توحيد و الشرك في القرآن نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

توحيد و الشرك في القرآن - نسخه متنی

جعفر سبحاني

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید
الكتاب: التوحيد والشرك في القرآن
المؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
الجزء:
الوفاة: معاصر
المجموعة: من مصادر العقائد عند الشيعة الإمامية
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:
التوحيد والشرك
في
القرآن الكريم
تأليف
الكاتب الإسلامي
جعفر السبحاني
- دام ظله -

1
تقديم:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطاهرين.
نفتتح المقال بكلمة مباركة مأثورة عن الأكابر وهي: بني الإسلام على دعامتين:
كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة.
أما الأولى فقد اتفق عليها المسلمون قاطبة، وشعارهم في جميع المواقف هو لا إله
إلا الله ولا نعبد إلا إياه، فإذا كان للتوحيد مراتب فالكل متفقون على أنه لا خالق
ولا مدبر ولا معبود إلا إياه، ولا يمكن تسجيل اسم واحد في سجل الإسلام إلا إذا
شهد بالتوحيد بعامة مراتبه، وأخص بالذكر منها أنه لا معبود سوى الله سبحانه ولا
مستعان غيره، ولأجل ذلك نرى أن المسلمين يقولون في كل يوم وليلة في
صلواتهم: (إياك نعبد وإياك نستعين) ويذكر القرآن الكريم أن التوحيد في العبادة
هو الهدف الوحيد من بعث الأنبياء قال سبحانه: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن
اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) (النحل - 36) وقال سبحانه: (وما أرسلنا من قبلك
من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) (الأنبياء - 25).
ولا أظن أن أحدا من المسلمين يشك في هذه القاعدة الكلية.
نعم ربما يقع الكلام والنقاش في الجزئيات والمصاديق الخارجية وأنه هل هي

3
عبادة أو لا؟ مثلا يقع البحث في أن التوسل بالرسول بذاته وشخصيته ودعائه حيا وميتا
عبادة للرسول أو توسل بالسبب.
والذي دعاني إلى تأليف هذا الكتاب هو إيضاح بعض الأمور الرائجة بين
المسلمين من عصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى يومنا هذا ولم يكن
هناك أي اختلاف فيها إلى القرن الثامن، ولكن بدأ الخلاف والنقاش فيها منذ قرون
واستفحل في عصرنا هذا، فصار ذلك سببا لتفريق الكلمة وتبدد الأمة إلى
طائفتين: فطائفة: ترى التوسل وطلب الشفاعة والتبرك تمسكا بالأسباب التي
ندب إليها الشرع كتابا وسنة، وأخرى: تنظر إليها كأنها لا تلائم التوحيد في العبادة.
وقد عالج لفيف من المحققين هذه الناحية من مشاكلنا الدينية ولكن دراستهم لم
تكن مركزة على البحث القرآني، فحاولت أن أعالج الموضوع من منظار القرآن
الكريم وأنظر إلى التوحيد والشرك من ذلك الجانب حتى يستبين حكم هذه
الأمور التي عدت شركا مضادا للتوحيد.
وأما الثانية فقد دعى إليها الإسلام وقال: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا)،
ولا يشك أحد في أن صيانة كيان الإسلام وإعادة مجده التالد رهن توحيد الكلمة
وتقريب الخطى.
وأحسب أني خدمت كلتا الكلمتين فأوضحت حال حكم هذه الموضوعات من
كونها عبادة أم لا، وبذلك دعمت الكلمة الثانية، أعني: توحيد الكلمة. وأرجو من
الله أن يكون مصباحا لمن يريد الاهتداء. أنه بذلك قدير وبالإجابة جدير.
والله من وراء القصد.
جعفر السبحاني
20 - محرم الحرام - 1416 ه‍

4
مراتب التوحيد
التوحيد أساس دعوة الأنبياء
التوحيد ونبذ الشرك من أهم المسائل الاعتقادية التي تصدرت المفاهيم والتعاليم
السماوية على الإطلاق، ويعد أساسا لسائر التعاليم والمعارف الإلهية العليا التي
جاء بها أنبياء الله ورسله في ما أوتوا من كتب.
ثم إن مسألة التوحيد والشرك من المسائل التي اتفق فيها جميع المسلمين، ولم
يختلف في أصولها أحد منهم، فهم عن بكرة أبيهم يوحدون الله سبحانه من حيث
الذات، والفعل، والعبادة.
فالله سبحانه - عندهم جميعا - واحد في ذاته لا نظير له في الوجود ولا مثيل، كما
أنه هو المؤثر والخالق الواقعي في كل ما نسميه مؤثرا وخالقا. فلو كان هناك
مؤثر سواه أو خالق غيره، فإنما يفعل ويخلق بقدرته سبحانه وإرادته.
كما أنه هو المعبود الوحيد لا معبود سواه، ولا تحل عبادة غيره على الإطلاق. كل
ذلك مما يؤيده الكتاب والسنة والعقل والإجماع.
هذا وبما أن للتوحيد مراتب قد فصلها علماء الإسلام في كتبهم الكلامية
والاعتقادية نأتي بها - هنا - على سبيل الإجمال، ونردف كل قسم من تلك الأنواع
بما

5
يدل عليه من القرآن الكريم. غير أننا نركز البحث على " التوحيد في العبادة " الذي صار
ذريعة بأيدي البعض. فنقول: للتوحيد مراتب عديدة هي:
الأولى: التوحيد في الذات
والمراد منه هو أنه سبحانه واحد لا نظير له، فرد لا مثيل له، بل لا يمكن أن يكون له
نظير أو مثيل.
ويدل عليه - مضافا إلى البراهين العقلية - قوله سبحانه:
(فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا
يذرؤكم فيه ليس كمثله شئ وهو السميع البصير). (الشورى - 11).
وقوله سبحانه:
(قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد). (سورة
الإخلاص).
وقوله سبحانه:
(هو الله الواحد القهار) (الزمر - 4).
وقوله سبحانه:
(وهو الواحد القهار) (الرعد - 16).
إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى واحد لا نظير له ولا مثيل، ولا ثان له
ولا عديل.
وأما البراهين العقلية في هذا المجال، وإبطال خرافة " الثنوية " و " التثليث " فموكول
إلى الكتب المدونة لذلك (1).



(1) وقد جاء تفصيل الكلام في هذا النوع من التوحيد وغيره من الأنواع والمراتب في كتاب " مفاهيم القرآن في
معالم التوحيد " الصفحة 274 للمؤلف، وللاستزادة فراجع.
6
الثانية: التوحيد في الخالقية
والمراد منه هو أنه ليس في صفحة الوجود خالق أصيل غير الله، ولا فاعل مستقل
سواه سبحانه، وأن كل ما في الكون من كواكب وأرض وجبال وبحار، وعناصر
ومعادن، وسحب ورعود، وبروق وصواعق، ونباتات وأشجار، وإنسان وحيوان،
وملك وجن، وكل ما يطلق عليه أنه فاعل وسبب فهي موجودات غير مستقلة
التأثير، وأن كل ما ينتسب إليها من الآثار ليس لذوات هذه الأسباب بالاستقلال،
وإنما ينتهي تأثير هذه المؤثرات إلى الله سبحانه، فجميع هذه الأسباب
والمسببات - رغم ارتباط بعضها ببعض - مخلوقة لله، فإليه تنتهي العلية، وإليه
تؤول السببية، وهو معطيها للأشياء، وهو مجرد الأشياء من آثارها إن شاء.
ويدل على ذلك - مضافا إلى الأدلة العقلية - قوله سبحانه:
(قل الله خالق كل شئ وهو الواحد القهار) (الرعد - 16).
وقوله سبحانه:
(الله خالق كل شئ وهو على كل شئ وكيل) (الزمر - 62).
وقوله سبحانه:
(ذلكم الله ربكم خالق كل شئ لا إله إلا هو..) (المؤمن - 62).
وقوله سبحانه:
(ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شئ فاعبدوه..) (الأنعام - 102).

7
(هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى..) (الحشر - 24).
وقوله سبحانه:
(أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شئ..) (الأنعام - 101).
وقوله تعالى:
(يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالق غير الله..) (فاطر - 3).
وقوله تعالى:
(ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين) (الأعراف - 54)
وأما البرهان العقلي على حصر الخالقية في الله سبحانه فبيانه موكول أيضا إلى
الكتب الاعتقادية والكلامية.
الثالثة: التوحيد في الربوبية والتدبير (1)
والمراد منه هو أن للكون مدبرا واحدا، ومتصرفا واحدا لا يشاركه في التدبير شئ،
فهو سبحانه المدبر للعالم، وأن تدبير الملائكة وسائر الأسباب بعضها لبعض إنما
هو بأمره سبحانه، وهذه على خلاف ما كان يذهب إليه بعض المشركين حيث كان
يعتقد أن الذي يرتبط بالله تعالى إنما هو الخلق والإيجاد والابتداء، وأما تدبير
الأنواع والكائنات الأرضية فقد فوض إلى الأجرام السماوية



(1) فسر كتاب الوهابية " التوحيد في الخالقية " بالتوحيد في الربوبية مع أن الثاني غير الأول، فإن الثاني ناظر إلى
التوحيد في التدبير والإدارة والأول ناظر إلى التوحيد في الخلق والإيجاد، وكان المشركون موحدين في المجال
الأول أي التوحيد في الخالقية، وإن كان بعضهم مشركا في المجال الثاني أي التوحيد في التدبير والإدارة.
8
والملائكة والجن والموجودات الروحية التي كانت تحكي عنها الأصنام المعبودة، وليس
له أي دخالة في أمر تدبير الكون وإرادته، وتصريف شؤونه.
إن القرآن الكريم ينص - بمنتهى الصراحة - على أن الله هو المدبر للعالم، وينفي
أي تدبير مستقل لغيره سبحانه، وأنه لو كان هناك مدبر سواه فإنما يدبر بأمره. قال
سبحانه:
(إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش
يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون)
(يونس - 3).
وقال تعالى:
(الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس
والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم
توقنون) (الرعد - 2).
فإذا كان هو المدبر وحده فيكون معنى قوله سبحانه:
(فالمدبرات أمرا) (النازعات - 5). وقوله سبحانه: (وهو القاهر فوق عباده ويرسل
عليكم حفظة..) (الأنعام - 61). أن هؤلاء مدبرات بأمره وبإرادته، فلا ينافي ذلك
انحصار التدبير الاستقلالي في الله سبحانه.
ومن كان ملما بما ورد في القرآن الكريم عرف بأنه سبحانه حينما ينسب كثيرا من
الأفعال إلى نفسه وفي الوقت نفسه ينسبها إلى غيره في مواضع أخرى لا يكون
هناك أي تناقض أو تناف بين ذلك النفي وهذا الإثبات، لأن الحصر على ذاته إنما
هو على وجه الاستقلال، ولا ينافي ذلك تشريك الغير في هذا الفعل، بعنوان أنه
مظهر أمره سبحانه، ومنفذ إرادته، ولأجل أن يظهر هذا النوع من المعارف نأتي
بأمثلة في المقام:

