إمام البخاري وفقه أهل العراق نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

إمام البخاري وفقه أهل العراق - نسخه متنی

حسين غيب غلامي هرساوي

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید
الكتاب: الإمام البخاري وفقه أهل العراق
المؤلف: الشيخ حسين غيب غلامي الهرساوي
الجزء:
الوفاة: معاصر
المجموعة: من مصادر العقائد عند الشيعة الإمامية
تحقيق:
الطبعة: الاولى
سنة الطبع: 1420 ه‍ / بيروت
المطبعة:
الناشر: دار الاعتصام
ردمك:
ملاحظات:
الامام البخاري
وفقه أهل العراق

1
الامام البخاري
وفقه أهل العراق
دراسة
في موقف البخاري من أبي حنيفة
تأليف
الشيخ حسين غيب غلامي الهرساوي

3
جميع حقوق الطبع محفوظة ومسجلة
دار الاعتصام للطباعة والنشر - بيروت - لندن
الطبعة الأولى: 1420 ه‍ - 2000 م

4
بسم الله الرحمن الرحيم
يوم ندعو كل أناس بإمامهم. سورة الأسراء: 71

5
مقدمة
ما نريد التأكيد عليه هو بدء تبلور الظروف السياسية واسهام المؤسسات الحكومية في
عملية تدوين السنة والحديث وتزوير الوقائع التاريخية، ونظرا للامكانات الهائلة التي توفرت
للمؤسسات الحاكمة وشعورها بضرورة التأسيس لشرعيتها فقد بدأت حركة التدوين تأخذ مسارها
ضمن أهداف مرسومة سلفا.
ولذا فان السياسات المتعاقبة وضعت يدها على حركة التدوين في حقول مهمة كالحديث
والسنة وفضائل الصحابة والمجال العقيدي.
فلم تمض إلا فترة وجيزة حتى بدأت مختلف المذاهب بالتبلور والظهور ومن ثم الصراع،
ولعل أخطر ما واجه الثقافة الاسلامية هو إقصاء أهل البيت عن الحياة العامة وإقامة سد من الحصار
حولهم.
ومن هنا فإن للساسة الأمويين ومن بعدهم العباسيين اليد الطولى في صياغة بعض التيارات
العقيدية والفكرية التي ظهرت في الحياة الإسلامية.
وفي خضم الأجواء المشحونة بالأطماع والطموحات الذاتية الرخيصة ظهر علماء
حكوميون استغلهم الساسة في تمرير بعض المشاريع التي تتناقض روح الاسلام والشريعة، بل أن
الأمر تعدى إلى ارتكاب المذابح بفتاوى تبيح لهم ذلك حتى أصبحوا مناديل يمسح السفاكون بها
أيديهم الملطخة بدماء الضحايا والأبرياء.
ولذا فأن الحاجة إلى مناقشة ودراسة مدونات التاريخ في العصرين الأموي والعباسي ملحة
وضرورية للكشف عن الحقائق التي بات البعض يخشى وضعها في دائرة الضوء.

13
وانه لمن الضروري أن تكون الحقيقة، والحقيقة فقط هي الغاية والهدف، خاصة
في هذا العصر الذي يشهد تسارعا في الحركة الثقافية بهذا الإتجاه.
وما هذه الدراسة سوى جهد متواضع يناقش صحيح البخاري والفقه الحنفي ودور الساسة
في صياغة بعض الأفكار والاتجاهات وطريقة التدوين وظروفها.
وجدير ذكره أن حركة التدوين قد بدأت وانتهت في ظل العهد الأموي، فصدرت نسخة
حكومية عن السنة النبوية، ولكن الصحاح الستة وأئمة المذاهب لم يعرفوا في الأقاليم والحواضر
الإسلامية ولم يبلغوا تلك الشهرة إلا في العصر العباسي.
وفي كلا العصرين كانت الأبواب مشرعة للعبث والتزوير والوضع في السنة النبوية الشريفة
فيما نرى إقصاء متعمدا لأهل البيت كأحد الينابيع الصافية الثرة للسنة المحمدية.
ولقد حوصرت بيوت أهل البيت، لأن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها، وظهر الصدع في
الأمة الواحدة، وافترقت فرقا شتى فكانت طائفة تدين بالقدرية، وأخرى مرجئية ومشبهة وطوائف
وفرق أخرى معتزلة، وأشعرية، وخوارج، والغلاة..
وافترق شمل المسلمين فهذا طاعن على الحديث معرض عنه، وآخر مقبل عليه متمسك به
لا يدرى أغث هو أم سمين!!
ولماذا تزخر الصحاح بالأخبار والروايات عن الضعفاء والمجروحين وعن الذين اشتهروا
بتزوير الأحاديث والوضع، وعن الذين امتهنوا حرفة التدليس، ولم تؤخذ عن أهلها؟ والسؤال الكبير الذي يرافق حركة العصور حتى اليوم، هو لماذا لم تؤخذ سنة النبي 6 عن أهل بيته الذين لو كان يخص بالعلم أحدا لكان هم أولى، وللعلم خزائن يقسمه الله لمن أحب (1)!؟.



1 - المعرفة والتاريخ 1: 395، تاريخ مدينة دمشق 40: 393.
14
هذا والأخبار تتظافر لتؤكد مساحة التزوير التي طالت السنة النبوية في عهد مبكر حتى
شهد جيل الصحابة عمق المحنة وبشاعة الجريمة.
وهذه الدراسة التي بين يديك، تتناول بقدر من التفصيل التيارات الفكرية في عصر البخاري،
وخطط المتوكل في تجذير حالة من العداء لأهل البيت.
كما يناقش موقف البخاري من أبي حنيفة الذي يشكل المحور الأساس لفقه أهل العراق
الذين يبادرون في الطعن على المحدثين وبعض الصحابة، ويسمون أنفسهم بالطبيب والمحدثون
بالصيادلة، كما أن حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة خطب لأهل الكوفة وقال: «أبشروا يا أهل
الكوفة! رأيت عطاء وطاووسا ومجاهدا، فصبيانكم - بل صبيان صبيانكم - أفقه منهم»! إنما قال هذا
تحديثا بالنعمة، وردا على بعض شيوخ الرواية ممن لم يؤت نصيبا من الفقه (1).
و قد فصل الكوثري الحنفي في كتاب فقه أهل العراق وحديثهم وتقديمه أيضا للنصب الراية
للحافظ الزيلعي بعض ما يرد على المحدثين والدفاع عن مدرسة فقه أهل العراق، وفي هذا المبحث
المحور الأساس تبيين المواضع لهاتين الطائفتين، ونشوء ثقافتهما، ففي الحجاز مدرسة أهل
الحديث، والآخر مع حضارته التليدة وحظه الكبير من المعارف القانونية الجديدة تسمى بمدرسة
أهل الرأي في العراق، وكان منهج مدرسة أهل الحجاز يقوم على أساس الأخذ بالكتاب والسنة
وأقوال الصحابة، ومدرسة العراق على الأخذ بالرأي والبحث عن العلل، وقلة روايتهم للحديث
وحذرهم في رفع السند إلى النبي 6 لكثرة الوضع في الحديث، والدس في الأخبار، وعدم تهيبهم من
الفتيا، وكان منهج هذا الفكر على اعتقادهم بأن الأحكام الشرعية لها علل ومقاصد، وجعلوا مدار
الاستنباط على البحث في العلل والاعتماد على القياس العقلي، ونسأل الله سبحانه وتعالى ان يهدينا
بعد هذه الجولة إلى الخير بأن



1 - مقدمة نصب الراية للزيلعي.
15
لا نتبع إلا الحق ولا ندين إلا به ويمدنا بالاعتصام بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها،
وفي الختام لا يسعني إلا أن أتقدم بالشكر إلى الخبير اللغوي خيون هاشم الساعدي على
مراجعته الكتاب وتصحيح ما اعتوره من أخطاء لغوية، وكما نخص بالشكر أيضا الأستاذ كمال السيد
حيث تفضل بمراجعته النهائية وترجمة بعض متونه إلى العربية فجزاه الله خيرا.
والله يتولى الصالحين ويدافع عن المؤمنين والحمد لله رب العالمين.
حسين غيب غلامي الهرساوي
23 رمضان المبارك 1419 ه‍

16
الفصل الأول
الاتجاهات الفكرية
في عصر البخاري

17
تأتي أهمية دراسة الحركة الفكرية في عصر البخاري انطلاقا من تبلور وظهور
الصحاح الستة، ولأنه شهد استكمال حركة تدوين السنة النبوية التي بدأت في العصر
الأموي واستمرت في خطها المرسوم الذي استبعد أخبار وروايات أهل البيت (عليهم السلام).
وعلى هذا، يكون البخاري الذي ولد في سنة 194 ه‍ حسب ما ثبت في تاريخ
ولادته، معاصرا للمأمون العباسي الذي كانت خلافته بين سنة 198 - 218 ه‍ فيكون أول
سماعه للحديث قد وقع في سنة خمس ومائتين (1).
ولا شبهة في أن عصره يعد من أهم العصور في تاريخ الحديث ومن أنشطها في
تدوين وتبويب السنة التي بدأت حركتها في عهد الأمويين،
ولذلك فإن كل من ينشد الحقائق تزداد رغبته في تحقيق ما انعقد بأيدي هؤلاء
في تأليف الجوامع الحديثية من المسانيد والصحاح.
فحينما سيطر الجور، وانقطع الأمر عمن هو صالح للخلافة والإمامة، وانتشرت
البدع والضلالات في البلاد الاسلامية، ثم تولى الخلافة الرشيد العباسي في سنة 170 ه‍
وتظاهر سياسيا ومنع الكلام والجدال في امور الدين والشدة على مخالفيه بشكل
خاص، مع ما جعل على نفسه من إكرام العلماء وإعظامهم والتواضع لمن يجالسه، حتى
انه إذا جلس معاوية بن الضرير إلى طعامه قام بنفسه من موضعه وصب الماء على يده
تعظيما لقدر العلماء، فقال له معاوية: يا أمير المؤمنين إن تواضعك من



1 - تاريخ الإسلام للذهبي وفيات 251 - 260: 239 0
19
شرفك ولا شرف أفضل من شرفك. (1)
وبالرغم من افتخاره بانتسابه لبني هاشم، فقد سعى في إيذاء الإمام موسى
الكاظم (عليه السلام) أحد الأئمة من أهل البيت.
قال الذهبي: «حج الرشيد فحمل معه موسى من المدينة إلى بغداد وحبسه إلى
أن توفي»!! (2)
وقال أيضا: و «لعل الرشيد ما حبسه إلا لقولته تلك: السلام عليك يا أبه! فإن
الخلفاء لا يحتملون مثل هذا». (3)
وانصرفت همة الرشيد إلى ترجمة كتب الفلاسفة من يونان وغيرهم. ولشدته
على أهل الكلام والقائلين بخلق القرآن كان بشر بن المريسي أحد المتكلمين متواريا
أيامه، فلما مات الرشيد ظهر ودعا إلى مذهب الإعتزال.
توفي الرشيد سنة 193 ه‍ وعهد بالخلافة لابنه محمد الأمين، ثم لابنه عبد الله
المأمون، وقتل الأمين سنة 198 ه‍، فتولى المأمون الخلافة من بعده، وكان المأمون يميل
إلى مذهب الإعتزال، فاجتمع مع علماء المعتزلة ومنهم بشر المريسي الذي انهى فترة
اختفائه وتواريه.
وكان المأمون يحب العلم ولم يكن له بصيرة نافذة فيه. (4)
وقال الذهبي «فظهر المأمون الخليفة، وكان ذكيا متكلما، له نظر في المعقول،
فاستجلب كتب الأوائل، وعرب حكمة اليونان، وقام في ذلك وقعد، وخب ووضع،



1 - تاريخ الجهمية والمعتزلة للقاسمي: 65.
2 - تاريخ الإسلام للذهبي وفيات 181 - 190: 417، تاريخ بغداد 13: 27.
3 - تاريخ الإسلام - وفيات 181 - 190: 418، وقال فيه: قال عبد الرحمن بن صالح الأزدي: زار الرشيد
قبر النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: السلام عليك يا رسول الله، يا ابن عم! يفتخر بذلك. فتقدم موسى بن جعفر فقال:
السلام عليك يا أبه! فتغير وجه الرشيد وقال: هذا الفخر حقا يا أبا حسن!
4 - البداية والنهاية 10: 275.
20
ورفعت الجهمية والمعتزلة رؤوسها، بل والشيعة، فإنه كان كذلك، وآل به الحال إلى أن
حمل الأمة على القول بخلق القرآن... ولم تكن الجهمية يظهرون في دولة المهدي
والرشيد والأمين، فلما ولي المأمون كان منهم، وأظهر المقالة». (1)
توفي المأمون سنة 218 ه‍، وتولى الخلافة بعده المعتصم واشتد القول بخلق
القرآن وامتحان العلماء، كما أن طائفة من العلماء أجابوا دعوته في المحنة.
البخاري ولد سنة 194 ه‍، وبدأ دراسته في طلب الحديث أواخر خلافة المأمون،
ثم في عهد المعتصم، ومن بعده الواثق، ثم المتوكل إلى المعتز والمهتدي، وكان عصره
عاصفا بالحوادث والمحن وقد تولى النواصب أمر الحديث والتدوين للعلم وإنتشرت
مذاهب الفلاسفة من: القدرية، والجهمية، والمعتزلة، والأشعرية.
وقد وصفه الذهبي قائلا: «رفع الأهواء رؤوسهم بدخول الولاة معهم، فاحتاج
العلماء إلى مجادلتهم بالكتاب والسنة، ثم كثر ذلك، واحتج عليهم العلماء أيضا
بالمعقول، فطال الجدال، واشتد النزاع، وتولدت الشبه، نسأل الله العافية». (2)
فإذا أردنا ان نلم بصورة واضحة عن عصر البخاري فإنه يتوجب الإشارة إلى
الاتجاهات الفكرية التالية:
1. الشيعة.
2. المعتزلة والجهمية.
3. الأحناف.



1 - سير أعلام النبلاء 11: 236.
2 - سير أعلام النبلاء، 8: 144.
21
الشيعة
يتعسف البعض ويطلق اسم الشيعة على كثير من الفرق بما في ذلك الغلاة
الذين تبرأ منهم أئمة أهل البيت واتباعهم، وبالرغم من كفرهم الصريح وخروجهم
على أصول الدين وفروعه فأن المؤرخ سيما أعداء أهل البيت لا ينفك يعتبرهم من
الشيعة ظلما وزورا.
والأعجب من ذلك، أن من ينظر في ترجمة أبي حنيفة والشافعي من أئمة السنة
يرى أنهما رميا بالتشيع لما كان عندهما من محبة آل البيت! غير أن المهم أن نعرف أن
التشيع ورعاية حقوق العلويين وعدم النصب لآل علي في العهدين الأموي والعباسي
كان يعد من أعظم الجرائم والمساوئ لدى الخلفاء!! لأنهم أرادوا أن لا يبقى أحد من
أهل البيت! كما قال المعتز: «إن ولاني الله لأفنين جميع آل أبي طالب». (1)
وهي سياسة رفضها أبو حنيفة بل رأى أن الحق والحكم لابد أن يكون للسادة
من العلويين فسجن لذلك وضرب، وهو أمر لم يكن يتحمله الخلفاء والنواصب من
العلماء، ولذلك نهض كلا الفريقين على مخالفته، كما سيأتي في المباحث القادمة. وأما
عنوان الشيعة فقد ينصرف عن غير الإمامية الاثني عشرية. وقد يطلق في كلمات بعض
أهل التاريخ والتراجم على غير الاثني عشري مسامحة، كقولهم فيمن يقدم عليا على
عثمان فقط: فهو شيعي... الخ. (2)
وأما الاثنا عشري فإنه يبتني ويتخذ عقيدته من القرآن، ويرفض ما جاء معارضا
للقرآن ولا يعتقد به، خلافا لأهل السنة لأنهم يطرحون الأخبار في ذلك (3)، وأئمة
الشيعة يقولون:
- «ما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه». (4)



1 - تاريخ أبي الفداء 2: 29.
2 - راجع مقدمة «لسان الميزان» وترجمة الحاكم النيسابوري في سير أعلام النبلاء وتذكرة الحفاظ.
3 - وقد بحثنا ذلك في كتابنا: «قصة الهجوم على السنة».
4 - الوسائل 18: 78 كتاب القضاء.
22
- «وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف». (1)
- «ما خالف كتاب الله فردوه». (2)
وإنما الكلام عند المخالفين للشيعة هو القول بالوصاية والخلافة من بعد
النبي (صلى الله عليه وآله)، فالشيعي يستند بذلك إلى القرآن والعقل الحاكم على حرمة تبعية الظالم مع
حضور العادل، ويحكم بقبح التبعية لغير المصون من الخطأ، ويقول: لابد للخليفة بعد
النبي أن يكون منصوصا عليه بالنص القطعي، ومعصوما ومؤيدا من قبل الله تعالى،
كما تدل على ذلك الآيات المباركات: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين
يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون). (3)
و (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم). (4)
و (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا). (5)
و (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت
رسالته). (6)
و (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام
دينا). (7)
فالشيعة الإثنا عشرية تنتهل أفكارها عن أئمتها (عليهم السلام) بالاستناد إلى الكتاب.
ولا شبهة في أن تفاسير متعددة من المخالفين لمذهب أهل البيت تفسر الآيات



1 - نفس المصدر السابق: 79.
2 - نفس المصدر السابق: 80.
3 - المائدة: 55.
4 - النساء: 59.
5 - الأحزاب: 33.
6 - المائدة: 67.
7 - المائدة: 2.
23
المذكورة بما يوافق تفسيرها لدى المذهب الامامي.
كما أن الشيعي يستند إلى أقوال مخالفيه ويستشهد بها لما يرى في ذلك من
تصديق، وليس من باب الحجية والإثبات، بل من جهة التعريف والمباهاة لما يتمسك
به من بين الشرائع في شريعة خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله) من طريق أهل بيته عليهم السلام، وعلى
أساس أن المخالف لا ينفي مذهبه بل يثبته ويقرره.
روى الذهبي في ترجمة الشافعي لدى دفاعه عنه لما قيل: إنه شيعي، قلت:
ومعنى هذا التشيع حب علي وبغض النواصب، وأن يتخذه مولى عملا بما تواتر عن
نبينا (صلى الله عليه وسلم) «من كنت مولاه فعلي مولاه» (1) وقد صنف رسالة مستقلة في إثبات طرق
حديث الغدير.
وروى الواحدي النيسابوري (2) في «أسباب النزول» الآية المباركة من سورة
الرعد (ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في اللهو هو شديد
المحال). (3) قال: «وقال ابن عباس في رواية أبي صالح، وابن جريج، وابن زيد: نزلت
هذه الآية والتي قبلها في عامر بن الطفيل، وأربد بن ربيعة، وذلك أنهما أقبلا يريدان
رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فقال رجل من أصحابه: يا رسول الله! هذا عامر بن الطفيل قد أقبل نحوك.



1 - تاريخ الإسلام للذهبي وفيات 201 - 210 ص 338.
2 - الواحدي هو أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد النيسابوري قال فيه الذهبي: «الامام العلامة الأستاذ
الواحدي النيسابوري صاحب «التفسير»، إمام علماء التأويل. وكان طويل الباع في العربية واللغات.
صنف التفاسير الثلاثة: «البسيط»، و «الوسيط»، و «الوجيز» وبتلك الأسماء سمى الغزالي تواليفه الثلاثة
في الفقه. ولأبي الحسن كتاب «أسباب النزول» مروي، وكتاب «التحبير في الأسماء الحسنى»،
و «شرح ديوان المتنبي»، وله أيضا: كتاب «المغازي»، وكتاب «الإغراب في الإعراب»، وكتاب
«تفسير النبي»، وكتاب «نفي التحريف عن القرآن الشريف» تصدر للتدريس مدة، وعظم شأنه. وكان
من أبرع أهل زمانه في لطائف النحو وغوامضه. وقال أبو سعد السمعاني: كان الواحدي حقيقا بكل
احترام وإعظام، لكن فيه بسط لسان في الأئمة. قلت: الواحدي معذور مأجور. مات بنيسابور في
جمادى الآخرة سنة ثمان وستين وأربعمائة، وقد شاخ». سير أعلام النبلاء 18: 339 رقم 160.
3 - الرعد: 13.
24
فقال: «دعه، فإن يرد الله به خيرا يهده».
فأقبل حتى قام عليه، فقال: يا محمد! ما لي إن أسلمت؟ قال: «لك ما للمسلمين
وعليك ما عليهم».
قال: تجعل لي الأمر بعدك؟
قال: «لا: ليس ذلك إلي، إنما ذلك إلى الله يجعله حيث يشاء».
قال: فتجعلني على الوبر وأنت على المدر؟ قال: «لا...». (1)
فالشيعة وكل من يتولى عليا وأهل بيته يعتقدون بذلك، ويقولون: إن الخلافة
والإمامة بعد النبي بيد الله تعالى، ولا حق لأحد أن يتمنى ويسعى إلى أن يرتقي مرتبتها
أو يبلغ درجتها.
وقد ثبت أن كثيرا من الصحابة يوالون عليا أشد موالاة، ويفضلونه على جميع
الصحابة ويقدمونه على أنفسهم، وكان حبه عندهم من علائم الإيمان وبغضه من
علائم النفاق.
وكان جميع الهاشميين من شيعة علي وقتئذ، وكذلك حذيفة بن اليمان، والزبير
ابن العوام، وخزيمة ذو الشهادتين، وأبو التيهان، وهاشم بن عتبة المعروف بالمرقال،
وأبو أيوب الأنصاري، وأبو سعيد الخدري القائل: «ما كنا نعرف المنافقين على عهد
رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلا ببغض علي بن أبي طالب» وأبو رافع، وعدي بن حاتم الطائي،
وحجر بن عدي الكندي، وسعيد بن جبير، وعثمان وسهل ابنا حنيف، وأبي بن كعب،
والبراء بن عازب، والأحنف بن قيس، وثابت بن قيس بن الخطيم، وقيس بن سعد بن
عبادة وأبوه، وخباب بن الأرت، وبلال مؤذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعبد الله
ومحمد ابنا بديل، وقرظة بن كعب الخزرجي، وسليمان بن صرد الخزاعي، وحسان بن
ثابت، وأنس بن الحرث، وأبو قتادة الأنصاري، وأبو دجانة الأنصاري، وسعد بن



1 - أسباب النزول للواحدي: 183.
25
مسعود الثقفي عم المختار، ويزيد بن نويرة، «وهو أول قتيل قتل من أصحاب علي
بالنهروان وشهد له رسول الله بالجنة مرتين». (1)
ونافع بن عتبة أبو ليلى الأنصاري واسمه يسار، ويقال: داود بن بلال وكان أبو
ليلى خصيصا بعلي عليه السلام يسمر معه ومنقطعا إليه، ورد المدائن في صحبته،
وشهد صفين معه، وفي ولده جماعة يذكرون بالفقه ويعرفون بالعلم. (2)
وقد عد الذهبي وابن حجر غير هؤلاء الصحابة من شيعة علي بن أبي طالب (عليه السلام)،
ومنهم: أبو الطفيل، والذين امتنعوا عن مبايعة أبي بكر على رؤوسهم بعد بني هاشم:
سلمان، وأبو ذر، وعمار، ومقداد، وجماعة من غير هؤلاء على رؤوسهم أبو سفيان
رأس الأمويين، ففي السقيفة لما اجتمع الناس على بيعة أبي بكر أقبل أبو سفيان وهو
يقول: إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا دم. يا آل عبد مناف! فيم أبو بكر من أموركم؟ أين
المستضعفان؟ أين الأذلان علي والعباس؟ ما بال هذا الأمر في أقل حي من قريش؟!!
ثم قال لعلي: ابسط يدك أبايعك، فوالله لئن شئت لأملأنها عليه خيلا ورجالا.
فأبى علي (عليه السلام) عليه، فزجره وقال: «والله إنك ما أردت بهذا إلا الفتنة، وإنك والله
طالما بغيت للإسلام شرا! لا حاجة لنا في نصيحتك». (3)
ولكنه رأى بعينه ما قد رأى، حيثما صوره الأستاذ عبد الفتاح عبد المقصود:
«واجتمعت جموعهم آونة في الخفاء وأخرى على الملأ يدعون إلى ابن أبي
طالب، لأنهم رأوه أولى الناس بأن يلي امور الناس، ثم تألبوا حول داره يهتفون باسمه
ويدعونه أن يخرج إليهم ليردوا عليه تراثه المسلوب... فإذا المسلمون أمام هذا
الحدث مخالف أو نصير، وإذا بالمدينة حزبان، وإذا بالوحدة المرجوة شقان أوشكا
على انفصال، ثم لا يعرف غير الله ما سوف تؤول إليه بعد هذا الحال... فهلا كان علي



1 - تاريخ بغداد 1: 151.
2 - تاريخ بغداد 1: 186.
3 - الكامل في التاريخ 2: 10 - 11 ط دار إحياء التراث العربي.
26
كابن عبادة حريا في نظر ابن الخطاب بالقتل حتى لا تكون فتنة ولا يكون انقسام؟!
كان هذا أولى بعنف عمر إلى جانب غيرته على وحدة الإسلام، وبه تحدث
الناس ولهجت الألسن كاشفة عن خلجات خواطر جرت فيها الظنون مجرى اليقين،
فما كان لرجل أن يجزم أو يعلم سريرة ابن الخطاب، ولكنهم جميعا ساروا وراء
الخيال، ولهم سند مما عرف عن الرجل دائما من عنف ومن دفعات، ولعل فيهم من
سبق بذهنه الحوادث على متن الاستقراء، فرأى بعين الخيال قبل رأي العيون، ثبات
علي أمام وعيد عمر لو تقدم هذا منه يطلب رضاءه وإقراره لأبي بكر بحقه في الخلافة،
ولعله تمادى قليلا في تصور نتائج هذا الموقف وتخيل عقباه، فعاد بنتيجة لازمة لا
معدى عنها، هي خروج عمر عن الجادة، وأخذه هذا «المخالف» العنيد بالعنف
والشدة!
وكذلك سبقت الشائعات خطوات ابن الخطاب ذلك النهار، وهو يسير في
جمع من صحبه ومعاونيه إلى دار فاطمة، وفي باله أن يحمل ابن عم رسول الله إن طوعا
وإن كرها على إقرار ما أباه حتى الآن.
وتحدث أناس بأن السيف سيكون وحده متن الطاعة!... وتحدث آخرون بأن
السيف سوف يلقى السيف!... ثم تحدث غير هؤلاء وهؤلاء بأن «النار» هي الوسيلة
المثلى إلى حفظ الوحدة وإلى «الرضا» والإقرار!...
وهل على ألسنة الناس عقال يمنعها أن تروي قصة حطب أمر به ابن الخطاب
فأحاط بدار فاطمة، وفيها علي وصحبه، ليكون عدة الإقناع أو عدة الايقاع؟...
على أن هذه الأحاديث جميعها ومعها الخطط المدبرة أو المرتجلة كانت كمثل
الزبد، أسرع إلى ذهاب ومعها دفعة ابن الخطاب!.. أقبل الرجل محنقا مندلع الثورة،
على دار علي وقد ظاهره معاونوه ومن جاء بهم فاقتحموها أو أوشكوا على اقتحام،
فإذا وجه كوجه رسول الله يبدو بالباب حائلا من حزن، على قسماته خطوط آلام، وفي
عينيه لمعات دمع، وفوق جبينه عبسة غضب فائر وحنق ثائر...

27
وتوقف عمر من خشية وراحت دفعته شعاعا، وتوقف خلفه - أمام الباب -
صحبه الذين جاء بهم، إذ رأوا حيالهم صورة الرسول تطالعهم من خلال وجه حبيبته
الزهراء، وغضوا الأبصار من خزي أومن استحياء، ثم ولت عنهم عزمات القلوب وهم
يشهدون فاطمة تتحرك كالخيال، وئيدا، وئيدا بخطوات المحزونة الثكلى، فتقترب
من ناحية قبر أبيها... وشخصت منهم الأنظار وأرهفت الأسماع إليها، وهي ترفع
صوتها الرقيق الحزين النبرات تهتف بمحمد الثاوي بقربها، تناديه باكية مريرة البكاء:
«أبت يا رسول الله!... أبت يا رسول الله!...».
فكأنما زلزلت الأرض تحت هذا الجمع الباغي من رهبة النداء...
وراحت الزهراء، وهي تستقبل المثوى الطاهر، تستنجد بهذا الغائب الحاضر:
«يا أبت يا رسول الله!... ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب، وابن أبي قحافة».؟!
فما تركت كلماتها إلا قلوبا صدعها الحزن، وعيونا جرت دمعا، ورجالا ودوا
لو استطاعوا أن يشقوا مواطئ أقدامهم ليذهبوا في طوايا الثرى مغيبين. (1)
ويقول في مناسبة أخرى:
... ثم من بني هاشم الذين سلبوا حقهم في تراث الرسول، وود حقد قومهم لو
تخطفتهم المصارع، ووطأتهم الأقدام وهم نثائر وأشلاء!... من خلال كل هذه السنين
السوالف تشق أحداثه أطباق الزمن إلى الخواطر، كالقبس في الظلمة، كألسنة النار التي
أوشكت أن تندلع حول البيت تهم بحصده وتدميره، كالصرخة المدوية التي أطلقتها
حينذاك فاطمة تجأر فيها بشكواها إلى رسول الله!...
ولم يكن محمد، وهم يعدون هذه العدوة على دار زهرائه، قد عزب ذكره من
الأذهان. قبره ندي بدمعهم.. جسمه رطيب كأنما لم تفارقه كل الحياة...
شبحه حاضر يملأ عليهم الفضاء كالشذا العاطر، يغب الطيب وهو ماثل لا



1 - الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) 1: 192 و 193، ط دار مصر للطباعة.
28
يغيب!.. ومع ذلك فلم يكادوا يشيعونه إلى الجدث حتى استرقهم مس، وملكهم
هوس، فانطلقوا إلى دار ابنته كمردة الشياطين!... معهم الشعل، في أيديهم الحطب
والحراب، ظلالهم دمار ونار...
الموجدة على علي، والحسد لقدره، والخشية أن يفسد اعتزاله هذه البيعة التي
أدلوا بها إلى أبي بكر بغرة من آل بيت الرسول، قد حركتهم جميعا على حرد نهاية
المطاف فيه احتلاب صفي محمد تراث ابن عمه، وإخراج الأمر من يمينه فلا تجتمع
الرسالة والخلافة في هذه الدار من هاشم، التي نبت قريش كلها بشرفها وسؤددها
وعزها إبان حقبة الجاهلية وبعد مولد الإسلام... كرهوا لها أن تطولهم بالإمرة بعد
سموها بالنبوة، وأن يقوم منها سيد بعد موت سيد. وأن يستأثر رجالها بالحكم،
ويستأسروا بأقدارهم ومزاياهم هذه الجزيرة الفسيحة التي تعج بالقبائل كأنما عقمت
عن إنجاب أمثالهم سائر البطون!...
وعلى ضياء شعلة مما طوق الدار، ولون الافق، وأشاع في الجو حره، لاح عمر
وقد تغير وجهه بحنقه، وتبلل بعرقه، وتخلل الدخان لحيته، ولمع حسامه في يمينه
كجذوة النار... إنه أحمس شديد في دينه، أحمس شديد في عدله، ولكنه اللحظة
أحمس شديد في عنفه واندفاعه وهو يمم الباب... إنه ليثير الجمهور ويهيج الفتنة،
ويهيئ الحطب ليؤرث الحريق...
واستأسد وتنمر، وتصايح وزأر، ثم اندفع من خلال الجموع كالشرر، يدق
البيت على ساكنيه... ليس هذا بعمر!... ما هو بابن الخطاب!.. الذي جرى بقدميه
إعصار... الذي انفجر بصدره بركان... الذي استوى على لبه مارد!... إنه الآن مخمور
الأمس، عاد سيرته الاولى كحاله من بضع سنين، حين أعماه شركه، وأضله هواه،
وختله عن الهدى غروره فسل حسامه وانطلق على دروب مكة ينشد النبي، ولسانه إذ
ذاك يجري بكفره وخمره:

29
«لأقتلن محمدا بسيفي هذا! (1) هذا الصابئ الذي فرق أمر قريش، وعاب
دينها، وسفه أحلامها، وشتت مجالسها وضيع بهارجها...»!
واليوم أيضا ختله اندفاعه، وبقية بنفسه لا تزال راسبة من حسد الجدود وبغضاء
الأجيال... هوى كهوى يمضي به، ويحيد بخطو الثابت، فيغدو ويروح على لهيب
المشاعل، يوسوس لنفسه، ويهتف بالعصبة التي تؤازره على هجم الدار:
«والذي نفس عمر بيده، ليخرجن أو لأحرقنها على من فيها..»!
قالت له طائفة خافت الله، ورعت الرسول في عقبه:
«يا أبا حفص! إن فيها فاطمة...»؟!
فصاح لا يبالي:
«وإن...»!
واقترب وقرع الباب، ثم ضربه واقتحمه...
وبدا له علي...
ورن حينذاك صوت الزهراء عند مدخل الدار...
فإن هي إلا رنة استغاثة أطلقتها «يا أبت يا رسول الله...»! تستعدي بها الراقد
بقربها في رضوان ربه على عسف صاحبه، حتى تبدل العاتي المدل غير إهابه، فتبدد
على الأثر جبروته، وذاب عنفه وعنفوانه، وود من خزي لو يخر صعقا تبتلعه مواطئ
قدميه ارتداد هدبه إليه...
وعندما نكص الجمع، وراح يفر كنوافر الظباء المفزوعة أمام صيحة الزهراء،
كان علي يقلب عينيه من حسرة وقد غاض حلمه، وثقل همه، وتقبضت أصابع يمينه



1 - سيرة ابن هشام 1: 344، تاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي: 10، الكامل لابن الأثير 1: 602،
الرحيق المختوم للمباركفوري: 100، مختصر سيرة الرسول للنجدي: 103، أنساب الأشراف
للبلاذري 10: 289 - باب إسلام عمر.
30
على مقبض سيفه تهم من غيظه أن تغوص فيه.... (1) فكل ما وصفه الأستاذ عبد الفتاح،
هو تقرير النصوص الصريحة التي أوردها المحدثون وصححها أرباب الفن وأئمة
الجرح والتعديل، وبعضها على شرط البخاري ومسلم. (2)
فلما رأى ذلك منهم تغاضى عن حقه المشروع، وبادر إلى تأييد كلمة الإسلام
بعلومه الزاخرة، لكيلا يختلفوا ولا يفترقوا.
ولا يزال هو ومن كان من أهل بيته وشيعته من المظلومين منذ قبض
رسول الله (صلى الله عليه وآله)، يشتد عليهم الأمر عصرا بعد عصر ودورا بعد دور، حتى سبوهم على
المنابر وقتلوا أولادهم وسبوا نساءهم! والموالون في تلك الظروف القاسية يواجهون
النكبات والدسائس والدعايات، وقد صلبوهم على جذوع النخيل، فاستلوا ألسنتهم
لما نطقت بفضائل علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وسملوا أعينهم التي رمقته باحترام، وقطعوا
أيديهم التي أشارت إليه بمنقبة ونشروا أرجلهم التي سعت نحوه بعاطفة!
وكم حرقوا على أوليائه بيوتهم واجتثوا نخيلهم! ثم صلبوهم على جذوعها، أو
طردوهم من عقر ديارهم.
ومن يقرأ تأريخ العهدين: الأموي والعباسي، وما جرى على العلويين ومواليهم
فيهما، يعلم أن الحركة السياسية الناشئة من أبواب الملوك والجبابرة الغاصبين خوفا
من زوال ملكهم تستهدف أولا قطع شجرة العلويين ومواليهم! فهذا المعتز العباسي
الذي كان يقول: «إن ولاني الله لأفنين جميع آل أبي طالب»!! (3)



1 - الإمام علي بن أبي طالب لعبد الفتاح عبد المقصود 4: 170 - 172 ط دار مصر القاهرة.
2 - أنظر كتاب «المصنف» لابن أبي شيبة 7: 432 رقم 37045. وابن أبي شيبة هو أبو بكر عبد الله بن
محمد بن عثمان العبسي المتوفى 235 ه‍، من أقران أحمد بن حنبل وشيخ للبخاري هو وأخوه عثمان،
ومن المكثرين عنهما في صحيحه، وسيأتي ترجمته في «المتحاملين على أبي حنيفة». قال فيه الذهبي
: الإمام العلم سيد الحفاظ، وكان بحرا من بحور العلم ويضرب به المثل في قوة الحفظ. سير أعلام النبلاء
11: 122.
3 - تاريخ أبي الفداء 2: 29.
31
وبعد تلك المصائب التي جرت على هؤلاء الطائفة من الظلم فماذا يرجى خيرا
بالنواصب من العلماء المحدثين العاكفين بأبواب الأمويين والعباسيين؟!
وهذا البخاري (يتورع) ولا يروي عن الصادق من آل محمد ولم يحتج به! (1)
ويملأ بغيره من الضعفاء وأصحاب البدع والنواصب. (2)
وجعفر بن محمد الصادق (صلى الله عليه وآله) هو الذي قال فيه النووي: «اتفقوا على إمامته
وجلالته وسيادته» (3).
فلماذا لا يروي عنه البخاري؟
وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبا زرعة، وسئل عن جعفر بن محمد، عن أبيه،
وسهيل عن أبيه، والعلاء عن أبيه، أيها أصح؟
قال: لا يقرن جعفر إلى هؤلاء. (4)
وقال: سمعت أبا حاتم يقول: جعفر لا يسأل عن مثله. (5)
فعظمته في أعين أئمة السنة شيء لا ينكرها أحد منهم، فلماذا لا يروي عنه
البخاري؟!!
المعتزلة والجهمية
لقد كثرت البحوث وألفت الكتب فيما يتعلق بالفرق والمذاهب المتشعبة
المستحدثة، وذلك يغنينا عن أن نسهب في الشرح والتطويل لكيلا يفوتنا المهم، ولا
يبعدنا عن المقصود.



1 - ميزان الإعتدال 1: 414 رقم 1519.
2 - راجع كتابنا «وقفة مع البخاري».
3 - تهذيب الأسماء واللغات 1: 150.
4 - سير أعلام النبلاء 6: 257.
5 - الجرح والتعديل 2: 487، سير أعلام النبلاء 6: 257.
32
وتلك الفرق التي كثرت الأبحاث حولها: المعتزلة والجهمية وتاريخهما، لأن
أفكارهما تقع على طرفي نقيض بالنسبة إلى الفرق الأخرى، المعتزلة، وإن ينضوي
تحت اسمها كثير من الفرق مثل: الغيلانية، والعمرية، والواصلية، والهذيلية،
والنظامية، والثمامية، و و... (1) إلا أنهم لا يستندون في مناظراتهم إلى الأخبار والآثار،
بل إنهم في كثير من المباحث يستدلون بالآراء، وبإقامة المناظرات، ويؤثرون بذلك في
النقاش على الخصم.
إنما المهم في البحث هو الشكل السياسي الخفي، والمستتر وراء هذه
الحركات، فعندما تشعب الناس وتفرقوا ظهرت القدرية ومن بعدهم المعتزلة في آخر
زمن الصحابة - على أحد الأقوال - بالبصرة عند ما درس فيها الحسن البصري
المتوفى 110 ه‍.
ويعد واصل بن عطاء المتوفى 131 ه‍ المعلم الأول للمعتزلة، وكان هو
وعمرو بن عبيد من تلامذة الحسن البصري، فلما اعتزلا حلقته سموا: معتزلة.
وذهب البعض إلى أن المعتزلة في الأصل كانوا امتدادا للمعتزلة السياسيين
الذين اعتزلوا الحرب بين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ومعاوية في حزب الشام، وقد اعتمد
في ذلك على رواية المسعودي في «المروج»، وأبي الفداء في «تاريخه»، والدينوري
في «الأخبار الطوال»، والطبري في «تاريخه»، النوبختي أيضا يقول برواية مماثلة في
اعتزال هؤلاء السياسيين (2).
وأما المعتزلة أنفسهم فإنهم يرون التسمية بهذا الاسم قد انطلقت من فم
أحدهم، وهو قتادة بن دعامة السدوسي، ففي ذلك يقول القاضي عبد الجبار: «إن السبب
في التسمية بهذا الاسم هو اعتزال عمرو بن عبيد لحلقة الحسن البصري، لوحشة لحقته



1 - إعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازي: 38 - 48، طبقات المعتزلة للهمذاني عبد الجبار: 48،
الملل والنحل للشهرستاني 1: 53.
2 - طبقات المعتزلة: 16، الصلة بين الزيدية والمعتزلة: 50.
33
من قتادة، فقال قتادة: أصبح عمرو معتزليا». (1)
ويحدد الشهرستاني في «ملله» البدايات الأولى التي بدأ فيها الاختلاف حول
المسائل الأصولية بأنها: «كانت في أواخر أيام الصحابة، وذلك عند ما حدثت بدعة
معبد الجهني، وغيلان الدمشقي القدري، ويونس الأسودي في القول بالقدر وإنكار
إضافة الخير والشر إلى الله». (2)
المتمسكون بفعل النفس والعاملون بالرأي والنظر، المبالغون في طرح الأخبار،
الطاعنون في الصحابة المشافهين للخطابات النبوية بأنهم ما كانوا بمجتهدين ولا
فقهاء، ولا عالمين بالناسخ والمنسوخ، وليسوا أهلا للرأي والنظر، فلذلك لا يصح
الأخذ والعمل بمروياتهم من دون رأي ولا دقة.
قال الذهبي: «والمعتزلة تقول: لو أن المحدثين تركوا ألف حديث في الصفات
والأسماء والرؤية والنزول لأصابوا.
والقدرية تقول: لو أنهم تركوا سبعين حديثا في إثبات القدرة لأصابوا.
والرافضة تقول: لو أن الجمهور تركوا من الأحاديث التي يدعون صحتها ألف
حديث لأصابوا.
وكثير من ذوي الرأي يردون أحاديث شافه بها أبو هريرة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)،
ويزعمون أنه ما كان فقيها، ويأتوننا بأحاديث ساقطة، أولا يعرف لها إسناد أصلا،
محتجين بها». (3)
والجهمية ينتسبون إلى جهم بن صفوان المتوفى 128 ه‍ المتكلم، وكان الجهم
ينكر الصفات ويقول بخلق القرآن (4) وسيأتي في المباحث الآتية ما يتعلق بالجهمية



1 - المحيط بالتكليف 1: 422.
2 - الملل والنحل 1: 40.
3 - سير أعلام النبلاء 10: 455 رقم 150.
4 - تاريخ الإسلام للذهبي وفيات 121 - 140: 66.
34
وأفكارهم.
وقد ذكر جمال الدين القاسمي الدمشقي في كتاب «الفضل المبين» قول ابن
خلدون الأندلسي المتوفى 808 ه‍:
«... إن الشريعة إنما تؤخذ من الكتاب والسنة، ومن كان قليل البضاعة من
الحديث فيتعين عليه طلبه وروايته والجد والتشهير في ذلك ليأخذ الدين عن أصول
صحيحة، ويتلقى الأحكام عن صاحبها المبلغ لها. وإنما قلل منهم من قلل الرواية،
لأجل المطاعن التي تعترضه فيها، والعلل التي تعرض في طرقها، لا سيما والجرح
مقدم عند الأكثر، فيؤدي به الإجتهاد إلى ترك الأخذ بما يعرض مثل ذلك فيه من
الأحاديث وطرق الأسانيد، ويكثر ذلك، فتقل روايته لضعف في الطرق.
هذا مع أن أهل الحجاز أكثر رواية للحديث من أهل العراق، لأن المدينة دار
الهجرة ومأوى الصحابة، ومن انتقل منهم إلى العراق كان شغلهم في الجهاد أكثر.
والإمام أبو حنيفة إنما قلت روايته، لما شدد في شروط الرواية والتحمل،
وضعف رواية الحديث اليقيني إذا عارضها الفعل النفسي، وقلت من أجلها روايته،
فقل حديثه حيث بلغت روايته سبعة عشر حديثا أو نحوها...». (1)
وقال عبد الرحمن الشرقاوي: «وقد فحص الأحاديث الموجودة في عصره
و كانت عشرات الآلاف فلم يصح في نظره منها الا نحو سبعة عشر. (2)
وقد ثبت أنه قال: ما رأيت أفضل من عطاء بن أبي رباح وعامة ما أحدثكم به خطأ
- وفي رواية الصريفيني: وعامة ما حدثكم - وهو وهم (3).
ومكانه عطاء بن أبي رباح ودرجته في حديث السنة أمر لا يناقش فيه أحد، وهو



1 - الفضل المبين على عقد الجوهر الثمين في علوم الحديث، وهو شرح الأربعين العجلونية: 18 - 107
ط دار النفائس بيروت.
2 - أئمة الفقه التسعة: 68.
3 - تاريخ مدينة دمشق 40: 390.
35
من المكثرين، وقد تبلغ رواياته في البخاري فقط إلى المائتين، وهو الذي حين قدم
عبد الله بن عمر مكة فسألوه، فقال: أتجمعون لي يا أهل مكة المسائل وفيكم ابن أبي
رباح (1).
وهذا الذي ذكرنا يقع في كثير ممن يطعن على الحديث ويدافع عنه، كما ان
المدافع للحديث يقول: «كثير من علماء المذاهب، يصدون الناس عن العمل بالحديث
النبوي، ولذا ذكر شيخ الإسلام عبد الرحمن أبو شامة، وقد حرم الفقهاء في زماننا النظر
في كتب الحديث والآثار والبحث عن فقهها ومعانيها، ومطالعة الكتب النفيسة» (2)
الأحناف
عندما نشأ الخلاف في حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) اتخذت طائفة طريق الرأي
والاجتهاد، وقل اهتمامهم بالحديث خشية الكذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لما ورد في
الصحيح: «من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار».
قال محمد أبو زهرة، الذي لقب بمجنون أبي حنيفة، في كتابه «أبو حنيفة
وحياته»:
«أهل الرأي أكثروا من الإفتاء بالرأي خشية أن يقعوا في الكذب على
رسول الله (صلى الله عليه وسلم). (3)
وكان إمام أهل الرأي في بغداد النعمان بن ثابت المشهور بكنيته «أبي حنيفة»،
لما رأى شيوع الوضع والكذب في حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) ترك العمل بالحديث واتخذ



1 - الطبقات الكبرى 5: 467، الجرح والتعديل 6: 330 رقم 1839، حلية الأولياء 3: 310 رقم 244،
صفة الصفوة 2: 211 رقم 209، تهذيب الأسماء واللغات 1: 333 رقم 409، سير اعلام النبلاء 5: 78
رقم 29، تهذيب التهذيب 7: 199 رقم 384، تاريخ الاسلام حوادث 81 - 100 ص 420 رقم 495.
2 - تاريخ أهل الحديث للدهلوي المدني: 60.
3 - أبو حنيفة وحياته: 111.
36
الرأي والأقيسة في العمل بالشرعيات منهجا ومسلكا، ولذلك قالوا في كتبهم
الأصولية: عند التعارض في الأدلة يحكم بالرأي ويعمل بشهادة القلب، لأن قلب
المؤمن نور يدرك به ما هو باطن لا دليل عليه، كما أشار إليه (صلى الله عليه وسلم): «اتقوا فراسة المؤمن،
فإنه ينظر بنور الله»، رواه الترمذي. (1)
بذلك نهضت طائفة على نصرة مذهب أبي حنيفة في العمل بالرأي، وتأسيس
قواعد للاستنباط في الأحكام الشرعية عند فقد الدليل اللازم بتضعيفهم للأدلة
الموجودة والآثار.
وقد وجد العمل بالرأي دون الأحاديث والآثار النبوية الموجودة بأيدي
المحدثين، دعما حكوميا وبدأ لترويجها وإمدادها بأي نحو ممكن.
ولذلك شواهد كثيرة في استخدام القضاة المتأثرين بفكر أبي حنيفة، ومنحهم
الألقاب ووصفهم بالمجتهدين والفقهاء، أما أهل الأخبار المقلدون للصحابة اتخذوا
في المدينة وفي غيرها من البلاد طريقة المعاداة والطعن على أهل الرأي والأقيسة،
خاصة على إمام أهل الرأي أبي حنيفة، وكتبوا وأعلنوا فسقه وخروجه عن حده،
وأدرجوا اسمه في «ديوان الضعفاء والمتروكين».
ومن الذين جحدوا فكرة أبي حنيفة من المحدثين: محمد بن إسماعيل
البخاري صاحب «الصحيح»، فإنه قام بعد قرن من عصر أبي حنيفة، وكتب «الصحيح»،
حينما أمره جماعة من شيوخه بتصنيف ذلك في الدفاع عن الحديث والآثار النبوية
المتلقاة من الصحابة والتابعين، فاشتهر بذلك في الأمصار.
القرن الأول
توارث المحدثون من بعد الصحابة أمرا عظيم الأهمية، وعندما نشرت السنن
وكثر الاختلاف في نقلها لم تكن هذه المهمة هينة حتى نهضت لها طائفة منهم على



1 - التقرير والتحبير لابن أمير الحاج المتوفى 879 ه‍ ج 3: 5 ط دار الفكر.
37
الخوض والجهاد العلمي لتنقيح الآثار، وتنزيه الطرق من الوضع والكذب، وفي مقابل
ذلك قدمت طائفة أخرى أفكارا غريبة متنكرة لنشر السنن، ثم حاولوا ترويجها بين
الناس.
ومن بين أولئك طائفة أخذت على عاتقها طريقة سماع الحديث من دون معرفة
الصحيح والضعيف، أو عمن يأخذ منه الحديث. وآفة هذه المناهج رسوخ
الإسرائيليات في السنن، واتخاذ الفاجر الفاسق المتجاهر بالفسق من الخلفاء والملوك
واعتبارهم ثقات وعدولا يجب العمل بأوامرهم وأقوالهم! وأمثلة ذلك كثيرة جدا في
المحدثين الذين عاشوا في عصر الأمويين، وبعدهم في العباسيين.
وقد ذكرنا في كتابنا «تدوين الأمويين للحديث النبوي» دور ابن شهاب
الزهري، وعبد الله بن ذكوان أبي الزناد (1) في خدمة بني أمية، ونشر أفكار الأمويين
تحت غطاء الحديث النبوي الشريف!.
وطائفة أخرى قدمت الرأي والنظر على الحديث، ليتسع مجال الفكر والنظر في
بيان السنن، فعند هؤلاء القوم يكون المستدل بالحديث في بيان السنن موصوما بقلة
العلم والإساءة، لعدم قدرته على الاستنباط والاجتهاد، ولهذا أشار الأعمش حين قال
للنعمان: «أنتم الأطباء، ونحن الصيادلة». (2)
ففي الحجاز مدينة الرسول (صلى الله عليه وآله)، وفيها من الصحابة والتابعين من المحدثين بلا
مدافع، فقد أبرزت زعامتها للمدارس الفقهية، وتوافرت فيها الأسباب، لأنها موطن
رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته، وبها مقام جمهور الصحابة المخاطبين للرسول (صلى الله عليه وآله).
وفي العراق أيضا نشأت فكرة بعض الصحابة، نزل بها ثلاثمائة من أصحاب



