل العباد لا من أفعال الله تعالى وجب على الله تعالى الإلزام به وإيجابه عليهم، ولأجله وجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في جميع الشرائع والأديان، ثم إن شرذمة المناقشات السابقة في الدليل الأول ترد أيضا على هذا الدليل وأجوبتها الماضية قد لا يفيد بعضها هنا، ولأجله كررنا ما يرد منها مما أوردناه هنا فنقول يرد على الدليل أمور: -
الأول: - مطالبة الدليل على إن وجود الإمام مصلحة لقيام احتمال أن يكون في وجوده مفسدة وإثبات كونه مصلحة من جهة تقريبه
إلى الطاعة وتبعيده عن المعصية يدفعه إنه وإن كان مقربا من جهة فعسى إن يكون مبعدا من أخرى، بل لعله يقرب إلى المعصية وهذا الإشكال وإن أوردناه على الدليل الأول، ولكن الجواب مختلف لأنا ما أجبنا به عنه هناك إن احتمال المفسدة في وجود الإمام يلزمه احتمال المفسدة في بقاء الشريعة إلى الدوام، وهو معلوم العدم بالضرورة كما مر، وهذا لا يجري فيما نحن فيه لتعقب اللطف عن معرفة الأحكام، وعدم توقف المعرفة عليه.
ثانيا: - إنه لو سلمنا وجود المصلحة في نصب الإمام فإنما نسلمه مرددا بين نصب الله تعالى ورسوله له، وبين نصب الأمة، وإن الله تعالى أوكل نصب الإمام إليهم فتخصيص نصبه بالخالق دون الأمة محتاج إلى القاطع.
ثالثها: - إنه على تقدير اشتمال نصب الإمام على المصلحة، فمن أين يعلم وجوب العمل بهذه المصلحة على الله تعالى التي هي لطف؟ والمشاهد ترك ذلك له تعالى في كثير من الموارد، فإنا ما رأينا
ولا سمعنا بأن الله تعالى لأجل الردع عن المعصية أرسل ملكا لموعظة

42
العاصي كما روته أهل السنة في قصة يوسف الصديق على نبينا و (ع) في تفسير إنه (وهم بها) مثل الله له صورة يعقوب عاضا على إصبعه أو جبرئيل أو هما فترك يوسف ما أراد، وكذلك ترك غناء الفقير لو علم الله توقف ترك عصيانه عليه وغير ذلك مما ترك الله خلقه من الأمور التي تقرب من الطاعة وتبعد عن المعصية.
رابعها: - إن الأمر إذا كان كذلك فلماذا خلى هذا الزمان
من الإمام المتصرف؟ وأي داع إلى غيبته مع إن في وجوده كمال اللطف؟ وحينئذ إذا فسدت بعض مقدمات الدليل المزبور ولو واحدة منها ذهب الدليل ذهاب أمس، وهذه جملة ما وقفنا عليه
من المناقشات في الدليل المزبور للعلماء المحققين، ولم يخطرني أكثر
مما ذكرت وعسى إن يكون بعض ما ذكرت لم يذكره أحد غيري، وسنجيب بتوفيق الله تعالى عنها كلا بحيث إن المنكر للنصب لو وقف على الجواب لما وسعه غير الإذعان والتسليم فأستمع لما يوحى إليك.
أما الجواب عن الأول: إن احتمال وجود المفسدة في نصب الإمام مع ظهور مصلحة نصبه من جهة التقريب إلى الطاعة والبعد
عن المعصية موهون وساقط عن درجة الاعتبار باتفاق الفريقين، كيف وقد مر عليك في تحرير محل النزاع إنه لا خلاف في لزوم وجود الإمام في الجملة، إنما الخلاف في إنه يجب أن يكون بتعيين الله
من باب اللطف، أو بتعيين الأمة من باب وجوب المقدمة، وعليه فاحتمال المفسدة في وجود الإمام احتمال وهمي لا يليق به أن يذكر.
وعن الثاني: - إن المفسدة المحتملة في تعيين الله مما يرجع إلى الأمة أما من جهة المصلحة والمفسدة، أو من جهة الإطاعة والمعصية.

43
والأول غلط محض لأن علم الله تعالى بصلاح الأمة وفسادها، وقابلية الإمام وعدمها مما لا يقاس به علم الأمة بذلك، وكيف تطيق الأمة معرفة حقيقة الصلاح والفساد، وأنى لهم بالوصول إلى ما يعلمه الله تعالى، كذب العادلون بالله وضلوا ضلالا بعيدا، كلا لا يكون تعيين الأمة أقرب إلى المصلحة والصواب من تعيين الله، وهم قاصرون عن معرفة الأحوال المستقبلة.
والثاني: مثله أيضا لا يسلم، إذ لا إشكال ولا ريب إن الإمام المعين من واجب الوجود العالم بالسر والعلن أصلح من الإمام الذي تعينه الأمة مع قصورهم عن إدراك خفي المصالح وإن لزم منه في بادئ النظر التمرد والعصيان، فإنه لا ينافي المصلحة الواقعية كما إذا اقتضت المصلحة أن يأمر بأمر يعلم بأنه بعد التكليف يزيد عصيان
المكلف، واستوضح ذلك في أمر إبليس بالسجود لآدم إذ لو لم يأمر به لم يظهر خبثه الباطني ولا خرج من زمرة الملائكة المقربين، فلو سلمنا إن بعض الأوامر تبعث على القرب إلى المعصية لكن اشتمال الأمر على المصلحة الواقعية مما يجعل هذه المفسدة هباءا منثورا، وكلام أهل السنة هنا وإن صدر من علمائهم لكنه عند التأمل ساقط عن درجة الاعتبار، فإنهم زعموا إن الله ترك تعيين الإمام حيث نظر إلى إن تفويض أمر الإمامة إلى الأمة أصلح من تعيينه للإمام، ونحن نطالبهم بإيراد المصلحة الموجبة لهذا التفويض، فإن زعموا إن الأمة أعرف وأبصر بالإمام النافع لأمر الدين والدنيا من الله سبحانه، فهو والعياذ بالله كفر، وإن ادعوا إن الله تعالى علم على إن المصلحة في إن يجعل نصب الإمام بيد الأمة، فيمضي ما يريدونه ويرونه، ويكون الإمام ما يجتمعون عليه، وفائدة إن حماية الدين تحصل في

44
تعيينهم أكثر مما تحصل بتعيينه، وبذلك تحفظ بيضة الإسلام وحوزة الشرع عن التشتت خصوصا في بدء الإسلام إذ لو كان الإمام على خلاف آرائهم وله كاره منهم، بعث ذلك على انحراف الكاره فيختل الإسلام وتتبعض صفقته، وتكون المسلمون شعبا وقبائل.
فهذه الدعوى أيضا منظور فيها بل بديهية الفساد، فإن ملخصها
إن الأمة قد لا تطيع الإمام المعين من الله لأمور نفسانية ألقاها الشيطان في أذهانهم، فاقتضت المصلحة في بدء الإسلام في عدم تعيين خالق الأنام للإمام، وإيكال أمره إليهم ليطيعوه إذا كان برضاهم ولا يختلف عليه اثنان فيكون ذلك أبلغ في تأييد الشرع والإقدام على الكفرة في الجهاد
وعدم الخلاف، كالمصلحة التي أجازت إعطاء المؤلفة قلوبهم من سهم الزكاة وهم كفرة مع إنها مشروطة بالقربة، والمعتزلة من أهل السنة بعد أن اعترفوا بأن الأمير (ع) أفضل من غيره من الصحابة، بل قال بعضهم إن لا مشاركة، تراهم يرون وجوب تقديم أبي بكر عليه من جهة رعاية المصلحة فعدم النص على الأمير (ع) كان لأجلها، فتقدم أبي بكر على الأمير كان بفعل الله سبحانه لما ذكرنا ولذلك افتتح شارح النهج في أول كتابه بخطبته فقال: (الحمد لله الذي قدم المفضول على الفاضل)، أراد المفضول الأول وبالفاضل الأمير (ع) وأشار إلى إن التقديم من الله تعالى.
والجواب عن هذه المناقشة: - إن ما ذكر مسلم لو كان نصب الإمام مجهول العنوان بمعنى إنه من الأفعال التي لا توصف بحسن ولا قبح
إلا بالجهات والاعتبارات، فيتجه حينئذ عروض المصلحة المحسنة لعدم تعيين الله للإمام، ويدور حكم الله تعالى مدار تلك المصلحة لكن الأمر

45
ليس كذلك، بل ذكرنا وجود المصلحة في وجوب تعيين الإمام على الله تعالى وسيجئ في رد المناقشة الثالثة ما يوضح هذا المطلب على إن المصلحة المذكورة في تفويض أمر الإمامة إلى الأمة مصلحة سفسطائية لا تليق بأن يدعيها من له أدنى مسكة، فإنه لا يلزم
على الله أن يتبع في كيفية العبادة شهوات العباد وآرائهم، بل لا يجوز له بناء على التحسين والتقبيح أن يخالف المصلحة الظاهرة كي
لا تعصي الناس، بل اللازم على العباد أن تتبع إرادة الله فيما يريده ويأمر به وإن كان بأمر الرسول الباطني وهو العقل، وفي الأثر (اعبد الله حيث يريد لا حيث تريد).
خلاصة المقال إنه بعد معلومية المصلحة في نصب واجب الوجود وتعيينه لمخلوقه إماما يرجعون إليه في الأمور الإلهية يلزم الاعتقاد بوجوب تعيينه، ولا معارض لهذه المصلحة إلا توهم عدم تمكين الأمة للإمام المنصوب من الله تعالى لبعض الوسوسات الشيطانية،
وهو بالبداهة ليس بمفسدة تعارض تلك المصلحة فترفعها، أترى يمكن أن يقال إن المصلحة في أن لا يخلق الله لزيد يدا كي لا يسرق؟ فلا وقع لهذا التوهم أبدا.
وعن الثالث: - وهو إنكار لزوم العمل بهذه المصلحة التي يطلق عليها اسم اللطف، بأن من أنكر ذلك إن استند فيه إلى إنكار الحسن والقبح فقد عرفت بطلانه بما لا مزيد عليه.
وإن ادعى إنه لا شئ يجب على الله من باب اللطف
وإن كان حسنا ولا يمتنع ذلك وإن قبح، فهو لا وجه له ضرورة
إن اللطف على الله تعالى واجب بل خلافه ممتنع لجهتين: -

46
الأولى: إن ترك اللطف نقض للغرض وهو قبيح، ومضافا إلى قبحه إن وجود ما يصرفه محال في حق الحكيم للزوم تخلف المعلول عن العلة، إذ الغرض لو تعلق بحصول شئ لا جرم
إنه بالعرض يتعلق بحصول ما لا يحصل الشيء الأول إلا به، ولا يتم نحققه ووجوده لولا وجود الأخر، فلو لم يتعلق الغرض بحصول
ما يتقوم به الأول يلزم أن يتعلق بطرفي النقيض، وهذا لا يصدر
من عاقل فضلا عن الخالق، وبعد تعلق الغرض بهذه المقدمة التي
هي لطف لا يمكن تخلفه، فإن الغرض علة الأفعال الاختيارية، والمفروض وجود القدرة على ما تعلق به الغرض من غير ترتب مفسدة صارفة، فلا محيص إلا عن صدور ذلك من الأمر، والفرق بين ما نحن فيه وبين ما سبق إن تمام الوجه السابق موقوف على كون الآمر حكيم لا يصدر القبح منه، وهذا لا يتوقف إلا على عقل الآمر وإدراكه.
الثانية: وجود مقتضي اللطف بالمعنى المذكور وخلوه عن المانع، فيؤثر المقتضي أثره، أما المقتضي فهو اشتمال النصب للإمام على صلاح أمر الأمة بالاتفاق، ولا مانع إلا ترتب المفسدة ولا مفسدة في نصب الإمام تمنع من اقتضاء المقتضي سوى ما مضى من عصيان الأمة على نحو المقرر، وهو لا يساوي مصلحة النصب لله تعالى
، لأن العقل قاض بصدور اللطف من المبدأ الفياض فلا بد أن يصدر منه ما هو الأصلح للعباد والبلاد كما تقرر ذلك في علمي الحكمة والكلام، فتلخص إن القاضي بوجوب اللطف أمور: -
(الأول): إن تركه نقض للغرض وهو قبيح، وهذا الوجه موقوف على ما اخترناه في مسألة الحسن والقبح وفاقا للمشهور، إذ المسألة خلافية.

47
(الثاني): إن اللطف فعل اختياري والداعي لصدوره من الآمر موجود، والفعل الاختياري مع وجود الداعي وعدم المانع لا يتخلف، أما وجود الداعي فلأن إرادة هذا الأمر لطف بالنسبة إلى الآمر، فكما تبعث هذه الإرادة على صدور الأمر والطلب، كذلك تبعث
على ارتكاب اللطف لأن في كليهما فائدة وأثر ويحصل بكليهما المقصود وإذا كانت العلية مشتركة بينهما فتخصيصها بأحدهما تفكيك بين العلة والمعلول.
(الثالث): إن الذات المقدسة علة الإفاضة ومبدأ صدور كل خير، واللطف فيض من الفيوضات ومصلحة من المصالح الإلهية، فإذا خلى من المانع لا يتخلف عن إفاضة الفياض، واعلم إن تمامية الوجوه موقوف على معلومية عدم المفسدة في نصب الإمام (ع).
وأما جواب من أنكر اللطف بملاحظة النقوض التي تقدمت مثل
غناء الفقير المانع له من ارتكاب المعصية وأمثال ذلك زاعما إن النقض بذلك يكشف إجمالا عن فساد الدليل فهو إنا وإن لم ننكر إنه إذا منع من اللطف مانع أو عرضت له مفسدة يكتفي الشارع المقدس بنفس الأعلام بالتكاليف الشرعية، ولا يجب عليه النصب من جهة وجوب اللطف لكنا نمنع عروض المفسدة المانعة من اللطف في المقام، وما وقع من العلماء من التزلزل في أصل وجوبه للنقوض التي سلفت ففي غير محله لأن كل واحد من الأمور المذكورة غير سالم عن عروض المفسدة المانعة من اللطف فلا تصلح أن تكون نقضا على الدليل العقلي القاضي بوجوبه، وبسط الكلام في محل آخر.

48
وعن الرابع: وهو أهمها، لأنه نقض على كل دليل عقلي أقيم على وجوب نصب الإمام على الله تعالى، بأنه يختلف حكم اللطف حدوثا وبقاء، فقد يكون وجود الإمام ابتداء لطف وفي استمراره مفسدة ترفع اللطف الاستمراري، ولتوضيح هذا المطلب نتكلم في بعث النبي (ص) ومنه يعلم حال نصب الإمام، وخلاصته إن الحق سبحانه إذا اقتضت مشيئته وتعلقت إرادته بتشريع شريعة مشتملة على طلب أحكام مراده له من أهل عصر لا تدري بتلك الشريعة والأحكام فيجب على الله تعالى أن يبعث لهم من يعرف ذلك ويبلغهم هاتيك الأحكام المرادة بالتفصيل وإلا فالامتثال ممتنع الحصول والمؤاخذة على عدم امتثال ما شرعه ظلم وتكليف بما لا يطاق، وذلك المبعوث هو الرسول ويسمى نبيا أيضا، فإذا عمد أهل ذلك العصر المرسول إليهم ذلك النبي وقتلوا نبيهم بعد بعثه أو حبسوه أو خاف على نفسه منهم ففر إلى صقع أو مكان يضمه عنهم واختبى به عمن يخافه، فليس على الله تعالى بعد أن يرسل غيره أو يحييه بعد قتله، وله أن يعاقب الأمة المر سول إليهم على جميع أحكامه بعد بلوغهم دعوته، وتقصيرهم في الرجوع إليه سواء بلغ الأحكام أو بعضها أو لا، وسواء أيد بالمعجزة أو لا، والضابط أنه متى ما اتصف من أرسل إليه بالتقصير استحق العقاب، وكذا أعقابهم وأعقاب أعقابهم، وغير المقصر من أي مرتبة كان لا يستحق عقابا، وتسمى الأزمنة المتأخرة بزمان الفترة والجاهلية، وكيفية حشرهم ونشرهم مذكورة في كتب الأخبار ويتلو النبي الإمام المنصوب في ذلك حذو النعل بالنعل، فإذا اقتضت المشيئة الربانية بتشريع شريعة وببقاء تلك الشريعة إلى أمد مخصوص يزيد على مدة بقاء الرسول المبعوث، أو إلى أبد

49
الآباد، وأراد جل جلاله من عباده العمل بقوانين تلك الشريعة وأحكامها يلزم أن يرسل رسولا لتشريع تلك الأحكام، وينصب إماما للمحافظة على بقاء التدين بتلك الشريعة بعد النبي (ص)، فلو ترك البعث كشف ذلك عن عدم اقتضاء المشيئة لتشريع شريعة لخلقه، ولو ترك نصب الإمام كشف ذلك عن عدم إرادته تأييد تلك الشريعة وعمل العباد بشرايعها، ومتى أرادهما لزم عليه البعث والنصب كما مر ذلك مفصلا، وعليه فلو أسرعت الأمة إلى قتل ذلك الإمام الحافظ أو اقتضت شهواتها فتركته ونصبت هي غيره أو فر خوفا أو استتر عنهم في صقع أو ناحية فلا يجب على الله سبحانه منع الأمة عن ذلك كله وإبقاء الإمام بالأسباب القهرية، بل بعد إكمال الحجة بنصب الإمام ودلالة الأمة عليه بالطرق المفضية إلى معرفته لا يحتاج بعد إلى منع الدافع له عن حقه قهرا، ولا يجب على الله تعالى تنصيب أخر بعد موته بل هو بالخيار إن شاء نصب إماما أخرا وإن شاء ترك، فاتضح أن الواجب على الله إيجاد ما يقتضي بقاء شرعه كإيجاد ما يقتضي حدوثه، وأما رفع الموانع قهرا عما يقتضي البقاء أو ما يقتضي الحدوث فلا قاطع يقضي به، فإن نفس تشريع الشريعة وإرادة بقاءها لا يوجب إبقاء المحدث والمبقي على الله وإن قضت بإيجادهما للفرق الواضح بين الإيجاد والإبقاء، والخصم قاس الحدث بالبقاء فعارضنا بزمن الغيبة والحال أنه لا مساواة بينهما ولا قاعدة اللطف تقتضيهما، بل إنما تقتضي الحدوث فيهما فقط.
وبالجملة أن أحداث الشريعة تقتضي بدليل اللطف إرسال من يحدثها ويعرفها للناس ولا تقتضي رفع الموانع عنه، وبقائها أيضا بالدليل المزبور يقتضي نصب من يبقيها ويحفظ أحكامها ولا يوجب غير ذلك من

50
حفظه قهرا على الخلق ورفع الموانع عنه كالسابق، فلا نقض على دليل اللطف بزمن الغيبة، ولا ملازمة بين وجوب الحدوث ووجوب البقاء، فنتج من جميع ما ذكرنا إن نصب الإمام بعد الرسول لطف إذ هو يقرب إلى الطاعة، ويبعد عن المعصية، وليس اللطف إلا ذلك، ولازم صدوره على الله، وإما إبقاء الإمام قهرا على الأمة فهو وإن قرب من الطاعة أيضا لكنه مشروط عقلا بالسلامة من المفسدة فمتى لم يتحقق الشرط ولم يحرز لا يحكم حكما بتيا بوجوب البقاء، ولازمه جواز خلو الزمان الثاني عن وجود الإمام أو عن تصرفه بخلاف الزمان الأول فإنه يلزمه فيه وجود الإمام ونصبه ولو آنا ما، بل وكذا في باقي الأزمنة إذا استند عدم البقاء إلى فعل الخالق كأن يقول له لا تبين الأحكام وهو يطلب العمل بها، ولا كذلك إذا استند عدم البقاء إلى المخلوق، ومن هنا ذهب الإمامية إلى عدم جواز خلو العصر عن إمام متصرف موجود لاقتضاء بقاء الشريعة المفروغ منه على ذلك، فحصل الفرق بين الزمانين من وجوب اشتمال الأول على وجود إمام متصرف وجواز عدم اشتمال الثاني عليه في صورة
استناد العدم إلى الأمة العصاة لا إلى الله عز وجل.
لا يقال أن بقاء الشريعة لا ينفك عن وجود الإمام المتصرف في فعل القادر الفياض، لأن حصول الانفكاك بينهما يلزمه إما عدم مطلوبية البقاء أو عدم توقفه على وجود الإمام المتصرف أو عدم قدرة الله تعالى على إبقاء الإمام بين الأمة وهو كما ترى، فكيف تجمع الإمامية بين ذلك وبين اعتقاد غيبة الإمام والقول به، وهذا من الغرابة بمكان، وأهل السنة شنعوا به على الإمامية.
لأنا نقول إن بقاء الشريعة ومطلوبية ذلك من جانب الحق تعالى له معنيان:

51
(الأول): هو بقائها على ما هي عليه من دون تغيير وتبديل، ويراد بالبقاء الفعل التكويني وهو الإبقاء يعني أن مشيئة الله تعالى قضت بإبقاء الشريعة إما طوعا أو كرها إلى يوم الحساب، ومعلوم أن المشيئة لم تتعلق بذلك بالمعنى المذكور، فإن لازم التعلق عدم صدور الكفر والمعصية في الأرض، ويكون حال أهل الأرض كحال الملائكة في السماء فإن أريد بالبقاء هذا المعنى فلا ريب في الملازمة بينه وبين بقاء الإمام المتصرف المبين لأحكام الشريعة الغراء، ولا ينفك أحدهما عن الأخر جزما لكنه لم يدعيه أحد.
(الثاني): البقاء الناشئ من تشريع الشرع وصدور الأوامر والنواهي الذي هو كالحدوث، وهذا النحو من مطلوبية البقاء لا يستلزم دوام وجود الإمام وإن اقتضى نصبه نظير إرادة الأيمان من الكافر والطاعة من العاصي، ولذلك ذكرنا آنفا أنه لو قتل النبي بظلم وجور فلا يجب على الله أن يبعث ثان بشريعة النبي الأول، ومرادنا ببقاء الشريعة هو المعنى الثاني، بمعنى أن التكليف الإلهي يكشف عن المصلحة والمفسدة الواقعية وهو تعلق ببقاء الشريعة بالإجماع والضرورة والكتاب والسنة، ولكن تعلقه على حد مطلوبية الأيمان من الكافر والإطاعة من العاصي، وهذا المقدار من المطلوبية لا يوجب قهر العباد وإلجائهم على تنفيذ الأحكام وإبقاء الشريعة وعلى هذا فالشريعة باقية بالإرادة وهي محتاجة إلى الإمام المتصرف، والقادر قادر على إبقاءه مدى الآباد، ولكنه ليس بواجب عليه ذلك بل يمكن أن يخلو الزمان من إمام متصرف لجهة عصيان الأمة وعدم اقتضاء المصلحة الواقعية إنفاذ تصرف الإمام بالقهر والغلبة وذلك لا يورث خللا في لزوم إبقاء الشريعة ولا في لزوم نصب الإمام

52
المتصرف، وحينئذ يمتنع على القادر الحكيم قبل صدور العصيان من الأمة خلو الزمان من الإمام، وأما بعد نصب الإمام وبعد جحود الأمة له أو عدم إطاعتهم له وإن لم يجحدوه أو عدم تمكينهم إياه يمكن خلو الزمان من ذلك الإمام، ويترتب العذاب حينئذ على العاصي يشاركه المقصر في الاستحقاق، وأما القاصر فحاله من جهة قصور حظه عن إدراك تلك السعادة والفيوضات حال أهل الفترة.
وجملة الأمر أن نصب الإمام للأمة لطف وإبقاءه أخر، واللطف الأول يلزم خلوه عن الموانع ولو بالقهر والغلبة لأن عدمه قبيح وممتنع على الله تعالى حسب ما تقرر ذلك مفصلا.
والثاني وهو إبقاءه على كل حال وإن كان لطفا أيضا غير أنه يعرفه عروض المفسدة من عصيان الأمة وغير ذلك مما يقتضي عدم بقاءه أو تصرفه على ما عرفت، والمعروف من علماء الإمامية أنهم أجابوا عن النقض بزمان الغيبة أن وجود الإمام لطف وتصرفه لطف أخر فأن رجح أحد العبارتين إلى الأخرى وكانا بمعنى واحد فنعم الوفاق، وإن كان مرادهم التفرقة بين وجود الإمام وبين تصرفه لا بين نصبه وإبقائه فلا يصلح ما قالوه أن يكون جوابا للنقض المذكور، وإن كان ما ذكروه من كون وجوده لطفا وتصرفه كذلك مسلم وصحيح لأن وجود الإمام من غير تصرف لطف معنوي نظرا لأن الإمام على مذهب الإمامية بمنزلة قلب العالم وهو قوام بقاؤه ولكن هذا المعنى من اللطف ليس له ربط بمحل النزاع إذ لو طالبهم الخصم بأن مثل هذا الإمام المعطل المهجور أي فائدة في وجوده لا يصلح ما قالوه من كون وجوده لطفا إلى أخره، وإن يكون جوابا لهم إذ قد ورد في الأخبار تشبيه الإمام بالشمس فأن الخلق تنتفع بمجرد وجودها وإن لم يمكن الوصول إليها، والظاهر إنه لم يكن

53
مراد العلماء بهذا الكلام رد نقض الخصم المذكور لأن السؤال والجواب بعينه ورد في بعض الأخبار، ولو أنهم أرادوا الخلاص من النقض على الأدلة العقلية بزمان الغيبة ينحصر الجواب بما نبهنا عليه - وحاصله الفرق بين بعث النبي وإبقائه وبين نصب الإمام وإبقائه في إن المانع الأول لا يعقل وجوده، ويجب على القادر المتعال رفعه بعد استعداد خلق

54
الزمان للأيمان بالله تعالى وما يلزمه من الأحكام، ولا كذلك الثاني لإمكان وجود المانع له عقلا.
الدليل الثالث (من الأدلة غير السمعية)
استقراء حال الأنبياء
إن استقراء حال الأنبياء الماضين واقتفاء آثارهم، وتتبع المتواتر من أحوالهم خصوصا مشاهير الأنبياء المرسلين وألوا العزم منهم، فإن لكل نبي منهم وصي وخليفة معروف باسمه وحسبه ونسبه، فمن تتبع تواريخ الفريقين وكتب علماء الطرفين ولاحظ أخبار السلف، وخلع قلادة العناد وأنصف، رأى إن كل نبي إذا أشرف على الرحيل إلى الدار الباقية، أو قبل ذلك يوصي ويستخلف ويدفع ميراث الأنبياء إلى ذلك الوصي أو إلى موثوق به يدفعه بعد قضاء نحبه إلى خليفته ووصيه، فكيف لا يكون لسيد الأنبياء وخاتمهم وصيا؟ وكيف لا يحذو حذوهم مع إن شريعته أكمل الشرائع وزمان بقاءها أطول ودائرته أوسع حتى أنه (ص) عمت نبوته الإنس والجن على إن أمره باتباع ملة إبراهيم مطلقا بقوله تعالى (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبر 1 هيم حنيفا (مما يقضي أن يصنع كلما صنع ومنها الاستخلاف والاستيصاء بل هو أهمها، والاستثناء يحتاج إلى برهان قاض به بل لو كان لوقع في الكتاب المجيد لأنه مما تعم به البلوى وليس كغيره مما يتسامح في مخصصه، فإن هذا مما يورث الجزم بأن النبي (ص) لم يخرج من الدنيا حتى نصب له وصيا وخليفة.