9
1 - يعد القرآن - في بعض آياته - قبض الأرواح فعلا لله تعالى، ويصرح بأن الله
هو الذي يتوفى الأنفس حين موتها إذ يقول - مثلا -:
(الله يتوفى الأنفس حين موتها..) (الزمر - 42).
بينما نجده يقول في موضع آخر، ناسبا التوفي إلى غيره:
(حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا) (الأنعام - 61).
* * *
2 - يأمر القرآن - في سورة الحمد - بالاستعانة بالله وحده، إذ يقول:
(وإياك نستعين).
في حين نجده في آية أخرى يأمر بالاستعانة بالصبر والصلاة، إذ يقول:
(واستعينوا بالصبر والصلاة) (البقرة - 45).
* * *
3 - يعتبر القرآن الكريم الشفاعة حقا مختصا بالله وحده، إذ يقول:
(قل لله الشفاعة جميعا) (الزمر - 44).
بينما يخبرنا في آية أخرى عن وجود شفعاء غير الله كالملائكة:
(وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله)
(النجم - 26).
* * *

10
4 - يعتبر القرآن الاطلاع على الغيب والعلم به منحصرا في الله، حيث يقول:
(قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله) (النمل - 65)
فيما يخبر الكتاب العزيز في آية أخرى عن أن الله يختار بعض عباده لاطلاعهم
على الغيب، إذ يقول:
(وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء) (آل
عمران - 179).
* * *
5 - ينقل القرآن عن إبراهيم - عليه السلام - قوله بأن الله يشفيه إذا مرض، حيث
يقول:
(وإذا مرضت فهو يشفين) (الشعراء - 80).
وظاهر هذه الآية هو حصر الإشفاء من الأسقام في الله سبحانه، في حين أن الله
يصف القرآن والعسل بأن فيهما الشفاء أيضا، حيث يقول:
(فيه شفاء للناس) (النحل - 69).
(وننزل من القرآن ما هو شفاء) (الأسراء - 82).
* * *
6 - إن الله تعالى - في نظر القرآن - هو الرزاق الوحيد حيث يقول: (إن الله هو
الرزاق ذو القوة المتين) (الذاريات - 58).
بينما نجد القرآن يأمر المتمكنين وذوي الطول بأن يرزقوا من يلوذ بهم من
الضعفاء، إذ يقول:
(وارزقوهم فيها واكسوهم) (النساء - 5).
* * *

11
7 - الزارع الحقيقي - حسب نظر القرآن - هو الله، كما يقول:
(أفرأيتم ما تحرثون * أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون) (الواقعة - 63 و 64).
في حين أن القرآن الكريم في آية أخرى يطلق صفة الزارع على الحارثين، إذ
يقول:
(يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار) (الفتح - 29).
* * *
8 - إن الله هو الكاتب لأعمال عباده، إذ يقول:
(والله يكتب ما يبيتون) (النساء - 81).
في حين يعتبر القرآن الملائكة - في آية أخرى - بأنهم المأمورون بكتابة أعمال
العباد، إذ يقول:
(بلى ورسلنا لديهم يكتبون) (الزخرف - 80).
* * *
9 - وفي آية ينسب تزيين عمل الكافرين إلى نفسه سبحانه يقول:
(إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم) (النمل - 4)
وفي الوقت نفسه ينسبها إلى الشيطان:
(وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم) (الأنفال - 48).
وفي آية أخرى نسبها إلى آخرين وقال:
(وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم) (فصلت - 25).
* * *

12
10 - مر في هذا البحث حصر التدبير في الله حتى إذا سئل من بعض
المشركين عن المدبر لقالوا: هو الله، إذ يقول في الآية 31 من سورة يونس:
(ومن يدبر الأمر فسيقولون الله).
بينما اعترف القرآن بصراحة في آيات أخرى بمدبرية غير الله حيث يقول:
(فالمدبرات أمرا) (النازعات - 5).
* * *
فمن لمن يكن له إلمام بمعارف القرآن يتخيل لأول وهلة أن بين تلك الآيات
تعارضا غير أن الملمين بمعارف الكتاب العزيز يدركون أن حقيقة هذه الأمور
(أعني الرازقية، والإشفاء..) قائمة بالله على نحو لا يكون لله فيها أي شريك فهو
تعالى يقوم بها بالأصالة وعلى وجه " الاستقلال "، في حين أن غيره محتاج إليه
سبحانه في أصل وجوده وفعله، فما سواه تعالى يقوم بهذه الأفعال والشؤون على
نحو " التبعية " وفي ظل القدرة الإلهية.
وبما أن هذا العالم هو عالم الأسباب والمسببات، وأن كل ظاهرة لا بد أن تصدر
وتتحقق من مجراها الخاص بها المقرر لها في عالم الوجود ينسب القرآن هذه
الآثار إلى أسبابها الطبيعية دون أن تمنع خالقية الله من ذلك، ولأجل ذلك يكون
ما تقوم به هذه الموجودات فعلا لله في حين كونها فعلا لنفس الموجودات. غاية
ما في الأمر أن في نسبة هذه الأمور إلى الموجود الطبيعي نفسه إشارة إلى الجانب
" المباشري "، وفي نسبتها إلى " الله " إشارة إلى الجانب " التسبيبي ".
ويشير القرآن إلى كلا هاتين النسبتين في قوله سبحانه:
(وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) (الأنفال - 17).

13
ففي حين يصف القرآن النبي الأعظم بالرمي، إذ يقول بصراحة (إذ رميت) نجده
يصف الله بأنه هو الرامي الحقيقي. وذلك لأن النبي إنما قام بما قام بالقدرة التي
منحها الله له، فيكون فعله فعلا لله أيضا، بل يمكن أن يقال: إن انتساب الفعل إلى
الله (الذي منه وجود العبد وقوته وقدرته) أقوى بكثير من انتسابه إلى العبد بحيث
ينبغي أن يعتبر الفعل فعلا لله لا غير ولكن شدة الانتساب هذه لا تكون سببا لأن
يكون هو الله سبحانه مسؤولا عن أفعال عباده، إذ صحيح أن المقدمات الأولية
للظاهرة مرتبطة بالله وناشئة منه إلا أنه لما كان الجزء الأخير من العلة التامة هو
إرادة الإنسان ومشيئته بحيث لولاها لما تحققت الظاهرة، يعد هو مسؤولا عن
الفعل.
هذا وحيث إننا ركزنا البحث - في هذه الرسالة - على بيان موازين التوحيد
والشرك من وجهة نظر القرآن الكريم، لذلك تركنا الأدلة العقلية على هذا القسم
من التوحيد، غير أن القرآن الكريم أشار في موضعين إلى برهان هذا القسم
فنذكرهما بتوضيح إجمالي فنقول:
إن القرآن استدل على وحدة المدبر في العالم ببرهان ذا شقوق، وقد جاء البرهان
ضمن آيتين تتكفل كل واحدة منهما بيان بعض الشقوق من البرهان، وإليك
الآيتين:
(لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون) (الأنبياء -
22).
(وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان
الله عما يصفون) (المؤمنون - 91).
وإليك مجموع شقوق البرهان:

14
إن تصور تعدد المدبر لهذا العالم يكون على وجوه:
1 - أن يتفرد كل واحد من الآلهة المدبرة بتدبير مجموع الكون باستقلاله، بمعنى أن
يعمل كل واحد ما يريده في الكون دونما منازع، ففي هذه الصورة يلزم تعدد
التدبير لأن المدبر متعدد ومختلف في الذات فيلزم تعدد التدبير، وهذا يستلزم
طروء الفساد على العالم وذهاب الانسجام المشهود وهذا ما يشير إليه قوله
سبحانه:
(لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون)
2 - وأما أن يدبر كل واحد قسما من الكون الذي خلقه، وعندئذ يجب أن يكون
لكل جانب من الجانبين نظام مستقل خاص مغاير لنظام الجانب الآخر وغير
مرتبط به أصلا، وعندئذ يلزم انقطاع الارتباط وذهاب الانسجام من الكون، في
حين أننا لا نرى في الكون إلا نوعا واحدا من النظام يسود كل جوانب الكون من
الذرة إلى المجرة.
وإلى هذا الشق أشار بقوله: في الآية الثانية:
(إذا لذهب كل إله بما خلق).
3 - أن يتفضل أحد هذه الآلهة على البقية ويكون حاكما عليهم ويوحد جهودهم،
وأعمالهم ويسبغ عليها الانسجام والاتحاد وعندئذ يكون الإله الحقيقي هو هذا
الحاكم دون الباقي.
وإلى هذا يشير قوله سبحانه:
(ولعلا بعضهم على بعض).
فتلخص أن الآيتين بمجموعهما تشيران إلى برهان واحد ذا شقوق تتكفل كل
واحدة منهما بيان شق خاص.

15
الرابعة: التوحيد في التشريع والتقنين:
لا يشك عاقل في أن حياة الإنسان الاجتماعية تحتاج إلى قانون ينظم أحوال
المجتمع البشري وأوضاعه ويقوده إلى الكمال الذي الذي خلق له، (والكل ميسر
لما خلق).
غير أن القرآن الكريم لم يعترف بتشريع للبشرية سوى تشريع الله سبحانه،
ولا قانون سوى قانونه، فهو يراه المشرع الوحيد الذي يحق له التقنين خاصة،
وغيره المنفذ للقانون الإلهي المطبق لتشريعه.
وقد وردت في هذا الصدد آيات في الذكر الحكيم نكتفي بذكر قسم منها:
(ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان
إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس
لا يعلمون) (يوسف - 40).
فالمراد من حصر الحاكمية على الله هو حصر الحاكمية التشريعية عليه سبحانه،
فالآية تهدف إلى أنه لا يحق لأحد أن يأمر وينهى ويحرم ويحلل سوى الله
سبحانه، ولأجل ذلك قال بعد قوله:
(إن الحكم إلا لله): (أمر ألا تعبدوا إلا إياه).
فكأن أحدا يسأل عن أنه إذا كان الأمر مختصا به سبحانه فماذا أمر الله في مورد
العبادة فأجاب على الفور:
(أمر ألا تعبدوا إلا إياه).
وقال سبحانه:
(أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) (المائدة - 50).

16
إن هذه الآية تقسم القوانين الحاكمة على البشر إلى قسمين: إلهي، وجاهلي، وبما
أن ما كان من صنع الفكر البشري ليس إلهيا فهو بالطبع يكون حكما جاهليا.
وقال سبحانه:
(.. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون).
وقال:
(.. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون).
وقال:
(.. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون) (المائدة - 44 و 45 و 47).
وهذه الآيات وإن كانت تصف الحاكم بغير ما أنزل الله بالصفات الثلاث لا المقنن
والمشرع البشري غير أنها تدل تلويحا على حرمة نفس التقنين بغير إذنه، لأن
الهدف من تشريع الأحكام وتقنين القوانين جعلها وسيلة للحكم والقضاء، وإلا
فالتشريع والتقنين بدون التنفيذ والتطبيق لا يحوم حوله عاقل.
فهذه المقاطع الثلاثة توضح أن ممنوعية التقنين والتشريع بهدف الحكم على وفقه
كانت موجودة في الشرائع الإلهية السالفة أيضا، وما ذلك إلا لأجل أن التقنين أولا،
والحكم ثانيا حق مخصوص بالله سبحانه، لم يفوضه إلى أحد من خلقه، ولأجل
ذلك يصف المبدل للنظام الإلهي بالكفر تارة، والظلم أخرى، وبالفسق ثالثة.
فهم كافرون لأنهم يخالفون التشريع الإلهي بالرد والإنكار والجحود.
وهم ظالمون لأنهم يسلمون حق التقنين الذي هو خاص بالله إلى غيره.
وهم فاسقون لأنهم خرجوا بهذا الفعيل عن طاعة الله سبحانه.
وأما ما يفعله العلماء والفقهاء فهو تخطيط كل ما يحتاج إليه المجتمع الإسلامي في
إطار القوانين والضوابط الإلهية والإسلامية، وليس ذلك بتشريع أو تقنين.