1 - هو عبد الله بن ذكوان ابن أخي أبي لؤلؤة قاتل عمر بن الخطاب، ومن الرجال المكثرين في البخاري مع
ابنه عبد الرحمن بن أبي الزناد. سير أعلام النبلاء 5: 445.
2 - جامع بيان العلم 2: 130 روى: أن الأعمش قاله لأبي يوسف، وقال الآخر: قاله لأبي حنيفة.
38
الشجرة وسبعون من أهل بدر (1)، اتخذها على بن أبي طالب عليه السلام عاصمة
للخلافة، واعترف بفضلها وقيمتها العلمية كبار علماء الأمصار من شيوخ السنة، وفي
ذلك قال علي بن المديني معرفا دور العراق في حمل الرواية ونصيبها: «دار حديث
الثقات على ستة: رجلان بالبصرة، ورجلان بالكوفة، ورجلان بالحجاز». (2)
ومنه أيضا: «لو تركت أهل البصرة لحال القدر، وتركت أهل الكوفة لذلك الرأي
- يعني التشيع - خربت». (3)
وقال ابن تيمية بعد ذكر القدح في أهل الكوفة: «ومع هذا، فإنه كان في الكوفة
وغيرها من الثقات الأكابر كثير». (4)
وقال ضياء العمري: «إن ظهور مرويات العراقيين في كتب الصحاح يدل على
نجاح علماء العراق في تنقية السنة، وتمييز الصحيح من الموضوع، ومعرفة الرجال
الثقات من المتهمين». (5)
وعلى ذلك لم يكن علماء العراق بمعزل عن مدرسة المدينة وعلماء الحجاز،
إلا أنهم يستعملون الرأي، ويقدمون القياس على الأخبار، ولذلك قال الأوزاعي: «إننا لا
ننقم على أبي حنيفة أنه رأى، كلنا يرى، لكننا ننقم عليه أنه يجيئه الحديث عن
النبي (صلى الله عليه وآله)، فيخالفه إلى غيره». (6)
وقالوا: «إنه وضع ستين ألف مسألة»، وقيل: «ثلاثمائة ألف مسألة». (7)
«وقدم القياس على الحديث في مواطن التعارض بين الأخبار»، وقد قيل ذلك



1 - الطبقات الكبرى 6: 9، نصيحة أهل الحديث للخطيب 44.
2 - تاريخ الإسلام للذهبي، وفيات 121 - 140 ص 239.
3 - الكفاية للخطيب: 129.
4 - المنتقى من منهاج الإعتدال: 88.
5 - بحوث في تاريخ السنة للعمري: 30
6 - تأويل مختلف الحديث: 62.
7 - الفكر السامي 2: 127.
39
عنه، إما لعدم علمه بالحديث وقلة المحفوظ منه، وإما إعراضا منه عن السنة، كما يقول
الناقمون عليه.
وكان خصومه شنعوا عليه: «أنه أجهل الناس بما كان، وأعلمهم بما لم يكن»!. (1)
واستند الكارهون لأبي حنيفة إلى قول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا
عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم). (2)
كما استدلوا بما رواه جماعة عن النبي (صلى الله عليه وآله): «وكان ينهى عن عقوق الأمهات،
ووأد البنات، ومنع وهات». (3)
وفي رواية: «كان ينهى عن: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال». (4)
وقال ابن عبد البر وابن القيم: «إن النهي عن السؤال في الآية، والنهي عن كثرة
السؤال، فإن كانت بعيدة الوقوع أو مقدرة لا تقع، لم يستحب له الكلام فيها، وإن كان
وقوعها غير نادر ولا مستبعد، وغرض السائل الإحاطة بعلمها، ليكون منها على بصيرة
إذا وقعت، استحب الجواب بما يعلم، لا سيما إن كان السائل يتفقه بذلك، ويعتبر بها
نظائرها ويفرع عليها، فحيث كانت مصلحة الجواب راجحة كان هو الأولى». (5)
وقال ابن عبد البر في باب الطعن على أبي حنيفة: «كثير من أهل الحديث
استجازوا الطعن على أبي حنيفة، لرده كثيرا من أخبار العدول، لأنه كان يذهب في ذلك
إلى عرضها على ما أجمع عليه من الأحاديث ومعاني القرآن، فما شذ عن ذلك رده
وسماه شاذا. وكان مع ذلك يقول: الطاعات من الصلاة وغيرها لا تسمى إيمانا، وكل من
قال من أهل السنة: الإيمان قول وعمل ينكرون قوله، ويبدعونه (6) بذلك، وكان مع ذلك



1 - جامع بيان العلم 2: 158.
2 - المائدة 5: 101.
3 - صحيح البخاري 8: 143، كتاب الإعتصام، باب ما يكره من كثرة السؤال.
4 - نفس المصدر السابق.
5 - أعلام الموقعين 3: 449.
6 - عقد البخاري باب: «إن الإيمان يزيد وينقص»، فراجع.
40
محسودا». (1)
وأهل الحديث لم يقنعوا بالطعن على أهل الرأي من أصحاب أبي حنيفة فقط،
بل طعنوا على المنتسبين إلى مذهبه من المتكلمين والمعتزلة، وافتتحوا عليهم أبوابا
بخروجهم عن الدين.
والمعتزلة أيضا كانوا كثيري الطعن على الحديث والمحدثين، لأنهم - فيما
يدعون - يعتقدون:
1 - أن كثرة الأحاديث المتناقضة توجب التضاد والنفرة، وتورث الفرق
المتعددة، بحيث تجد كل فرقة في هذه الأحاديث ما تحتج به على صحة ما ذهبت إليه،
مع ما بين هذه الفرق من التضاد والنفرة، سواء في العقائد كالخوارج والمرجئة
والقدرية والرافضة... وغيرها، أوفي الفروع كاختلاف العراقيين والحجازيين،
والتناقض لا يمكن أن يصدر عن الرسول (صلى الله عليه وآله)، ففي هذه لمتناقضات ما هو كذب،
والمحدثون يحملونه. (2)
2 - رواياتهم للأحاديث الموضوعة التي تجافي تنزيه الله سبحانه وتعالى،
وتتنافر مع روح الإسلام، إذ تصوره وفق العقائد التي تدعو إلى التجسيم والتشبيه
والحلول. (3)
3 - تناقضهم في الجرح والتعديل:
«ومن عجيب شأنهم أنهم ينسبون الشيخ إلى الكذب، ولا يكتبون عنه ما يوافقه
عليه المحدثون بقدح يحيى بن معين، وعلي بن المديني وأشباههما، ويحتجون
بحديث أبي هريرة فيما لا يوافقه عليه أحد من الصحابة، ويبهرجون (4) الرجل بالقدر



1 - الانتقاء لابن عبد البر: 149، جامع بيان العلم 1: 148.
2 - تأويل مختلف الحديث: 2.
3 - تأويل مختلف الحديث: 7.
4 - البهرج: الباطل والرديء من الشيء. الصحاح 1: 300 [بهرج].
41
فلا يحملون عنه، كغيلان، وعمرو بن عبيد، ومعبد الجهني، وعمرو بن قائد، ويحملون
عن أمثالهم من أهل مقالتهم، كقتادة، وابن أبي عروبة، وابن أبي نجيح، ومحمد بن
المنكدر، وابن أبي ذئب». (1)
ولقد أطلق المعتزلة ألسنتهم في أهل الحديث بتجريحهم، واتهامهم بالجمود
والغفلة وعدم الفطنة، ولقبوهم بالحشوية والنابتة والمجبرة، وربما قالوا: الجبرية،
وسموهم: الغثاء والغثر. (2)
ثم يروي ابن قتيبة في «تأويل مختلف الحديث»، عن عمرو بن النضر قال:
«مررت بعمرو بن عبيد، فجلست إليه فذكر شيئا، فقلت: ما هكذا يقول
أصحابنا؟
قال: من أصحابك؟
قلت: أيوب، وابن عون، ويونس، والتيجي!
فقال: أولئك أرجاس أنجاس، أموات غير أحياء». (3)
وبذلك سمى المحدثون خصومهم: «أهل الباطل والكفر والفرقة، ورموهم
بالبدعة والهوى والضلالة والغرور». (4)
ثم ذكر ابن قتيبة بعد ذلك أنه قام مدافعا عن أهل الحديث، ورد على المتكلمين
والمعتزلة مفندا ما أخذ عنهم.
وإن سعيد بن المسيب على رأس التابعين في المدينة يقول: «والله ما رأيت فيما
أحدثوا مثقال حبة من خير».
ويعلق الراوي على عبارة «المدنيون» بقوله: «يعني أهل الأهواء والرأي



1 - تأويل مختلف الحديث: 10.
2 - نفس المصدر السابق: 96. والغثر والغثراء: سفلة الناس. اللسان 5: 7 [غثر].
3 - تأويل مختلف الحديث: 100.
4 - مقدمة كتاب: «شرف أصحاب الحديث» للخطيب.
42
والقياس». (1)
ولذلك لا ينظر المدنيون بعين الرضا إلى العلماء العراقيين، وهذا سعيد بن
المسيب يضيق صدره بسؤال تلميذه ربيعة الرأي عندما يناقشه في أرش الأصابع،
ويتهمه بأنه عراقي، فيقول له: أعراقي أنت؟! (2)
وفي العراق أيضا في الصدر الأول كان الشعبي، وإبراهيم النخعي ممثلين عن
الطائفة الأولى والثانية، لأن الشعبي كان صاحب الآثار، وإبراهيم صاحب
القياس. (3)
ويروي الشعبي ما يقلل من شأن الرأي، وينفر منه، فقد سئل عن شيء فلم يجب
عنه، لأنه لم يكن يحفظ فيه أثرا!
فقيل له: قل برأيك؟
قال: «وما تصنع برأيي؟ بل على رأيي»!. (4)
ومثله قوله: «أرأيتم لو قتل الأحنف بن قيس، وقتل معه صغير، أكانت ديتهما
سواء، أم يفضل الأحنف لعقله وعلمه؟
قالوا: بل سواء!
قال: فليس القياس بشيء». (5)
وقال الأعمش: «ما ذكرت لإبراهيم حديثا قط إلا زادني فيه، لكنه مع هذا العلم
بالحديث والدراية بنقده لم يكن يرغب في الاشتغال بالرواية، تورعا وخوفا من
الزلل.



1 - حلية الأولياء 4: 222.
2 - معاني الآثار 1: 152.
3 - تذكرة الحفاظ 1: 76.
4 - الطبقات الكبرى 6: 174، تاريخ الاسلام حوادث 81 - 100 ص 130.
5 - تاريخ التشريع: 137.
43
قيل له: أما بلغك حديث عن النبي (صلى الله عليه وآله)؟
قال: بلى! ولكن أقول: قال عمر، وقال عبد الله، وقال علقمة، وقال الأسود، أجد
ذلك أهون علي»!! (1)
القرن الثاني
تشددت الخلافات والتعصبات المتكونة والمنتمية للقرن الأول، وزادت
التنافسات العميقة في هذا القرن، واتسعت دائرتها في البلاد، وأقبل العلماء على التفقه
في الدين، حتى بدأ بعد منتصف هذا القرن المذهب الحنفي، وفي أواخره المذهب
المالكي.
وقال في ذلك الدكتور عبد المجيد محمود في «الاتجاهات الفقهية»:
«فالعراقيون بعامة، حيث تعددت وتنوعت منابع الثقافة عندهم من الكتب المترجمة
والفلسفات المتنوعة، وحيث كثرت عندهم المناظرات العقلية... وأبو حنيفة بخاصة،
حيث اشتغل بعلم الكلام حتى غلبت عليه الثقافة الكلامية، كان لا بد أن ينطبع فقههم
بطابع استخراج العلل، وتعميم الأحكام، وربط الفروع بعضها ببعض.
وقد أعانت أبا حنيفة كثرة الفروع في زمنه على تطبيق منهجه العقلي، فكل جيل
كان يحفظ المسائل التي كانت قبله، ويضيف إليها ما جد من فروع، ثم يسلم هذه
الحصيلة إلى الجيل التالي له، ليصنع فيها مثل هذا الصنيع، فيثرى الفقه بذلك وتكثر
فروعه، فإذا صادفت هذه الحصيلة المثرية من الفروع عقلية قياسية كعقلية أبي حنيفة
اتجهت فورا إلى تجميع هذه الفروع وربطها ما أمكن بقواعد عامة.
أما المدنيون، حيث لم تتعقد الحياة عندهم، وحيث العرف الإسلامي هو الشائع
الغالب على مجتمعهم، وحيث كانوا بعيدين عن الثقافات الأجنبية المستوردة، فقد



1 - الطبقات الكبرى 6: 189 - 190.
44
بعدوا عن استعمال المقاييس الضابطة، واتجهوا إلى مراعاة المصلحة والعرف في
الغالب الأعم.
هذا الاختلاف في تناول الرأي كان أحد مظهرين ميزا بين المذهبين، وفارقا بين
الاتجاهين:
أما المظهر الآخر: فهو الفقه التقديري، أو فرض المسائل وتقدير الوقائع، وهو
نتيجة لاستعمال القياس والإكثار منه، حيث يصبح الفقه التقديري ميزانا لتطبيق
الأقيسة، ومجالا لاختيار العلل.
وقد أصبحت ظاهرة فرض الفروض وتفريع المسائل من أهم خصائص الفقه
العراقي في القرن الثاني، وعمت شهرته بذلك الآفاق، حتى أن الإمام مالكا يرشد من قد
يكون عنده هذا الاتجاه من تلاميذه إلى أن يذهب إلى العراق». (1)
ثم قال: «... وعلى الرغم من أن الفقه التقديري كان هدفا لحملات كثير من
العلماء، وكان من أسباب الهجوم على أبي حنيفة ومدرسته، نراه قد اجتذب إليه بعد
ذلك كثيرا من العلماء، وتابع أبا حنيفة جل الفقهاء بعده، ففرضوا المسائل، وقدروا
وقوعها، ثم بينوا أحكامها». (2)
«وفي هذا القرن خص أبو حنيفة ومدرسته بأنهم أهل الرأي، بحيث إذا أطلقت
هذه العبارة على فرد أو جماعة فهم منها أن هذا الفرد أو هذه الجماعة ممن يتجه اتجاه
أبي حنيفة في الفقه، بسبب هذا الرأي تعرض أبو حنيفة لحملات كثيرة، ووجهت إليه
وإلى مدرسته انتقادات مرة، سواء من المدنيين بدافع من العصبية والوطن، أم من
المحدثين بدافع من اختلاف المنهج وطريقة التفكير، ثم كثرت المهاترات
والاتهامات». (3)



1 - الاتجاهات الفقهية عند أصحاب الحديث في القرن الثالث الهجري: 60 - 61.
2 - الفكر السامي 2: 127.
3 - الاتجاهات الفقهية: 66 - 67.
45
وعندما رأى المحدثون أن المذهب الحنفي ومنهجه العلمي يهوي بالناس إلى
تحليل الحرام وتحريم الحلال، نهضوا لمواجهة حركته، وتطرفوا في مواقفهم وقاموا
بما يلي:
أولا: لجأ كثير منهم إلى الحكام، ليعززوا قدرتهم في نشر الحديث والآثار،
ولينتقموا بذلك من أهل الرأي، فالخلفاء من بني أمية، وكذا من بني العباس من جانب
آخر كانوا بحاجة إلى ما يعزز مركزهم السياسي، فأي طبقة أقوى لهم من العلماء لا سيما
الذين يروون الحديث، ويشتهرون بالحفظ والإمامة في الحديث؟!
وقد حصل هذا الشكل من التعاون والاتفاق في القرون الاولى.
وثانيا: استخدم الرأي والنظر المقرون بالحديث من ناحية المحدثين، ليعلنوا
أنهم أيضا فقهاء وأصحاب نظر كما يظهر ذلك في الموطأ والبخاري.
أما الإلتجاء إلى الحكام فهو حركة متمثلة في أبي الزناد، وابن شهاب الزهري،
والحميدي، وأبي بكر وعثمان ابني أبي شيبة من شيوخ البخاري، وكانوا في خدمة
خلفاء بني أمية وبني العباس.
وقد كان ابن شهاب الزهري في طليعة من خدم الأمويين مدة خمس وأربعين
سنة واختتم مهمته في تدوين السنة بأمرهم، حتى إنه أغضب جماعة من المحدثين
المدنيين من شيوخه ومعاصريه، مثل: علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)، وسعيد بن
المسيب، وأبي حازم سلمة بن دينار وقيل: «أنه جندي للأمويين»، أو: «هو منديل
للأمراء» و «أنه أفسد نفسه بصحبته للحكام». وقد فصلنا دوره في كتاب «تدوين
الأمويين للحديث النبوي». وسنرى أن روايات الزهري في صحيح البخاري فقط تبلغ
زهاء ألف وثلاث مائة حديث. (1)
وقد نجح عن تلك الصراعات بين المحدثين وأهل الرأي ما يأتي:



1 - تدوين الأمويين للحديث النبوي ودور ابن شهاب الزهري / باب كثرة روايات الزهري.
46
أولا: تضعيف أئمة الجرح والتعديل في كل طرف للطرف الآخر، مثل: تضعيف
الإمام الأعظم للأحناف، وذكره في الكتب المدونة في باب الضعفاء والمتروكين (1)
لدى أئمة الشافعيين، وعلي بن المديني، والبخاري، ومسلم، وجماعة آخرين من أهل
الحديث في طبقات المدلسين. (2) وانبرى الطرف الآخر إلى قدحهم كما هو الحال لدى
أئمة الأحناف. (3)
فصنف كل منهم في ثلب الرواة والطعن عليهم بطرق مختلفة، واتهموهم بما
يسقطهم.
ثانيا: تصنيف المؤلفات العديدة بين المختصر والمفصل في الفقه والحديث،
وطرق المناظرات، وجمع الغرائب والزوائد والأطراف، ليسدوا الطريق على
خصومهم.
ثالثا: تأليف الكتب في طبقات الرواة من كل المذاهب، مثل: طبقات المحدثين،
والفقهاء، والمفسرين، والشافعية، والحنفية، والحنابلة، والمالكية، ولكل منهم كتب
عديدة في الفخر بعلمائهم، وتاريخ حياتهم العلمية. فمن هذه المؤلفات: كتاب
للرامهرمزي «المحدث الفاصل»، وهو من أقدم الكتب المؤلفة في علوم الحديث
للطعن على المتكلمين وفي تعظيم أهل الحديث والدعوة إلى الوعي والفهم، وترك ما
يعاب به أهل الحديث، وأغلب موضوعاته حول المخاصمات التي ماج بها عصر



1 - أسماء الضعفاء والكذابين لابن شاهين: 184 رقم 184، المجروحين لابن حبان 3: 61، الضعفاء
الكبير للعقيلي 4: 285، الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي 7: 2472 رقم 1954، ميزان الإعتدال 4:
265 الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي 3: 163، الضعفاء والمتروكين للنسائي رقم 586، كتاب
الضعفاء لأبي نعيم الإصفهاني 154، ديوان الضعفاء والمتروكين للذهبي 2: 404.
2 - التبيين لأسماء المدلسين لسبط ابن العجمي: 77 رقم 64، طبقات المدلسين لابن حجر العسقلاني:
24 رقم 23.
3 - عمدة القاري بشرح البخاري للعيني، شرح معاني الآثار للطحاوي، الجرح على البخاري للدكتور
عمر كريم الحنفي البتنوي.
47
التأليف.
رابعا: تدوين المؤلفات في صحاح الأخبار، كالصحيحين وغيرهما، وسبب
تأليفهما يعود إلى كثرة الطعن من أهل الرأي والقياس على عدم حجية الأخبار، ولكثرة
الأخبار الموضوعة، وعدم وثاقة الرواة، والطعن على بعض الصحابة، مثل أبي هريرة
لعدم فقاهته عند مخاطبته للنبي (صلى الله عليه وآله).
وأن البخاري ومسلما وغيرهما من أرباب الصحاح اهتموا كثيرا بتصحيح
الأسناد دون المتون، إضافة إلى تحامل البخاري على إمام أهل الرأي أبي حنيفة وتفنيده
آراءه في الفقه. وعادة ما يشير بقوله: «وقال بعض الناس»، ونجد ذلك في كتاب «الحيل
في كتابه «الصحيح»، و «رفع اليدين في الصلاة»، و «القراءة خلف الإمام»، و «الهبة» في
مؤلفاته خارج «الصحيح» في أجزاء مستقلة، كما يأتي الكلام عن كل ذلك إن شاء الله
تعالى.
القرن الثالث
خطة المتوكل العباسي لنشر النصب
المتوكل الطاغية العباسي جعفر بن المعتصم محمد بن هارون المقتول سنة
247 ه‍
من أكثر خلفاء بني العباس عداء لأهل البيت، ورد في شأنه:
«وكان المتوكل شديد البغض لعلي بن أبي طالب ولأهل بيته، وكان يقصد من
يبلغه عنه أنه يتولى عليا وأهل بيته بأخذ المال والدم، وكان من جملة ندمائه عبادة
المخنث، وكان أصلع فيشد تحت ثيابه مخدة ويكشف رأسه ويرقص والمغنون
يغنون: قد أقبل الأصلع البطين خليفة المسلمين، يحكي بذلك علي بن أبي طالب،
والمتوكل يشرب ويضحك»!! (1)



1 - فنون الأرب للنويري 22: 282، الكامل لابن الأثير 4: 318 - 319.
48
وفي عهده ارتفعت أعلام النواصب، فافتتح أبواب النصب وخصص لهم بذلك
الأرزاق والصلات وأنواع الهدايا.
وكان يبغض من تقدمه من الخلفاء: المأمون، والمعتصم، والواثق في محبة علي
وأهل بيته، وينادمه ويجالسه جماعة ممن اشتهروا بالنصب والبغض لعلي، منهم: علي
بن الجهم الشاعر الشامي من بني لؤي عمر بن فرج الرخجي، وأبو السمط من ولد
مروان بن أبي حفصة من موالي بني أمية، وعبد الله بن محمد بن داود الهاشمي
المعروف بابن أترجة. (1)
ويذكر أن علي بن الجهم كان يلعن أباه لأنه سماه عليا.
وقال الذهبي: «له اختصاص زائد بالمتوكل». (2)
«في سنة ست وثلاثين ومائتين (236 ه‍) هدم المتوكل قبر الحسين، فقال
البسامي أبياتا منها:
أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا * في قتله فتتبعوه رميما (3)
وكان المتوكل فيه نصب وانحراف، فهدم هذا المكان وما حوله من الدور، وأمر
أن يزرع، ومنع الناس من إتيانه»؟! (4)
وسل لسان الإمام في اللغة والعربية يعقوب بن إسحاق بن السكيت صاحب



1 - الكامل في التاريخ لابن الأثير 4: 319.
2 - تاريخ الإسلام للذهبي، وفيات 142 -. 25 ص 355 - 356.
3 - البيت في «وفيات الأعيان» 3: 365، و «فوات الوفيات» 1: 292، و «تاريخ الخلفاء»: 347، ونسب
البيت في «النجوم الزاهرة» 2: 284 إلى يعقوب بن السكيت، وجاء في هذه المصادر قبل هذا البيت:
تالله إن كانت أمية قد أتت * قتل ابن بنت نبيها مظلوما
فلقد أتاه بنو أبيه بمثله * هذا لعمرك قبره مهدوما
أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا * في قتله فتتبعوه رميما
4 - سير أعلام النبلاء 12: 35، المنتظم لابن الجوزي 2: 237 وفيه «وأمر أن يبذر ويسقى موضع قبره،
وأن يمنع الناس من اتيانه».
49
«إصلاح المنطق»، المقتول سنة 244 ه‍ من قفاه حيث مات من ساعته! (1). قتله المتوكل
بسبب محبته لعلي بن أبي طالب (عليه السلام)، فإنه قال له يوما: أيما أحب إليك أنا وولداي:
المؤيد والمعتز، أم علي والحسن والحسين؟ فقال: والله إن شعرة من قنبر خادم علي
خير منك ومن ولديك، فأمر المتوكل الأتراك، فداسوا بطنه، فحمل إلى بيته ومات! (2)
وفي «النجوم الزاهرة»: «ورد على والي مصر (إسحاق بن يحيى) كتاب المنتصر
وأبيه الخليفة المتوكل، بإخراج الأشراف العلويين من مصر إلى العراق فأخرجوا،
وذلك بعد أن أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي وقبور العلويين. وفي سنة اثنتين
وأربعين ومائتين، تتبع الروافض بمصر وأبادهم وعاقبهم وامتحنهم وقمع أكابرهم،
وحمل منهم جماعة إلى العراق على أقبح وجه. ثم التفت إلى العلويين، فجرت عليهم
من شدائد من الضيق عليهم وأخرجهم من مصر». (3)
ولما مات المتوكل قام من بعده ابنه المنتصر (4)، فكتب إلى مصر: بأن لا يقبل
علوي ضيعة ولا يركب فرسا، وأن يمنعوا من اتخاذ العبيد، ومن كان بينه وبين أحد
الطالبيين خصومة قبل قول خصمه من سائر الناس فيه، ولم يطالب ببينة، وكتب إلى
العمال بذلك. (5)
أهم العلماء الذين اعتمد عليهم المتوكل
اتسم العصر العباسي بسمة ثابتة هي اضطهاده للعلويين باستثناء فترات وجيزة



1 - وفيات الأعيان 2: 310، تاريخ أبي الفداء 2: 40، النجوم الزاهرة 2: 342.
2 - النجوم الزاهرة لابن تغري 2: 380، سير أعلام النبلاء 12: 18، وفيات الأعيان 6: 397 - 398، تاريخ
أبي الفداء 2: 40.
3 - النجوم الزاهرة 2: 371.
4 - يذكر عن المنتصر حبه لأهل البيت وقد انتقد أباه لسخريته من الامام علي، ويعد موقفه هذا من
الأسباب التي فجرت الأزمة بين الابن والأب وانتهت إلى مصرع الأخير، ولاحسانه للعلويين راجع:
ابن الأثير 7: 116 ولعل الكتاب لو صح صدوره في عهد المتوكل موقع باسم ابنه ولي العهد!
5 - خطط المقريزي 4: 153.
50
جدا أملتها مصالح سياسية، ومع بدء خلافة المتوكل بدأت محنة أهل البيت بالتفاقم
ولقي شيعتهم صنوف القهر السياسي والاجتماعي والاقتصادي وبدأت حملة شعراء
في تجذير حالة رهيبة من العداء لأهل البيت..
كما بدأ الترويج للحديث النبوي بما يخدم أهداف الحاكمين فعلا شأن
المحدثين الذين وظفتهم السياسة في الرد على المعتزلة واخفاء مسحة شرعية على
البلاط العباسي.
فالمتوكل العباسي فتح أبواب قصره للمحدثين، وأمرهم بأن يحدثوا الناس
بأحاديث الرؤية والرد على المعتزلة، فقسمت بينهم الجوائز، وأجريت عليهم
الأرزاق. (1)
فالمتوكل منح حمايته للمحدثين، والمحدثون أطنبوا في تسطير الروايات
والقصص في المتوكل حتى بلغت مجلدات ضخمة وقد ورد في تاريخ بغداد:
«أنه أشخص الفقهاء والمحدثين، فكان فيهم: مصعب الزبيري، وإسحاق بن أبي
إسرائيل، وإبراهيم بن عبد الله الهروي، وعبد الله وعثمان ابني محمد بن أبي شيبة،
فقسمت بينهم الجوائز، وأجريت عليهم الأرزاق، وأمرهم المتوكل أن يجلسوا للناس
ويحدثوا بالأحاديث التي فيها الرد على المعتزلة والجهمية، وأن يحدثوا بالأحاديث
في الرؤية. فجلس عثمان بن محمد بن أبي شيبة في مدينة أبي جعفر المنصور، ووضع
له منبر واجتمع عليه نحو من ثلاثين ألفا من الناس، وجلس أبو بكر بن أبي شيبة في
مسجد الرصافة، وكان أشد تقدما من أخيه عثمان، واجتمع عليه نحو من ثلاثين
ألفا». (2)



1 - تاريخ بغداد 10: 66، تاريخ الإسلام للذهبي - وفيات 231 - 240: ص 230، سير أعلام النبلاء 12:
34.
2 - تاريخ بغداد 10: 66، تاريخ الإسلام - وفيات 230 - 240 ص 230.
51
ومصعب الزبيري المتوفى 236 ه‍، هو عم الزبير بن بكار.
قال ابن الأثير: «وكان عالما فقيها، إلا أنه كان منحرفا عن علي (عليه السلام)». (1)
وإسحاق بن أبي إسرائيل المتوفى 245 ه‍، وهو من مشايخ البخاري،
روى الذهبي بسنده عن محمد بن يحيى المكي، أنه قال: «إسحاق بن إسرائيل:
ذاك أحمق». (2)
وروى ابن الجوزي: «عن إبراهيم المدبر الكاتب، أنه قال: كنا عند المتوكل
فدخل عليه إسحاق بن أبي إسرائيل، فقال: يا أمير المؤمنين! حدثنا الفضيل بن عياض
عن هشام بن حسان، عن الحسن أنه قال: المصافحة تزيد المودة، فمد المتوكل يده
حتى صافحه». (3)
وترى روايات ابني أبي شيبة في البخاري وأبي إسرائيل في كتبه الأخرى فيما
يرضي به المتوكل وأعوانه من المنحرفين والنواصب.
كما أنه روى عن «عثمان بن أبي شيبة» رواية تصديق النبي (صلى الله عليه وآله) فيما اعتقد بها
الحبر اليهودي في التجسيم والرؤية!
وهو قوله: «حدثنا عثمان بن أبي شيبة: حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم،
عن عبيدة، عن عبد الله قال: جاء حبر من اليهود، فقال: إنه إذا كان يوم القيامة جعل الله
السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والماء والثرى على إصبع، والخلائق
على إصبع، ثم يهزهن، ثم يقول: أنا الملك! أنا الملك!
فلقد رأيت النبي (صلى الله عليه وسلم) يضحك حتى بدت نواجذه تعجبا وتصديقا لقوله»!. (4)
وهذه الرواية أوردها البخاري في ما يزيد على خمسة موارد، وفي بعضها:



1 - الكامل في التاريخ لابن الأثير 4: 320.
2 - تاريخ الإسلام للذهبي وفيات 241 - 250 ص 170 رقم 83.
3 - المنتظم لابن الجوزي 11: 207.
4 - صحيح البخاري ط باموق استانبول 8: 202، باب كلام الرب يوم القيامة.
52
«جاء الحبر إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقال: يا محمد! إن الله يضع السماء على
إصبع...» (1).
وفي بعضها: «جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) من أهل الكتاب، فقال: يا أبا القاسم! إن
الله يمسك السموات على إصبع...»! (2)
ونعود إلى صلب الموضوع في تعاون المحدثين والحكام للقيام ضد حركة أهل
الرأي من أصحاب أبي حنيفة. فلما أحس الحكام تفوق علماء الحنفية في المنازعات
والمناظرات على المحدثين، أخذت طائفة منهم في بعض الأدوار لزوم هذا المذهب،
واستخدموا قضاتهم على المناصب المهمة، ولذلك نرى كثيرا من المحدثين
يستبدلون مذهبهم من الشافعي إلى الحنفي، وبالعكس.
وهذا التلون والتبدل في المذهب لدى الأمراء والمحدثين إنما يتبع اتجاه
الخليفة الفكري والسياسي. (3)
وكما أشرنا أن المحدثين أيضا قد استعانوا في كتبهم الحديثية ببيان آرائهم
ونظراتهم الاجتهادية ولقنوها أبناءهم، فلما رأى أبو حنيفة وأصحابه ذلك اشتدوا
وتصلبوا في العمل بالقياس واهتموا بالحديث، لمواجهة الخصوم، وما يتهمهم به
المحدثون من جهل بالحديث، أو إنكار التصحيح عنه.
فنرى بعد ذلك أصحاب أبي حنيفة، أبا يوسفهم القاضي والشيباني يقبلان
الحديث، وعلى أثرهما أبو جعفر الطحاوي صاحب كتاب «مشكل الآثار»، إذ جمع بين



1 - صحيح البخاري - ط باموق - 8: 186 - باب إن الله يمسك السماوات.
2 - صحيح البخاري - ط باموق - 8: 174 - باب قول الله: لما خلقت بيدي.
3 - أما في الخلفاء فأمر طبيعي لأنهم أصحاب الدنيا والجاه، فيتبعون لذلك القضاة، وغالبا في المذهب
فيما يجتمع عليه أكثر الناس، وفي المحدثين أيضا طائفة كبيرة قد بدلوا وغيروا مذاهبهم، كما نرى ذلك
في ابن المديني وابن معين، والبخاري، وابن أبي داود، وابني أبي شيبة وآخرين هكذا في الطبقات
الأخرى، فانظر كتاب «نظرة تاريخية في حدوث المذاهب الأربعة وانتشارها» لأحمد تيمور، وكتاب
«الخطط» للمقريزي، وكتاب «ذيل طبقات الحنابلة» لابن رجب، وكتاب «تاريخ أهل الحديث»
للدهلوي المدني، وغير ذلك.
53
الإمامة في الحديث والإمامة في الفقه والاجتهاد.
دور البخاري وأهداف المتوكل
لقد نشب صراع داخلي بين أصحاب المدارس الإسلامية، أعني بين أصحاب
الحديث، وأصحاب الكلام من المعتزلة، وأصحاب مدرسة القياس في العراق، فلما
رأى المحدثون أن الزمام أفلت من أيديهم، وأن المعارف التي كانت تخضع
لسيطرتهم، أخذت تجنح إلى الانفصال، وتنهج نهج أصحاب الرأي والنظر في إقلالهم
من الرواية، واعتدادهم بأحكام العقل، فقاموا ضدها وأثاروها خصومة عنيفة، وطالت
الخصومة، واشتدت، وراح كل فريق يستند إلى خليفة، ويحتمي بسلطان، ويسخر
قواه للتنكيل بصاحبه، وكانت هذه الخصومة على أشدها بين الحجازيين والعراقيين (1)
فلما جاء دور المتوكل، حقق معظم أهدافه في طريقة تدوين الحديث والسنة النبوية،
وقد تحقق ذلك ولا ريب في أن شيوخ البخاري هم المقربون والمقدمون على غيرهم
في عصر المتوكل، وأنهم الواسطة بينه وبين سائر العلماء. ومثل البخاري في عصر
أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، وابن أبي شيبة وأخيه عثمان،
وإسحاق بن أبي إسرائيل، ومصعب الزبيري، وابن أبي الشوارب، ودحيم، وإسحاق بن
راهويه، كانت رتبته متأخرة عن هؤلاء، لأنهم قد اشتهروا في البلاد ويؤخذ عنهم العلم
ويعمل بأحاديثهم، واشتهار البخاري جاء بعدهم وبعد كتابته للصحيح، وهو ما أشار
اليه في قوله: ابن حجر: «... وخرج إلى خراسان ووضع كتابه «الصحيح» فعظم شأنه
وعلا ذكره». (2)
وأما أهداف المتوكل في أمر السنة:
قال خليفة بن خياط: «استخلف المتوكل، فأظهر السنة، وتكلم بها في مجلسه،



1 - تاريخ أبي الفداء 2: 5، تمهيد لتاريخ الفلسفة: 205 - 206، مدرسة الكوفة للمخزومي: 49.
2 - تهذيب التهذيب 9: 47.
54
وكتب إلى الآفاق برفع المحنة، وبسط السنة، ونصر أهلها...». (1)
وقال الذهبي: «وفي سنة 234 ه‍ أظهر المتوكل السنة، وزجر عن القول بخلق
القرآن، وكتب بذلك إلى الأمصار، واستقدم المحدثين إلى سامراء، وأجزل صلاتهم،
ورووا أحاديث الرؤية والصفات». (2)
وكان إبراهيم بن محمد التيمي قاضي البصرة يقول: «الخلفاء ثلاثة: أبو بكر
الصديق يوم الرده، وعمر بن عبد العزيز في رد مظالم بني أمية، والمتوكل في محو البدع
وإظهار السنة». (3)
والمراد بالسنة التي أظهرها المتوكل هي:
- المنع من القول بخلق القرآن، ورفع الامتحان عن العلماء في ذلك.
- إشاعة الأخبار في التشبيه والتجسيم.
- شدة النصب والعداوة لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) ومطاردة الشيعة.
- شدة القول على المعتزلة والجهمية، والأمر بكثرة التحديث في الرد عليهما.
وهذه الأمور بالنسبة إلى أهميتها لديه وشدة اعتنائه بها في عمله صارت سببا
لاشتهار ذكره، وإعظامه في أعين المحدثين، وأصابهم ريح التغيير فتلبسوا بما يدعوهم
إليه المتوكل، حتى لقبوه: بمظهر السنة!!
وأما البخاري فإنه أظهر موافقته على جميع ما أمر به المتوكل المحدثين من أمر
السنة، عند ما ورد البصرة أيام ابن أبي الشوارب، (4)
فإنه يقول: «وكان دخولي البصرة أيام محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب». (5)



1 - سير أعلام النبلاء 12: 31.
2 - سير أعلام النبلاء 12: 34.
3 - تاريخ الإسلام للذهبي وفيات 241 - 250 ص 196 - 197.
4 - هو المحدث أبو عبد الله محمد بن عبد الملك الأموي البصري المتوفى 244 ه‍، من الذين أشخصهم
المتوكل، وأمرهم أن يحدثوا، وأجزل لهم الصلات. سير أعلام النبلاء 11: 104
5 - سير أعلام النبلاء 12: 410.
55
«وكان ابن أبي الشوارب هذا من القضاة المحامين والمروجين للمتوكل». (1)
وفي رحلاته الأربعة إلى البصرة، وكثرة أسفاره إلى بغداد في المحنة والشدة
على العلماء في عصر المتوكل وقبله، لم يتعرض البخاري إلى مثل ذلك الامتحان، ولا
أثر يدل على وروده في ذلك، كما نشاهد أقرانه وبعض شيوخه في المحنة والشدة
عليهم عند ما عرضوا للمسألة والامتحان.
فمن يقرأ ترجمة بعض شيوخ البخاري، مثل: ابن المديني، وابن حنبل، وابن
معين، يصل إلى ما نقول: من أن البخاري لم يبتل بمثل ما ابتلي به بعض هؤلاء المشايخ
في المحنة وبعدها.
وقد نرى أيضا في البخاري كثرة روايته عن الأمويين والمشهورين بالنصب،
والعباسيين أيضا عن مشايخه من أصحاب المتوكل!!
وسيأتي الحديث فيما يتعلق بموافقاته في الرد على المعتزلة من شدة ولعه في
نشر أحاديث التشبيه والتجسيم على وجه استنكرها بعض من يتولاه، كما نشاهد ذلك
في باب «عقيدته في التوحيد».



1 - سير أعلام النبلاء 11: 103 رقم 32.
56
الفصل الثاني
أبو حنيفة

57
يجمل بنا ونحن نتحدث عن عقدة البخاري من أبي حنيفة، أن نستعرض موجز
من تاريخهما بنحو الإجمال والإشارة، لكي نتعرف حقيقة نشوء فكرتهما في الدين
وآثارها بين المسلمين.
ولد أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطي الكوفي سنة 80 ه‍، وتوفي سنة 150 ه‍.
من أصل فارسي من مدينة «نسا» أو «ترمذ» (1).
أسس مذهب العمل بالرأي والقياس، وصار إماما لأحد المذاهب الإسلامية.
وللعلماء والمفكرين في أبي حنيفة وآرائه وعلل اتخاذه مذهب الرأي والقياس
نظريات نذكر بعضها:
1 - وجود عبد الله بن مسعود في الكوفة واتخاذه العمل بالرأي والاجتهاد،
ولذلك قالوا: «إن ابن مسعود الذي يعد واحدا من الفقهاء الأساسيين، الذي اتخذ - فيما
بعد - أبو حنيفة فقهه كأصل من أصول مذهبه». (2)
«كان عالما مشهورا في الكوفة حيث أرسله الخليفة عمر معلما هناك، (3) وقام
بعقد حلقات دراسية منظمة للحديث في مسجد المدينة (4)، وظل المكان الذي اعتاد أن
يعقد فيه حلقات الدراسة أثرا من الآثار الهامة حتى سنة 345 ه‍، وذلك عندما زاره



1 - سير أعلام النبلاء 6: 390 رقم 163.
2 - كتاب الآثار لأبي يوسف: ص 212.
3 - تذكرة الحفاظ 1: 14، منهاج السنة 4: 142 - 157.
4 - طبقات ابن سعد 3: 110 - معرفة علوم الحديث للحاكم: 191 - 192.
59
الحاكم النيسابوري، أثناء زيارته للكوفة». (1)
وعليه يعد نشر العلم بالكوفة - بداية الأمر - اعتمادا على الفكر والرأي بواسطة
إقامة الصحابي عبد الله بن مسعود المتوفى سنة 33 ه‍.
2 - عدم تمييز الأخبار الصحاح لكثرة الموضوعات والمكذوبات في الأخبار.
3 - ابتعاد الكوفة عن المدينة موطن الصحابة الأصلي وحرمانها من ينابيع
الحديث.
4 - الأخذ بطائفة من الأخبار مثل:
أ - «من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار». (2)
ب - «إتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله». (3)
فاجتناب الكذب والافتراء يعد من أسباب اهمال الأخبار والأخذ بجانب الرأي
والنظر.
5 - إعانة السلطة الجائرة لمروجي المخالفين للأخبار على تهيئة أسباب نشر
أفكارهم بأي نحو كان، وباستخدام القضاة، أو بنشر رسالاتهم إلى البلاد.
6 - إظهار المخالفة لأهل البيت النبوي صلوات الله عليهم، ولأخبارهم المنتشرة
بأيدي مواليهم، ولا سيما في بغداد والكوفة.
7 - إظهار الخلاف لما نشر بعض الصحابة من السنن في العمل بالرأي.
ولكل هذه الأمور دور واضح في بداية نشوء فكرة الرأي والنظر، ولكن العامل
الرئيسي في تأسيس المذاهب والفرق هو ظهور المروجين والمبلغين المتحمسين
لفكر ما أو لشخص.



1 - دلائل التوثيق المبكر للسنة والحديث، لامتياز أحمد: 200.
2 - صحيح البخاري 1: 52 رقم 107، 1: 434 رقم 1229.
3 - سنن الترمذي 5: 298 رقم 3127، المعجم الكبير 8: 102 رقم 7497، مسند الشهاب 1: 387 رقم
387.
60
وقد بدأ ذلك في إقامة عبد الله بن مسعود في الكوفة، وترويجه للرأي والنظر،
وجاء بعده علقمة بن قيس النخعي، والأسود بن يزيد النخعي، ومن بعدهما إبراهيم بن
يزيد النخعي مروج الرأي والنظر في الطعن على الأخبار، وفي ثلب الصحابة، خاصة
أبي هريرة وقال فيه: «إنه لم يكن فقيها».
ثم أخذ حماد بن أبي سليمان علمه من إبراهيم النخعي، وحماد بن أبي سليمان
الكوفي هو أيضا شيخ أبي حنيفة.
وهذه السلسلة في تأسيس مذهب الرأي شكلت رؤساء مذهب أبي حنيفة. نعم!
كان أبو حنيفة أقدرهم في استخدام القياس، أو ترجيحه على الحديث وأخبار الآحاد.
أبو حنيفة وولاؤه للعلويين
قال الشرقاوي: ولقد شهد أبو حنيفة في طفولته فظائع الحجاج والي العراق
وبطشه بكل من يعارض الأمويين حتى الفقهاء الأجلاء، فدخل في نفسه منذ صباه
عزوف عن الأمويين واستنكار لاستبدادهم، ورفض للطغيان... ثم إنه ورث عن أبيه
وأمه حبا لآل البيت، فما كان في ذلك العصر رجال ينبذون التفرقة بين المسلمين
العرب وغير العرب إلا آل البيت. وقد تمكن حب آل البيت من قلبه عندما تعرف على
أئمتهم وتلقى عنهم، وعندما عاين أشكال الاضطهاد التي يكابدونها في كل نهار
وليل!..
حتى لقد شاهد الإمام الصادق واقفا يستمع إليه وهو يفتي في المدينة فوقف
قائلا: «يا ابن رسول الله، لا يراني الله جالسا وأنت واقف». (1)
أما عن مواقفه في تأييد آل البيت فقد أعلن أن العلويين أولى بالحكم من
العباسيين، وجاهر بالإنحياز إلى العلويين. ولم يكتم هذا الميل قط، وظل يذيعه بلا
تهيب!



1 - أئمة الفقه التسعة: 58، وقال في ذلك الذهبي: أنه قال: ما رأيت أحدا أفقه من جعفر بن محمد... سير
أعلام النبلاء 6: 257.
61
على أن الموقف ليس جديدا عليه، فقد أيد ثورة الإمام زيد بن علي زين
العابدين بن الحسين أيام الحكم الأموي، وسمى خروج زيد جهادا في سبيل الله وشبهه
بيوم بدر وحاول أن يخرج مع الإمام زيد، ولكن كانت لديه ودائع للناس أراد أن يسلمها
لابن أبي ليلى فرفض، ولم يجد أبو حنيفة إلا ماله يجاهد به فأرسل إلى الإمام زيد مالا
كثيرا يمير به جيشه ويقويه.
وحين ولي العباسيون أيدهم أول الأمر، ولكنهم بطشوا بمعارضيهم وصادروا
حرية الرأي ونكلوا بالعلويين، ونكلوا عن العدل الذي بايعهم عليه فأعلن عدم رضاه
عنهم في حلقات الدروس...
وكان المنصور قد جمع رؤوس العلويين وسجنهم وصادر أموالهم وأراضيهم،
ثار العلويون بقيادة محمد النفس الزكية وأخيه إبراهيم بن عبد الله فبعث المنصور
جيشا ضخما ليحصد العلويين.
أعلن أبو حنيفة تأييده للثورة وبكى مصائر العلويين بعد أن نجح المنصور في
إخماد الثورة والقضاء على قائديها وفتك بأهل المدينة المنورة الذين أيدوا الثورة.
وكان عبد الله بن الحسن شيخ أبي حنيفة والد محمد النفس الزكية وإبراهيم في
سجن المنصور يعذب حتى الموت.
وحين مات أعلن أبو حنيفة في حلقته أن واحدا من أفضل أهل زمانه قد
استشهد في سجنه وبكاه وأبكى عليه. (1)
وكان ينتقد أخطاء ابن أبي ليلى نقدا أوغر عليه صدر الرجل... حتى نقد حكما
فاحش الخطأ فانفجر غضب ابن أبي ليلى... وذهب ابن أبي ليلى إلى الخليفة يشكو أبا
حنيفة واتهمه بأنه لا يفتأ يهينه ويظهره للناس بمظهر الجاهل، وفي ذلك إهانة للخليفة



1 - أئمة الفقه التسعة: 67.
62
نفسه لأن ابن أبي ليلى إنما ينوب عن الخليفة في القضاء والحكم بين الناس.... (1)
ويقول الشرقاوي: كان خصوم أبي حنيفة صنفين:
1 - بعض الفقهاء ممن وجدوا انصراف الناس عن حلقاتهم إلى حلقة أبي
حنيفة.
2 - وحكام ذلك الزمان. أما أعداء أبي حنيفة من الفقهاء فقد كان على رأسهم ابن
أبي ليلى وتابعه ابن شبرمة.
كان أعداؤه فقهاء للدولة في العصر الأموي، حتى إذا جاء العصر العباسي
تحولوا إلى الحكام الجدد، واحتالوا عليهم بالنفاق حتى أصبحوا هم أهل الشورى،
يزينون للحكام الجدد كل ما زينوه للحكام السابقين من طغيان وعدوان وبغي
واستغلال وبطش بالمعارضين... على أن ميل أبي حنيفة إلى الأئمة من آل البيت أوغر
عليه صدور الأمويين والعباسيين على السواء، ففي العصر الأموي قالوا: «أن تكون
كافرا أو مشركا خير من أن تكون علويا. (2)
فانتهزوا الفرصة فأوغروا صدر الخليفة وأوحوا إليه أن يقضي على أبي حنيفة
واتهموه بإثارة الفتنة، وتثبيط قواد الجيش وتأليب العامة على ولي الأمر، وتكوين
حلقة من الفقهاء كلهم يدعو إلى الثورة على الخليفة...
وكان من هؤلاء الخصوم من أفتى: بأن تلاميذ أبي حنيفة خارجون على
ولي الأمر ومرتدون عن الإسلام، فأن يقال إن بالحي خمارا خير من أن يقال إن فيه أحدا
من أصحاب أبي حنيفة. (3)



1 - أئمة الفقه التسعة: 62.
2 - نفس المصدر السابق: 63.
3 - نفس المصدر السابق: 73.
63
أبو حنيفة في ميزان الجرح والتعديل
اختلفت فيه الآراء: فهو عند بعض كان من الأئمة الثقات، كما وثقه ابن معين،
ومدحه بعض آخر بالحلم وحسن السمت (1)، والأكثر على تضعيفه وتكذيبه.
قال محمد بن سعد العوفي: «سمعت يحيى بن معين يقول: كان أبو حنيفة ثقة لا
يحدث بالحديث إلا بما يحفظه، ولا يحدث بما لا يحفظ.
وروى أحمد بن محمد بن القاسم بن محرز عن ابن معين: «كان أبو حنيفة لا
بأس به».
وقال مرة: «هو عندنا من أهل الصدق». (2)
ولابن معين فيه تضعيف سيأتي في كلمات الجارحين.
وقال ابن المبارك: «أبو حنيفة أفقه الناس». (3)
وقال الخريبي: «ما يقع في أبي حنيفة إلا حاسد أو جاهل». (4)
وقال الشافعي: «الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة». (5)
وقال أبو معاوية: «حب أبي حنيفة من السنة، وهو من العلماء الذين امتحنوا في
الله». (6)
وقال محمد بن شجاع: «سمعت علي بن عاصم يقول: لو وزن عقل أبي حنيفة
بعقل نصف الناس لرجح بهم». (7)
وقد دعا المنصور أبا حنيفة إلى القضاء فامتنع، فقال: أترغب عما نحن فيه؟
فقال: لا أصلح.