55
ولو قيل إن النبي (ص) عرف من حال الأمة عدم القبول، وعلم منهم عدم التمكين فترك النص لذلك. فقد عرفت الجواب عنه من إن عصيان الأمة لا يمكن أن يمنع من ابتداء وجوده، كما لا يمنع من ابتداء بعث النبي.
سلمنا لكنه لا ينفع الخصم بل يورث الخلل فيما زعمه من عدم النصب لجهة العصيان وعدم التمكين من الأمة لعودة في المعنى إلى نسبة العصيان والمخالفة لصحابة النبي (ص)، وعدم قابليتهم لأن يكون فيهم من يصلح للإمامة، فينتج منه غصبهم للخلافة باستعمال الحيل، وهذا يثبت جزء من مذهب الإمامية، ويثبت الباقي وهو خلافة الأمير (ع) بالإجماع المركب، لأن كل من يرى إن خلافة غيره باطلة لعدم استحقاق غيره لها بل غصبه إياها يقول بخلافة الأمير (ع) وإنها بالنص على إنه يمكن إثبات مذهب الإمامية بلا واسطة الإجماع المركب، لأن وجود الإمام باتفاق كل المسلمين لازم وواجب، وليس غير مولانا الأمير (ع) أحد قابل من الصحابة لذلك باعتراف الخصم، فيتعين إنه هو الخليفة حقا، وإن تصرف غيره لا وجه له.
الدليل الرابع (من الأدلة غير الشرعية)
سيرة وأحوال النبي (ص)
أن المراد بهذا الدليل هو تصفح أحوال النبي (ص) وسيرته مع الأمير - علي بن أبي طالب (ع) - وغيره من الصحابة، فإذا عرفت منه (ص) الميل إلى واحد بإشاراته والتفاتاته من إكرامه

56
وإعظامه والرجوع إليه في المهمات، كان ذلك شاهد حال على عدم رجحان غيره عليه، وحصول العلم من هذا الطريق شائع معلوم، مثلا إذا عرفت إنسان بالجود والكرم والإحسان فلا ريب إن الجلوس على باب داره والاتكاء على جداره لا يحتاج بالبداهة إلى استيذانه، وكذا لو أضاف مبغضيه وأكرم معاديه، فإكرامه لمحبيه معلوم بشاهد الحال، وهكذا في ساير موارد ما يحصل العلم به من الرضا والكراهة والكرم والبخل والفسق والعدالة وغيرها من الصفات الخفية، وحينئذ من نظر بعين الإنصاف وتفكر في أحوال سيد المرسلين قطع باستخلافه لأمير المؤمنين دون غيره من الصحابة المسلمين وأقامه مقامه في الإمارة، وحمله أعباء الرسالة نظرا إلى أنه (ص) له التصرف في جميع أمور العالم وله معرفة ما يصلحهم مما يفسدهم، وجعل لكل واقعة حكما يناسبها وما ترك الناس في وهدة الضلالة، وبين الأحكام حتى آداب التخلي وأرش الخدش، وعرفهم طريق السلوك وآداب المعيشة بقانون الحكمة الإلهية، وبين لهم طريق السياسات حتى غلبة العدو في الحروب، وأوضح لهم طرقها وكيفياتها حتى بهر العقول وأذعنت العقلاء بأن ما حواه ممتنع الحصول ولولا الإطالة لذكرنا من بعض أخلاقه وآدابه وسيرته مما لو وعاها العاقل وبها تدبر لصقع لوجهه وقال يا سبحان الله ما هذا بشر، ولذلك كانت شريعته من أقوى معا جزه، ومن الواضح أنه إذا كان بهذه المرتبة التي لم تحصل لأحد من الخلق من بني آدم من إدراكه لما لا تدركه العقول، وإحاطته بالأحكام وتفاصيلها فيقطع من له أدنى روية ومسكة بأنه (ص) بالنسبة لأمته أشفق من الوالد الرؤوف، وإن رحمته ولطفه على الأمة أكثر من حياطة

57
الأمهات على أولادها وتعطفها عليهم، وإنه ما استراح ساعة من غم الأمة ورفه المكروهات عنهم، ولو تفكرت في أحوال العقلاء من الناس من الشريف والوضيع كل بحسبه لألفيت كل من تولى وملك شيئا يبالغ في حراسته وصيانته والتحفظ عليه، وفي الأثر (من تولى عشرة أعطي أعقلهم) ألا ترى إلى صنيع راعي الغنم وسايس الأنعام كيف يتنكب بها الوهاد المعشبة والروابي المخضبة، فينقلها من ناد إلى نادي ومن واد إلى وادي، ويفنى ليله ونهاره في صونها عن المؤذيات وحراستها من المهلكات، ولا يشغله عنها شاغل، فكيف عن ملك أمر الأمة وأرسله الله تعالى إليهم نعمة؟ أتراه يتركهم سدى لا ينصب لهم راعيا يدبر أمورهم، وواليا يرجعون إليه في مهماتهم، به يتقوى الضعيف وبه يزول كرب اللهيف، ومنه يتعرفون أحكام واجب الوجود ويقفون على فرائض الملك المعبود، وكيف يرجع اختيار نصب الإمام إليهم؟ وهو أعرف بما يصلحهم منهم فيترك الأصلح إلى غيره من غير ضرورة تدعو إلى ذلك، فإن الضرورة تقدر بقدرها عند عروضها، واحتمال عروضها لا يوجب ترك الأصلح المأمور بفعله، والحال إن نصب الإمام من أعظم المصالح العامة وأهمها باتفاق أهل السنة والإمامية، ولو إن ترك ذلك مستحسن لتركته الملوك والسلاطين فتراهم ينصبون ولي عهدهم قبل كل شئ، ويرشدون رعيتهم إليه، أفيترك ذلك ملك الملوك والعقل الكامل؟ كلا ولو اختبرت أهل السنة لوجدتهم يبالغون في هذا الأمر أكثر من الإمامية، فإنهم تركوا حضور تجهيز النبي (ص) ودفنه، وتهافتوا في سقيفة بني ساعده، واشتغلوا بأمر الإمامة خشية أن لا يختل أمر الدين ولو ريثما يدفن النبي (ص)، لأنهم رأوا ذلك أصلح للدين من

58
انتظارهم هذه المدة اليسيرة حتى فاتتهم الصلاة عليه إلا نفرا يسيرا، وفي بعض الأخبار لم يدفن النبي (ص) حتى تم أمر الخلافة وانقطع النزاع وبويع ابن أبي قحافة، وقيل بقي النبي (ص) إلى ثلاثة أيام لم يقبر لكن المشهور الأول، ولأجل لزوم ذلك والاهتمام به عهد أبو بكر إلى عمر واستخلفه، فأي عاقل يجوز ترك الاستخلاف على من أحرز عقل الكل؟ لعمري إن هذا بهتان عظيم. وفي الأثر (حدث العاقل بما لا يليق فإن صدق لا عقل له)، وعلى كل حال فالمحقق من تواتر الأخبار وأخبار المؤرخين إن جمعا من الصحابة لم يحضروا تجهيز النبي (ص)، وأسرعوا إلى سقيفة بني ساعده لطلب الإمارة والخلافة، وهذا هو الذي دعى الإمامية إلى الانحراف عنهم وعدم الاعتناء بشأنهم، لأن المنصف الخالي من شوائب العناد وهوى النفس يسأل منه إنه أي خلل ووهن ورخنه تصيب الدين في مدة يسيرة حتى يرتكب لأجله هذا الأمر الشنيع الذي يورث الاستخفاف بحق النبي (ص) أن يترك جسدا بلا روح بين الأحياء، ولا يعجلون إلى تربته والحال إن زمان اشتغالهم بالبيعة أطول بحسب العادة من زمان تجهيز النبي (ص) ولو إنهم سلموا من هوى النفس والميل إلى الرياسة لجمعوا بين هذين الأمرين الممكنين وأحرز وأشرف شرف الدنيا والآخرة فيجهزون النبي (ص)، ثم يعدون لما نهوا عنه من أمر الخلافة لا أقل من إن الأمير (ع) إن لم يكن رئيسهم فهو من أول المهاجرين، أما كان ينبغي أن يشاوروه في هذا الأمر
، لكنهم مال بهم الهوى وراق لهم خفق

59
النعال فعافوا ما يصلح دينهم لدنياهم وذلك معنى (أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا)، يعني بعد النصب وإكمال الحجة وتعيين الإمام لا يضر الله تعالى من يعصي ولم يتمثل وهو معنى الانقلاب، وهذا هو ما أشرنا إليه آنفا من إن عروض المعصية بعد نصب الإمام وعدم امتثال أمره لا يجب على الله إزالته وإن وجب عليه إزالة ما يمنع من النصب ومما يقضى بأن اجتماعهم كان طلبا للرياسة لا لإصلاح أمر الأمة تظلم الأمير (ع) كما وقع في النهج الذي لا ريب أنه من كلامه قال في خطبة له (حتى قبض رسول الله رجع قوم على الأعقاب وغالتهم السبل ووصلوا غير الرحم الذي أمروا بمودته ونقلوا البناء عن رص أساسه حتى بنوه في غير مرضه) وقوله في أخرى (فلما مضى محمد (ص) تنازع المسلمون الأمر من بعده فوالله ما يلقى في روعي ولا يخطر ببالي إن العرب تزيح هذا الأمر عن أهل بيته ولا أنهم منحوه عني فما راعني إلا انثيال الناس على فلان يبايعونه فأمسكت بيدي) إلى غير ذلك من تظلمه من يوم السقيفة، فأين صلاح أمر الأمة والأمير يرى فساد أمرهم بهذا، وأهل السنة لما عرفوا بشاعة هذا الأمر وشناعته أخذ يلفقون ما يموهون به على العوام لرفع التشنيع عليهم من هذه الجهة لكنهم كحاطب ليل لا يدري ما يجمع، فيجيبون تارة عن ذلك بأن الصحابة أرادوا الجمع بين الأمرين فتركوا جمعا منهم يجهز النبي (ص) وجمعا آخر يشتغل بأمر الخلافة والإمامة في المحل المعد له، وليس في هذا إلا تمام العدل والإنصاف

60
وحماية الدين وأداء حق الرسول (ص) بالاهتمام بحراسة شريعته الغراء وبتمام الجد والاجتهاد عقدوا البيعة وهدأت النفوس واعتز الإسلام وليس لهم بذلك مقصود أو غرض إلا حفظ الإسلام والمسلمين، ثم ينسبون الإمامية إلى الجهل بمعرفة الأمور والعناد مع المسلمين.
ويتخلصون أخرى بأنه في زمن مرض النبي (ص) كثر القال والقيل وظهر الاختلال في الدين حتى برزنا عق المنافقين وكامن القاسطين وأشرفت الأعراب من حوالي المدينة على الارتداد، وجاسوس المنافقين فيها يتربص الفرص، والصحابة لما نظروا إلى ذلك لم يملكوا أنفسهم عن الإسراع إلى أمر الخلافة بعد أن قام البعض بتجهيز النبي، وهو واجب كفاية، لأنهم من أطلع الناس على أسرار المنافقين ومكايدهم، ويعلمون بأن الأعراب يسرع إليهم الارتداد لأنهم ينعقون مع كل ناعق فعسى أن يكون قد انتهى الأمر بهم ووصل الحال إلى حد لو انحصر تجهيز النبي (ص) بهم لما فعلوه، لكون حفظ بيضة الإسلام أهم من تجهيزه عند الله ورسوله، وفعل الأهم واجب عند المزاحمة مع غيره، وفي الحديث (من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم)، وفي ذلك لهم تمام الفضل والفضيلة، ولهذا ومثله أنزل الله فيهم قرآنا فقال عز وجل (كنتم خير أمة أخرجت للناس (وربما طعنوا وشنعوا على الإمامية الذين طعنوا في الصحابة بترك تجهيز النبي (ص) ومبادرتهم إلى تعيين الخليفة والإمام بعده، وعدوا ذلك من المثالب قالوا " وذلك من غواية إبليس وتدليسه بأن سلب الدين من

61
الإمامية بمقدمات خيلها لديهم إنها دينية فظلوا وأضلوا وشاركوا أهل الكتاب في الكفر ".
ويا ليت شعري كيف تجديهم هذه الخرافات وتفيدهم هاتيك المغالطات فها نحن نرد الأولى بأن العقل والنقل يقضيان بحرمة الرسول، وإن هتك حرمته فسق بل كفر، ولا ريب بأن ترك تجهيزه يقضي بهتك الحرمة فلا عذر لهم في ذلك، بل لو تخلف واحد منهم استحق الملامة والذم والعذاب فكيف بجلهم فإن ذلك حرام من جهتين من الإخلال بالمودة التي أمروا بها، ومن عدم الاحترام، ومقالة أكثرهم إن ذلك لحفظ بيضة الإسلام فيه إن فعل ما هو حرام لاحتمال المصلحة المظنونة لعله خلاف الشريعة، ولو سلمنا إن الضرر المحتمل يلزم دفعه نقول أي دليل قضى بأن حفظ البيضة يزيل حرمة الهتك؟
كيف وهو بيضة الإسلام؟ ففي ترك حرمته هتك بيضة الإسلام فما فروا منه وقعوا فيه كما لا يخفى.
ونمنع الثانية بأن الارتداد المذكور والتشويش الذي يخشى منه على بيضة الإسلام لو كان لبان، والحال إنه لم يذكره مؤرخ ولا سمعناه من ذي سيرة، ولا وقفنا على جهة من الإعراب إلا ما صدر بعد الخلافة بمدة في عهد الأول من واقعة مالك بن نويرة وهي لعمري إن لم تكن مثلبة فما كادت لتكون منقبة فراجع السير وتعرف الواقعة تعرف إن مالكا وأصحابه لم يخلعوا طاعة ولا فارقوا الجماعة، وإن ما صدر من خالد بن الوليد معهم كان ظلما وعدوانا، ولا ينبئك مثل خبير، وعند الله تجتمع الخصوم، والحاصل لم يبلغنا ارتداد أحد ولا محاصرة المدينة ولو كان فزمان التجهيز كان بحيث أنه لولا تركه لاختل أمر الدين مما لا يتفوه به عاقل، وهو بهذا القصد على إن من ارتد على فرضه إن لم يأت وينازع

62
على إجراء الحدود مثلا هو لا يأتي ولا ينازع فالاعتذار بهذه المعاذير الواهية كما وقع من بعض علماءهم في غاية الضعف لا يخلو عن التعصب ومن الشواهد القوية تخلف الأمير ومن معه من أكابر الصحابة عن الرواح إليها والدخول فيما دخل فيه أهلها، وإن عملهم غير مرضي للأمير.
ولو ادعوا أنه أخطأ في اجتهاده. ففيه بعد منع الخطأ في حقه خصوصا في مثل هذا الأمر العظيم - إن هذا الخطأ قد استمر معه إلى أن قضى نحبه ولقى ربه، ولو كان كذلك ينبغي أن يزول بعد ما تم الأمر وتبين له وجه صلاحه، كلا لقد احتج عليهم في زمانهم وتظلم منهم بعده أنظر إلى شقشقيته فإنها تنبيك عن تظلمه كغيرها من كلماته.
فإن قلت أنه كما إن من البعيد عدم تعيين الرسول (ص) للإمام فأبعد منه مخالفة الجم الغفير من الصحابة وفيهم أجلاء المهاجرين والأنصار، فإن نسبة مخالفتهم النبي (ص) في هذا الأمر يحتاج إلى جرأة عظيمة ونسبتهم إلى الفسق لا يكاد يلتئم مع ما ورد من المدح والثناء عليهم جملة من الله ورسوله في الآيات والأخبار مثل (كنتم خير أمة (ومثل (المهاجرين والأنصار (الآية، وقد صدر فيها تصريح الرضى من الله عنهم فيلزم المنصف أن يحمل أفعالهم على الصحة مهما أمكن ولا يتعرض لهم بسوء.
قلنا: هذا الكلام بظاهرة يكاد لا يسمع ولكنه عند التحقيق لا يشفي علة ولا ينجع غلة أما الآيات والأخبار فهي مجملة لا يركن إليها بعد معلومية أن الله سبحانه ونبيه ما أراد بذلك مدح كل الصحابة يقينا لمعلومية أن فيهم من نكث وارتد، وفي الكتاب المجيد نزل الذم في

63
خصوص بعض الصحابة أيضا مثل (الذين آمنوا ثم كفروا (ومثل (انقلبتم (وغير ذلك، وفي الأخبار أيضا كذلك، وإما مخالفة الأكثر وهو من البعيد فلا يكاد ينكر فإن صدور المعصية علة تامة لتحقق المخالفة وعدم العدالة، وهي واقعة منهم باعتراف الخصوم ولأجلها أخذوا يتعلقون بكل رطب ويابس. قالوا القلوب منحرفة عن الأمير، وأغلب المهاجرين والأنصار لا يرضونه حاكما عليهم فتدبيره مثار الفتنة والارتداد واختلال الإسلام بخلاف تقديم غيره.
وقالوا إن الحق المحض مر، والأمير (ع) لا يداهن في دين الله أبدا، ومن المعلوم إن الناس لا ترغب لغير المداهن خصوصا الولاة والقضاة والمصدقين ورؤساء العساكر وغيرهم، ممن يرغب الارتشاء ويطلب أن يظلم، فلو تولى الأمير أمرهم لعزرهم مضافا إلى العزل، ولأغلظ لهم في القول، وضعفاء العقول لا يتحملون ذلك ولا يطيقونه
64 الدليل الرابع: سيرة وأحوال النبي (ص)

64
فيورث إرجاع الأمر إليه الهرج والمرج في بدء الإسلام، والصحابة رأوا المصلحة لأن يتصدون أمر الخلافة ويحفظون الدين عن التغير إلى أن يتقوى الإسلام، ونحن نقول إن هذا ومثله من المعاذير لو صدقت لكان غايتها إن استبداد الأمير بالخلافة بغير مشورتهم ومعاونتهم خلاف الأصلح. وأما خلافته بمعاونة الصحابة فلا فساد فيها فينجم الاعتراض على الصحابة إنهم لم لم يوازروه ولم يعاونوه، فوالله العظيم لو أعانه منهم عشرة ما اختلف عليه اثنان فكيف بجلهم، ولا يزيد كراهة إمرته على كراهة نبوة النبي (ص) فإنه باليسر منهم ملك رقابهم وأظهر نبوته بالسيف، ثم إن الكاره لخلافته وإمرته إن كان من الأذناب فهم لا يعتني بشأنهم وما هم إلا كالفراش، وإن كان من أهل الحل والعقد من المهاجرين والأنصار جاء الحق من إنهم اتبعوا أهواء أنفسهم ولم يكن فيهم أحد سالما من غرض أو مرض، ولولا تقاعد باقي المهاجرين والأنصار عن عثمان في المدينة وعدم رضائهم ببعض أفعاله لما مر به من يؤذيه ولا قتل، ثم إن المنصف إذا تفكر في التواريخ وأخبار السلف يرى إن أغلب الناس إلا من يشم من نفسه الإمرة كلهم كانوا يوالون عليا)، ويودون ولايته عليهم فهذا العذر كالذي يليه لا يفيد فائدة، فإن الحق أحق أن يتبع فكونه (ع) يقضي بالحق ويسير بالعدل، ولا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله مما يشرف من له أدنى عقل إن العموم ترضى به لكن رضاء العموم متوقف على رضاء الخواص، والخواص قلوبهم مرضى، ومرض القلوب لا يداوى، وهوى النفس يغلب، والله سبحانه أبصر عمن خالف النص وغلبه هواه.