17
الخامسة: التوحيد في الطاعة:
والمراد منه أنه ليس هناك من تجب طاعته بالذات إلا الله تعالى فهو وحده الذي
يجب أن يطاع، وهو وحده الذي يجب أن تمتثل أوامره، وأما طاعة غيره فتجب
بإذنه وأمره، وإلا كانت محرمة، موجبة للشرك.
ولأجل ذلك نجد القرآن الكريم يطرح مسألة الطاعة لله وحده مصرحا
بانحصارها فيه إذ يقول:
(وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) (البينة - 5) والدين في الآية بمعنى
الطاعة، أي مخلصين الطاعة له ولا يطيعون غيره. ويقول:
(فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم) (التغابن - 16).
ثم يصرح القرآن الكريم بأن النبي لا يطاع إلا بإذنه سبحانه إذ قال:
(وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله) (النساء - 64)
وعلى ذلك فكل من افترض الله طاعته، والانقياد لأوامره، والانتهاء عن مناهيه،
فلأجل إذنه سبحانه.
فإطاعة النبي وأولي الأمر، والوالدين وغيرهم إنما لأجل إذنه وأمره سبحانه، ولولاه
لم تكن لتجز طاعتهم، والانقياد لأوامرهم.
وعلى الجملة فهاهنا مطاع بالذات، وهو الله سبحانه وغيره مطاع بالعرض وبأمره.
وأما علة اختصاص الطاعة ووجهه فبيانه موكول إلى الكتب الكلامية.

18
السادسة: التوحيد في الحاكمية:
لا يشك أي عاقل يدرك أن الحكومة حاجة طبيعية يتوقف عليها حفظ النظام في
المجتمع البشري، وقيام الحضارة المدنية، وتعريف أفراد المجتمع بواجباتهم
ووظائفهم، وما لهم وما عليهم من الحقوق.
وحيث إن إعمال الحكومة والحاكمية في المجتمع لا ينفك عن التصرف في
النفوس والأموال، وتنظيم الحريات وتحديدها أحيانا، والتسلط عليها، احتاج
ذلك إلى ولاية بالنسبة إلى الناس، ولولا ذلك لعد التصرف عدوانا.
وبما أن جميع الناس سواسية أمام الله، والكل مخلوق له بلا تمييز، فلا ولاية لأحد
على أحد بالذات، بل الولاية لله المالك الحقيقي للإنسان، والكون، والواهب له
وجوده وحياته فلا يصح لأحد الإمرة على العباد إلا بإذن من الله سبحانه.
فالأنبياء والعلماء والمؤمنون مأذونون من قبله سبحانه في أن يتولوا الأمر من
جانبه ويمارسوا الحكومة على الناس من قبله، فالحكومة حق مختص بالله
سبحانه، والإمارة ممنوحة من جانبه.
قال سبحانه:
(إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس
لا يعلمون) (يوسف - 40).
والحكم له معنى وسيع أوسع من التشريع والتقنين والمراد منه هنا هو الحاكمية
على الإنسان ولأجل كونه واجدا لذلك المقام، أصدر أمرا بعدم عبادة غيره.
ويوضح الانحصار قوله سبحانه:
(إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين) (الأنعام - 57).

19
(ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين) (الأنعام - 62)
نعم إن اختصاص حق الحاكمية بالله سبحانه ليس بمعنى قيامه شخصيا بممارسة
الإمرة، بل المراد أن من يمثل مقام الإمرة في المجتمع البشري يجب أن يكون
مأذونا من جانبه سبحانه لإدارة الأمور، والتصرف في النفوس والأموال.
ولأجل ذلك نرى أنه سبحانه يمنح لبعض الأنبياء حق الحكومة بين الناس، إذ
يقول:
(يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى
فيضلك عن سبيل الله) (سورة ص - 26).
ولأجل ذلك يجب أن تكون الحكومة في المجتمع الإسلامي مأذونة من قبل الله
سبحانه ممضاة من جانبه، وإلا كانت من حكم الطاغوت، الذي شجبه القرآن في
أكثر من آية.
السابعة: التوحيد في العبادة:
والمراد منه حصر العبادة لله سبحانه وحده وهذا هو الأصل المتفق عليه بين
جميع المسلمين بلا اختلاف منهم قديما، وفي هذا العصر، فلا يكون المسلم
مسلما إلا بعد الاعتراف بهذا الأصل.
بيد أن الاتفاق على هذا الأصل لا يستلزم الاتفاق في بعض الأمور التي وقع
الاختلاف في كونها عبادة لغير الله سبحانه، أو أنها تكريم واحترام، وإكبار
وتبجيل.
وعلى الجملة فالكبرى، أعني كون العبادة خاصة الله لا يشاركه فيها شئ، مما لم
يختلف فيها اثنان، وإنما الكلام في تشخيص الصغرى وإنه هل العمل الفلاني

20
- مثلا - عبادة لغير الله حتى يكون نفس العمل شركا، والفاعل مشركا فيخرج عن ربقة
الإسلام، وجادة التوحيد، أو أنه تكريم وتبجيل لأهداف مقدسة لا يمت إلى العبادة
- فضلا عن عبادة غير الله - بصلة؟
وهذا الأصل هو الذي عزمنا في هذه الرسالة على بيانه وتوضيحه فإن كثيرا من
الوهابيين جعلوا " الشرك في العبادة " ذريعة لتكفير كثير من المسلمين، وجعلهم
في سلك المشركين في العبادة، ولأجل أن يتجلى هذا الموضوع بأفضل نحو
نقول:
إن الأصل الذي يجب أن نتوصل إليه قبل كل شئ، هو تحديد مفهوم العبادة في
ضوء القرآن الكريم والسنة المطهرة حتى يكون معيارا ثابتا في تشخيص العبادة
عن غيرها، إذ لولا هذا لم يثمر البحث، ولم يتم الجدال والنقاش.
فهذا هو الأصل اللازم الذي غفل عنه مؤلفو الوهابية، فأخذوا يصفون كثيرا من
أعمال المسلمين بالشرك في العبادة من دون أن يحددوا قبل ذلك ضابطة قرآنية
ثابتة وواضحة، غير أننا قبل أن نتوصل، إلى تحديد مثل هذه الضابطة نقدم أمورا
هي:

21
الفصل الأول
عشر مقدمات ضرورية..

23
1 - نبذ الشرك أساس دعوة الأنبياء:
الأمر الذي كان يشكل أساس دعوة الأنبياء في جميع عهود الرسالة السماوية هو:
دعوة البشر إلى عبادة (الله الواحد) والاجتناب عن عبادة غيره.
فالتوحيد في العبادة وتحطيم أغلال الشرك والوثنية كان من أهم التعاليم السماوية
التي تحتل مكان الصدارة في رسالات الأنبياء - عليهم السلام - حتى كأن الأنبياء
والرسل لم يبعثوا - أجمع - إلا لهدف واحد هو تثبيت دعائم التوحيد ومحاربة
الشرك.
لقد ذكر القرآن هذه الحقيقة - بجلاء - إذ قال:
(ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) (النحل - 36).
(وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) (الأنبياء -
25).
ثم في موضع آخر يصف القرآن الكريم التوحيد في العبادة بأنه الأصل المشترك
بين جميع الشرائع السماوية إذ يقول:
(قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله

25
ولا نشرك به شيئا) (آل عمران - 64).
وإذا أردت أن تعرف كيف بين القرآن الكريم (الشرك) في العبادة أو جميع أقسامه
وصور المشرك في فقده ما يعتمد عليه في حياته فتدبر في الآية التالية إذ يقول
تعالى:
(ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان
سحيق)!! (الحج - 31).
ولا يستطيع أي تشبيه على ترسيم بطلان الشرك وضياع المشرك وخيبته وحيرته
بأوضح مما رسمته هذه الآية الكريمة.
2 - منشأ الشرك والوثنية:
من العسير جدا إبداء الرأي في جذور الوثنية ومنشأ هذا الانحراف العقيدي ونموه
بين البشر، خاصة أن موضوع الوثنية لم يكن عند قوم أو قومين، ولا في شكل أو
شكلين، ولا في منطقة أو منطقتين ليتيسر للباحث إبداء نظر قطعي فيه وفي
نشوئه.
فالوثنية عند " عرب الجاهلية " مثلا تختلف عما عليها عند " البراهمة " وهي عند
" البوذيين " تختلف عما هي عليها عند " الهندوس " فاعتقادات هذه الطوائف
والشعوب مختلفة في موضوع الشرك بحيث يعسر تصور قدر مشترك بينها (1).
أما العرب البائدة مثل عاد وثمود أمم هود وصالح، ومثل سكنة مدين



(1) شرحت دوائر المعارف، وبخاصة دائرة معارف البستاني معتقدات هذه الشعوب الآسيوية التي تعيش في رقعة
كبيرة في آسيا.
26
وسبأ: أمم شعيب وسليمان، فكانوا بين وثنيين وعبدة الشمس (1) وقد ذكرت عقائدهم
وطريقة تفكيرهم في القرآن الكريم.
وقد كان عرب الجاهلية من أولاد إسماعيل موحدين ردحا من الزمن، يتبعون
تعاليم النبي إبراهيم وولده إسماعيل - عليهما السلام - ولكن - على مر الزمان
وعلى أثر الارتباط بالشعوب والأمم الوثنية - حلت الوثنية محل التوحيد في
المجتمع العربي الجاهلي تدريجيا (2).
هذا حال الأمة العربية العائشة في تلكم النواحي. وأما الأمة العائشة في مكة
وضواحيها المقاربة لعصر الرسول فقد نقل المؤرخون أن أول من أدخل الوثنية في
مكة ونواحيها وروجها فيها هو: " عمرو بن لحي ".
فقد رأى في سفره إلى البلقاء من أراضي الشام أناسا يعبدون الأوثان، وعندما
سألهم عما يفعلون قائلا:
ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدونها؟!
قالوا: هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا ونستنصرها فتنصرنا!
فقال لهم: أفلا تعطونني منها فأسير به إلى أرض العرب فيعبدوه؟
وهكذا استحسن طريقتهم واستصحب معه إلى مكة صنما كبيرا باسم " هبل "
ووضعه على سطح الكعبة المشرفة، ودعا الناس إلى عبادتها (3)!.
ثم إنه لما أصاب المسلمين مطر في الحديبية لم يبل أسفل نعالهم أي ليلا، فنادى
منادي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أن صلوا في رحالكم، وقال صلى
الله عليه وآله وسلم صبيحة ليلة الحديبية لما