1 - السمت: القصد والمذهب في الدين، اللسان 2: 46 [سمت].
2 - سير أعلام النبلاء 6: 390 رقم 163.
3 - سير أعلام النبلاء 6: 403، تاريخ الإسلام سنوات 141 - 160 ص 312
4 - سير أعلام النبلاء 6: 403.
5 - تاريخ الإسلام للذهبي: وفيات 141 - 160 ص 307.
6 - نفس المصدر السابق: 310
7 - نفس المصدر السابق: 312.
64
قال: كذبت!
قال أبو حنيفة: فقد حكم أمير المؤمنين على أني لا أصلح، فإن كنت كاذبا فلا
أصلح، وإن كنت صادقا فقد أخبرتكم أني لا أصلح.
فحبسه، ووقع لأبي حنيفة بسبب القضاء أمور مع المنصور، وهو على امتناعه
إلى أن مات. (1)
وقيل لمأمون بن أحمد المروزي: ألا ترى إلى الشافعي وإلى من نبغ [تبع] له
بخراسان؟ فقال: حدثنا أحمد بن عبيد الله: حدثنا عبيد الله بن معدان الأزدي عن أنس،
قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «يكون في امتي رجل يقال له: أبو محمد بن إدريس أضر على
امتي من إبليس! ويكون في امتي رجل يقال له: أبو حنيفة، هو سراج امتي»!! (2)
نعم! فإن الأهواء كانت وراء نشر الخلاف بين الناس فتجسدت في أقلام
الوضاعين والجعلة يرفعون ويضعون كما يحلو لهم.
وقال التاج السبكي: «إن أهل التاريخ ربما وضعوا من أناس، أو رفعوا من أناس،
بالتعصب أو الجهل، أو لمجرد اعتماد على نقل من لا يوثق به، أو غير ذلك من
الأسباب». (3)
المحدثون وجرح أبي حنيفة
ولا شبهة لدى أحد من المفكرين المطلعين على آراء المحدثين وأرباب
التصانيف من أهل الجرح والتعديل، بأن أكثرهم أوردوا اسم أبي حنيفة في كتبهم ضمن
الضعفاء، وضعفوه. (4)



1 - النجوم الزاهرة 2: 18.
2 - جامع الأصول لابن أثير الجزري 1: 44، والحديث ذكر في الموضوعات.
3 - توشيح الديباج وحلية الإبتهاج للقرافي: 42.
4 - أسماء الضعفاء والكذابين لابن شاهين: 184 رقم 645، المجروحين لابن حبان 3: 61، الضعفاء
الكبير للعقيلي 4: 285، الكامل في ضعفاء الرجال 7: 2472 رقم 1954، ميزان الإعتدال 4: 265،
التأريخ الصغير للبخاري 2: 43.
65
وكان أشدهم مخالفة له البخاري في كتبه المتعددة إذ لا يخفي نفوره منه.
قال في التاريخ الصغير: «حدثنا نعيم بن حماد، قال: حدثنا الفزاري، قال:
كنت عند سفيان فنعي النعمان، فقال: الحمد لله، كان ينقض الإسلام عروة عروة، ما
ولد في الإسلام أشأم منه»! (1)
وقال ابن عبد البر في كتاب: «الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء»:
«فممن طعن عليه وجرحه: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، فقال في
كتابه «الضعفاء والمتروكين»: أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، قال نعيم بن
حماد: حدثنا يحيى بن سعيد ومعاذ بن معاذ: سمعنا سفيان الثوري يقول: استتيب
أبو حنيفة من الكفر مرتين.
وقال نعيم عن الفزاري، كنت عند سفيان بن عيينة، فجاء نعي أبي حنيفة،
فقال: لعنه الله! كان يهدم الإسلام عروة عروة، وما ولد في الإسلام مولود أشر منه.
هذا ما ذكره البخاري». (2)
جدير ذكره أن هذه العبارة ليست موجودة في كتاب «الضعفاء والمتروكين»
للبخاري المطبوع اليوم، ولعلها موجودة في نسخة أخرى غير ما بأيدينا، أو لعل له كتابا
آخر في «الضعفاء» ولم نظفر بها حتى الآن، ولعلها مفقودة (3).
وقال الخطيب في «تاريخ بغداد»: «حدثنا إبراهيم الفزاري، قال: كنت عند
سفيان الثوري، إذ جاءني نعي أبي حنيفة، فقال: الحمد لله الذي أراح المسلمين منه،
لقد كان ينقض عرى الإسلام عروة عروة، ما ولد في الإسلام مولود أشأم على
الإسلام منه». (4)



1 - التأريخ الأوسط (الصغير) 2: 98 رقم 1940 - 1941.
2 - الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء: 149، المجروحين لابن حبان 3: 66، التنكيل للمعلمي
اليماني: 145 ط الثانية بيروت مع تعاليق الألباني وزهير الشاويش.
3 - راجع «وقفة مع البخاري» للمؤلف.
4 - تاريخ بغداد 13: 399 - 418 - 419.
66
قال الجوزجاني في أحوال الرجال: «أبو حنيفة لا يقنع بحديثه ولا برأيه». (1)
قال ابن حبان في المجروحين: «النعمان بن ثابت أبو حنيفة الكوفي صاحب
الرأي كان مولده سنة ثمانين في سواء (2) الكوفة... ومات سنة خمسين ومائة ببغداد،
وقبره في مقبرة الخيزران... لا يجوز الاحتجاج به، لأنه كان داعيا إلى الإرجاء، والداعية
إلى البدع لا يجوز أن يحتج به عند أئمتنا قاطبة، لا أعلم بينهم فيه خلافا - على أن أئمة
المسلمين وأهل الورع في الدين في جميع الأمصار وسائر الأقطار جرحوه وأطلقوا
عليه القدح - إلا الواحد بعد الواحد. قد ذكرنا ما روي فيه من ذلك في كتاب «التنبيه على
التمويه»، فأغنى ذلك عن تكرارها في هذا الكتاب». (3)
وعن أبي يوسف: «أول من قال: القرآن مخلوق أبو حنيفة». (4)
وقال معاذ بن معاذ العنبري: «سمعت سفيان الثوري يقول: استتيب أبو حنيفة
من الكفر مرتين». (5)
وقال مؤمل بن إسماعيل: «سمعت سفيان الثوري يقول: أبو حنيفة غير ثقة، ولا
مأمون». (6)
وقال مبشر بن عبد الله بن رزم النيسابوري: كتب إلينا إبراهيم بن طهمان من
العراق: أن امحوا ما كتبتم عني من آثار أبي حنيفة». (7)
وقال ابن المبارك: «كان أبو حنيفة في الحديث يتيما». (8)



1 - أحوال الرجال: 75 رقم 95.
2 - أرض سواء: السهلة المستوية، وسواء: متوسط بين المكانين، اللسان 14: 412 [سوا].
3 - المجروحين لابن حبان 3: 61 - 73.
4 - نفس المصدر السابق: 61.
5 - نفس المصدر السابق.
6 - نفس المصدر السابق.
7 - نفس المصدر السابق.
8 - نفس المصدر السابق.
67
وقال ابن حبان: أخبرنا الحسين بن إدريس الأنصاري، قال حدثنا محمد بن علي
الثقفي، قال: سمعت إبراهيم بن شماس يقول: ترك ابن المبارك أبا حنيفة في آخر
عمره». (1)
قال ابن الجوزي في «كتاب الضعفاء والمتروكين»: النعمان بن ثابت أبو حنيفة
قال سفيان الثوري: ليس بثقة.
وقال يحيى بن معين: لا يكتب حديثه، وقال مرة أخرى: هو أنبل من أن يكذب.
وقال النسائي: ليس بالقوي في الحديث، وهو كثير الغلط والخطأ على قلة
روايته. وقال النضر بن شميل: هو متروك الحديث.
وقال ابن عدي: عامة ما يرويه غلط وتصحيف وزيادات، وله أحاديث صالحة،
وليس من أهل الحديث. (2)
وقال النسائي في الضعفاء والمتروكين: «النعمان بن ثابت أبو حنيفة ليس
بالقوي في الحديث، كوفي». (3)
وقال أبو نعيم الإصفهاني في كتاب الضعفاء: «النعمان بن ثابت أبو حنيفة مات
ببغداد سنة خمسين ومائة، قال بخلق القرآن، واستتيب من كلامه الرديء غير مرة، كثير
الخطأ والأوهام». (4)
وقال الذهبي في ديوان الضعفاء والمتروكين: «النعمان الإمام رحمه الله»:
قال ابن عدي: «عامة ما يرويه غلط وتصحيف وزيادات، وله أحاديث صالحة».
وقال النسائي: «ليس بالقوي في الحديث، كثير الغلط على قلة روايته».



1 - المجروحين 3: 61.
2 - الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي 3: 163 رقم 3539 ط دار الكتب العلمية بيروت.
3 - الضعفاء والمتروكين للنسائي: ص 233 رقم 614 ط مؤسسة الكتب الثقافية.
4 - كتاب الضعفاء - لأبي نعيم الإصفهاني: 154 رقم 255 ط دار البيضاء / المغرب.
68
وقال ابن معين: «لا يكتب حديثه». (1)
وقال ابن عدي في الكامل في ضعفاء الرجال: «النعمان بن ثابت أبو حنيفة
التميمي الكوفي... سمعت ابن أبي داود يقول: الوقيعة في أبي حنيفة إجماع من العلماء،
لأن إمام البصرة أيوب السختياني وقد تكلم فيه، وإمام الكوفة الثوري وقد تكلم فيه،
وإمام الحجاز مالك وقد تكلم فيه، وإمام مصر الليث بن سعد وقد تكلم فيه، وإمام الشام
الأوزاعي وقد تكلم فيه، وإمام خراسان عبد العزيز مبارك وقد تكلم فيه. فالوقيعة فيه
إجماع من العلماء في جميع الآفاق، أو كما قال». (2)
وقال ابن عبد البر: «وكثير من أهل الحديث استجازوا الطعن على أبي حنيفة
لرده كثيرا من أخبار العدول، لأنه كان يذهب إلى عرضها على ما أجمع عليه من
الأحاديث ومعاني القرآن، فما شذ عن ذلك رده وسماه شاذا، وكان مع ذلك يقول:
الطاعات من الصلاة وغيرها لا تسمى إيمانا، وكل من قال من أهل السنة: الإيمان قول
وعمل ينكرون قوله ويبدعونه بذلك، وكان مع ذلك محسودا لفهمه وفطنته». (3)
وفي كتاب «العلل ومعرفة الرجال» مسائل الإمام أحمد بن حنبل: «حدثني أبي
قال: حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال: سمعت حماد بن مسلم يقول: وذكر أبا حنيفة، فقال:
إن أبا حنيفة استقبل الآثار والسنن يردها برأيه». (4)
«حدثني أبي قال: حدثنا مؤمل قال: سمعت سفيان الثوري، قال:
استتيب أبو حنيفة مرتين». (5)
وفي رواية: «تكلم بكلام فرأى الصحابة أن يستتيبوه فتاب». (6)



1 - ديوان الضعفاء والمتروكين للذهبي 2: 404 رقم 4389 ط دار العلم بيروت.
2 - الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي 7: 5 رقم 1954 ط دار الفكر بيروت.
3 - الانتقاء لابن عبد البر: 149، جامع بيان العلم 2: 148 - 149.
4 - الجامع في العلل ومعرفة الرجال 2: 51 رقم 428 ورقم 1775 ط مؤسسة الكتب الثقافية، لبنان.
5 - الجامع في العلل ومعرفة الرجال 2: 51 رقم 429 ورقم 1776
6 - نفس المصدر رقم 430.
69
وفي رواية أخرى: «قال شريك: لأن يكون في كل ربع من أرباع الكوفة خمار
خير من أن يكون فيه من يقول برأي أبي حنيفة». (1)
وفي رواية أبي معمر عن الوليد بن مسلم، قال: «قال لي مالك بن أنس: أيذكر أبو
حنيفة ببلدكم؟ قلت: نعم!
قال: ما ينبغي لبلدكم أن يسكن..» (2)
والعقيلي في الضعفاء الكبير: «حدثنا عبد الله بن أحمد، قال سمعت أبي يقول:
حديث أبي حنيفة ضعيف ورأيه ضعيف». (3)
وعن أحمد بن الحسن الترمذي فإنه يقول: «سمعت أحمد بن حنبل يقول: أبو
حنيفة يكذب». (4)
حدثني أبو معمر قال: «قيل لشريك: مما استتبتم أبا حنيفة؟ قال: من الكفر». (5)
«سألت أبي عن محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة صاحب الرأي. قال: لا
أروي عنه شيئا». (6)
وكذا في كتاب العلل ومعرفة الرجال (7) عن أحمد بن حنبل المطبوع في
دار الخاني «الرياض»، يذكر فيه آراء الأئمة في أبي حنيفة، هذه جملة منها:



1 - نفس المصدر السابق رقم 432 ورقم 1325، وفيه: «حماد» بدلا من «خمار».
2 - نفس المصدر السابق 2: 51 رقم 1323 ورقم 1325.
3 - الضعفاء الكبير 4: 285.
4 - نفس المصدر السابق 4: 285.
5 - الجامع في العلل ومعرفة الرجال 2: 173 رقم 1609.
6 - الجامع في العلل ومعرفة الرجال 2: 200 رقم 1862.
7 - العلل ومعرفة الرجال للإمام أحمد بن حنبل، المطبوع في أربعة مجلدات، ط دار الخاني الرياض.
70
1 - استخفاف ابن مهدي رأيه، رقم 12568.
2 - قول ابن عيينة فيه: ليس بأهل للفتوى رقم 2456.
3 - قول حماد فيه: استقبل الآثار والسنن يردها برأيه، رقم 3586، 5224.
4 - استتابته مرتين: رقم 3587، 3588، 5225.
5 - قول الأوزاعي فيه: ما ولد في الإسلام مولود أضر على الإسلام من أبي حنيفة،
رقم 3589.
6 - شدة قول شريك فيه: رقم 3593، 3594، 4236.
7 - قول مالك فيه: كاد الدين كاد الدين، رقم 4734.
8 - نسبة بعض الأقوال الشنيعة إليه، رقم 5230.
هذا وقد يقال إن أصحاب الشافعي يفرطون في الطعن على أبي حنيفة وأصحابه
كما قال بعض الحنفية: «أما ابن حجر فإنه بضد الزيلعي يبخس الحنفية حقهم في أمثال
هذه المواضع ويتكلم فيما لا يكون للكلام فيه مجال، ومن دأبه في كتبه لا سيما فتح
الباري انه يغادر حديثا في بابه يكون مؤيدا للحنفية، مع علمه به ثم يذكره في غير مظانه
لئلا ينتفع به الحنفية. (1)
وكذا الذهبي فإنه أيضا قد يبالغ في الطعن عليهم كما قال في ترجمة أحمد
بن موسى النجار: حيوان وحشي!! (2) وأخيرا أبو لبابة في كتابه «أصول علم الحديث»
يقول: الأحناف الحمقى (3).
زعماء الفكر الحنفي في العراق
1 - أبو حنيفة النعمان بن ثابت تفقه على حماد بن أبي سليمان (4).



1 - فقه أهل العراق وحديثهم للكوثري: 109.
2 - ميزان الإعتدال 1: 159 رقم 638.
3 - أصول علم الحديث بين المنهج والمصطلح: 99.
4 - سير أعلام النبلاء 6: 391.
71
قالت عاتكة أخت حماد بن أبي سليمان: كان النعمان ببابنا، يندف قطننا، ويشي
لبننا وبقلنا وما أشبه ذلك، فكان إذا جاء الرجل يسأله عن المسألة قال: ما مسألتك؟ قال:
كذا وكذا، قال: الجواب فيها كذا، ثم يقول: على رسلك، فيدخل إلى حماد فيقول له:
جاء رجل فسأل عن كذا فأجبته بكذا، فما تقول أنت؟ فقال: حدثونا بكذا، وقال
أصحابنا: كذا، وقال إبراهيم: كذا، فيقول: فأروي عنك؟ فيقول: نعم! فيخرج، فيقول:
قال حماد: كذا. (1)
2 - حماد بن أبي سليمان الكوفي المتوفى سنة 120 ه‍ قال لأهل الكوفة: «أبشروا
يا أهل الكوفة! رأيت عطاء وطاووسا ومجاهدا، فصبيانكم - بل صبيان صبيانكم - أفقه
منهم»! إنما قال هذا تحديثا بالنعمة، وردا على بعض شيوخ الرواية ممن لم يؤت نصيبا
من الفقه، (2) وكانوا يسألون عن رأيه. (3)
3 - إبراهيم بن يزيد النخعي الكوفي المتوفى سنة 96 ه‍، كان مفتي الكوفة، وهو
مختف من الحجاج. روى عن خاله الأسود بن يزيد بن قيس، وقال: «أدخلني خالي
الأسود على عائشة (4)، وهو يقول: لم يكن أبو هريرة فقيها». (5)
«وكانوا يرون أن كثيرا من حديث أبي هريرة منسوخ». (6)
4 - الأسود بن يزيد بن قيس الكوفي المتوفى سنة 75 ه‍، وهو خال إبراهيم
النخعي، ومن أصحاب ابن مسعود، أدرك الجاهلية والإسلام. (7)



1 - تقدمة نصب الراية للزيلعي 1: 34، ط دار إحياء التراث العربي.
2 - نفس المصدر السابق: 35.
3 - ميزان الإعتدال 1: 596.
4 - سير أعلام النبلاء 4: 525.
5 - ميزان الإعتدال 1: 75.
6 - سير أعلام النبلاء 4: 528.
7 - نفس المصدر السابق: 50.
72
5 - علقمة بن قيس بن عبد الله النخعي الكوفي المتوفى سنة 61 - 65 ه‍، عم
الأسود بن يزيد وأفضل منه، وهو أعلم الناس بابن مسعود، وأشبه الناس به. (1)
6 - عبد الله بن مسعود بن غافل الهذلي المتوفى سنة 32 أو 33 ه‍، صاحب رسول
الله (صلى الله عليه وآله) وصاحب نعله، أرسله عمر بن الخطاب إلى الكوفة معلما، وهو يقول عند
أجوبته للمسائل: «أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني» (2).
وكان عبد الله بن مسعود يفضل أن يفتي باجتهاده بدلا من أن يسند إلى
الرسول (صلى الله عليه وسلم) حديثا لا يرى عين اليقين أنه حديث صحيح. (3)
روى عمرو بن ميمون، وقال: صحبت ابن مسعود ثمانية عشر شهرا، فما سمعته
يحدث عن رسول الله إلا حديثا واحدا. (4)
وروى ابن عساكر طائفة من الأخبار في تحرز ابن مسعود عن الرواية،
منها: وكان عبد الله تأتي عليه سنة ولا يحدث عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
وقال: فحدث يوما حديثا، قال: فتغير وجهه، وقال: هذا، أو فوق هذا، أو دون
هذا، أو نحو هذا.
وفي رواية: حدث ذات يوم عنه بحديث، فتغير وجهه وعلته كآبة فجعل العرق
يتحدر من جبهته، ويقول: نحو هذا أو قريب من هذا.
وفي رواية: فأخذته رعدة شديدة، فقالوا له: ما لك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: إني
حدثت بحديث عن النبي (صلى الله عليه وسلم) فتخوفت أن أزيد فيه شيئا، أو أنقص منه شيئا. (5)



1 - نفس المصدر السابق: 53.
2 - مسند أحمد - مسند المكثرين من الصحابة رقم 3891، سنن النسائي كتاب النكاح رقم 3305،
الأسماء المبهمة في الأنباء المحكمة للخطيب: 476.
3 - أئمة الفقه التسعة للشرقاوي: 68.
4 - تاريخ مدينة دمشق 33: 161.
5 - الطبقات لابن سعد 3: 111، المعرفة والتاريخ للفسوي 2: 548، المستدرك للحاكم 3: 314، تاريخ
مدينة دمشق لابن عساكر 33: 161 - 165، سير أعلام النبلاء 1: 494.
73
وقال سعيد حوى في كتاب «الأساس في السنة»: «ويكفي أنه إمام أهل الكوفة
في الفقه، وعن مدرسته انبثقت مدرسة الحنفية، أوسع المدارس الفقهية وأكثرها انتشارا
وأبعدها تأثيرا في تاريخ القضاء والفتيا، وكان له اجتهاد يخالف اجتهاد عثمان في إبقاء
القراءات المأثورة على غير حرف قريش، الذي كتب به مصحف عثمان، ولم يحرق
مصحفه». (1)
و جاء في مقالة بعض زعماء المعتزلة: «غلط أبي حنيفة في الأحكام عظيم لأنه
أضل خلقا، وغلط حماد بن أبي سليمان أعظم من غلط أبي حنيفة، لأن حمادا أصل أبي
حنيفة الذي تفرع منه، وغلط إبراهيم أغلظ وأعظم من غلط حماد، لأنه أصل حماد،
وغلط علقمة والأسود أعظم من غلط إبراهيم، لأنهما أصله الذي عليه اعتمد، وغلط
ابن مسعود أعظم من غلط هؤلاء جميعا، لأنه أول من بدر إلى وضع الأديان برأيه، وهو
الذي قال: أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني.
واستأذن أصحاب الحديث على ثمامة بخراسان حيث كان مع الرشيد بن
المهدي، فسألوه عن كتابه الذي صنفه على أبي حنيفة في اجتهاد الرأي؟ فقال: لست
على أبي حنيفة كتبت ذلك الكتاب، وإنما كتبته على علقمة والأسود وعبد الله بن
مسعود، لأنهم الذين قالوا بالرأي قبل أبي حنيفة».
وثمامة بن أشرس أبو معن النميري البصري، وقال عنه الذهبي: «من كبار
المعتزلة، ومن رؤوس الضلالة، له اتصال بالرشيد، ثم بالمأمون». (2)
ذم القياس والرأي
أورد المحدثون في كتبهم أخبارا عن ذم الرأي، والحنفية لما اشتهروا باستخدام
الأقيسة والرأي في الدين، صاروا من أبرز مصاديق الطعن بسبب هذه الروايات.



1 - الأساس في السنة وفقهها 4: 1786.
2 - ميزان الإعتدال 1: 371 - 372.
74
وقد ذكرنا ما يتعلق بذلك ولا نكرره، وإنما نذكر هنا بعض الأمثلة التي يؤاخذ الحنفية
بسببها.
فالحنفية وكل من يفتي ويجتهد في الأحكام يتمسك بالبراءة من المؤاخذة على
نفسه، بما ورد في الرواية: «للمجتهد المصيب أجران وللمخطئ أجر واحد».
وأهل الحديث يمنعون من ذلك ويردون ويبطلون كل رأي وكل نظر لم يتخذ
من الكتاب والسنة، كما ستأتي الإشارة إلى ذلك في البحث عن الحيل التي أخذها
البخاري على الحنفية.
نعم! كل من يطعن في أهل الرأي ويبطل آراءهم ينظر - في الأغلب - إلى الآراء
المتخذة من الظنون والأقيسة في الدين.
قال ابن عبد البر: «الرأي المذموم هو القول في شرائع الدين بالاستحسان
والظنون والاشتغال بحفظ المعضلات والأغلوطات، فاستعمل فيها الرأي قبل أن
تنزل، وفرغت وشققت قبل أن تقع، وتكلم فيها قبل أن تكون بالرأي المضارع للظن،
قالوا: ففي الإشتغال بهذا تعطيل للسنن والبعث على جهلها». (1)
و لذلك كان الخصوم لأبي حنيفة قد شنعوا عليه بأنه «أجهل الناس بما كان،
و أعلمهم بما لم يكن». (2)
و يستدلون بقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم
تسؤكم). (3)
فأهل الحديث يسخرون من أهل القياس والرأي كقولهم مثلا:
1 - قال الشيخ وحيد الجباوي الحنفي في «رفيق الأسفار» والشيخ حسن
الشرنبلاني في «مراقي الفلاح، شرح متن الإيضاح» في معرض حديثه عن أحق الناس



1 - جامع بيان العلم 2: 148.
2 - المصدر السابق 2: 158.
3 - المائدة 5: 101.
75
بالإمامة في الصلاة: «والأحق بالإمامة السلطان أو نائبه... أو، فالأحسن خلقا، فالأحسن
وجها، فأكثرهم بشاشة، فالأحسن صوتا، فالأحسن زوجة، فالأكثر مالا، فالأكثر جاها،
فالأنظف ثوبا، فالأكبر رأسا، فالأصغر عضوا (أي ذكرا)»!! (1)
2 - «ولو شق ذكره نصفين فأدخل أحدهما في زوجة والآخر في زوجة أخرى،
وجب الغسل عليه دونهما»!. (2)
3 - «ولو أولج أحدهما في قبلها والآخر في دبرها وجب الغسل عليهما»!. (3)
وإلى كثير من المسائل التي أخذها الخصوم على الحنفية في الأحكام الشرعية.
مدح الإجتهاد والطعن على المحدثين
عند ما تفاقم الخلاف بين أهل الرأي وأهل الحديث، وطعن كل منهما خصمه،
تجهزا بكل ما يلزمه ضد عدوه، ولذلك نرى أهل الرأي تلبسوا بزي أهل الحديث،
وأهل الحديث بالرأي، لكيلا يغلب عليه الخصم في المجادلة والمخاصمة.
روى الخطيب في نصيحة أهل الحديث: «أخبرني الحسن بن محمد بن الحسن
الخلال، نا محمد بن العباس الخزاز: نا أبو بكر بن أبي داود، نا علي بن خشرم، قال:
سمعت وكيعا غير مرة يقول: يا فتيان! تفقهوا فقه الحديث، فإنكم إن تفهمتم فقه
الحديث لم يقهركم أهل الرأي». (4)
و روى أيضا: «أخبرنا الحسن بن الحسين بن العباس النعالي، نا أبو بكر أحمد
بن جعفر بن محمد بن سلم الختلي، نا أحمد بن علي الأبار، نا علي بن الخشرم
المروزي، قال: سمعت وكيعا يقول لأصحاب الحديث: لو أنكم تفقهتم الحديث
وتعلمتموه ما غلبكم أصحاب الرأي، ما قال أبو حنيفة في شيء يحتاج إليه إلا ونحن



1 - مراقي الفلاح للشرنبلاني الحنفي: 120، كتاب رفيق الأسفار للجباوي: 43 - 44 المذهبية
المتعصبة هي البدعة محمد عيد: 193 ط الأردن.
2 - حاشية الباجوري لابن قاسم 1: 72 - 74.
3 - نفس المصدر السابق.
4 - نصيحة أهل الحديث للخطيب: 40 - 41.
76
نروي فيه بابا». (1)
وقال ابن الجوزي في «الحث على حفظ العلم»: «إن أقواما أذهبوا أعمارهم في
حفظ طرق الحديث، ولعمري إن ذلك حسن إلا أن تقديم غير ذلك أهم، فنرى أكثر
هؤلاء المذكورين لا يعرفون الفقه الذي هو ألزم من ذلك، ومتى أمعن طالب الحديث
في السماع والكتابة ذهب زمان الحفظ، وإذا علت السن لم يقدر على الحفظ المهم،
وإذا أردت أن تعرف شرف الفقه فانظر إلى مرتبة الأصمعي في اللغة وسيبويه في
النحو، وابن معين في معرفة الرجال، كم بين ذلك ومرتبة أحمد والشافعي في الفقه. ثم
لو حضر شيخ مسن له إسناد لا يعرف شيئا من الفقه بين يديه شاب متفقه، فجاءت
مسألة سكت الشيخ وتكلم الشاب، وهذا يكفي في فضل الفقه. ولقد تشاغل خلق كثير
من أصحاب الحديث بعلوم الحديث وأعرضوا عن الفقه، فلما سئلوا عن مسألة في
الأحكام افتضحوا».
ثم روى بإسناده إلى «يحيى بن صاعد»:» أنه جاءته امرأة، فقالت: أيها الشيخ! ما
تقول: في بئر سقطت فيها دجاجة فماتت، هل الماء طاهر أم نجس؟ فقال يحيى:
ويحك كيف سقطت الدجاجة في البئر؟ قالت: لم تكن مغطاة، فقال: ألا غطيتها حتى لا
يقع فيها شئ!
قال الأبهري: قلت: يا هذه! إن كان الماء تغير، وإلا فهو طاهر». (2)



1 - نفس المصدر السابق: 41. وكيع بن الجراح بن مليح الرؤاسي أبو سفيان الكوفي، هو الذي ينصح
أهل الحديث بالتفقه، وهو من أشد الناس على أصحاب الرأي، وهم أبو حنيفة وأتباعه. طبقات ابن
سعد 6: 275، تاريخ بغداد 13: 466، تذكرة الحفاظ 1: 306، حلية الأولياء 8: 368. ومن أخباره في
أبي حنيفة: قال الترمذي في جامعه «كتاب الحج»: وسمعت أبا السائب يقول: كنا عند وكيع فقال لرجل
عنده ممن ينظر في الرأي: أشعر رسول الله،، ويقول أبو حنيفة: هو مثلة! قال الرجل: فإنه قد روي عن
إبراهيم النخعي أنه قال: الإشعار مثلة! قال: فرأيت وكيعا غضب غضبا شديدا، وقال: أقول لك: قال
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وتقول: قال إبراهيم! ما أحقك بأن تحبس ثم لا تخرج حتى تنزع عن قولك هذا. كتاب
الحج - باب ما جاء في إشعار البدن 3: 250.
2 - الحث على حفظ العلم لابن الجوزي: 23 - 24، هامش نصيحة أهل الحديث: 39.
77
و روى أيضا الخطيب: «وقفت امرأة على مجلس فيه يحيى بن معين، وأبو
خيثمة، وخلف بن سالم، في جماعة يتذاكرون الحديث، فسمعتهم يقولون: قال رسول
الله (صلى الله عليه وسلم)، قد رواه فلان، وما حدث به غير فلان، فسألتهم عن الحائض تغسل الموتى
وكانت غاسلة، فلم يجبها أحد منهم وجعل بعضهم ينظر إلى بعض. فأقبل «أبو ثور»
فقالوا لها: عليك بالمقبل، فالتفتت إليه وقد دنا منها فسألته، فقال: تغسل الميت،
لحديث القاسم عن عائشة: أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال لها: «أما حيضتك ليست في يدك»، ولقولها:
كنت أفرق رأس رسول الله بالماء وأنا حائض.
قال أبو ثور: فإذا فرقت رأس الحي فالميت أولى به.
فقالوا: نعم! رواه فلان وحدثناه فلان، ويعرفونه من طرق كذا، وخاضوا في
الطرق. فقالت المرأة: فأين كنتم إلى الآن؟!». (1)
وروى أيضا: «أنبأنا محمد بن عبد الله الحنائي نا، جعفر بن محمد بن نصير
الخلدي، نا، عبد الله بن جابر الطرسوسي نا، محمد بن العرجي العسكري، قال: سمعت
مسلما الجرمي قال: سمعت وكيعا يقول: لقيني أبو حنيفة فقال لي: لو تركت كتابة
الحديث وتفقهت أليس كان خيرا؟ قلت: أفليس الحديث يجمع الفقه كله؟
قال: ما تقول في امرأة ادعت الحمل وأنكر الزوج؟ فقلت له: حدثني عباد بن
منصور عن عكرمة، عن ابن عباس أن النبي (صلى الله عليه وسلم) لاعن بالحمل! فتركني، فكان بعد ذلك
إذا رآني في طريق أخذ في طريق آخر». (2)
وروى أيضا بسنده عن ابن دريد قال: «سئل بعضهم: متى يكون الأدب ضارا؟
قال: إذا نقصت القريحة وكثرت الرواية. (3)



1 - نصيحة أهل الحديث: 40.
2 - نفس المصدر السابق.
3 - نفس المصدر السابق: ص 33 عيون الأخبار لابن قتيبة 1: 330، وفيه: متى يكون الأدب شرا من
عدمه؟ قال: إذا كبر الأدب ونقص العقل.
78
وروى أيضا: حدثني محمد بن علي الصوري إملاء انا، عبد الرحمن بن عمر
المصري، نا محمد بن أحمد بن عبد الله بن وركان العامري، نا إبراهيم بن أبي داود، نا
علي بن معبد، نا عبيد الله بن عمرو قال: جاء رجل إلى الأعمش، فسأله عن مسألة وأبو
حنيفة جالس، فقال الأعمش: يا نعمان! قل فيها، فأجابه، فقال الأعمش: من أين قلت
هذا؟ فقال: من حديثك الذي حدثتناه، قال: «نعم! نحن صيادلة وأنتم أطباء». (1)
وفي رواية: فكان الأعمش يقول: يا معشر الفقهاء! أنتم الأطباء ونحن
الصيادلة. (2)
موقف الظاهرية من الرأي والاجتهاد
يعرف الأصوليون الاجتهاد بأنه بذل الجهد للتوصل إلى الحكم الشرعي
بالتفكير، واستخدام الوسائل التي هدى الشرع إليها للاستنباط فيما لا نص فيه.
فعند الظاهرية الاجتهاد بالرأي مردود، لأن الرأي عندهم هو الحكم بغير النص،
أو الحكم المستمد من غير الاصول التي ارتضاها أهل الظاهر، كالقياس، والمصلحة،
والاستحسان، والذرائع، وما بنيت عليه هذه الاصول من تعليل الأحكام، ولذلك قالوا:
«لا يجوز الحكم بالرأي، ولا يحل العمل به لأحد من المسلمين».
ولقد عرف ابن حزم الأندلسي الظاهري بقوله: «الرأي: ما تخيلته النفس صوابا
دون برهان، ولا يجوز الحكم به أصلا». (3)
وقد يعبر عنه بالبدعة المستحدثة والقول على الله تعالى بغير علم، فيقول: «فقد
صح أن القول بالقياس والتعليل باطل وكذب، وقول على الله تعالى بغير علم، وحرام لا



1 - نصيحة أهل الحديث: 44 - 45، أخبار أبي حنيفة: 26 - 27.
2 - نفس المصدر السابق: 26 - 27.
3 - الأحكام لابن حزم 1: 45.
79
يحل البتة لأنه: إما قطع على الله تعالى بالظن الكاذب المحرم، وإما شرع في الدين ما لم
يأذن به الله تعالى، وكلا الأمرين باطل بلا شك». (1)
وهذه هي نظرية أهل الظاهر في الاجتهاد بالرأي، ومؤسس هذه النظرية من قبل
ابن حزم هو «داود بن علي الظاهري» المتوفى سنة 270 ه‍، فإنه قال: «والحكم بالقياس
لا يجب، والقول بالاستحسان لا يجوز، ولا يجوز أن يحرم النبي (صلى الله عليه وسلم) غير ما حرم، لأنه
يشبهه، إلا أن يوقفنا النبي (صلى الله عليه وسلم) على علة من أجلها وقع التحريم، مثل أن يقول: حرمت
الحنطة بالحنطة، لأنها مكيلة، و: اغسل هذا الثوب، لأن فيه دما، أو، اقتل هذا، لأنه أسود،
فيعلم بهذا أن الذي أوجب الحكم من أجله هو ما وقف عليه!
وما جاوز ذلك فالتعبد فيه ظاهر، وما جاوز ذلك فمسكوت عنه، داخل في باب
ما عفي عنه» (2). ومن أهم ما يحتج به أهل الظاهر في إبطال الرأي من القرآن طائفة من
الآيات ومن السنن روايات:
فمن الآيات: قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء). (3)
و (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير
الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون). (4)
و (ما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق
شيئا). (5)
أما من السنة فقوله (صلى الله عليه وآله): «إن الظن أكذب الحديث»... إلى غير ذلك من الأدلة
المبسوطة في كتب الأصول.



1 - النبذ لابن حزم ص 106 - 107.
2 - طبقات الشافعية الكبرى للسبكي 2: 46، وانظر الاتجاهات الفقهية: 291.
3 - الأنعام 6: 38.
4 - الأعراف 7: 33.
5 - النجم 53: 28.
80
وفي الحقيقة، إن المذهب الظاهري هو أقرب المذاهب إلى مذهب المحدثين من
جهة، وإلى الخوارج من جهة أخرى، فتشابههم مع الأول لأنهم - كما قيل - قد أحسنوا
في اعتنائهم بالنصوص والمحافظة عليها، وعدم تقديم غيرها عليها من رأي أو قياس.
والثاني: تشابهم مع الخوارج، لقطعهم بالحكم بادئ الرأي والنظر، واتباعهم
الظواهر في الكتاب والسنة، حتى وقد عد الظاهرية بعض - كابن العربي - بأنها طائفة
من الخوارج وفرقة منهم، فقال: «فرقة سخيفة، مكفرة على أحد التأويلين، وهي التي لا
تقول إلا ما قال الله ورسوله، وتنكر النظر أصلا، وتنفي التشبيه والتمثيل الذي لا يعرف
الله إلا به».
ثم ذكر أمرهم بالأندلس بتأثير ابن حزم، وقال: «ولكنه أمر استشرى داؤه، وعز
عندنا دواؤه، وأفتى الجهلة به، فمالوا إليه، وغرهم رجل كان عندنا يقال له: ابن حزم،
انتدب لإبطال النظر، وسد سبل العبر، ونسب نفسه إلى الظاهر اقتداء بداود وأشياعه،
فسود القراطيس، وأفسد النفوس...». (1)
وقال ابن حزم في الإحكام، في فصل «في من قال ليس لأحد أن يختار بعد أبي
حنيفة»: «وأما من قال: ليس لأحد أن يختار بعد أبي حنيفة، وأبي يوسف وزفر بن
الهذيل العنبري و... وقول بكر بن العلاء: ليس لأحد أن يختار بعد التابعين من التاريخ
... فأقول في غاية الفساد وكيد الدين لاخفاء به، وضلال مغلق وكذب على الله تعالى...
ويقال للحنفيين: أليس من عجائب الدنيا تجويزكم الإختيار والقول في دين الله بالظن
الكاذب والرأي الفاسد... وأما خلاف أبي حنيفة ومالك ففرض على الأمة، لا نقول مباح
بل فرض لا يحل تعديه... فالمتبع هو القرآن والسنة لا قول أبي حنيفة، ولا مالك، لأن
الله تعالى لم يأمرنا قط باتباعهما فمتبعهما مخالف لله تعالى...!! (2)



1 - شرح ابن العربي على سنن الترمذي 10: 108 - 113.
2 - الإحكام في أصول الأحكام 4: 604 - 606.
81
نقد أهل الحديث على الظاهرية
قد فصل ابن القيم في نقد أهل الظاهر بكتابه «أعلام الموقعين»، فقال: «فقد
أحسنوا في اعتنائهم بالنصوص، ونصرها والمحافظة عليها، وعدم تقديم غيرها عليها
من رأي أو قياس أو تقليد، وأحسنوا في رد الأقيسة الباطلة، وفي بيان تناقض أهلها،
وأخذهم بالقياس، وتركهم ما هو أولى منه. ولكنهم أخطأوا من أربعة أوجه:
أحدها: رد القياس الصحيح، ولا سيما المنصوص على علته التي يجري النص
عليها مجرى التنصيص على التعميم باللفظ. ولا يستريب عاقل في أن من قال لغيره: لا
تأكل هذا الطعام فإنه مسموم، قد نهاه عن كل طعام كذلك.
ثانيا: تقصيرهم في فهم النصوص، فكم من حكم دل عليه النص ولم يفهموا
دلالته عليه؟!
وسبب هذا الخطأ: حصرهم الدلالة في مجرد ظاهر اللفظ، دون إيمائه وتنبيهه
وإشارته وعرفه عند المخاطبين، فلم يفهموا من قوله تعالى: (فلا تقل لهما أف) (1)
ضربا ولا سبا ولا إهانة غير لفظة «أف»!
الثالث: تحميل الاستصحاب فوق ما يستحقه، وجزمهم بموجبه لعدم علمهم
بالناقل، وليس عدم العلم علما بالعدم، لأنهم لما سدوا على أنفسهم باب التمثيل
والتعليل، واعتبار الحكم والمصالح، احتاجوا إلى توسعة الظاهر والاستصحاب،
فحملوهما فوق الحجة، ووسعوهما لأكثر مما يسعانه، فحيث فهموا من النص حكما
أثبتوا ولم يبالوا بما وراءه، وحيث لم يفهموا منه نفوه وحملوا الاستصحاب.
الرابع: هو اعتقادهم أن عقود المسلمين وشروطهم ومعاملاتهم كلها على
البطلان، حتى يقوم دليل على الصحة، فإذا لم يقم عندهم دليل على صحة شرط أو عقد



1 - الإسراء 17: 23.
82
أو معاملة، استصحبوا بطلانه، فأفسدوا بذلك كثيرا من معاملات الناس وعقودهم
وشروطهم بناء على هذا الأصل». (1)
ومن أمثلة أحكامهم - كما ذكر في النقطة الثانية - تقصيرهم في فهم النصوص،
وحصر الدلالة بمجرد ظاهر اللفظ. ومن ذلك روايتهم في من بال في الماء الراكد: فقد
جاء في الحديث: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل منه».
وفي رواية: «ثم يتوضأ منه». فالنهي في الحديث مقصور على البول في الماء
الدائم، فلو تغوط فيه فلا بأس، لأنه غير منهي عنه، ثم إن النهي عن الوضوء أو الغسل
بهذا الماء متوجه إلى البائل دون غيره، فلو بال إنسان في ماء راكد فلا مانع من أن يتوضأ
منه غير البائل لأنه ظاهر بالنسبة له!
وفي ذلك يقول ابن حزم: «... إلا أن البائل في الماء الراكد الذي لا يجري حرام
عليه الوضوء بذلك الماء والاغتسال به لفرض أو لغيره، وحكمه التيمم إن لم يجد
غيره. وذلك الماء طاهر حلال شربه له ولغيره، إن لم يغير البول شيئا من أوصافه،
وحلال الوضوء به والغسل به لغيره. فلو أحدث في الماء، أو بال خارجا منه ثم جرى
البول فيه، فهو طاهر يجوز الوضوء منه والغسل له ولغيره، إلا أن يغير ذلك البول أو
الحدث شيئا من أوصاف الماء، فلا يجزي حينئذ استعماله أصلا، لا له ولا لغيره...».
ويقول مدافعا عن التفريق بين البول والغائط، وأنه يقتصر على ما ورد به النص:
«فلو أراد (عليه السلام) أن ينهى عن ذلك غير البائل، لما سكت عن ذلك عجزا ولا نسيانا، ولا
تعنيفا لنا بأن يكلفنا على ما لم يبده لنا من الغيب». (2)



1 - أعلام الموقعين 2: 26 - 40، الاتجاهات الفقهية: ص 401.
2 - المحلى لابن حزم 1: 135 - 140.
83
المتحاملون على أبي حنيفة من شيوخ البخاري
ولقد صحب البخاري جماعة من المحدثين، كانوا يتحاملون على أبي حنيفة،
وتأثر بأفكارهم وهو يأخذ عنهم العلم والحديث، وهم يعدون من شيوخه وقد دفعه
تأثره لأن يصنف «الصحيح». ليبطل بذلك فكر أبي حنيفة.
ومن الذين تأثر البخاري بهم على معاداة أبي حنيفة جماعة، هم:
1 - أبو بكر بن أبي شيبة المتوفى سنة 235 ه‍.
2 - نعيم بن حماد المروزي المتوفى سنة 228 ه‍.
3 - عبد الله بن الزبير الحميدي المتوفى سنة 219 ه‍.
4 - إسماعيل بن عرعرة.
5 - إسحاق بن راهويه.
أبو بكر بن أبي شيبة (1)
عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان بن خواستي العبسي الكوفي
المتوفى سنة 235 ه‍، هو وأخوه عثمان كانا من شيوخ البخاري، ومن أقران أحمد بن
حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين.
وهو وأخوه عثمان من الذين أشخصهم المتوكل ليحدثوا الناس بما أمرهم،
وسيأتي في محله ما يتعلق بذلك إن شاء الله.
قال الذهبي: «الإمام العلم، سيد الحفاظ، صاحب الكتب الكبار: المسند
والمصنف والتفسير». (2)



1 - الطبقات الكبرى 6: 413، التاريخ الصغير 2: 365، الجرح والتعديل 5: 160، تاريخ بغداد 10: 66،
سير أعلام النبلاء 11: 122 رقم 44، العبر 1: 421، ميزان الإعتدال 2: 490 رقم 4549، تهذيب
التهذيب 6: 2، طبقات الحفاظ: ص 192 رقم 420، شذرات الذهب 2: 85.
2 - سير أعلام النبلاء 11: 122 رقم 44.
84
وكتابه «المصنف» طبع في تسعة مجلدات مع الفهارس، وفي مجلده الثامن طبع
كتابه «الرد على أبي حنيفة»، فإنه أورد عليه مسائل له في أبواب مختلفة في الفقه.
ويعلم بذلك أنه كان شديد العداوة لأبي حنيفة، ومن المؤثرين في تكون اعتقاد
البخاري ونضجه في الحديث، ونشر عقدته من أبي حنيفة، مع ما أكد عليهم الخليفة
العباسي في الرد على الجهمية.
وروى الذهبي في ذلك: «قال إبراهيم نفطويه: في سنة أربع وثلاثين ومائتين
أشخص المتوكل الفقهاء والمحدثين، فكان فيهم: مصعب بن عبد الله الزبيري،
وإسحاق بن أبي إسرائيل، وإبراهيم بن عبد الله الهروي، وأبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة،
وكانا من الحفاظ. فقسمت بينهم الجوائز، وأمرهم المتوكل أن يحدثوا بالأحاديث التي
فيها الرد على المعتزلة والجهمية.
قال: فجلس عثمان في مدينة المنصور واجتمع عليه نحو من ثلاثين ألفا،
وجلس أبو بكر في مسجد الرصافة، وكان أشد تقدما من أخيه واجتمع عليه نحو من
ثلاثين ألفا». (1)
نعيم بن حماد (2)
ابن معاوية بن الحارث المروزي المتوفى 228 ه‍، وهو من شيوخ البخاري،
شديد العداء لأبي حنيفة.... وصفه الذهبي بأنه من أئمة الحديث ومن أوعية العلم، ثم
قال: «ولكنه لا تركن النفس إلى رواياته، وأنه كان يضع الحديث في تقوية السنة،



1 - سير أعلام النبلاء 11: 125، تاريخ الإسلام - وفيات 231 - 240: ص 230
2 - طبقات ابن سعد 7: 519 - سؤالات ابن جنيد ليحيى بن معين رقم 564، رجال البخاري للباجي 2:
772، تذكرة الحفاظ 2: 418، الكاشف 3: 182 رقم 5959، ميزان الإعتدال 4: 167 رقم 9102،
تهذيب التهذيب 10: 9 رقم 833 تقريب التهذيب 2: 305 رقم 124، وفيه: «نعيم بن حمار»، سير
أعلام النبلاء 10: 595 رقم 209، تهذيب الكمال 29: 466 رقم 6451.
85
والحكايات في ثلب أبي حنيفة» (1) والذهبي عن ابن حماد - يعني الدولابي -: نعيم
ضعيف. قاله أحمد بن شعيب، ثم قال ابن حماد: وقال غيره: كان يضع الحديث في
تقوية السنة، وحكايات عن العلماء في ثلب أبي فلان كذب. (2)
وقال ابن عدي: «ابن حماد متهم فيما يقوله، لصلابته في أهل الرأي. مات في
سجن المعتصم بسامراء».
قال ابن سعد: «طلب نعيم الحديث كثيرا بالعراق والحجاز، ثم نزل مصر، فلم
يزل بها حتى أشخص منها في خلافة أبي إسحاق المعتصم، فسئل عن القرآن؟ فأبى أن
يجيب فيه بشيء مما أراده عليه، فحبس بسامراء، فلم يزل محبوسا بها حتى مات في
السجن». (3)
وقال العباس بن مصعب: «وضع نعيم بن حماد الفارضي كتبا في الرد على أبي
حنيفة، وناقض محمد بن الحسن، ووضع ثلاثة عشر كتابا في الرد على الجهمية، وكان
من أعلم الناس بالفرائض». (4)
ونعيم بن حماد هذا مع جلالته في حديث السنة وأستاذيته للبخاري، فقد ثبت
اسمه في «ديوان الضعفاء» (5):
قال أبو داود: «عند نعيم بن حماد عشرون حديثا عن النبي (صلى الله عليه وآله) ليس لها أصل».
وقال النسائي: «ليس بثقة»، وقال مرة: «ضعيف». (6)



1 - الكامل في ضعفاء الرجال 7: 16 رقم 1959.
2 - سير أعلام النبلاء 10: 608 - 609.
3 - طبقات ابن سعد: 7: 519.
4 - سير أعلام النبلاء 10: 599، تهذيب الكمال 29: 70.
5 - الجمع بين رجال الصحيحين 2: 534، الضعفاء والمتروكين للنسائي: رقم 589، الضعفاء لابن
الجوزي 3: 164، الكامل في ضعفاء الرجال 6: 2482، ديوان الضعفاء والمتروكين للذهبي 2: 405
رقم 4396.
6 - تاريخ بغداد 13: 312، سير أعلام النبلاء 10: 609.
86
قال الحافظ أبو علي النيسابوري: «سمعت أبا عبد الله النسائي يذكر فضل نعيم
ابن حماد، وتقدمه في العلم والمعرفة والسنن، ثم قيل له في قبول حديثه، فقال: قد كثر
تفرده عن الأئمة المعروفين بأحاديث كثيرة، فصار في حد من لا يحتج به». (1)
وقال صالح بن محمد الأسدي الحافظ: «كان نعيم يحدث من حفظه، وعنده
مناكير لا يتابع عليها».
وقال الدارقطني: «كثير الوهم».
وقال الذهبي: «لا يجوز لأحد أن يحتج به، وقد صنف كتاب «الفتن» فأتى فيه
بعجائب ومناكير». (2)
وروى الميموني عن أحمد قال: «أول من عرفناه يكتب المسند نعيم بن حماد».
وقال أبو بكر الخطيب: يقال: «إن أول من جمع المسند، وصنفه نعيم». (3)
ولا يخفى على أحد أن أول جامع للمسند إن كان متهما بالوضع في الحديث في
تقوية السنة، فأي اعتبار يبقى للسنة؟!!.
الحميدي
عبد الله بن الزبير الحميدي المتوفى سنة 219 ه‍. شيخ الحرم، أبو بكر القرشي
الأسدي المكي، من شيوخ البخاري، وكان شديد الاعتناء به، ولم يرو عند أحد مثل ما
روى عنه في صحيحه، كما أنه افتتح كتابه الصحيح باسمه، وبروايته بدل الخطبة.
كان رئيس أصحاب ابن عيينة، وقال البخاري: «إنه إمام في الحديث».