65
الخامس من الأدلة: (التي هي غير سمعية)
دعواه للإمامة والخلافة
أن عليا (ع) ادعى الإمامة والخلافة بالنص، وأنه أقام على ذلك البراهين والمعاجز.
أما دعواه الإمامة فغنية عن البرهان لا تحتاج إلى الإثبات، ويكفي فيها تظلمه في نهجه كما غبر (1) وتخلفه عن البيعة لغيره بإجماع الفريقين. نعم الخصم يدعي بيعته بعد أن قضى رسول الله (ص) بمدة، والإمامية تقول ما بايع أبدا، ولأن ظهر منه صورة بيعة فلأمر ما جذع قصير أنفه، ويستندون في ذلك إلى مشاهدة أحواله حتى عممه ابن ملجم، وأنه لم يزل يتظلم فلو كان مبايعا لا يحسن منه ذلك وعلى كل حال فتخلفه عن البيعة عند فقد الرسول (ص) مما لم ينازع فيه أحد، وادعاءه إنه أحق بهذا الأمر مما لا ينكر.
وأما ما جرى على يده من المعاجز الباهرة، فذلك في الجملة مما لا يعترضه الشك، وإنكار منكريه لا ينفع بعد ظهوره بين الخاص والعام، واعتراف الكفرة بذلك فضلا من الإسلام حتى اشتهر بمظهر العجائب بين الأنام.
66 الدليل الخامس: دعواه للإمامة والخلافة



(1) غبر: مضى
66
ولو قيل بأن تسليم ذلك لا يصلح أن يكون حجة على الإمامة ودليلا لأن دعواه للإمامة لم يكن مقرونا بالمعجزة، ولا استند إلى إثباتها بذلك، غاية ما في الباب إنه ادعى الإمامة وظهرت منه المعاجز.
فرده أما على مذهب الإمامية وما وصل إليهم من الأخبار الموثقة من الرواة الذي جرى توثيقهم في السنة من أهل السنة والشيعة مما هم مذكورون في ميزان الاعتدال في معرفة الرجال إنه ادعى الإمامة وأظهر المعجزة وبذلك وردت جملة من النصوص {كمنازعته مع أبي بكر بعد موت النبي (ص) وتوافقا على الرواح إلى قبر النبي (ص)، فلما ذهبا إليه سمع أبو بكر صوت النبي بل رأى شخصه بدعاء علي (ع) وهو يقول (علي مني بمنزلة هارون من موسى، اللهم وآل من والاه)، فذهب وهو يقول سحر بني هاشم ورب الكعبة}... الخبر، وكذا منازعته مع العباس في ميراث النبي (ص) وغير ذلك.
وأما مذهب أهل السنة فظهور المعجزة وإن لم تكن مقرونة بدعوى الإمامة إلا إنه بعد عدم إنكار صدور المعاجز منه يقضي صدورها بمزيد الفضيلة على المخلوقين وتميزه على من سواه، والمميز من البشر العالي عليهم أحق بالأمر من غيره، فإن علو المراتب بحسب القابلية وهو ظاهر.
الدليل السادس: - (وهو من الأدلة العقلية)
الإمام معصوم
السادس من الأدلة العقلية: - إن الإمام المنصوب للرعية لا بد وأن يكون معصوما من الخطأ والزلل، والعلم بعصمته لا تمكن ولا تأتى لغير

67
الله تعالى ورسوله، فيتعين وجوب نصبه على الله ورسوله. فهنا دعويان: -
(الأولى): وجوب كون الإمام معصوما، وإن غير المعصوم يجوز عليه الخطأ والمعصية، ويلزم الأمة من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ردع المرتكب لذلك، فالشخص الذي تجب عليه سماع قول الأمة والأمة يلزمهم ردعه كيف يكون حاكما عليهم وقاهرا لهم، ويجب عليهم امتثال أمره ونهيه، فإنه قد يكون مستحقا للتعزير أو للحد أو للقتل وإطاعة مثل هذا الشخص من أقبح الأشياء وأفضحها، ولما نظر بعض علماء أهل السنة إلى بشاعة هذا الأمر تخلصوا منه بأن الإمام إمام ما دام مطيعا لله تعالى، ومتى خالف تعزله الأمة ويعينون غيره، وهذا التخلص من دفع الفاسد بالأفسد لأداء ذلك إلى اختلال النظام ولزوم الهرج والمرج وتشويش أمر الأمة كما وقع ذلك في أمر خلافة بني العباس، ويلزمه تسلط الرعية على ولي الأمر مع اختلاف مذاهب الناس وميلهم.
ولو عورض هذا الدليل باستقرار أمر الأمة في خلافة الخليفتين وغيرهما من بعض السلاطين المتصرفين في الرعية بتنصيبهم لهم، لأجبنا عن ذلك بقلته أولا. وبأن الاستقرار للخوف من سيوفهم، ولو وجدوا فرصة لعزلوه ثانيا. وبأنا لم نحكم بعدم إمكان الاستقرار أو بامتناعه أو عدم وقعه ثالثا، وإنما حكمنا بأن والي أمر الأمة وسلطان الدين لا يليق به أن يكون منصوبا لهم، ولهم الولاية عليه في العزل والنصب لوجوه: -
(أولها): إن الغرض من وجود السلطان إزالة الفساد واستراحة العباد، فإذا كان تعيينه بأمر الأمة نافى ذلك الغرض، بل كان ذلك عين الفساد وعدم الصلاح.

68
(ثانيها): إن من عينته الأمة منها للإمارة لابد وأن يكون غير معصوم، إذ تعيين الأمة وتنصيبهم له لا يجعله معصوما بالضرورة، ومتى كان كذلك يمكن في حقه أن ينهمك في المعاصي ويتوغل في الظلم والجور، ويخطأ في الأحكام وحينئذ فإن بقي وجوب إطاعته على الأمة بعد ذلك فوا سوئتاه، وإن وجب عليهم عزله ونصب غيره جاء الهرج والمرج وعساهم لا يمكنهم ذلك لكثرة من تعلق به من شياطين الأنس، ومتى عجزوا وقعوا في المهلكة العظمى والبلية الكبرى، وذكر بعض المؤرخين أنه جاءوا بسارق إلى الرشيد بمحضر الإمام علي الرضا (ع)، فأمر الرشيد بحده فقال له: إن من وجب عليه الحد لا يحد، وقد وجب عليك من حدود الله تعالى الكثير، فالتفت الرشيد إلى الرضا وقال له: ما تقول في رده، فقال (ع): إن قوله موافق لدليل فيحتاج رده إليه.
(ثالثها): أنه قد لا يحصل الاتفاق من الجميع على واحد بأن يختلفون في فردين، كما أنه قد يحصل الاتفاق على واحد متهتك لا يصلح للإمامة، فإن كلاهما ممكن وفي ذلك تمام الفساد وعدم الصلاح، والعجب من علماء أهل السنة إنهم يتحملون في دفع هذه المحاذير ويستندون إلى ما لا يسمن ولا يغني، فأي ضرورة ألجأتهم إلى اختيار هذا حتى احتاروا في دفع ما يلزم منه، وقد ينسبون إلى الهذيان في رد مثل هذه المحاذير بالساقط عن درجة الاعتبار، والإمامية في راحة من ذلك لاشتراطهم العصمة في الإمام، وقولهم بأن العلم بها من خصائص الله تعالى لامتناع علم الناس بأحوالهم المستقبلة فضلا عن أحوال سواهم، وحينئذ بناء على ثبوت المقدمتين يجب على الله تعالى أن يعين

69
الإمام ويوحي إلى رسوله به، ووجب على الرسول أن يعينه بشخصه وحسبه ونسبه للأمة، وبعد ثبوت وجوبه يثبت فعليته لأن الوجوب على الله تعالى ملازم للفعلية باتفاق العقول، لأن عدم النصب ظلم وإضرار وتفويت للمصلحة وامتناع الظلم على الله ثابت بالدليل الفطري، ولا يحتاج في ثبوته إلى قاعدة الحسن والقبح.
ودعوى إن الواجب على الله أن لا يظلم ولا يصدر منه ذلك، وإما تفويت المصلحة وترك فعل الأصلح فلا يمتنع في حقه تعالى، مدفوعة بأن معنى الظلم عرفا بالنسبة إلى الله تعالى هو الخروج عن القوانين العقلية والنقلية، وأي خروج أعظم من نسبة القادر المختار إلى إهمال أمور عباده وإيقاعهم في المهلكة بعد قدرته على عدم ذلك وهو ينظر إلى مفاسد عدم تعيين الإمام، ولا فائدة ترجع إليه في الإهمال.
ودعوى إن المصلحة ربما كانت في الإهمال، مدفوعة بالتفكر في سالف كلماتنا بأن مثل هذه المصلحة غير معقولة إلا من جهة عدم تمكين الأمة للإمام المنصوب من الله تعالى، وهو لا يزيل مصلحة نصبه، كما إن كفر الكفار لا يقضى بعدم بعث النبي فإذا ثبت النصب تعين إن يكون المنصوب هو أمير المؤمنين (ع)، لما مر مفصلا من عدم ادعاء غيره ذلك.
70 الدليل السادس: الإمام معصوم

70
الدليل السابع (وهو من الأدلة العقلية): -
أفضليته
إن الإمام لابد وأن يكون أفضل من غيره وإلا يلزم إطاعة الفاضل للمفضول وهو قبيح فيمتنع، ولا ريب في أفضلية الأمير (ع) على من سواه من المهاجرين والأنصار وذلك لا يحتاج إلى تجشم الاستدلال، ويكفي فيه ما ورد صحيحا من طرق الطرفين (علي أقضاكم) وغير ذلك مما يحسر عنه نطاق القلم، والمعتزلة بأسرهم يقولون بذلك وأما الأشاعرة الذين جوزوا صدور القبيح على الله تعالى وإمكانه أيضا بلا مصلحة، لا يجوزون تقديم الفاضل على المفضول، ويرون التقديم بلا سبب ظلم في حق الفاضل وصدور الظلم من الله قبح لا ينكره الأشعري من جهة دلالة الكتاب والشرع عليه، وإن جوزوه عقلا، واحتمال إنه ربما كانت هنالك مصلحة اقتضت التقديم يدفعه التدبر فيما تلوناه عليك مما غير من الأدلة العقلية من إن المصلحة المتوهمة لا ترفع المصلحة اللازمة في أصل التعيين.
والقول بأن الأمير (ع) وإن كان أفضل من غيره في جميع الصفات الحميدة من العلم والشجاعة والحسب والنسب فعسى أن يكون غيره أبصر منه في السياسات والإمارة، مدفوع بعدم معلومية ذلك بل المعلوم غيره من رجوع الصحابة إليه في أكثر المهمات وقد ورد (لولا علي لهلك عمر)، وعدم المعلومية تكفينا على إن الصحابة لو أطاعوه وأمروه عليهم لسار فيهم سيرة النبي (ص)، ولشاورهم كما يفعل الرسول فلا محذور على إن هذا البحث يجري في حق النبي (ص)،

71
لأنه كثيرا ما يشاور أصحابه في الوقائع، ويأخذ بما يرونه من التدبير فإذا اقتضى ذلك حجر مستحق الخلافة جرى مثله في حق النبي (ص).
وزاعم الفرق بينهما بأن النبي (ص) ورد الأخذ برأيه وامتثال أمره من الله تعالى فوجب على الأمة إطاعته ومرعاة المصلحة، وعدمها ملغاة في حقه.
وأما الإمام (فلم يرد النص بتقديم رأيه على رأي الأمة، فاشتراط الأخذ برأيه بأن لا يكون نظر غيره أصوب من نظره وأبصر لا عيب فيه، بل مما يحسنه العقل، مردود بأن النزاع ليس في فعل الأمة بل في فعل الله تعالى في إن الأبصرية بالسياسة تكون باعثا وسببا لتفويض الله جل شأنه الإمارة والسلطنة لغير الأفضل أم لا، ولكون ذلك ممنوع على الله تعالى في حق الرسول ففي حق الإمام أيضا كذلك، على إن الأبصرية في السياسات إن كانت فيما يعود إلى أمر الدنيا فقط ولا دخل لها في الدين فذلك لا كرامة فيه ولا ترجيح، وإن كانت الأبصرية في الأمور الدنيوية المتعلقة بالآخرة فذلك خلاف الأعلمية والأفضلية، والمفروض أن الأمير (ع) أفضل من غيره في كل ما يتعلق بالدين من الفرائض والسنن والمعاش والسياسات وغيرها فلم يبق إلا ما يتعلق بأمر الدنيا محضا، والاشتغال بذلك إن لم يكن نقصا في حق ولي الله فما كاد أن يكون واجبا خلاصة الكلام إن الأمير (ع) أفضل من غيره فتقديم غيره عليه قبيح، والصغرى والكبرى معلومتان فالنتيجة بديهية.
72 الدليل السابع: أفضليته

72
الدليل الثامن (وهو من الأدلة غير السمعية): -
إجماع الإمامية
إجماع الإمامية على اختلاف فرقهم على وجوب تقديم الأمير (ع) في الإمارة على غيره، وإنه مدفوع عن حقه، وذلك يكشف عن رأي رئيسهم كما هو المعهود في كل من تبع غيره، والخصم يعترف باتفاق جميع المسلمين يكشف عن رأي نبيهم لأنهم أتباعه فكذا اتفاق جملة المتابعين يكشف عن رأي متبعهم، وهذا الدليل يشمل على مقدمات: -
(أولها): ثبوت اتفاق الإمامية على وجوب تقديم الأمير على غيره، وعلى عدم أحقية من سواه بإمرة المؤمنين، بل على عدم جواز عزل نفسه عن هذا الأمر، وتسليم الأمر لغيره طوعا.
(ثانيها): حصول الكشف والقطع إن ذلك هو رأي سيدهم وإمامهم.
(ثالثها): إن رأي الإمام صواب لا يجوز الرد عليه ولا مخالفته.
(ورابعها): ثبوت الملازمة بين بطلان خلافة الخلفاء وحقية خلافة الأمير (ع) وعدم إمكان الجمع بين حقيتهما معا.
والرابعة من المقدمات كالأولى يمكن النزاع فيها ولا يتصور.
وأما المقدمتان المتوسطتان فقد أنكرهما جل أهل السنة، فطورا يقولون إن الشيعة بيت الكذب والافتراء لأنهم ينسبون رؤساء المذهب وأئمة الدين إلى قبح الأمور وارتكاب المعاصي، وربما يعتمدون ويتمسكون على هذا المطلب ببعض ما ورد من أئمة الإمامية في مدح الخلفاء خصوصا والصحابة عموما كقول الأمير (ع) في رواية

73
الطوسي (رحمه الله) عن سويد بن غفلة (من فضلني على أبي بكر جلدته حد المفتري)، وقول الصادق (ع) (ولدت منه مرتين) وقوله (ع) (هما إمامان عادلان كانا على الحق وماتا عليه) وقول الإمام الباقر (ع) في رواية كشف الغمة لما قال الإمام (ع) (أبا بكر الصديق قال السائل: منكرا عليه أتقول هذا؟ قال الإمام (ع) نعم هو الصديق ثلاثا، ومن لم يقل إنه الصديق فلا صدق الله تعالى قولا) وكقول الإمام الصادق (ع) للمنصور في حديث رواه في الاحتجاج (بأبي أنت وأمي يا أمير المؤمنين)، وكقول الإمام الرضا (ع) للمأمون مثل ذلك وكتبه في ظهر الطرس الذي فيه ولاية عهده، ولم نقف بعد التتبع على غير ذلك في المدح من طرق الإمامية للجماعة.
والجواب عن ذلك كله مسطور في كتب الإمامية وخلاصته إن أمثال هذه الأخبار محمولة على التقية الموجبة لأكثر من ذلك بالعقل والإجماع والكتاب والسنة، وفي الكشاف في تفسير قوله تعالى (إلا أن تتقوا منهم تقية (: أي إلا أن تخافوا من جهتهم أمرا يجب اتقائه رخص لهم في موالاتهم إذا خافوهم، والمراد بتلك المولاة معاشرة ومخالفة ظاهرة مستشهد بقول عيسى كن وسطا وامشي جانبا... انتهى. نعم يبقى لهم مطالبة الدليل على الخروج عن ظاهر الخطاب وترك العمل بأصالة الحقيقة والحمل على التقية، ولعل القرينة في مثل هذه الخطابات وصرفها عن ظاهرها ظاهرة إذ لو لم يكن مغروسا في أذهان الشيعة انحراف الإمام عن أبي بكر لما قابله بقوله (أتقول هذا) على طريق الاستفهام الإنكاري، ولا

74
داعي للإمام أن يقول (بأبي أنت وأمي) لأنه إفراط في التحبب المستهجن في حقه، مضافا إلى الدغدغة (1) في سند هذه الأخبار، وعدم الوقوف على تصحيح رجالها، وعلى العلات فهي معارضة بما هو أقوى منها سندا ودلالة، والنظر في قواعد التعادل والتراجيح إذا تعذر الجمع يوجب الأخذ بالأقوى بعد التدبر في لحاظ السند والدلالة في كل متعارضين، ولولا ذلك لفسد أمر الشريعة رأسا لوجود الأخبار المتعارضة في الشريعة فوق حد الإحصاء.
وروى محمد بن إسماعيل البخاري في صحيحه، وأبي الحسين مسلم بن الحجاج وغيرهما حديثا مرفوعا إلى أنس بن مالك، وحذيفة بن اليمان إن النبي (ص) قال (ليردن علي أناس من أصحابي الحوض حتى إذا رأيتهم وعرفتهم اختلجوا دوني، فأقول: يا رب أصحابي أصحابي، فيقال أنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقا سحقا). فإن أهل السنة تصرفوا في ظاهر هذا الحديث بأنواع التصرف بعد أن أثبتوا عدالة الصحابة وعرفوا إن إبقاء الحديث على ظاهره صريح في مذهب الإمامية من حيث أنهم يقولون بمخالفة بعض أصحاب النبي (ص)، وأهل السنة ينكرون ذلك فتحملوا في حمل الحديث على محامل من دون قرينة داخلية أو خارجية حرفة العاجز
فإذا فتح باب التصرف عندهم فليت شعري كيف يغلق على الشيعة؟ والحال إن بين التصرفين بعد المشرقين، فالركون إلى مثل هذه الأخبار بعد القرائن الظاهرة صرفها عن ظاهرها، ووجود المعارض الذي يوجب



(1) كناية عن ضعف سندها
75
طرحها إن لم يتصرف فيها مما لا محصل له في إثبات هذه الدعوى الجسيمة.
وأخرى يزعمون بأن مذهب الشيعة والرافضة ليس له أساس وإنما هو من تدليسات هشام ابن الحكم ونصرة بن الراوندي وأبو عيسى الوراق وعبد الله بن سبأ والعلامة والكاشي وغيرهم هم الذين روجوه، وتارة يدعون أن مذهب الرافضة صنيع يهودي أراد الخلل في الإسلام فلم يقدر فألف كتابا في ثلب الصحابة وأودعه عند الإمام الصادق (ع) ولما فارق الإمام الدنيا وجد في خزانته فحسبته الشيعة أنه من كلامه فتدينت به، إلى غير ذلك من المضحكات التي لا تليق بأن تدون، ولكن قوة الشيطان وقدرته على الغواية في المسائل العلمية كقدرته عليها في المسائل العملية، فإن منع المقدمتين بأمثال ذلك مما لا شبهة في بطلانه، وكيف يختلج ببال أو يسري في خيال احتمال افتراء الشيعة على أئمتهم مع إنهم يدققون ويتفكرون في النقير والفتيل، ويحتاطون في أغلب الموارد، وأهل السنة وإن زادوا عددا عليهم إلا إن الخواص من علماءنا تزيد على الخواص من علمائهم، والعبرة بهم لا بالسواد الذي لا يتدبر شيئا والله تعالى يقول (وقليل ما هم (
وملخص القول إن إجماع الشيعة وعلماءهم يكشف قطعا عن رأي رئيسهم، فإن يكن هنالك طعن فهو في الرئيس عافانا الله من سوء
76 الدليل الثامن: اجماع الإمامية

76
العقيدة، وغلبة الشيطان، والتطويل في مثل ذلك لعله لا فائدة فيه لظهوره.
هذا تمام لما يستدل به من الأدلة العقلية.
الباب الثاني
الأدلة النقلية على إمامة أمير المؤمنين (ع)
وأما الأدلة النقلية منها، فهي كثيرة فوق حد الإحصاء، ونحن نذكر منها ما يغني العاقل المتبصر مما اشتملت على نكات ودقائق تدل على المدعى بلا واسطة شأن النزول مما لا ينكره الخصم، وإلا فلو ذكرنا الآيات التي نزلت في حق الأمير (ع) وعترته من طرق أهل السنة وطرقنا لخرجت عن حد الإحصاء، وقد تصدى غير واحد من علماءنا إلى ذكرها فراجع تذكرة العلامة المجلسي من الإمامية وغيره، وراجع طوق الحمام في الإمامة للعالم المتبحر إمام الحرمين الشافعي فنقول: -
(الأول): آيات الإطاعة نحو (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم (وتقريب الاستدلال حسب ما ذكره بعض أصحابنا إن المراد بأولي الأمر الإمام المعصوم (ع) الحافظ لأحكام الله تعالى، لأن إطاعة غيره من الناس قبيح، ومن قرن الله إطاعته بطاعته يلزم أن يكون فيه المزية التامة على غيره، ولا تمييز بغير العصمة ومتى ثبت إن الولي لا بد وأن يكون معصوما ثبت ما تقوله الشيعة في حق أئمتهم وأنهم ولاة الأمر بعد النبي بضميمة ما مر عليك من الأدلة العقلية، فالآية بنفسها

77
تقضي بعصمة الإمام، وحقية مذهب الشيعة، وأهل السنة بعدما نفوا عصمة الإمام وأنكروا ذلك بل لأجله أنكروا الحسن والقبح العقليين ذهبوا في تفسير الآية كل مذهب فقال بعضهم إن المراد بأولي الأمر الخلفاء الراشدين وذهب آخرون إلى تعميمه لجميع السلاطين والحكام، ومنهم من نفاه عن الحكام مطلقا وخصه بالخلفاء والعلماء، والتفاسير المذكورة كما ترى، فالأول مضافا إلى ما اشتمل عليه من المفاسد التي مرت عليك إنه لا يفيد فائدة لاحتياج الأعصار المتأخرة من عصر الخلفاء إلى مثلهم لتجب إطاعته، والمفروض إن أهل السنة رووا مرفوعا إلى النبي (ص) (أن الخلافة ثلاثون سنة وبعدها تكون ملكا عضوضا) فكيف يلتئم الملك العضوض مع وجوب الإطاعة والانقياد.
وإما المعنى الثاني فأدهى وأمر للزوم وجوب الإطاعة والانقياد للفسقة الفجرة المنتهكين لحرمات الله سبحانه وتعالى فإن أغلبهم يشرب الخمر ويستعمل المنكرات وهو ملعون بنص الكتاب مستوجب للحد والتعزير، ومن كان كذلك كيف يوجب الله إطاعته، والمشاهد من حكام الوقت وسلاطينهم هو سيرهم بسيرة الأكاسرة والجبابرة ومخالفة الشريعة الغراء في كل قوانينهم، ثم مع تعدد السلاطين كيف يكون عمل الأمة، نعم الإطاعة من باب دفع الضرر لازمة عقلا وشرعا فهي لأجل حفظ النفوس والأموال والأعراض لا بد منها، وكل حاكم لا بد وأن ينظم مملكته بأحسن نظام، والإطاعة بهذا المعنى لا ربط لها برئيس المسلمين، ومن إطاعته تتلو إطاعة الله ورسوله.
والثالث أبده فسادا من سابقيه، فإنه يلزم تعدد الأئمة وهو كتعدد الإلهة، والتخصيص بالأفضل لا يجدي عند اشتباه موضوعه على الأمة

78
لو تعدد العلماء، فيعود المحذور وبعض من لا بصيرة له فر من هذا المحذور إلى ما هو أدهى وأمر فخصص ولي الأمر بمن خرج بالسيف وأوجب اتباعه، واستند للآية والإجماع على ذلك، ولعمري أي رحمة على العباد في ذلك، ومع تعدد الخارج كيف تكون الإطاعة؟ بل يقضي أن يكون دين النبي عذاب لا رحمة، وهل يوصي عاقل أتباعه حين وفاته: إن من يغلب على الأمر بالسيف من بعدي اتبعوه، لأول ذلك إلى الوصية بالمقاتلة بعده، ونزع السيوف من أغمادها على إن خصوص العلماء يحتاجون إلى إمام قطعا لإمكان الاختلاف بينهم في أمور الدين والدنيا الذي لا يخلو منه نوع العالم ومن تجب إطاعته عليهم لابد وأن يكون من غير جنسهم، وإلا فكل يدعي وصلا بليلى، وفي صورة تعدد المدعى كيف يكون حال الأمة؟ فإن إطاعة الكل مع الاختلاف لا يمكن، وإطاعة البعض لا مرجح لها على البعض الأخر، ولو قصرناه على الأفضل تجيء الحيرة مع التساوي أو الجهل به، ولو قلنا بالتخيير فاستمرارية مفسدة وتعيين المختار في زمان، ولزوم إطاعته دائما لا دليل من عقل ولا نقل عليه، واستخراجه بقرعه ونحوها مسخرة، نعم الرجوع إلى العلماء في أخذ الأحكام الشرعية لا بأس به، وأما وجوب إطاعتهم على حد إطاعة الله ورسوله كما
تفصح به الآية الكريمة في العرض والمال بحيث يكون مختارا لا يرد عليه كما تقتضيه آية (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة (فكلا معل تعالى الله عن ذلك.
لا يقال إن الآية من خطاب المشافهة وهو مختص بالحاضرين على ما هو التحقيق، فلا يسري وجوب الإطاعة لغير زمن الخطاب، وحينئذ

79
يختص بزمان الخلفاء ولا يشمل الأعصار اللاحقة حتى يقال بانحصاره بالأئمة على مذهب الإمامية، لأن إثبات الانحصار متفرع على شمول الخطاب للمعدومين والشمول ممنوع.
لأنا نقول أولا: لو كان الأمر كذلك للزم أن تختص إطاعة الله والرسول بالحاضرين أيضا وفساده واضح.
وثانيا: إن إطاعة أولي الأمر من الأحكام التي لا تقبل الاختصاص بزمن الحضور للإجماع القطعي بأن الإمام الواجب الإطاعة لازم الوجود أبدا، وعليه فيلزم إما أن يعينه الله تعالى، أو يأمر الأمة بتعيينه، والثاني باطل لاتفاق المسلمين على عدم صدور الأمر من الله بذلك. نعم ذهب أهل السنة إلى إن الله تعالى أمر بإطاعة الإمام الذي عينته الأمة، وهذا بمجرده لا يقضي بوجوب تعيين الإمام من جانب الحق تعالى شأنه، وإن زعموا أن وجوب التعيين من الأمور الواضحة - لأنه مقدمة وجوب العمل بالأحكام الشرعية - فلا يحتاج إلى الأمر، بل يكفي فيه الأمر بالأحكام، فعدم الأمر به اتكالا على وضوح وجوبه، لأن فائدة الأمر الأعلام بالوجوب وهو حاصل فلا حاجة إليه.
فالجواب عنه أن وجوب تعيين الإمام على الأمة ليس بواضح، وعسى إن وجوبه كذلك غير معلوم فضلا عن أن يكون ضروريا وبديهيا. وادعاء أن وجوبه من باب المقدمة أول الكلام، لأن العمل بالواجبات والمحرمات على مذهب أهل السنة من الكتاب والسنة حاصل بدون وجود السلطان المتصرف بالأمور التي تحتاج إلى أمير من السياسات وغيرها، وكون هذه الأشياء تحتاج إلى أمير فيجب على الأمة نصبه ممنوع، بأن الاحتياج بمجردة لا يوجب النصب على الأمة، ولا دليل على وجوبه على الأمة غيره بزعمهم كما حققنا ذلك في الأصول.