(1) قال سبحانه: (وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله) (النمل - 24).
(2) وهذا يعطي أن الوثنية تمتد جذورها في المجتمع العربي الجاهلي إلى زمن بعيد وإن كان دخولها إلى مكة
وضواحيها ليس بذاك البعد حسب ما ينقله ابن هشام وغيره من أهل السيرة والتاريخ.
(3) سيرة ابن هشام: 1 / 79.
27
صلى بهم: " أتدرون ما قال ربكم "؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: قال الله عز وجل:
صبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا برحمة الله وفضله فهو مؤمن
بالله وكافر بالكواكب، ومن قال: مطرنا بنجم كذا وفي رواية بنوء كذا وكذا فهو
مؤمن بالكواكب وكافر بي " (1).
وهذان النصان التاريخيان يثبتان في نفس الوقت بأن العرب الجاهليين بعضهم أو
كلهم كانوا مشركين في الربوبية، ومعتقدين بأن الأمطار بيد الأصنام فكانوا
يستمطرونها، ويزعمون بأنها تمطرهم. فاجعل هذا على ذكر منك لأهميته في
الأبحاث القادمة.
هذا ويرى بعض الباحثين أن " الوثنية " نشأت من تعظيم الشخصيات وتكريمهم
وتخليدهم، فعندما كان يموت أحد الشخصيات كانوا ينحتون له تمثالا لإحياء
ذكراه وتخليد مثاله في أفئدتهم، ولكن مع مرور الزمن وتعاقب الأجيال كانت
تتحول هذه التماثيل - عند تلك الأقوام - إلى معبودات، وإن لم تقترن ساعة صنعها
بمثل هذا الاعتقاد.
وأحيانا كان رئيس عائلة يحظى باحترام وتعظيم كبيرين - في حياته - حتى إذا
مات نحتوا له تمثالا على صورته وعكفوا على عبادته.
وفي اليونان والروم القديمتين كان رب العائلة ورئيسها يعبد من قبل أهله فإذا
توفي عبدوا تمثاله.
وتوجد اليوم في متاحف العالم أصنام وتماثيل لرجال الدين وللشخصيات البارزة
الذين كانوا - ذات يوم - أو كانت أصنامهم تعبد كما يعبد الإله.



(1) السيرة الحلبية: 3 / 29.
28
ومن محاورة النبي إبراهيم - عليه السلام - مع كبير قومه: " نمرود " يستفاد بوضوح
أن نمرود كان موضع العبادة من جانب قومه.
كما يتبين بأن فرعون زمان موسى - عليه السلام - رغم أنه كان بنفسه معبودا عند
قومه كان يعبد أصناما، خاصة، لعلها كانت أشكالا لشخصيات سابقة من أسلاف
فرعون، حيث يخبرنا القرآن الكريم قائلا:
(وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك
وآلهتك) (الأعراف - 127).
خلاصة النظر أن هذه الأصنام والتماثيل كانت تنحت وتصنع بادئ الأمر لتخليد
ذكرى رجال دين وزعماء وشخصيات كبار، ولكن مع مرور الزمن وانقراض
أجيال وحلول أجيال أخرى مكانها كان هذا الهدف ينحرف عن مجراه الأصلي،
وتتحول تلك التماثيل إلى معبودات، وتلك الأصنام إلى آلهة مزعومة.
3 - حصر التوحيد في العبادة بالله تعالى:
والمقصود بهذا التوحيد هو أن نفرد خالق الكون بالعبادة ونرفض عبادة غيره مما
يكون مخلوقا له تعالى. وهذا في مقابل الشرك في العبادة الذي يعني أن يعبد
الإنسان - رغم اعتقاده بوحدانية خالق هذا الكون - مخلوقا، أو مخلوقات، لسبب
من الأسباب.
وهذا هو ما تسميه الوهابية بالتوحيد في الألوهية، كما تسمي التوحيد الذاتي
بالتوحيد في الربوبية، وكلا الاصطلاحين خطأ لما ستعرف من معنى الألوهية وأن
معناها ليس المعبودية، بل (الإله، والله) متساويان من حيث المبدأ أو المفهوم، غير

29
أن الأول كلي والثاني علم لواحد من مصاديق ذاك الكلي.
وأما الربوبية فهي بمعنى التدبير والتصرف في الكون، لا " الخالقية " وإن كان التدبير
من حيث الأدلة الفلسفية لا ينفك عن الخالقية.
والأولى بل المتعين أن نعبر عن التوحيد الذاتي بالتوحيد في الألوهية، وأنه ليس
هناك إله إلا الله، لا أن هناك إله أعلى وهو الله سبحانه، وآلهة صغار يملكون بعض
شؤونه سبحانه، من الشفاعة والمغفرة وغيرهما مما هو من أفعاله سبحانه كما كان
عليه عرب الجاهلية.
كما أن المتعين أن نعبر عن " التوحيد في الخلق " بالتوحيد في الخالقية لا التوحيد
في الربوبية - لما عرفنا من أن الرب ليس بمعنى الخالق وإن كان لا ينفك عنه في
الصعيد الخارجي حسب البرهان العقلي.
كما أن المتعين أن نعبر عن التوحيد في العبادة بهذا اللفظ نفسه لا بالتوحيد
الألوهي لما عرفت من أن الإله ليس بمعنى المعبود.
والحاصل أنه ليس المطروح في هذه المرحلة من الشرك هو: تعدد الإلهة ولا
الاعتقاد بأن للكون أجمع خالقا غير الله الواحد الذي خلق الكون بما فيه من الآلهة
المزعومة ولكن مع هذا الاعتراف ربما تترك عبادة الإله الواحد، ويعبد غيره.
وتختلف دوافع " عبادة المخلوق أو المخلوقات " عند الأمم والشعوب، فربما
كانت علة بسيطة، وأحيانا كان يتخذ الدافع صبغة فلسفية. وفيما يلي نستعرض
أهم دوافع الشرك.

30
4 - دوافع الشرك في العبادة:
نشير - من بين الدوافع الكثيرة - إلى ثلاثة:
أ) الاعتقاد بتعدد الخالق.
كان الوثنيون ومن شاكلهم من القائلين بالتثليث، بحكم اعتقادهم بالثنوية والتثليث
مضطرين إلى عبادة أكثر من إله.
ففي البوذية تجلى الإله الأزلي الأبدي في ثلاثة آلهة، أو ثلاثة مظاهر بالأسماء
التالية:
1 - براهما - أي الإله الموجد.
2 - فيشنو - أي الإله الحافظ المبقي.
3 - سيفا - أي الإله المفني.
وفي النصرانية ظهر بالأسماء التالية:
1 - الأب.
2 - الابن.
3 - روح القدس.
وفي الدين الزرادشتي اعتقد - إلى جانب " اهورا مزدا " بإلهين آخرين هما:
1 - يزدان.
2 - أهريمن (1).



(1) وعلى هذا التفسير يصير المجوس من الثنوية بلحاظ، ومن أهل التثليث بلحاظ آخر فتدبر.
31
وإن كانت عقيدة الزرادشتيين - الواقعة في شأن هذين الإلهين الأخيرين تكتنفها
حالة من الإبهام والغموض.
وعلى كل حال فإن الاعتقاد بتعدد الذات الإلهية كان أحد الدوافع وراء عبادة غير
الله، والسبب للشرك في العبادة، وقد أبطل القرآن الكريم بالبراهين العديدة
الواضحة أساس مثل هذا الاعتقاد.
ب) تصور ابتعاد الخالق عن المخلوق:
وقد كان الدافع الثاني لعبادة الله هو تصور ابتعاد الله عن المخلوق، بمعنى أنهم
كانوا يظنون أن الله بعيد عن المخلوقين لا يسمعهم ولا تبلغه أدعيتهم وطلباتهم.
ولذلك اختاروا وسائل ظنوا أنها تتكفل إيصال أدعيتهم إليه، وكأن المقام الربوبي
كالمقامات البشرية لا يمكن الوصول إليها إلا عن طريق الوسائط، ومن أجل هذا
راحوا يعبدون القديسين والملائكة والجن والأرواح لتوصل دعواتهم إلى المقام
الربوبي.
ولقد أبطل القرآن الكريم هذه التصورات ببيانات متنوعة ومتعددة يقول فيها: بأن
الله أقرب من كل قريب.
وأنه تعالى يسمع سرهم ونجواهم وعلانيتهم.
وأنه تعالى محيط بما يسرون ويعلنون.
ولذلك فلا حاجة إلى اتخاذ تلك الآلهة المصطنعة، ولا حاجة إلى عبادتها، إذ لو
كان الهدف من عبادتها هو توسطهم لإيصال مطالبهم إلى الله فالله يعلم بها جميعا
وهو الذي لا يعزب عنه شئ.

32
وجاء كل هذا في الآيات التالية:
(ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) (ق - 16).
(أليس الله بكاف عبده) (1) (الزمر - 36).
(ادعوني أستجب لكم) (2) (غافر - 60).
(قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله) (آل عمران - 29).
(ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم) (المجادلة -
7).
وبهذه الآيات وغيرها يبطل القرآن هذا الدافع للوثنية والشرك....
ج) تفويض التدبير إلى صغار الآلهة:
يجد كل إنسان في قرارة نفسه الخضوع للقدرة العليا، ويستصغر نفسه في قبالها،
ومثل هذا الإحساس الفطري وإن لم يظهر على اللسان والجوارح الأخرى لكنه
يكمن في قرارة الضمير في صورة نوع من الإحساس بالخضوع هذا من
جانب. ومن جانب آخر اعتاد الإنسان على التعامل مع الموجودات المحسوسة
فيريد صب كل أمر في قالب المحسوس....
وعلى هذا الأساس يريد المشرك أن يصب القوى الغيبية في صورة الأجسام
المشاهدة، والأشكال المنظورة، أضف إلى ذلك أنه لقصور فكره، أو لتصور أن كل
حادثة في هذا الكون أنيطت إلى قوة قاهرة هي أيضا مخلوقة لله كإله البحر، وإله
الحرب، وإله السلام، وكأن حكومة الكون مثل حكومات الأرض يفوض فيها كل
جانب من جوانب الحياة إلى واحد. وتكون هذه القدرة مختارة فيما تريد، وفعالة
لما



(1) نعم ليست صراحة الآيتين في ما نرتأيه، مثل الآية المتقدمة فلاحظ.
(2) نعم ليست صراحة الآيتين في ما نرتأيه، مثل الآية المتقدمة فلاحظ.
33
تشاء!!!
من أجل هذا عبد سكنة شواطئ البحار (إله البحر) لكي يجود عليهم بنعم البحر
ويدفع عنهم آفاته وغوائله كالطوفان، فيما عبد سكنة الصحاري (إله البر) ليفيض
عليهم بمنافعها، ويدفع عنهم مضارها، كالزلزال وما شابه ذلك من آفات الأرض،
وغوائل الصحراء.
ولكن حيث إنهم ما كانوا متمكنين من رؤية هذه الآلهة التي توهموها واخترعوها،
افترضوا لها صورا خيالية، وأشكالا وهمية، ونحتوا على غرارها تماثيل وأصناما،
وراحوا يعبدون هذه الأصنام المصنوعة بدلا عن عبادة القوى الغيبية نفسها التي
تمثلها هذه الأصنام - كما في زعمهم -.
لهذا السبب كان بين عرب الجاهلية فريق يعبد الملائكة، وفريق آخر يعبد الجن،
وثالث يعبد الكواكب الثابتة كالشعرى، رابع يعبد الكواكب السيارة، وكان الهدف
من عبادتها - جميعا - هو جلب خيرها ونفعها، واجتناب ضررها وشرورها.
ولقد كانوا يتمتعون - في صنع التماثيل والأصنام - من سعة نظر خاصة، فهم لم
يلزموا أنفسهم بأن يصنعوا ما ينطبق على الصور الواقعية لتلك الأشياء ولذلك
كانوا يصنعون لكل واحد من الآلهة الموهومة أصناما لا تشبه صورها الواقعية أبدا
كإله الحرب، وإله السلام، وإله الحب، ولكن في كل هذا كان الدافع الوحيد هو
صب الأمور الغيبية في قالب المحسوسات، وحيث إن هذه الأرباب والآلهة
(الصغار) لم تكن بذاتها في متناول الإحساس، وكان للكواكب طلوع وأفول، وكان
التوجه إليها لا يخلو - لذلك - من مشقة فتوجهوا صوب تماثيلها، وصاروا إلى
عبادتها.
ولقد انتقد القرآن وشجب بشدة فكرة تفويض القدرة وأمر تدبير الكون إلى الآلهة
الصغار المدعاة المخلوقة لله، ووصف الله في مواضع عديدة، بأنه المدبر