1 - سير أعلام النبلاء 10: 609.
2 - سير أعلام النبلاء 10: 609.
3 - تاريخ بغداد 13: 306.
87
وقال ابن سعد: «صاحب ابن عيينه، وراويته ثقة، كثير الحديث». (1)
افتتح البخاري بروايته التي صيرها كالخطبة لكتابه قائلا: «حدثنا
الحميدي: حدثنا سفيان قال: حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري قال:
أخبرني محمد بن إبراهيم التيمي أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي
يقول: سمعت عمر بن الخطاب على المنبر قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
يقول: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت
هجرته إلى دنيا يصيبها، أو إلى إمرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر
إليه». (2)
ولافتتاح البخاري كتابه بهذا الحديث وبروايته عن الحميدي إشارات جديرة
بالنظر:
- أراد البخاري بذلك إلى أن كتابه «الصحيح» ينظر إلى آراء أبي حنيفة، بعين
الحميدي وهو من المكفرين لأبي حنيفة ولأهل الرأي، وشديد التحامل عليهم، لقوله:
«والله لئن أغز هؤلاء الذين يردون حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أحب إلي من أن أغزو عدتهم
من الأتراك». (3)
فالبخاري ابتدأ كتابه باسمه حتى يظهر مخالفته لأبي حنيفة ولأهل الرأي.
روى الخطيب أنه قال: «قال حنبل بن إسحاق: سمعت الحميدي يقول لأبي



1 - طبقات ابن سعد 5: 502، التاريخ الكبير للبخاري 5: 96، التاريخ الصغير 2: 339، الجرح والتعديل
5: 65، الجمع بين رجال الصحيحين 1: 265، الأنساب 4: 231، تذهيب التهذيب 2: 144، تذكرة
الحفاظ 2: 413، العبر 1: 377، الكاشف 2: 86، سير أعلام النبلاء 10: 616 رقم 212، طبقات
الشافعية للسبكي 2: 140، طبقات الأسنوي 1: 19، البداية والنهاية 1: 282، تهذيب التهذيب 5:
214، حسن المحاضرة 1: 347، طبقات الحفاظ: 178، شذرات الذهب 2: 45.
2 - صحيح البخاري 1: 1 / افتتاح كتاب «بدء الوحي».
3 - سير أعلام النبلاء 10: 619.
88
حنيفة إذا كناه: «أبو جيفة» لا يكنى عن ذاك، ويظهره في المسجد الحرام في حلقته
والناس حوله». (1)
- أنه أورد حديث: «إنما الأعمال بالنيات...»، حتى يخالف أبا حنيفة في نزاعه
معه لا سيما في قبول الحديث المذكور، كما تأتي الإشارة إليه في البحث حول «صحيح
البخاري» وفي باب «الحيل».
وقال وهبي سليمان غاوجي في كتابه «أبو حنيفة النعمان»: «لقد صحب الإمام
البخاري رحمه الله تعالى بعض المتحاملين على الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى،
كالحميدي، وإسماعيل بن عرعرة... وغيرهما، وتأثر بأقوالهم فيه، ودون في تاريخه ما
سمعه من هؤلاء المجازفين». (2)
وقال أيضا: «كان الإمام البخاري يرى أن الإيمان يزيد وينقص، مع العلم أنه لم
يصحح حديثا في ذلك، لأنه ليس فيه حديث صحيح. وكان الإمام أبو حنيفة يرى: أن
الإيمان عقيدة يمتلئ بها القلب، فلا يتصور فيه زيادة، لأنه لا زيادة فوق اليقين، ولا
نقصان، لأنه إذا نقص فلا يبقى يقينا». (3)
ولذلك قال أبو العباس السراج: «شهدت محمد بن إسماعيل البخاري، ودفع
إليه كتاب من ابن كرام يسأله عن أحاديث منها: حديث الزهري، عن سالم، عن أبيه (4)
مرفوعا: «الإيمان لا يزيد ولا ينقص»؟ فكتب محمد بن إسماعيل على ظهر كتابه: من
حدث بهذا استوجب الضرب الشديد والحبس الطويل، بل بالغ بعضهم فأحل دمه». (5)



1 - تاريخ بغداد للخطيب 13: 407، والإمام الحميدي وكتابه المسند للصويان: 44.
2 - أبو حنيفة النعمان إمام الأئمة الفقهاء: 212.
3 - نفس المصدر السابق: 213.
4 - هو عبد الله بن عمر بن الخطاب.
5 - الإسرائيليات والموضوعات: 18.
89
وقال البخاري في كتابه «مختصر من تاريخ النبي (صلى الله عليه وسلم)...» المطبوع باسم «التاريخ
الصغير»: «سمعت الحميدي يقول: قال أبو حنيفة: قدمت مكة فأخذت من الحجام
ثلاث سنن لما قعدت بين يديه، قال لي: استقبل الكعبة، فبدأ بشق رأسي الأيمن، وبلغ
إلى العظمين.
قال الحميدي: فرجل ليس عنده سنن عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ولا أصحابه في
المناسك وغيرها، كيف يقلد أحكام الله في المواريث والفرائض والزكاة والصلاة
وأمور الإسلام»؟! (1)
تأثر الحميدي بالشافعي
تأثر الحميدي بالشافعي مدة ملازمته له في رحلاته من مكة إلى مصر وبغداد.
قال الأسنوي: «رحل مع الشافعي من مكة إلى مصر ولزمه حتى مات، فرجع إلى
مكة يفتي إلى أن توفي بها سنة تسع عشرة ومائتين». (2)
«وكانت بداية اللقيا بين الحميدي والشافعي على يد الإمام أحمد بن حنبل الذي
حث الحميدي على مجالسة الإمام الشافعي». (3)
قال الحميدي: «وكان أحمد بن حنبل قد جالسه بالعراق، فلم يزل بي حتى
اجترني إليه، وكان الشافعي قبالة الميزاب فجلسنا إليه، ودارت مسائل، فلما قمنا قال لي
أحمد بن حنبل: كيف رأيت؟



1 - كتاب مختصر من تاريخ النبي (صلى الله عليه وآله) والمهاجرين والأنصار وطبقات التابعين 1: 6 ص 158 ط -
الأولى - الهند - سنة 1325 ه‍، - وهو كتاب التاريخ الأوسط [الصغير] للبخاري 2: 43 رقم 1723 -
1724 - 1725 - دار النشر: دار الوعي، مكتبة دار التراث - حلب، القاهرة س - النشر - 1977 م -
1397 ه‍ - تحقيق - محمود إبراهيم زايد.
2 - طبقات الشافعية 1: 19.
3 - مناقب الشافعي للبيهقي 2: 255.
90
فجعلت أتتبع ما كان أخطأ فيه، وكان ذلك مني بالقرشية (يعني: من الحسد).
فقال لي أحمد بن حنبل: فأنت لا ترضى أن يكون رجل من قريش يكون له هذه
المعرفة وهذا البيان - أو نحو هذا القول - تمر مائة مسألة يخطئ خمسا أو عشرا، أترك
ما أخطأ وخذ ما أصاب». (1)
وقال الحميدي: «كان كلامه وقع في قلبي، فجالسته، فغلبتهم عليه، فلم نزل نقدم
مجلس الشافعي، حتى كان بقرب مجلس سفيان». (2)
وقال داود بن علي في بيان تلاميذ الشافعي: «وكذلك عبد الله بن الزبير
الحميدي، بعد نفوره كان يذب عنه وينتحل مذهبه وكتب أكثر كتبه». (3)
وكان الشافعي أيضا يربي تلميذه الحميدي، قال محمد بن محمد الشافعي:
«سمعت أبي يقول ليلة للحميدي: بما نحتج عليهم - يعنى أهل الإرجاء - بأحج من
قوله: (ما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا
الزكاة وذلك دين القيمة (4)). (5)
وقال الحميدي: كان الشافعي ربما ألقى علي وعلى ابنه أبي عثمان المسألة،
فيقول: أيكما أصاب فله دينار. (6)
وبعد هذه الملازمة الطويلة أعجب الحميدي بشيخه الإمام الشافعي، فإنه كان
يقول: حدثنا سيد علماء أهل زمانه محمد بن إدريس الشافعي. (7)



1 - الإمام الحميدي وكتابه المسند: 65.
2 - الجرح والتعديل 7: 202 - 203، حلية الأولياء 9: 96.
3 - مناقب الشافعي 2: 226.
4 - البينة 98: 5.
5 - شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 5: 886.
6 - حلية الأولياء 9: 199، طبقات الفقهاء الشافعية للعبادي: 26.
7 - مناقب الشافعي 2: 269.
91
ويقول: حدثنا سيد الفقهاء الشافعي. (1)
وفي الوقت الذي كان يعظم فيه من أمر الشافعي، كان ينقص ويطعن في أبي
حنيفة ويثلبه، كما أن البخاري لذلك أكثر عنه في «الصحيح» خلافا لما في الصحاح
الخمسة الآخرين. لأن مسلما لا يروي عن الحميدي الا في المقدمة، ولم يرو عنه شيئا
في «الصحيح».
ولذلك عده أبو عبد الله الحاكم، من أفراد البخاري، في كتابه: «تسمية من
أخرجهم البخاري ومسلم وما انفرد به كل واحد منهما». (2)
وذكره ابن القيسراني، من أفراد البخاري، في كتابه: «الجمع بين رجال
الصحيحين». (3)
ولم يذكره أحمد بن منجويه في كتابه: «رجال صحيح مسلم».
وفي «سنن أبي داود» له ثلاثة روايات.
وفي «الترمذي» له حديث واحد.
وفي «سنن النسائي» له حديث واحد أيضا.
وفى «سنن ابن ماجة» قيل: له رواية في التفسير.
وهكذا نرى أحاديثهم له لا تتجاوز الستة أو السبعة في أمور غير مهمة، مع أن
البخاري روى عنه، على رواية ابن حجر عن الزهرة، خمسة وسبعين حديثا. (4) وعندنا
وحسب استقصائنا لعدد روايات الحميدي في البخاري فإنها تبلغ خمسا وتسعين
رواية.



1 - حلية الأولياء 9: 94، مناقب الشافعي 2: 269، الامام الحميدي وكتابه المسند: 67 - 68.
2 - تسمية من أخرجهم البخاري ومسلم: 152.
3 - الجمع بين رجال الصحيحين 1: 265، ورجال صحيح البخاري للكلاباذي 1: 406.
4 - تهذيب التهذيب 5: 189، وانظر: الإمام الحميدي وكتابه المسند: 46 - 53.
92
وقد ورد في «الجرح والتعديل» أن للحميدي كتابا سماه: «الرد على النعمان»،
رواه عنه محمد بن عمير الطبري. (1) والظاهر أن هذا الكتاب كان نتيجة تأثره بفقه
الشافعي، كما قال نفسه:
«كنا نريد أن نرد على أصحاب الرأي، فلم نحسن كيف نرد عليهم حتى جاءنا
الشافعي ففتح لنا». (2)
والكتاب، وإن كان مفقودا حتى الآن، إلا أن نقل المعاصرين للحميدي من
تلامذته تكشف عقدته من أبي حنيفة وعن مادة كتابه.
قال أبو زرعة الرازي: «كان أهل الرأي قد افتتنوا بأبي حنيفة، وكنا أحداثا نجري
معهم، ولقد سألت أبا نعيم عن هذا، وأنا أرى أني في عمل، ولقد كان الحميدي يقرأ
كتاب «الرد»، ويذكر أبا حنيفة، وأنا أهم بالوثوب عليه، حتى من الله علينا وعرفنا ضلالة
القوم». (3)
وقال محمد بن منصور الجوار: «رأيت الحميدي يقرأ كتاب الرد على أبي حنيفة
في المسجد الحرام، فكان يقول: قال بعض الناس كذبا! فقلت: ألا تسميه؟
قال: أكره أن أذكره في المسجد الحرام». (4)
وهذا التعبير من الحميدي يشعر بأن الموارد المذكورة من قول البخاري في
«الصحيح» في قوله: «وقال بعض الناس» جاءت نتيجة تأثره بقول شيخه الحميدي في
بيان عقدته ضده.
وقال يعقوب بن سفيان في كتابه «المعرفة والتاريخ»: حدثنا أبو بكر الحميدي.



1 - الجرح والتعديل 8: 40.
2 - حلية الأولياء 9: 96 - مناقب الشافعي للبيهقي 2: 154، الإمام الحميدي وكتابه المسند: 69.
3 - أبو زرعة الرازي وجهوده في السنة 2: 755، الإمام الحميدي وكتابه المسند: 69 - 70.
4 - المجروحين - 3: 70.
93
ثنا حمزة بن الحارث مولى عمر بن الخطاب، عن أبيه، قال: سمعت رجلا يسأل أبا
حنيفة في المسجد الحرام عن رجل قال: أشهد أن الكعبة حق ولا أدري هي هذه أم لا؟
فقال: مؤمن حقا!
وسأله عن رجل قال: أشهد أن محمدا بن عبد الله نبي، ولكن لا أدري هو الذي
قبره بالمدينة أم لا؟ قال: مؤمن حقا»
قال أبو بكر الحميدي: «ومن قال هذا فقد كفر»!. (1)



1 - المعرفة والتاريخ 2: 787 - 788، شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 5: 997 - 998، الإمام
الحميدي وكتابه المسند: 71.
94
الفصل الثالث
الإمام البخاري

95
محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه أبو عبد الله البخاري
المتوفى سنة 256 ه‍، وقيل: بذدزبه، وهي لفظة بخارية، ومعناها: الزراع». (1)
«أسلم المغيرة على يدي اليمان الجعفي والي بخارى، وكان مجوسيا». (2)
وقال الذهبي وغيره من المؤرخين: «ولد أبو عبد الله في شوال سنة أربع وتسعين
ومائة». والبخاري قيل له: «الجعفي»، لأن أبا جده أسلم على يدي أبي عبد الله المسندي
ويمان الجعفي، فنسب إليه لأنه مولاه من فوق.
قال البخاري: «.... فلما طعنت في ست عشرة سنة، كنت قد حفظت كتب ابن
المبارك ووكيع، وعرفت كلام هؤلاء، ثم خرجت مع أمي وأخي أحمد إلى مكة. فلما
حججت رجع أخي، وتخلفت في طلب الحديث». (3)
قال التهانوي: فهذا إمام المحدثين البخاري رحمه الله، لم يسلم من الرمي
بالبدعة أيضا، فقد رماه الذهلي في مسألة القرآن بالقول بالخلق. (4)
وقال ابن أبي حاتم: سمع منه أبي، وأبو زرعة، ثم تركا حديثه عند ما كتب إليهما



1 - سير أعلام النبلاء 12: 391، تهذيب الأسماء واللغات 1: 67.
2 - الجرح والتعديل 9: 191 رقم 1086، الثقات لابن حبان 1: 113، تاريخ بغداد 2: 4 رقم 424، تذكرة
الحفاظ 2: 555، الكاشف 3: 18 برقم 4790، العبر 2: 12، تاريخ ابن الوردي: 2348، مرآة الجنان 2:
167، سير أعلام النبلاء 12: 391 رقم 171، الوافي بالوفيات 2: 206، البداية والنهاية 11: 24،
تهذيب التهذيب 9: 47، تقريب التهذيب 2: 1448، طبقات المدلسين لابن حجر: 24 رقم 23، النجوم
الزاهرة 12: 113 رقم 1586، طبقات الحفاظ: 248، طبقات الحنابلة 1: 271 رقم 387.
3 - تاريخ بغداد 2: 7، سير أعلام النبلاء 12: 393.
4 - قواعد في علوم الحديث: 240.
97
محمد بن يحيى النيسابوري الذهلي، أنه أظهر عندهم أن لفظه بالقرآن مخلوق. (1)
وقال ابن حجر: قال أبو حامد ابن الشرقي: سمعت محمد بن يحيى الذهلي يقول:
القرآن كلام الله غير مخلوق ومن زعم لفظي بالقرآن مخلوق، فهو مبتدع، ولا يجالس،
ولا يكلم، ومن ذهب بعد هذا إلى محمد بن إسماعيل فاتهموه فإنه لا يحضر مجلسه
إلا من كان على مذهبه. (2)
وقال الحاكم: ولما وقع بين البخاري وبين الذهلي في مسألة اللفظ، انقطع الناس
عن البخاري إلا مسلم بن الحجاج وأحمد بن سلمة. قال الذهلي: ألا من قال باللفظ فلا
يحل له أن يحضر مجلسنا.
وبسبب جرح الذهلي للبخاري تركه مسلم وأبو حاتم وأبو زرعة وذكره الذهبي
في كتابه الضعفاء والمتروكين. (3)
شيوخ البخاري
سمع ببخارى قبل أن يرتحل من مولاه عبد الله بن محمد بن عبد الله بن جعفر بن
اليمان الجعفي المسندي، ومحمد بن سلام البيكندي، وجماعة ليسوا من كبار شيوخه.
ثم سمع ببلخ: من مكي بن إبراهيم، وهو من عوالي شيوخه.
وسمع بمرو من عبدان بن عثمان، وعلي بن الحسن بن شقيق، وصدقة بن
الفضل، وجماعة.
وبنيسابور: من يحيى بن يحيى، وجماعة.
وبالري: من إبراهيم بن موسى.
وبالبصرة: من أبي عاصم النبيل، ومحمد بن عرعرة.



1 - الجرح والتعديل للرازي 7: 191 رقم 1086.
2 - هدى الساري: 491.
3 - الشرح والتعليل لألفاظ الجرح والتعديل: 11.
98
وبالكوفة: من عبيد الله بن موسى، وخالد بن مخلد.
وبمكة: من أبي عبد الله المقرئ، وخلاد بن يحيى، وحسان بن حسان البصري،
والأزرقي، والحميدي.
وبالمدينة: من الأويسي، وأيوب بن سليمان، وإسماعيل بن أبي أويس.
وبمصر: من أحمد بن إشكاب، وسعيد بن أبي مريم.
وبالشام: من أبي اليمان، وآدم بن أبي إياس، وعلي بن عياش، والفريابي، وأبي
مسهر.
وقال الذهبي: «فأعلى شيوخه الذين حدثوه عن التابعين هم: أبو عاصم،
والأنصاري، ومكي بن إبراهيم، وعبيد الله بن موسى، وأبو المغيرة... ونحوهم.
وأوساط شيوخه الذين رووا له عن الأوزاعي، وابن أبي الذئب، وشعبة، وأبي
عوانة.
ثم طبقة أخرى دونهم: كأصحاب مالك، والليث، وحماد بن زيد، وأبي عوانة.
والطبقة الرابعة من شيوخه: مثل أصحاب ابن المبارك، وابن عيينة، وابن وهب،
والوليد بن مسلم.
ثم الطبقة الخامسة، وهم: محمد بن يحيى الذهلي الذي روى عنه الكثير،
ويدلسه، ومحمد بن عبد الله المخرمي، ومحمد بن عبد الرحيم صاعقة، وهؤلاء من
أقرانه.
وروى عنه خلق كثير، منهم: أبو عيسى الترمذي، وأبو حاتم، وإبراهيم الحربي،
وابن أبي الدنيا، وأبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم، وصالح بن محمد جزرة، وأبو
بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، ومحمد بن يوسف الفربري راوي الصحيح.
وقد رتب أبو الحجاج المزي شيوخ البخاري وأصحابه على المعجم
كعادته، وذكر خلقا سوى من ذكرت». (1)



1 - سير أعلام النبلاء 12: 297.
99
شيوخ البخاري بمكة
لا يخفى أن المشايخ الأول للبخاري كانوا المؤثرين والمشاركين بداية الأمر في
تغيير فكره وتحويل عقيدته ومذهبه، وعلى ذلك ينبغي لمن يتتبع تاريخ الحديث
وأحوال الرجال أن يعلم تاريخ مشايخه من أهل مكة، وهم على ما ذكر:
1. المقرئ: وهو عبد الله بن يزيد الأهوازي الأصل والبصري، ثم المكي، مولى
آل عمر بن الخطاب من كبراء مشيخة البخاري وشيخ الحرم. (1)
2. خلاد: وهو ابن يحيى من مشايخ البخاري، سكن في مكة ومات بها في
حدود سنة 213 ه‍ وقال ابن نمير: «في حديثه غلط قليل». (2)
وقال أبو حاتم: «محله الصدق وليس بذاك». (3)
3. حسان بن حسان البصري المتوفى 213 ه‍: نزيل مكة، من شيوخ البخاري. (4)
قال أبو حاتم: «منكر الحديث». (5)
وقال الدارقطني في الجرح والتعديل: «ليس بقوي». (6)
4. الأزرقي: وهو أحمد بن محمد المتوفى 212 - 222 ه‍ على الاختلاف.
صاحب «تاريخ مكة»، من مشايخ البخاري، وكان أحد أوصياء الشافعي. (7)
5. الحميدي: وهو عبد الله بن الزبير، وقد فصلنا القول في ترجمته في هذا
الكتاب، باب: «المتحاملين على أبي حنيفة من شيوخ البخاري»



1 - سير أعلام النبلاء 10: 167.
2 - نفس المصدر السابق: 10: 165.
3 - ميزان الإعتدال 1: 657 رقم 2526.
4 - ميزان الإعتدال 1: 478 رقم 1803، تهذيب التهذيب 2: 217 رقم 452.
5 - نفس المصدر السابق.
6 - نفس المصدر السابق.
7 - تهذيب التهذيب 1: 68 - 69 رقم 134.
100
وإنه من مشايخ البخاري والمكثرين عنه في «الصحيح» وكان شديد الاعتناء به،
فراجع.
ولا شبهة أن هؤلاء الشيوخ كانوا في طليعة المؤثرين في تغيير مذهب البخاري
إلى مذهب الشافعي.
وقال محمد بن أبي حاتم البخاري: «سمعت أبا عبد الله محمد بن إسماعيل
يقول: حججت ورجع أخي بأمي، وتخلفت في طلب الحديث. فلما طعنت في ثمان
عشرة، جعلت أصنف قضايا الصحابة والتابعين وأقاويلهم، وذلك أيام عبيد الله بن
موسى. (1)
وصنفت كتاب «التاريخ» إذ ذاك عند قبر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في الليالي المقمرة وقل
اسم في التاريخ إلا له قصة، إلا أني كرهت تطويل الكتاب». (2)
«وكنت أختلف إلى الفقهاء بمرو وأنا صبي، فإذا جئت أستحيي أن أسلم عليهم،
فقال لي مؤدب من أهلها: كم كتبت اليوم؟
فقلت: اثنين! وأردت بذلك حديثين.
فضحك من حضر المجلس!
فقال شيخ منهم: لا تضحكوا! فلعله يضحك منكم يوما»!!
«وسمعته يقول: دخلت على الحميدي وأنا ابن ثمان عشرة سنة، وبينه وبين
آخر اختلاف في حديث، فلما بصر بي الحميدي، قال: قد جاء من يفصل بيننا، فعرضا
علي، فقضيت للحميدي على من يخالفه، ولو أن مخالفه أصر على خلافه، ثم مات على
دعواه لمات كافرا».
وقال أبو بكر الأعين: «كتبنا عن البخاري على باب محمد بن يوسف الفريابي
وما في وجهه شعرة، فقلنا: ابن كم أنت؟



1 - تاريخ بغداد 2: 7، سير أعلام النبلاء 12: 400.
2 - مقدمة فتح الباري: 479، الطبقات الكبرى 2: 216.
101
قال: ابن سبع عشرة سنة». (1)
وقال خلف الخيام: «سمعت إبراهيم بن معقل: سمعت أبا عبد الله يقول: كنت
عند إسحاق بن راهويه، فقال بعض أصحابنا: لو جمعتم كتابا مختصرا لسنن النبي (صلى الله عليه وسلم)،
فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع هذا الكتاب». (2)
وقال: «ما أدخلت في كتاب الجامع إلا ما صح، وتركت من الصحاح مخافة
الطول». (3)
وقال: «ما وضعت في كتابي الصحيح حديثا إلا أغتسلت قبل ذلك، وصليت
ركعتين». (4)
وقال: «أقمت بالبصرة خمس سنين ومعي كتبي، أصنف وأحج في كل سنة
وأرجع من مكة إلى البصرة، فأنا أرجو أن الله تبارك وتعالى يبارك للمسلمين في هذه
المصنفات». (5)
وقال: «صنفت كتابي الصحاح، لست عشرة سنة، خرجته من ستمائة ألف
حديث، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله تعالى». (6)
ولا يخفى على من تتبع في البخاري وعلم زواياه، أن ذلك لو صح صدوره منه
لكان هو جريمة منه، ولا يعد مدحا له، لانه كشف ما في قلبه بتعمده في جمعه
واختياره مما خرج من المتون والإسناد.
وهذا اعتراف لا يقبل العذر بعد ذلك، والتذرع بالسهو أو التساهل في تركه من



1 - الطبقات الكبرى للسبكي 2: 217.
2 - تاريخ بغداد 2: 9، طبقات السبكي 2: 221، سير أعلام النبلاء 12: 401، تاريخ مدينة دمشق 52: 728.
3 - سير أعلام النبلاء 12: 402، تاريخ مدينة دمشق 52: 73.
4 - تاريخ مدينة دمشق 52: 72، تاريخ بغداد 2: 9.
5 - تاريخ مدينة دمشق 52: 73.
6 - تاريخ بغداد 2: 14، تاريخ مدينة دمشق 52: 72.
102
الصحاح على ما يعترف به نفسه أكثر من آلاف الأحاديث، واختياره في الصحيح مما
يخالف العقل والإجماع، مع الإكثار في مكرراته فيما تبلغ في بعض الموارد إلى أزيد
من عشرين مرة.
فيعد من مكرراته المخالفة للإجماع تفضيل موسى على رسول الله (صلى الله عليه وآله). (1)
وجواز الكذب على الأنبياء. (2)
وروايات التشبيه والرؤية، حيث أراد وأمر بها «المتوكل». (3)
وكل ذلك مما خالف الإجماع والضرورة، كما تأتي الإشارة إلى رواياتها في
محلها، ومن جهة الإسناد: كثرة رواياته عن أهل البدعة، مثل: النواصب، والمرجئة،
والذين ضعفهم نفسه في كتبه الرجالية.
ولذا عظمت جريمته بارتكابه ذلك، حيث إن النواصب يعد من شؤونهم سب
علي بن أبي طالب، وكذا الرواة الأمويين الذين ولدوا على النصب، وتربوا في حجور
الناصبيات، فكيف يمكن الركون إلى أقوالهم؟!
مذهب البخاري
اختلف الكلام في مذهب أئمة الحديث والمصنفين للصحاح خاصة في
البخاري، فالأقوال فيه:
1 - إن البخاري شافعي.
2 - إنه مجتهد لا يقلد أحدا من الأئمة.
3 - إنه حنبلي.



1 - صحيح البخاري 4: 77 - باب ذكر الملائكة - وكتاب الأنبياء باب وفاة موسى وأن يونس لمن
المرسلين، فتح الباري 6: 346 و 7: 193 - كتاب الرقاق - ط باموق استانبول.
2 - صحيح البخاري كتاب الأنبياء - فتح الباري 6: 302 - 303.
3 - تاريخ بغداد 10: 66، تاريخ الإسلام: 230 وفيات 231 - 240.
103
4 - إنه إمام وصاحب مذهب إلا أن مذهبه قد انقرض.
5 - إنه حنفي أولا، ثم شافعي.
ولما كان البخاري قد ولد في بخارى ومذهب أهلها الحنفي، فلذلك قالوا: كان
مذهبه الأولي مذهب آبائه وأهل بلده وأساتذته، لأنه لا يمكنه التخلف عنهم بداية أمره،
ثم بعدما أقام بالحجاز واطلع على مذاهب الأئمة واختار الحميدي شيخا له صار
شافعيا، وهو أمر مؤكد من خلال كتبه في موافقته للشافعي، وطعونه على أبي حنيفة.
فمن الذين تكلموا في مذهب البخاري: الندوي في كتاب «الإمام البخاري»،
فإنه قال: «اختلف أهل العلم في مسالك أئمة الحديث: فبعضهم عدوهم كلهم
من المجتهدين، وآخرون جعلوهم من المقلدين، أما الإمام البخاري فمن المعروف أنه
شافعي، ولذا عده من الشافعية، السبكي في «طبقات الشافعية»، وصديق حسن خان في
«أبجد العلوم». (1)
وقال الحافظ ابن حجر في «الفتح»: «إن البخاري في جميع ما يورده في تفسير
الغريب إنما ينقله من أهل ذلك الفن، كأبي عبيد، والنضر بن شميل، والفراء... وغيرهم.
وأما المباحث الفقهية فمستمدة له من الشافعي وأبي عبيد». (2)
وقال الشيخ ابن القيم، في «أعلام الموقعين»: «البخاري، ومسلم، وأبو داود،
والأثرم، وهذه الطبقة من أصحاب أحمد أتباع له من المقلدين المحض المنتسبين
إليه»، وكذا ذكر هؤلاء الثلاثة ابن أبي يعلى في «طبقات الحنابلة»: وأن الترمذي تلميذ
البخاري، وهو ينقل في كتابه «مذاهب الأئمة»، ولكن لم ينقل مذهب الإمام البخاري إلا
في موضع واحد، وهو في باب الاقتداء بالإمام، فيظهر أنه لم يكن مجتهدا مستقلا.
الجواب: أن مذهب الإمام البخاري انقرض واندرس، ولم يكن له مقلدون،



1 - الإمام البخاري للندوي: 59.
2 - فتح الباري 1: 423.
104
ولذلك لم ينقل مذهبه». (1)
وقال ولي الله الدهلوي:... ومن هذا القبيل محمد بن إسماعيل البخاري، فإنه
معدود في طبقات الشافعية، وممن ذكره في طبقات الشافعية الشيخ تاج الدين
السبكي، وقال: إنه تفقه بالحميدي، والحميدي تفقه بالشافعي واستدل شيخنا العلامة
على ادخال البخاري في الشافعية بذكره في طبقاتهم، وكلام النووي الذي ذكرناه شاهد
له (2).
... وقال بعد ذلك: اما البخاري، فإنه وان كان منتسبا إلى الشافعي موافقا له في
كثير من الفقه فقد خالفه أيضا في كثير. وذلك لا يعد ما تفرد به من مذهب الشافعي. (3)
محاكمة الندوي
يتعصب الندوي للبخاري كثيرا لحبه المفرط إياه، ولذا قام بواجبه وهو تطهير
البخاري من العيوب، فهو يحذف كثيرا من العبارات الموهنة والقادحة في البخاري
حتى لا يتوهم أحد في أن إمام أهل الحديث يكون مطعونا ومثلوبا! ولذا حذف من
عبارة ابن حجر في «الفتح» قوله: «وأما المسائل الكلامية فأكثرها من الكرابيسي، وابن
كلاب ونحوهما». (4)



1 - الإمام البخاري للندوي: 59.
2 و 2 - والانصاف في بيان أسباب الاختلاف: 76 - 86.
4 - فتح الباري 1: 423، الكرابيسي هو الحسين بن على بن يزيد البغدادي المتوفى 245 ه‍، كان أحمد بن
حنبل تكلم فيه بسبب مسألة اللفظ وهو من مشايخ البخاري في الكلام، قال ابن حجر: كان يطعن على
أحمد بن حنبل، وهجر الحنابلة حسينا الكرابيسي، وتابعه على نحلته داود بن علي الإصبهاني،
وعبد الله بن سعيد بن كلاب، وغيرهما. راجع: تهذيب التهذيب 2: 310 - 311، وأما ابن كلاب، فهو
عبد الله بن سعيد القطان البصري رأس الكلابية. اختلف العلماء فيه: فقال طائفة: إنه نصراني دس دين
النصارى في الإسلام، ومن نابتة الحشوية.
105
ووجه ذلك: «أن الكرابيسي متهم وملعون على لسان أحمد بن حنبل وابن
معين». (1)
وابن كلاب أيضا، وهو متهم بالنصرانية، وتنتسب إليه الكلابية. (2)
وقد ذكرنا ترجمتهما في من تأثر البخاري بهم من شيوخه وغيرهم في كتابنا
«وقفة مع البخاري».
- والندوي أيضا لم ينقل كلام الترمذي وغيره في البخاري لعدم معرفته
ب‍ «الناسخ والمنسوخ»، وفي نفي اجتهاده.
مذهب البخاري في الكلام
البخاري في كتبه الكلامية يسلك آراء معاصريه في المباحث المتداولة بين أهل
العلم فإنه يأخذ غالبا من العقول المنحرفة.
كابن كلاب، والكرابيسي، وشمخصة، وإسماعيل بن عرعرة، الذين تركوا سنة
الرسول (صلى الله عليه وآله) وراء ظهورهم.
ووافقوا الخوارج والنواصب تارة، واليهود والنصارى أخرى، وما يهتم به
الأمراء والحكام وما تستأنس به مجالس العلماء والمتكلمين. ويتخذ لذلك أيضا طريق
المخالفة للمعتزلة وأهل الرأي من الحنفية، مع ما يوافق سياسة «المتوكل العباسي» في
مواجهة المعتزلة والجهمية.
فنرى في كتابه «خلق أفعال العباد» أنه خاصم «الجهمية» وأفكارهم، كما ذكر فيه
مخالفته لبشر المريسي المتكلم، والقائل بخلق القرآن.



1 - الكامل في ضعفاء الرجال 2: 775، المغني في الضعفاء 1: 173 رقم 1552، سير أعلام النبلاء 12:
79 رقم 23، ميزان الإعتدال 1: 544 رقم 2022، الوافي بالوفيات 12: 430 رقم 386، تهذيب
التهذيب 2: 310، رقم 618، تقريب التهذيب 1: 178 رقم 378، لسان الميزان 2: 303.
2 - الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم 5: 77، معجم الفرق الاسلامية لشريف يحيى: 200،
المقالات للأشعري 1: 154، سير أعلام النبلاء 11: 175، تهذيب التهذيب 2: 310، تاريخ بغداد 8: 373.
106
وأما رده على الجهمية فإنه أنكر مقالتهم: «إن القرآن مخلوق»، وكفرهم وقال:
«هم شر من اليهود والنصارى».
مع أنه أظهر لنفسه مقالة حسين الكرابيسي: «إن القرآن كلام الله غير مخلوق، وإن
ألفاظنا به مخلوقة». (1)
فهو في الكلام اختار ما اختاره الكرابيسي في اللفظ، وقال: «إن القرآن كلام الله
غير مخلوق، وإن أفعالنا مخلوقة، ومن زعم أني قلت: لفظي بالقرآن مخلوق فهو
كذاب، فإني لم أقله، إلا أني قلت: أفعال العباد مخلوقة». (2)
وقال الحاكم: «أخبرنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب بن الأخرم: سمعت ابن علي
المخلدي: سمعت محمد بن يحيى يقول: قد أظهر هذا البخاري قول اللفظية، واللفظية
عندي شر من الجهمية». (3)
وروى الذهبي: «أن رجلا سأل محمد بن إسماعيل البخاري عن اللفظ بالقرآن؟
فقال: أفعالنا مخلوقة، وألفاظنا من أفعالنا، فوقع بينهم اختلاف». (4)
فعلى كل حال، إن البخاري قد أخذ اعتقاده في الكلام عن ابن كلاب
والكرابيسي، كما اعترف به ابن حجر، في قوله:
«إن البخاري في جميع ما يورده من التفسير الغريب إنما ينقله أهل ذلك الفن،
كأبي عبيد، والنضر بن شميل، والفراء... وغيرهم. وأما المباحث الفقهية فغالبها
مستمدة له من الشافعي، وأبي عبيد وأمثالهما. وأما المسائل الكلامية فأكثرها من
الكرابيسي، وابن كلاب ونحوهما». (5)



1 - سير أعلام النبلاء 13: 100 رقم 55.
2 - تاريخ بغداد 2: 32، سير أعلام النبلاء 12: 458.
3 - مقدمة الفتح 494، سير أعلام النبلاء 12: 459.
4 - سير أعلام النبلاء 12: 458.
5 - فتح الباري 1: 423.
107
فالقول بخلق القرآن هو قول جهم بن صفوان السمرقندي المتوفى سنة 128 ه‍،
والكرابيسي من شيوخ البخاري وهو أيضا يقول باللفظ، وقد أخذ البخاري ذلك عنه
حتى قال: «ألفاظنا من أفعالنا، وأفعالنا مخلوقة».
وقال الذهبي في ترجمة داود بن علي: «رأس أهل الظاهر، فهو الذي قال: أما
الذي في اللوح المحفوظ فغير مخلوق، وأما الذي هو بين الناس فمخلوق». (1)
وقال الذهبي: «وهذه التفرقة والتفصيل ما قالها أحد قبله فيما علمت، وما زال
المسلمون على أن القرآن العظيم كلام الله ووحيه وتنزيله حتى أظهر المأمون القول بأنه
مخلوق، وظهرت مقالة المعتزلة، فثبت الإمام أحمد بن حنبل وأئمة السنة على القول
بأنه غير مخلوق، إلى أن ظهرت مقالة حسين بن علي الكرابيسي، وهي: إن القرآن كلام
الله غير مخلوق، وإن ألفاظنا به مخلوقة، فأنكر الإمام أحمد ذلك وعده بدعة، وقال:
من قال: لفظي بالقرآن مخلوق يريد به القرآن، فهو جهمي، وقال: أيضا: من قال:
لفظي بالقرآن غير مخلوق، فهو مبتدع. فزجر عن الخوض في ذلك من الطرفين.
وأما داود فقال: القرآن محدث، فقام على داود خلق من أئمة الحديث، وأنكروا
قوله وبدعوه. وجاء من بعده طائفة من أهل النظر، فقالوا: كلام الله معنى قائم بالنفس،
وهذه الكتب المنزلة دالة عليه، ودققوا وعمقوا، فنسأل الله الهدى واتباع الحق به». (2)
عقيدته في التوحيد
شهدت الفترة بين أواخر القرن الثاني إلى القرن الثالث ظهور التيارات الفكرية
من معتزلة، وقدرية، ومرجئة، وأشعرية، وأضحت المباحث الأصولية في التوحيد،
والنبوة، والمعاد، والإيمان، والقرآن، والقضاء والقدر من أهم المسائل الخلافية التي
أصبحت ميدانا للمتكلمين والعلماء وكان بعضهم يسعى في إرضاء الخلفاء، ومن هنا



1 - سير أعلام النبلاء 13: 100.
2 - سير أعلام النبلاء 13: 100 - 101.
108
ينبغي أن نلتفت إلى أن الصحاح المشهورة عند السنة دونت وانتشرت في البلاد بين
هذه الفترة الزمنية التي تعد من أنشط العصور في جمع السنن والتدوين والتبويب.
وازداد بذلك اهتمام الخلفاء بأمر الحديث، مع تشجيعهم على ترجمة الكتب
الفلسفية من اليونانية، والفارسية، والهندية، إلى العربية وتصرفوا فيها بأنواع الباطل في
الامور الإلهية، فتعمقت هوة الخلاف بين العلماء والمحدثين، وصار الناس فيها أشتاتا،
وتفرقت كلمة الإسلام، وتمت الأغراض المكنونة في قلوب الذين لهم زيغ وأهواء. ألا
ترى أن المأمون، والمعتصم، والواثق كيف ساقوا المحدثين إلى الإعتزال، والمتوكل
إلى النصب ومعارضة الإعتزال، والرد على الجهمية، وانتشار الخلاف في نشر أحاديث
التشبيه؟!
ولا شبهة في أن البخاري قد عاصر هؤلاء الملوك!!. ويشهد على اعتقاده المتأثر
في التوحيد أبواب متعددة من كتابه «الصحيح» الذي تعتمد عليه أكثر من كتبه الأخرى،
فمن تأمل في تراجمه وأحاديثه يعلم - دون ريب - أنه أخرج في صحيحه أخبار
المجسمة والنصارى في الله تبارك وتعالى.
صحيح إن الإعتقاد بالتجسيم يوجد لدى غيره من المحدثين، ولكن البخاري
أورد من الأحاديث ما جعل ابن حجر العسقلاني يستنكر ذلك.
فقد أخرج عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن أنس بن مالك أنه ذكر المعراج،
فقال فيه: «فعلا به إلى الجبار تعالى، فقال وهو في مكانه: يا رب! خفف عنا». (1)
قال ابن حجر: «قال الخطابي: ليس في هذا الكتاب - يعني صحيح البخاري -
حديث أشنع مذاقا من هذا الفصل...». (2) والمكان لا يضاف إلى الله عز وجل.
وقال الخطابي أيضا: وفي هذا الحديث «فاستأذنت على ربي وهو في داره»،



1 - فتح الباري 13: 478.
2 - فتح الباري 13: 483.
109
يوهم مكانا. (1)
وعلى روايته أيضا في الصحيح: «أن الله عز وجل يكشف عن ساقه».
وفي رواية «الفتح»، عنه: «يكشف ربنا عن ساقه»! (2)، مع أنها في القرآن: (يوم
يكشف عن ساق (3))، أي يكشف عن أمر شديد، كما قاله الجمهور، فالبخاري خالف
الجمهور فرواه بلفظ: «عن ساقه». وقد روى - على خططه هذا - في مكرراته بما يزيد
على خمسة مواضع.
ومن ذلك روايته تصديق النبي (صلى الله عليه وآله) لاعتقاد حبر من أحبار اليهود في الله عز
وجل وروايته: «أن حبرا من اليهود جاء إلى النبي (صلى الله عليه وسلم)، فقال: يا محمد! إن الله يمسك
السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال على إصبع، والشجر على إصبع،
والخلائق على إصبع، ثم يقول: أنا الملك! فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه.
وفي رواية عثمان بن أبي شيبة، عن جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبيدة،
عن عبد الله: «فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه تعجبا وتصديقا له». (4)
وقال ابن حجر: «قال القرطبي: هذا كله قول اليهودي، وهم يعتقدون التجسيم،
وأن الله شخص ذو جوارح...
وأما من زاد: «وتصديقا له» فليست بشيء، فإنها من قول الراوي، وهي باطلة،
لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) لا يصدق المحال، وهذه الأوصاف في حق الله محال...». (5)



1 - رواه البخاري، فتح الباري 2: 422.
2 - فتح الباري 8: 664.
3 - القلم 68: 42.
4 - صحيح البخاري 8: 202 - ط باقوق - استانبول / باب: كلام الرب يوم القيامة مع الأنبياء، وباب: إن الله
يمسك السماوات والأرض أن تزولا، وباب: يريدون أن يبدلوا كلام الله، وكتاب الأنبياء / باب: إن
يونس لمن المرسلين، وباب: لما خلقت بيدي، وفي: «فتح الباري» 13: 338 - 339.
5 - فتح الباري 13: 340.
110
وقد يضاف إلى المصيبة روايته: «تصديقا له» في قوله ذلك، ولا أدري لم أورد
هذه الرواية وأضرابها، ولأي مقصد، وماذا يبغي وراءها؟!
اعتقاد البخاري في النبوة
الإعتقاد بالنبوات عند المذاهب من أهم المسائل الخاصة المتعلقة بنفس
المذهب، وقد يتفق أن نقطة الخلاف بين المذاهب والشرائع الأخذ بما جاء به نبي من
الأنبياء من دون عناية إلى الآخرين.
فالاعتقاد بالضروري في الأنبياء هو الإعتقاد بالعصمة ونفي الكذب عنهم، فمن
ادعى الإسلام ولم يعتقد بجملة من ضرورياته فهو خارج عن دائرة الإسلام والإيمان.
ومن ذلك أفضلية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على جميع الأنبياء (عليهم السلام) فما أورده البخاري في صحيحه
في الأنبياء ولا سيما في خاتمهم (صلى الله عليه وآله) - عن مراتبه وعصمته - مخالف للإجماع،
ومخالف للعقيدة السليمة عند المسلم، ولا يوجد شيء من ذلك عند غيره ممن هو
مشهور بالعلم، فضلا عما هو مشهور بالإمامة في الحديث!!.
وهذه من روايات «الصحيح» في الأنبياء:
1 - حدثني إبراهيم بن المنذر: حدثنا محمد بن فليح، حدثني أبي عن هلال
بن علي من بني عامر بن لؤي، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة رضي ا. عنه، عن
النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «من قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب». (1)
2 - حدثنا يحيى بن بكير، عن الليث، عن عبد العزيز بن أبي سلمة، عن عبد الله
بن الفضل، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: بينما يهودي يعرض سلعته أعطي بها
شيئا كرهه، فقال: لا والذي اصطفى موسى على البشر فسمعه رجل من الأنصار
فقام فلطم وجهه، وقال: تقول والذي اصطفى موسى على البشر والنبي (صلى الله عليه وسلم) بين
أظهرنا!



1 - صحيح البخاري 6: 31، كتاب التفسير، سورة الصافات، و 4: 125 كتاب الأنبياء، باب قول الله: (وكلم
الله موسى تكليما 4: 132، باب: إن يونس لمن المرسلين.
111
فذهب إليه فقال: يا أبا القاسم! إن لي ذمة وعهدا فما بال فلان لطم وجهي؟!
فقال: «لم لطمت وجهه»؟ فذكره، فغضب النبي (صلى الله عليه وسلم) حتى رؤى في وجهه ثم
قال: «لا تفضلوا بين أنبياء الله، فانه ينفخ في الصور فيصعق من في السموات ومن
في الأرض إلا من شاء الله، ثم ينفخ فيه الأخرى فأكون أول من بعث، فإذا موسى
آخذ بالعرش! فلا أدري أحوسب بصعقتة يوم الطور؟ أم بعث قبلي؟! ولا أقول إن
أحدا أفضل من يونس بن متى»!!. (1)
3 - وفي رواية «كتاب الرقاق»:... فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) «: لا تخيروني على موسى،
فان الناس يصعقون يوم القيامة... الخ». (2)
4 - وروى في أكثر من سبعة موارد، قوله: «لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من
يونس بن متى».
5 - وفي كتاب «الخصومات»... فقال: «لا تخيروا بين الأنبياء، فإن الناس
يصعقون يوم القيامة... الخ». (3)
وفي الشروح على هذه الرواية تكلم المحب والمبغض في تأويلها، فلم يقدر
أحد منهم أن يدافع عنه في ذلك، وإنهم قد ابتلوا بالمغالطات البينة الواضحة، حتى لقد
سلك بعضهم سبيل من لا يدافع عنه، فصرح بالبطلان!
اعترف الحافظ ابن حجر بأنها تدل على فضيلة موسى على النبي (صلى الله عليه وآله)، وقال:
«فإن كان أفاق قبله فهي فضيلة ظاهرة، وإن كان ممن استثنى الله فلم يصعق فهي فضيلة
أيضا...»! (4)



1 - صحيح البخاري 4: 133، كتاب الأنبياء، و 3: 88 - 89، كتاب الخصومات، مكررا و 7: 193، كتاب
الرقاق، باب: نفخ الصور، ط باموق استانبول.
2 - صحيح البخاري 7: 193، كتاب الرقاق، باب: نفخ الصور.
3 - صحيح البخاري 3: 88 - 89 كتاب الخصومات، باب: ما يذكر في الإشخاص والخصومة بين المسلم
واليهود و 4: 131 باب: وفاة موسى.
4 - فتح الباري، 6: 346، كتاب الأنبياء.
112
ولا شبهة لمسلم في أن النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله) أفضل الأنبياء وأشرفهم في الدنيا
والآخرة، وشريعته خاتمة الشرائع وناسختها،
فلا يبقى بعد ذلك مجال للتبرير والدفاع عن هذه الروايات في البخاري وغيره
من الكتب!.
ويعد من ذلك أيضا روايته في جواز الكذب على الأنبياء:
حدثنا محمد بن محبوب: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن محمد، عن
أبي هريرة، قال: لم يكذب إبراهيم (عليه السلام) إلا ثلاث كذبات، ثنتين منهن في ذات
الله عز وجل: قوله: «إني سقيم»، وقوله: «بل فعله كبيرهم هذا».
وقال: بينا هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبار من الجبابرة فقيل له: إن ههنا
رجلا معه امرأة من أحسن الناس، فأرسل إليه فسأله عنها، فقال: من هذه؟
قال: أختي، فأتى سارة، قال: يا سارة! ليس على وجه الأرض مؤمن غيري
وغيرك، وإن هذا سألني عنك، فأخبرته: أنك أختي، فلا تكذبيني! فأرسل إليها، فلما
دخلت عليه ذهب يتناولها بيده، فأخذا فقال: ادعي الله لي ولا أضرك... الخ». (1)
وهذه الرواية أيضا، لا تنسجم مع عقيدة المسلم في الأنبياء،
لأن الكذب من الكبائر ولا يصح إطلاقه نسبته إلى الأنبياء.
ولذلك قال الفخر في تفسيره «الكبير»: «لا يحكم بنسبته الكذب إليهم
إلا الزنديق». (2)
وقال أيضا: «لا ينبغي أن يقبل هذا الحديث، لأن نسبة الكذب إلى إبراهيم لا
تجوز».