80
سلمنا الاقتضاء لكنه اقتضاء خفي لا يفهمه إلا أهل العلم على أن الأمة لا قابلية لها ولا صلاحية لنصب الإمام، وإيكال الله سبحانه وتعالى هذا الأمر إلى الأئمة مورث للفتنة وسفك الدماء فيلزم نقض الغرض في الإحالة، إذ الغرض من نصب الإمام القسط والعدل وحفظ النفوس والأموال والأخذ بيد المظلوم، ودفع الظلم والظالم، فلا جرم إن المراد بأولي الأمر من يكون دون النبي وفوق جميع الأمة كي يكون الأمر بإطاعة الأمة له لا يورث فتنة ولا فساد، فإن عصوه دخلوا في زمرة العاصين وقد سلف منا ما يوضح ذلك.
ودعوى: إن هذا البحث مشترك الورود لعدم وجود الإمام المتصرف في الأزمنة المتأخرة على مذهب الإمامية، فكل ما يقولوه في تفسير الآية في الأعصار المتأخرة، يجاب به بناء على مذهب العامة، ورد هذه الدعوى قد اكتست حلة البيان والتوضيح عند تعرضنا للوجه الأولي وحاصله: -
إن الشيعة يقولون في تفسير الآية أن المراد بأولي الأمر أوصياء الرسول (ص) بأمر من الله تعالى، ولا يخلو عصر من الأعصار من وصي وإمام منصوص عليه سواء هذا الزمان وغيره من سابق الأزمنة، والله سبحانه وتعالى جاء بما لزم عليه من تعيين الوصي ونصبه إماما متسلسلا إلى قيام الساعة، ولكن الأمة ما عملوا بما أوجب الله تعالى عليهم من لزوم الاتباع وعصوا في ذلك الله ورسوله على حد عصيانهم في الأحكام، وتقدم أنه ليس على الله جبرهم على الاتباع، فالأئمة ما انفكوا خائفين مترقبين للمكاره، فإذا لم يبلغوا بعض الأحكام بل كلها لا ضير عليهم ولا ينقص ذلك في إمامتهم، فإنهم مكثوا بين

81
أظهر الأمة وصبروا على إيذائهم وسلكوا طريق التقية، واعتزلوا الأمة حتى آل الأمر من شدة الخوف إلى أن غاب مهديهم عن الأبصار، واستتر عنهم أي استتار فها هو ينتظر الفرج سهل الله له ولجميع الأئمة الظهور والمخرج... آمين.
(الثانية): قوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي (فإنها بعد الأعراض عن شأن نزولها، وإنها نزلت في حق الأمير (ع) يوم الغدير كما اتفقت عليه الإمامية وكثير من مفسرين أهل السنة تقتضي حقيقة مذهب الشيعة، بتقريب إن الآية في (اليوم) للعهد الحضوري، فيكون إشارة إلى يوم معين فيه كمل الدين، وتمت النعمة، وليس هو إلا يوم تعيين الإمامة والخليفة الذي هو من أصول الدين، ويجب الالتزام والاعتقاد به، فالمراد بالدين حينئذ خصوص أصول الدين لا فروعه. ومعنى الآية على هذا أنه لم يبق من أصول الدين إلا نصب الإمام والالتزام بإطاعته، وقد أمر الله به في ذلك اليوم وهو يوم الغدير الذي صدر التنصيب فيه لعلي (ع) من الله ورسوله، ولا يمكن أن يراد به غير ذلك، لأن ذلك الغير المراد إما فروع الأحكام أو الأعم منها ومن الأصول، وكلاهما كما ترى لأداء الأول إلى أن النبي (ص) لم يبلغ جميع الأحكام الفرعية، وهو لا يتم على المذهبين، فإن أهل السنة حكموا بأن أكثر الوقائع خالية من الأحكام المقررة لها وطريق استخراجها منوط بنظر المجتهد بالطرق التي قرروها من الأقيسة والاستحسانات وغيرهما، والشيعة وإن لم يعتقدوا ذلك، وعندهم إن لكل واقعة حكم عينه الله ورسوله، وإن الأحكام

82
بأسرها وصلت إلى النبي (ص) وهو علمها لأوصيائه، وهم بلغوها تدريجيا كما بلغها النبي (ص)، ومعلوم إن هذا المقدار من تشريع الأحكام وإنزالها لا يكفي في إكمال الدين وإتمام النعمة، لأن جعلها وتبليغها الرسول مع عدم إطلاع الأمة عليها كلا لا يصدق معه إتمام الدين، وإن كان الله يعلم بوجودها في العالم. نعم لا نضايق في إنها بالنسبة إلى النبي (ص) وأوصيائه كاملة، وإما في حق الأمة مع جهلها ببعضها فلا، والإكمال والإتمام لا يتصور فينبغي بل يلزم حينئذ إفراد الضمير في (لكم وعليكم).
وإن قالوا إن الخطاب بضمير الجمع مع جهل الأمة ببعض الأحكام لا ضرر فيه نظر إلى وجوب الاجتهاد في الحوادث التي لم يعلم حكمها، فمعه بانضمام الأحكام
المفصلة النازلة يتحقق إكمال الدين في حق الأمة.
فردهم أولا: إن وجوب الاجتهاد في الوقائع لم يرد فيه نص على مذهب أهل السنة، وإنما ثبت عندهم بدليل العقل وفعل النبي (ص) والصحابة فلم يكن لوجوبه يوم معين ورد فيه الأمر بوجوبه حتى تكون اللام في (اليوم) إشارة إليه.
وثانيا: إن إيجاب الاجتهاد على القول به مخصوص ببعض أفراد الأمة لا جميعها لعدم إمكان ذلك في حق الجميع فيتبعض الإكمال بل ظاهر الإكمال أن يكون بالفعل لا بالقوة فهو لا يتم حتى في حق البعض القابل للاجتهاد، فالآية الشريفة بملاحظة ما ذكرنا وبقرينة العقل والاعتبار الصحيح تفصح وتقضي بعقد عهد الإمامة والخلافة لواحد من الأمة، وذلك الواحد هو الأمير (ع) دون غيره، فلا يحتاج إلى

83
ملاحظة شأن النزول الذي ربما تنكره أهل السنة لو ادعيناه، ولا يصغى إلى إن الآية نزلت في خلال أحكام بعض الفروع من حلية بعض المآكل والمشارب وحرمتها كحلية بهيمة الأنعام غير محلى الصيد، وكحرمة الميتة والدم ولحم الخنزير، وبعد الآية قوله تعالى (فمن اضطر في مخمصة)، فكيف تصرف إلى الأصول؟ لأن ورودها في سياق تلك الأحكام لا يقضي باختصاصها بها، وإن ظهر ذلك منها لكن بعد قيام القرينة العقلية ينتفي ذلك الظهور مضافا إلى وقوع مثل ذلك في الكتاب المجيد فإن آية التطهير نزلت في خصوص رجال أهل البيت أو في الأعم منهم والإناث مع وقوعها تلو مخاطبات أزواج النبي (ص)، وأمثالها في الفرقان العظيم فوق حد الإحصاء مع إن ذلك فن من فنون البلاغة وشعبة من شعوبها.
الآية الثالثة: آية التبليغ: - وهي قوله تعالى (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك (وهذه الآية نزلت في حق الإمام علي (ع)، وعقد ولايته بإجماع الشيعة وجماعة من أهل السنة، ودلالتها على المقصود غير محتاج إلى الاستعانة بشأن النزول والتفاسير بل صريحها إن الله تعالى أمر نبيه (ص) بتبليغ حكم في تبليغه خوف وخطر من الناس عليه، ولم يكن في الفروع حكم في تبليغه خطر وخوف، فإن أشق التكاليف على نوع البشر خصوصا العصاة منهم الجهاد وترك المال وبذل النفوس، وقد وردت الأوامر المؤكدة بذلك في الزكاة والكفارات والجهاد والحدود والحج وغيرها، وبعدها أي حكم من الأحكام الفرعية يخشى النبي (ص)

84
ويخاف من تبليغه مع كمال شدته (ص) وإقدامه على المكاره وهو مصداق (لا تأخذه في الله لومة لائم)، وأي تكليف بقي ورسول الله (ص) يتوانى في تبليغه حتى تنزل هذه الآية التي ظاهرها العتاب على عدم المسارعة في التبليغ.
لا يقال إن عصمة النبي (ص) تنافي عدم تبليغ كل حكم نزل به الأمين عليه ومن جملة الأحكام إمارة حضرة الأمير (ع) فلو كان مأمورا بها لبلغ ذلك عند الأمر، فظاهر الآية غير مستقيم على المذهبين ولا بد من التصرف فيها على حد غيرها من المتشابه.
لأنا نقول فرق واضح بين تبليغ سائر الأحكام وتبليغ الإمامة في المسارعة والتواني إذ الإمامة يقتضي التواني في تبليغها من جهة نفرة قلوب المنافقين وعدم ميلهم وقبولهم لذلك، ولأجل ذلك توانى النبي (ص) ولم يسارع في هذا الحكم برجاء إنهم يقبلونه حيث لم يصدر بفورية الأمر بفورية التبليغ والله سبحانه يعلم بما تكن صدور أصحاب النبي (ص) من النفاق، ويعلم بما وقع في نفس رسول الله (ص) من انتظار الوقت المناسب لتبليغ هذا الحكم، فلذلك خاطبه بهذا الخطاب واللبيب من نفس الآية ينتقل إلى إن حضرت الرسالة يريد تبليغ هذا الحكم لكنه يمنعه عن الإعلان به خوف الفتنة وأذية المنافقين، وينتظر وقتا يصلح له إلى أن حج حجة الوداع فتضيق الوقت بحيث لا يمكن التأخير، والمسلمون مع رؤسائهم كانوا في ذلك النادي مجتمعون من كل فج عميق، لهذا ورد الأمر الفوري به أن بلغ

85
ذلك في موضعك هذا ولا تؤخر، ولأجل إبداء عذر النبي (ص) قال الله تعالى (وإن لم تفعل فما بلغت رسالته (حتى إن الناس تعلم العذر في تأخر الرسول عن التبليغ، ومن أنصف ووعى وجد هذه الآية من دون استعانة بشأن النزول تقضي بصحة مذهب الإمامية. لا يقال إن الآية على حد وأصدع بما تؤمر.
الآية الرابعة: مما تفرد بها ذهني القاصر حيث لم أقف على من تعرض لها في الإمامة أو استند إليها، وأرى إنها بنفسها تدل على المطلوب، وأرجو ممن اطلع عليها أن يمعن النظر في تقريب دلالتها على النحو الذي وقع في ذهني فأن وجده صحيحا فذاك وإلا فليرده على المستدل، ولا يتهم العلماء الأعلام في أنظارهم وهي قوله عز وجل في سورة تبارك عن لسان رسوله (وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا (وقبلها قوله تعالى (ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا، يا ويلتي ليتني لم اتخذ فلانا خليلا (وفي بعض الأخبار فسر الظالم بالأول وفلانا كناية عن الثاني، وظاهر الآية أن لام التعريف في الظالم ليست للجنس بل ظاهرة في العهد وفيها إشارة إلى ظالم معين، كما إن فلانا كناية عن شخص معين، والعدول فيها عن التصريح إلى الكناية له جهات وفوائد ليس للتعرض لها فائدة، وحيث إن علماء أهل السنة والجماعة ينكرون ما ترويه الإمامية، ويحملون على ظواهر القرآن الأولية حتى صار ذلك شعارهم في أصول الدين لهذا لا يمكن إلزامهم بتفسير الإمامية في عهدية اللام، لكن الآية الأخيرة

86
بملاحظة قرائن صناعة تدل على المدعى بأوضح دلالة خصوصا بملاحظة الأخبار المتواترة من طرق العامة المتضمنة جميعا إن رسول الله (ص) أخبر بأنه يرد بعض أصحابي على الحوض والملائكة تذودهم عني وعن الورود، فأقول هؤلاء أصحابي دعوهم يلحقون بي فتقول الملائكة لي أنهم ارتدوا بعدك، وبدلوا السنة والدين.
وتقريب الاستدلال في الآية إن (القوم) المضاف إلى ياء المتكلم الذين شكى النبي إلى الله منهم لا يمكن أن يقال إنهم اليهود والنصارى وأمثالهم من الزنادقة وزمر الكفرة لأنهم ليسوا من قوم نبينا (ص)، وإن كلا منهم ينتسب إلى نبيه أو إلاهه فلا يصلح عند أهل اللسان إضافتهم إلى نفسه، ثم إن نسبة أخذ القرآن وهجره إليهم ينافي أن يكون الآخذ والهاجر هو الكافر، لأنهم لا يدخلوا في الإسلام ولا ذاقوا طعم الأيمان، وليس في الكتاب المجيد من إرب، فكيف يصح نسبة أخذ القرآن مهجورا إليهم؟ ومثلهم العصاة فإن النبي (ص) بعث رحمة للعالمين، ولم يزل ينوء بحمل غم الأمة وهمها، ويطلب لهم الغفران، ويشفع لهم وقد أعطاه الله تعالى منصب الشفاعة
الكبرى، ومن البعيد أن النبي (ص) مع تلك الرحمة الواسعة في يوم الشفاعة أول شكاية يشكوها في العرصة الكبرى من عصاة الأمة، كلا بل أول ما يشفع لهم، فلا جرم أن القوم الذين شكى منهم هم فرقة من المسلمين لا عقيدة لهم في دين الإسلام، وإن نطقوا بالشهادتين فذلك جرى في لسانهم من دون عقد القلب عليه، فهم يشاركون الكفار ويزيدون عليهم بأن نسبوا الظلم إلى النبي (ص)، والشكاية من

87
محض كفر الكافرين من دون نسبة الظلم إلى الرسول لا يناسب المقام، وكذلك الشكاية ممن أسلم ظاهرا وقلبه مطمئن بالكفر مع عدم الإيذاء للنبي (ص) لا وجه له لأن عقاب الطرفين على الله سبحانه، فتخص الشكاية بمن صدرت منه الأذية والهتك لرسول الله (ص)، وحينئذ فأما أن يراد ب‍ (القوم) في الآية من بايع الخليفة الأول وأعرض عن الأمير (ع)، أو من بايع الأمير (ع) وتابع الأئمة بعده وأعرض عن الخلفاء، والثاني باطل لوجوه.
أولها: إن أهل السنة أعلنوا جازمين بأن مذهب الإمامية في زمن الخلفاء لا عين له ولا أثر، وحينئذ لا يكون محل شكاية النبي (ص) واحتمال أن المراد ب‍ (القوم) الفرقة المستحدثة في الأعصار المتأخرة بعيد عن الصواب في غاية السخافة نظرا إلى أن الفرق المستحدثة حدثت بعد انقراض أعصار الأولين، فلا يقال لهم أنهم قوم النبي (ص) لأن القوم ليس كلفظ الأئمة كي يصدق على من أدرك الحضور ومن لم يدرك ذلك، بل هو مختص بالقوم المدركين لزمن الحضور، ولو فرض صدقه بنحو فبملاحظة إضافته لياء المتكلم يكون صريحا في الاختصاص.
ثانيها: إن الشيعة يرون إن العمل بالكتاب متوقف على بيان العترة النبوية، وعلى الجمع بين أخبارهم والكتاب العزيز كيما يعملون بوصية النبي (ص) حيث قال (إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي)... الخبر، والذي يعمل بهذا لا يزعم في حقه إنه أخذ القرآن مهجورا، بل هم العاملون بحقيقة الكتاب، فكيف يشكو النبي (ص)

88
من قوم عملوا بوصيته في متابعة الكتاب بانضمام العترة، سبحانك هذا بهتان عظيم.
ثالثها: - إن المفرد المضاف خصوصا في أمثال المقام يدل على العموم، فلا جرم أن يكون المراد بالقوم في الآية، أما تمام الصحابة أو رؤساءهم حفظا للمناسبة إلى العموم نادرة وإرادة شرذمة بإرادة أظهر الأفراد قليلة من العام مخالف للقواعد العربية فيتعين بهذه الملاحظة أن المراد من القوم غير من بايع الأمير (ع) وتابعه، ممن بايع الأول وتابعه وتابع الخلفاء بعده، إذ الأمير ومن تابعه لم يتركوا العمل بالقرآن أصلا وبالمرة، ولا اقتصروا على العمل بظاهره من دون انضمام العترة النبوية إليه، بل أخذوا الكتاب حسبما أمر النبي (ص) من الجمع في الحديث المستفيض المجمع عليه المتقدم ذكره، وحينئذ فمن عمل بأحدهما من دون انضمام الأخر إليه يصدق عليه إنه هجر القرآن ولم يعمل به، ولا ريب إن الآخذ بظواهر الكتاب التارك لانضمام العترة والاستعانة بهم في فهم معناه هاجر للقرآن الكريم، فتمحض الشكاية على من عرفت ممن لا يصغي إلى العترة ولا يأخذ معنى القرآن منهم، لأنهم هجروا بهجرهم للعترة، وهو واضح.
ويمكن أن يكون المراد بالقرآن هنا القرآن الذي جمعه الأمير (ع)، ولم يقبله الثاني، وقال إن فيه ثلب جملة من رؤساء المهاجرين والأنصار ونحن ليس لنا حاجة بهذا القرآن، وفي بعض الأخبار إن فيه ذم سبعين واحد باسمه من المنافقين ثم دعى زيد بن ثابت وقال له: إئتني بقرآن لا يشمل على ذم أحد، فاستمهله زيد وأتى بقرآن له، وقال لعمر:

89
إني امتثلت أمرك لكن إن أخرج علي (ع) قرآنه يظهر للناس فسق جميع الصحابة فقال عمر: ما الحيلة، قال زيد: أنت أعرف بها فقال عمر: لا حيلة لنا إلا أن نقتله ونأمن شره، فطلب خالد بن الوليد وأمره بذلك فلم يتيسر له هذا الأمر.
ويحتمل أن يراد بالقرآن أمير المؤمنين (ع) إذ هو الكتاب الناطق كما قاله (ع) في صفين، وعلى جميع الاحتمالات والتقادير يثبت مذهب الإمامية، وتقريب الاستدلال على وجه الاختصار أن المراد بالقوم إما أهل السنة أو الشيعة، والأخير لا يمكن أن يدعى لأن الإمامية عملوا بحقيقة القرآن وكنهه بالرجوع إلى العترة النبوية، وأخذ معناه منهم فلا يكون محلا للشكاية، وأما أهل السنة فهم وإن عملوا بظواهر الكتاب لكنهم تركوا تفسير العترة له وراء ظهورهم، فهم الذين اتخذوا هذا القرآن مهجورا.
هذه جملة من الآيات التي تقضي بالإمامة بلا ملاحظة شأن النزول، وإما ما دل منها بتلك الملاحظة فهو كثير، وفي روايات الإمامية إن ثلث القرآن نزل في شأن أهل البيت ومدحهم، والثلث الثاني في ذم أعدائهم، والثالث في الأحكام والقصص، ولما كانت أخبار الشيعة لا أثر لها عند أهل السنة لذلك لم نتعرض لها ولكن العلامة المجلسي (رحمه الله) وأعلى مقامه في تذكرة الأئمة ذكر جملة من الآيات، وذكر إنها وردت في حق الأمير (ع) باتفاق أهل السنة وهي ثلاث مائة آية رقمها على نسق الفهرست فكان المناسب لنا أن نودع جملة منها في هذه الرسالة بطريق الإجمال ليسهل الأمر على من يريد الرجوع إلى تفاسيرها: -

90
1 - (إنما وليكم الله) 2 - - (يا أيها الرسول بلغ) 3 - - (قل تعالوا ندع) 4 - - (إنما أنت منذر (5 - - (ولكل قوم هاد (6 - - (وقفوهم إنهم مسؤولون (7 - - (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) 8 - - (إتقوا الله وكونوا مع الصادقين) 9 - - (واعتصموا بحبل الله جميعا) 10 - - (وكفى الله المؤمنين القتال) 11 - - (فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون) 12 - - (أم حسب الذين اجترحوا السيئات) 13 - - - (السابقون السابقون) 14 - - - (إن الذين أمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا) 15 - - (ومن المؤمنين رجال) 16 - - (اهدنا الصراط المستقيم) 17 - - (واركعوا مع الراكعين) 18 - - (الذين ينفقون أموالهم باليل والنهار) 19 - - (واسأل من أرسلنا) 20 - - (يا أيها النبي حسبك الله) 21 - - (وكفى بالله شهيدا) 22 - - (هذان خصمان) 23 - - (إن الذين لا يؤمنون بالآخرة) 24 - - (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستون) 25 - - (والذين أمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون) 26 - - (فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين) 27 - (يوم لا يخزي الله النبي) 28 - - (أولئك هم خير البرية) 29 - - (وتواصوا بالحق) 30 - - (فاستوى على سوقه) 31
- - (ألم، أحسب الناس أن يتركوا) 32 - - (من بعد ما تبين لهم الهدى) 33 - - (ويؤت كل ذي فضل فضله) 34 - - (أفمن يعلم أنما أنزل

91
إليك) 35 - - (فانقلبوا بنعمة) 36 - - (في بيوت أذن الله) 37 - - (لا تحرموا طيبات ما أحل الله) 38 - - (واجعل لي لسان صدق في الأخرين) 39
92 الأدلة النقلية