34
الوحيد لأمور الكون حيث يقول:
(ثم استوى على العرش يدبر الأمر) (يونس - 3) (1).
لقد جعل القرآن الكريم - في آيات كثيرة - الخلق والإحياء والإماتة وتسيير
الكواكب والأفلاك وتنظيم الشمس والقمر والأرزاق، أفعالا مختصة بالله تعالى
(2) وشجب بعنف وشدة كل فكرة تقضي بإشراك أية قدرة مع الله، وكل فكرة
تقول: بتفويض تدبير الأمور الكونية إلى مخلوقاته.
إن الآيات القرآنية الواردة في هذا الشأن من الكثرة بحيث يعسر نقل عشرها هنا،
ولكن للاطلاع نذكر ونورد بعض هذه الآيات:
(إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش
يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له
الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين) (الأعراف - 54).
(قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج
الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا
تتقون * فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون) (يونس
- 31 - 32).
* * *



(1) راجع الرعد الآية (2) والسجدة الآية (5).
(2) اختصاص هذا النوع من الأمور بالله لا يمنع من توسيط الأسباب التي تعمل هي أيضا بأمر الله ومشيئته وتكون
قدرتها في طول القدرة الإلهية، وواضح أن الاعتقاد بتلك الأمور بما هي أسباب لا يعني تفويض أمر الكون إليها.
فراجع كتاب مفاهيم القرآن الجزء الأول - الفصل الثامن، التوحيد في الربوبية والتدبير.
35
إلى هنا بينا ثلاثة دوافع للإشراك بالله في العبادة ولن ندعي - مطلقا - بأن لا يكون
ثمة دافع آخر للشرك غير ما ذكرناه، ولكن الدوافع التي ينتقدها القرآن الكريم
كانت أساس نشوء الشرك وانتشاره في العالم.
إن المسلم المعتقد بإله الكون، الإله الواحد، الإله الحاضر في كل مكان، القريب إلى
عباده، الإله الذي بيده الخلق المدبر للكون بنفسه الذي لم يعط أمره ولم يفوضه
إلى أحد.
إن المسلم مع هذا الاعتقاد، لا يمكن أن يتخذ معبودا سوى الله، بل لا تكفي عبادته
وحده، إنما يجب عليه أن يحارب عقائد الشرك والوثنية، وأن لا يرضى بتجاوز
أحد عن دائرة التوحيد لحظة واحدة.
* * *
وحول الدافع الثالث نذكر بنكتة مهمة وهي: أنه قد يمكن أن يعتقد أحد بأن أمر
الكون كله لله، ولم يسلم هذا النوع من الأمور إلى غيره، ولكن يعتقد بأن الأمور
المعنوية التي ترتبط بأعمال العباد كالشفاعة والمغفرة التي هي من الأمور
المختصة بالله قد أعطاها ومنحها للأفراد، وهذا هو أحد دوافع عبادة غير الله،
ولقد جعل القرآن الكريم: الشفاعة - بصراحة تامة - محض حق الله فلا يمكن
لأحد أن يشفع بدون إذنه إذ يقول:
(قل لله الشفاعة جميعا) (الزمر - 44).
كما جعل الغفران والمغفرة لذنوب عباده حقا مختصا به سبحانه لا يشاركه فيه
أحد غيره، ومن زعم أن المغفرة بيد غيره سبحانه فقد أشرك. قال تعالى:

36
(فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله) (آل عمران - 135).
ولقد كان فريق من وثنيي عصر الرسالة يعبدون الأصنام التي كانوا يتصورون أنها
من ذوي النفوذ عند الله، أنها أنيطت بهم أمور الشفاعة والمغفرة.
وسوف نتحدث في البحوث القادمة حول هذا النوع من الشرك الذي هو أضعف
أنواعه. وإذا تبينت هذه الدوافع واتضحت لنا كيفية انتقاد القرآن الكريم لها يلزم أن
نلتفت إلى ما يذكره أغلب كتاب الوهابيين ومؤلفيهم في كتبهم.
5 - تفسير التوحيد الألوهي والربوبي:
لم يزل مؤلفوا الوهابية يعترفون بنوعين من التوحيد ويسمون النوع الأول من
التوحيد ب‍ " التوحيد الربوبي " ويسمون النوع الآخر ب‍ " التوحيد الألوهي " ثم
يذكرون أن التوحيد الربوبي، والاعتقاد بوحدانية الخالق لا يكفي بمجرده في
التوحيد الذي بعث الأنبياء والرسول الأعظم خاصة من أجل إقراره ونشره في
المجتمع الإنساني، بل يجب - علاوة على التوحيد الربوبي - أن يفرد الله بالعبادة
ولا يشرك به أحد، لأن مشركي العرب مع أنهم كانوا يوحدون خالق الكون
ويعتقدون بأنه واحد لا أكثر فإن القرآن كان يعتبرهم مشركين إذ يقول:
(وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) (يوسف - 106) (1).



(1) " فتح المجيد " تأليف الشيخ عبد الرحمان بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب المتوفى عام (1285 ه‍): ص 12 و 20
وهذا يدرس الآن في المناهج الدراسية عندهم، ويؤكدون على هذين النوعين من التوحيد ثم يتهمون المسلمين
بأنهم موحدون ربوبيا لا ألوهيا.
وقد عرفت في ما مضى أن تسمية التوحيد في الخالقية بالتوحيد الربوبي، وتسمية التوحيد في العبادة بالتوحيد
الألوهي خطأ من حيث اللغة ومصطلح القرآن.
37
ولا كلام في هذا المطلب وليس من المسلمين أحد يتحلى بالواقعية ينكر عدم
كفاية التوحيد الربوبي وحده، بل للتوحيد - كما أسلفنا - مراحل أربع وإن اقتصر
الوهابيون على مرحلتين منها ونسوا أو تناسوا المرحلتين الأخريين.
غير أن الجدير بالذكر هو: أنه لا يختلف أحد مع هؤلاء في هذه المسألة الكلية،
فالجميع متفقون على وجوب الاجتناب عن عبادة غير الله، ولكن المهم هو أن
الوهابيين يتصورون أن تعظيم الأنبياء، وأولياء الله - مثلا - عبادة، في حين أن بين
التعظيم والعبادة - في نظر الآخرين - بونا شاسعا وفرقا كبيرا جدا.
وبعبارة أخرى: ليس بين المسلمين خلاف في هذا الأصل الكلي، وهو عدم جواز
عبادة غير الله أبدا، وإنما الخلاف هو في نظر الفرقة الوهابية إلى بعض الأعمال -
كالزيارة مثلا عند بعضهم - حيث اعتبرتها عبادة، في حين لا تكون هذه الأعمال
عبادة - في نظر الآخرين -.
وبصيغة علمية لا بد أن نقول: ليس الخلاف في الكلي وإنما الخلاف هو في تعيين
المصداق.
ولأجل حل هذه المشكلة لا بد - أولا - من التعرف على المفهوم الواقعي للعبادة
لنميز في ضوء ذلك: العبادة عن غيرها.
وهكذا أيضا يمكن الوقوف على حقيقة الحال في غير موضوع الزيارة من الأمور
التي يعدها الوهابيون من العبادة كالتوسل بأولياء الله، وطلب الحاجة منهم في
حين يخالفهم المسلمون في ذلك، فيجوزون هذه التوسلات، ويعتبرونها نوعا
من الأخذ والتمسك بالأسباب، الذي ورد في الشرع الشريف.

38
6 - هل العبادة هي مطلق الخضوع أو التكريم؟
لأئمة اللغة العربية في المعاجم تعاريف متقاربة للفظة العبادة، فهم يفسرون العبادة
بأنها " الخضوع والتذلل " وإليك فيما يلي نص أقوالهم:
1 - يقول ابن منظور في " لسان العرب ": " أصل العبودية: الخضوع والتذلل ".
2 - ويقول الراغب في " المفردات ":
" العبودية: إظهار التذلل، والعبادة أبلغ منها، لأنها غاية التذلل، ولا يستحق إلا من له
غاية الإفضال، وهو الله تعالى، ولهذا قال: (ألا تعبدوا إلا إياه).
3 - وفي " القاموس المحيط " للفيروز آبادي: " العبادة: الطاعة ".
4 - وقال ابن فارس في " المقاييس ":
" العبد له أصلان كأنهما متضادان، والأول من ذينك الأصلين يدل على لين وذل،
والآخر على شدة وغلظ ". ثم أتى بموارد المعنى الأول وقال: من الباب الأول:
البعير المعبد أي المهنوء بالقطران، وهذا أيضا يدل على ما قلناه لأن ذلك يذله
ويخفض منه.
والمعبد: الذلول، يوصف به البعير أيضا.
ومن الباب الثاني: الطريق المعبد، وهو المسلوك المذلل.