1 - صحيح البخاري 4: 112 كتاب بدء الخلق، باب قول الله: (واتخذ الله إبراهيم خليلا) ط باموق
استانبول، وفتح الباري 6: 302.
2 - التفسير الكبير، 22: 185
113
ثم قال: «لما وقع التعارض بين الكذب إلى الراوي وبين نسبته إلى الخليل (عليه السلام)
كان من المعلوم بالضرورة أن نسبته إلى الراوي أولى»!. (1)
فاذن، يستشهد بقول الرازي، وينسب الكذب إلى الراوي لا إلى الخليل.
وكذلك روى في موسى (عليه السلام) ما لا يمكن صدوره من أحد من الأنبياء، يقول
بسنده:
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) «- إن موسى كان رجلا حييا ستيرا
لا يرى من جلده شيء استحياء منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل، فقالوا: ما
يستتر هذا التستر إلا من عيب بجلده، إما برص، وإما أدرة، وإما آفة! وإن الله أراد أن
يبرئه مما قالوا لموسى، فخلا يوما وحده فوضع ثيابه على الحجر ثم اغتسل، فلما
فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها، وإن الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه وطلب
الحجر! فجعل يقول: ثوبي حجر! ثوبي حجر! حتى انتهى إلى ملا من بني إسرائيل،
فرأوه عريانا أحسن ما خلق الله، وأبرأه مما يقولون... الخ». (2)
ويعد من ذلك روايته أيضا في وفاة موسى، وضربه ملك الموت، وفقء عينه!!.
وروى في رسول الله (صلى الله عليه وآله) - كما ذكرنا - ما يخالف إجماع المسلمين، إذ روى في
تفضيل موسى على النبي (صلى الله عليه وآله).
وفي كتاب «الذبائح» نسب إلى النبي (صلى الله عليه وآله) أكل لحوم ما ذبح على الأصنام!، فروى:
«حدثنا معلى بن أسد، حدثنا عبد العزيز - يعني ابن المختار -: أخبرنا موسى
بن عقبة قال: أخبرني سالم أنه سمع عبد الله يحدث عن رسول الله: أنه لقي زيد بن
عمرو بن نفيل بأسفل بلدح - وذاك قبل أن ينزل على رسول الله الوحي - فقدم إليه



1 - التفسير الكبير، للرازي 26: 148.
2 - صحيح البخاري 4: 129 - 130، كتاب بدء الخلق - في الأنبياء - باب: حدثني إسحاق بن نصر... بعد
باب قوله تعالى: (وواعدنا موسى...) ط باموق.
114
رسول الله سفرة فيها لحم، فأبى أن يأكل منها، ثم قال: إني لا آكل مما تذبحون
على أنصابكم، ولا آكل إلا مما ذكر اسم الله عليه»!!. (1)
وفي هذه الرواية - كما تبدو من ظاهرها - افتراء على النبي (صلى الله عليه وآله)، وإليك بعض
الآراء في شرح هذه الرواية:
قال ابن حجر: «قال الداودي: كان النبي (صلى الله عليه وسلم) قبل البعث يجانب المشركين في
عباداتهم، ولكن لم يكن يعلم ما يتعلق بأمر الذبائح، وكان زيد قد علم ذلك من أهل
الكتاب الذين لقيهم.
وقال أيضا: وقد وقع في حديث سعيد بن زيد الذي قدمته، هو عند أحمد، فكان
زيد يقول: عذت بما عاذ به إبراهيم، ثم يخر ساجدا للكعبة، فمر بالنبي (صلى الله عليه وسلم) وزيد بن
حارثة وهما يأكلان من سفرة لهما فدعواه، قال: يا ابن أخي! لا آكل مما ذبح على
النصب!
قال: فما رؤي النبي (صلى الله عليه وسلم) يأكل مما ذبح على النصب من يومه ذلك»!. (2)
وهذه النسبة ظاهرة البطلان والفساد في حق النبي (صلى الله عليه وآله) كما استظهرها بعض
الشراح عند بيان المغالطات والتأويلات الواهية في شرح الحديث.
بين تصديق البخاري وتكذيب مخالفيه
نبدأ بذكر الذهلي محمد بن يحيى بن عبد الله أبو عبد الله الذهلي النيسابوري
المتوفى سنة 258 ه‍. التي إنتهت إليه مشيخة العلم بخراسان. (3)
وقال أبو حاتم الرازي: «محمد بن يحيى إمام أهل زمانه». (4)



1 - صحيح البخاري 6: 225، كتاب الذبائح، باب: ما ذبح على النصب والأصنام ط باموق، فتح الباري 9:
518.
2 - فتح الباري 7: 113 كتاب المناقب، باب: حديث زيد بن عمرو بن نفيل.
3 - تاريخ الإسلام للذهبي، وفيات 251 - 260 ص 339.
4 - تاريخ بغداد 3: 418، تاريخ الإسلام، وفيات 251 - 260 ص 339.
115
وقال النسائي: «محمد بن يحيى ثقة مأمون». (1)
وقال الذهبي: «كانت له جلالة عجيبة بنيسابور، من نوع جلالة الإمام أحمد
ببغداد ومالك بالمدينة». (2)
وقال أبو نصر الكلاباذي: «روى عنه البخاري، فقال مرة: ثنا محمد، وقال مرة: ثنا
محمد بن عبد الله، نسبه إلى جده، وقال مرة: ثنا محمد بن خالد، ولم يصرح به قط». (3)
كما سيأتي ذلك في «تدليس البخاري».
وقال الحاكم: «روى عنه البخاري نيفا وأربعين حديثا». (4)
فهو الذي قال في البخاري: «من ذهب بعد هذا إلى محمد بن إسماعيل البخاري
فاتهموه»! (5)
وقال أيضا: «لا يساكنني هذا الرجل في البلد، فخشي البخاري وسافر». (6)
وعلى ذلك أيضا تعرف ترك أبي حاتم وأبي زرعة الرازيين على البخاري في
نقل ابن أبي حاتم، مع أنهم يعدون من أئمة السنة، وتدور على أقوالهم صحة حديث
السنة وسقمها. فان كان هؤلاء من المفترين على البخاري، فكيف تحفظ لهم الإمامة،
ويعتنى بشؤونهم، ويؤخذ بأقوالهم، وقد صح عن النبي (صلى الله عليه وآله): «أعراض المسلمين حفرة
من حفر النار»؟!
وإذا كان هؤلاء قد انحرفوا عن الجادة في هتك البخاري، فكيف نركن إلى
أخبارهم في السنن والآثار حتى يحتج بها في إثبات المذهب؟!!
وما ذكرنا ينافي دفاع مؤلف كتاب «إتهامات كاذبة» عن البخاري في هجومه على



1 - تاريخ بغداد 3: 418.
2 - سير أعلام النبلاء 12: 274.
3 - رجال صحيح البخاري 2: 1122.
4 - تاريخ الإسلام، وفيات 251 - 260 ص 342.
5 - تاريخ بغداد 2: 31 - 32، سير أعلام النبلاء، 12: 455. تاريخ الإسلام، وفيات 251 - 260 ص 268.
6 - سير أعلام النبلاء 12: 460، مقدمة الفتح: 492.
116
الذهلي!
فإنه قال: «وسوف أسوق ما حصل بينه وبين الذهلي في مسألة اللفظ، وكيف أن
الحسد لعب دورا كبيرا في تضليل العامة من الناس بإلصاق التهمة بالبخاري رحمه
الله»!! (1)
وقد رأيت أن الذهلي هذا كان من مشايخ البخاري، مع أنه لا يرى في دينه إثما
عند هتكه لستر المؤمنين!!.
فأين تقواه بعد إذ عرف من أهل الإمامة في الحديث وفي أهم شؤون الإيمان؟!
وفي هذه القضية يدور الأمر حول تصديق البخاري وتكذيب مخالفيه، أو
تصديقهم وتكذيبه، وفي كلتا الصورتين لن نخرج بنتائج طيبة عن أحدهما أو كليهما.
قال عبد الرحمن بن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل: «قدم محمد بن
إسماعيل الري سنه خمسين ومائتين، وسمع منه: أبي وأبو زرعة، وتركا حديثه عندما
كتب إليهما محمد بن يحيى أنه أظهر عندهم أن لفظه بالقرآن مخلوق». (2)
ومحمد بن يحيى هو الذي كتب أيضا إلى أمير بخارى خالد بن أحمد الذهلي:
«أن هذا الرجل (محمد بن إسماعيل البخاري) قد أظهر خلاف السنة. فقرأ كتابه
على أهل بخارى، فقالوا: لا نفارقه، فأمره الأمير بالخروج من البلد، فخرج». (3)
فعلى ذلك، لو كان مثل محمد بن يحيى الذهلي يفترى على البخاري ويتهمه،
فهو فاسق وساقط عن الاعتبار، فكيف خرج البخاري رواياته في الصحيح مع ما يعلم
أنه يفتري عليه ويسقطه أمام الناس؟!!



1 - إتهامات كاذبة، للحازمي: 85.
2 - الجرح والتعديل للرازي 7: 191 رقم 1086.
3 - سير أعلام النبلاء 12: 463، تاريخ الاسلام: 27 وفيات 241 - 250، مقدمة الفتح: 494.
117
مذهب البخاري في الحديث
قد أصبح الباحثون واشتهر لديهم أن للبخاري مذهبا قد اختص به نفسه من بين
القدماء من المحدثين، فيقول لذلك، الدكتور المليباري من الجزائر في المؤتمر
الدولي حول حياة الإمام البخاري الذي انعقد بسمرقند: «... في ضوء الواقع العلمي
لتطبيقات النقاد، وممارساتهم العملية في مجال نقد الأحاديث، ورواتها، ولهذا ظهرت
التعاريف التي استقر عليها المتأخرين غير وافية لمدلول المصطلحات المتداول لدى
المتقدمين،... وقد تتبعت كلام الإمام البخاري فوجدت فيه إطلاق الحسن على
الصحيح، وعلى الضعيف الذي لم يكن مردودا ولا منكرا، وعلى المتوسط بينهما، أي
بين الحديث الصحيح والحديث الضعيف، لكن استخدام مصطلح الحسن في
المقبول الذي لم يرتق إلى مستوى الصحيح ولم ينزل إلى درك الواهي المردود أكثر
مما سواه (1)».
وكان البخاري يعتمد في الحديث على الحفظ دون الكتابة والضبط، ولذلك
قالوا: إنه لا يكتب الحديث عند سماعه من الشيخ! وقال محمد بن الأزهر السجستاني:
«كنت في مجلس سليمان بن حرب والبخاري معنا يسمع ولا يكتب، فقيل لبعضهم: ما
له لا يكتب؟ فقال: يرجع إلى بخارى ويكتب ما حفظه» (2). وقد صح عنه «أنه قال: رب
حديث سمعته بالبصرة كتبته بالشام، ورب حديث سمعته بالشام كتبته بمصر. قال:
فقلت له: يا أبا عبد الله! بكماله؟ قال: فسكت»! (3) ومن ثمرات عدم كتابته للحديث
تصرفاته الكثيرة في متون الروايات بالزيادة والنقيصة في ألفاظها.
هذا، وإن كانوا يسمونه ب‍ «النقل بالمعنى» إلا أنهم يعلمون، أن النقل بالمعنى



1 - نظرات جديدة في علوم الحديث للمليباري: 18 - 23.
2 - هدى الساري: 194.
3 - تاريخ بغداد 2: 11، تاريخ مدينة دمشق 52: 65، سير أعلام النبلاء 12: 411، تهذيب
الكمال 16: 93.
118
ممنوع عند المحدثين، وجوازه مشروط بعدم التصرف في المعاني المقصودة، بخلاف
ما يشاهد في البخاري من التصرف والإسقاط بحيث يقلب المعاني في أكثر الموارد.
وقد ذكرنا جملة من ذلك في كتابنا «الإمام البخاري وصحيحه الجامع
المختصر» فراجع، لأننا قد أثبتنا فيه أن البخاري أسقط من أول كتابه في حديث:
«الأعمال بالنيات...» إلى آخره في أكثر رواياته، فإنه روى حديث «الأعمال بالنيات...»
عن الحميدي، وذلك يخالف ما في «مسند الحميدي» بإسقاط: «فمن كانت هجرته إلى
الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله». (1)
البخاري وعلم الرجال الحديث
يظهر من رد الدارقطني في «الإلزامات والتتبع» و «بيان خطأ البخاري» لابن أبي
حاتم الرازي، و «موضح الأوهام» للخطيب، وبعض كلمات الذهبي، أن البخاري لا
خبرة له في الرجال، لهذا نراه يغلط في كثير من الموارد.
فقال الذهبي في ذلك: «والبخاري ليس بالخبير برجال الشام، وهذا من
أوهامه». (2)
وقال في ترجمة «القاسم بن عبد الرحمن الدمشقي»: وذكر البخاري في
«تاريخه»: «أنه سمع عليا وابن مسعود، وهذا من وهم البخاري». (3)
وقال أبو عمرو بن حمدان: «سألت ابن عقدة: أيهما أحفظ، البخاري أم مسلم؟
فقال: كان محمد عالما ومسلم عالم، فأعدت عليه مرارا، فقال: يقع لمحمد الغلط في
أهل الشام، وذلك لأنه أخذ كتبهم ونظر فيها فربما ذكر الرجل بكنيته، ويذكره في
موضع آخر باسمه، يظنهما اثنين. وأما مسلم فقلما يوجد له غلط في العلل، لأنه كتب



1 - مسند الحميدي 1: 16 - 17 رقم 28.
2 - تاريخ الإسلام للذهبي، وفيات 100 - 120 ص 112. (في خالد بن اللجلاج العامري).
3 - سير أعلام النبلاء 5: 194 رقم 72، يريد به «التاريخ الصغير» للبخاري 1: 220.
119
المسانيد ولم يكتب المقاطيع ولا المراسيل». (1)
ويعد من ذلك ما يقال في تدليسه، لأنه ربما يحذف وجه التمييز، فيشترك
الراوي بين العدل أو الفسق!!.
ومن موارد النقض عليه هو ما قاله الذهبي في ترجمة «علي بن هاشم بن
البريد» المتوفى 180 ه‍، فإنه قال: «وثقه يحيى بن معين، وقال أبو داود: ثبت يتشيع.
ترك البخاري إخراج حديثه، فإنه يتجنب الرافضة كثيرا، كأنه يخاف من تدينهم،
بالتقية، ولا نراه يتجنب القدرية ولا الخوارج ولا الجهمية». (2)
وقد يرد عليه قوله في «خلق أفعال العباد»: «ما أبالي صليت خلف الجهمي
والرافضي أم صليت خلف اليهود والنصارى». (3)
وقال أيضا: «نظرت في كلام اليهود والنصارى والمجوس، فما رأيت قوما أضل
في كفرهم من الجهمية، وإني لأستجهل من لا يكفرهم». (4)
وقال بعض في الطعن عليه: «وهذا الغلو والإفراط الذي لا يوافقه عليه جمهور
العلماء سلفا وخلفا. وكيف يذهب هذا المذهب مع أنه قد خرج في صحيحه أحاديث
كثيرة رويت عن الجهمية والخوارج وغيرهما من الفرق، فإذا كان يحكم بكفرهم،
فكيف يروي عنهم»؟! (5)
وقد فصلنا الكلام في رجال البخاري الذين ضعفهم هو نفسه، ثم روى عنهم في
الصحيح، في كتابنا «وقفة مع البخاري»، لأنه ربما يضعف الراوي في الرجال ويذكره
في «ضعفائه»، ثم يروي عنه في «الصحيح».



1 - شروط الأئمة الستة: 5.
2 - ميزان الإعتدال، 1: 160 رقم 5960.
3 - خلق أفعال العباد للبخاري: 71.
4 - نفس المصدر السابق.
5. التعليق على شرح السنة للبغوي، 1: 228.
120
تدليس البخاري
التدليس إصطلاحا: إخفاء عيب في الإسناد. (1)
ويلاحظ من هذا التعريف سبب تسميته بذلك، فهو خداع وخيانة، لأن المدلس
يخون السامع ويوهمه بأنه قد سمع من شيخه مع أنه لم يسمع منه.
وهو بهذا يكتم عيبا في الاسناد، كأن يكون شيخه ضعيفا، فيستره، ويحسنه،
ومن قام بهذا الفعل صار مدلسا.
وهو ينقسم - بالنظر إلى الحديث متنا وإسنادا إلى قسمين:
1. تدليس المتن: وهو أن يدخل الراوي للحديث شيئا من كلامه في الحديث،
في أوله، أو وسطه، أو آخره، وبوجه يوهم أنه من جملة الحديث الذي رواه، ويسمى
تدليس المتون. وقد غلب عليه تسميته بالمدرج، وهو في المدرج أقرب من
هنا.
وفاعل هذا عمدا مجروح العدالة، مرتكب المحرم، وذلك لما فيه من الغش. (2)
2. تدليس الاسناد: وهو أن يروي الرواي عمن عاصره ولقيه ولم يسمع منه، أو
لقيه وسمع منه حديثا لم يسمعه منه بصيغة توهم السماع منه.
وسبب تسمية هذا بتدليس الإسناد هو استعمال الراوي الأدوات التي تحتمل
السماع المباشر في الرواية.
«والتدليس يوجب الجرح في الراوي، ومن ثبت عليه التدليس ولو مرة صار
مجروحا، والجرح في الراوي يوجب ضعف الحديث ويجعله غير مقبول». (3)
هذا، وقد اختلف العلماء في حكم التدليس، وله شرح وسيع في محله.



1 - تيسير مصطلح الحديث للطحان: 78، أسباب رد الحديث لمحمود بكار 79.
2 - فتح المغيث للسخاوي 1: 184، وأسباب رد الحديث للبكار: 80.
3 - أسباب رد الحديث: 87.
121
أقوال العلماء في ذم التدليس
ذم العلماء التدليس واعتبروه ضربا من الغش والخداع والتمويه وفيه غرر،
وقالوا: هو داخل في قوله (صلى الله عليه وآله): «من غشنا فليس منا».
فالمدلس يوهم السامعين بأن حديثه متصل إلا أنه فيه انقطاع.
وقال سليمان بن داود المنقري: التدليس والغش والغرور والخداع والكذب
يحشر يوم تبلى السرائر في نفاذ واحد.
«وكان شعبة بن الحجاج من أكثر أهل الحديث ذما للتدليس، فقد روى الشافعي
عنه قوله: التدليس أخو الكذب، وقال غندر عنه أيضا: التدليس في الحديث أشد من
الزنا ولأن أسقط من السماء أحب إلي من أن أدلس، وقرنه بعضهم بقذف
المحصنات. (1)
فإذا علمت ذلك، فاعلم أيضا أن للتدليس أقساما منها:
1 - تدليس الإسناد.
2 - تدليس الشيوخ.
وتدليس الشيوخ من أسوأ أنواع التدليس لما فيه من الخباثة والخدعة والغش.
وهو عبارة عن: ذكر الراوي شيخه الذي سمع منه بما لا يعرف عند أهل الحديث، بأن
يسميه أو يكنيه أو ينسبه أو يصفه بما ليس مشهورا به، كيلا يسهل معرفته عند
غيره. وسمي بتدليس الشيوخ لأنه - كما ترى - أن التدليس وقع من الراوي في شيخه،
وسماه أو وصفه بما ليس مشهورا به كيلا يعرف.
ومن أمثلة ذلك: تدليس البخاري في شيخه محمد بن يحيى الذهلي
النيسابوري الذي كان من الطاعنين في البخاري، كما قد مر ذكره.



1 - الكفاية للخطيب: 355 - 371، فتح المغيث للسخاوي 1: 177، أسباب رد الحديث للبكار: 90.
122
وقال الذهبي: «وقال أبو نصر الكلاباذي (1): روى البخاري عنه (الذهلي) فقال
مرة: ثنا محمد، وقال مرة: ثنا محمد بن عبد الله نسبه إلى جده، وقال مرة: ثنا محمد بن
خالد، ولم يصرح به قط.
وقال الحاكم: روى عنه البخاري نيفا وأربعين حديثا». (2)
وقال الذهبي أيضا: «ثم إن البخاري قد روى عن محمد غير منسوب عنه، فكان
محمدا الذهلي. (3)
وابن حجر في أجوبته عند السؤال عن محمد الذي يروي عنه البخاري، من هو
هذا الرجل؟ قال: والذي ترجح لي أنه الذهلي والبخاري من عاداته أن لا يفصح أنه
محمد بن يحيى الذهلي. (4)
وأراد بذلك أن يذكر شيخه الذي سمع منه، بما لا يعرف عند أهل الحديث،
فذكره بما ليس مشهورا، وهذا هو التدليس الذي قرنه بعضهم في الحكم بقذف
المحصنات، وبعض آخر بأنه أشد من الزنا. (5)
فالمشهور بين المحدثين أن تدليس البخاري كان من قسم التدليس في الشيوخ
لما عمل في صحيحه من ذلك.
قال ابن حجر في «طبقات المدلسين»: «محمد بن إسماعيل بن المغيرة
البخاري: الإمام، وصفه بذلك أبو عبد الله بن مندة في كلام له، فقال فيه: أخرج البخاري،



1 - هو أحمد بن محمد بن الحسين البخاري الكلاباذي المتوفى 398 ه‍، مصنف «رجال صحيح
البخاري».
2 - رجال الصحيح البخاري للكلاباذي 2: 1122، تاريخ الإسلام للذهبي، وفيات 251 - 260 ص 342.
3 - سير أعلام النبلاء 10: 379.
4 - إكمال مبهمات البخاري لابن حجر: 76.
5 - الكفاية للخطيب: 355: 371، فتح المغيث للسخاوي 1: 173، جامع التحصيل للعلائي: 35، أسباب
رد الحديث للبكار: 79 - 106.
123
قال: فلان، وقال: أخبرنا فلان، وهو تدليس». (1)
وقال في ذلك أيضا، سبط ابن العجمي في «أسماء المدلسين» له: «محمد بن
إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة شيخ الإسلام البخاري، ذكر ابن مندة أبو عبد الله في
جزء له في شروط الأئمة في القراءة، والسماع، والمناولة والإجازة.... (2)
وتظهر نتيجة التدليس في الراوي إذا روى بالعنعنة، بقوله: فلان عن فلان،
وذلك يضعف، لأنها لا تفيد السماع، فعلى ذلك حكموا بإسقاط الروايات المعنعنة
للراوي المدلس.
وقد تأولوا المعنعنات في الصحيحين، بعد إثبات التدليس في البخاري ومسلم،
بأن تدليسهما وتدليس غيرهما من أئمة الحديث لا يضر بإمامتهم ووثاقتهم، لأنهم
جازوا القنطرة!!!.
ويظهر للمتتبع في كلمات هؤلاء المعتذرين والمؤولين أنها تختص بدفاعهم
عن الشيخين، وقالوا: إن تدليس الأئمة في الصحيحين ليس كذبا، بل هو ضرب من
الإبهام! فما رووه يعرف فيه نوع من السماع، ك‍ «سمعت»، و «حدثنا»، و «أخبرنا»،
ونحوها. (3)
بدعة البخاري
قال التهانوي: فهذا إمام المحدثين البخاري رحمه الله، لم يسلم من الرمي
بالبدعة أيضا، فقد رماه الذهلي في مسألة القرآن بالقول بالخلق. (4)
وقال ابن أبي حاتم: سمع منه أبي، وأبو زرعة، ثم تركا حديثه عند ما كتب إليهما



1 - طبقات المدلسين لابن حجر 24 رقم 23.
2 - تبيين المدلسين لابن العجمي: 77 رقم 64.
3 - تدريب الراوي للسيوطي 1: 229 - 230، علوم الحديث ومصطلحه لصبحي الصالح: 77، توضيح
الأفكار للصنعاني 1: 355، أسباب رد الحديث للبكار: 102 - 103.
4 - قواعد في علوم الحديث: 240.
124
محمد بن يحيى النيسابوري الذهلي، أنه أظهر عندهم أن لفظه بالقرآن مخلوق. (1)
وقال ابن حجر: قال أبو حامد ابن الشرقي: سمعت محمد بن يحيى الذهلي يقول:
القرآن كلام الله غير مخلوق ومن زعم لفظي بالقرآن مخلوق، فهو مبتدع، ولا يجالس،
ولا يكلم، ومن ذهب بعد هذا إلى محمد بن إسماعيل فاتهموه فإنه لا يحضر مجلسه
إلا من كان على مذهبه. (2)
وقال الحاكم: ولما وقع بين البخاري وبين الذهلي في مسألة اللفظ، انقطع الناس
عن البخاري إلا مسلم بن الحجاج وأحمد بن سلمة. قال الذهلي: ألا من قال باللفظ فلا
يحل له أن يحضر مجلسنا.
وبسبب جرح الذهلي للبخاري تركه مسلم وأبو حاتم وأبو زرعة وذكره الذهبي
في كتابه الضعفاء والمتروكين. (3)
اخلاق البخاري
من تأمل في سيرة البخاري وشخصيته، يجد أنه قد وصف بأوصاف متضادة لا
يتلاءم أحدها مع الآخر، ونحن نذكر جملة من صفاته الأخلاقية.
يقال: إن البخاري أخذ الرهبانية على نفسه وجعلها مسلكا ومذهبا، كما مدحه
لذلك بعض، ويطعن فيه آخرون!
فمادحه يقول: بأن الزهد في الدنيا، كان من أوصاف المتقين والأولياء.
والطاعن فيه يقول: إن النكاح من السنة، فمن ترك السنة المؤكدة في الزواج
ليس بمؤمن، بل يشتري لنفسه لعائن كثيرة!
قال الذهبي: «كان أبو عبد الله اكترى منزلا، فلبث فيه طويلا، فسمعته يقول: لم



1 - الجرح والتعديل للرازي 7: 191 رقم 1086.
2 - هدى الساري: 491.
3 - الشرح والتعليل لألفاظ الجرح والتعديل: 11.
125
أمسح ذكري بالحائط، ولا بالأرض في ذلك المنزل، فقيل له: لم؟ قال: لأن المنزل
لغيري». (1)
وفي الرواية المذكورة ما قد ترى من شئ نكر.
وروى ابن عساكر بقوله: «حدثنا أبو المحسن عبد الرزاق بن محمد الطبسي
لفظا، قال: سمعت الشيخ الإمام أبا محمد فضل الله بن محمد بن أحمد، يقول: سمعت
الإمام والدي أبا الفضل، يقول: سمعت القاضي أبا بكر الحيري، يقول: سمعت الإمام
الزاهد أبا الحسن يوسف بن أبي ذر البخاري، يقول: مرض محمد بن إسماعيل
البخاري، فعرض ماؤه على الأطباء، فقالوا: لو أن هذا الماء ماء بعض أساقفة النصارى،
فإنهم لا يأتدمون!
فصدقهم محمد بن إسماعيل، وقال: لم ائتدم منذ أربعين سنة، فسألوا عن
علاجه؟ فقالوا: علاجه الإدام، فامتنع عن ذلك حتى ألح عليه المشايخ ببخارى وأهل
العلم إلى أن أجابهم وأخذ على نفسه أن يأكل بقية عمره في كل يوم سكرة واحدة مع
رغيف». (2)
ولموارد عيشه ولذاته أخبار أخر أيضا، لا نريد الإطالة بذكرها.
فقه البخاري
قال الإسكندراني في «المتواري في تراجم أبواب البخاري»: «وبلغني عن الإمام
أبي الوليد الباجي أنه كان يقول: «يسلم البخاري في علم الحديث، ولا يسلم في علم
الفقه».
ويعلل ذلك بأن أدلته عن تراجمه متقاطعة، ويحمل الأمر على أن ذلك لقصور



1 - سير أعلام النبلاء 12: 447.
2 - تاريخ مدينة دمشق، لابن عساكر، 52: 80.
126
في فكرته وتجاوز عن حد فطرته، وربما يجدون الترجمة ومعها حديث يتكلف في
مطابقته لها جدا، ويجدون حديثا في غيرها هو بالمطابقة أولى وأجدى، فيحملون
الأمر على أنه كان يضع الترجمة ويفكر في حديث يطابقها، فلا يعن له ذكر الجلي
فيعدل إلى الخفي... إلى غير ذلك من التقادير التي فرضوها في التراجم التي انتقدوها
فاعترضوها». (1)
نعم! ومما اعترضوا على البخاري عدم معرفته بعلم الفقه، ويذكرون لذلك
أمثلة:
منها: ما ذكره أبو البركات في «كشف الأسرار» من كتب الأصولية للحنفية، أنه
قال: المحدث غير الفقيه يغلط كثيرا، فقد روي عن محمد بن إسماعيل صاحب
«الصحيح» أنه استفتي في صبيين شربا من لبن شاة، فأفتى بثبوت الحرمة بينهما.
وأخرج به من بخارى، إذ الأختية تتبع الأمية، والبهيمة لا تصلح أما للآدمي!.
وقد أجابوا في ذلك عند الدفاع عن البخاري، بأن هذه النسبة إلى البخاري
لمختلقة، وسببها الحسد من ناحية أتباع أبي حنيفة نصرة لإمامهم.
وقال في ذلك جمال الدين القاسمي في كتابه «حياة البخاري»: «إن المفتري لهذه
الحكاية أراد أن يثأر لأبي حنيفة». (2)
وكما يأتي، فإن البخاري يسلك في فقهه مسلك المعاند عند بيان مخالفته
لأبي حنيفة في صحيحه وفي كتبه الاخرى الموجودة:
- «رفع اليدين في الصلاة»، و «القراءة خلف الإمام»، فإنه عرف نفسه، وعرف
قيمة فقهه في بيان مذهبه.



1 - المتواري في تراجم أبواب البخاري: 36 - 37 مكتبة المعلى - الكويت.
2 - حياة البخاري للقاسمي: 48. وأبو البركات هو عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي الحنفي المتوفى
710 ه‍.
127
بين البخاري والحنفية
فصلنا القول في أن البخاري خالف أهل الرأي وألف في رد آرائهم الفقهية وفي
الاعتقاد، وكذا في تراجمه الرجالية في تضعيف أبي حنيفة وأصحابه من أهل الرأي.
أما في كتبه الفقهية فقد صنف «الصحيح»، وأجزاء مستقلة خارج «الصحيح»،
كما مر ذلك.
وأما الخصومة الواقعة بينه وبين أبي حنيفة فهي ناشئة من الاعتقاد في الأصول،
لا في الرأي والنظر والاختلاف في الاجتهاد، ولا كالمنازعات بين الأقران والبلدان
حتى تؤول بتأويلات واهية، بل نجده يشير إليه في قوله: «بعض الناس» ويراه مخالفا
للسنن، وخارجا عن دائرة الإسلام.
وقد سبق في ترجمة أبي حنيفة من مواجهته للطائفتين من خصومه، الخلفاء
والنواصب من المحدثين وتكفيره، فعلى ذلك ليس الخلاف بين البخاري وأبي حنيفة
مقتصرا على المسائل التي رد فيها على قوله: «بعض الناس»، بل توجد مسائل أخرى
كثيرة في صحيحه وفي غيره من الأجزاء المستقلة لم يذكر فيها قول: «بعض الناس»،
بل خالفه بذكر رأيه، كما تأتي الإشارة إلى بعض موارده في آخر الكتاب.
البخاري وكتبه الفقهية في الرد على الحنفية
الدارس في البخاري وكتبه الفقهية يجد له أجزاء متفردة مستقلة في بعض
الفروع الفقهية خارج صحيحه، وعند النظر في آرائه الفقهية وشخصيته في الحديث
يتبين أن له عقدة من أبي حنيفة، وأهل الرأي المنكرين للحجية في الأخبار.
وقد اختص البخاري في أربعة من كتبه بالمسائل الفقهية الخلافية التي كانت في
زمانه معتركا للآراء، وسببا للمنازعات الشديدة بين المحدثين وأهل الرأي.
ففي الصحيح - كما يأتي الكلام فيه -: أن البخاري قبل أن يقوم بجمع الأحاديث
الصحيحة وطرقها، نهض لمحاربة فكر الحنفية، ولذلك هيأ الأسباب والوسائل لذلك.
فائتلف مع جمع من معاصريه ومشايخه من أهل الحديث الذين كانوا يتقربون إلى

128
السلطان الجائر «المتوكل» العباسي، الذي كان بحاجة إلى تدعيم ملكه بأمثال هؤلاء
المحدثين المؤثرين في البلاد، لنشر الخلاف بين الناس، وتحقيق غايات الخليفة
المشؤومة.
فمن قرأ البخاري وتدبر في تراجمه وأخباره يرى أنه يتابع الحركة السياسية
لانتصار مذهب الخلفاء وتضعيف مخالفيهم. ألا ترى أنه روى في صحيحه، وأكثر عن
الأمويين الذين نشأوا على النصب من أعوانهم وناصريهم، ولا يروي عن أهل
البيت (عليهم السلام)؟!
والبخاري بكتبه المتعددة في الفقه والتاريخ والعقائد أظهر ما في قلبه، وأعلن ما
يخطر بفكره.
أما كتبه الفقهية فأربعة، منها - على ما نعلم -:
1 - الصحيح الجامع المختصر: وهو يشتمل على مائة كتاب في أبواب مختلفة،
وهو المشهور بالصحيح.
2 - قرة العينين برفع اليدين في الصلاة.
3 - خير الكلام في القراءة خلف الإمام.
4 - الهبة.
صحيح البخاري
صحيح البخاري حجة بين المؤلف وبين الله تبارك وتعالى
المشهور المتفق عليه عند أهل العلم أن اسمه لدى المؤلف هو: «الصحيح
الجامع المختصر» أخذ قيد «المختصر» في العنوان ليطابق قوله: «ما أخذت في كتاب
الجامع إلا ما صح، وتركت في الصحاح مخافة الطول». (1)



1 - تدريب الراوي 1: 74.
129
بل إنه قال - على ما نقله عنه الحازمي والإسماعيلي -: «وما تركت من الصحاح
أكثر». (1)
التحقيق في «صحيح» البخاري
الذي يتأمل في حياة البخاري وكتابه «الصحيح» يصدق أن الكتاب لم يكمل بيد
المؤلف في حياته، بل إن بعض تلامذته وغير تلامذته أضافوا إلى ما انجز في حياة
المؤلف.
وهناك شواهد:
منها: ما صرح به المستملي المتوفى 376 ه‍، فإنه قال: «انتسخت كتاب البخاري
من أصله الذي كان عند صاحبه «الفربري» فرأيت فيه أشياء لم تتم وأشياء مبيضة.
وفي رواية أبي الوليد الباجي، كما ذكره ابن حجر: قال: انتسخت كتاب البخاري
من أصله الذي كان عند صاحبه «محمد بن يوسف الفربري» فرأيت فيه أشياء لم تتم
وأشياء مبيضة، منها:
- تراجم لم يثبت بعدها شيئا.
- وأحاديث لم يترجم لها، فأضفنا بعض ذلك إلى بعض». (2)
وهناك شواهد كثيرة في نفس الكتاب:
- منها: تعدد النسخ من الكتاب.
- وما ورد في كتاب «العلم» بما قال فيه «: حدثنا عبيد الله، وأخبرنا محمد بن
يوسف الفربري، وحدثنا محمد بن إسماعيل البخاري قال: حدثنا عبيد الله بن موسى
عن سفيان قال: إذا قرئ على المحدث... الخ. (3)



1 - تدريب الراوي، 1: 75.
2 - فتح الباري، 1: 5، حياة البخاري للقاسمي: 32 - 34.
3 - صحيح البخاري 1: 22 كتاب العلم باب، القراءة والعرض على المحدث ط باموق إستانبول.
130
ولا يخفى أن ذكر المؤلف لابد أن يأتي في بدء السند، وفيما ذكرنا قد لا حظت
وقوعه في غير محله!!.
واننا نبحث في «صحيح البخاري» على فرض صحة نسبة الكتاب جميعه إلى
المؤلف، والعهدة في الإشكالات الواردة على من يتولاه.
ونقول: ليس البخاري ولا مسلم بجامع للأخبار الصحاح كلها، كما توهم بعض
من ليس هو من أهل الحديث، ويقول بعدم صحة كل حديث لم يخرج في الصحيحين،
بينما المشهور هو أنهما «لم يستوعبا الصحيح ولا التزماه». (1)
ولقد كان على المؤلف أن يصدر كتابه بمقدمة يذكر فيها الهدف من تأليفه،
ويشرح فيها منهجه عند التأليف والتبويب والتكميل، كما افتتح محمد بن مسلم
القشيري النيسابوري صاحب «الصحيح» بداية كتابه بتفصيل ذلك.
وأما البخاري - كما هو ظاهر - فقد افتتح كتابه بقوله: «حدثنا الحميدي.... وإنما
الأعمال بالنيات...».
وحيث لم يعلم أحدا بسر ترتيبه وتصنيفه فقد يستكشف هذا السر، ويستنبط
من افتتاحه وترتيبه واختتامه ما يستفاد من إشاراته، فإنه لا يخفى على أحد من أهل
العلم - كما ذكر في ترجمة الحميدي - أنه لا يرى لأبي حنيفة ولا لأتباعه قيمة في العلم
والعمل، ويعبر عنه: ب‍ «أبي جيفة»، ويقول بوجوب محاربتهم.
كما أنهم أيضا يرون أنه من المنحرفين، وقد ذكرنا سابقا عن كتاب «أبو حنيفة
النعمان» لوهبي سليمان غاوجي، قوله:
«لقد صحب الإمام البخاري، بعض المتحاملين على الإمام أبي حنيفة،
كالحميدي، وإسماعيل بن عرعرة... وغيرهما، وتأثر بأقوالهم فيه، ودون في تاريخه ما



1 تدريب الراوي 1: 74.
131
سمعه من هؤلاء المجازفين». (1)
وقد ترى أن الحميدي مع ما كان له من الإمامة للسنة، فإنه يعتبر عند الأحناف
من أئمة السوء ويعرف بالمجازف.
تحقيق في افتتاح البخاري بحديث «الأعمال بالنيات»
الكلام في الرواية المختارة للبخاري التي صيرها بدل الخطبة للكتاب - أعني:
«إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى... الخ» - ففي اختياره لهذه الرواية
أمران:
الأول: الاقتداء بشيخه عبد الرحمن بن مهدي
فقد قال: لو صنفت كتابا في الأبواب، لجعلت حديث عمر بن الخطاب في:
«... الأعمال بالنيات...» في كل باب.
وقال أيضا عن هذا الحديث: «من أراد أن يصنف كتابا فليبدأ بحديث الأعمال
بالنيات».
فلعل البخاري تأثر به أو بغيره من المحدثين، لشدة اهتمامهم بالنيات
والمقاصد في جميع الأمور، وهو يصرح بأن النية مؤثرة في الحكم على الفعل لفظا
وتصرفا، يقول في كتاب الحيل: «باب في ترك الحيل، وأن لكل امرئ ما نوى في
الأيمان وغيرها». (2)
ولذلك قال ابن المنير في التعليق على هذه الترجمة: «اتسع البخاري في
الاستنباط، والمشهور عند النظار حمل الحديث على العبادات، فحمله البخاري عليها
وعلى المعاملات، وتبع مالكا في القول بسد الذرائع واعتبار المقاصد، فلو فسد اللفظ



1 - أبو حنيفة النعمان إمام الأئمة الفقهاء: 212.
2 - فتح الباري 12: 290، منتهى الآمال في شرح حديث «إنما الاعمال» للسيوطي 116.
132
وصح القصد، ألغي اللفظ وأعمل القصد تصحيحا وإبطالا». (1)
أنه اعتبر في الفروع أثر القصد، كما قال في الطلاق: «باب إذا قال: فارقتك أو
سرحتك، أو الخلية، أو البرية، أو ما عنى به الطلاق، فهو على نيته». (2)
وهكذا يهتم أهل الحديث بالنيات والمقاصد، ولا يكتفون بظاهر الألفاظ، ولا
يحكمون بموجبها حتى ينضم القصد إلى اللفظ.
ولذلك قال ابن القيم في «أعلام الموقعين»: «وقاعدة الشريعة التي لا يجوز
هدمها: أن المقاصد والاعتقادات معتبرة في التصرفات والعبادات، كما هي معتبرة في
التقربات والعبادات، فالقصد والنية والاعتقاد يجعل الشيء حلالا وحراما، وصحيحا
وفاسدا، وطاعة ومعصية، كما أن القصد في العبادة يجعلها واجبة، أو مستحبة، أو
محرمة، أو صحيحة، أو فاسدة». (3)
الثاني: إظهار المخالفة لأبي حنيفة في النية وتأثيرها
وقد يناقش أبو حنيفة وأتباعه تأثير القصد والنية، ويرون الأحكام تجري
مجرى العبارات والتصرفات الظاهرة، من دون دخل للنيات والمقاصد في ذلك،
ولذلك أكثر البخاري في الأبواب المختلفة ذكر القصد والنية، مع الإشارة إلى رواية
«الأعمال بالنيات»، فإنه كما افتتح كتابه «الصحيح» بهذه الرواية، فقد افتتح بها «كتاب
الحيل» في الصحيح، وفي أبواب أخر أيضا.



1 - فتح الباري 12: 290، منتهى الآمال في شرح حديث «إنما الأعمال بالنيات» للسيوطي: 116. وابن
المنير هو: أحمد بن محمد بن منصور، من علماء الإسكندرية وأدبائها، ولي قضاءها وخطابتها مرتين
توفي سنة 683 ه‍، فوات الوفيات 1: 72.
والذرائع: الوسائل، والواحدة «ذريعة»، يقال: اتخذ هذا الأمر ذريعة إلى كذا، أي: وسيلة، والذرائع، بالذال
المعجمة، والأصل في هذا قوله تعالى: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم)
نهى المؤمنين عن سب الأصنام، لئلا يتخذه المشركون وسيلة إلى سب الباري جل وعلا.
2 - البخاري بحاشية السندي 3: 270.
3 - أعلام الموقعين 3: 69.
133
وعند أبي حنيفة يجوز العمل بالحيل، وأنها أحد أركان الاستنباط في الخروج
الموضوعي للأحكام.
قال ابن القيم: «فقال: إن النبي (صلى الله عليه وسلم) قد قال كلمتين كفتا وشفتا، وتحتهما كنوز
العلم، وهو قوله: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى». فالأولى أثبتت
أنه لا عمل إلا بنية، والثانية أثبتت أن العامل ليس له من عمله إلا ما نواه. وهذا يعم
العبارات، والمعاملات، والأيمان، والنذور، وسائر العقود والأفعال». (1)
ثم لم يكتف البخاري بهذا الحديث في افتتاحه الصحيح، بل كرره في ستة
مواضع أخرى هي:
1 - كتاب الإيمان - بكسر الهمزة - باب ما جاء «أن الأعمال بالنيات».
2 - كتاب العتق باب الخطأ والنسيان.
3 - كتاب مناقب الأنصار باب هجرة النبي إلى المدينة.
4 - كتاب النكاح باب من هاجر أو عمل خيرا ليتزوج امرأة.
5 - كتاب الأيمان والنذر باب النية والأيمان - بفتح الهمزة.
6 - كتاب الحيل في ترك الحيل، وأن لكل امرئ ما نوى.
وفي كتاب «الأيمان» في ترجمة له يسميه (باب النية في الأيمان)، يكرر في
روايته مستدلا بحديث «الأعمال بالنيات».
فالحنفية وأتباعهم يحتجون بأن الحجة للأحكام كانت على ظواهرها، ولا يعتبر
في الصحة شيء من القصود، وأن العقد لا يفسد إلا بما يذكر في العقد نفسه، ولا يفسد
بشيء تقدمه ولا تأخره، ولا بتوهم، ولا بالأغلب، ولا تفسد البيوع بأن يقال: هذه ذريعة
وهذه نية سوء. (2)
ومن حججهم في ذلك:



1 - أعلام الموقعين 3: 15: 98.
2 - أعلام الموقعين 3: 15 / 98.
134
من الآيات: قوله سبحانه: (ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله
خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين). (1)
ومن السنن: قوله (صلى الله عليه وآله): «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوا
عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله».
وسيرته في المنافقين في قبول ظاهر إسلامهم وترك سرائرهم إلى الله، وقوله:
«إنما أقضي بنحو ما أسمع».
وينقضون أيضا في الرد على الحديث بباب التروك في النواهي والمحرمات بأنه
لا يصدق عليه العمل حتى تؤثر فيه النية، فلا بد على ذلك أن لا يجازى ولا يعطى
للتارك أجر.
وفي «كشف الأسرار» - من كتب الأحناف الأصولية -: فإن الأدلة السمعية أنواع
أربعة:
1 - قطعي الثبوت والدلالة، كالنصوص المتواترة.
2 - قطعي الثبوت وظني الدلالة، كالآيات.
3 - ظني الثبوت وقطعي الدلالة، كأخبار الآحاد التي مفهومها قطعي.
4 - ظني الثبوت والدلالة كاخبار الآحاد التي مفهومها ظني.
.... فأما قوله (عليه السلام): «الأعمال بالنيات...» فمن القسم الرابع، لأن معناه إما ثواب
الأعمال أو اعتبار الأعمال على ما ستعرفه فيكون مشترك الدلالة. (2)
وقال أبو جعفر الطبري: «حديث الأعمال بالنيات» على طريقة بعض الناس
مردود، لكونه فردا، لا يروي عن عمر إلا في رواية علقمة، ولا عن علقمة إلا من رواية
محمد بن إبراهيم، ولا عن محمد بن إبراهيم إلا من رواية يحيى بن سعيد.



1 - هود: 31.
2 - كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي الحنفي لعبد العزيز البخاري المتوفى 730 ه‍ 1: 84.
135
وهو كما قال: فإنه إنما اشتهر عن يحيى بن سعيد، وتفرد به من فوقه.
وبذلك جزم الترمذي، والنسائي، والبزار، وابن السكن، وحمزة بن محمد
الكناني، والخطابي نفس الخلاف بين أهل الحديث في أنه لا يعرف إلا بهذا الإسناد،
وهو كما قال.... إلى آخره». (1)
كتابه «قرة العينين برفع اليدين»
وقد ذكر في مقدمته مراده من تأليفه، خلافا لكتابه «الصحيح» في حذف الخطبة
وعدم ذكر غرضه من تأليفه.
فإنه افتتح كتابه هذا بقوله:
«بسم الله الرحمن الرحيم: قال محمد بن إسماعيل بن إبراهيم
البخاري ردا على من أنكر رفع الأيدي في الصلاة عند الركوع، وإذا رفع
رأسه من الركوع، وأبهم على العجم في ذلك، تكلفا لما لا يعنيه فيما ثبت
عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيه فعله، وروايته عن أصحابه. ثم فعل أصحاب
النبي (صلى الله عليه وسلم) والتابعين اقتداء السلف بهم في صحة الأخبار بعض عن بعض،
الثقة عن ثقة من الخلف العدول - رحمهم الله وانجز لهم ما وعد - على
ضغينة صدره، وحرجة قلبه، ونفارا عن سنن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لما يحمله،
واستكنان عداوة لأهلها، لشرب البدعة لحمه وعظامه ومخه، واكتسبه
باحتفاف العجم حوله اغترارا». (2)
وكما يظهر من المقدمة المذكورة، أنه لما شاع القول بمنع رفع اليدين قبل
الركوع وبعده في الصلاة، كتب ذلك ليدفع بين الناس نفوذ الحنفية.



1 - فتح الباري 1: 18.
2 - قرة العينين برفع اليدين: 2، وجلاء العينين: للراشدي السندي: 51. ولا يخفى على أحد من أهل العلم
أن في «الموسوعة الذهبية للحديث النبوي» من الإصدارات الأردنية المسجلة على شريط
«الكامپبيوتر» قد سقطت أو أسقطت هذه العبارات.
136
وفي المتن ذكر اسم أبي حنيفة ومخالفته، فقال: «ولقد قال ابن المبارك: كنت
أصلي إلى جنب النعمان بن ثابت فرفعت يدي، فقال: أما خشيت أن تطير؟
فقلت: إن لم أطر في أوله لم أطر في الثانية!
قال وكيع: رحمة الله على ابن المبارك كان حاضر الجواب». (1)
وقيل: «إن البخاري في هذه الرسالة رد على غير أبي حنيفة».
وهي مغالطة لا تصمد أمام البحث العلمي.
فنحن ومن يبحث في الحقائق لا نحتاج إلى التأويلات الواهية غير الصحيحة
في مقابل النصوص الظاهرة الغنية عن التفسير والتأويل، ونقول: إن المعاصر
أو المعاصرين للبخاري من الحنفية المانعين من رفع الأيدي في الصلاة هم المقلدة من
أتباع أبي حنيفة. ولا يصح للفقيه أن ينازع المقلدة لفقيه آخر.
وكلمات البخاري في مقدمة الكتاب ظاهرة في أنه يخاطب إماما من أئمة
الحنفية لا غيرهم من المقلدة، مع ما ترى في هذه الرسالة من أن البخاري يذكر اسم أبي
حنيفة صراحة، ويذكر مخالفته في رفع اليدين في الصلاة.
نظرية الحنفية في رفع اليدين
تصرح الحنفية في كتبهم الفقهية عند البحث في رفع اليدين بالطعن على
البخاري والإشارة إلى الرسالة المذكورة له.
وهذه بعض آرائهم:
قال الطحاوي بعد ذكر الأخبار في ذلك: «فما نرى كشف هذه الآثار يوجب لما
وقف على حقائقها وكشف مخارجها إلا ترك الرفع في الركوع».
ثم قال: «فما أردت بشيء من ذلك تضعيف أحد من أهل العلم، وما هكذا
مذهبي، ولكن أردت بيان ظلم الخصم لنا.



1 - قرة العينين: 39.
137
وقد رأينا تكبيرة الافتتاح من صلب الصلاة، لا تجزي الصلاة إلا بإصابتها، ورأينا
التكبيرة بين السجدتين ليست كذلك، لأنه لو تركها تارك لم تفسد عليه صلاته، ورأينا
تكبيرة الركوع وتكبيرة النهوض ليستا من صلب الصلاة، لأنه لو تركها تارك لم تفسد
عليه صلاته، وهما من سنتها.
فهذا هو النظر في هذا الباب، وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد
رحمهم الله تعالى». (1)
وتشهد لذلك أيضا بشكل واضح قصة أبي حنيفة مع الأوزاعي في صورة
واضحة من هذه المخاصمة:
«فقد اجتمع الأوزاعي بأبي حنيفة في مكة، فقال الأوزاعي: ما بالكم لا ترفعون
أيديكم عند الركوع والرفع عنه؟
فقال أبو حنيفة: لم يصح عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في ذلك شيء.
فقال الأوزاعي: كيف! وقد حدثني الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن رسول
الله (صلى الله عليه وسلم): أنه كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، وعند الركوع وعند الرفع منه؟
فقال أبو حنيفة: حدثنا حماد، عن إبراهيم، عن علقمة، والأسود، عن ابن مسعود:
أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان لا يرفع يديه إلا عند افتتاح الصلاة، ولا يعود لشئ من ذلك!.
فقال الأوازعي: أحدثك عن الزهري، عن سالم، وتقول: حدثني حماد عن
إبراهيم؟!
فقال أبو حنيفة: كان حماد أفقه من الزهري، وكان إبراهيم أفقه من سالم، وعلقمة
ليس بدون ابن عمر، إن كان لابن عمر صحبته وله فضل الصحبة، فالأسود له فضل كثير،
وعبد الله هو عبد الله. فسكت الأوزاعي». (2)



1 - معاني الآثار للطحاوي 1: 228.
2 - مناقب أبي حنيفة للموفق 1: 131، والمناقب للكردي 1: 174.
138
ثم إن البخاري أخذ في الطعن على أهل الرأي، فقال: «ولو ثبت عن ابن مسعود
والبراء وجابر رضي الله تعالى عنهم، عن النبي (صلى الله عليه وسلم) شيء لكان في علل هؤلاء الذين لا
يعلمون أنهم يقولون: إذا ثبت الشيء عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أن رؤساءنا لم يأخذوا هذا بمأخوذ،
لما يريدون الحديث للإلغاء برأيهم، ولقد قال وكيع:
من طلب الحديث كما جاء فهو صاحب بدعة، يعني أن الإنسان ينبغي أن يلغي
رأيه لحديث النبي (صلى الله عليه وسلم) (1) وروى بعد ذلك رواية: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا
لما جئت به».
وقال فيها أيضا: «قال البخاري (2): من زعم أن رفع الأيدي بدعة فقد طعن في
أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، والسلف من بعدهم، وأهل الحجاز، وأهل المدينة، وأهل مكة،
وعدة من أهل العراق، وأهل الشام، وأهل اليمن، وعلماء أهل خراسان منهم ابن
المبارك، حتى شيوخنا: عيسى بن موسى، وأبو أحمد، وكعب بن سعيد، والحسن بن
جعفر، ومحمد بن سلام - إلا أهل الرأي منهم - وعلي بن الحسن، وعبد الله بن عثمان،
ويحيى بن يحيى، وصدقة، وإسحاق، وعامة أصحاب ابن المبارك.
وكان الثوري ووكيع وبعض الكوفيين لا يرفعون أيديهم، وقد رووا في ذلك
أحاديث كثيرة، ولم يعتبوا على من رفع يديه، ولولا أنها حق ما رووا في ذلك أحاديث
كثيرة أو لم يعتبوا على من رفع يديه، إنه ليس لأحد أن يقول على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ما لم يقل
ولم يفعل، لقول النبي (صلى الله عليه وسلم): «من تقول علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار». ولم يثبت
عن أحد من أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه لا يرفع يديه، وليس أسانيده أصح من رفع الأيدي». (3)
وفيه أيضا: «حدثنا الهذيل بن سليمان أبو عيسى، قال: سألت الأوزاعي قلت:
يا أبا عمرو! ما تقول في رفع الأيدي مع كل تكبيرة وهو قائم في الصلاة؟



1 - قرة العينين برفع اليدين: 55.
2 - يريد به نفسه.
3 - قرة العينين برفع اليدين: 55 رقم 168526 - 168527.
139
قال: ذلك الأمر الأول.
وسئل الأوزاعي - وأنا أسمع - عن الإيمان.
فقال: يزيد وينقص، فمن زعم أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص فهو صاحب بدعة،
فاحذروه»!. (1)
وهذا يشير أيضا إلى عقيدة أبي حنيفة في الإيمان.
وقال صديق حسن خان القنوجي في «عون الباري» على شرح الصحيح:
«وغرض البخاري من إيراده هنا الرد على من زعم من المرجئة، من أن الإيمان، قول
باللسان دون عقد القلب، فبين أن الإيمان لابد من نية وإعتقاد قلب، وزاد هنا. (2)
وقال النووي: «فصل» في هذا الحديث: الحث على الإخلاص وإحضار النية في
جميع الأعمال الظاهرة والخفية، ومراد البخاري بهذا الباب الرد على من قال من
المرجئة: إن الإيمان إقرار باللسان دون الاعتقاد بالقلب». (3)
وقال أيضا: «حدثنا محمد بن مقاتل: حدثنا عبد الله بن المبارك: أنبأنا إسماعيل،
حدثني عبد ربه بن سليمان بن عمير قال: رأيت أم الدرداء رضي الله عنها ترفع يديها في
الصلاة حذو منكبيها حين تفتتح الصلاة، وحين تركع.
فإذا قالت: سمع الله لمن حمده رفعت يديها، وقالت: ربنا ولك الحمد».
وقال البخاري: «ونساء بعض أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) هن أعلم من هؤلاء حين رفعن
أيديهن في الصلاة». (4)
ويتبين لك في هذه العبارة أيضا كيف أنه يرى أبا حنيفة وأصحابه دون هؤلاء
النسوة!