92
- - (والعصر) 40 - - (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى) 41 - - (في لحن القوم) 42 - - (من جاء بالحسنة) 43 - - (فأذن مؤذن) 44 - - (في مقعد صدق) 45 - - (ولما ضرب ابن مريم) 46 - - (وممن خلقنا) 47 - - (وتعيها أذن) 48 - - (والذين يؤذون المؤمنين) 49 - - (ويقولون امنا بالله) 50 - - (وهو الذي خلق من الماء بشرا) 51 - - (وأولو الأرحام بعضهم) 52 - - (اليوم أكملت لكم) 53 - - (وأذان من الله) 54 - - (طوبى لهم وحسن) 55 - - (فإما نذهبن بك) 56 - - (بينهما برزخ) 57 - - (ونادى أصحاب الأعراف) 58 - - (ونزعنا ما في صدورهم) 59 - - (أجعلتم سقاية الحاج) 60 - - (إنما يريد الله ليذهب) 61 - - (هل أتى) 62 - - (وأقام الصلاة وأتى الزكاة) 63 - - (والموفون بعهدهم) 64 - - (ومن يطع الله ورسوله) 65 - - (ليس البر) 66 - - (جزائهم عند ربهم) 67 - - (إذا ناجيتم الرسول) 68 - - (أأشفقتم أن تقدموا) 69 - - (هو الذي أيدك بنصره) 70 - - (قل لا أسئلكم عليه أجرا) 71 - - (واذكروا نعمة الله) 72 - - (قل ما يكون لي أن أبدله) 73 - - (سأل سائل) 74 - - (اليوم يئس الذين كفروا) 75 - - (ولقد صدق عليهم إبليس) 76 - - (سيعلم الذين ظلموا أي منقلب) 77 - - (أم يحسدون الناس) 78 - - (ولقد عهدنا إلى آدم) 79 - - (فأوحى إلى عبده) 80 - - (والنجم إذا هوى) 81 - -

93
(عم يتساءلون) 82 - - (والعاديات ضبحا)، يقول المؤلف ومن تدبر الفرقان، وجمع بينه وبين الأخبار الواردة عن العترة، عرف أن أكثره ورد في حق آل بيت النبي (ص) لكن بكنايات وتوريات ودقايق غير خارجة عن المعاني والبيان العربي.
الأدلة السمعية (السنة النبوية): - -
وأما السنة النبوية فحيث إن وضع الرسالة كان على إتقان الأدلة العقلية القاضية بالإمامة، وعلى إبداء بعض الدقائق والنكات التي تضمنتها الآيات والأخبار المسلمة عند الطرفين، لهذا اقتصرنا على إيراد بعض الأخبار التي تضمنتها كتب أهل السنة من الصحاح الست وغيرها التي هي صريحة في إثبات الإمامة حسب ما تعتقده الشيعة، وصريحة أيضا بفساد ما تزعمه أهل السنة في أمر الخلافة، وربما تعرضنا لرد بعض المناقشات التي أوردها بعض علماء أهل السنة على الأحاديث المذكورة، مثل الرازي والتفتازاني والعضدي وغيرهم، فاستمع لما يوحى إليك: - -
(الحديث الأول): -
الخبر المستفيض وهو خبر الغدير، وهذا الحديث عند الأمامية متواتر بل ضروري، ولذلك إن يوم الغدير من أعظم أعياد السنة عندهم، فإنهم يعظمونه أكثر من يوم المبعث لأن الدين به كمل، والغدير اسم موضع بين الحرمين مكة والمدينة المنورة، والنبي (ص) في حجة الوداع لما وصل إليه مجد في السير إلى المدينة لينصب عليا (ص) فيها لأن الأمر بالنصب كان بمكة، فاستمهل النبي (ص) الأمين جبرائيل في التبليغ حتى يصل إلى المدينة، ولما وصل إلى غدير خم وهو موضع تفرق الأعراب إلى أهاليها هبط عليه الأمين وأمره أن ينصب عليا في مكانه هذا ولم يجوز له

94
في التأخير، وكان مع النبي ما يزيد على ستين ألف واحد من الناس ومعه رؤساء المهاجرين والأنصار، وحينئذ أمر (ص) بأن يصنع له منبرا من الأقتاب فصنع له ذلك، وأمر بجمع الناس فجمعوا في صعيد واحد، وصعد النبي على تلك الأعواد المصنوعة من الحودج والأكوار، ثم وعظ الناس وخطب خطبة بليغة لم يسمع السامعون مثلها حتى قال: (ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم) قالوا بلى يا رسول الله، ثم أخذ بيد علي حتى بان بياض إبطيهما ورأه كل من حضر، وقال: (من كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم وآل من والاه، وعاد من عاداه، وأدر الحق معه حيث دار).
وروى هذا الحديث جماعة من معتبرين أهل السنة، مثل محمد بن جرير الطبري رواه بسبعين طريق، وابن عقده بمائة وخمس طرق، وبعض منهم رواه بمائة وخمسين طريقا، وبعض بمائة وخمسة وعشرين طريقا، وعن مسند بن حنبل، وتفسير الثعلبي، وابن المغازلي، وابن مردويه وعقد بن عقد ربه مرويا بطرق متعددة، ورواه مسلم وداود السجستاني، والترمذي في صحيحهما بطرق متكثرة، وروى في الجمع بين الصحيحين، وفي الجمع بين الصحاح الست باثني عشرة طريقا. وقال ابن المغازلي بعد روايته: هذا حديث صحيح.
وجملة الأمر إن هذا الحديث مروي بطرق متشعبة في كتب أهل السنة بحيث إنه لا يمكن إنكاره لأحدهم ولا يتيسر، ونقل عن الشافعي الشامي، وأبو المعالي الجويني، وابن الجزري الشافعي وغيرهم، إنهم وجدوا كتب وتصانيف عديدة دونت في ضبط هذا الحديث، وقال الإمام الغزالي في سر العالمين ما نصه: (قال رسول الله (ص) لعلي يوم غدير خم من كنت مولاه فعلي مولاه، فقال عمر بن الخطاب: بخ بخ لك يا أبا

95
الحسن لقد أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة، ثم قال وهذا رضى وتسليم وولاية وتحكيم، ثم بعد ذلك غلب الهوى وحب الرياسة وعقود البنود، وخفقان الرايات، وازدحام الخيول وفتح الأمصار، والأمر والنهي، فحملهم على الخلاف فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا، وبئس ما يشترون حتى قال: إن أبا بكر قال على منبر رسول الله (ص) أقيلوني فلست بخيركم وعلي فيكم، أفقال ذلك هزوا أو جدا أو امتحنا، فإن كان هزوا فالخلفاء لا يليق بهم الهزل إلى أن قال: والعجب من منازعة معاوية بن أبي سفيان عليا في الخلافة، أنى ومن أين أليس رسول الله (ص) قطع طمع من طمع فيها بقوله (ص): إذا ولي الخليفتان فاقتلوا الأخير منهما،
والعجب من حق واحد كيف ينقسم بين اثنين، والخلافة ليست بجسم ولا عرض فتتجزى... انتهى كلامه. وهو صريح بأن صحة الحديث المذكور من المسلمات، ولذا أرسله إرسال المسلمات، هذا كله مع قطع النظر عن كلام أهل السنة في تفسير آية التبليغ السابقة، فإن الثعلبي في تفسيره وتفسيرها، روى عن ابن عباس إن الآية المذكورة نزلت في حق علي (ع)، وأخذ النبي (ص) بيد علي وقال: من كنت مولاه... إلى آخره.
ونقل عن الفخر الرازي هذه الرواية أيضا عن ابن عباس، وزاد بأن عمر استقبل عليا حينئذ وقال هنيئا لك يا علي أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة، ولا يقدح اختلاف اللفظ بين ما رواه الغزالي وما رواه الرازي عن ابن عباس، فإن الخبر بالنسبة إلى تهنئة الأمير (ع) متواتر معنوي، وبالنسبة إلى لفظ مولاي متواتر لفظي، ومما اشتهر في ذلك اليوم تهنئة حسان بن ثابت شاعر النبي (ص) بعد أن استأذنه

96
لعلمه (ع) من قصيدة منها، وقال له قم يا علي فإنني رضيتك من بعدي إماما وهاديا، ويكفي في اشتهاره إن ابن عقدة من أعاظم العلماء ومن ثقات أهل السنة ألف كتابا سماه بكتاب الولاية جمع فيها أخبار غدير خم، ورواه عن أكابر الصحابة ومنهم العشرة المبشرة وغيرهم من الأعاظم، وذكر غير واحد من المفسرين الخاصة وأهل السنة في تفسير (سأل سائل بعذاب واقع (إنها نزلت في حق الحارث بن النعمان، حيث إنه لم يكن حاضرا يوم الغدير ولما شاع خبر تنصيب علي في ذلك اليوم، وبلغ الحارث ذلك، فركب ناقته وجاء إلى المدينة، ودخل المسجد فوجد النبي (ص) جالسا والمسجد مشحون من المهاجرين والأنصار فقال: يا محمد أمرتنا بالتوحيد وبنبوتك فقبلنا وسلمنا فلم تقنع بذلك منا حتى عمدت إلى ابن عمك ففضلته علينا، ولم نعلم إن ذلك من عند نفسك أم من عند الله تعالى؟ فأجابه الرسول (ص) بأن ذلك بأمر من الله تعالى، فرجع الحارث مغضبا وقال يا ربي إن كان محمدا صادقا فأنزل علي حجرا من السماء، فلم يبلغ راحلته حتى وقعت عليه حجارة من السماء فأهلكته فنزلت هذه الآية في حقه.
وروى إن أبا قحافة كان في الشام في موت النبي (ص) وكان قد شهد الغدير فجاء من الشام ووجد ابنه أبا بكر على المنبر فصاح ما هذا، وأين سلامكم على علي (ع) بالإمرة يوم الغدير، فقال عمر يا أبا قحافة غبت وشهدنا، ويرى الحاضر ما لا يراه الغائب، إلى غير ذلك، ولكن ومع هذا كله فقد ناقش في الخبر المز بور جماعة من أفاضل علماء العامة، وهي وإن كانت أوهى من بيت العنكبوت لدى من له أدنى خبرة

97
بالمعقول والمنقول، لكنا تصدينا لها لنوضح دفعها كيما يعرفه القروي والبدوي، فنقول أجيب عن هذا الحديث بأجوبة: - -
(أولها): منع تواتر الحديث، ومنع كونه مجمعا عليه بين المحدثين نظرا إلى عدم وجوده في بعض كتب الأحاديث والتفاسير وفي إثبات المذهب، فلا يكون حجة بعد كونه خلافيا، وهذا الرد لشرذمة منهم التفتازاني في شرح المفصل، ونقل عن الرازي إنه قال: ظفرت بأربعمائة طريق إلى حديث الغدير، ومع ذلك لم يؤثر صحته في قلبي.
والجواب عن هذه المناقشة ظاهر فإن عدم رواية الحديث لا يدل على عدم صحته بأحد من الدلالات، لأن عدم روايته لا تكون شهادة على عدم وروده حتى يتعارض النقلان، ويكون حديث الغدير خلافيا بل هي ساكتة عن غير المروية فيها، كيف وليس شرط صحته الحديث أن يروى في جميع الكتب، وكثير من مقطوع الصدور لم يرو في بعض كتب الأحاديث وأغرب من ذلك عدم وقوفه مع ضبطه وإتقانه على الحديث في الصحيحين البخاري ومسلم حتى نفى فيهما مع وجوده في الكتابين، ونقله عنهما الكثير ممن تعرض للخبر من العلماء من الأمامية وأهل السنة.
وبالجملة إن عدم نقل بعض الرواة للخبر لا يقدح في صحته، إنما العبر ة بالأسانيد والطرق، وشاهد حال الرواة والمحدثين، فإذا كان عدد الرواية بمثابة يكون احتمال الكذب والجعل فيها بعيدا يلزم القول بصحتها خصوصا إذا كانت الرواية مخالفة لما يزعمه الرواي من المذهب، ولو سلمنا اختلاف الرواة في الحديث المذكور فهو من باب تعارض

98
النافي والمثبت والثاني مقدم بالاتفاق بل من المتحقق عقلا في مقام اختلاف الشهادات إن شهادة المثبت مقدمة على النافي.
وإن قالوا: إن تقديم شهادة المثبت على النافي في صورة رجوع شهادة النافي إلى لا أدري لا إلى أدري لا، فإنه يرجع إلى أمر وجودي وعدمه، ذكر جملة من الرواة لهذا الحديث في قوة أدري لا عملا بشاهد الحال، فإن الرواة المتصدين لجمع الأخبار من البعيد أن يخفى عليهم مثل هذا الخبر المشتهر، فشاهد الحال يقضي بعدم وقوفهم على صحته بل قيامهم بنفيه. فمنعه إن شاهد الحال، وامتناع خفاء مثل هذا الحديث عليهم لا يوجبان الجزم بشهادة النفي على الوجه المذكور لقيام احتمال العوائق القهرية والموانع التي ليست باختيارية من بعض مقدمات الرواية للراوي، ومع هذا الاحتمال لا يمكن القطع بأن من لم يذكر الحديث المز بور جازم بعدمه.
ولو قالوا أيضا: إن تقديم شهادات المثبت على النافي منحصر في المسائل العملية دون الاعتقادية العلمية.
فجوابه: - - إن مسألة الإمامة عندهم من مسائل الفروع كما سبقت الإشارة إليه فبناء على مذهبهم يجب الالتزام بمضمون الحديث المذكور لعدم ثبوت المعارض لذلك.
ومنه يعلم إن منع الإجماع على صدور النص المذكور أو منع تواتره لا ينفع أهل السنة أبدا لأنهم أجمعوا على حجية أخبار الآحاد في المسائل العملية فلا عذر لهم في الإعراض عن حديث الغدير من هذه الجهة.
ثانيها: - - ما ذكره التفتازاني في شرح المقاصد، وأيضا تبعه الروزبهاني بأن لفظ المولى مشترك بين معان عديدة، فيستعمل بمعنى السيد والأولى

99
بالتصرف، وبمعنى الناصر والمحب والجار وابن العم والمعتق وغير ذلك، والمناسب للحديث من هذه المعاني أربعة السيد والأولى بالتصرف والناصر والمحب، واللفظ المشترك بلا قرينة معينة
ليس له ظهور في واحد من المعاني المشتركة، فكيف يثبت بهذا الحديث مولوية حضرة الأمير (ع) وأولويته بالتصرف في أمور الناس من غيره؟ وترقى وادعى إن قوله (ص) (اللهم وآل من والاه... إلخ) قرينة مقارنة على إرادة المحب والناصر وقد تصدى للجواب عن ذلك بعض العلماء بوجوه: -
منها: إن صدر الحديث وهو قوله (ص) (ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم) قرينة معينة لإرادة السيد والأولى بالتصرف من المولى، وإلا لما صح التفريع في (فمن كنت مولاه)، وإنكار التفتازاني لوجود صدر الحديث لا يلتفت إليه بعد ما بينا تواتر الحديث المز بور، وإلا ينسد باب الاستدلال بالسمعيات.
وحاصله إن رواة صدر الحديث إذا بلغوا ما يفيد العلم للخالي عن الغر ض والمرض، كفى في صدوره متواترا خصوصا بعد ملاحظة شواهد الحال وانتفاء دواعي الكذب، ولا يلزم في ذلك رواية جميع الرواة وأهل الحديث.
ومنها: إن التحابب والتناصر بين المؤمنين ثابت بقوله تعالى (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض)، ولا داعي لخروج علي عن عموم المؤمنين ليأكد النبي (ص) دخوله فيهم بهذا الخبر في رمضاء الهجير، ويقيم بذلك الوادي ويدع الناس تستظل بظل دوابها وتلف ثيابها على أقدامها من حرارة الأرض، فإن المنصف لا يرتاب في أن الاهتمام بمثل

100
ذلك قرينة حال على إرادة المعنى المذكور من المولى، ومما يضحك الثكلى مقالة التفتازاني إن الشاهد على التأكيد منع احتمال طرو التخصيص في آية موالاة المؤمنين بالنسبة إلى علي (ع) وهذا الاحتمال لا يحتمله سفيه فضلا عن عاقل لأن عليا إن لم يكن الفرد الكامل من المؤمنين فلا أقل إنه واحد منهم، وهذا من التشبث بالحشيش، عجبا يرتكب النبي هذا الأمر الجسيم لسد باب الاحتمال والفاضل الروزبهاني لما وجد بشاعة هذا الاحتمال اعتذر بما يقرب منه، بأن النبي (ص) أراد الوصية بأهل بيته ليعلو شأنهم عند العرب وتزيد مرتبتهم فارتكب ما ارتكب، وأوقع ذلك في غدير خم، لأنه محل تفرق الناس إلى أطرافهم وأهاليهم، وهو أيضا كما ترى من إن شدة الاهتمام بهذا الأمر موجب إلى ما هو أعظم من ذلك وليس إلا التنصيب، ومن البديهي أن ليس المقصود من وصية النبي إبلاغ العرب الهمج الرعاع، بل العرب تابعة لرؤسائها، والمقصود إسماع من حضر من الناس ذلك بمحضر من أكابر المهاجرين والأنصار ليشهدوا عليهم إذا نكثوا وخالفوا، ولو كان المقصود مجرد الوصية بحبهم وإبلاغ ذلك العرب لوقع ذلك في عرفات أو في مكة، فأن النافر من مكة إلى أهله خلق كثير، فالمتدرب المتدبر يجزم بأن ذلك لم يكن إلا لأمر فوري عظيم، والمقصد فيه أخذ البيعة على الرؤساء وأعلام من حضر ليشهدوا عليهم، ولولا يوم الغدير وما وقع فيه من التنصيب لعلي (ع) لما وقع الاختلاف بين المسلمين ولا ادعى علي (ع) بأنه مغلوب على حقه ولا جلس في بيته، ولا قيد بحمائل سيفه ولدخل فيما دخل فيه الناس لو كان يعرف في ذلك إطاعة الله تعالى، ومن تدبر نهج البلاغة جزم بما قلناه.

101
ومنها: إن الوصية من النبي (ص) بأهل بيته قد وقع في مقامات عديدة وفي أخبار متواترة مثل خبر الثقلين وغيره، فلا حاجة حينئذ إلى التكلف في إبداء هذا الأمر، وليس هو إلا من باب إيضاح الواضحات، فإن شدة الاهتمام بهذا الأمر يوجب إنه أمر جديد غير مسبوق، فتوقف النبي (ص) ونزوله وإقامته مع شدة الحر ما هو إلا لأمر حادث فيه نجاة الأمة من الهلاك، وما هو إلا نصب علي (ع) إماما، لأنه يروم أن يوصي بحبه الذي هو معلوم من يوم مبيته على فراشه، ومأمور به كل غزوة، وظاهر من أفعال النبي (ص) وأقواله معه، فمن أرجع حديث الغدير إلى غير التنصيب وصرفه عن ما هو صريح فيه من الإمامة، فقد مال به الهوى وغلب على عقله الشيطان ومنها: ما التفت إليه الفاضل الفياض في جواب التفتازاني، وهو إنه على فرض تسليم أن المراد بالمولى الموالاة، فإنه يدل أيضا على تقديم الأمير (ع) على جميع الناس في جميع الأمور لظهور اقتران مولاته بمولاة النبي (ص) وسعد الدين اعترف بأن هذا الاقتران من خصائص الأمير (ع)، والاقتران المز بور يورث مولوية الأمير (ع) حيث إن موالاته كموالاته، ومحبته كمحبته لكن محل الكلام إنه هل بين الخلافة وهذا الاقتران المذكور تلازم وارتباط أم لا؟ ولعل غرض الفاضل الفياض أن محبة الأمير (ع) وموالاته لما كانت كمحبة النبي (ص) وموالاته فلا يجوز للأمة أن تجري على خلاف ما يحب ويهوى، ولا ريب إن تقديم غيره عليه مما لا يحبه ويهواه، فلا يجوز للأمة ارتكابه.
ثالثها: - - ما أجاب به العضدي في موقفه، بعدم ورود لفظ (المولى) بمعنى أولى، فلا يقال مولى الرجلين بكذا، ويقال: أولى الرجلين بالأمر،

102
ويقال فلان أولى بالأمر الفلاني، ولا يقال فلان مولى بكذا، وعلى فرض صحة الإطلاق، وإنهما بمعنى فذيل الحديث من قوله (ص) (اللهم وآل من والاه) قرينة على إرادة المحب من المولى، ولو سلم إن المولى بمعنى الأولى، وأعرض عن القرينة المذكورة فدلالته على الأولوية في التصرف ممنوعة، بل غايته الدلالة على أولوية الأمير (ع) في أمر من الأمور فالمولى هنا كالأولى في قوله تعالى (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه (يعني بالمتابعة والقرب إلى خليل الله إبراهيم... هذا ملخصه.
وأجاب القاضي الششتري (رحمه الله) عن جميع ذلك. أما إنكار ورود المولى بمعنى الأولى ففيه إنه خلاف ما نص عليه أهل اللغة، فعن أبي عبيده وهو من أهل اللسان إن المولى في آية (مولاهم النار (فسرت بالأولى، وورد ذلك في الشعر أيضا، وفي الحديث النبوي (أي امرأة نكحت بغير أذن مولاها) أي بغير أذن سيدها ومالكها فإنكار العضدي لوروده في اللغة كما ترى.
وأما الآية الشريفة ففرق بينها وبين ما نحن فيه، لأن الأولى فيها أضيفت لنفس إبراهيم (ع) بخلاف حديث الغدير، فإن الأولى فيه بالقياس إلى الناس، ولو أن الآية (إن أولى الناس بإبراهيم (من نفسه يكون من قبيل ما نحن فيه.
أقول كأن القاضي أراد بهذا الرد إن التفضيل لا بد فيه من أمور ثلاثة، المفضل والمفضل عليه والمفضل فيه، فلو قال أحد: أنا أولى بك من زيد، كان المفضل هو
المتكلم، والمفضل عليه المجرور بمن، والمفضل فيه ما يتعلق بالمخاطب من الأمور بدلالة قرينة المقام، ومراد القاضي من قوله

103
(الأولى) في الآية أضيفت إلى إبراهيم (ع) هو إن نفس حضرة إبراهيم (ع) هو المفضل فيه لا المفضل، وحديث الغدير ليس كذلك، بل المفضل هو نفس النبي (ص) والمفضل فيه ما يتعلق بالمخاطبين من الأمور، فكان النبي (ص) بعد كون المراد بالمولى الأولى قال: (من كنت أولى به من نفسه فعلي كذلك).
والحاصل إن المفضل هو النبي (ص) والمفضل فيه هو الأمور المتعلقة بهم، ثم قال القاضي: فلو كانت الآية إن أولى الناس بإبراهيم من نفسه لكانت من قبيل ما نحن فيه، لأن المفضل عليه يكون هو نفس إبراهيم، والمفضل فيه ما يتعلق به من الأمور والمفضل هم التابعون، لكن الآية ليست كذلك، بل لا يستقيم أن يكون كذلك، إذ لا معنى لكون التابعين أولى من نفس إبراهيم بأموره، فالمراد من صيرورة الآية حينئذ من قبيل ما نحن فيه أنها من قبيله في الجملة، أي في مجرد كونه (ع) مفضل عليه لا مفضل فيه، وعليك بالتأمل والاجتهاد في كلام القاضي لغموضه، وإن كان غير ميسور وإن بلغ ما بلغ.
وأما إن (أولى من كذا) صحيح، و (مولى من كذا) لا يصح، فجوابه إن مولى أسم، وأولى صفة، والاختلاف نشأ من هذا فأن صيغة التفضل صفة وهي بحسب الاستعمال تقتضي دخول من كذا في المفضل عليه، والمولى صيغة تفضيل لا بطريق الصفة بل هو نظير اسم الفعل الذي حكمه حكم الفعل في الصفات والمتعلقات لا بمعنى، وأيضا اختلاف صلات الألفاظ سماعية، ومن أحكام الألفاظ لا من أحكام المعنى وكثيرا ما يقع في كلام العرب لفظان مشتركان في المعنى مع إن صفاتهما مختلفة، مثلا لفظ الصلاة متعدي بعلى في مقام طلب الرحمة،