39
7 - ليس مطلق الخضوع عبادة:
بيد أن العبادة وإن فسروها بالطاعة والخضوع والتذلل أو إظهار نهاية التذلل، لكن
جميع هذه التعاريف ما هي إلا نوع من التعريف بالمعنى الأعم، لأن الطاعة
والخضوع وإظهار التذلل ليست - على وجه الإطلاق - عبادة، لأن خضوع الولد
أمام والده، والتلميذ أمام أستاذه، والجندي أمام قائده لا يعد عبادة مطلقا مهما بالغوا
في الخضوع والتذلل، وتدل الآيات - بوضوح - على أن غاية الخضوع والتذلل،
فضلا عن كون مطلق الخضوع، ليست عبادة، ودونك تلك الآيات:
1 - سجود الملائكة لآدم الذي هو من أعلى مظاهر الخضوع حيث قال سبحانه:
(وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) (البقرة - 34)
فالآية تدل على أن آدم وقع مسجودا للملائكة، ولم يحسب سجودهم له شركا
وعبادة لغير الله، ولم تعد الملائكة بذلك العمل مشركة، ولم يجعلوا بعملهم ندا
لله وشريكا في المعبودية، بل كان عملهم تعظيما لآدم وتكريما لشأنه.
وهذا هو نفسه خير دليل على أنه ليس كل تعظيم أمام غير الله عبادة له، وأن جملة:
(اسجدوا لآدم) وإن كانت متحدة مع جملة: (اسجدوا لله) إلا أن الأول لا يعد أمرا
بعبادة غيره سبحانه ويعد الثاني أمرا بعبادة الله (1).
ويمكن أن يتصور - في هذا المقام - أن معنى السجود لآدم - في هذه الآية - هو
الخضوع له لا السجود بمعناه الحقيقي والمتعارف، ومعلوم أن مطلق الخضوع
ليس عبادة بل " غاية الخضوع " التي هي السجود، هي التي تكون عبادة. أو يمكن



(1) وهذا يدل على أن الاعتبار إنما هو بالنيات والضمائر لا بالصور والظواهر.
40
أن يتصور أن المقصود بالسجود لآدم هو جعله " قبلة " لا السجود له سجودا حقيقيا.
ولكن كلا التصورين باطلان.
أما الأول فلأن تفسير السجود في الآية بالخضوع خلاف الظاهر، والمتفاهم
العرفي إذ المتبادر من هذه الكلمة - في اللغة والعرف - هو الهيئة السجودية
المتعارفة لا الخضوع، كما أن التصور الثاني هو أيضا باطل، لأنه تأويل بلا مصدر
ولا دليل.
هذا مضافا إلى أن آدم - عليه السلام - لو كان قبلة للملائكة لما كان ثمة مجال
لاعتراض الشيطان إذ قال:
(أأسجد لمن خلقت طينا) (الإسراء - 61).
لأنه لا يلزم - أبدا - أن تكون القبلة أفضل من الساجد ليكون أي مجال لاعتراضه،
بل اللازم هو: كون المسجود له أفضل من الساجد في حين أن آدم لم يكن أفضل
في نظر الشيطان، وهذا مما يدل على أن السجود كان لآدم لا أن يكون آدم قبلة.
يقول الجصاص: ومن الناس من يقول: إن السجود كان لله وآدم بمنزلة القبلة لهم
وليس هذا بشئ لأنه يوجب أن لا يكون في ذلك حظ التفضيل والتكرمة، وظاهر
ذلك يقتضي أن يكون آدم مفضلا مكرما، ويدل على أن الأمر بالسجود قد كان أراد
به تكرمة آدم - عليه السلام - وتفضيله، قول إبليس فيما حكى الله عنه:
(أأسجد لمن خلقت طينا * قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي) (الإسراء - 61 -
62).
فأخبر إبليس أن امتناعه من السجود لأجل ما كان من تفضيل الله وتكرمته بأمره
إياه بالسجود له ولو كان الأمر بالسجود له على أنه نصب قبلة للساجدين

41
من غير تكرمة له ولا فضيلة لما كان لآدم في ذلك حظ ولا فضيلة تحسد كالكعبة
المنصوبة للقبلة (1).
وعلى هذا فمفهوم الآية هو أن الملائكة سجدوا لآدم بأمر الله سجودا واقعيا، وأن
آدم أصبح مسجودا للملائكة بأمر الله، وهنا أظهر الملائكة من أنفسهم غاية
الخضوع أمام آدم، ولكنهم - مع ذلك - لم يكونوا ليعبدوه.
وأما ربما يتصور من أن سجود الملائكة لما كان بأمره سبحانه صح سجودهم له،
إنما الكلام في الخضوع الذي لم يرد به أمر، فسيوافيك الجواب عن هذا الاحتمال
الذي يردده كثير من الوهابيين في المقام.
2 - إن القرآن يصرح بأن أبوي يوسف وإخوته سجدوا له حيث قال:
(ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد
جعلها ربي حقا) (يوسف - 100).
ورؤياه التي يشير إليها القرآن في هذه الآية هو ما جاء في مطلع السورة:
(إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين) (يوسف - 4).
وقد تحققت هذه الرؤيا بعد سنوات طويلة في سجود إخوة يوسف وأبويه له،
وعبر القرآن - في كل هذه الموارد - بلفظ السجود ليوسف.
ومن هذا البيان يستفاد - جليا - أن مجرد السجود لأحد بما هو مع قطع النظر عن
الضمائم والدوافع ليس عبادة، والسجود كما نعلم هو غاية الخضوع والتذلل.
ثم إن بعض من يفسر العبادة بمطلق الخضوع يجيب عن الاستدلال بهذه الآيات
بأن السجود لآدم أو ليوسف، حيث كان بأمر الله سبحانه فبذلك خرج عن كونه
شركا. وسنرجع إلى هذا البحث تحت عنوان " هل الأمر الإلهي يجعل



(1) أحكام القرآن: 1 / 302.
42
الشرك غير شرك؟ " فلاحظ.
3 - يأمر الله تعالى بالخضوع أمام الوالدين وخفض الجناح لهم، الذي هو كناية عن
الخضوع الشديد يقول:
(واخفض لهما جناح الذل من الرحمة) (الإسراء - 24).
ومع ذلك لا يكون هذا الخفض: عبادة.
4 - إن جميع المسلمين يطوفون - في مناسك الحج - بالبيت الذي لا يكون إلا
حجرا وطينا، ويسعون بين الصفا والمروة وقد أمر القرآن الكريم بذلك حيث قال:
(وليطوفوا بالبيت العتيق) (الحج - 29).
(إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن
يطوف بهما) (البقرة - 158)
فهل ترى يكون الطواف بالتراب والحجر والجبل عبادة لهذه الأشياء؟
ولو كان مطلق الخضوع عبادة لزم أن تكون جميع هذه الأعمال ضربا من الشرك
المجاز المسموح به، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
إن المسلمين كلهم يستلمون الحجر الأسود - في الحج - واستلام الحجر الأسود
من مستحبات الحج، وهذا العمل يشبه من حيث الصورة (لا من حيث الواقعية)
أعمال المشركين تجاه أصنامهم في حين أن هذا العمل يعد في صورة شركا، وفي
أخرى لا يعد شركا بل يكون معدودا من أعمال الموحدين المؤمنين وهذا يؤيد ما
ذكرناه آنفا من أن الملاك هو النيات والضمائر لا الصور والظواهر وإلا فهذه
الأعمال بصورها الظاهرية لا تفترق عن أعمال الوثنين.
5 - إن القرآن الكريم يأمر بأن نتخذ من مقام إبراهيم مصلى عندما يقول:
(واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) (البقرة - 125).
ولا ريب في أن الصلاة إنما هي لله، ولكن إقامتها في مقام إبراهيم الذي يرى

43
فيه أثر قدميه أيضا نوع من التكريم لذلك النبي العظيم ولا يتصف هذا العمل بصفة العبادة
مطلقا.
6 - إن شعار المسلم الواقعي هو التذلل للمؤمن والتعزز على الكافر كما يقول
سبحانه:
(فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين)
(المائدة - 54).
إن مجموع هذه الآيات من جانب ومناسك الحج وأعماله من جانب آخر تدل
على أن مطلق الخضوع والتذلل، أو التكريم والاحترام ليس عبادة، وإذا ما رأينا أئمة
اللغة فسروا العبادة بأنها الخضوع والتذلل كان هذا من التفسير بالمعنى الأوسع،
أي أنهم أطلقوا اللفظة وأرادوا بها المعنى الأعم، في حين أن العبادة ليست إلا نوعا
خاصا من الخضوع سنذكره عما قريب.
ومن هذا البيان يمكن أيضا أن نستنتج أن تكريم أحد واحترامه ليست - بالمرة -
عبادة، لأنه في غير هذه الصورة يلزم أن نعتبر جميع البشر حتى الأنبياء مشركين،
لأنهم أيضا كانوا يحترمون من يجب احترامه.
وقد أشار المرحوم الشيخ جعفر كاشف الغطاء (وهو أول من أدرك - في عصره -
عقائد الوهابية وأخضعها للتحليل) أشار إلى ما ذكرنا إذ قال:
" لا ريب أنه لا يراد بالعبادة التي لا تكون إلا لله، ومن أتى بها لغير الله فقد كفر،
مطلق الخضوع والانقياد كما يظهر من كلام أهل اللغة، وإلا لزم كفر العبيد والاجراء
وجميع الخدام للأمراء، بل كفر الأنبياء في خضوعهم للآباء " (1).



(1) راجع منهج الرشاد: 24 (ط 1343 ه‍) تأليف الشيخ الأكبر المرحوم الشيخ جعفر كاشف الغطاء المتوفى عام
(1228 ه‍). وقد ألف المرحوم هذا الكتاب في معرض الإجابة على رسالة من أحد أمراء السعودية الذين كانوا من
مروجي الوهابية منذ أول يوم إلى زماننا هذا.
44
8 - تميز المعنى الحقيقي عن المجازي:
نعم ربما تستعمل لفظة العبادة وما يشتق منها في موارد في العرف واللغة ولكن
استعمال لفظ في معنى ليس دليلا على كونه مصداقا حقيقيا لمعنى اللفظ، بل قد
يكون من باب تشبيه المورد بالمعنى الحقيقي لوجود مناسبة بينهما وإليك هذه
الموارد:
1 - العاشق الولهان الذي يظهر غاية الخضوع أمام معشوقته، ويفقد تجاه طلباتها
عنان الصبر ومع ذلك لا يسمى مثل هذا الخضوع " عبادة " وإن قيل في حقه مجازا
إنه (يعبد المرأة).
2 - الأشخاص الذين يأسرهم الهوى فيفلت من أيديهم - تحت نداءات النفس
الأمارة - زمام الاختيار لا يمكن اعتبارهم عبدة واقعيين للهوى، ولا عدهم
مشركين، كمن يعبد الوثن ولو قيل في شأنه إنه (يعبد هواه) فإن ذلك نوع من
التشبيه وضرب من التجوز.
فها هو القرآن يسمي الهوى إلها ويلازم ذلك كون الخضوع للهوى: عبادة له لكن
مجازا إذ يقول:
(أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا) (الفرقان - 43)
فكما أن إطلاق اسم الإله على الهوى نوع من التجوز فكذا إطلاق العبادة على
متابعة الهوى هو أيضا ضرب من المجاز.
3 - هناك فريق من الناس يضحون بكل شئ في سبيل الحصول على جاه
ومنصب حتى ليقول الناس في حقهم إنهم يعبدون الجاه والمنصب، ولكنهم في
نفس الوقت لا يعدون عبدة حقيقيين للجاه، ولا يصيرون بذلك مشركين.

45
4 - إن المتوغلين في العنصرية - كبني إسرائيل - وفي الأنانية، الذين لا يهمهم إلا
المأكل والمشرب رغم أنهم يطلق عليهم بأنهم عباد العنصر والنفس والشيطان،
ولكن الوجدان يقضي بأن عملهم لا يكون عبادة... وأن اتباع الشيطان شئ
وعبادته شئ آخر.
وإذا ما رأينا القرآن يسمي طاعة الشيطان " عبادة " فذلك ضرب من التشبيه،
والهدف منه هو بيان قوة النفرة وشدة الاستنكار لهذا العمل، إذ يقول:
(ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين * وأن اعبدوني
هذا صراط مستقيم) (يس: 60 - 61).
ومثل هذه الآية، الآيتان التاليتان:
1 - (يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا) (مريم - 44).
2 - (أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون) (المؤمنون - 47)
لا شك في أن بني إسرائيل ما كانوا يعبدون فرعون وملأه غير أن استذلالهم لما بلغ
إلى حد شديد صح أن يطلق عليه عنوان العبادة على نحو المجاز.
والقرآن وإن أطلق على هذه الموارد عنوان العبادة لكن لا بمعنى أنه جعلهم في
عداد المشركين. فلا يمكن التصديق بأن كل خضوع وطاعة وكل تكريم واحترام
" عبادة " وعند ذاك يستكشف أن استعمالها في هاتيك الموارد بعناية خاصة،
وعلاقة مجازية.
وبعبارة أخرى أن عباد الهوى والنفس والجاه و... وإن كانوا يعتبرون مذنبين،
تنتظرهم أشد العقوبات إلا أنه لا يكونون في عداد المشركين في العبادة الذين لهم
أحكام خاصة في الفقه الإسلامي.