1 - رفع اليدين: 73 رقم 168556 من الموسوعة الذهبية.
2 - كتاب شروح البخاري: 268 ط دارالكتب العلمية - بيروت.
3 - كتاب شروح البخاري: 269.
4 - رفع اليدين في الصلاة: 22.
140
وهم أيضا يطعنون في البخاري على هذه المسألة، فقد روى الطحاوي: «ولقد
حدثني ابن أبي داود قال: حدثنا أحمد بن يونس، قال: حدثنا أبو بكر عياش، قال: ما
رأيت فقيها قط يفعله، يرفع يديه في غير التكبيرة الاولى». (1)
يعني بذلك: أنهم لا يعدون البخاري فقيها، «حيث يرى وجوب رفع اليدين في
غير التكبيرة الاولى».
وقال البخاري: «وقد قال معمر: أهل العلم كان الأول فالأول أعلم، وهؤلاء
الآخر فالآخر عندهم أعلم.
ولقد قال ابن المبارك: «كنت أصلي إلى جنب النعمان بن ثابت فرفعت يدي
فقال: إنما خشيت أن تطير.
فقلت: إن لم أطر في أوله، لم أطر في الثانية! قال وكيع: رحمة الله على ابن
المبارك كان حاضر الجواب، فتحير الآخر وهذا شبه من الذين عادون في غيهم إذا لم
ينصروا». (2)
وقال السندي: «هذه الحكاية مروية عن وكيع بطرق. قال البيهقي: أخبرنا أبو
عبد الله الحافظ أنبأ الحسن بن حليم الصائغ بمرو: حدثنا أبو الموجة، أخبرني أبو نصر
محمد بن أبي الخطاب - وكان رجلا صالحا، قال: أخبرني علي بن يونس حدثنا وكيع
قال: صليت في مسجد الكوفة فإذا أبو حنيفة قائم يصلي وابن المبارك إلى جنبه يصلي،
فإذا عبد الله يرفع يديه كلما ركع وكلما رفع وأبو حنيفة لا يرفع. فلما فرغوا من الصلاة
قال أبو حنيفة لعبد الله: يا أبا عبد الرحمن! رأيتك تكثر رفع اليدين، أردت أن تطير؟
فقال عبد الله: يا أبا حنيفة! قد رأيتك ترفع يديك حين افتتحت الصلاة فأردت أن
تطير؟ فسكت أبو حنيفة. قال وكيع: فما رأيت أحضر من جواب عبد الله لأبي حنيفة». (3)



1 - معاني الآثار 1: 228.
2 - جلاء العينين بتخريج روايات البخاري في جزء رفع اليدين للسندي 142.
3 - جلاء العينين للسندي: 142، السنن الكبرى للبيهقي 2: 82.
141
وطريق آخر: «قال عبد الله بن أحمد بن حنبل في «السنة»: حدثنا أبو الحسين
العطار محمد بن محمد: سمعت أحمد - يعني ابن شبويه -: سمعت وكيعا يقول: قال أبو
حنيفة لابن المبارك: ترفع يديك في كل تكبيرة كأنك تريد أن تطير!
فقال له ابن المبارك: وإن كنت أنت تطير في الاولى، فإني أطير فيما سواها. قال
وكيع: أجاد ما أجابه ابن المبارك مرة أو مرتين». (1)
وطريق ثالث: «قال أبو محمد بن قتيبة في «تأويل مختلف الحديث»: حدثنا
إسحاق بن راهويه قال: حدثنا وكيع أن أبا حنيفة قال: ما باله يرفع يديه عند كل رفع
وخفض، يريد أن يطير؟! فقال له عبد الله بن المبارك: إن كان يريد أن يطير إذا افتتح فإنه
يريد أن يطير إذا خفض ورفع». (2)
وطريق رابع: في «الثقات» لابن حبان: قال في ترجمة أحمد بن الوليد الكرخي:
«حدثنا محمد بن إسحاق الثقفي، حدثنا أحمد بن الوليد الكرخي، حدثنا أبو هشام
الرفاعي قال سمعت وكيعا يقول: سأل ابن المبارك أبا حنيفة عن رجل يرفع، يديه فقال:
يريد ان يطير؟ فأجابه ابن المبارك: أن يطير في الثانية فهو يرى أن يطير في الاولى».
وطريق خامس: قال الخطيب في «تاريخ بغداد»: «أخبرنا الخلال، حدثنا عبد الله
بن عثمان الصفار، حدثنا محمد بن مخلد الدوري، حدثنا العباس بن محمد بن إبراهيم
بن شماس، قال: سمعت وكيعا يقول: سأل ابن المبارك أبا حنيفة عن رفع اليدين؟
فقال أبو حنيفة: يريد أن يطير فيرفع يديه!
قال وكيع: كان ابن المبارك رجلا عاقلا، فقال: إن كان يريد أن يطير في الاولى فإنه
يطير في الثانية.
فسكت أبو حنيفة ولم يقل شيئا». (3)



1 - جلاء العينين للسندي: 143، السنة لابن حنبل: 59.
2 - جلاء العينين: 143، تأويل مختلف الحديث: 66.
3 - تاريخ بغداد 13: 406.
142
كتابه «القراءة خلف الإمام»
وهذه المسألة أيضا من المسائل الخلافية التي دارت عليها المنازعات
والمخاصمات بين الطائفتين.
فإن القراءة خلف الإمام تختلف باختلاف الأئمة، وكيفية اتخاذهم الأدلة في
ذلك:
- فقد ذهب أبو حنيفة إلى تركها خلف الإمام مطلقا. (1)
- وآخرون إلى تركها في حالة جهر الإمام بالقراءة دون إخفاته.
- والثالث إلى وجوب القراءة في الصلوات كلها منفردا أو مأموما، في حالتي
الجهر والإخفات.
وقد ألف البخاري هذا الجزء، وناقش فيه أدلة أهل الرأي مفندا إياها، ومشيرا
إليهم بنفس العبارة التي استعملها في «الصحيح» بقوله: «وقال بعض الناس».
وقد بدأ غرضه لموضوع «القراءة خلف الإمام» بذكر الروايات الواردة في هذا
الباب:
«لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» (2)
«كل صلاة لم يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خداج» (3)
«من صلى ولم يقرأ بأم القرآن، فهي خداج (ثلاثا)، غير تمام». (4)
وقد ناقش الحنفية هذه الأحاديث، لأن الكلام عندهم في مسألة القراءة خلف
الإمام: يجوز أن تكفي قراءة الإمام قراءة المأموم.



1 - معاني الآثار للطحاوي 1: 127 - 129، الهداية 1: 36.
2 - نصب الراية 1: 365.
3 - نصب الراية 2: 18. ومعنى خداج: نقصان - الصحاح 1: 309 [خدج].
4 - مسند أبي عوانة 2: 127، صحيح مسلم رقم 38 - 40 - 41، الترمذي رقم 312 النسائي رقم 135.
مسند أحمد، 2: 250 و 285 و 487 و 6: 142. السنن الكبرى للبيهقي 2: 39 و 40 و 159 و 167،
مشكل الآثار 2: 23، خير الكلام في القراءة خلف الإمام، للبخاري.
143
والبخاري ذكر في صحيحه ترجمة مختصرة أوضح رأيه فيها، فقال: «باب
وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها، في الحضر والسفر وما يجهر
فيها وما يخافت». (1)
وأما في الجزء الذي ألفه في هذه المسألة فقد ناقش أدلة أهل الرأي وبين
تناقضاتهم، وضعف الحديث الذي يحتجون به، وهو: «من كان له إمام فقراءة الإمام له
قراءة»، ثم ناقشهم فيه مناقشة عقلية، ينعى عليهم فيها أنهم أهل قياس ولا يحسنونه،
لأن القياس الصحيح كان يؤدي بهم إلى خلاف ما قالوا!
قال البخاري في ذلك: «اتفق أهل العلم وأنتم: أنه لا يحتمل الإمام فرضا عن
القوم، ثم قلتم: القراءة فريضة أو يحتمل الإمام هذا الفرض عن القوم فيما جهر الإمام
أولم يجهر، ولا يحتمل الإمام شيئا من السنن، نحو الثناء والتسبيح، والتحميد، فجعلتم
الفرض أهون من التطوع؟ والقياس عندك: ألا يقاس الفرض بالتطوع، وإلا يجعل
الفرض أهون من التطوع، أو أن يقاس الفرض أو الفرع بالفرض إذا كان من نحوه، فلو
قست القراءة بالركوع والسجود والتشهد إذا كانت هذه كلها فرضا، ثم اختلفوا في
فرض منها، كان أولى عند من يرى القياس أن يقيسوا الفرض أو الفرع بالفرض». (2)
ومن فتاواهم: أن الشيخ أبا حفص الكبير - الذي هو من علماء الأحناف كان في
عهده رجل ترك مذهبه، وعمل بالحديث، وقرأ خلف الإمام، ورفع يديه عند الركوع
ونحو ذلك، فأخبر الشيخ المذكور بذلك، فغضب الشيخ، وعنف، وأمر السلطان، حتى
أمر الحداد بأن يضربه عند الصيارفة!! «فتاوى حماوية» و «تاتار خانية» و «إرشاد»
ص 186 (3)



1 - صحيح البخاري 1: 183 كتاب الصلاة باب وجوب القراءة للإمام....
2 - خير الكلام في القراءة خلف الإمام: 4.
3 - انظر الحاوي للفتاوي 2: 340، وحاشية ابن عابدين 1: 53، والإذاعة لما كان وما يكون بين يدي
الساعة: 162 - 163، الإشاعة لأشراط الساعة: 221 - 222، بدعة التعصب المذهبي: 70 - 74، مقدمة
مختصر صحيح مسلم: 4 - 13، تاريخ أهل الحديث: 60.
144
فصل الرابع
مواضع رد البخاري
في صحيحه على أبي حنيفة

145
استقصينا في هذا الفصل موضعين من رد البخاري في صحيحه على أبي
حنيفة:
الأول: موارد تعبيره عن أبي حنيفة ب‍ «بعض الناس».
الثاني: موارد تعريضه بأبي حنيفة صراحة.
تعبير البخاري عن أبي حنيفة ب‍ «بعض الناس»
تعرض البخاري في «الصحيح» بقوله: «وقال بعض الناس» وقد اشتهر أنه يعني
به الإمام الأعظم، ولذلك انبرى للدفاع عنه عدد من العلماء الأحناف من العرب
والهنود، وألفوا الرسائل ونشروا ذلك في الكتب والجرائد، وبينوا مواضع الخلاف التي
يذكرها البخاري في صحيحه بقوله: «وقال بعض الناس»، وأجابوا عن تلك المسائل
مدافعين عن أبي حنيفة.
ومن ذلك النزاع الواقع بين الحافظ ابن حجر والعيني في كتابيهما: «عمدة
القاري»، و «دفع الانتقاض في الرد على العيني» (1)، فإن العيني كان من أتباع مذهب أبي
حنيفة، والمدافع عنه في موارد الانتقاض في شرحه على البخاري، وابن حجر المدافع
عن البخاري، لأنهما كانا على مذهب الشافعي على المشهور في مذهب البخاري.



1 - كتاب «دفع الانتقاض» لابن حجر في الرد على العيني، كتبه ابن حجر في أواخر عمره، لكنه يؤيد
البحث، (والكتاب طبع أخيرا في المملكة السعودية).
147
ومن بين الشروح على البخاري يعد شرح بدر العيني أكثر دفاعا عن أبي حنيفة،
فإنه يطعن في البخاري ويقول بعدم صلاحيته، وابن حجر وكثير من الشافعية يعتقدون
أن بدر العيني سرق مطالب كتاب فتح الباري، وذكرها في «عمدة القاري» باسمه، مع
إضافة بعض الطعون على البخاري عند دفاعه عن أبي حنيفة.
وقال في ذلك مؤلف كتاب «إتحاف القاري»: «إن ابن حجر بحث فيه عما
اعترض عليه العيني في شرحه، لكنه لم يكمل، ولم يجب عن أكثرها، فقد كان يكتب
الاعتراضات ويبيضها ليجيب عنها، فاخترمته المنية.
والكتاب موجود في المكتبة الظاهرية بدمشق - حديث 99 / 17، وأيضا في
خزانة الكتب في «رامفور» بالهند، وقد سماه أيضا: «إسقاط الاعتراض»، ومنها
«الإستنصار على الطاعن المعثار»، وهي صورة فتيا عما وقع في خطبة شرح البخاري
للعيني». (1)
بين البخاري وأهل الرأي
ذكر مؤلف كتاب «الاتجاهات الفقهية» المسائل التي انتقد البخاري بها أهل
الرأي في صحيحه، وهي التي أشار إليهم فيها بقوله: «بعض الناس»، وهذه المسائل هي:
1 - الركاز: حقيقته، وحكمه من كتاب الزكاة.
2 - إذا قال إنسان لآخر: «أخدمتك هذه الجارية»، فهل هذا هبة أو إعارة؟
من كتاب الهبة.
3 - إذا قال إنسان لآخر: «حملتك على هذه الفرس»، فهل هذا هبة أو إعارة؟
من كتاب الهبة.
4 - حكم شهادة القاذف من كتاب الشهادات.



1 - إتحاف القاري بمعرفة جهود أعمال العلماء على صحيح البخاري: 75.
148
5 - حكم إقرار المريض لوارثه بدين من كتاب الوصايا.
6 - حد الأخرس إذا قذف بإشارة أو كتابة / باب اللعان من كتاب الطلاق.
7 - حقيقة النبيذ من كتاب الأيمان.
8 - بيع المكره وهبته من كتاب الإكراه.
9 - لو قيل: لتشربن الخمر، أو: لأ قتلن أباك! من كتاب الإكراه.
10 - كتاب الحيل.
ونحن نعتقد أن البخاري لم يبوب كتاب الحيل إلا للرد على أهل الرأي، وقد
كرر البخاري فيه عبارة: «وقال بعض الناس» أربع عشرة مرة، ولذلك مزيد بيان فيما
سيأتي. (1)
وقد رأيت أن صاحب «الاتجاهات» عبد المجيد محمود اعترف - بعد تردد - بأن
كتاب «الحيل» يعد ردا على أهل الرأي، بسبب تكرار البخاري فيه عبارة: «وقال بعض
الناس»!
مع أن تكرار لفظة «بعض الناس» لا يثبت شيئا من ذلك، بل تكفي في الرد عليه
الإشارة الموجزة في الكتاب على إثبات الرد.
بينما نجد أن البخاري يذكر عبارة «بعض الناس» في «الصحيح» بما يبلغ سبعة
وعشرين موردا فأربعة عشر منها في كتاب الحيل، والباقي في الكتب الأخرى من
الصحيح!.
وقال في الفصل الثاني:
«رأينا في الفصل السابق كيف أن ابن أبي شيبة قد وجه نقده إلى أبي حنيفة على
وجه الخصوص، أما البخاري فالخصومة بينه وبين أهل الرأي خصومة عامة لا تقتصر
على أبي حنيفة، بل نقده قد يكون موجها إليه، وقد يكون موجها إلى غيره من أصحابه،



1 - الاتجاهات الفقهية: 598.
149
ولذلك لم يصرح باسم مخالفه أو صفته، وإنما عبر عنه بقوله: «وقال بعض
الناس». وقد ذكر البخاري هذه الجملة في صحيحه عدة مرات، معرضا بأهل الرأي،
رادا عليهم، مبينا تناقضهم.
ولا شك في أن موضوعات الخلاف بينه وبين أهل الرأي ليست مقصورة على
المسائل التي رد فيها على قول: «بعض الناس»، بل توجد مسائل أخرى لم يرض
البخاري عن مسلك أهل الرأي إزاءها، وأثبت في صحيحه مذهبه فيها، وإن لم يعن
ببيان رأي مخالفيه، بل أنه قد أفرد بعضا من هذه المسائل بمؤلفات خاصة، مثل: رفع
اليدين عند الركوع وعند الرفع منه في جزء: «رفع اليدين» (1) ومثل: القراءة خلف الإمام
في جزء: «القراءة خلف الإمام» (2)
فمن هذه المسائل التي قرر البخاري فيها رأيه ورد ضمنا على أهل الرأي دون أن
يشير إليهم ما يأتي:
1 - حقيقة الخمر ومسماها...
2 - شرط المصر في الجمعة....
3 - نصاب الزكاة في الزروع والثمار...
4 - الطلاق قبل النكاح...
5 - طلاق السكران والمكره والغاصب....
وهناك العديد من الأمثلة - غير ما تقدم - يمكن تتبعه في مسائل الخلاف، وقد
ذكرنا بعضها في الفصل السابق، فيما أشرنا فيه إلى البخاري كمرجع لبعض المسائل
المختلف فيها.
لكن البخاري في هذه المواضع التي يبدي فيها رأيه لا يعني بالضرورة أنه يقصد



1 - هو كتابه «قرة العينين برفع اليدين في الصلاة - المطبوعة».
2 - وهو كتابه «خير الكلام في القراءة خلف الإمام - المطبوعة».
150
الرد على أهل الرأي، وإنما نسبة ذلك إليه اجتهاد وظن راجح من الباحثين، لا نستطيع
أن ننسبه صراحة إليه.
أما الذي يمكن نسبته إليه، فهو ما صرح فيه الرد على مخالفيه الذين أطلق عليهم:
«بعض الناس» في صحيحه، أو ناقشهم في مؤلفات خاصة، فهذا هو الذي يعنينا بالقصد
الأول، حيث يعطينا صورة واضحة عن أسلوب البخاري في مناقشته، وعن تصوره
لمخالفات أهل الرأي التي لم يسعه السكوت عليها لمخالفتها مقتضى الأدلة في
نظره...». (1)
وفي توضيح آخر لقول البخاري: «بعض الناس» ذكر المباركفوري في كتاب
«سيرة الإمام البخاري - باب أسماء الكتب المؤلفة في شرح البخاري - تحت رقم
(123) كتاب «رفع الإلتباس» لمؤلفه العلامة أبي الطيب محمد شمس الحق العظيم
آبادي المتوفى سنة 1329 ه‍ شارح «سنن أبي داود»:
«وكان بعض الناس قد طبع رسالة باللغة العربية مع صحيح البخاري بمطبعة
مصطفائي، وهذه الرسالة مأخوذة من تلك المباحث التي أوردها العيني، وفي شرحه
للرد على البخاري في اعتراضاته على من يسميهم «بعض الناس». ولقد أجاب العلامة
أبو الطيب على هذه الرسالة باسم: «رفع الالتباس»، ولم يذكر فيه اسمه من باب
الإخلاص».
تحقيق في تعبير البخاري ب‍ «بعض الناس»
هناك تحقيق في الرسالة جدير بالنظر والقراءة، بين فيه أوهام العلامة العيني التي
يعتمد عليها في تخطئة اعتراضات البخاري.
وقد طبع في سنة 1309 ه‍ في دهلي. (2)



1 - الاتجاهات الفقهية في القرن الثالث: 576 - 579.
2 - سيرة الإمام البخاري للمباركفوري 229، ط «السلفية بنارس - هند».
151
وألف المحدث الشيخ عبد الغني الغنيمي الميداني الدمشقي المتوفى سنة
1298 ه‍ رسالة أخرى باسم «كشف الإلتباس عما أورده البخاري على بعض الناس»،
ولم يذكر المؤلف سبب تأليفها، ولكن يظهر من عنوانها أنها تتعلق بالمسائل التي
كررها البخاري في صحيحه: «بعض الناس»، وهذه الرسالة طبعت في حلب - مكتبة
المطبوعات الإسلامية سنة 1414 ه‍.
وقال عبد الفتاح أبو غدة في مقدمة هذه الرسالة: «وهو (الغنيمي) - فيما علمت -
أول من جمع هذه المسائل في رسالة مستقلة، وتحدث فيها وأجاب عنها».
وألف بعض علماء الهند رسالة في هذه المسائل التي قال فيها البخاري: (...
وقال بعض الناس...)، وأجاب عنها، وسماها: «بعض الناس في دفع الوسواس»، ولم
يذكر عليها اسم مؤلفها، وطبعت في مطبعة نظامي الواقعة في كانپور سنة 1308 ه‍، لا
سنة 1309 كما وقع خطأ في كتاب «حياة المحدث شمس الحق العظيم آبادي» للشيخ
محمد عزير السلفي ص 117، وخرجت في 24 صفحة من القطع الهندي الكبير جدا.
ثم طبعت سنة 1309 في أول الجزء الثاني من «صحيح البخاري»، ويتضمن حاشية
العلامة الشيخ أحمد علي السهارنفوري المتوفى سنة 1297 رحمه الله تعالى، وقيل:
إنها من تأليفه، وقيل: إنها من تأليف العلامة الشيخ محمد قاسم النانوتوي المتوفى سنة
1297 ه‍ أيضا رحمه الله تعالى. واستبعد الشيخ محمود عزير صحة نسبتها إلى هذين
الشيخين الجليلين، كما في «حياة المحدث شمس الحق» ص 116، والله أعلم بمؤلفها.
ثم توالت طبعاتها مع طبع «صحيح البخاري». هذا وطبعت مستقلة عنه أيضا.
ولما ظهرت رسالة «بعض الناس في دفع الوسواس» في طبعتيها: المستقلة
والمصاحبة لحاشية العلامة الشيخ أحمد علي السهارنفوري، ألفت رسالة للرد عليها
باسم «رفع الالتباس عن بعض الناس»، وطبعت سنة 1311 في مطبعة الفاروقي بدلهي،
في 34 صحفة - لا 24 كما وقع في «حياة المحدث شمس الحق» ص 124 غلطا! - وهي
من القطع الهندي الكبير جدا، ولم يكتب عليها اسم مؤلفها، ولكن اشتهر بين العلماء

152
هناك أنه شمس الحق العظيم آبادي صاحب «عون المعبود على سنن أبي داود»
المتوفى سنة 1329 ه‍ رحمه الله تعالى، بإشارة من شيخه الشيخ محمد نذير حسين
الدهلوي.
وقد اشتهر أن هذه الرسالة من تأليف الشيخ شمس الحق العظيم آبادي، كما أثبته
الشيخ محمد عزير في «حياة شمس الحق» ص 116 - 126.
وقال في ص 124: «وقد طبع هذا الكتاب للمرة الأولى في 24 صفحة - صوابه
34 صفحة على القطع الكبير، بالمطبع المصطفائي - صوابه الفاروقي - بدهلي سنة
1311 ه‍، بعناية الشيخ تلطف حسين العظيم آبادي، المتوفى سنة 1334 ه‍، ثم طبع ثانيا
في 32 صفحة بالمطبعة الشمسية ب‍ «ملتان» سنة 1358 ه‍، بتصحيح وعناية الشيخ عبد
التواب الملتاني، المتوفى سنة 1366 ه‍، وفيها بعض التعليقات أيضا بقلمه، وهاتان
الطبعتان وكلتاهما على الحجر مملوءتان من الأخطاء الفاحشة، وقد كثرت فيهما
الأغلاط المطبعية.
ونظرا إلى أهمية هذا الكتاب نشرته ثالثا دار الترجمة والتأليف والنشر بالجامعة
السلفية ببنارس، سنة 1396 ه‍. وقد قمت أنا في هذه الطبعة بتصحيح الكتاب، ومقابلة
النسختين منه، والإشارة إلى الاختلافات بينهما، ثم تخريج الأحاديث والنقول من
بطون الكتب والصحائف، وتوضيح العبارات الغامضة، والرد في بعض المواضع على
بعض الأحناف المتأخرين، وإعداد فهرس لموضوعات الكتاب، وفهرس للمراجع،
وترجمة المؤلف في أول الكتاب. وقد خرج الكتاب في هذه الطبعة الفاخرة المحققة
بحيث يعجب القراء والباحثين، ويشبع رغبتهم العلمية». انتهى.
ثم طبعت رسالة سميت «إيقاظ الحواس» في 48 صفحة. ولم يذكر عليها اسم
مؤلفها، وهو حنفي المذهب كما يظهر من كلامه وشرحه لما فيها، وجاء في أولها بعد
البسملة والحمدلة:
«أما بعد فقد ذكر سيدنا الامام البخاري، فقال في صحيحه: «قال بعض الناس»

153
سبعا وعشرين مرة إلا لفظين تحت قوله: «وقال أهل الحجاز» انتهى. (1)
ومع ما نلاحظ من هذه المسائل والمقالات المتعددة، وما نشاهده من
المخاصمات بين الشوافع والأحناف في شروحهم على البخاري، لا سيما الخصومة
الواقعة بين ابن حجر وبدر العيني في «فتح الباري»، و «عمدة القاري»، أذكر ما يتعلق
بذلك في هذه الرسالة لتعيين موارد عبارة «بعض الناس»، وما ورد في البخاري في
مخالفته لأهل الرأي من دون ذكر هذه العبارة.
موارد التعبير ب‍ «بعض الناس» في صحيح البخاري
الأول: في الركاز
قال البخاري: «باب في الركاز الخمس:
وقال مالك وابن إدريس: الركاز دفن الجاهلية، في قليله وكثيره الخمس، وليس
المعدن بركاز وقد قال النبي (صلى الله عليه وسلم) في المعدن جبار، وفي الركاز الخمس» وأخذ
عمر بن عبد العزيز من كل مائتين خمسة وقال الحسن: ما كان من ركاز في
أرض الحرب ففيه الخمس، وما كان في أرض السلم ففيه الزكاة، وإن وجدت
اللقطة في أرض العدو فعرفها، وإن كانت من العدو ففيها الخمس.
وقال بعض الناس:
المعدن ركاز مثل دفن الجاهلية، لأنه يقال: أركز المعدن، إذا خرج منه شيء.
قيل له: قد يقال لمن وهب له شىء أو ربح ربحا كثيرا أو ثمره أركزت، ثم ناقض
وقال: لا بأس أن يكتمه ولا يؤدي الخمس. (2)
قال بدر العيني في «عمدة القاري»: «قال بعض الناس»: قال ابن التين: المراد أبو



1 - كشف الإلتباس عما أورده البخاري على بعض الناس: 15.
2 - صحيح البخاري - طبعة السلفية 3: 363، وطبعة باموق إستانبول 2: 137 كتاب الزكاة باب في الركاز
الخمس.
154
حنيفة. (1)
وقال الشنقيطي في «كوثر المعاني الدراري»: «وحيث إن ابن التين جزم بأن
المراد بالبعض هنا: أبو حنيفة». (2)
وقال الغنيمي في «كشف الإلتباس»: «أقول نسبة هذا القول إلى أبي حنيفة
صحيحة، سواء كان مراد البخاري أو غيره ممن وافقه أبو حنيفة». (3)
وقال أيضا: «أقول: أما نسبة قوله: «لا بأس أن يكتمه» إلى أبي حنيفة فمسلم». (4)
ثم روى عن أبي هريرة مرفوعا: «العجماء جبار (5)، والبئر جبار، والمعدن
جبار وفي الركاز الخمس». (6)
قبل الورود في البحث لا بد من البيان والتنبيه على أن البخاري يذكر في
صحيحه الأئمة (المالكي، والشافعي، والحنبلي) بأسمائهم، كما رأينا ذلك في «الركاز»،
ولا يذكر اسم أبي حنيفة إلا بالإشارة إلى أقواله: «بعض الناس»، وهذه قرينة على
عداوته وبغضه له!!
الركاز: في الصحاح: «كنوز الجاهلية المدفونة، وأركز الرجل، إذا وجده».
وفي «المختار»: «والركاز - بالكسر -: دفين الجاهلية».
وكما يظهر من كلام البخاري، فإن المعدن ليس بركاز، وعلى ذلك يظهر منه: أن
الركاز عنده وعند غيره من الأئمة التابعين هو: كنوز الجاهلية ودفيناتهم، وهو يغاير



1 - عمدة القاري 9: 100 كتاب الزكاة.
2 - كوثر المعاني الدراري 12: 460 باب في الركاز الخمس.
3 - كشف الالتباس 64.
4 - نفس المصدر السابق: 64.
5 - جبار - بضم الجيم وتخفيف الموحدة: هو الهدر الذي لا شيء فيه.
العجماء: البهيمة، في رواية من البخاري في «الديات»: العجماء جرحها جبار، وهي الدابة المنفلتة من
صاحبها، فما أصابت من انفلاتها فلا غرم على صاحبها - فتح الباري 12: 254.
6 - صحيح البخاري طبعة السلفية 3: 363، ومن طبعة باموق إستانبول 2: 137 كتاب الزكاة.
155
المعدن.
والمعدن بقول النبي (صلى الله عليه وآله): «جبار»، (أي: الهدر الذي لا شيء فيه)، بخلاف الركاز،
لأن الخمس يتعلق في قليله وكثيره.
نظرية الحنفية
يرى أبو حنيفة - كما حكاه البخاري - تعميم معنى الركاز ليشمل حتى المعادن
أيضا، لأنه أفتى بوجوب إخراج الخمس من المعدن، أو المال الموهوب، أو الربح،
أو الثمرة، والذي ينبت بالأرض. (1)
فالبخاري - مع كلامه هذا - ألزم أبا حنيفة بأن المعدن لو كان ركازا ووجب إخراج
خمسه، فكيف أباح لمن وجده أن يكتمه ولا يؤدي منه شيئا؟ وهذه مناقضة ظاهرة!
قال الطحاوي، عن أبي حنيفة: «إنه قال: من وجد ركازا فلا بأس أن يعطي
الخمس للمساكين، وإن كان محتاجا جاز له أن يأخذه لنفسه».
قال: «وإنما أراد أبو حنيفة أنه تأول أن له حقا في بيت المال، ونصيبا في الفيء،
فلذلك له أن يأخذ الخمس لنفسه عوضا عن ذلك». (2)
وهذا هو معنى قوله: «لا بأس أن يكتمه وعدم تأديته الخمس».
نعم! كما قيل: «الخلاف في تفسير الركاز خلاف قديم بين أهل المدينة وأهل
الكوفة»، كما ذكره محمد بن الحسن في كتابه: (في الرد على أهل المدينة)، وقال: «إنما
الركاز ما وجد في المعدن وإنما المال المدفون جعل نظير المال يستخرج من المعدن» (3).
ولكن أين هذا المعنى من كتمانه، وعدم تأديته الخمس؟
وقال مؤلف كتاب الاتجاهات الفقهية: «حكى البخاري رأي أبي حنيفة، ثم ألزمه
بأن المعدن لو كان ركازا - لأنه يقال: أركز المعدن إذا خرج منه شيء - لأدى ذلك إلى



1 - نصب الراية 2: 380.
2 - شرح معاني الآثار للطحاوي 2: 180.
3 - كتاب الحجة على أهل المدينة 1: 432.
156
وجوب إخراج الخمس من المال الموهوب، أو الربح، أو الثمرة. وهوما لم يقل به أحد،
لأنه يقال لمن ملك شيئا من ذلك: أركز الرجل، كما يقال لمن وجد المعدن: أركز.
ثم ذكر أن أبا حنيفة بعد أن أوجب الخمس في المعدن، رجع فناقض نفسه حين
أباح لمن وجده أن يكتمه ولا يؤدي منه شيئا». (1)
الثاني: في الهبة
قال البخاري:
«باب إذا قال: أخدمتك هذه الجارية على ما يتعارف الناس، فهو جائز.
وقال بعض الناس:
هذه عارية، وإن قال: كسوتك هذا الثوب، فهو هبة». (2)
ففي المسألة خلاف بين البخاري وأبي حنيفة، كما قال الكرماني في «الكواكب
الدراري» في شرح قوله بعض الناس: «أراد به أبا حنيفة». (3)
«وهو غير مستبعد، لأنه من مذهبه، فالمناقشة واردة عليه». (4)
نظرية الحنفية
ومذهب أبي حنيفة في المسألة هكذا: «إذا قال قائل لمخاطب: أخدمتك هذه
الجارية، أو هذا الغلام على ما يتعارفه الناس، هذه الصيغة عارية، لأنها صريحة في إعارة
المنافع دون الرقبة، إلا إذا نوى بها الهبة». (5)



1 - الاتجاهات الفقهية: 601.
2 - صحيح البخاري 2: 6 - ومن طبعة باموق إستانبول 3: 145 كتاب الهبة، باب إذا قال: أخدمتك،... -
عمدة القاري 13: 189.
3 - الكواكب الدراري 11: 154.
4 - الاتجاهات الفقهية: 602.
5 - الهداية 3: 160 - 161.
157
أما البخاري فيقول: لا فرق بين قول: «أخدمتك هذه الجارية» و «كسوتك هذا
الثوب» في وقوعهما هبة، بناء على أن قوله: «وإن كسوتك» تتمة قول أبي حنيفة في
المسألة.
وفي ذلك يقول الكرماني في شرح قوله: «كسوتك هذا الثوب»: «يحتمل أن
يكون من تتمه قول الحنفية، ومقصود المؤلف منه: أنهم تحكموا حيث قالوا ذلك
عارية، وهذا هبة. ويحتمل أن يكون عطفا على الترجمة». (1)
فعلى هذا يكون مراد البخاري هو: المساواة بين الفرعين.
ثم ذكر البخاري في ذلك رواية ابن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي (صلى الله عليه وآله):
«فأخدمها هاجر». (2) ومراده: أن لفظ الإخدام للتمليك، كما أن لفظ الكسوة كذلك.
وقد عارضه في ذلك ابن بطال، فقال: «لا أعلم خلافا أن من قال: أخدمتك هذه
الجارية أنه قد وهب له الخدمة خاصة، فإن الإخدام لا يقتضي تمليك الرقبة، كما أن
الإسكان لا يقتضي تمليك الدار.
واستدلال البخاري بقوله: «فأخدمها هاجر» على الهبة لا يصح، وإنما صحت
الهبة في هذه القصة من قوله: فأعطوها هاجر»، إنتهى.
وقال أيضا: «لم يختلف العلماء أنه إذا قال: كسوتك هذا الثوب مدة يسميها، فله
شرطه، وإن لم يذكر حدا فهو هبة، لأن لفظ الكسوة يقتضي الهبة، لقوله تعالى:
(فكفارته إطعام عشرة مساكين... أو كسوتهم) (3)، ولا تختلف الأمة أن ذلك تمليك
للطعام والكسوة». (4)
وقال ابن المنير: «الكسوة للتمليك بلا شك، لأن ظاهرها الأصلي لا يراد، إذ



1 - الكواكب الدراري 11: 154.
2 - فتح الباري 5: 188.
3 - المائدة 5: 89.
4 - فتح الباري 5: 188.
158
أصلها لمباشرة الإلباس، لكنا نعلم أن الغني إذا قال للفقير: كسوتك هذا الثوب
يعني أني باشرت إلباسك إياه، فإذا تعذر حمله على الوضع حمل على العرف
وهو العطية»، انتهى.
وبذلك يظهر أن المنشأ للتحكم في قول البخاري على أبي حنيفة هو رواية أبي
هريرة: «فأخدمها هاجر»، فلفظة الإخدام عنده للتمليك، فأخذ بظاهرها على من يؤول.
الثالث: في الهبة أيضا
قال البخاري:
«إذا حمل رجل على فرس فهو كالعمرى والصدقة.
وقال بعض الناس: له أن يرجع فيها». (1)
وهذه المسألة أيضا من المسائل الخلافية بين البخاري وأبي حنيفة، فكما مر في
المسألة السابقة: أن المال الموهوب يتملك ويتصرف فيه دون العارية المشروطة،
فالبخاري مثل للهبة بالعمرى والصدقة.
أما العمرى فلقول النبي (صلى الله عليه وسلم): «من أعمر عمرى فهي للمعمر له ولورثته من بعده».
وأما الصدقة: فإنه يراد بها وجه الله تعالى، فيقع القبض لله تعالى. وإنما يصير
للفقير نيابة عن الله تعالى، بحكم الرزق الموعود، فلا يبقى محل للرجوع. (2)
ولذلك فإنه أورد تحت ترجمة «باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته
وصدقته» (3) روايات، وحكم بعدم جواز الرجوع في الهبة.
وأما مذهب «أبي حنيفة» في ذلك فهو: «أن للواهب أن يرجع إلى هبته».



1 - صحيح البخاري 2: 61. وفي طبعة باموق إستانبول 3: 145 كتاب الهبة، باب: إذا حمل الرجل على
فرس... 0
2 - كشف الالتباس: 73.
3 - صحيح البخاري 3: 142، كتاب الهبة.
159
وقال ابن حجر: والذي يظهر أن البخاري أراد الإشارة إلى الرد على من قال
بجواز الرجوع في الهبة. (1)
نظرية الحنفية
قال في «الهداية»: «وإذا وهب هبة لأجنبي فله الرجوع فيها.
وقال الشافعي: لا رجوع فيها، وذكر دليله وتكلم فيه.
ثم قال: ولنا قوله: الواهب أحق بهبته ما لم يثب منها» (2)، أي: ما لم يعوض، ولأن
المقصود بالهبة هو التعويض للعادة، فتثبت ولاية الفسخ عند فواته.
ثم قال: «وقوله في الكتاب: فله الرجوع، لبيان الحكم».
أما الكراهة فلازمة، لقوله (صلى الله عليه وسلم): «العائد في هبته كالعائد في قيئه». (3)
وهذا لإستقباحه، أي: لا لحرمته، لأن الذي يعود في قيئه الكلب، وفعله يوصف
بالقبح لا بالحرمة. ولذلك المعنى روى البخاري عن عمر أنه قال: حملت على فرس
في سبيل الله فرأيته يباع، فسألت رسول الله (صلى الله عليه وسلم)؟
فقال: «لا تشتره، ولا تعد في صدقتك». (4)
وقال قتادة في عقب هذا الحديث: «ولا أعلم القئ إلا حراما». (5)
وكما ذكرنا في محله فإن للبخاري - خارج صحيحه - كتبا في أجزاء مستقلة أعد
منها رسالة في الهبة، وقد أثبتنا أن كتب البخاري في الفقه ناظرة إلى فقه أبي حنيفة، ولا



1 - فتح الباري 5: 188.
2 - الهداية 3: 227.
3 - صحيح البخاري 3: 215، مسلم 3: 124 رقم 1622، أبو داود 3: 394، النسائي 6: 265، ابن ماجة 2:
797، الترمذي 4: 441.
4 - صحيح البخاري 2: 60 و 61، ومن طبعة إستانبول، 3: 146، فتح الباري 5: 246، عمدة القاري 13:
190.
5 - اختلاف العلماء للمروزي: 277.
160
يستثني رسالته في الهبة عن تلكم الرسائل، وإن لم نظفر بها.
ومما ذكر في الصحيح نعرف أنه قد أشبع عقدته من خصومه من أهل الرأي
والقياس، كما قد شاهدنا ذلك بأجزائه السالفة في «رفع اليدين» و «القراءة خلف الإمام».
وقد ذكر الذهبي: «وقال محمد بن أبي حاتم الوراق: قرأ علينا أبو عبد الله كتاب
«الهبة» فقال: ليس في هبة وكيع إلا حديثان مسندان أو ثلاثة، وفي كتاب عبد الله بن
المبارك خمسة أو نحوه، وفي كتابي هذا خمسمائة حديث أو أكثر». (1)
الرابع: في الشهادات
قال البخاري في «باب شهادة القاذف، والسارق، والزاني»
وقوله تعالى: (ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا أولئك هم الفاسقون * إلا الذين تابوا
من بعد ذلك وأصلحوا). (2)
وجلد عمر أبا بكرة، وشبل بن معبد، ونافعا بقذف المغيرة، ثم استتابهم وقال:
من تاب قبلت شهادته وأجازه عبد الله بن عتبة، وعمر بن عبد العزيز، وسعيد بن
جبير، وطاووس ومجاهد، والشعبي، وعكرمة، والزهري، ومحارب بن دثار،
وشريح، ومعاوية بن قرة وقال أبو الزناد: الأمر عندنا بالمدينة: إذا رجع القاذف
عن قوله فاستغفر ربه، قبلت شهادته. وقال الشعبي وقتادة: إذا أكذب نفسه جلد
وقبلت شهادته وقال الثوري: إذا جلد العبد ثم أعتق جازت شهادته، وإن
استقضي المحدود فقضاياه جائزة.
وقال بعض الناس: لا تجوز شهادة القاذف وإن تاب. (3) ثم قال: لا يجوز



1 - سير أعلام النبلاء 12: 410 - 411.
2 - النور 24: 4 - 5.
3 - مجمع الأنهر 2: 192، البحر الرائق 7: 86.
161
النكاح بغير شاهدين، فإن تزوج بشهادة محدودين جاز، وإن تزوج بشهادة
عبدين لم يجز. وأجاز شهادة المحدود والعبد والأمة لرؤية هلال رمضان». (1)
والبخاري: أخذ في ترجمته لهذا الباب - مع تطويلها - شواهد على تثبيت قبول
شهادة الفاسق بعد رجوعه من الفسق بالتوبة.
ويظهر من إطالته للترجمة واتخاذه الشواهد من القرآن، والحديث، وعمل
الأصحاب والتابعين من بعدهم: أن المسألة عنده مهمة!
بيان ذلك: أن الآية الكريمة: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة
شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون *
إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا). (2)
وإن كانت دليلا لكلتا الطائفتين ولم يختلف فيها أحد من العلماء، (بأن الفاسق إن
كان بسبب غير القذف تقبل شهادته، إن تاب وعرفت توبته). إلا أن في الفاسق بسبب
القذف، فإنه قد خالف فيه أبا حنيفة لقبول شهادته إذا تاب، لأنه يعتبر أن الاستثناء في
الآية عائد إلى أقرب مذكور، فالتوبة ترفع الفسق، ولكنها لا تؤثر في قبول الشهادة. أعني
أن رد الشهادة والثمانين جلدة تكونان حدا للقاذف منضمين، وكما أن التوبة لا تسقط
الحد، فكذا لا تسقط رد الشهادة، وقد أيد المنع بقوله تعالى: (ولا تقبلوا لهم شهادة
أبدا).
وأما الجمهور، فقد جعل الاستثناء عائدا إلى رد الشهادة والفسق، فبالتوبة تقبل
الشهادة ويرتفع الفسق.
وقد صدر البخاري ترجمته بالآية الكريمة ليشير إلى الاختلاف في فهم الآية،
ثم أيد مذهبه فيها بما رواه عن عمر، وبعض التابعين.



1 - صحيح البخاري 2: 62 - 63 من طبعة السلفية، ومن طبعة باموق إستانبول 3: 150 كتاب الشهادات.
2 - النور 24: 4 - 5.
162
وابن القيم في «أعلام الموقعين» قد بسط الكلام في بيان أدلة الفريقين، وروى
عدم قبول شهادة المحدود في القذف وإن تاب، عن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة،
والحسن، ومسروق، والشعبي في إحدى روايتين عنه، وهو قول شريح. (1)
بيان البخاري
إن البخاري قد أخذ على أهل الرأي تناقضاتهم في باب الشهادات، حيث منعوا
شهادة المحدودين، ثم أجازوا شهادة اثنين منهم في النكاح فقط، ولم يجيزوا شهادة
العبيد في النكاح، ثم أجازوا شهادتهم في رؤية هلال رمضان.
قال العيني: «قال صاحب التوضيح: هذا غلط، لأن الشاهد على هلال رمضان لا
يزول عنه اسم الشاهد، ولا يسمى مخبرا، فحكمه حكم الشاهد في المعنى لاستحقاقه
ذلك بالاسم. وأيضا، فإن الشهادة على هلال رمضان حكم من الأحكام، ولا يجوز أن
يقبل في الأحكام إلا من تجوز شهادته في كل شيء، ومن جازت شهادته في هلال
رمضان - لا في غيره - فليس بعدل، ولا هو ممن يرضى، والله إنما تعبدنا بمن يرضى من
الشهداء»، انتهى. (2)
ثم قال العيني: «قلت: هذا تطويل للكلام بلا فائدة، وكلام مبني على غير معرفة
بدقائق الأشياء».... إلى آخر ما قال في رد ذلك المقال.
عقيدة الحنفية
قال صاحب الهداية: «لا تشترط العدالة» حتى ينعقد بحضرة الفاسقين عندنا،
خلافا للشافعي.
له: أن الشهادة من باب الكرامة، والفاسق من أهل الإهانة.
ولنا: أنه من أهل الولاية، فيكون من أهل الشهادة، وهذا لأنه لما لم يحرم الولاية



1 - أعلام الموقعين 1: 145، الهداية 3: 89 بداية المجتهد 2: 370 - 386.
2 - عمدة القاري 13: 210.
163
على نفسه لإسلامه، لا يحرم على غيره لأنه من جنسه.
والمحدود في القذف من أهل الولاية، فيكون من أهل الشهادة تحملا، وإنما
الفائت ثمرة الأداء بالنهي لجريمته، فلا يبالي بتوبته، كما في شهادة ابني العاقدين.
ولابد من اعتبار الحرية فيه، لأن العبد لا شهادة له لعدم الولاية على نفسه، فلا تثبت له
الولاية على غيره». (1)
وقال ابن رشد في «بداية المجتهد»:
«إن المقصود بالشهادة عند أبي حنيفة في النكاح هو إعلامه فقط، ولذا لا ينعقد
النكاح عنده بشهادة فاسقين.
أما قبول شهادة العدل في هلال رمضان - وإن كان عبدا - فلأنه أمر ديني يشبه
رواية الأخبار، ولهذا لا يختص بلفظ الشهادة.
وقد ناقش ابن القيم الآراء في شهادة العبيد مرجحا قبولها، لأن الإمام أحمد
روى عن أنس بن مالك، أنه قال: ما علمت أحدا رد شهادة العبد» (2)
الخامس: في الوصايا
قال البخاري في باب قول الله تعالى: (من بعد وصية يوصي بها أو دين). (3)
ويذكر أن شريحا، وعمر بن عبد العزيز، وطاووسا، وعطاء، وابن اذينة أجازوا
إقرار المريض بدين.
وقال الحسن: أحق ما تصدق به الرجل آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة.
وقال إبراهيم والحكم: إذا أبرأ الوارث من الدين برئ.
وأوصى رافع بن خديج ألا تكشف إمرأته الفزارية عما أغلق عليه بابها. وقال



1 - الهداية 3: 89، بداية المجتهد 2: 370 - 386.
2 - أعلام الموقعين 1: 114 - 115، الاتجاهات الفقهية: 605.
3 - النساء: 11.
164
الحسن: إذا قال لمملوكه عند الموت: كنت أعتقتك، جاز.
وقال الشعبي: إذا قالت المرأة عند موتها: إن زوجي قضاني وقبضت منه، جاز.
وقال بعض الناس: لا يجوز إقراره لسوء الظن به للورثة.
ثم استحسن فقال: يجوز إقراره بالوديعة، والبضاعة، والمضاربة.
وقد قال النبي (صلى الله عليه وسلم): «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث».
ولا يحل مال المسلمين، لقول النبي (صلى الله عليه وسلم): «آية المنافق إذا ائتمن خان».
وقال الله تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها (1)). (2)
بيان البخاري
أراد أن يحتج بجواز إقرار المريض بالدين مطلقا، سواء كان المقر له وارثا
أو أجنبيا، لقوله تعالى: (من بعد وصية يوصي بها أو دين)، حيث قدمهما على
الميراث، ولم يفصل.
نظرية الحنفية
في كتب الحنفية: «وإقرار المريض لوارثه بدين أو عين باطل، لتعلق حق الورثة
بماله في مرضه، وفي تخصيص البعض به إبطال حق الباقين».
قال العيني في شرح البخاري: «مع ورود قوله (صلى الله عليه وسلم): لا وصية لوارث ولا إقرار له
بدين». (3)
وقال صاحب «التوضيح» في بيان «وقال بعض الناس»: «المراد به أبو حنيفة». (4)
أخذ البخاري على أبي حنيفة وأتباعه بقوله: «بعض الناس» للفرق بين الإقرار



1 - النساء 4: 58.
2 - صحيح البخاري 2: 78، عمدة القاري 14: 41.
3 - عمدة القاري 14: 41.
4 - الكواكب الدراري 12: 66، عمدة القاري 14: 41.
165
بالدين والإقرار بالودعية وغيرها، لأن مبنى الإقرار بالدين على اللزوم، ومبنى الإقرار
بغيره من الأمور المذكورة على الأمانة.
وبين اللزوم والأمانة فرق عظيم: يريدون باللزوم: أنه يلزم أداؤه وضمانه، وأما
بالأمانة: فلا يلزم فيها الضمان.
ويرى البخاري أبا حنيفة في هذه المسألة يعمل بالظن ولا يجيز إقرار المريض
بالدين، ومع هذا يستحسن ويجوز الإقرار بالوديعة والبضاعة والمضاربة، مع أنه في
الظاهر ليس بينهما فرق.
ويحتج في ذلك بقوله: وقد قال النبي (صلى الله عليه وسلم): «إياكم والظن، فإن الظن أكذب
الحديث».
مع أن الاحتجاج بهذا إنما يتم لو كان العموم أو الإطلاق باقيا، بعد ورود
المخصص في قوله تعالى: (إن بعض الظن إثم) (1)، فهو يدل بمفهومه على أن كل
ظن ليس إثما، فيكون على ذلك أن ظن السوء الفاسد إثم، لا الجميع من أفراد الظنون،
وهو ما كان للإحتراس ودفع الضرر عن الناس، فإنه غير منهي عنه، بل مأمور به
ومطلوب منه، بدليل قوله: «إحترسوا من الناس بسوء الظن».
السادس: في اللعان
قال البخاري في باب اللعان:
«وقول الله تعالى: (والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا
أنفسهم)... إلى قوله: (إنه لمن الصادقين) (2)، فإذا قذف الأخرس امرأته
بكتابة أو إشارة أو بإيماء معروف، فهو كالمتكلم، لإن النبي (صلى الله عليه وسلم) قد أجاز الإشارة



1 - الحجرات 49: 12.
2 - النور 24: 6.
166
في الفرائض. وهو قول بعض أهل الحجاز، وأهل العلم.
وقال الله تعالى: (فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا). (1)
وقال الضحاك: (إلا رمزا) (2) إلا إشارة.
وقال بعض الناس: لا حد ولا لعان، ثم زعم أن الطلاق بكتاب أو إشارة،
أو إيماء جائز وليس بين الطلاق والقذف فرق، فإن قال: القذف لا يكون إلا
بكلام، قيل له: كذلك الطلاق لا يجوز إلا بكلام، وإلا بطل الطلاق والقذف،
وكذلك العتق، وكذلك الأصم يلاعن.
وقال الشعبي وقتادة: إذا قال: أنت طالق، فأشار بأصابعه تبين منه بإشارته.
وقال إبراهيم: الأخرس إذا كتب الطلاق بيده لزمه.
وقال حماد: الأخرس والأصم إن قال برأسه جاز».
ثم روى بعد ذلك: «أحاديث تفيد استعمال النبي (صلى الله عليه وآله) الإشارة في بعض الأمور،
مثل قوله (صلى الله عليه وآله): «أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا»، وأشار بالسبابة والوسطى، وفرج
بينهما شيئا.
وكإشارته (عليه السلام) إلى نحو اليمن، ثم قوله: «الأيمان ههنا، مرتين».
وقوله (صلى الله عليه وسلم): «والشهر هكذا وهكذا وهكذا»، يعني: ثلاثين...». (3)
بيان البخاري
يرى البخاري أن الكتابة للأخرس وإشارته تقوم مقام الكلام في اللعان. ويستدل
على قوله بطائفة من الآيات والأخبار:
فمن الآيات: قوله تعالى: (فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد



1 - مريم 19: 29.
2 - آل عمران 3: 41.
3 - صحيح البخاري 2: 278، وفي طبعة باموق استانبول 6: 173 كتاب الطلاق، عمدة القاري 20: 290.
167
صبيا). (1) ومن الأخبار: قوله (صلى الله عليه وسلم): «أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا»، وأشار بالسبابة
والوسطى...
رأي الحنفية
الأحناف يرون: «أن اللعان يتعلق بالصريح في القول، ولا ينعقد بالكتابة
والإشارة، كما أن في القذف لا يحد بالإشارة، لانعدام القذف صريحا». (2)
ولذلك قال في «الهداية»: «قذف الأخرس لا يتعلق به اللعان، لأنه يتعلق
بالصريح كحد القاذف».
ثم قال: «ولا يحد بالإشارة في القذف، لانعدام القذف صريحا». (3)
بيان البخاري
قال الكرماني وغيره: «إن مراد البخاري في هذا الفرع أيضا الحنفية». (4)
وقد أراد البخاري أن يلزم الخصم بالتناقض في هذه المسألة، ولذلك قال: «ثم
زعم أن الطلاق بكتاب أو إشارة أو إيماء جائز»!.
وبقوله هذا، وقوله: «ليس بين الطلاق والقذف فرق» أراد إلزامه بقبول حكم
الإشارة والكتابة في اللعان والقذف، كما صح عنده حكم الإشارة والكتابة في الطلاق.
وهو، مع ذكره إبراهيم النخعي، وحماد بن أبي سليمان - من رؤساء أهل الرأي،
ومن شيوخ أبي حنيفة - فسر قوله: «ثم زعم» بأن مراده غير إبراهيم النخعي وغير حماد
بن أبي سليمان، وأهل الرأي لا يعرفون بعد حماد بن أبي سليمان غير أبي حنيفة.