104
فيقال: صلى الله عليه، ولا يقال دعا الله عليه، ومع إن الصلاة بمعنى الدعاء، وقال الفاضل الرضي (رحمه الله) إن العلم والمعرفة بمعنى واحد مع تعدي العلم إلى مفعولين دون المعرفة، وأيضا أنت وكاف الخطاب بمعنى واحد مع إنه يقال: إنك عالم، ولا يقال إن أنت عالم.
يقول المؤلف: أجوبة القاضي (وأجوبة سائر العلماء رضوان الله عليهم تكفي في رد العضدي وغيره ممن فسر المولى في الحديث بالمحب والناصر غير إن الذي يختلج بنظر القاصر إن فساد التفسير المذكور لا يحتاج إلى هذه التفاصيل وإلى النقض والابرام، بل يكفي في فساد ذلك اختلاله بحسب المعنى كما لو فسر بالجار والمعتق فإنه لفساده بحسب المعنى اتفق الفريقان على عدم جواز تفسير الحديث بهما مع أنهما من معاني المولى.
وتوضيحه: إن مفاد الحديث على تقدير أن المولى بمعنى المحب والناصر. إن كل من أحبه وأنصره فعلي كذلك يحبه وينصره لأن المحب غير المحبوب، والناصر غير المنصور، وهذا المعنى مضافا إلى ركاكته وعدم إفادته المقصود من جهة إن الواجب على الناس كافة محبة النبي (ص) علي (ع) ونصرته ومودته، إن الحديث حينئذ مردد بين الأخبار والإنشاء، ولكل واحد منهما أفسد من صاحبه، إما الأول فلأن محض الأخبار كلام لغو لا فائدة له أحاشى مقام النبوة عنه، أترى أن النبي (ص) ينزل ذلك المنزل الوعر ويجمع الناس بذلك الصعيد العاري من الماء والكلأ، ويخطب تلك الخطبة في حر الهجير، ويكون جل مقصده إخبار الناس بأن من أحبه وأنصره فعلي (ع) يحبه وينصره، فأي لطف وأي فائدة في ذلك، ومن استماع هذا الحديث أي علم أم عمل يحصل للسامع، نعم لو كان من معاني المولى الحقيقة المحبوب والمنصور لأمكن

105
أن يقال: أنه لا فساد فيه بحسب المعنى، ويمكن أن يراد لكن لم نعثر على إن المحبوب والمنصور من معاني المولى حقيقة، وإنما الموجود المحب والناصر.
وأما الثاني وهو الإنشاء فاسد من سابقه ضرورة إنه حينئذ أمر لعلي (ع) بأنه يحب من يحبه رسول الله من الناس، وهذا المعنى لا داعي إلى بيانه والأمر به على رؤوس الأشهاد وجمع الناس له إلا أن يقال والعياذ بالله تعالى إن النبي (ص) خاف من عدم امتثال الأمير لهذا الأمر لو أمره بذلك مخفيا، وتمرده وعصيانه حتى التجاء النبي (ص) إلى أن يشهد الناس ويطلعهم على ذلك لتتم له الحجة على الأمير (ع) كي لا يعصى الرسول فيه، والمظنون من متعصبين أهل السنة أنهم لا يبالون في حمل حديث الغدير على ذلك، ويزعمون ما لا يرضى به العقل والنقل من أنه ليس المراد من تبليغ النبي (ص) (من كنت مولاه... إلخ)، إثبات مرتبة أو إظهار شرف لعلي (ع) بل الغرض التعريض والازراء بحق الأمير (ع) في إنه في امتثال الأوامر والنواهي يتساهل ويتوانى، فأراد الرسول (ص) أن يسمع المهاجرين والأنصار وسائر قبائل العرب أن أمرت عليا (ع) بأن يحب من أحبه مثل أبي بكر وصاحبه، وليس لعلي (ع) أن يستبد برأيه، أو يسلك بغير الطريق الذي سلكته في مودة كبار الصحابة، ومما يشهد على صدق الظن المزبور إن شارح نهج الحق للعلامة الحلي (رحمه الله) أنكر أكثر ما سطر فيه من فضائل علي (ع) حتى قاده إلى إنكار شجاعة الأمير وأشجعيته، وزاد فادعى أشجعية أبي بكر فلا استبعاد في دعواه أو دعوى أمثاله إن خطبة الغدير

106
تعريض بحق الأمير، وليس لمثل هؤلاء من الجواب إلا الإعراض وتركهم في طغيانهم يعمهون.
الحديث الثاني: -
من الأحاديث التي اتفقت عليه الأمامية، وأهل السنة، ولكنه ورد بعبارات مختلفة اللفظ متقاربة المعنى، والقدر الجامع منها المتواتر معنى إن خلفاء رسول الله (ص) الذين لهم التصرف في نفوس الأمة وأموالهم عددهم اثنا عشر خليفة، وكلهم من قريش ودين الإسلام ما داموا موجود وبسبب وجودهم عزيز ممضى ومجرى، وحيث أني لم أعثر على منكر لهذا المعنى المتواتر من جماعة هذه الأحاديث حتى إن الفاضل الروزبهاني اعترف بهذه الأحاديث مع إنكاره لأكثر المتواترات، لذلك لم أتعرض لمن نقله من أهل السنة في كتابه إذ قل ما يخلو منه كتاب من كتبهم التي تعرضوا فيها للإمامة بل وغيرها، ودلالة هذه الأحاديث على حقية مذهب الشيعة غني عن البيان كمنافاته لما ذهب إليه غير الأمامية من المسلمين خصوصا أهل السنة، ومن هنا تعرف سقوط الحديث المروي عند أهل السنة عن النبي (ص) (إن الخلافة بعدي ثلاثون سنة، وبعدها تكون ملكا عضوضا) بتنزيله على زمان خلافة الخلفاء بل كذبه، إذ من قبول هذه الأحاديث يلزم تكذيب الحديث المرقوم بالتحديد، لكن لعدم مبالاتهم بإنكار
الضروريات وعنادهم في البديهيات أخذوا في توجيه الأحاديث الناصبة على إن عدد الخلفاء إثنا عشر خليفة بمحامل سخيفة سقطوا من حيث لا يشعرون.
ونقل عن الفاضل الروزبهاني إنه قال: اختلفت العلماء في معنى هذه الأحاديث، فقال بعض إن معناها إن أمر الدين عزيز في مدة خلافة أثني عشر خليفة حتى تبلغ ثلاثمائة سنة بعدها تكثر الفتن في الناس ويذل

107
الدين. وقال آخرون إن الخلفاء الأربعة ومعاوية وعبد الله بن الزبير وعمر بن عبد العزيز وخمسة من بني العباس هؤلاء الخلفاء الإثنا عشر، وفساد هذين المعنيين لظهور وضوحه لا يحتاج إلى بيان سواء أريد من الخلفاء في الخبر خلفاء الحق فقط أو الأعم منه ومن حكام الجور، فإن كل واحد منهما أفسد من صاحبه.
أما الثاني فلعدم اجتماع العزة وخلافة الجائر جزما، وأي عزة للإسلام في زمن خلافة الجائر، ولو أريد بالعزة العزة الصورية أي مجرد صيت الإسلام المجامع للظلم والعدوان وهتك النواميس الإلهية فمثل هذه العزة لا تشخص بزمان دون زمان، ولا بحاكم دون حاكم كي يدعي اختصاصها بإثني عشر خليفة في ضمن ثلاثمائة سنة، بل سواد الإسلام يوما فيوما بتزايد وترقي، وفرق المسلمين كلما تأخروا كثروا وكانوا أقوى من السابقين بالبديهية، فاختيار هذا المعنى فيه تكذيب للنبي (ص) من حيث لا يشعر.
وإن أريد بالخلفاء خلفاء الحق فإن أهل السنة قصروا الخلافة على أربعة وما تعدوا لغيرهم حتى إن معاوية لم يزعم أحد من أهل السنة أنه من خلفاء الحق، بل بعضهم حكم بفسقه وبعضهم حكم باجتهاده ومعذوريته من حيث الاجتهاد، فإن تحديد الخلافة بالمدة المزبوره صريح في ذلك، ومن هنا يظهر فساد المعنى الثاني إذ لا عزة للإسلام قطعا في زمان معاوية، مضافا إلى إن الجمع بين خلافة علي (ع) ومعاوية في عزة الإسلام من الممتنعات العقلية نظرا إلى إن حقية كل منهما باعثة على تذليل الإسلام بالنسبة إلى الآخر، فكيف يعز الإسلام بخلافتهما؟ وهذا الكلام من باب المماشاة مع الخصم وإلا لو أنصف المطلع على مطاعن

108
الخلفاء خصوصا الثالث ومعاوية وغيرهما ممن خرج على الأمير وعانده إن لم نقل بالارتداد فيمن خرج نظرا إلى الصحيح من قول النبي (ص) (يا علي حربك حربي)، والرائي لفعال سائر السلاطين وسوء معاملاتهم، وارتكابهم القبائح التي نهى الله عنها في كتابه التي وقعت عما يسمونهم بالخلفاء لجزم بأن مراد النبي (ص) من الأئمة الإثنا عشر غير هؤلاء جزما.
وأما ما أجاب به القاضي من إنه لا يصلح أن يفسر الحديث بهؤلاء الخلفاء لأنهم لا يصلحون للخلافة لكثرة المطاعن التي فيهم، فإن من جملتهم عبد الله بن الزبير، فقد نهى في زمان خلافته عن الصلاة على النبي (ص)، وقال إن بني هاشم يصيبهم النخوة والتجبر في ذلك، فلو منعناهم يذهب منهم التجبر، ومع قطع النظر عن ذلك يلزم تعطل الأحكام بعد انقضاء الثلثمائة سنة.
فأقول: كلام القاضي وإن كان صوابا غير أنه لا يدفع مقالة الروزبهاني إذ خلاصة مقالته إن النبي (ص) يقول إن بعد مضي ثلاثمائة سنة لا يبقى للدين صاحب وحامي ولا وآل يقوم به، ومعنى العزة العزة الصورية الاسمية، وهي بقاء صيت الإسلام وزيادة شوكته وكثرة سواده فحينئذ انقطاع العزة المعنوية بعد الخلفاء الاثني عشر، وكذلك فسق الخلفاء بل كفرهم لا يصلح أن يكون ردا لأنه يثبت العزة مع اعترافه بأن معاوية من السلاطين وملوك الجور، فلا جرم أن يكون مراده بالعزة العزة الاسمية في المدة المذكورة لا المعنوية، فلا يفيد في رده كلام القاضي فينحصر بحسب القواعد العلمية جوابه بما حررناه، وليعلم أيضا أن الفاضل الغزالي بعدما اطلع على هذه الأحاديث أخذته الحيرة والأفكل في تحقيق والي المسلمين وحاميهم وبعد أن اجتهد وأمعن النظر جرى في

109
فكره أن قال ما محصله: إن في هذه الأزمنة الأمر مردد بين محاذير ثلاث أما منع الناس من إجراء العقود والأنكحة والقضاء بين الناس، وأما القول من باب أكل الميتة عند المخمصة إن الناس معذورون في فعل المحرمات، وأما إن إمام المسلمين لا يشترط فيه العدالة وغيرها من الشروط المقررة في زمن الغيبة، ومن باب ارتكاب أقل المحذورين لابد وأن يلتزم بالأخير، ولعمري إن هذه المحاذير لولا اختياره المذهب الفاسد والعقيدة الرديئة لما ابتلي بشيء منها ولو اختار مذهب الأمامية وترك العناد لوصل إلى حمى الأمان، ولم يعان محذورا أبدا، فإن الإمام (ع) نصب فقهاء الأمامية في التصرفات الحسبية، وذكره للعقود والأنكحة يكشف عن عدم مهارته في علم الفقه كما هو واضح.
لا يقال: مقتضى مذهب الشيعة تأييد عزة الإسلام ودوامها أبد الدهر بسبب وجود الأئمة الاثني عشر (ع) واحد بعد واحد، والحال إن ظواهر هذه الأخبار تقضي بانقطاع العزة بانقطاع الأئمة الإثنى عشر مثل قوله (ص) (لا يزال أمر الناس عزيز إلى أثني عشر خليفة، كلهم من قريش) وقال (ص) أيضا (إن هذا الأمر ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش) وهكذا باقي الأخبار فإنها تدل بمفهوم الغاية على إثبات انقطاع العزة.
لأنا نقول: التحديد بالغاية لا يدل على انقطاع الحكم إلا بعد معلومية انقطاع الغاية، وهو غير معلوم بل المعلوم عدمه، فإن الأمامية قاطعة بعدم خلو الأرض من حجة إلى يوم القيامة، والحجة من نسل النبي (ص) ووصيه (ع)، وفي الصحيح عن الأمير (ع) (أن الزمان لا يخلو من إمام من نسلي لكنه إما ظاهر مشهور أو خفي مستور) وأخبار

110
الأئمة بذلك متواترة عن النبي (ص) وعن الأمير (ع)، إن الزمان لا يخلو من إمام منصوب من الله في خلقه، وهو الحافظ للدين عن السرقة والتبديل والتحريف من المنافقين والمشركين، ومن غير الزمان، وإن عرض له زيادة أو نقصان من أهل البدع والكذابين أصلح أمره وقطع شأفتهم، وحينئذ بعد تأييد الغاية التي هي وجود واحد من الإثنى عشر (ع) لا تنقطع العزة بانتهاء العدد مع بقاء الشريعة، ويؤيد ذلك مضامين جملة من الأخبار في هذا المضمار، فقد روى السدي وهو من قدماء المفسرين وثقاة أهل السنة (إن سارة لما كرهت مكان هاجر أوحى الله تعالى إلى خليله أن نحي هاجر عن سارة، وسر بها إلى تهامة، لأنها أم إسماعيل وإني أزيد في ذرية
إسماعيل (ع) وأجعلهم على الكافرين عذابا صبا، وأخلق من ذريته نبيا عظيم الشأن يغلب دينه الأديان وأخلق من ذريته أثني عشر إماما لهم شأن عظيم، وأيضا أخلق من ذريته خلقا بعدد نجوم السماء).
ونقل عن كتاب متعصب الأثر في إمامة الاثني عشر عن أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن عياش عن أبي سليمان راعي رسول الله (ص) قال: سمعت رسول الله يقول: (أوحى إلي الله تعالى ليلة أسرى بي إلى السماء آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه؟ فقلت: أنا والمؤمنين، فقال الله: صدقت يا محمد فمن أبقيت في أمتك؟ قلت: خيرهم يا ربي، فقال علي بن أبي طالب؟ قلت نعم يا إلاهي، فقال: يا محمد إني اخترتك من بين أهل الأرض بعد أن اطلعت عليهم وسميتك بأسماء اشتققتها من أسمي، فلا أذكر في موضع إلا وأنت معي فأنا المحمود وأنت محمد، وأطلعت على أهل الأرض مرة أخرى، واخترت بعدك عليا واشتققت له اسما من أسمائي، فأنا الأعلى وهو علي، يا محمد خلقتك وعليا

111
وفاطمة والحسنين والأئمة من أولاد الحسين (ع) من نوري، وعرضت ولايتكم على أهل السماوات والأرض، فمن قبلها كان عندي من المؤمنين، ومن أنكرها أو تمرد عنها كان عندي من الكافرين، يا محمد لو إن عبدا من عبادي عبدني حتى تقوس ظهره وابيض حاجبه ولم يعترف بولايتكم لا ينفعه كل ذلك عندي، ولن يذوق رحمتي حتى يقر بها، يا محمد أتريد أن أريك الأئمة من نسل الحسين؟ قلت نعم يا ربي، فقال الله تعالى التفت إلى يمين العرش، فالتفت فإذا بعلي وفاطمة والحسن والحسين وعلي ومحمد وجعفر وموسى وعلي ومحمد وعلي والحسن والحجة (ع) في ضحضاح من نور، وهم مشغولون بعبادة الله تعالى، والحجة (ع) عجل الله فرجه في وسطهم كالبدر الساطع فجاءني النداء من العلي الأعلى: يا محمد هؤلاء حججي على خلقي آخرهم مهديهم يطلب بوترك ويأخذ الثأر ويبيد الكفار، فأقسم بعزتي وجلالي إنه هو الباقي عونا لعبادي المؤمنين المنتقم من أعدائي الكافرين)، ومن هذا القبيل من الأحاديث التي ترويها الفريقان، وتعتمدها الطائفتان فوق حد الإحصاء، وكلها تدل على مذهب الأمامية.
سؤال: أي عزة للإسلام بوجود الأئمة (ع)، والحال إنهم ما بين قتيل وأسير ومسجون لا ينفذ لهم أمر في الدين، وترى أكثرهم يتقون، ومن الخوف يسكتون، ولهذه الجهة صرف الفاضل الروزبهاني ظواهر الأخبار الماضية في إمامة الاثني عشر إلى أئمة الجور وسلاطين الإسلام.
وأجاب بعض علماءنا كالقاضي (رحمه الله) وغيره لا يدفع هذا السؤال فإن ملخص جوابهم حلا إن وجود الخليفة لا يستلزم وجوب تصرفه وسلطنته في جميع الأمور. ونقضا بخلافة الأول قبل استقرار خلافته،

112
وبخلافة الأمير (ع) قبل تمام التمكين ومن البين إن ذلك لا يدفع مقالة الروزبهاني إذ مضامين أخبار نصر الإسلام ورونقه لسبب وجود الخلفاء الاثني عشر في الأمر حيث لا يمكن انطباقه على الأئمة الاثني عشر فلا جرم أن تصرف تلك الأخبار إلى الخلفاء المتصرفين بالحق أو بالباطل قصورا أو تقصيرا، أو يقال إن الأحاديث المذكورة من المتشابهات وعلى التقديرين لا تصلح أن تكون دليلا على مذهب الشيعة.
فالتحقيق في الجواب: إن عزة الدين ورونقه يحصل بالمحافظة على أصول الدين وإتقان العقائد وصونها عن تطرق الشبهات، وأما محافظته من الزيادة والنقصان والتغيير والتبديل في مسائل الفروع بواسطة انسداد باب العلم فلا مدخلية لذلك في العزة والذلة بالبداهة، بل حقيقة عزة الدين هو حفظ الناس عن أن يحصل لهم الشبهة في حقية النبي (ص) وفي حقية الشريعة فأن المحافظة على ذلك فيه تمام العزة للدين، وقد تواترت الأحاديث وملئت الطوامير، وأفصحت الكتب المعتبرة في فضائل الأئمة (ع). في إن أئمتنا (ع) كم دفعوا شبه الملحدين، وقطعوا شأفة الضالين من الزنادقة وغيرهم من أهل الكتاب وسائر الفرق بحيث إن غيرهم من سائر الخلق لا يطيق دفع بعض البعض من ذلك، وهذا من أعظم معاجزهم الذي لا يقبل الإنكار إذ هو كالشمس في رابعة النهار، وناهيك في ذلك حديث اليهودي الذي ذكره علماءنا المتبحرين في باب النبوة، ونحن ذكرناه أيضا في بابه، ومن الأحاديث المعتبرة حديث الجاثليق الذي رواه المفيد رحمه الله عن الصدوق، وهو رواه بإسناده عن سلمان الفارسي)، ونقل أيضا من البحار، وهو حديث طويل وأكثر فقراته لا تفهم فلنذكر من فقراته ما له ربط في المقام، ومن أراد الاطلاع على تمام الحديث فليطلبه من مضانه، ورواه صاحب منهج السلامة من غير واحد

113
من أصحابنا، ولكن فيه نوع اختلاف باللفظ لا يضر بالمعنى، قال سلمان الفارسي (رحمه الله): لما ابتلت قريش بعد رحلة النبي (ص) بالداهية العظمى والبلية الكبرى، وانكشف غطاء جسدهم وحقدهم لآل الرسول (ص) وبلغ ملك الروم قوة النبي ونزاع أصحابه بعده في الخلافة والإمرة، وادعائهم إن النبي (ص) لم يعهد إلى أحد لا من أهل بيته ولا من الأجانب بل أحال الأمر إلى الأمة وقرنه باختيارها، وإن الأمة بعده تركوا تأمير عترته وذريته وصرفوا الأمر إلى غيرهم فدعى علماء مملكته وذوي البصيرة منهم، وذكر لهم اختلاف قريش بعد نبيهم، وأن النبي (ص) ارتحل من الدار الفانية فلما سمعوا ذلك منه ووعوه طلبوا منه أن يرسل إلى يثرب جماعة من أهل العلم والمعرفة من أتباعه ليتحققوا الحال ويصلوا إلى حقيقة الأمر، وليتعرفوا السبب الذي أوجب تقديم الأجانب على الأقارب على خلاف عادة الأنبياء السالفين، فطلب الملك الجاثليق وكان أكبر علماء أهل مملكته، وأمره بأن يختار من أصحابه الكاملين مائة نفر ويسير بهم إلى طيبة المنورة، ويأتيه بحقيقة الحال، وأمره أن يخاصم أصحاب محمد (ص) وأن يفلجهم لما يعلم من مهارته في الفنون جميعها فأمتثل الجاثليق الأمر وسار مع من أنتخبه وأختاره حتى أناخ على المدينة عند شروق الشمس فلما عقل راحلته واستقر به وبأصحابه المكان نهض بمن معه حتى وافى المسجد والصحابة فيه مجتمعون فحياهم بتحيته وسألهم عن وصي نبيهم وخليفته بعده، فأرشدوه إلى أبي بكر وكان في المسجد جمعا من الصحابة كعمر وأبي عبيدة وخالد بن الوليد وعثمان وغيرهم من المهاجرين والأنصار، فشخصت إليهم الأبصار ورمقتهم العيون لما رأوهم بهيئة حسنة وأخلاق مأنوسة للطبع مستحسنة،

114
فوقف الجاثليق مقابل القوم وحياهم بتحيته فأجابوه، ثم قال بنهاية التأدب نحن قوم نفرنا من الروم إليكم، ونحن على دين المسيح بن مريم، ولما بلغنا خبر نبيكم أردنا الوفود إليه لنتعرف دينه فلم يساعد التوفيق والآن بلغنا خبر وفاته فسرنا من مكاننا إليكم لتدلونا على وصيه بعده لنسأله في أمر الدين فإن قطعنا بقوله دخلنا في دينكم، وإن قطعناه وأفلجناه بقينا على ديننا، وسمعنا اختلافكم أيضا فجئنا نطلب الحق ونقف على حقيقة الأمر فأيكم صاحب الأمر بعد النبي (ص).
قال سلمان: وكنت إذ ذاك حاضرا في المسجد فضاق بي الفضا، وقلت ذهب الدين، فقال عمر: هذا صاحب رسول الله (ص) وخليفته وأشار إلى أبي بكر، فالتفت الجاثليق إليه وقال: أنت خليفة رسول الله ووصيه في أمته وعندك ما تحتاج الأمة إليه بعد نبيها، فقال أبو بكر: لست بوصيه يا هذا، فقال الجاثليق فمن تكون أنت؟ فقال عمر: هذا خليفة رسول الله، فقال النصراني: النبي استخلفك على الأمة؟ فقال الأول: لا لم يستخلفني النبي، فقال الجاثليق فإذا ما معنى كونك خليفة؟ ومن سماك بهذا الاسم؟ فإنا وجدنا في كتبنا إن الخلافة من المناصب الإلهية المختصة بالأنبياء، وليس لغيرهم أن يجعل في الأرض خليفة، والله سبحانه استخلف آدم وداود في الخلق، وأنت إذا لم يكن عندك منصب الخلافة من الله تعالى فكيف وسمت بهذا الاسم وجلست هذا المجلس؟ ومن سماك به؟ فقال الأول: يا هذا إن الناس قد اجتمعت علي ورضيت بي أن أكون عليهم واليا وإماما لهم فلذلك سميت بهذا الاسم، فقال الجاثليق: فإذا أنت مستخلف من الناس لا من الله ورسوله، وأنت خليفة القوم، وعلى هذا فنبيكم على خلاف طريقة الأنبياء السالفين، لأن الذي وصل إلينا ووجدناه مرسوما في كتبنا إن الله لا يبعث نبيا لخلقه إلا