46
كيف لا، ونحن نقرأ في الحديث الشريف:
" من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق يؤدي عن الله عز وجل فقد عبد
الله وإن كان الناطق يؤدي عن الشيطان فقد عبد الشيطان " (1).
فالناس يستمعون اليوم إلى وسائل الإعلام ويصغون إلى أحاديث المتحدثين
والمذيعين من الراديو والتلفزيون، وأكثر أولئك المتحدثين ينطقون عن غير الله،
فهل يمكن لنا أن نصف كل من يستمع إلى تلك الأحاديث بأنهم عبدة لأولئك
المتحدثين؟!
بل الصحيح هو أن نعتبر استعمال لفظ العبادة في مثل هذه الموارد نوعا من
التجوز، لأجل وجود المناسبة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي.
فلطالما يتردد في لسان العرف بأن فلانا (عبد البطن) أو (عبد الشهوة) فهل يكون
هؤلاء - حقا - عبدة البطن والشهوة، أو لأن الخضوع المطلق تجاه نداءات
الشهوات النفسانية حيث كان شبيها بالخضوع المطلق الذي يمثله الموحدون أمام
خالق الكون، أطلق عنوان العبادة على هذه الموارد.
9 - هل الأمر الإلهي يجعل الشرك غير شرك؟
ربما يقال: إن سجود الملائكة لآدم، واستلام الحجر الأسود، وما شابههما من
الأعمال لما كان بأمر الله، لا يكون شركا، ولا يعد فاعلها مشركا (2).
وبعبارة أخرى أن حقيقية العبادة وإن كانت الخضوع والاحترام، ولكن لما كانت
تلك الأعمال مأتيا بها بأمره سبحانه تعد عبادة للآمر لا لسواه.



(1) الكليني: الكافي: الجزء 7 / 434. سفينة البحار ج 2 مادة " عبد ".
(2) القائل هو الشيخ عبد العزيز إمام المسجد النبوي في محاورته مع بعض الأفاضل.
47
ولكن القائل ومن تبعه يغفلون عن نقطة مهمة جدا وهي:
إن تعلق الحكم بموضوع لا يغير - بتاتا - حقيقة ذلك الموضوع، ولا يوجب تعلق
الأمر الإلهي به تبدل ماهيته.
إن العقل السليم يقضي بأن سب أحد وشتمه إهانة له - طبعا - وذلك شئ تقتضيه
طبيعة السباب والفحش والشتم، فإذا أوجب الله سب أحد وشتمه - فرضا - فإن أمر
الله لا يغير ماهية السبب والشتم - أبدا -.
كما أن الضيافة وإقراء الضيف بطبيعتهما تكريم للوافد، واحترام للضيف، فإذا
حرمت ضيافة شخص لم تتبدل ماهية العمل، أعني الضيافة التي كانت بطبيعتها
احتراما، لتصير إهانة في صورة تحريمها، بل تبقى ماهية الضيافة على ما كانت
عليه ولو تعلق بها تحريم فإذا عدت أعمال - كالسجود واستلام الحجر الأسود
وما شابههما - عبادة ذاتا فإن الأمر الإلهي لا يغير ماهيتها، فلا تخرج من حال كونها
عبادة لآدم أو يوسف أو الحجر، وما يقوله القائل من أنها عبادة ذاتا وطبيعة، ولكن
حيث تعلق بها الأمر الإلهي خرجت عن الشرك، يستلزم أن تكون هذه الأعمال
من الشرك المجاز، وتخصيصا في حكمه وهو لا يقبل التخصيص.
والخلاصة أن المسألة تدور مدار إما أن نعتبر هذه الأعمال خارجة - بطبيعتها عن
مفهوم الشرك، أو أن نقول إنها من مصاديق الشرك في العبادة ولكنها شرك أذن
الله به وأجازه!!!
والقول الثاني على درجة من البطلان بحيث لا يمكن أن يحتمله أحد فضلا عن
الذهاب إليه، وسيوافيك أن بعض الأعمال يمكن أن تكون باعتبار تعظيما
وتواضعا، وباعتبار آخر شركا، فلو كانت الملائكة - مثلا - تسجد لآدم باعتقاد أنه
إله كان عملهم شركا قطعا وإن أمر الله به - على وجه الافتراض - وأما إذا كانت
تسجد بغير هذا الاعتقاد لم يكن فعلها شركا حتى لو لم يأمر به المولى جل شأنه.

48
لقد كان الشيخ عبد العزيز إمام المسجد النبوي يحاول توجيه صحة وشرعية هذه
الاحترامات بورود الأمر الإلهي بشأنها، ويستشهد بما قاله عمر بن الخطاب حول
الحجر الأسود إذ قال - ما مضمونه -: " إني أعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر ولولا أني
رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقبلك لما قبلتك " (1).
ولكنه كان غافلا عن: إن مفاد كلامه هو أن تكون هذه الأفعال من الشرك المجاز
في هذه الحالة، وبالتالي أن يأمر الله بالفحشاء ولو مرة واحدة.
ونلفت نظر الشيخ إلى الآية الكريمة:
(قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون)؟ (الأعراف - 28).
فلو كانت ماهية السجود لآدم - عليه السلام - واستلام الحجر الأسود عبادة لآدم
والحجر وشركا، لما كان الله سبحانه، يأمر بها - أبدا -.
10 - معنى الألوهية والربوبية:
وأما الألوهية فلا نظن أن القارئ الكريم يحتاج في فهم معنى: " إله " إلى التعريف،
فإن لفظي: " إله " و " الله " من باب واحد فما هو المتفاهم من الثاني أي " الله " هو
المتفاهم من الأول أي " إله ". وإن كانا يختلفان في المفهوم اختلاف الكلي والفرد.
غير أن لفظ الجلالة علم لفرد من ذاك الكلي ولمصداق منه، دون ال‍ " إله " فهو باق
على كليته وإن لم يوجد عند الموحدين مصداق له بل انحصر فيه. فكما أنه
لا يحتاج في الوقوف على معنى لفظ الجلالة إلى التعريف فلفظة " إله " مثله



(1) صحيح البخاري: 3 / 149، كتاب الحج، طبعة عثمان خليفة.
49
أيضا، إذ ليس ثمة من فارق بين اللفظتين إلا فارق الجزئية والكلية، فهما على وجه كزيد
وإنسان، بل أولى منهما لاختلاف الأخيرين (زيد وإنسان) في مادة اللفظ بخلاف
" إله " و " الله " فهما متحدان في تلك الجهة، وليس لفظ الجلالة إلا نفس إله حذفت
همزته وأضيفت إليه " الألف واللام " فقط، وذلك لا يخرجه عن الاتحاد، لفظا
ومعنى.
وإن شئت قلت: إن هاهنا اسما عاما وهو " إله " ويجمع على " آلهة " واسما خاصا
وهو " الله " ولا يجمع أبدا. ويرادفه في الفارسية " خدا " وفي التركية " تاري " وفي
الانگليزية " گاد ". غير أن الاسم العام والخاص في اللغة الفارسية واحد وهو " خدا "
ويعلم المراد منه بالقرينة، غير أن " خداوند " لا يطلق إلا على الاسم الخاص. وأما
" گاد " في اللغة الإنجليزية فكلما أريد منه الاسم العام كتب على صورة " god " وأما
إذا أريد الاسم الخاص فيأتي على صورة " God " وبذلك يشخص المراد منه.
ولعل اختصاص هذا الاسم (الله) بخالق الكون كان بهذا النحو: وهو أن العرب
عندما كانت في محاوراتها تريد أن تتحدث عن الخالق كانت تشير إليه ب‍ " الإله "
أي الخالق، والألف واللام المضافتان إلى هذه الكلمة كانتا لأجل الإشارة الذهنية
(أي الإشارة إلى المعهود الذهني)، يعني ذاك الإله الذي تعهده في ذهنك وهو ما
يسمى في النحو بلام العهد، ثم أصبحت كلمة " الإله " مختصة في محاورات العرب
بخالق الكون ومع مرور الزمن انمحت الهمزة الكائنة بين اللامين وسقطت من
الألسن وتطورت الكلمة من " الإله " إلى " الله " التي ظهرت في صورة كلمة جديدة
واسم خاص بخالق الكون تعالى وعلما له سبحانه (1).
وإلى ما ذكرنا يشير العلامة الزمخشري في " كشافه ":



(1) في هذا الصدد نظريات أخرى أيضا راجع لمعرفتها تاج العروس: 9 / مادة " إله ".
50
[" الله " أصله: " الإله "، قال الشاعر:
معاذ الإله أن تكون كظبية * ولا دمية ولا عقيلة ربرب (1)
ونظيره: الناس أصله: الأناس، فحذفت الهمزة، وعوض عنها حرف التعريف،
ولذلك قيل في النداء: يالله، بالقطع، كما يقال: يا إله، والإله من أسماء الأجناس
كرجل وفرس] (2).
وينقل العلامة الطبرسي في " تفسيره " عن سيبويه أن " الله " أصله " إله " على وزن
فعال فحذفت فاء فعله، وهي الهمزة، وجعلت الألف واللام عوضا لازما عنها،
بدلالة استجازتهم قطع هذه الهمزة الداخلة على لام التعريف في القسم والنداء في
قوله: يا الله اغفر لي، ولو كانت غير عوض لم تثبت الهمزة في الوصل كما لم تثبت
في غير هذا الاسم (3).
وقال الراغب في " مفرداته ": " الله أصله إله فحذفت همزته وأدخل عليه الألف
واللام، فخص بالباري ولتخصصه به قال تعالى: (هل تعلم له سميا) " (4).
وعلى ذلك فلا نحتاج في تفسير " إله " إلى شئ وراء تصور أن هذا اللفظ كلي، لما
وضع عليه لفظ الجلالة. وبما أن هذا اللفظ من أوضح المفاهيم، وأظهرها فلا
نحتاج في انفهام اللفظ الموضوع الكلي إلى شئ أبدا. نعم أن لفظ الجلالة وإن
كان علما للذات المستجمعة صفات الكمال، أو الخالق للأشياء، إلا أن كون الذات
مستجمعة لصفات الكمال، أو خالقا للأشياء، ليس من مقومات معنى الإله، بل من
الخصوصيات الفردية التي بها يمتاز الفرد عمن سواه من