1 - مريم 19: 29.
2 - الهداية 2: 19، فتح القدير 3: 359، بداية المجتهد 2: 98.
3 - الهداية 2: 19.
4 - الكواكب الدراري 19: 219.
168
السابع: في الإكراه
قال البخاري:
«باب إذا أكره حتى وهب عبدا أو باعه لم يجز. وقال بعض الناس: فإن نذر المشتري
فيه نذرا فهو جائز بزعمه، وكذلك إن دبره». (1)
بيان البخاري
أفتى البخاري في ترجمته لهذا الباب بعدم جواز بيع المكره، وهبته، بأنه لو أكره
شخص على بيع عبده أوهبته، لم يصح البيع والهبة.
رأي الحنفية
الحنفية ترى في بيع المكره ثبوت الملك عند القبض، ويجوز للمشتري أن
يتصرف فيه حيث يشاء، وتلزمه القيمة كما في سائر البيوع الفاسدة.
كما أن ركن البيع في المتعاقدين من أهله، والفساد ينتفي بانتفاء شرطه،
وهو التراضي وبالإجازة يرتفع الإكراه، وهو كسائر الشروط المضمرة عند البيع.
وقال في «الهداية»: «إذا باع مكرها وسلم مكرها، ثبت الملك عندنا». (2)
وأما قوله: «وقال بعض الناس: إذا نذر المشتري فيه نذرا فهو جائز...» فإنه أراد
بذلك أن الحنفية يتشبثون لتحليل المحرم بالوسائط، كما يفصل ذلك في كتاب
«الحيل».
وفي هذه المسألة يحلل ويصحح المعاملة الفاسدة في بيع المكره بنذر
المشتري: أن يشتري هذا العبد وهذا المدبر لتبرأ ذمته وليحكم بجواز بيعه ووجوب
إقدامه عليه، وإن كان معارضا مع حق العبد.



1 - صحيح البخاري 4: 20 - 292، ومن طبعة باموق إستانبول 8: 57.
2 - الهداية 3: 275.
169
الثامن: في الأيمان
قال البخاري:
«باب إن حلف ألا يشرب نبيذا، فشرب طلاء، أو سكرا، أو عصيرا، لم يحنث في
قول بعض الناس، وليست هذه بأنبذة عنده». (1)
بيان البخاري
أراد بهذه الترجمة حنث الأيمان لو حلف ألا يشرب النبيذ، فشرب العصير
العنبي أو الطلاء، أو ما يصدق عليه أن يأخذ به إلى السكر فيوجب الكفارة، مثلا لو حلف
ألا يأكل لحما فأكل السمك لم يحنث عند أبي حنيفة، فيصح عند البخاري حنث
اليمين، فتوجب الكفارة.
وكذا: من حلف ألا يأكل من هذه الحنطة فأكل من خبزها، أومن هذا الدقيق فأكل
من خبزه.
رأي الحنفية
لا يصح عند أبي حنيفة صرف الحقيقة في المحلوف عليه عند الاستعمال على
غيره.
ولذلك قال الشيخ عبد الغني الغنيمي الحنفي في «اللباب في شرح الكتاب»:
«من حلف لا يشرب من دجلة فشرب منها بإناء، لم يحنث حتى يكرع منها كرعا، في
قول أبي حنيفة، ومن حلف لا يشرب من ماء دجلة فشرب منها بإناء، حنث». (2)
وأما ما يتعلق بعقدة البخاري من أبي حنيفة في هذه المسألة، فإنه طعن عليه بأنه
لا يرى بأسا في شرب الطلاء (3) والسكر (4) والعصير العنبي وغيرها من الأنبذة.



1 - صحيح البخاري 7: 230 - ط باموق إستانبول، كتاب: الأيمان والنذور.
2 - اللباب في شرح الكتاب 4: 15.
3 - الطلاء: هو العصير العنبي إذا طبخ حتى يذهب أقل من ثلثيه.
4 - السكر: نقيع التمر ونقيع الزبيب إذا اشتد وغلى.
170
وإذ بلغ الكلام إلى هذا فلا يخلو من فائدة بيان آراء أهل العلم في ذلك:
قال ابن عبد البر في «التمهيد»: «وقد أجمع علماء المسلمين في كل عصر، وبكل
مصر - فيما بلغنا وصح عندنا - أن عصير العنب، إذا رمي بالزبد وهدأ، وأسكر الكثير منه
أو القليل، أنه خمر، وأنه ما دام على حاله تلك حرام، كالميتة والدم ولحم الخنزير،
رجس نجس كالبول. إلا ما روي عن ربيعة في نقط من الخمر، شيء لم أر لذكره وجها،
لأنه خلاف إجماعهم. وقد جاء عنه في مثل رؤوس الأبر من نقط البول نحو ذلك.
والذي عليه عامة العلماء في خمر العنب: ما ذكرت لك عنهم من تحريم قليلها
وكثيرها، وأنها عندهم رجس كسائر النجاسات، إلا أن تحريمها عندهم لعلة الشدة
والإسكار، وليس لذلك تحريم الميتة...
واختلف العلماء في سائر الأنبذة المسكرة: فقال العراقيون: إنما الحرام منها
السكر، وهو فعل الشارب. وأما النبيذ في نفسه فليس بحرام ولا نجس، لأن الخمر
العنب لا غيره، بدليل قول الله عزو جل: (إني أراني أعصر خمرا) (1)، يعني: عنبا». (2)
ويناقش في ذلك ابن عبد البر فيقول: «ليس في هذا دليل على أن الخمر ما عصر
من العنب لا غير، لما قدمنا ذكره من أن الخمر المعروفة عند العرب ما خمر العقل
وخامره، وذلك اسم جامع للمسكر من عصير العنب وغيره». (3)
وروى في ذلك عن عمر أنه قال: «الخمر من خمسة، من: التمر، والزبيب،
والعسل، والحنطة، والشعير. والخمر ما خمرته». (4)
«ولما اختلف العلماء فيما تقدم ذكرنا له من مسكر الأنبذة، وجب الرجوع عند تنازعهم في ذلك إلى ما ورد به الكتاب، أو قام دليله منه، أو ثبتت به سنة عن النبي (صلى الله عليه وسلم)،



1 - يوسف: 36.
2 - التمهيد لما في الموطأ 1: 245.
3 - نفس المصدر السابق.
4 - نفس المصدر السابق.
171
وقد ذكرنا ما يوجبه إطلاق اسم الخمر، وما يعرفه أهل اللسان من اشتقاقها.
وأما السنة: فالآثار الثابتة كلها في هذا الباب تقضي على صحة قول أهل الحجاز،
وقد روى أهل العراق - فيما ذهبوا إليه - آثارا لا يصح شيء منها عند أهل العلم
بالحديث». (1)
وقال أيضا: «والآثار في تحريم ما أسكر كثيرة جدا يطول الكتاب بذكرها، وقد
ذكرها جماعة من العلماء، منهم: ابن المبارك وغيره، وقال أحمد بن شعيب في كتابه: إن
أول من أحل المسكر من الأنبذة إبراهيم النخعي، وهذه زلة من عالم، وقد حذرنا من
زلة العالم، ولا حجة في قول أحد مع السنة!
وقد زعمت طائفة: أن أبا جعفر الطحاوي - وكان إمام أهل زمانه - ذهب إلى إباحة
الشرب من المسكر ما لم يسكر. وهذا - لو صح عنه - لم يحتج به على من ذكرنا قولهم
من الأئمة المتبعين في تحريم المسكر ما ثبت من السنة...». (2)
فما قاله ابن عبد البر عبارة عن نظرية أهل الحديث جاء ردا على نظرية أهل
الرأي في تحريم أقسام النبيذ.
فالخلاف في المسألة بين المحدثين وأهل الرأي نشأ من المنازعات المتداولة
بين البلدتين: الحجاز والعراق، واستعمال كل منهما العناوين الخاصة عند الإطلاق،
وتسمية الأشياء على ما عليه العرف وأهل المحاورة.
كما روى المحدثون خطبة أبي موسى الأشعري في قوله: «ألا إن خمر أهل
المدينة البسر والتمر، وخمر أهل فارس العنب، وخمر أهل اليمن البتع - وهو العسل -
وخمر أهل الحبشة الأسكركة، وهو الأرز». (3)
ويظهر من كلمات أهل العراق وأهل الرأي: أن الخمر عندهم المتخذ من العنب،



1 - التمهيد لما في الموطأ 1: 249 - 248.
2 - نفس المصدر السابق 255 - 256.
3 - نفس المصدر السابق 5: 168.
172
والحرام منه ما أسكر.
وأما النبيذ فقد اختلفوا في حكمه، فأباحته طائفة، وحرمته أخرى: روى الحاكم
النيسابوري عن يزيد النحوي، قال: «كنت قاعدا عند عكرمة، فأقبل مقاتل بن حيان
وأخوه، فقال له مقاتل: يا أبا عبد الله! ما تقول في نبيذ الجر؟
فقال عكرمة: هو حرام!
قال: فما تقول فيمن شربه؟
قال: أقول: إن من شربه كفر»!
وقال ابن عبد البر: «قد أجمعوا على ترك التحديث في تحليل النبيذ، وإظهار
الرواية في تحريمه». (1)
ويشهد بذلك أن أهل العراق لم يجمعوا على تحليل المسكر ما لم يسكر
شاربه، لأن جماعة منهم يذهبون في ذلك مذهب أهل الحجاز، كما في سند الرواية
المذكورة عن جماعة من أهل الكوفة والبصرة، منهم: عيسى بن يونس الكوفي،
ومخلد بن الحسين البصري.
فمن محلليه من أهل الكوفة: «وكيع بن الجراح»، الإمام الحافظ المتوفى سنة
197 ه‍.
قال ابن معين: «وكيع يفتي بقول أبي حنيفة وكان قد سمع منه كثيرا». (2)
وهو مع إمامته وجلالته في حديث السنة:
«كان يفطر على نحو عشرة أرطال من الطعام، ثم يقدم إليه قرابة فيها نحو من
عشرة أرطال من نبيذ، فيشرب منها ما طاب له على طعامه، ثم يجعلها بين يديه، ثم



1 - التمهيد لما في الموطأ 7: 127.
2 - سير أعلام النبلاء 9: 148، تاريخ بغداد 13: 470 - 471. وقد ذكرنا في باب «مدح الإجتهاد»
مخالفة وكيع بن الجراح على أصحاب أبي حنيفة، فراجع.
173
يقوم فيصلي ورده من الليل، كلما صلى شيئا شرب منها حتى ينفدها، ثم ينام»!! (1)
قال الذهبي: «روى هذه الحكاية الدار قطني، عن القاضي ابن أم شيبان، عن أبيه،
عن أبي عبد الرحمن بن سفيان بن وكيع، عن أبيه: قال إسحاق بن بهلول: قدم علينا
وكيع، فنزل في مسجد الفرات وسمعت منه، فطلب مني نبيذا، فجئته به، وأقبلت أقرأ
عليه الحديث وهو يشرب، فلما نفد ما جئته به أطفأ السراج.
قلت: ما هذا؟
قال: لو زدتنا زدناك»! (2)
قال جعفر الطياليسي: «سمعت يحيى بن معين يقول: سمعت رجلا يسأل
وكيعا، فقال: يا أبا سفيان! شربت البارحة نبيذا، فرأيت فيما يرى النائم كأن رجلا يقول:
شربت خمرا؟
فقال وكيع: ذلك الشيطان»! (3)
وقال نعيم بن حماد: «تعشينا عند وكيع - أو قال: تغدينا - فقال: أي شيء تريدون
أجيئكم منه: نبيذ الشيوخ، أو نبيذ الفتيان؟
فقلت: تتكلم بهذا؟!
قال: هو عندي أحل من ماء الفرات!
قلت له: ماء الفرات لم يختلف في حله، وقد اختلف في هذا»! (4)
وقال الذهبي: «الرجل - سامحه الله - لو لم يعتقد إباحته لما قال هذا». (5)
ولأبي حنيفة أيضا وجوه من الكلام، فيقول بعض عند نقل فتواه: إنه قال:
«لو أعطيت الدنيا بحذافيرها لا أفتي بحرمته، لأن فيه تفسيق بعض الصحابة!



1 - تاريخ بغداد 13: 471، سير أعلام النبلاء 9: 150.
2 - سير أعلام النبلاء 9: 150.
3 - نفس المصدر السابق.
4 - نفس المصدر السابق.
5 - نفس المصدر السابق.
174
ولو أعطيت الدنيا بحذافيرها ما شربته»! (1)
وعلى هذا فالعلة إذن، تدور حول تفسيق الصحابة وعدمه!
وفي بعض أقواله تدور حول صدق العنوان، بأن النبيذ ما يكون مسكرا أم لا؟
ففي كلمته الأولى يرى أن كبار الصحابة يشربون الخمر في جاهليتهم وفي
الإسلام، قبل نزول الآية بتحريمه:
مثل: ما قال عمر بن الخطاب: «كنت صاحب الخمر في الجاهلية أحبها
وأشربها»!! (2)
وفي كلمته الثانية يرى أن بعض الصحابة أيضا يطلقون المحرم على المسكر،
وما لا يسكر من الأنبذة فليس محرما عندهم، كما نرى أيضا في الصحابة والتابعين
والذين من بعدهم شواهد كثيرة.
فالخليفة عمر بن الخطاب من الصحابة وقد طلب النبيذ: «بعد ما أصيب وحمل
إلى منزله أتاه الطبيب.
فقال: أي الشراب أحب إليك؟ قال: النبيذ! فدعا بنبيذ فشرب منه، فخرج من
أحدى طعناته»!!. (3)
ومن التابعين: إبراهيم النخعي، كما مر عن ابن عبد البر في روايته: «أن أول من
أحل المسكر من الأنبذة إبراهيم النخعي». (4)
ومن بعدهم: أبو حنيفة وأتباعه، كما يظهر من أقوالهم المتعددة في الفقه الحنفي
وأصولهم، وكما يحكي عنهم البخاري في قوله: «وقال بعض الناس».



1 - حاشية الإمام الشلبي على «كنز الدقائق» المسمى ب‍ «تبيين الحقائق» لفخر الدين الزيلعي الحنفي 6:
46 ط / دار المعرفة بيروت.
2 - الرياض النضرة في العشرة المبشرة 1 - 2: 238 ط بيروت.
3 - أنساب الأشراف 10: 417 ط دار الفكر بيروت، تاريخ دمشق 44: 430.
4 - التمهيد لما في الموطأ 1: 256.
175
التاسع: في الإكراه
قال البخاري:
«باب يمين الرجل لصاحبه أنه أخوه، إذا خاف عليه القتل أو نحوه، وكذلك كل
مكره يخاف فإنه يذب عنه المظالم ويقاتل دونه ولا يخذله، فإن قاتل دون
المظلوم فلا قود عليه ولا قصاص. وإن قيل: لتشربن الخمر، أو لتأكلن الميتة،
أو لتبيعن عبدك، أو تقر بدين، أو تهب هبة وتحل عقدة، أو لنقتلن أباك أو أخاك
في الإسلام، وسعه ذلك لقول النبي (صلى الله عليه وسلم): «المسلم أخو المسلم».
وقال بعض الناس: لو قيل له: لتشربن الخمر أو لتأكلن الميتة، أو لنقتلن أبنك
أو أباك أو ذا رحم محرم لم يسعه، لأنه ليس بمضطر. ثم ناقض فقال: إن قيل له:
لنقتلن أباك أو ابنك، أو لتبيعن هذا العبد أو تقر بدين أو تهب، يلزمه في القياس
ولكنا نستحسن، ونقول: البيع والهبة وكل عقدة في ذلك باطل فرقوا بين كل ذي
رحم محرم وغيره، بغير كتاب ولا سنة، وقال النبي (صلى الله عليه وسلم): «قال إبراهيم لامرأته:
هذه أختي، وذلك في الله»، وقال النخعي: إذا كان المستحلف ظالما فنية
الحالف، وإن كان مظلوما فنية المستحلف». (1)
بيان البخاري
أراد أن يأخذ على الحنفية وأصحاب الرأي نموذجا واضحا للاتجاه الخلقي
الديني، حيث أوجب على كل مسلم أن يسعى في إنقاذ أي مسلم، وإن لم يكن قريبه
بالنسب، بل يكتفي هناك بقرابة الأخوة وعلاقة الإسلام، ولذلك روى: «المسلم
أخو المسلم».
ولذلك عاب عليه جماعة من شارحيه بأن أمثال هذه الترجمة لا تناسب كتاب



1 - صحيح البخاري 4: 201 - 202، ومن طبعة إستانبول 8: 58 كتاب الإكراه فتح الباري 12: 323.
176
الصحيح! فقال الكرماني: «أمثال هذه المباحث غير مناسب لوضع هذا الكتاب، إذ
هو خارج عن فنه». (1)
رأي الحنفية
قد اعتبر الأحناف: «أن تصرف المكره هنا ينعقد فاسدا، حتى أن الملك يثبت به
بالقبض، لأن ركن البيع صدر من أهله مضافا إلى محله، والفساد لفقد شرطه، وهو
التراضي، فصار كسائر الشروط المفسدة، فيثبت الملك عند القبض، حتى لو قبضه
وأعتقه، أو تصرف فيه تصرفا لا يمكن نقضه، جاز ويلزمه القيمة». (2)
ولذلك يقول السندي في تعليقه على المسألة. «حاصل كلام الحنفية: أن بيع
المكره منعقد، إلا أنه بيع فاسد لتعلق حق العبد به، فوجب وقفه إلى رضائه، إلا إذا
تصرف فيه المشتري تصرفا لا يقبل الفسخ، فحينئذ قد تعارض فيه حقان كل منهما
للعبد: حق المشتري، وحق البائع.
وحق البائع يمكن استدراكه مع لزوم البيع بإلزامه القيمة على المشتري، بخلاف
حق المشتري، فلا يمكن استدراكه مع فسخ البيع، مع أنه حق لا يقبل الفسخ، فصار
اعتباره أرجح، بخلاف ما إذا كان تصرفا يقبل الفسخ فيجب مراعاة حق البائع عندهم.
وهذا الفرق منهم مبني على أن بيع المكره منعقد مع الفساد، وهم يقولون به،
فالنزاع بينهم في هذا الأصل». (3)
العاشر: في الحيل (في الزكاة)
قال البخاري:
«باب في الزكاة، وأن لا يفرق بين مجتمع، ولا يجمع بين متفرق خشية الصدقة».



1 - فتح الباري 12: 323.
2 - الهداية 3: 38 و 39 و 201، وانظر الاتجاهات الفقهية.
3 - حاشية السندي على البخاري 4: 201 - 203.
177
ثم روى حديث الآخر في هذه الترجمة بقوله: «يا رسول الله! أخبرني ماذا
فرض الله علي من الصلاة؟
فقال: «الصلوات الخمس إلا أن تطوع شيئا».
فقال: أخبرني بما فرض الله علي من الصيام؟
فقال: «شهر رمضان إلا أن تطوع شيئا».
قال: «أخبرني بما فرض الله علي من الزكاة»؟
قال: «فأخبره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) شرائع الإسلام.
قال: والذي أكرمك، لا أتطوع شيئا، ولا أنقص مما فرض الله علي شيئا.
فقال: رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «أفلح إن صدق»، أو «دخل الجنة إن صدق».
وقال بعض الناس: في عشرين ومائة بعير حقتان، فإن أهلكها متعمدا،
أو وهبها، أو احتال فيها فرارا من الزكاة، فلا شيء عليه». (1)
موقف المحدثين من الحيل
عرفت الحيل عند المحققين بالتخلص عما يخاف أن يقع فيه، أو التخلص عما
لا يريد أن يؤخذ به:
وقال ابن حجر: «هي ما يتوصل به إلى مقصود بطريق خفي». (2)
فعليه، نحتاج إلى البحث في أساليبها التي تتخذ للتخلص.
ولا شبهة بأن الحيل متعلقة بالنيات، ولها صلة وثيقة يرتبط بها قصد الرجل عند
الإستخلاص من الأمر الذي لا يريد أن يؤخذ به، أو أن يقع فيه.
ولهذا فإن هناك اختلافا بين المحدثين وأهل الرأي في العمل بالحيل:
فالمحدثون - على ما هم عليه في الأخذ بحديث «الأعمال بالنيات» - يحرمون من



1 - صحيح البخاري / كتاب الحيل.
2 - فتح الباري 12: 274، كتاب الحيل.
178
الحيل ما ينتهي إلى تحليل حرام أو تحريم حلال، أو ينتهي إلى تعطيل الأحكام،
مستدلين به ومصرين على إبطالها.
وقد فصل في ذلك جمع من المحدثين والفقهاء السنة، منهم: ابن القيم في
«أعلام الموقعين»، فإنه أكد على: «أن حديث الأعمال بالنيات» وحده كاف في إبطال
الحيل، حيث دل على أن الأعمال تابعة لمقاصدها ونياتها، وأنه ليس للعبد من ظاهر
قوله وعمله إلا ما نواه وأبطنه، لا ما أعلنه وأظهره». (1)
ومما يؤكد الصلة التي تربط بين اتجاه المحدثين وموقفهم من الحيل: أنهم
يرون الاعتبار في صيغ العقود هو المعاني التي تتقوم بالقصد، خلافا لمن يرى أن اللفظ
الصحيح يؤثر في صيغ العقود، ولهذا قال ابن حجر:
«... في صيغ العقود، هل المعتبر فيها ألفاظها، أو معانيها؟ فمن قال بالأول أجاز
الحيل». (2)
وقد مر قول «ابن القيم» في الحديث: «إن النبي (صلى الله عليه وسلم) قد قال كلمتين كفتا وشفتا،
وتحتهما كنوز العلم، وهما قوله: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»،
فالأولى أثبتت أنه لا عمل إلا بنية، والثانية أثبتت أن العامل ليس له من عمله إلا ما نواه،
وهذا يعم العبادات، والمعاملات، والأيمان، والنذور، وسائر العقود والأفعال». (3)
والبخاري على هذا القول يكرر الحديث في أبواب مختلفة من صحيحه:
1 - في افتتاح كتابه بدل الخطبة.
2 - في الإيمان.
3 - في العتق.
4 - في المناقب.



1 - أعلام الموقعين 2: 139. 2.
2 - فتح الباري 12: 289.
3 - أعلام الموقعين 3: 103.
179
5 - في النكاح.
6 - في الأيمان والنذور.
7 - في الحيل.
ولا شك أن البخاري قد كتب «الحيل» في صحيحه ردا على أبي حنيفة، أو على
مؤلف كتاب «الحيل» الذي هو أبو حنيفة أو أحد تلميذيه محمد بن الحسن الشيباني أو
أبو يوسف القاضي.
وقال صاحب «الاتجاهات الفقهية في القرن الثالث»: «ونحن نعتقد أن البخاري
لم يبوب كتاب «الحيل» إلا للرد على أهل الرأي، وقد كرر البخاري فيه عبارة: «وقال
بعض الناس» أربع عشرة مرة». (1)
«والبخاري قد كرر في كتاب «الحيل» نظرية مستحل الحيل بقوله: «وقال بعض
الناس»، وهذا العدد يزيد على العدد المذكور في كل الصحيح، وقد بين نظريته في
افتتاحه بقوله: «باب في ترك الحيل».
فإنه أراد به إبطال جميع أقسام الحيل كلها، فما الداعي إذن ليتكلم في مسائلها؟
[وليس هذا] إلا أن يكون للرد على من يقول بها». (2)
وأما كتاب «الحيل» فإنه منسوب إلى أبي حنيفة، في أحد الأقوال، أو إنه منسوب
إلى أحد تلاميذه.
وقال ابن حجر: «قد اشتهر القول بالحيل عن الحنفية، لكون أبي يوسف صنف
فيها كتابا، لكن المعروف عنه وعن كثير من أئمتهم تقييد إعمالها بقصد الحق». (3)
ونقل أيضا عن محمد بن الحسن أنه قال: «ليس من أخلاق المؤمنين الفرار من



1 - الاتجاهات الفقهية: 598.
2 - الاتجاهات الفقهية: 614.
3 - فتح الباري 12: 290، وفي طبعة أخرى: 275.
180
أحكام الله بالحيل الموصلة إلى إبطال الحق». (1)
وذكر أبو حفص الكبير راوي كتاب «الحيل»، عن محمد بن الحسن أن محمدا
قال: «وما احتال به المسلم حتى يتخلص به من الحرام أو يتوصل به إلى الحلال، فلا
بأس به، وما احتال به حتى يبطل حقا، أو يحق باطلا، أو ليدخل به شبهة في حق،
فهو مكروه، والمكروه عنده إلى الحرام أقرب». (2)
وقول السرخسي في «المبسوط»: «فالحاصل أن ما يتخلص به الرجل من
الحرام، أو يتوصل به إلى الحلال من الحيل فهو حسن. وإنما يكره أن يحتال في حق
الرجل حتى يبطله، أوفي باطل حتى يموهه، أوفي حق حتى يدخل فيه شبهة، فما كان
على هذا السبيل فهو مكروه». (3)
وقد ذكر ابن القيم من الحيل المباحة أمثلة كثيره يبلغ عددها سبعة عشر ومائة
مثال: فمن الأمثلة التي نقلها عن أبي حنيفة: «أن رجلا قال له: نزل بي اللصوص فأخذوا
مالي، واستحلفوني بالطلاق ألا أخبر أحدا بهم، فخرجت فرأيتهم يبيعون متاعي في
السوق جهرة؟!
فقال له: إذهب إلى الوالي فقل له: يجمع أهل المحلة الذين هم فيهم، ثم يسألك
عنهم واحدا واحدا، فإذا سألك عمن ليس منهم، فقل: ليس منهم، وإذا سألك عمن
هو منهم فاسكت. ففعل الرجل، فأخذ الوالي متاعه وسلمه إليه». (4)
وكذا روى ابن القيم عددا من الأمثلة التي أثارت غضب العلماء، حتى رموا
بالكفر مؤلفها أومن يفتي بها.
ومنها: قولهم: «إذا أرادت المرأة أن تفسخ النكاح فالحيلة: أن ترتد ثم تسلم!.



1 - فتح الباري 12: 292.
2 - فتح الباري 12: 293.
3 - المبسوط 30: 210.
4 - أعلام الموقعين 3: 254 - 330.
181
وقولهم: الحيلة في سقوط الكفارة عمن أراد الوطء في رمضان: أن يتغدى ثم
يطأ بعد الغذاء!
والحيلة لمن أرادت أن تفسخ نكاحها من زوجها: أن تمكن ابنه من الوقوع
عليها!!
فهذه الحيل وأمثالها لا يحل لمسلم أن يفتي بها في دين الله تعالى، وقد كفر
الإمام أحمد، وابن المبارك وغيرهما من استحل الإفتاء بها، حتى قالوا: إن من أفتى بهذه
الحيل فقد قلب الإسلام ظهرا لبطن، ونقض عرى الإسلام عروة عروة، لأن فيها
الإحتيال على سقوط فرائض الله، وإسقاط حقوق المسلمين، واستحلال ما حرم الله من
الكفر، وشهادة الزور، والزنا، والربا». (1)
وبعدما رأيت هذه الكلمات من أحمد بن حنبل، وابن المبارك وغيرهما في نقل
«ابن القيم»: «إن من أفتى بهذه الحيل فقد قلب الإسلام ظهرا لبطن، ونقض عرى الإسلام
عروة عروة».
فاعلم أنها قد صدرت أيضا من البخاري وغيره في أبي حنيفة فقط، كما يذكر هو
في تاريخه الصغير [الأوسط]، عن نعيم بن حماد، وسفيان حينما نعي النعمان، فقال:
«الحمد لله، كان ينتقض الإسلام عروة عروة». (2)
البخاري وكتاب الحيل
يؤخذ على البخاري عدم رعايته ترتيب الكتب الفقهية في كتابه الصحيح، من
الطهارة إلى الديات وفق ترتيبها الفقهي، كما هو ديدن الفقهاء والمحدثين وحسب
أهميتها في التكاليف، فلقد أخذ طريقة يشم منها أنه كان يسلك مسلكا جديدا في



1 - أعلام الموقعين 3: 126 - 149.
2 - التاريخ الصغير (الأوسط) 2: 98 رقم 1940، الانتفاء لابن عبد البر: ص 149، المجروحين لابن
حبان 3: 66.
182
الجدل لإقناع الخصم وبطلان نظريته!
ألا ترى أنه قد أدخل في كتابه بعضا من الكتب التي لا تناسب وضع كتاب في
صحيح الأخبار؟!
أن كتاب «الحيل» للبخاري متفرد بين الكتب الحديثية ولا يتصور بأن البخاري
ألفها ليجمع الصحيح من الأخبار في «الحيل»، لأنها منتفية.
وكما يظهر من نفس الكتاب ومن فهم الشراح أنه أراد الإستدلال على بطلان
الحيل في الرد على الأحناف. (1)
كما أنه افتتحها بقوله: «باب في ترك الحيل» (2)، ثم استدل بحديث: «إنما
الأعمال بالنيات»، ليفسر بذلك افتتاحه كتاب الصحيح: بقوله: حدثنا الحميدي...
وحديث «الأعمال بالنيات».
وهذه المقارنة في الإستدلال بالحديث المذكور - مع ما عنونه جديدا وابتدعه
في الفروع الفقهية - ليست إلا محاولة إبطال مذهب أهل الرأي في فروعهم الفقهية.
إفتتاح كتاب الحيل
افتتح البخاري كتاب الحيل ببيان فتواه في اعتبار النية، وأن لكل امرئ ما نوى
في الإيمان وغيره، ثم تلاه بقوله: «باب في الصلاة».
فقد أراد بقوله هذا بطلان الحيلة في الصلاة، فروى فيه حديث:
«لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ». (3)
فقال بعض شراح البخاري: «هذا رد على أبي حنيفة في قوله: إن المحدث في
صلاته يتوضأ ويبني». (4)



1 - حاشية السندي على البخاري 4: 202.
2 - صحيح البخاري، كتاب الحيل.
3 - صحيح البخاري 8: 59، كتاب الحيل ط باموق إستانبول.
4 - فتح الباري 12: 292.
183
فأراد البخاري أن يرد على قول من قال بصحة صلاة من أحدث عمدا في أثناء
الجلوس الأخير في الصلاة، ويكون حدثه كسلامه، إذ أن هذا يعد من الحيل لتصحيح
الصلاة مع الحدث.
وقال بعض: إنها أجنبية عن مفهوم الحيل التي أراد البخاري إبطالها، فهذا
بدر العيني في «عمدة القاري» يقول: «لا مطابقة بين الحديث والترجمة أصلا، فإنه لا
يدل على شيء من الحيل. ثم صحح الصلاة التي أحدث في قعودها الأخير بقوله: ما
للحيلة دخل في هذا.
وروى عن النبي (صلى الله عليه وسلم) في قوله لابن مسعود: «إذا قلت هذا أو قضيت هذا، فقد
قضيت صلواتك، إن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد». وهذا الحديث
ينافي فرضية السلام في الصلاة». (1)
الحادي عشر: في الزكاة أيضا
روى البخاري:
«يكون كنز أحدكم يوم القيامة شجاعا. أقرع يفر منه صاحبه، فيطلبه ويقول: أنا
كنزك».
قال: «والله لن يزال يطلبه حتى يبسط يده فيلقمها فاه».
وقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «إذا ما رب النعم لم يعط حقها تسلط عليه يوم القيامة تخبط
وجهه بأخفافها».
وقال بعض الناس: في رجل له إبل فخاف أن تجب عليه الصدقة، فباعها بإبل
مثلها أو بغنم أو ببقر أو بدراهم، فرارا من الصدقة بيوم احتيالا، فلا بأس عليه،
وهو يقول: إن زكى إبله قبل أن يحول الحول بيوم أو بسنة جازت عنه». (2)



1 - عمدة القاري 24: 109.
2 - صحيح البخاري / كتاب الحيل.
184
الثاني عشر: في الزكاة أيضا
ثم روى البخاري:
«استفتى سعد بن عبادة الأنصاري رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في نذر كان على أمه، توفيت
قبل أن تقضيه؟
فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) (عليهم السلام) «اقضه عنها».
وقال بعض الناس: إذا بلغت الإبل عشرين ففيها أربع شياه، فإن وهبها قبل
الحول أو باعها، فرارا واحتيالا لإسقاط الزكاة، فلا شيء عليه، وكذلك إن أتلفها
فمات، فلا شيء في ماله». (1)
بيان البخاري:
أراد بهذه الفروع الثلاثة أن يثبت أن الزكاة لا تسقط بالحيل، وأنها ثابتة في ذمة
صاحب المال، إن أتلفها واحتال فرارا من الزكاة، ومؤاخذ بها يوم القيامة.
قال العيني: «ولا فائدة بتكرار هذه الفروع وذكرها مفرقة».
رأي الحنفية
الحنفية تقول: «إنما الزكاة توجب على المال بتمام الحول، وقبل الحول لم تكن
ذمته مشغولة، فمن أتلف ماله أو وهبه فرارا عن الزكاة، فإن فعله يكون امتناعا عن
الوجوب، لا إسقاطا للواجب». (2)
ونظير ذلك في صوم رمضان، فإذا سافر المقيم في رمضان ليفطر جاز، وعليه
القضاء، فيكون عمله دفعا للوجوب، لا إسقاطا للواجب، لأنه بسفره انتفى عنه
الوجوب وعليه الواجب.
وقال العيني: «أراد أبا يوسف، فإنه قال: لا شيء عليه، لأنه امتناع عن الوجوب،



1 - صحيح البخاري / كتاب الحيل.
2 - عمدة القاري 24: 111.
185
لا إسقاط للواجب». (1)
فلا شبهة في أن هذه المسألة تتعلق بالقصد في جميع هذه التصرفات، لأن من
تصرف في ماله قبل الحول بهبة أو بغيرها، من دون أن يتنبه إلى أن هذا التصرف ينقص
ماله عن النصاب، فلا تجب فيه الزكاة، وكان تصرفه مباحا ومأجورا.
وأما إذا كان قصده الحيلة على دفع المال المتعلق بالفقراء ومنعهم عن حقوقهم
الواجبة، فهو إثم بلا إشكال، ولا يسقط عن ذمته.
الثالث عشر: في النكاح
روى البخاري:
«عن عبيد الله قال: حدثني نافع، عن عبد الله رضي الله عنه: أن
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نهى عن الشغار، قلت لنافع: ما الشغار؟
قال: ينكح ابنة الرجل، وينكحه ابنته، وينكح أخت الرجل، وينكحه أخته بغير
صداق.
وقال بعض الناس: إن احتال حتى تزوج على الشغار فهو جائز، والشرط
باطل. وقال بعضهم: المتعة والشغار جائز، والشرط باطل». (2)
بيان البخاري
أراد البخاري بهذا الفرع أن يبطل نكاح الشغار، وهو تزويج الرجل ابنته على أن
يزوجه الآخر ابنته، أو أختيهما، ليكون أحد العقدين عوضا عن الآخر.
رأي الحنفية
قال ابن بطال: «قال أبو حنيفة: نكاح الشغار منعقد، ويصلح بصداق المثل.



1 - عمدة القاري 24: 110 - 11.
2 - صحيح البخاري / كتاب الحيل.
186
وكما يظهر من فتواه: أن الممنوع في الشغار المعاوضة، فإذا كان لكل منهما مهر
المثل، فيكون العقد جائزا. وكل نكاح فساده من أجل صداقه لا ينفسخ عنده ويصلح
بمهر المثل، قالت الأئمة الثلاثة: النكاح باطل لظاهر الحديث». (1)
فيظهر من البخاري الإستدلال بالحديث في النهي عن الشغار، ويقال بعد ذلك:
إن قول «بعض الناس» يعارض المنهي عنه في حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أعني بذلك:
المقابلة بين حديث رسول الله، وقول بعض الناس.
قال البخاري: «وقال بعضهم في المتعة: النكاح فاسد، والشرط باطل».
لقد اختلفت أقوالهم في المتعة وفي النكاح المؤقت:
فقالت الحنفية: المتعة باطلة مطلقا، تمتيعا وتوقيتا.
وهناك فرق بين هذين العنوانين:
أولهما المتعة: وهي نكاح باطل عند الحنفية، وهو أن يقول لامرأة: أتمتع بك كذا
مدة بكذا من المال.
وثانيهما: النكاح المؤقت، وهو أن يقول: أتزوجك إلى عشرة أيام مثلا بحضور
شاهدين. وهذا نكاح باطل أيضا عند الأحناف، فيما عدا زفر بن الهذيل فقد صححه،
لأنه أعتبر تحديد الوقت الملفوظ به في العقد شرطا فاسدا، والنكاح لا يبطل بالشروط
الفاسدة، واعتبره في الأحناف صورة من صور المتعة، فيكون باطلا.
وهذه قاعدة عند الحنفية وهي «أن ما لم يشرع بأصله ووصفه فهو باطل، وما
شرع بأصله دون وصفه فهو فاسد، فالنكاح مشروع بأصله، وجعل البضع - يعني في
الشغار - صداقا وصف فيه، فيفسد الصداق ويصح النكاح، بخلاف المتعة، فإنها لما
ثبت نسخها صارت غير مشروعة في أصلها، فبطلت». (2)



1 - عمدة القاري 24: 112.
2 - فتح الباري 12: 281.
187
بيان البخاري:
يشير البخاري في هذا الفرع إلى تناقض الحنفية في إجازتهم نكاح الشغار،
ومنعهم المتعة، مع أن النهي في كليهما واحد، ولذلك عقب عليه بذكر ما روي في النهي
عن المتعة، حيث روى أن علي بن أبي طالب قيل له: إن ابن عباس لا يرى بمتعة النساء
بأسا؟ فقال: «إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نهى عنها يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الإنسية». (1)
الرابع عشر: في النكاح
روى البخاري:
«حديث النهي عن المتعة»، ثم قال:
«وقال بعض الناس: إن احتال حتى تمتع، فالنكاح فاسد.
وقال بعضهم: النكاح جائز، والشرط باطل». (2)
مر بيان البخاري لتناقض الحنفية في أنهم كيف يمنعون المتعة ويجيزون
الشغار؟
وقد سبق تفريق الحنفية فيما بين: أن يكون الفساد متعلقا بأصل المنهي عنه
فيكون باطلا، وأن يكون النهي متعلقا بوصفه دون أصله فيكون فاسدا، أويكون النهي
متعلقا بأمر مجاور للمنهي عنه فيقع صحيحا.
ونكاح الشغار منهي بوصفه دون أصله، فيكون صحيحا مع الشرط الفاسد.
وأما المتعة فهي باطلة في الأصل، لأن جوازها منسوخ. وهذه نظرية الأحناف.
الخامس عشر: في النكاح
روى البخاري:
«لا تنكح البكر حتى تستأذن، ولا الثيب حتى تستأمر، فقيل: يا رسول الله! كيف



1 - عمدة القاري: 24: 113.
2 - صحيح البخاري كتاب الحيل باب الحيلة في النكاح رقم 6961.
188
إذنها؟ قال: «إذا سكتت».
وقال بعض الناس: إن لم تستأذن البكر ولم تزوج، فاحتال رجل فأقام
شاهدي زور أنه تزوجها برضاها، فأثبت القاضي نكاحها، والزوج يعلم أن
الشهادة باطلة، فلا بأس أن يطأها، وهو تزويج صحيح».
ثم روى البخاري حديث «خنساء بنت خذام»: «فإنها أنكحها أبوها وهى
كارهة، فرد النبي (صلى الله عليه وسلم) ذلك». (1)
بيان البخاري
أخذ البخاري على الحنفية قولهم في نفوذ حكم القاضي، لأن أبا حنيفة من
مذهبه: أن حكم القاضي في العقود والفسوخ ينفذ ظاهرا وباطنا، وينزل الحكم منزلة
العقد، فيحل الوطء، وإن كان آثما بالتزوير والإثم الخطير. (2)
وقال العيني: «وقال بعض المشنعين: هذا خطأ في القياس، ثم مثل لذلك بقوله:
ولا خلاف بين الأئمة أن رجلا لو أقام شاهدي زور على ابنته أنها أمته، وحكم القاضي
بذلك لا يجوز له وطؤها، فكذلك التي شهد له على نكاحها في التحريم سواء». (3)
رأي الأحناف
«إن القضاء يقطع المنازعة بين الزوجين من كل وجه، فلو لم ينفذ القضاء بشهادة
الزور باطنا، كان تمهيدا للمنازعة بينهما، وقد عهدنا بنفوذ مثل ذلك في الشرع. ألا ترى
أن التفريق باللعان ينفذ باطنا وأحدهما كاذب بيقين، والقاضي إذا قضى بطلاقها
بشاهدي زور وهو لا يعلم أنه يجوز أن يتزوجها من لا يعلم ببطلان النكاح، ولا يحرم
عليه بالإجماع»؟! (4)



1 - صحيح البخاري / كتاب الحيل.
2 - عمدة القاري 24: 116 باب الشهادة الزور في النكاح.
3 - نفس المصدر السابق.
4 - نفس المصدر السابق.
189
السادس عشر: في النكاح
روى البخاري:
حدثنا أبو نعيم: حدثنا شيبان، عن يحيى عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال
رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن». قالوا
كيف إذنها؟ قال: «أن تسكت».
وقال بعض الناس: إن احتال إنسان بشاهدي زور على تزويج امرأة ثيب
بأمرها، فأثبت القاضي نكاحها إياه والزوج يعلم أنه لم يتزوجها قط فإنه يسعه
هذا النكاح ولا بأس بالمقام له معها». (1)
وقد كرر البخاري هذا الفرع في نفوذ حكم القاضي، لأهميته في الطعن على
الحنفية.
السابع عشر: في النكاح أيضا
روى البخاري حديث استئذان البكر من طريق آخر:
«البكر تستأذن». «قلت: إن البكر تستحي!
قال: «إذنها صماتها».
وقال بعض الناس: إن هوي رجل جارية يتيمة أو بكرا فأبت، فاحتال فجاء
بشاهدي زور على أنه تزوجها، فأدركت فرضيت اليتيمة، فقبل القاضي شهادة
الزور، والزوج يعلم ببطلان ذلك، حل له الوطء». (2)
فهذه ثلاثة فروع اعترض بها البخاري على أبي حنيفة:
أولها: في تزويج البكر بغير رضاها.
وثانيها: في تزويج الثيب بغير رضاها.
وثالثها: في تزويج الصغيرة.



1 - صحيح البخاري / كتاب الحيل.
2 - المصدر السابق.
190
رأي الحنفية:
تقول الحنفية: «إن الحكم في جميع هذه الصور حكم القاضي ظاهرا وباطنا،
وإنه يحلل ويحرم.
وقد ثبت في محله أن أبا حنيفة يتفق مع الجمهور في أن حكم الحاكم بالأحوال
لا يفيد الحل أو الحرمة في الواقع، إذا كان حكمه مبنيا على شهادة شهود ظاهرهم
العدالة وباطنهم الكذب، ولكنه يخالف الجمهور فيما يتعلق بالزواج والطلاق، حيث
يجعل حكم الحاكم فيهما نافذا، ظاهرا وباطنا، وإن كان شهادة شهود عدول في الظاهر
كذبة في الواقع، مستدلا بأن الحاكم يحكم بالتفرقة بين المتلاعنين، وينفذ حكمه
ظاهرا وباطنا، مع العلم بأن أحدهما كاذب لا محالة. وقد رجعنا هذا الاختلاف - فيما
سبق - إلى الاختلاف حول تأثير الجانب الخلقي الديني في الامور التشريعية». (1)
وقال ابن حجر: «وإنما حجتهم أن الاستئذان ليس بشرط في صحة النكاح، وإن
كان واجبا. وحينئذ، فالقاضي إذا أنشأ لهذا الزوج عقدا مستأنفا يصح ذلك. وهذا قول
أبي حنيفة وحده، واحتج بأثر عن علي في نحو هذا، قال فيه: «شاهداك زوجاك» وخالفه
صاحباه». (2)
بيان البخاري:
البخاري استقر رأيه في جميع هذه الصور على أن: الإذن في البكر، ورضا الثيب
شرطان لصحة التزويج، وإن فقدا فالنكاح باطل.
وقد أورد هذه الإعتراضات المكررة للمبالغة في التشنيع على هذا القول الذي
يحلل ما حرمه الله، ألم تر أنه قد فصل في هذه المكررات الثلاثة بالأحاديث التي
يستعان بها على إفحام الخصم؟!