115
ويجعل له وصيا ترجع الناس إليه فيما تحتاج من أمر الدين والدنيا، وكلها محتاجة إليه وهو مستغن عن جميعهم، وأنت تقول إن نبيك لم يعين للناس خليفة وإماما يرجعون إليه فباعترافك إن نبيك لم يكن نبيا مرسلا من الله تعالى لأن من لوازم النبوة التي لا تنفك أن يكون للنبي (ص) وصيا، وأنت نفيت ذلك عن نبيك فعلم إنه غير نبي، ثم التفت الجاثليق إلى أصحابه وقال لهم: إن هذه الجماعة تقول إن نبيها لم يكن نبيا وإنما تسلطه على الناس كان بالقهر والغلبة إذ لو كان نبيا لعين له وصيا ترجع الناس إليه، ولاحتذي حذو من سبقه من الأنبياء، ثم التفت إلى أبي بكر وقال: يا شيخ أما أنت فقد أقررت بأن نبيك لم يوصي ولم يعهد إلى أحد، وأقررت بأنك لست بخليفة منصوب من قبله، وإنما الناس اجتمعت عليك فأمرتك عليهم واستخلفتك وجعلتك بمقام نبيهم، ومتى جاز على الله أن يوكل ذلك إلى اختيار الخلق ويمضي اختيارهم ويرضى به فأي داع بعد إلى بعث الرسل ولم لا يوكل ذلك أيضا إلى اختيار الأمة؟ وكذا أي موجب لإنزال الكتب وأمر الأنبياء بنشر أحكامه لتعرف الناس الحلال من الحرام، والواجب من غيره، فإن تمام الحجة على الخلق لا يتوقف بزعمك على بعث الرسل وإنزال الكتب، لأن إقرارك هذا ينتهي إلى إن الخلق تستغني بعقلهم عن الأنبياء، وإن الله يقرهم على ذلك، وإن الرسل لا تحتاج إلى نصب من يكون علما للأمة، بل يكفي نصبهم له، وعلى خلاف ذلك العقل والنقل بل هو افتراء على الله تعالى، ثم إنك لم تكتف بهذا حتى سميت نفسك بالخليفة، وجلست على دست النبوة وذلك لا يحل إلا للنبي أو لوصيه بعده، ولا يثبت دينك إلا إذا كانت حجته على طبق حجج الأنبياء السابقين وطريقتهم،

116
ومن المعلوم إن الله تعالى إذ بعث للناس نبيا هو خاتم الأنبياء بزعمك ولم يعين له وصيا يقوم مقامه فقد أمر بما هو خارج عن طريقة الأنبياء فينحصر الأمر في شيئين أما أن يكون نبيك غير نبي، وأما أن يكون له وصي فإذا تخلف الثاني بإقرارك تحقق الأول قضاء للملازمة بينهما، وعلى هذا فلا يجب علينا ولا يلزمنا أن نتحاجج معكم في إثبات دينكم لأنه متوقف على إثبات نبيكم وقد أنكرتموه، وصار اللازم علينا أن نرجع إلى أهالينا ونبقى على ديننا الذي أنتم تعترفون فيه بواسطة اعترافكم بنبينا، ولا يلزمنا الفحص عن أعمالكم السابقة إنها صواب أو خطأ.
ثم قال الجاثليق: أجبني أيها الشيخ، قال سلمان (رحمه الله) فألتمع لون أبي بكر ثم نظر إلى أبي عبيدة، وكان إلى جنبه فقال: أجبه، فلم يجب أبو عبيدة الجواب، فالتفت الجاثليق إلى أصحابه وقال لهم: إن بناء القوم على أساس غير ثابت وليس له دليل محكم ولا حجة واضحة، فأجابه أصحابه بأنا قد علمنا ذلك وفهمناه ثم التفت إلى أبي بكر وقال له أيها أسألك عن شئ أجبني فيه، فقال له: سل، فقال أخبرني عن نفسي وعنك، وأي شئ تعتقد فيهما عند ربك؟ فقال: إني أعتقد إني مؤمن عند نفسي ولا أعلم حالي عند الله تعالى أني كذلك أم لا، وأعتقد إنك كافر ولا أعلم حالك عند الله تعالى، فقال الجاثليق أما أنت فقد نسبت نفسك للكفر وأقررت بأنك جاهل بحالك في الإيمان، ولم تدر أمحق أنت أم مبطل، وأما أنا فقد أثبت لي الإيمان بعد الكفر عند الله تعالى فما أحسن حالي وما أسوء حالك عند نفسك لعدم يقينك بحالي وحالك.
أقول: جواب أبي بكر وإن لم يكن صريحا بما قاله الجاثليق من الأمرين لكن ذلك من لوازم كلامه، والجاثليق حكم عليه بذلك اللازم ضرورة إنه بعد مشاهدة الآيات الإلهية والإمارات القطعية في حقيقة

117
الإيمان والكفر وعلائمها لا ينبغي حينئذ أن يحصل له الشك في نفسه، فإن الشاك بعد ذلك كافر محض، وهو قد اعترف بجهله في إيمانه الواقعي واعترف في حق الجاثليق بأني لا أدري، وكل شخص لا يعلم بحال الآخر لا يمكنه نفي الإيمان عنه، فإذا ادعى الآخر إني مؤمن لا ينكر عليه ولا ينفى عنه فادعاء الجاثليق إنه مؤمن عند الله تعالى ظاهر من مقالة أبي بكر ومعترف به ضمنا كما لا يخفى. ولنرجع إلى ما كنا فيه.
ثم قال الجاثليق: أيها الشيخ أين محلك الآن في الجنة إن كنت مؤمنا؟ وأين مقامي من النار في هذه الساعة إن كنت كافرا كما تزعم؟ فالتفت أبو بكر إلى أبي عبيدة ثانيا وإلى عمر كيما يجيبانه فلم يتكلما أبدا، فقال أبو بكر لا أعلم ولا أدري بحالي عند الله وهذا غيب ولا يعلم الغيب إلا الله تعالى فعندها قال جاثليق النصارى له: إنك قد تأمرت وجلست بمكان لا يحل لك الجلوس فيه، وادعيت الخلافة من غير صلاحية لأنك محتاج إلى غيرك في العلم، ووصي النبي وخليفته لا يحتاج غيره في أمة نبيك، من هو أعلم منك؟ فدلني عليه وأرشدني إليه لكي أحاججه وأطلع على أمره؟ وإن لم يكن فيهم من هو أعلم منك فقد ظلمت نفسك بتقحمك في أمر لم يجعله الله لك، وظلموك قومك بل وظلموا أنفسهم في رضائهم بك وجعلك أميرا عليهم.
قال سلمان (رحمه الله): فلما رأيت القوم وقد بهتوا ونكسوا رؤوسهم إلى الأرض خجلا وبان فيهم العجز والانكسار وبانت الذلة في الدين فلم أملك نفسي أن قمت مسرعا وأنا لا أبصر موضع قدمي من الدهشة والحزن حتى أتيت باب علي (ع) فطرقتها، فخرج إلي فلما بصرني على تلك الحالة قال ما شأنك يا سلمان؟ أي شئ عرض لك؟ فقلت: يا

118
سيدي هلك دين محمد واضمحل وغلبت الكفار علينا بالحجة والبرهان فتلاف جعلت فداك دين ابن عمك فليس في القوم من يحاجج الكفار ويغلبهم وأنت اليوم سراج الأمة، وأبو الأئمة وحلال المشاكل وكاشف المعضلات ومفرج الهم والغم ومؤيد الدين القويم فقال (ع): ما الخبر؟ وأي حادثة وقعت؟ فحكيت له القصة من أولها فلما انتهيت إلى عجز القوم عن الجواب أحمر وجهه، وقال: أخبرني بذلك حبيبي محمد (ص) ثم قال: عند الصباح يحمد القوم السرى، ثم مشى أمامي وأنا خلفه والحسن والحسين بين يديه حتى دخل المسجد، وقام له نور حتى خيل لأهل المسجد إن الشمس وقعت من السماء فيه، فإذا القوم على حالتهم من الحيرة فوسعوا له المجلس وسلم عليهم وجلس مجلسه، ثم التفت إلى الجاثليق وقال له أقصدني بمسألتك وأدلي إلي بحجتك فإن عندي ما تحتاجه الناس في العمل، وأنا العالم بأحكامها، أما والذي فلق الحبة وبرء النسمة لو خاصمني جميع أهل الأديان لأفلجتهم بكتبهم وألزمتهم الحجة فهات ما عندك؟ وما توفيقي إلا بالله، فقام النصراني وجلس بين يديه، ثم قال يا فتى إنا وجدنا في كتبنا إن الله تبارك وتعالى لم يبعث نبيا إلا وقد جعل له وصيا يقوم مقامه بعد رحلته كي لا تبقى الناس في وحدة الحيرة وكي ترجع إليه فيما تحتاج من أمر الدين، وقد بلغنا اختلاف أمة نبيكم بعده فقريش والأنصار كل يروم الخلافة أن تكون فيهم، وكل يريدها له، وإن ملك الروم اختارنا من بين قومه وأرسلنا لنفتش عن دين محمد ونعرف حقيقته من بطلانه، ونقف على تمام أمره، ونرى إن سنن الأنبياء السالفين موجودة فيه أم لا؟ ثم نرى إن من أدعى الخلافة بعده ادعاها بحق أم بباطل؟ لأن الأمم السالفة وجد فيها من افترى على نبيه بعده، ومن منع وصية من حقه كقوم موسى عكفوا على أصنام لهم

119
وتركوا هارون لما استخلفه موسى عليهم، فلما دخلنا بلادكم أرشدونا إلى هذا الشيخ الجالس، وقالوا: هذا ولي المؤمنين وهو بمقام النبي وسألناه إن النبي أوصاك ونص عليك فقال: لا ثم سألناه عن أشياء أخر فلم يجبنا، ونحن جئنا نطلب الحق فإن وجدنا من يدلنا عليه، ورأينا وصي نبي فيه شمائل أوصياء الأنبياء السابقين، دخلنا في دينكم، وإن لم نجد أحدا كذلك عذرنا عند ربنا، وعلمنا إن محمد الموعود ببعثه لم يبعث، فنبقى على ديننا ننتظر بعثه. فقال الإمام (ع) وما تلك الشمائل التي تذكرون؟ فقالوا: يلزم أن يكون عنده علم كلما تحتاج الأمة إليه، ويقطع بالجواب شبهات المنكرين، وعنده علم المنايا والبلايا وفصل الخطاب ومعرفة الأنساب وأحكام ليلة القدر وما ينزل فيها وغير ذلك فلما استخبرنا بالمكالمة حال هذا الشيخ لم نجد عنده شيئا من تلك الشمائل بل لازم مقالاته إن محمدا لم يكن نبيا بل هو من الجبابرة لأنه لم يثبت فيه من آثار الأنبياء السابقين شيئا فإن أهمها الوصية والاستخلاف، وقد اعترف بنفي ذلك فكيف يكون محمدا نبيا؟ وهو بهذا الحال الذي يذكره الشيخ إنه ترك أمته بلا راع ولا أقام أحدا مقامه، ولم يعلم إن ذلك مع إنه ليس من صفات الأنبياء، ومن طريقتهم يلزم فيه الاختلاف وبغي بعضهم على بعض، وعدم استقرار الدين كما بلغنا إن ذلك واقع فيكم وجل الله تعالى أن يهمل عباده ويدعهم بلا راع يهديهم إلى الخصب ويردعهم عن المحل والجدب، فهل عندك ما يشفي الغليل ويزيل الشكوك والشبهات ويهدي إلى الحق وإلى سواء السبيل.
فقال الأمير (ع): نعم عندي ما يشفي الصدور، وعندي شرح المشكلات، وعندي بيان ما يرفع الشكوك والشبهات، وسأوضح لكم كل

120
ما أبهم عليكم وأنا الحجة البالغة والمحجة الواضحة فأعيروني أسماعكم وتوجهوا إلي بقلوبكم: اعلم أيها الجاثليق أنت وقومك إن الله وله الحمد بمنه وطوله وفضله، وفى لنا بوعده، وأعز دينه بنبيه محمد (ص) على فترة من الرسل، وحباه بالنصر وشتت شمل أحزاب العرب، واختاره وانتجبه وبعثه للخلق جميعا إنسهم وجنهم، وأوجب طاعته عليهم، ومنحه بالرأفة والرحمة، وفضله على جميع الأنبياء والمرسلين، وألزم باتباعه عامة المخلوقين من أهل السماوات والأرضين، وجعله خاتم الأنبياء ووارث علومهم، وقربه من قاب قوسين أو أدنى وجعل عن يمين عرشه مقامه لم يصله نبي مرسل ولا ملك مقرب، وأوحى إليه ما أوحى، وما كذب الفؤاد ما رأى، وأخذ على الأنبياء العهد والميثاق بأن يأمنوا به وينصروه، بعد أن شاهدوا مقامه من الله، ورفيع منزلته عنده، وأوحى إلى الرسل بعد أن أخذ الميثاق عليهم أقررتم وأخذتم على ذلك إصري؟ قالوا: أقررنا فأشهدوا إنا معكم من الشاهدين، وقال سبحانه تعالى (يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والأنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات)، واعلموا إنه لم يفارق رسول الله هذه الدنيا إلا بعد رفع الله مقامه، وأعلى على العالمين درجته وأتم به الحجة على الخلق، وقرن اسمه باسمه، فلا يذكر الله تعالى في موضع إلا واسمه به مقرون ووصل طاعته بطاعته، فقال (من يطع الرسول فقد أطاع الله (وقال (ما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا (فبلغ الرسالة ودل الأمة على سبيل النجاة والهداية والحكمة، وصدع بما أمر به، وبه بشرت الأنبياء السابقون والمسيح عيسى بن مريم بشر به

121
وبوجوده في السفر السابع من الإنجيل قال (الأحمد المحمود العربي الأمي صاحب الجمل الأحمر، والقضيب، خاتم الرسل ووصيه موضع السر وصندوق العلم وتالي الكتاب حق تلاوته وباب حطة وهو خاتم الأوصياء)، وأنا ذلك الوصي يا أخا النصارى، وأنا الذي قال النبي (ص) في حقي وحق عترتي (أني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي كتاب الله وعترتي أهل بيتي لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، وكل من الثقلين عظيمين لكن الكتاب هو الثقل الأعظم لأنه الحبل المتين الممدود من الأرض إلى السماء بيد الجبار طرفه والآخر بيدك يا محمد)، وعندي يا أخا النصارى تأويل القرآن، وأنا العارف العالم بالحلال والحرام والمحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ، وعندي علم ما تحتاجه الأمة بعد النبي (ص) وعلم كل قائم وملتوي، وعلم المنايا والبلايا وفصل الخطاب وأنا صاحب الكرات والكرامات فاسألني عن ما تريد وعن ما كان أو يكون إلى القيامة، وعن كل ما حدث في عهد نبيك عيسى، وعن كل وصي لنبي، وعن كل فرقة، وعن سائقها وقائدها وناعقها إلى قيام الساعة، وسلني عن كل آية نزلت في كتاب الله ليلا نزلت أم نهارا. وسلني عن التوراة والإنجيل والزبور والفرقان العظيم، وأنا الصادق الذي نزل فيه قوله تعالى (
وكونوا مع الصادقين)، وأنا أخو رسول الله وابن عمه، وشاهده على أمته، وأنا الوسيلة بين الله قوله تعالى (وكونوا مع الصادقين)، وأنا أخو رسول الله وابن عمه، وشاهده على أمته، وأنا الوسيلة بين الله وخلقه، وأنا وذريتي كسفينة نوح من ركبها نجى ومن تخلف عنها غرق، وأنا وذريتي بمنزلة باب حطة في بني إسرائيل من دخله كان آمنا، وأنا من محمد بمنزلة هارون من موسى، فمن أحبني

122
كان من المؤمنين، ومن أبغضني يا أخا النصارى فهو من الكافرين، وأنا الذي ما كذبت قط ولا نسب لي ذلك قط، فلا يزال (ع) يقول أنا فلا يرد عليه أحد قوله إلى أن التفت الجاثليق إلى أصحابه وقال: هذا ما نبغي ولقد ضفرنا إن شاء الله بالمقصود والمطلوب، ثم أقبل على أمير المؤمنين (ع)، وقال له أخبرني لأي أمر اختار الناس غيرك وأنت بهذه المنزلة عند الله ورسوله، فقال (ع): لقد حق القول عليهم ولي أسوة بالأوصياء غيري، ثم سأله الجاثليق عن مسائل جمة فأجابه (ع) بما اعترف فيه هو وأصحابه على ما يوافق رأيهم، فحينئذ التفت إلى أصحابه، وقال أما تسمعون والله لقد نطق بما في الكتب الإلهية، فقالوا جميعا: سمعنا وفهمنا، ثم قال الجاثليق: وإني لسائله عن مسائل فإن أجاب بها فلا حيلة لي إلا الإسلام بمحمد وبه، فقال له الإمام: أجيبك عنها بما أنت تذعن به، فإن أجبتك كذلك أتدخل في ديننا؟ فقال الجاثليق: نعم والله شاهد على ذلك والكفيل، فقال له الإمام (ع) وأصحابك، فقال: نعم وأصحابي معي، ثم ابتدأ بالسؤال فقال: أخبرني عن الجنة أهي في الدنيا أو في الآخرة؟ وأين موضع الدنيا من الآخرة؟ فأجاب الإمام بما أوضح ذلك أي إيضاح، وعرفه الجاثليق هو وأصحابه، ثم سأله عن معنى قوله تعالى (كل شئ هالك إلا وجهه (وما معنى الوجه في الآية وهل يكون للإله وجه وقفا؟ فقال علي (ع) يا غلام علي بحطب ونار، فلما سمع النصراني ذلك قال صدقت يا وصي الهادي، ثم تقدم وجلس بين يديه وشهد الشهادتين، وأعترف بالوصية والإمامة لعلي (ع) وأولاده وتبرى من أعدائهم، ثم التفت إلى أصحابه وقال قوموا

123
وأسلموا على يد هذا والله هذا هو المنعوت في التوراة والإنجيل والزبور، هذا قسيم الجنة والنار، هذا نعمة الله على الأبرار ونقمته على الكفار، وأخذ يقول هذا هذا حتى شرف وقت الفريضة فقام أصحابه وآمنوا وأسلموا واعترفوا بالإمامة لعلي (ع)، وبعدها خطب الأمير (ع) القوم وقال:
الحمد لله الذي أوضح برهان محمد وأظهره على الدين كله ولو كره المشركون إلى آخر الخطبة، فاستبشر القوم برفع شبههم ووصولهم إلى الحق وهدايتهم بسبب الأمير (ع) ودعوا له، وقالوا: أحسن الله تعالى جزاءك يا أبا الحسن في مقامك بحق نبيك، قال سلمان (رحمه الله) ثم تفرق القوم وكأن الحاضرين لم يسمعوا شيئا مما فهمه القوم وقد نسوا ما ذكروا به.
أقول لعل مراد سلمان (رحمه الله) من عدم سماع الحاضرين أنهم ما فهموا بعض تلك المكالمات وما فهموه منها نسوه، أو إنهم لم يفهموها جميعا أو إنهم ما فهموا ما ذكروا به من المواعظ والحكم وبراهين الإمامة التي أقامها (ع) على ولايته وأعرضوا عنها فكأنهم نسوها ولم يتدبروها.
قال سلمان: فلما تفرق القوم وخرجوا من المسجد وأراد أهل الروم الرجوع إلى أهاليهم جاءوا إلى المسجد فوجدوا عليا (ع) فيه وسائر الصحابة فالتفتوا إلى الصحابة وقالوا لهم: هلكتم من حيث لا تشعرون تركتم التمسك بالعروة الوثقى والحبل المتين فتبا لكم وسحقا ثم استأذنوا الإمام بالرجوع إلى أهاليهم فأذن لهم، ثم قالوا له: مرنا بأمرك فنحن

124
سامعون مطيعون إن شئت أن نقيم معك أقمنا، وإن نرجع إلى أهالينا رجعنا، وإن شئت أن نسير إلى أي نواحي الأرض سرنا ولا يهولنك ولا يحزنك عصيان الأمة لك فإن شأن الأوصياء الصبر على البلاء والتحمل لمضاضة الأعداء، ثم لا لتفتوا إلى الجماعة ووعظوهم بمواعظ بينة، وكان ختام وعظهم وحججهم إنكم أيها القوم خالفتم الله ورسوله فتبؤا مقعدكم من جهنم ولبئس المثوى وبئس المصير، ثم عطفوا على مرقد الرسول (ص) فقالوا بعد السلام عليه: اشهد علينا يا رسول الله (ص) أنا قد أقررنا بنبوتك واعترفنا بوصيك وبما جئت به من عند الله وتبرأنا من أعدائك وأعداء وصيك ونشكوا إليك ما لقى وصيك من أمتك بعدك، ثم طلبوا من الأمير (ع) أن يخبرهم بجميع ما جرى عليه بعد رحلة النبي (ص) فأخبرهم بجميع ذلك فضجوا بالبكاء والنحيب، وأخبرهم بأن النبي أخبره بذلك كله، فقالوا أخبرك بذلك؟ قال نعم كيف لا يخبرني وأنا منه بمنزلة هارون من موسى وشمعون من عيسى ألم تعلمون بما وقع بين شمعون وابن خاله حتى افترقت أمة عيسى أربع فرق والأربع افترقت سبعين فرقة، وكل هذه الفرق هلكت إلا فرقة واحدة، وكذا أمة موسى افترقوا على اثنين وسبعين فرقة ثلاثة عشر منها تدعي محبتنا أهل البيت، وكل هذه الفرق في النار إلا فرقة واحدة وهي الناجية. ثم ذكر لهم الوقائع المستقبلة وتلا لهم الآيات التي نزلت في مذمة المخالفين له وأعلمهم بمدة غصب الخلافة منه، وبما يقع في أيام خلافته من وقعة الجمل وصفين وقتاله الخوارج على الإجمال، وأخبرهم بالأئمة بعده وما يقع عليهم من الظلم من جهة فساد الأمة إلى أن يعجل الله بالفرج على يد المهدي من ذريته (اللهم عجل فرجه دعاء

125
إخلاص متى ذكرته قال الحفيظان معي آمينا) ثم غلبه وغلبهم البكاء وعندها استأذنوا منه في المسير بعد أن اعترفوا وأذعنوا بولايته وذكروا له أن وجدنا في كتبنا صورة محمد (ص) وسيدة النساء وصورتك وصورة الحسنين وهي موجودة عندنا، وسيرد علينا بعد هذا الرجل جماعة من قريش ويريهم ملكنا تلك الصورة مع صور الأنبياء التي هي عندنا، فأمرهم الأمير (ع) بالرجوع وكتمان أمرهم، وألزمهم بالتقية إلى زمان خلافته، وقال: إن من مات منكم قبل حضور وقت جهادي لأعداء الله مات شهيدا، فحينئذ قبل القوم يديه ورجليه ورجعوا إلى أهاليهم.
وهذا ما انتهى إلينا من هذا الخبر الشريف المشتمل على فوائد جمة كل فائدة منها تكفي في إثبات دين الإمامية وفساد ما يزعمونه أهل السنة، وكل فقرة من فقراته قرينة قطعية على صحته وصدوره من سلمان عليه الرضوان، وأكثر الأدلة العقلية واعتقادات الإمامية في هذا الحديث الشريف موجود، والظاهر إن علماء أهل السنة مثل الروزبهاني وسعد الدين التفتزاني وغيرهم إذا اطلعوا على هذا الحديث وأمثاله يعلنون بأنه من مفتريات الشيعة، أو يزعمون بأنه خبر واحد لا يثبت به العلمية فلا يكون
دليلا وكل ذلك ينشأ من هوى النفس وعدم التدبر والإنصاف في هذه الأحاديث، فإن المتنظر إذا نظر إلى طول هذا الخبر وتفاصيله بحيث إن كل فقرة منه مطابقة لآية من القرآن مع إن أهل الكتاب يصدقون ويعترفون بما نقل فيه من كتب الأنبياء والسابقين، فكيف يظن فيه الجعل والافتراء؟ فما ذلك إلا من عيون عمياء وقلوب ما أنكشف عنها الغطاء، مضافا إلى إن نقلة هذا الحديث وإن لم يكونوا بدرجة