1 - انظر فتح الباري 12: 301.
2 - فتح الباري 12: 341، وفي طبعة 12: 287.
191
الثامن عشر: في الغصب
قال البخاري:
«باب إذا غصب جارية فزعم أنها ماتت، فقضي بقيمة الجارية الميتة، ثم وجدها
صاحبها، فهي له وترد القيمة، ولا تكون القيمة ثمنا.
وقال بعض الناس: الجارية للغاصب، لأخذه القيمة.
وفي هذا احتيال لمن اشتهى جارية رجل لا يبيعها، فغصبها واعتل بأنها ماتت
حتى يأخذ ربها قيمتها، فيطيب للغاصب جارية غيره، قال النبي (صلى الله عليه وسلم) «أموالكم
عليكم حرام» و «لكل غادر لواء يوم القيامة». (1)
بيان البخاري:
إنه أراد بهذا الفرع أن المغصوب لا يصلح أن يكون ملكا للغير، بل إنه باق على
ملك المغصوب منه، ففي المثال: أن الجارية المغصوبة باقية على ملك المغصوب منه.
والجمهور على وجوب رد المغصوب إلى صاحبه، لأن الغصب عدوان محض،
فلا يصلح سببا للملك، وقد حرم الله أموال المؤمنين إلا عن طيب أنفسهم. والقيمة إنما
وجبت بناء على صدق دعوى الغاصب: أن الجارية ماتت، فلما تبين أنها لم تمت
وجب أن تكون باقية على ملك المغصوب منه، لأنه لم يجر بين المالك والغاصب عقد
صحيح يوجب الملك، فوجب أن ترد إلى صاحبها (2)
رأي الحنفية:
الأحناف يرون أن الجارية المغصوبة تكون للغاصب، لأن المالك أخذ القيمة،
ولذلك يصح لمن يريد جارية رجل - وهولا يبيعها - أن يغصبها أولا، ثم يعتل بأنها
ماتت حتى يأخذ ربها قيمتها، فيطيب للغاصب جارية غيره، قال النبي (صلى الله عليه وآله): «أموالكم



1 - صحيح البخاري، كتاب الحيل، باب: إذا غصب جارية - الجزء الثامن 8: 62 ط باموق إستانبول.
2 - انظر «الهداية» 4: 14، فتح الباري 12: 299.
192
عليكم حرام»، «ولكل غادر لواء يوم القيامة».
قال العيني: «وليس فيهما ما يدل على الدعوى، أما الأول فمعناه: أن أموالكم
عليكم حرام إذا لم يوجد التراضي، وهنا قد وجد التراضي بأخذ القيمة.
وأما الثاني: فلا يقال للغاصب في اللغة: غادر، لأن الغدر: ترك الوفاء، والغصب
هو: أخذ شيء قهرا وعدوانا، وقول الغاصب: «إنها ماتت» كذب، وأخذ المالك القيمة
رضا». (1)
وعلى ذلك فإن الحنفية يحتجون بأن صاحب العين المغصوبة قد ملك البدل
بكماله، وهو القيمة، والمبدل قابل للنقل من ملك صاحبه إلى ملك الغاصب، لأنه لا
يجتمع الشيء وبدله في ملك شخص واحد.
التاسع عشر: في الهبة والشفعة
قال البخاري:
«باب في الهبة والشفعة.
وقال بعض الناس: إن وهب هبة ألف درهم أو أكثر، حتى مكث عنده سنين،
واحتال في ذلك ثم رجع الواهب فيهما، فلا زكاة على واحد منهما.
فخالف الرسول (صلى الله عليه وسلم) في الهبة، وأسقط الزكاة». (2)
بيان البخاري:
جمع البخاري بين الهبة والشفعة في باب واحد، فإنه استخدم في الهبة
والإحتيال إسقاط الشفعة بذلك في بعض المسائل، وقد ذكر قول: «بعض الناس» في
هذا الباب خمس مرات:
الأولى: استخدمت فيها الهبة حيلة لإسقاط الزكاة.



1 - عمدة القاري 24: 115.
2 - صحيح البخاري: كتاب الحيل.
193
والأربعة الباقية: خاصة بحيل الشفعة، وأعم من أن تستخدم في إسقاط الهبة أو
غيرها.
فالبخاري أورد في هذا الفرع أن «بعض الناس» خالف الرسول (صلى الله عليه وآله)، ولهذا قالوا:
إن هذا المورد في كلماته أشد من الموارد السابقة واللاحقة، لأن البخاري أوضح مذهبه
تجاه الحنفية، واعتقاده بأن إمامهم الأعظم مخالف للنبي (صلى الله عليه وآله) وسننه!
رأي الحنفية:
الحنفية تقول: إن الواهب يصح له، ويقدر أن يرجع إلى هبته. ويستدل لذلك
بقول النبي (صلى الله عليه وآله): «الواهب أحق بهبته، ما لم يثب منها»، أي: ما لم يعوض (1)، رووه: أبو
هريرة، وابن عباس، وابن عمر:
أما حديث أبي هريرة: فأخرجه ابن ماجة في الأحكام.
وأما حديث ابن عباس: فأخرجه الطبراني.
وأما حديث ابن عمر: فأخرجه الحاكم في المستدرك. (2)
بيان البخاري:
البخاري على عادته في رد المخالف يقول: إن «بعض الناس» حكم بصحة
الحيلة التي تنتهي إلى عدم وجوب إخراج الزكاة من الأموال.
فإنه أفتى: لدفع وجوب الزكاة أن يهب الشخص مقدارا من أمواله قبل أن يتم
الحول إلى شخص، ويتركه حتى يمكث عنده سنين متعددة، ثم يرجع الواهب فيها بعد
أن مضى ما مضى، فلا زكاة على واحد منهما، أما الواهب: فلزوال الملك قبل تمام
الحول.
وأما الموهوب له: فلعدم تمام الملك برجوع الواهب.



1 - نصب الراية لأحاديث الهداية 4: 125.
2 - عمدة القاري 24: 121، نصب الراية 4: 125 - 126.
194
وهذه حيلة مخالفة لسنة النبي (صلى الله عليه وآله)، ومخالفة لحقوق الفقراء والأيتام.
والبخاري يستدل على عدم صحة الرجوع في الهبة إلى الحديث المشهور:
«العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه». (1)
«فالبخاري وطبقة أهل الحديث يحملون الرجوع في الهبة على الحرمة لما شبه
بالكلب، والحنفية على القذارة وكراهة الطبع، لا الحرمة». (2)
وقال ابن حجر: «فإن كان فعل ذلك مريدا إسقاط الزكاة سقطت، وهو آثم، لما
سبق من أن الأحناف لا يجعلون للإرادة والقصد تأثيرا في الأحكام الناتجة عن أسباب
شرعية». (3)
وقال العيني مدافعا عن إمامه: «وأبو حنيفة في أي موضع قال هذه الصورة؟ وإنما
قال: إن الواهب له أن يرجع في هبته، ولكن لصحة الرجوع قيود:
الأول: أن يكون أجنبيا.
الثاني: أن يكون قد سلمها إليه، لأنه قبل التسليم يجوز مطلقا.
الثالث: أن لا يقترن بشيء من الموانع، وهي مذكورة في موضعها». (4)
العشرون: في الشفعة
روى البخاري:
«عن جابر بن عبد الله قال: إنما جعل النبي (صلى الله عليه وسلم) الشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا
وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة.
وقال بعض الناس: الشفعة للجوار.



1 - أخرجه البخاري مكررا منها في الحيل 8: 65 من طبعة إستانبول، ومسلم 3: 1240 رقم 1622، أبو
داود، 3: 394. والنسائي 6: 265، وابن ماجة 2: 797، والترمذي 4: 441.
2 - عمدة القاري 24: 121، نصب الراية 4: 126.
3 - فتح الباري 12: 304، الهداية 3: 166 - 167.
4 - عمدة القاري 24: 121.
195
ثم عمد إلى ما شدده فأبطله، وقال: إن اشترى دارا فخاف أن يأخذها الجار
بالشفعة، فاشترى سهما من مائة سهم ثم اشترى الباقي، وكان للجار الشفعة في
السهم الأول، ولا شفعة له في باقي الدار، وله أن يحتال في ذلك». (1)
بيان البخاري:
أراد البخاري بهذا الفرع أن الشفعة شرعت لدفع الضرر عن الشفيع، فالذي
يحتال لإسقاطها بمنزلة القاصد إلى الإضرار بالغير.
فمن اعترف بأن الشفعة حق للجار، كيف يحتال لإسقاط هذا الحق؟
رأي الحنفية:
الحنفية تجعل الشفعة حقا للشفيع، ولكن الشريك الذي لم يقاسم أولى منه في
هذا الحق، ثم للشريك الذي كان مقاسما، ثم للجار الملاصق، يقدم بعضهم على بعض
بهذا الترتيب. (2)
وانتقاد البخاري لأهل الرأي ليس لأنهم قد أوجبوا الشفعة للجار، ولكن لأنهم
بعد أن أوجبوها له تحيلوا لإسقاطها، لأن المشتري إذا اشترى سهما شائعا من مائة سهم
أصبح شريكا للمالك، وأصبحت له الأولوية في شراء باقي المائة، في الوقت الذي لن
يطالب فيه أحد بالشفعة في السهم الواحد، لضآلته وقلة الإنتفاع به.
والمعروف أن هذه الحيلة لأبي يوسف، وأنه أخذها من أستاذه أبي حنيفة.
وقال العيني: «لا تناقض أصلا، لأنه لما اشترى سهما صار شريكا لمالكها، ثم إذا
اشترى الباقي يصير هو أحق بالشفعة من الجار، لأن استحقاق الجار إنما يكون بعد
الشريك» (3)



1 - صحيح البخاري، كتاب الحيل.
2 - شرح معاني الآثار 2: 265 - 269، شرح ابن العربي على الترمذي 6: 128 - 133، بداية المجتهد 2:
214 - 215، والهداية 4: 18، الاتجاهات الفقهية: 637، نصب الراية 4: 176.
3 - عمدة القاري 24: 122.
196
الواحد والعشرون: في الشفعة
عن النبي (صلى الله عليه وسلم): «الجار أحق بصقبه».
وقال بعض الناس: إذا أراد أن يبيع الشفعة، فله أن يحتال حتى يبطل الشفعة،
فيهب البائع للمشتري الدار ويحدها ويدفعها إليه، ويعوضه المشتري ألف
درهم، فلا يكون للشفيع فيها شفعة». (1)
بيان البخاري:
أراد هنا: أن الجار أحق بالشفعة، وهو أولى من غيره في ذلك، ولا يصح تضييع
حقه بالحيل.
رأي الحنفية:
ترى الحنفية أن حق الشفعة يبطل بالاحتيال، بأن يجعل العقد بصورة الهبة،
فيهب البائع للمشتري الدار ويحدها بالحدود المعينة ثم يدفعها إلى الموهوب إليه،
ويعوض المشتري عنها بألف درهم مثلا، فلا يكون حينئذ للشفيع فيه شفعة». (2)
ولا يصح للجار أن يعترض بذلك لأن البيع ههنا مفقود.
الثاني والعشرون: في الشفعة
قال البخاري في الموضع الثالث من استخدام الهبة على إسقاط الشفعة:
«وقال بعض الناس: إن اشترى نصيب دار، فأراد أن يبطل الشفعة: وهب لابنه
الصغير، ولا يكون عليه يمين». (3)
بيان ذلك: وهذه طريقة أخرى لإسقاط الشفعة، وهي: أن تهب المال المشترى



1 - صحيح البخاري 8: 65، كتاب الحيل، باب الهبة والشفعة. في «غريب الحديث»: الصقب - بالصاد -: ما
قرب من الدار: ويجوز أن يكون بالسين.
2 - كشف الالتباس: 93 - 94.
3 - صحيح البخاري: كتاب الحيل.
197
إلى الولد الصغير، لأمرين:
الأول: أن الصغير ليس عليه يمين، لأن للشفيع أن يحلف الكبير.
والثاني: أن العين لم تنتقل من يده حيث يقبلها الوالد لولده من نفسه.
والبخاري يرى هذه الطريقة أيضا ضررا على الشفيع، ولا يجيزها.
الثالث والعشرون: في الشفعة أيضا
قال البخاري: في الموضع الرابع من الحيل لإسقاط الشفعة.
عن أبي رافع، قال: قال النبي (صلى الله عليه وسلم): «الجار أحق بصقبه».
«وقال بعض الناس: إن اشترى دارا بعشرين ألف درهم، فلا بأس أن يحتال
حتى يشترى الدار بعشرين ألف درهم، وينقده تسعة آلاف درهم وتسعمائة
درهم وتسعة وتسعين، وينقده دينارا بما بقى من العشرين ألف. فإن طلب
الشفيع أخذها بعشرين ألف درهم، وإلا فلا سبيل له على الدار، فإن استحقت
الدار رجع المشتري على البائع بما دفع إليه، وهو تسعة آلاف درهم وتسعمائة
وتسعة وتسعون درهما ودينار، لأن البيع حين استحق انتقض الصرف في
الدينار، فإن وجد بهذه الدار عيبا ولم تستحق، فإنه يردها عليه بعشرين ألف
درهم».
قال: «فأجاز هذا الخداع بين المسلمين. وقال: قال النبي (صلى الله عليه وسلم): «لاداء ولا خبثة ولا
غائلة». (1)
ومراد البخاري بهذا البيان: أن هذا تناقض بين، كما صرح بذلك في قوله: «فأجاز
هذا الخداع بين المسلمين بإلجاء الشريك إلى تحمل الغبن الفاحش، أو ترك
الحق». (2)



1 - صحيح البخاري / كتاب الحيل.
2 - كشف الإلتباس: 95.
198
بيان الإحتيال: الثمن الحقيقي الذي أراد البائع أن يبيع به هو عشرة آلاف درهم،
ولكنه ذكر في العقد عشرين ألفا، ليقلل رغبة الشفيع في الشراء نظرا لارتفاع الثمن،
وفي الوقت نفسه يتفق البائع مع المشتري على أن يدفع المشتري (9999) درهما،
فيتبقى درهم من الثمن المتفق عليه، وعشرة آلاف درهم، ودرهم من الثمن المذكور
في العقد، فيشتريها المشتري بدينار، ولا يكون هناك ربا، لأنهم قد أجمعوا على جواز
بيع الفضة بالذهب متفاضلا، إذا كان يدا بيد.
وقد كان أولى بمن أجاز هذه الحيلة - حيث أثبت الشفعة للجار - أن يرفق
بالجار، وألا تثمن عليه صفقة بأكثر من قيمتها، وقد عرض على أحد الصحابة في بيت
له خمسمائة، ولم يرض الشفيع إلا بأربعمائة، فأعطاه الشفيع، وقال له: لولا أني سمعت
النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول: «الجار أحق بصقبه» ما بعتك.
ثم ذكر البخاري مسألة استحقاق الدار ليبين أن البائع كان قاصدا للحيلة لإبطال
الشفعة، ثم عقب بذكر مسألة الرد بالعيب ليبين أنه تحكم، وكان مقتضاه: أنه لا يرد إلا ما
قبضه، لا زائدا عليه». (1)
الرابع والعشرون: في الأحكام
قال البخاري:
باب الشهادة على الخط المختوم، وما يجوز من ذلك وما يضيق عليهم، وكتاب
الحاكم إلى عماله والقاضي إلى القاضي.
وقال بعض الناس: كتاب الحاكم جائز إلا في الحدود. ثم قال: إن كان هذا
القتل خطأ فهو جائز، لأن هذا مال بزعمه، وإنما صار مالا بعد أن ثبت القتل،
فالخطأ والعمد واحد. وقد كتب عمر إلى عامله في الحدود». (2)



1 - فتح الباري 12: 307 - 308، المبسوط 30: 239 - 240، الاتجاهات الفقهية: 638 - 639.
2 - صحيح البخاري / كتاب الحيل.
199
قال العيني: «أراد ب‍ «بعض الناس»: الحنفية، وليس غرضه من ذكر هذا ونحوه
مما مضى إلا التشنيع على الحنفية لأمر جرى بينه وبينهم»!. (1)
بيان البخاري:
إنه استدل بهذا على جواز كتابة الحاكم إلى الحاكم حتى في الحدود، لما فعله
عمر بن الخطاب إلى عامله على اليمن، وهو يعلى بن أمية.
وقد ناقش الحنفية اعتراض البخاري عليهم.
فقالوا: «فإن كتابة عمر بن الخطاب إلى عامله إعلام له بالحكم ليعمل به إذا ثبت
عنده، فهو إفتاء، لا كتابة الحكم».
والممنوع عند الحنفية أن يكتب الحاكم بحكمه إلى الحاكم الآخر لينفذه.
وقال في «الهداية»: «ويقبل كتاب القاضي إلى القاضي في الحقوق إذا شهد به
عنده للحاجة على ما تبين، فإن شهدوا على خصم حكم بالشهادة لوجود
الحجة...». (2)
فالحنفية لا تقبل كتاب الحاكم في الحدود، لأنه يدرأ بالشبهة.
ويلحق ذلك بالأموال، لأن القتل الخطأ ينتفي القصاص فيه، وتجب الدية لئلا
يكون دمه هدرا.
الخامس والعشرون: في الأحكام
قال البخاري:
«باب ترجمة الحكام، وهل يجوز ترجمان واحد؟
وقال بعض الناس: لا بد للحاكم من مترجمين». (3)



1 - عمدة القاري 24: 236.
2 - الهداية 3: 105 باب «أدب القاضي».
3 - صحيح البخاري / كتاب الحيل.
200
الثاني
موارد تعريضه بأبي حنيفة صراحة
إلى هنا أوردنا المسائل التي تعرض لها البخاري على أهل الرأي بقوله: «بعض
الناس»، وقد رأينا كيف أنه اعتبر في بيان تناقضاتهم بالتصريح على مخالفتهم
للحديث، كما مر في مسألة الرجوع في الهبة.
وأما المسائل التي أشار فيها إلى أبي حنيفة صراحة فكثيرة، سنذكر جملة منها.
المسائل التي قرر فيها البخاري رأيه دون أن يشير إلى أهل الرأي ما يأتي:
1 - إعتبار حديث «الأعمال بالنيات» في موارد متعددة، وقد فصلنا البحث فيها
بأنه يرى الأعمال كلها تتقوم بالنيات، خلافا لأبي حنيفة: فإنه لا يعتبر النية في صحة
المعاملات وفي العقود والإيقاعات ولا في كثير من موارد العبادات والتروك.
2 - حقيقة الخمر ومسماها: فإنه يحرم جميع أقسام الخمر، وأما أبو حنيفة فإنه
يقصر الخمر على العصير العنبي، بينما عصير غيره إذا تخمر فإنه لا يحرم القليل منه
والذي لا يسكر!
وقد فصل البخاري في عدة أبواب مفندا فيها هذا الرأي، ومثبتا أن الخمر اسم
لجميع أقسام المسكر من دون فرق بين العصير العنبي وغيره من الأنبذة، ولا بين
القليل منه والكثير، ويقول في ذلك:
- باب: الخمر من العنب.
- باب: تحريم الخمر، وهي من البسر والتمر.
- باب: الخمر من العسل، وهو البتع.
- باب: ما جاء في أن الخمر ما خامر العقل من الشراب.
- باب: ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه. (1)



1 - صحيح البخاري بحاشية السندي 2: 313 - 321، ومن طبعة باموق، 6: 243 كتاب الأشربة.
201
3 - شرط إقامة الجمعة في البلاد: فإنه يرى أن الجمعة تقام في القرى والمدن من
دون فرق.
و أبو حنيفة يقول:
«لا تقام الجمعة في القرى الصغيرة».
والبخاري ترجم ذلك بقوله: «باب الجمعة في القرى والمدن».
4 - نصاب الزروع والثمار في الزكاة: فإنه قال في رواية: «ليس فيما أقل من
خمسة أوسق صدقة».
وقال السندي في تعليقه على هذا الحديث: «ومراده الرد على أبي حنيفة، حيث
أخذ بإطلاق حديث ابن عمر - وهو: «فيما سقت السماء...» - فأشار إلى أنه حديث مبهم
يفسره حديث أبي سعيد، وهو: «ليس فيما أقل من خمسة أوسق صدقة». (1)
لأن أبا حنيفة أفتى بوجوب العشر أو نصفه في قليل ما تخرجه من الأرض
وكثيره.
5 - الطلاق قبل النكاح: وقد ترجم البخاري بقوله: «باب لا طلاق قبل النكاح»
بقول الله تعالى: (يا أيها الذين منوا إذا نكحتم المؤمنات...). (2) وقول ابن عباس:
«جعل الله الطلاق بعد النكاح».
و أبو حنيفة يرى خلافه، ويقول بصحة الطلاق قبل النكاح. (3)
6 - طلاق السكران والمكره والغاصب: وقد ترجم لذلك مفصلا معترضا على
أهل الرأي.
ذهب إلى وقوع ذلك من دون تدخل للقصد والنية، فرد البخاري قوله بشكل
واضح، وقد ذكرنا ذلك في باب قول البخاري: «وقال بعض الناس». وفي بعض التراجم



1 - البخاري بحاشية السندي 1: 670، ومن طبعة باموق 2: 133 كتاب وجوب الزكاة.
2 - الأحزاب: 49.
3 - البخاري 3: 271.
202
أيضا، وصرح بالنهي عن الرأي والعمل بالقياس، فلا يمكن أن يراد بها إلا الطعن على
أهل الرأي والقياس.
ومن هذه الأبواب:
1 - باب ما يكره من كثرة السؤال والتكلف بما لا يعنيه، ولقوله تعالى: (ولا
تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم). (1)
2 - باب الاقتداء بأفعال النبي (صلى الله عليه وسلم). (2)
3 - باب ما يكره من التعمق والتنازع في العلم، والغلوفي الدين، والبدع، لقوله
تعالى: (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق). (3)
4 - باب ما يذكر من ذم الرأي وتكلف القياس، (ولا تقف ما ليس
لك به علم). (4)
5 - ما كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يسأل به مما لم ينزل عليه الوحي، فيقول: «لا أدري»! ولم
يجب حتى ينزل عليه الوحي، ولم يقل بالرأي والقياس، لقوله تعالى: (بما أراك
الله). (5)
وقال ابن مسعود: «سئل النبي (صلى الله عليه وسلم) عن الروح، فسكت حتى نزلت الآية». (6)
6 - باب تعليم النبي (صلى الله عليه وسلم) أمته من الرجال والنساء مما علمه الله ليس برأي ولا
تمثيل. (7)
وإلى غير ذلك من الأبواب التي تظهر منها مخالفته لأهل الرأي والقياس.



1 - صحيح البخاري كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة 8: 142 - ط استانبول باموق.
2 - نفس المصدر السابق: 144.
3 - نفس المصدر السابق: 144.
4 - نفس المصدر السابق: 148.
5 - النساء 4: 105.
6 - صحيح البخاري كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة 8: 148 - ط باموق استانبول.
7 - صحيح البخاري كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة 8: 149 - ط استانبول باموق.
203
الخاتمة
وبعد هذه الجولة في أفكار البخاري، إمام أهل الحديث، وأبي حنيفة، إمام أهل
الرأي والقياس، قد وجدنا ان الأيادي الملطخة قد أسهمت في تحقيق أهداف الخلفاء
في الهاء الناس وتمزيق المجتمع بالاتجاهات الفكرية، كما أشار بذلك الدهلوي في
كلام الغزالي:
«أفضت الخلافة إلى قوم تولوها بغير استحقاق ولا استقلال بعلم الفتاوى
والأحكام، فاضطروا إلى الاستعانة بالفقهاء وإلى استصحابهم في جميع أحوالهم.
وقد كان بقي من العلماء من هو مستمر على الطراز الأول، وملازم صف الدين.
فكانوا إذا طلبوا هربوا وأعرضوا، فرأى أهل تلك الأعصار عز العلماء وإقبال الأئمة
عليهم مع اعراضهم فأشرابوا لطلب العلم توصلا إلى نيل العز ودرك الجاه، فأصبح
الفقهاء بعد أن كانوا مطلوبين طالبين، وبعد إن كانوا أعزة بالإعراض عن السلاطين أذلة
بالإقبال عليهم» (1).
وقد مر في ذلك أيضا قول الذهبي في مقدمة الكتاب فراجع.
وبعد ذلك نشكر الله سبحانه وتعالى على ما هدانا بالقرآن، وبما جاء به الرسول
الأعظم (صلى الله عليه وآله) من السنن، وفقهنا في الدين، لئلا نتبع غير الحق، وألا ندين إلا بما دان به الله
ورسوله وأولياؤه، وألا نسلك سبيل من لا يهدي...
وندعو بعد ذلك القراء الأعزاء أن ينظروا إلى تراجم طائفة من الصحابة وأئمة



1 - الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف: 87 - 88.
205
السنة مثل ابن مسعود، وأبي حنيفة، من عدم اعتمادهم على الحديث، مع قرب عهدهم
بالطبقات الأولى وفضيلة الصحبة، وليس ذلك إلا فقد الوثائق للأخذ بالسنن!!
وهكذا في سيرة الخلفاء والمحدثين والقضاة الذين نصبوا العداء لآل النبي (صلى الله عليه وسلم)
حتى يطلعوا على الحقائق التاريخية الواقعة في الأوائل، ثم يخاطبوا أنفسهم: وهل
يمكن أن يكون هؤلاء حماة للدين؟!
وكيف يهدي العباد إلى الحق من ضل نفسه في هوى الدنيا؟
(ومن يضلل الله فما له من هاد ومن يهد الله فما له من مضل) (1)
وفي الختام نحمد الله سبحانه وتعالى ونسأله التوفيق والشكر على ما أنعم علينا
من بركاته، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وهو يتولى الصالحين ويدافع عن المؤمنين
والحمد لله رب العالمين



1 - الزمر 39: 36 - 37.
206
المصادر والمراجع
القرآن الكريم:
1 - الآثار: أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري المتوفى 182 ه‍ عني بتصحيحه أبو
الوفاء - ط دار الكتب العلمية - بيروت.
2 - أبو حنيفة النعمان: وهبي سليمان غاوجي، ط، دارالقلم دمشق.
3 - أبو ززعة الرازي وجهوده في السنة: سعدي الهاشمي - ط مكتبة ابن القيم للنشر
والتوزيع ط - المدينة المنورة ط الثانية 1409 ه‍.
4 - الاتجاهات الفقهية عند أصحاب الحديث في القرن الثاني والثالث: عبد المجيد
محمود - ط دار الوفاء القاهرة، 1399 ه‍، ط الأولى.
5 - إتحاف القاري بمعرفة جهود أعمال العلماء على صحيح البخاري: محمد عصام
عرار الحسيني - ط يمامة للطباعة والنشر - دمشق - ط 1407 ه‍.
6 - اتهامات كاذبة: للحازمي إبراهيم بن عبد الله، ط، دار الشريف للنشر والتوزيع، الرياض،
ط، الأولى 1418 ه‍، فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية.
7 - أحوال الرجال: لأبي إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني المتوفى 259 ه‍ ط،
مؤسسة الرسالة
8 - أخبار أبي حنيفة وأصحابه: للكيرانوي الشيخ حبيب أحمد - ط مكتبة الدراسات
والبحاوث العربية - دار الفكر العربي - ط - الاولى 1989 م
9 - إختلاف العلماء: أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي المتوفى 294 ه‍، ط عالم الكتب -
بيروت، ط الثانية 1406 ه‍ تحقيق، السامرائي

207
10 - الأساس في السنة وفقهها: سعيد حوى، ط، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع،
القاهرة 1412 ه‍
11 - أسامي من روى عنهم البخاري من مشايخه: لابن عدي أحمد بن عبد الله الجرجاني
المتوفى 365 ه‍ ت حماد بن محمد ط دار البخاري، المدينة المنورة.
12 - الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير: لأبي شهبة محمد أبو شهبة، ط دار
الجيل - بيروت
13 - أسماء الضعفاء والكذابين: لابن شاهين ط كلية الحديث النبوي بالمدينة ط الأولى -
تحقيق القشقري
14 - أعلام الموقعين: لابن القيم محمد بن أبي بكر المتوفى 751 ه‍ ط دار الجيل للنشر
والتوزيع بيروت - علق عليه طه عبد الرؤف سعد.
15 - إكمال مبهمات البخاري وفوائد فتح الباري: لابن حجر أحمد بن علي العسقلاني
المتوفى 852 ه‍ ط دار الثقافة العربية 1415 ه‍ ت عمروعلي عمر.
16 - أبو حنيفة حياته وعصره وآراؤه وفقهه وحياته: محمد أبو زهرة، ط دار الفكر
العربي القاهرة.
17 - الإمام البخاري: للندوي تقي الدين المظاهري ط دار العلم دمشق ط الثالثة 1408 ه‍.
18 - الإمام الحميدي وكتابه المسند: عبد الرحمن الصويان، ط دار المعراج، الرياض ط
الأولى، 1416 ه‍.
19 - الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء: ابن عبد البر، أبو عمرو يوسف بن عبد الله
المتوفى 463 ه‍، ط دارالكتب العلمية - بيروت - بدون تاريخ.
20 - الانتقاض في الرد على العيني: ابن حجر العسقلاني أحمد بن علي المتوفى 852 ه‍ ط
الرياض
21 - أنساب الأشراف: للبلاذري أحمد بن يحيى المتوفى 279 ه‍ ط دارالفكر - بيروت.
22 - الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف: ولي الله الدهلوي أحمد بن عبد الرحيم المتوفى
1176 ط دار النفائس بيروت ط الثالثة 1406 ه‍.

208
23 - بحوث في تاريخ السنة: أكرم ضياء العمري ط مؤسسة الرسالة، بيروت
24 - بداية المجتهد: للقرطبي محمد بن الرشد المتوفى 595 ه‍ ط التاسعة - 1409 - دار
المعرفة، بيروت.
25 - البداية والنهاية: لابن كثير إسماعيل بن عمر الدمشقي المتوفى 774 ه‍ ط دار الكتب
العلمية - بيروت
26 - تاريخ الإسلام: الذهبي محمد بن أحمد المتوفى 748 ه‍ ط دار الكتاب العربي - بيروت.
27 - تاريخ أهل الحديث: للدهلوي المدني احمد بن محمد المتوفى 1375 ه‍ - ط مكتبة
الغرباء الأثرية في المملكة العربية السعودية - 1417 ه‍ - تحقيق، الأثري.
28 - تاريخ بغداد: للخطيب البغدادي أحمد بن علي المتوفى 463 ه‍ ط دار الفكر للطباعة
والنشر.
29 - تاريخ التشريع: للخضري محمد الخضري ط الاستقامة بالقاهرة 1960 م.
30 - تاريخ الجهمية والمعتزلة: للقاسمي محمد جمال الدين.
31 - التاريخ الكبير: للبخاري محمد بن إسماعيل المتوفى 256 ه‍ ط دارالكتب العلمية
بيروت.
32 - التاريخ الصغير الأوسط: للبخاري محمد بن إسماعيل المتوفى 256 ه‍ دارالوعي
والتراث - حلب.
33 - تاريخ ابن الوردي: عمر بن مظفر الشهير بابن الوردي المتوفى 749 ه‍ - ط - دار الكتب
العلمية - بيروت 1417 ه‍.
34 - تاريخ مدينة دمشق: لابن عساكر علي بن الحسن المتوفى 571 ه‍، ط دارالفكر
للطباعة والنشر تحقيق علي شيري ط الأولى 1417 ه‍
35 - تأويل مختلف الحديث: لابن قتيبة عبد الله بن مسلم الدينوري المتوفى 276 ه‍ ط دار
الكتب العلمية - بيروت.
36 - التبيين لأسماء المدلسين: لسبط ابن العجمي - إبراهيم بن محمد المتوفى 841 ه‍ -
تحقيق يحيى شفيق، ط دار الكتب العلمية - بيروت ط 1406 ه‍ ط الاولى.

209
37 - تدريب الراوي: للسيوطي جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر المتوفى 911 ه‍ ط
دارالكتاب العربي تحقيق أحمد عمر هاشم - 1409 ه‍.
38 - تذكرة الحفاظ: للذهبي محمد بن أحمد المتوفى 748 ه‍ ط دار الكتب العلمية - بيروت،
تصحيح المعلمي اليماني 1374 ه‍.
39 - تقريب التهذيب: لابن حجر أحمد بن علي العسقلاني المتوفى 852 ه‍ ط دارالمعرفة،
بيروت، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف.
40 - التعديل والتجريح لمن خرج له البخاري: للباجي - سليمان بن خلف ط - دار اللواء
الرياض - تحقيق لبابة - 1406 ه‍.
41 - تقييد العلم: للخطيب البغدادي أحمد بن علي المتوفى 463 ه‍ ط دار إحياء السنة -
بيروت.
42 - التمهيد لما في الموطأ: ابن عبد البر أبو عمرو يوسف بن عبد الله المتوفى 463 ه‍ تحقيق
مصطفى العلوي والبكري، 1387 ه‍ الرباط.
43 - التنكيل: للمعلمي اليماني عبد الرحمن بن يحيى المتوفى 1386 ه‍ ط المكتب الاسلامي -
دمشق - 1406 ه‍ تحقيق زهير الشاويش، وناصر الدين الألباني.
44 - تهذيب الأسماء واللغات: للنووي أبو ذكريا محيى الدين بن شرف المتوفى 676 ه‍ ط
دارالكتب العلمية - بيروت.
45 - تهذيب التهذيب: لابن حجر العسقلاني أحمد بن علي المتوفى 852 ه‍ ط دارالفكر
للطباعة والنشر - بيروت.
46 - تهذيب الكمال: للمزي أبو الحجاج يوسف بن عبد الرحمن المتوفى 742 ه‍ ط مؤسسة
الرسالة، تحقيق بشار عواد.
47 - توشيح الديباج وحلية الإبتهاج: بدر الدين القرافي المتوفى 946 ه‍ ط دار الغرب
الإسلامي تحقيق - أحمد شتيوي ط الأولى 1403 ه‍.
48 - جامع الأصول في أحاديث الرسول: لابن الأثير المبارك بن محمد الجزري المتوفى
606 ه‍ ط دار إحياء التراث العربي، ط الثانية 1403 ه‍ أشرف على طبعه الشيخ عبد المجيد
سليم.

210
49 - جامع بيان العلم: لابن عبد البر يوسف بن عبد الله المتوفى 463 ه‍ مؤسسة الكتب الثقافية
- بيروت.
50 - الجامع الصحيح: لأبي عيسى الترمذي المتوفى 279 ه‍ تحقيق أحمد شاكر وجماعته.
51 - الجامع في العلل ومعرفة الرجال: للامام أحمد بن حنبل المتوفى 241 ه‍، رواية
عبد الله ابنه والمروزي والميموني - ط - مؤسسة الثقافية - بيروت - اعتنى به محمد حسام
بيضون ط الأولى 1410 ه‍.
52 - الجرح والتعديل: للرازي عبد الرحمن بن حاتم المتوفى 327 ه‍ ط دار إحياء التراث
العربي عن النسخة المطبوعة بحيدر آباد الهند - تحقيق، المعلمي اليماني.
53 - الجمع بين رجال الصحيحين: المقدسي محمد بن طاهر المتوفى 507 ه‍ ط دار الباز،
مكة المكرمة ط الثانية 1405 ه‍ ودارالكتب العلمية - بيروت.
54 - جلاء العينين، بتخريج روايات البخاري في رفع اليدين: للسندي أبو
محمد بديع الدين شاه الراشدي، ط مؤسسة الكتب الثقافية - بيروت ط، الأولى 1407 ه‍.
55 - حاشية الشلبي على شرح «كنز الدقائق»: فخر الدين الزيلعي ط دارالمعرفة - بيروت
أعيد بالأفست من الطبعة الأولى ببولاق مصر.
56 - الحث على حفظ العلم: لابن الجوزي عبد الرحمن بن علي أبو الفرج المتوفى 597 ه‍
ط الثانية بيروت.
57 - الحجة على أهل المدينة: للشيباني محمد بن الحسن المتوفى 189 ه‍ ط عالم الكتب
بيروت، ط الثالثة 1403 ه‍.
58 - حسن المحاضرة: للسيوطي جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر المتوفى 911 ه‍
تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط الأولى طبع عيسى البابي الحلبي وشركاء 1387 ه‍.
59 - حلية الأولياء: لأبي نعيم الإصبهاني أحمد بن عبد الله المتوفى 430 ه‍ ط دارالفكر للطبعة
والنشر.
60 - خلق أفعال العباد: للبخاري محمد بن إسماعيل المتوفى 256 ه‍، ط الدار السلفية،
الكويت ط الأولى 1405 ه‍.

211
61 - خير الكلام في القراءة خلف الإمام: للبخاري محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الجعفي
المتوفى 256 ه‍، ط دار الكتب العلمية - بيروت - 1405 ه‍ - ط الأولى.
62 - دلائل التوثيق المبكر للسنة والحديث: الدكتور إمتياز أحمد، عميد كلية المعارف
الإسلامية بجامعة كراتشي، نقله إلى العربية الدكتور أمين قلعجي ط الأولى القاهرة 1410 ه‍
ط دارالوفاء.
63 - ديوان الضعفاء والمتروكين: للذهبي أبو عبد الله محمد بن أحمد المتوفى 748 ه‍
تحقيق لجنة من العلماء بإشراف الناشر، قدم له الشيخ خليل الميس ط دارالقلم - بيروت، ط
الأولى 1408 ه‍
64 - رجال صحيح البخاري: للكلاباذي أبو نصر أحمد بن محمد البخاري المتوفى 398 ه‍
ط دارالمعرفة تحقيق عبد الله الليثي ط الأولى بيروت 1407 ه‍.
65 - رجال صحيح مسلم: ابن منجويه أحمد بن علي الإصبهاني المتوفى 428 ه‍ ط
دارالمعرفة بيروت 1407 ه‍ تحقيق عبد الله الليثي ط الأولى.
66 - الرياض النضرة في مناقب العشرة المبشرين بالجنة: للطبري أحمد الشهير
بالمحب الطبري - ط دار الندوة الجديدة بيروت - ط الأولى 1408 ه‍.
67 - سنن ابن ماجة: للقزويني محمد بن يزيد المتوفى 275 ه‍ تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي
ط القاهرة.
68 - سنن أبي داود: للسجستاني سليمان بن الأشعث المتوفى 275 ه‍ تحقيق عزت عبيد
الدعاس، ط حمص سوريا 1388 ه‍.
69 - سنن الدار قطني: للدار قطني علي بن عمر المتوفى 385 ه‍ تحقيق عبد الله هاشم اليماني
القاهرة 1386 ه‍
70 - سنن الدارمي: للدارمي عبد الله بن عبد الرحمن المتوفى 255 ه‍ ط دارالمحاسن، القاهرة
، ت عبد الله هاشم اليماني 1386 ه‍.
71 - السنن الكبرى: للبيهقي أحمد بن الحسين المتوفى 458 ه‍ ط دارالمعرفة بيروت، ت
يوسف مرعشلي.

212
72 - سنن النسائي: للنسائي أحمد بن شعيب المتوفى 303 ه‍ مع حاشية زهر الربى للسيوطي
وحاشية السندي ط دار إحياء التراث العربي.
73 - سؤلات ابن جنيد ليحيى بن معين: إبراهيم الختلي، ت، د، أحمد نور سيف، ط مكتبة
الدار المدينة النبوية ط الأولى 1408 ه‍.
74 - سير أعلام النبلاء: للذهبي محمد بن أحمد المتوفى 748 ه‍ ط مؤسسة الرسالة تحقيق
شعيب الأرنؤوط.
75 - سيرة الإمام البخاري: للمباركفوري الشيخ عبد السلام ط الجامعة السلفية، بنارس الهند
ط الثانية، مقدمة، مقتدى حسن ياسين.
76 - عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي: لابن العربي محمد بن عبد الله الإشبيلي
المعروف بابن العربي المالكي المتوفى 543 ه‍، ط دار الفكر - بيروت 1415 ه‍ ط الأولى -
تحقيق العطار.
77 - شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: للالكائي هبة الله الطبري ط دار طيبة - ط
1411 ه‍ طبعة الثانية، تحقيق سعد حمدان.
78 - الشرح والتعليل لألفاظ الجرح والتعديل: يوسف محمد صديق ط مكتبة ابن تيمية
الكويت ط الأولى 1410 ه‍.
79 - شرح معاني الآثار: للطحاوي أبي جعفر أحمد بن محمد بن سلامة المتوفى 321 ه‍ ط
دارالكتب العلمية ط الأولى 1399 ه‍، علق عليه محد زهري النجار.
80 - شروح البخاري: النووي والقسطلاني وعون الباري - ط - دار الكتب العلمية - بيروت
بدون تاريخ.
81 - شذرات الذهب في أخبار من ذهب: لابن العماد عبد الحي بن
العماد الحنبلي المتوفى 1350 ه‍، ط دار إحياء التراث العربي، بيروت.
82 - صحيح البخاري: محمد بن إسماعيل البخاري الجعفي المتوفى 256 ه‍ ط باموق
إستانبول، طبع جميع مجلداته في مجلد واحد.
83 - صحيح مسلم: لأبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري المتوفى 261 ه‍ ط

213
دار إحياء الكتب العربية القاهرة، ت، محمد فؤاد عبد الباقي وبشرح النووي ط، دار إحياء
التراث العربي ط الثالثة.
84 - الضعفاء الصغير: للبخاري محمد بن إسماعيل المتوفى 256 ه‍ ط دار الوعي حلب
1396 ه‍، تحقيق محمود إبراهيم زايد.
85 - الضعفاء الكبير: للعقيلي محمد بن عمرو المتوفى 322 ه‍ ط دارالكتب العلمية، 1404 ه‍
ت، عبد المعطي أمين قلعجي.
86 - الضعفاء والكذابين: عن أبي زرعة عبيد الله بن عبد الكريم، وأبي حاتم الرازيين، مما
سألهما، وجمعه وألفه أبو عثمان البرذعي، ت، سعدي الهاشمي ط المجلس العلمي الجامعة
الإسلامية بالمدينة المنورة 1402 ه‍.
87 - الضعفاء والمتروكون: للنسائي أحمد بن شعيب المتوفى 303 ه‍ ط دارالقلم للطباعة،
بيروت، ت، الشيخ عبد العزيز عز الدين السيروان
88 - الضعفاء والمتروكون: للدار قطني علي بن عمر المتوفى 385 ه‍ ط دار القلم للطباعة،
بيروت، ت، الشيخ عبد العزيز السيروان ط الأولى 140
89 - الضعفاء والمتروكين: لابن الجوزي عبد الرحمن بن علي البغدادي المتوفى 597 ه‍ ط
دارالكتب العلمية حققه، أبو الفداء عبد الله القاضي.
90 - الضعفاء لأبي نعيم: أبو نعيم أحمد بن عبد الله المتوفى 430 ه‍ ط دار البيضاء المغرب.
91 - طبقات الحفاظ: للسيوطي جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر المتوفى 911 ه‍، ط،
دارالكتب العلمية ط الأولى 1403 ه‍، ت، لجنة التحقيق.
92 - طبقات الحنابلة: لأبي يعلى محمد بن أبي يعلى الحنبلي المتوفى 526 ه‍ ط، مطبعة السنة
المحمدية 1371 ه‍.
93 - طبقات الشافعية الكبرى: للسبكي عبد الوهاب بن علي المتوفى 771 ه‍ تحقيق محمود
أحمد الطناحي وعبد الفتاح الحلو مطبعة عيسى البابي الحلبي.
94 - طبقات الشافعية: للأسنوي عبد الرحيم بن الحسن المتوفى 772 ه‍ تحقيق عبد الله
الجبوري.

214
95 - طبقات الفقهاء الشافعية: للعبادي محمد بن أحمد المتوفى 458 ه‍ تحقيق غوستا
فيتسام، ليدن 1964 م.
96 - الطبقات الكبرى: لابن سعد محمد بن سعد المتوفى 230 ه‍ ط دار بيروت للطباعة
والنشر 1405 ه‍، ت، إحسان عباس.
97 - طبقات المدلسين: لابن حجر العسقلاني أحمد بن علي المتوفى 852 ه‍ ط مكتبة المنار
- أردن 1404 ه‍ تحقيق القريوتي ط الأولى.
98 - العبر في خبر من غبر: للذهبي محمد بن أحمد المتوفى 748 ه‍ ط دار الكتب العلمية،
تحقيق بسيوني زغلول.
99 - العلل ومعرفة الرجال: لأبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل المتوفى 241 ه‍ ط دار
الخاني الرياض.
100 - عمدة القاري: للعيني بدر الدين محمود بن أحمد المتوفى 855 ه‍ ط دار الفكر.
101 - فتح الباري: لابن حجر العسقلاني أحمد بن علي المتوفى 852 ه‍ ط دار إحياء التراث
العربي.
102 - فتح المغيث: للسخاوي محمد بن عبد الرحمن المتوفى 902 ه‍، ط دارالكتب العلمية -
بيروت.
103 - الفضل المبين على عقد الجوهر الثمين في علوم الحديث: للقاسمي محمد
جمال الدين ط - دار النفائس بيروت - ط الثانية 1409 ه‍.
104 - فقه أهل العراق وحديثهم: للزاهد الكوثري الحنفي طبع مقدمتا لكتاب نصب الراية
للحافظ الزيلعي.
105 - فهرس مصنفات البخاري: أم عبد الله بنت محروس العسلي، محمد ابن حمزة، على
إشراف ابن محمد الحداد ط دار العاصمة الرياض ط - الأولى 1408 ه‍.
106 - قرة العينين برفع اليدين في الصلاة: للبخاري محمد بن إسماعيل المتوفى 256 ه‍
107 - قواعد في علوم الحديث: للتهانوي ظفر أحمد العثماني المتوفى 1394 ه‍ تحقيق
عبد الفتاح أبو غدة، ط مكتبة المطبوعات الإسلامية - القاهرة - 1404 ه‍ الطبعة الخامسة.

215
108 - الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة: للذهبي محمد ابن أحمد
المتوفى 748 ه‍ ط دارالكتب الحديثة، القاهرة تحقيق عزت عطية وموسى الموشي.
109 - الكامل في ضعفاء الرجال: لابن عدي أحمد بن عدي المتوفى 365 ه‍ ط دارالفكر
بيروت ط، الأولى 1404 ه‍.
110 - كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي الحنفي: لعبد العزيز البخاري
المتوفى 730 ه‍ ط دار الكتاب الاسلامي - القاهرة - طبعة جديدة.
111 - كشف الإلتباس عما أورده البخاري على بعض الناس: للغنيمي عبد الغني
الميداني المتوفى 1298 ه‍ ط مكتب المطبوعات الإسلامية بحلب 1414 ه‍ اعتنى به
عبد الفتاح أبو غدة.
112 - الكفاية في علم الرواية: للخطيب البغدادي أحمد بن علي المتوفى 463 ه‍ ط دارالكتب
الحديثة، القاهرة تحقيق محمد الحافظ التيجاني.
113 - الكواكب الدراري: للكرماني محمد بن يوسف المتوفى 786 ه‍ ط المطبعة البهية -
بالقاهرة 1358 ه‍.
114 - كوثر المعاني الدراري: للشنقيطي محمد الخضر الجكني المتوفى 1354 ه‍، ط
مؤسسة الرسالة بيروت - 1415 ه‍.
115 - اللباب في شرح الكتاب: للغنيمي عبد الغني الميداني الحنفي المتوفى 1298 ه‍ ط دار
احياء التراث العربي بيروت تحقيق - محمود أمين النواوي 1412 ه‍.
116 - المتواري على تراجم أبواب البخاري: للاسكندراني احمد بن محمد المعروف
بابن المنير المتوفى 683 ه‍ تحقيق صلاح الدين مقبول احمد، ط مكتبة المعلا الكويت
1407 ه‍ ط الأولى.
117 - المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين: لابن حبان محمد بن حبان
التميمي البستي المتوفى 354 ه‍، ط 8 دارالوعي سوريا حلب، تحقيق محمود إبراهيم زايد
ط الأولى 1396 ه‍.
118 - مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر: لداماد أفندي - عبد الله بن محمد بن سليمان، ط
- دار احياء التراث العربي للنشر بهامشه بدر المتقى في شرح الملتقى.

216
119 - المحلى: لابن حزم علي بن أحمد المتوفى 456 ه‍، ط مكتبة الجمهورية القاهرة بإشراف:
زيدان أبو المكارم.
120 - مرآة الجنان وعبرة اليقظان: لليافعي عبد الله بن أسعد المتوفى 768 ه‍، ط دار الكتاب
الإسلامي، القاهرة ط، الثانية 1413 ه‍.
121 - مسند أحمد بن حنبل: أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل المتوفى 241 ه‍ المكتب
الإسلامي، ودار الصادر، بيروت 1398 ه‍.
122 - مسند الحميدي: للحميدي عبد الله بن الزبير المتوفى 219 ه‍، ط، عالم الكتب بيروت
ومكتبة المثنى القاهرة، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي.
123 - مسند الشهاب: للقضاعي محمد بن سلامة المتوفى 454 ه‍ ط مؤسسة الرسالة بيروت -
تحقيق السلفي - ط - 1405 - ط الاولى.
124 - معاني الآثار: للطحاوي أبو جعفر أحمد بن محمد سلامة المتوفى 321 ه‍
125 - المعجم الكبير: للطبراني سليمان بن أحمد المتوفى 360 ه‍، ط دار العربية للطباعة
تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي.
126 - المعرفة والتاريخ: للفسوي يعقوب بن سفيان المتوفى 277 ه‍، ط مؤسسة الرسالة
تحقيق أكرم ضياء العمري
127 - معرفة علوم الحديث: للحاكم النيسابوري محمد بن عبد الله المتوفى 405 ه‍، ط
المكتب التجاري للطباعة والنشر، تحقيق: - معظم حسين.
128 - مناقب أبي حنيفة: للخوارزمي موفق بن أحمد المتوفى 568 ه‍ ط الكتاب العربي -
بيروت - 1401 ه‍، ط الاولى.
129 - مناقب الشافعي: للبيهقي أحمد بن الحسين المتوفى 458 ه‍، ط دارالتراث القاهرة
ط الأولى 1390 ه‍.
130 - منتهى الآمال شرح حديث إنما الأعمال: للسيوطي جلال الدين عبد الرحمن بن أبي
بكر المتوفى 911 ه‍
131 - منهاج السنة: لابن تيمية احمد بن عبد الحليم المتوفى 728 ه‍ تحقيق محمد رشاد سالم
- ط

217
132 - موضح أوهام الجمع والتفريق: للخطيب البغدادي أحمد بن علي المتوفى 463 ه‍، ط
دائرة المعارف العثمانية، تحقيق المعلمي اليماني.
133 - ميزان الإعتدال: للذهبي محمد بن أحمد المتوفى 748 ه‍، ط دارالمعرفة، بيروت تحقيق
علي محمد البجاوي.
134 - النبذ في أصول الفقه الظاهري: لابن حزم علي بن أحمد الأندلسي المتوفى 456 ه‍ ط
دار ابن حزم - بيروت ط‍ الأولى 1413 ه‍.
135 - النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة: لابن تغري يوسف بن تغري الأتابكي
المتوفى 784 ه‍، ط دارالكتب العلمية - القاهرة.
136 - نصب الراية لأحاديث الهداية: للزيلعي جمال الدين عبد الله بن يوسف الحنفي
المتوفى 762 ه‍، ط، دار احياء التراث العربي للطباعة والنشر - بيروت - ط الثانية 1407 ه‍.
137 - نظرات جديدة في علوم الحديث: الدكتور حمزة عبد الله المليباري، ط - المكتبة
المكية - دار ابن حزم، بيروت، ط الأولى 1416 ه‍ 1999 م
138 - وفيات الأعيان: لابن خلكان أحمد بن محمد المتوفى 681 ه‍، ط دار الصادر - بيروت،
تحقيق: إحسان عباس.
139 - الهداية: للمرغيناني - علي بن أبي بكر الفرغاني المتوفى 593 - المطبوع مع نصب الراية.
140 - هدى الساري: ابن حجر العسقلاني أحمد بن علي المتوفى 852 ه‍، ط دار الإفتاء
المملكة العربية السعودية.
* * *

218
/ 1