126
العصمة لكنهم في التحرز وعدم الافتراء هم كالمعصومين حاشاهم من ذلك، ولعل الخصم يقول إن بائك تجر وبائي لا تجر إذ على هذا لا معنى لدعوى الشيعة الافتراء والجعل في بعض ما يرويه أهل السنة في حق خلافائهم إذ المنصف يعرف الفرق البين فإن ظهور مثالب بعض الصحابة وفضيحتهم مع عدواة السلاطين وحكام الجور لآل الرسول (ص) لا يمكن أن ينكر وكل واحد بنفسه مقتضي للجعل، فكيف إذا تعاضدا، بخلاف الشيعة لأن كل عاقل متدين بدين لا يمكن أن يفتعل أو يحلل شيئا على خلاف مذهبه، والحال إن أهل السنة يقولون إن الناس بعد النبي (ص) لم يختلفوا والكل راضون بخلافة الخلفاء، وإذا كان كذلك فأي داع لأعقابهم أن يفتروا ويكذبوا ويضعوا أخبار مجعولة على خلاف مذهب آبائهم وأسلافهم، وإن قالوا إن الجاعل هو أهل الصدر الأول فمع إنه خلاف ما يقولوه من الإجماع وعدم الاختلاف أيضا أي داع لأهل الصدر الأول مع عدم الشحناء بينهم أن يجعلوا، وأي سبب اقتضى ذلك.
وممن نقل هذا الحديث المفيد في الأمالي بطريق ينتهي إلى زازان عن سلمان، لكن على سبيل الإيجاز والاختصار، ولهذه الجهة بعض المحدثين ذهبوا إلى إنهما حديث واحد لكن بعد التأمل فيهما يكاد يظن إنهما حديثين لأن في أخر الحديث على الطريق الثاني زيادات ليست في الطريق الأول، مع إن في فقراتها الاختلاف الكلي، ومع تعدد السند والمضامين، الحكم بالاتحاد لا يخلو عن سقم، بل بعد تنافي بعض فقراتهما بالتنافي بالنفي والإثبات، لا يصلح الحكم بالاتحاد جزما، في آخر هذا الطريق مذكور إن القوم لما أسلموا قال عمر: الحمد لله تعالى

127
الذي هداك أيها الرجل إلى الحق وهدى من معك غير إنه يجب أن تعلم إن علم النبوة في أهل بيت صاحبها، والأمر بعده لما خاطبت أولا برضاء الأمة، وإصلاحها عليه، وتخبر صاحبك بذلك وتدعوه إلى طاعة الخليفة، فقال الجاثليق: عرفت ما قلت أيها الرجل وأنا على يقين من أمري فيما أسررت وأعلنت، وانصرف الناس، وتقدم عمر أن لا يذكر هذا المجلس بعد، وتوعد على من ذكره بالعقاب، وقال: أما والله لولا إني أخاف أن تقول الناس قتل مسلما لقتلت هذا الشيخ ومن معه، فإني أظن إنهم شياطين أرادوا الإفساد على هذه الأمة، وإيقاع الفرقة بينها، فقال الأمير (ع): يا سلمان أما ترى كيف يظهر الله الحجة لأوليائه وما يزيد ذلك قومنا إلا نفورا.
وكذلك كل واحد من الأئمة له مباحثات في عهده مع أهل الأديان الباطلة، ويظهره الله عليهم فيفلجهم ويدفع شبهاتهم فيسلم لذلك بعضهم، ومن نظر بالعيون وتفكر في مباحثات ثامن الأئمة (ع) في أصول الدين، وفي الإمامة لرأى مالا عين رأت مثله ولا أذن سمعت شكله، والمأمون في عهد سلطنته جمع العلماء من المسلمين وغيرهم للمناظرة مع الرضا (ع) بألسنة مختلفة وكلهم قطعهم الرضا (ع) وكأنه هو الذي صار سبب حسد المأمون له إلى أن دس له السم، ولولا وجود الأئمة (ع) لاختل أمر الدين
من كثرة شبه المعاندين الذين يدخلون في الأذن بغير أذن، ويستغوون ضعفاء العقول من العوام. وذكر جماعة من الخاصة وغيرهم إن الناس في أيام الهادي (ع) أجدبوا وحصل القحط لقلة الغيث، فخرج

128
المسلمون يستسقون فما أمطروا، وخرج من بعدهم أهل الكتاب واستسقوا فبعث الله المطر وخجل المسلمون لذلك وطالت ألسنة أهل الذمة عليهم، وصار توهين في الدين فخشى الخليفة من الخلل على خلافته، واستشار من يثق به في كيفية الاستظهار على أهل الكتاب، فأرشد إلى الهادي (ع) فاستغاث به بعد أن بعث له وبأن الدين قد حصلت فيه ذلة ووهن، فقال الإمام الهادي (ع) له: مر أهل الكتاب أن يخرجوا ثانيا ويستسقوا، فإذا خرجوا ورفعوا أيديهم إلى الدعاء فعين رجلا أن يكون بالقرب من راهبهم فإذا رفع يده فليأخذ الشيء الذي، فإذا أخذه فاليأمره بالدعاء، ففعل الخليفة ذلك، فلما رفع الراهب يده أخذ الرجل الموظف من بين أصابعه عظما ثم قال له: أدعو فكلما دعا تقشع الغيم وانقطع المطر فعاد كأنه يدعو الله بعدم المطر، فسأل الإمام (ع) فقال هذا عظم نبي وكلما كشف إلى السماء هطلت وبعد أن دفن ذلك العظم خرج الإمام الهادي (ع) بنفسه إلى الصحراء، فلما أصحر بالمسلمين دعى الله فانهملت السماء بالمطر حتى جاءته الناس أفواجا يسألونه أن يدعو الله تعالى أن ينقطع المطر.
فظهر إن المراد من تعزيز الدين في وجود اثني عشر خليفة من هذه الأخبار تقوية معاجز حضرة الرسالة وتأكدها ودفع شبهات الكفار لا تقويت السلطنة الموجودة في زمن خلفاء الجور.
لا يقال: سلمنا إن المراد من العزة العزة المعنوية لكن النقض بزمن الغيبة وعدم وجود من يدفع الشبهات باق بنفسه لا يدفع بما قلتم، والحال إن الأخبار مصرحة بأن الدين عزيز بوجود الخلفاء الاثني عشر،

129
فلا جرم أن يكون المراد من الأخبار أما ما نطقت به أهل السنة في تفسيرها أو إنها من المتشابهات التي لا يفهم المراد منها.
لأنا نقول إن أمر الدين بسبب حضور الأئمة وبياناتهم الكافية الشافية كان محكما لا ينوشه ضيم ولا رضنه، وإنهم (() فتحوا لنا باب قطع جميع الفرق، ورد تشكيكاتهم ودفع شبهاتهم فلا يتم النقض بزمان الغيبة الكبرى، لأن وضوح أمر الدين سد باب المناظرة والمباحثة، وعلى فرض عدم السد، فقد فتحوا الباب للعلماء وأرشدوهم إلى سبيل قطع الشبهات بالعقل والنقل، فلا يستظهر المخالف لهم عليهم أبدا، فيدفعوا منكر الربوبية ببراهينها، ومنكر النبوة بالمعجزات، ويقطع منكرها بما أجاب الإمام الصادق (ع) لحبر من أحبار اليهود، فإنه نقض عليه بإنكار معجزات موسى، فقال الحبر: إن ثقات الرواة أخبروا بها، فقال الإمام (ع) وكذلك معجزات نبينا، فإن
الثقاة أيضا أخبروا بها ورووها.
والحاصل بعد الاطلاع على ما ورد من الأئمة (ع) لا يكاد يتوقف العالم الماهر في دفع شبهة من شبه أهل الضلال، وروى جماعة إن سعد بن عبد الله القمي دخل على الحسن العسكري (ع)، وسأله عن أربعين مسألة من مشكلات المسائل العلمية ومن جملتها إن إيمان بعض الصحابة كان كرها أو طوعا، والإمام أمره أن يأخذ جواب جميع ذلك من الصاحب (عجل الله فرجه) وكان ابن سنتين، فأجابه الإمام عن جميعها.

130
وعن هشام بن الحكم إنه قال سألت الإمام الصادق (ع) عن خمسمائة مسألة من مشكلات المسائل الكلامية، فأجاب عنها جميعا فقلت جعلت فداك يجب في الإمام العلم بالفرائض والأحكام، فأخبرني هل يجب عليه الإحاطة بغيرها من سائر العلوم عقلية أو نقلية، فقال الإمام (ع): أتظن يا هشام بأن الله تعالى يعين للناس إماما وحجة وهو لا يعلم جميع ما تحتاج الخلق إليه من العلوم التي من جملتها الإحاطة بجميع علوم الأنبياء والكتب المنزلة وجميع ما في القرآن وجميع التفاسير والتأويلات.
وفي العيون إن أخبار اليهود والزنادقة وجميع فرق الأديان الباطلة تأتي الإمام الرضا (ع) في شبهاتهم يسألونه أفواجا أفواجا ويمتحنونه، وهو (ع) يفلجهم، وكل ذلك كان بتحريك المأمون، وكذا في عصر سائر الأئمة خصوصا الصادقين (ع)، ولولا وجود الأئمة (ع) لم يبق للدين أثر، وقد تضمن حديث الجاثليق إن إفحام ذوي الأديان الباطلة من المناظرين والملل الفاسدة يتوقف على الإخبار عن الأمور الغيبية وآثار السماوات والأرضين التي لم تعلم للبشر والكتب السماوية المنزلة بلغاتها المختلفة، ولابد أن يعلم ذلك الإمام، فإذا أي عزة فوق هذه العزة، وهذا المعنى كان مستداما إلى زمان الغيبة الكبرى، وبعد ما استغنى عن دفع الشبه في العقائد والمسائل الكلامية غاب الإمام (ع) عن نظر الناس، ولكن نفعه العام وفيوضاته على الأنام آنا فآنا تتزايد وتعم الناس من حيث لا يشعرون، ولم يرد على الدين مشكل أخر

131
يحتاج فيه إلى ظهوره (عجل الله فرجه) لأن المشاكل كلها انحلت إما بالفعل أو بالقوة.
والثاني باعتبار وجود العلماء المقتبسين من مشكاة الإمامة، فلو إن مبدعا أو مجادلا ظهر في أصل المذهب تدفعه العلماء التي ارتشفت من بحر هاتيك العلوم، فمن أدلة العقائد الصحيحة تقدر على دفع الشبهة فيها، ولو فرض وجود شبهة والعياذ بالله لم تقدر على حلها علماء المسلمين في أصل الدين يلزم عقلا على الإمام دفعها إما بالمباشرة أو بالتسبب، وهكذا لو بدت سائر فرق المسلمين على الإمامية شبهة قوية لا تقدر الإمامية على حلها، فلا بد أن يحلها الإمام (ع)، ومن الأمور المشاهدة إن الاستغاثة بالإمام الثاني عشر (عجل الله فرجه) له الأثر التام في دفع المشكلات نوعية وشخصية كلية وجزئية، وما وقع له (عجل الله فرجه) من المعجزات المرئية يضيق عنها نطاق القلم، وإن صريح الأخبار المذكورة إن الإمام يرفع كل زيادة ونقيصة من المفسدين والكذابين ويتدارك إصلاح أمر الدين لو ناشه ما يقتضي إفساده من المعاندين فما المراد بالزيادة والنقيصة في الأخبار؟ وهذا المعنى هل ينافي الغيبة أم لا؟.
فالجواب عن ذلك إن الظاهر من الزيادة والنقيصة أن تكون في العقائد لا مطلقا، وبناء على ذلك محافظة الإمام (ع) للدين من الزيادة والنقصان بالمعنى المتقدم لازم وهو حاصل، ويحتمل أن يراد بهما الاطلاق فتشمل فروع الدين والأحكام العملية من الواجبات والمحرمات، وعلى هذا فيراد بالمحافظة المحافظة في الجملة، أي ولو كانت في البعض دون البعض، ومن هنا إن بعض علماء الإمامية لما فسروا

132
أحاديث الزيادة والنقصان التي لا بد أن يتداركها الإمام (ع) بالأعم من العقائد ذهبوا إلى إن حجية الإجماع من باب اللطف، وقالوا إن الأمة لو اجتمعت على الخطأ أو أوقعوا في الضلالة يجب على الإمام (عجل الله فرجه) إرشادهم إما بظهوره لهم أو بطرق أخرى يحصل بها الإرشاد عند الزيغ وإلا تبطل فائدة وجود الإمام، وهذا الطريق وإن لم يكن مرض أكثر علمائنا المحققين لكن بواسطة تلك الأخبار لا يمكن رد هذا الاحتمال، وتفصيله في الأصول.
ويحتمل ثالثا إن المراد من المحافظة المحافظة الشأنية ولو لم تصل إلى الفعلية كما فسر أخبار عزة الشرع بذلك، القاضي وغيره من علمائنا، وملخص ذلك إنه لا بد أن يكون في الأمة إمام من جانب الله تعالى يمكنه حفظ الدين من الزيادة والنقيصة وإن عاقه عن ذلك ظلم الظالمين له، أو عاقه بعض المصالح التي ترفع هذه المفسدة مثل غيبته أو عدم بسط يده، والمعنى الأول أقرب والله العالم.
الحديث الثالث: - (حديث المنزلة)
وهو متواتر عند الشيعة، ومروي عند أهل السنة بل متواتر أيضا كما ستعرف، وممن رواه أحمد بن حنبل، قال إن رسول الله (ص) لما خرج إلى تبوك في الغزو استخلف على المدينة المنورة عليا (ع)، فقال له: ما كنت أحب أن تخرج في وجهة إلا وأنا معك، فقال أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي) ورواه أيضا غيره من المحدثين وشيوخ أهل السنة.
ودلالة هذا الحديث على خلافة حضرة الأمير (ع) صريحة جدا، لكن من علماء أهل السنة من ناقش في دلالته بوجوه كلها موهونة منها

133
إنه خبر واحد لم يبلغ درجة التواتر فلا يصلح الاستناد إليه في مثل المفروض.
ورده بأن نقلة هذا الحديث هم نقلة الغدير السابق، وقد ثبت تواتره فهذا مثله، ونقل من صاحب نهج الأيمان إنه بعد أن صرح بتواتره قال: هذا حديث بين ظاهر لا يحتاج إلى الإثبات، ذكره البخاري وأبو داود والترمذي في صحاحها، وذكر في الجمع بين الصحيحين، والجامع بين الصحاح الست، وذكره أيضا ابن عقدة وأبو نصر الحربي والخطيب والعسكري وابن المغازلي في العقد والتحقيق والتاريخ والفضائل والمناقب من كتبهم.
وبعضهم رواه بطرق متعددة كالأول فإنه رواه بعشر طرق، وأما ما انتهت إليهم رواية هذا الحديث عن النبي (ص) فهم جماعة منهم عبد الله بن مسعود وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عباس وجابر الأنصاري وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري وجابر بن سمرة وبراء بن عازب وزيد بن أرقم، وأبو رافع مولى رسول الله (ص) وعبد
الله بن وافى وأنس بن مالك وأبو برده الأسلمي، وأبو أيوب الأنصاري وعقيل بن أبي طالب ومعاوية وأم سلمه وأسماء بنت عميس وسعيد بن المسيب ومحمد بن علي بن الحسين فإن كل هؤلاء النفر رووا هذا الحديث عن رسول الله (ص) قال بعض المتبحرين إن كل واحد من هؤلاء الجماعة كألف.
أقول قد ذكرنا سابقا إن المناط في صحة الاستدلال على قطعية الحديث لا ينحصر بالتواتر، فلو سلمنا عدم تواتره فالقرائن القطعية من

134
جهة التعاضد، ورواية أهل السنة له تفيد القطع بالصدور، وفي خبر الجاثليق الذي صححناه إن الأمير (ع) قال: أنا من النبي (ص) بمنزلة هارون من موسى وشمعون من عيسى، ولو فرض عدم قطعية هذا الحديث أيضا يلزم أهل السنة قبوله، لأن مسألة الإمامة بناء على مذهبهم هي من فروع الدين، والخبر الواحد حجة في الفروع بالإجماع فلا ينفع منع التواتر.
ومنها ما عن سعد الدين من منع عموم المنزلة نظرا إلى انقطاع الاستثناء والمنقطع منه لا يقضي بعموم المستثنى منه.
وأجيب بعدم كونه منقطعا بل هو بمنزلة إلا النبوة فيكون منفصلا، ولا يقضي بعموم المستثنى منه.
يقول المؤلف إنه لا فرق بين إلا إنه لا نبي بعدي أو إلا النبوة من جهة اتصال الاستثناء أو انقطاعه بل إلا النبوة أنسب بكونه منقطعا كما لا يخفى.
والجواب الصحيح عن هذه المناقشة إن دلالة منقطع الاستثناء على العموم أقوى من متصلة، لأن مطلق الاستثناء من علائم العموم، ولم يفرق بين الاستثنائين أحد، بل هو في المنقطع أأكد، لأن قولنا جاء القوم إلا حمارا، بحسب متعارف العرف نص في عموم القوم، وعدم تخلف أحد منهم في المجيء، والحال إن الاستثناء بالنسبة إلى حمارهم لا أنفسهم، ومثله (لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى)، بخلاف ما جاءني القوم إلا زيد، فإن دلالته على عموم عدم المجيء لغير المستثنى لا يكون إلا بملاحظة عموم لفظ القوم، وأيضا لو سلمنا الانقطاع في الاستثناء، وسلمنا مماشاة للخصم بعدم دلالته على العموم لكنه قطعا لا يقضي بعدم العموم. غاية

135
ما في الباب أن يكون الحديث نظير التراب بمنزلة الماء وغيرها، ومن الموارد المذكور فيها المنزلة بلا تعقب الاستثناء، ومن المحقق في الأصول ثبوت عموم المنزلة إن لم يكن اللفظ منصرفا إلى بعض الأفراد لظهوره أو لقرائن أخرى لفظية أو غيرها بحيث تمنع العموم الحكمي بالنسبة إلى الفرد غير ظاهر، ومن المعلوم إن التصرف في أمور الأمة إما أن يكون مسلوبا لباقي شؤون هارون، أو إنه أظهر أفراد شؤونه وخواصه فالتصرف المذكور لا بد وأن يكون مرادا على فرض العموم وعدمه. سلمنا عدم عموم المنزلة والقول بإجمال تنزيل شئ مقام شئ في العموم والخصوص لكن الآية (واجعل لي وزيرا من أهلي، هارون أخي، أشدد به أزري، وأشركه في أمري (عن لسان كليم الله ظاهرة في إرادة الاشتراك في النبوة وتبليغ الرسالة، والتصرف في أمور الأمة، وغير هذه المناصب لم يكن مذكورا في الآية الشريفة مما هو من شؤون هارون وأوصافه كي يكون في تنزيل على منزلته ناظرا إلى تلك الصفة وحينئذ لا يراد من التنزيل في الحديث إلا المشاركة في أمر النبوة.
ومنها إن الفخر الرازي نقل في أربعينه إن التنزيل منزلة هارون لا يقضي الزيادة على هارون إذ غاية ما يدل عليه إن الأمير (ع) كهارون، ومعلوم إن الثابت لهارون هو الشركة في النبوة والخلافة في حياة موسى (ع) لأنه مات قبله ومن أين يعلم إن هارون لو لم يمت وبقى خلف موسى كان وصيه وخليفته بعده، فعسى أن يكون له الاستقلال في النبوة، ولربما نسخ شريعة موسى ولا نقص على هارون إذا لم يتصرف في أمور الأمة بعد أخيه من جهة الاستخلاف، بل إذا كان

136
تصرفه بالاستقلال كان أرفع لشأنه لأن النبي أشرف من الإمام، بل لو لم يتصرف أبدا لا نقص في ذلك عليه ويكون حاله حال أوصياء عيسى لما عزلوا في نبوة نبينا (ص).
وأجاب عن ذلك بعض علماءنا المتبحرين إن مناط الآية ثبوت منصب التصرف في الأمة لهارون وهو أعم من أن يكون بالاستقلال أو لجهة الاستخلاف، وثبوت هذا المنصب يستلزم خلافته ورياسته على الأمة لو بقي بعد أخيه وحينئذ هذا المنصب على عمومه بعد موت موسى (ع) لأخيه هارون ثابت ولو كان على جهة الاستقلال، وهو عين مفاد الآية ومقتضى حديث المنزلة بثبوت مثل هذا المنصب لعلي (ع)، لكن حيث إن النبي خاتم الأنبياء بالبديهة فلا بد من تحقق المنصب المذكور في ضمن الخلافة وإلا لا تكون منزلة علي مثل منزلة هارون، والحال إن الحديث صريح بالمماثلة.
أقول هذا الجواب غير مرضي عندي في رد الفخر الرازي، لأن مفاد الآية بملاحظة موت هارون قبل موسى (ع) هو الشركة في النبوة لا الاستقلال في التصرف، والمشاركة المزبورة ثبتت لعلي من حيث استخلافه على المدينة في الغزوة المرقومة فمن أين ثبت له الاستقلال؟ والحال إنه لم يثبت لهارون.
فلتحقيق في الجواب: - إن وجه الشبه هو الشركة في النبوة والتصرف في أمر الأمة لا كيفية الشركة، ومن البين إنه لا يلزم في الشركة اجتماع حقوق المشاركين في زمان واحد، بل يختلف الزمان باختلاف موارد الشركة وأسبابها، فقد تجتمع في زمان واحد ولازم ذلك في الأملاك الإشاعة مثل اجتماع حقوق الوارث في التركة، وفي التصرفات نفوذ

137
تصرف كل واحد من الشريكين إما بالاستقلال مثل الأب والجد أو بانضمام الآخر إليه فيما عداهما وقد تكون في زمانين على الترتيب وهو في الأملاك نظير الوقف الترتيبي، وفي التصرفات نظير سلطنة الوصي بالنسبة إلى سلطنة الموصي، وفي كل هذه الموارد الشركة ثابتة، ولما كان صريح الكتاب المجيد مشاركة هارون لموسى (ع) في النبوة والتصرف في أمر الأمة فلا جرم أن يكون عليا شريك للنبي (ص) في تبليغ الشرع ورجوع الأمة إليه فيما يحتاجون، ويثبت ذلك بحديث المنزلة، ولا يضر اختلاف الكيفية فإن اختلاف الخصوصيات لا يرفع أصل الشركة، لكن يبقى في المقام إن ذلك كله لا يرفع إيراد الروزبهاني على الدليل المذكور ويحتاج دفعه إلى جواب أخر وملخص المناقشة، إن الحديث مهمل مجمل بالنسبة إلى الشركتين، كما إنه غير صريح بالشركة في زمان واحد، كذلك لا صراحة فيه ولا نصوصية على الشركة الترتيبية المفيدة في المقام، فيمكن أن تكون الشركة مثل هارون وموسى ويمكن أن تكون مثل الوصي والموصي، وبعد حمل الحديث على بيان أصل الشركة
تبقى الكيفية مسكوتا عنها فيه، فإرادة خصوص الشركة الترتيبية تحتاج إلى قرينة مفقودة فيه إن لم تكن القرينة فيه ظاهرة على غيرها، فقد ادعى إن قرينة المسافرة والمماثلة من حيث أن خلفه موسى (ع) في قومه لما مضى إلى الطور تقتضي بأن مشاركة علي (ع) للنبي (ص) في خصوص زمان غيبته إلى تبوك لا مطلقا حتى بعد فقده، وإن اختلفا في إن استخلاف هارون في زمان محدود بخلاف استخلاف علي (ع) فإن هذا الاختلاف لا يقتضي بترتيبه الاستخلاف.

138
ودفع هذه الشبهة بأن هذا الحديث لم يختص بغزوة تبوك فقط كما ذكره أحمد بن حنبل، بل قال ذلك في مقامات عديدة وموارد متكثرة.
... إلى هنا جف قلم شيخنا الأجل الشيخ عباس كاشف الغطاء (رحمه الله). والله الهادي إلى الصواب.
والحمد لله أولا وأخرا والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد بن عبد الله وآله الطاهرين.
تم الانتهاء من طبعها يوم ميلاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) الثالث عشر من شهر رجب لعام 1420 للهجرة

139
/ 1