(1) استعاذ الشاعر بالله من تشبيه حبيبته بالظبية أو الدمية، والربرب هو السرب من الوحش.
(2) الكشاف: 1 / 30، تفسير البسملة.
(3) مجمع البيان: 1 / 19، طبعة صيدا.
(4) مفردات الراغب: 31، مادة إله.
51
الأفراد، وأما الجامع بينه وبين سائر الأفراد، أو التي ربما تفرض (لا المحققة) فهو أمر
سواه سنشير إليه.
ويؤيد وحدة مفهومهما، بالذات، مضافا إلى ما ذكرناه من وحدة مادتهما: أنه ربما
يستعمل لفظ الجلالة مكان الإله (1) أي على وجه الكلية والوصفية، دون العلمية
فيصح وضع أحدهما مكان الآخر، كما في قوله سبحانه:
(وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون)
(الأنعام - 3).
فإن وزان هذه الآية وزان قوله سبحانه:
(وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم) (الزخرف - 84).
(ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد)
(النساء - 171).
(هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار
المتكبر سبحان الله عما يشركون)
(هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات
والأرض وهو العزيز الحكيم) (الحشر: 23 - 24).
ولا يخفى أن لفظة الجلالة في هذه الموارد وما يشابهها يراد منه ما يرادف الإله على
وجه الكلية، (أي ما معناه أنه هو الإله الذي يتصف بكذا وكذا).
ويقرب من الآية الأولى قوله سبحانه:
(قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى) (الإسراء -
110)



(1) استعمالا مجازيا مثل قول القائل: هذا حاتم قومه ويونس أبنائه.
52
فإن جعل لفظ الجلالة في عداد سائر الأسماء والأمر بدعوة أي منها، ربما يشعر
بخلوه عن معنى العلمية، وتضمنه معنى الوصفية الموجودة في لفظ: " الإله " وغيره،
ومثله قوله سبحانه:
(هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى) (الحشر - 24)
فلا يبعد في هاتين الآيتين أن يكون لفظ الجلالة ملحوظا على وجه الكلية لا
العلمية الجزئية، كما هو الظاهر لمن أمعن فيها.
نعم، ربما يقال من أن لفظ الجلالة من إله بمعنى عبد، أو من إله بمعنى تحير، لأجل
أن العبد إذا تفكر فيه تحير، أو من إله معنى فزع لأن الخلق يفزعون إليه في
حوائجهم، أو من إله بمعنى سكن لأن الخلق يسكنون إلى ذكره.
أو أنه متخذ من لاه بمعنى احتجب لأنه تعالى المحتجب عن الأوهام، أو غير ذلك
مما ذكروه (1) ولكن ذلك مجرد احتمالات غير مدعمة بالدليل، وعلى فرض
صحتها، أو صحة بعضها فلا تدل على أكثر من ملاحظة تلك المناسبات يوم وضع
وأطلق لفظ الجلالة أو لفظ الإله عليه سبحانه، وأما بقاء تلك المناسبات إلى زمان
نزول القرآن، وأن استعمال القرآن لهما كان برعاية هذه المناسبات فأمر لا دليل
عليه مطلقا.
والظاهر أن هذه المعاني من لوازم معنى الإله وآثاره، فإن من اتخذ أحدا إلها لنفسه
فإنه يعبده قهرا، ويفزع إليه عند الشدائد، ويسكن قلبه عند ذكره، إلى غير ذلك من
اللوازم والآثار التي تستلزمها صفة الألوهية، ولو لاحظ القارئ الكريم الآيات التي
ورد فيها لفظ الإله، وما احتف بها من القرائن لوجد أنه لا يتبادر من الإله غير ما
يتبادر من لفظ الجلالة، سوى كون الأول كليا والثاني جزئيا.



(1) راجع مجمع البيان: 9 / 19.
53
هل الإله بمعنى المعبود؟
نعم يظهر من كثير من المفسرين بأن إله بمعنى عبد، ويستشهدون بقراءة شاذة
في قوله سبحانه:
(ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك) (الأعراف - 127).
حيث قرئ وإلاهتك، أي عبادتك.
ولعل منشأ هذا التصور هو كون الإله الحقيقي، أو الآلهة المصطنعة موضعا للعبادة
- دائما - لدى جميع الأمم والشعوب، ولأجل ذلك فسرت لفظة " الإله " بالمعبود،
وإلا فإن المعبودية هي لازم الإله وليست معناه البدئي.
والذي يدل - بوضوح - على أن الإله ليس بمعنى المعبود هو: كلمة الإخلاص:
" لا إله إلا الله " إذ لو كان المقصود من الإله " المعبود " لكانت هذه الجملة كذبا
صريحا، لأن من البديهي وجود آلاف المعبودات في هذه الدنيا، غير الله، ومع
ذلك فكيف يمكن نفي أي معبود سوى الله؟
ولأجل ذلك اضطر القائل بأن الإله بمعنى المعبود أن يقدر كلمة " بحق " بعد إله
لتكون الجملة هكذا: " لا إله [بحق] إلا الله " ليتخلص من هذا الإشكال، ولكن
لا يخفى أن تقدير كلمة " بحق " هنا خلاف الظاهر، وأن هدف كلمة الإخلاص هو
نفي أي إله في الكون سوى الله، وأنه ليس لهذا المفهوم (أي الإله) مصداق بتاتا
سواه سبحانه، وهذا لا يجتمع مع القول بأن " الإله " بمعنى " المعبود "، لوجود
المعبودات الأخرى في العالم وإن كانت مصطنعة.
وأما جمعه على الآلهة فليس على أساس أنه بمعنى المعبود، بل لأجل اعتقاد
العرب بأن هاهنا آلهة غير الله سبحانه، قال تعالى:
(أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا) (الأنبياء - 43).

54
وإن شئت أن تفرغ ما نفهمه من لفظ الإله في قالب التعريف فارجع إلى الأمور التي
تعد عند الناس من شؤون الربوبية ولوازمها فالقائم بتلك الشؤون - كلها أو بعضها
- هو: الإله، فالخلق والتدبير والإحياء والإماتة والتقنين والتشريع والمغفرة
والشفاعة بالاستقلال كلها من شؤون الربوبية، فالقائم بهذه الشؤون حقيقة أو
تصورا: إله، واقعا أو عند المتصور.
وهنا آيات تدل بوضوح على أن الإله ليس بمعنى المعبود، بل بمعنى المتصرف
المدبر أو من بيده أزمة الأمور، أو ما يقرب من ذلك مما يعد فعلا له تعالى. وإليك
بعض هذه الآيات:
1 - (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) (الأنبياء - 22).
فإن البرهان على نفي تعدد الآلهة لا يتم إلا إذا جعلنا " الإله " في الآية بمعنى
المتصرف المدبر أو من بيده أزمة الأمور أو ما يقرب من هذين. ولو جعلنا الإله
بمعنى المعبود لانتقض البرهان، لبداهة تعدد المعبودين في هذا العالم، مع عدم
الفساد في النظام الكوني، وقد كانت الحجاز يوم نزول هذه الآية مزدحمة الآلهة،
ومركزها مع كون العالم منتظما، غير فاسد.
وعندئذ يجب على من يجعل " الإله " بمعنى المعبود أن يقيده بلفظ (بالحق) أي لو
كان فيهما معبودات - بالحق - لفسدتا ولما كان المعبود بالحق مدبرا ومتصرفا لزم
من تعدده فساد النظام وهذا كله تكلف لا مبرر له.
2 - (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا
بعضهم على بعض) (المؤمنون - 91).
ويتم هذا البرهان أيضا لو فسرنا الإله بما ذكرنا من أنه كلي ما يطلق عليه لفظ
الجلالة. وإن شئت قلت: إنه كناية عن الخالق أو المدبر المتصرف، أو من

55
يقوم بأفعاله وشؤونه. والمناسب في هذا المقام هو الخالق. ويلزم من تعدده ما رتب عليه
في الآية من ذهاب كل إله بما خلق واعتلاء بعضهم على بعض.
ولو جعلناه بمعنى المعبود لانتقض البرهان، ولا يلزم من تعدده أي اختلال في
الكون. وأدل دليل على ذلك هو المشاهدة. فإن في العالم آلهة متعددة، وقد كان
في أطراف الكعبة المشرفة ثلاثمائة وستون إلها ولم يقع أي فساد واختلال في
الكون.
فيلزم على من يفسر (إله) بالمعبود ارتكاب التكلف بما ذكرناه في الآية المتقدمة.
3 - (قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا) (الإسراء -
42).
فإن ابتغاء السبيل إلى ذي العرش من لوازم تعدد الخالق أو المدبر المتصرف أو من
بيده أزمة أمور الكون أو غير ذلك مما يرسمه في ذهننا معنى الألوهية، وأما تعدد
المعبود فلا يلازم ذلك إلا بالتكلف الذي أشرنا إليه فيما سبق.
4 - (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون * لو كان هؤلاء
آلهة ما وردوها) (الأنبياء - 98 و 99).
والآية تستدل من ورود الأصنام والأوثان في النار على كونها غير آلهة إذ لو كانت
آلهة ما وردت النار.
والاستدلال إنما يتم لو فسرنا الآلهة بما أشرنا إليه فإن خالق العالم أو مدبره
والمتصرف فيه أو من فوض إليه أفعال الله أجل من أن يحكم عليه بالنار وأن
يكون حصب جهنم.
وهذا بخلاف ما إذا جعلناه بمعنى المعبود فلا يتم البرهان، لأن المفروض أنها

56
كانت معبودات وقد جعلت حصب جهنم. ولو أمعنت في الآيات التي وردت فيها لفظ
الإله والآلهة لقدرت على استظهار ما اخترناه. وإليك موردا منها في قوله تعالى:
(فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين) (الحج - 34).
فلو فسر الإله في الآية بالمعبود لزم الكذب، إذ المفروض تعدد المعبود في
المجتمع البشري، ولأجل هذا ربما يقيد الإله هنا بلفظ " الحق " أي المعبود الحق
إله واحد. ولو فسرناه بالمعنى البسيط الذي له آثار في الكون من التدبير والتصرف
وإيصال النفع، ودفع الضر على نحو الاستقلال لصح حصر الإله - بهذا المعنى - في
واحد بلا حاجة إلى تقدير كلمة بيانية محذوفة إذ من المعلوم أنه لا إله في الحياة
البشرية والمجتمع البشري يتصف بهذه الصفات التي ذكرناها.
ولا نريد أن نقول: إن لفظ الإله بمعنى الخالق المدبر المحيي المميت الشفيع الغافر،
إذ لا يتبادر من لفظ الإله إلا المعنى البسيط. بل هذه الصفات عناوين تشير إلى
المعنى وضع له لفظ الإله. ومعلوم أن كون هذه الصفات عناوين مشيرة إلى ذلك
المعنى البسيط، غير كونها معنى موضوعا للفظ المذكور كما أن كونه تعالى ذات
سلطة على العالم كله أو بعضه سلطة مستقلة غير معتمدة على غيره، وصف مشير
إلى المعنى البسيط الذي نتلقاه من لفظ الإله، لا أنه نفس معناه.
إلى هنا - أيها القارئ الكريم - قد وقفت على معنى الإله، والألوهية، وأنه ليس الإله
بمعنى المعبود، بل المراد منه هو المراد من لفظة " الله " لا غير، إلا أن أحدهما علم،
والآخر كلي.
يبقى أن نقف على معنى الرب والربوبية التي يكثر ورودها في كلمات الوهابيين
فنقول:

57
معنى الرب والربوبية:
" الرب، المالك، الخالق، الصاحب. والرب المصلح للشئ يقال: رب فلان ضيعته
إذا قام على إصلاحها، والرب: المصلح للشئ، والله جل ثناؤه الرب، لأنه مصلح
أحوال خلقه. والراب، الذي يقوم على أمر الربيب " (1).
ويكتب الفيروزآبادي قائلا:
" رب كل شئ: مالكه ومستحقه وصاحبه...
رب الأمر: أصلحه " (2).
وجاء في المنجد:
" الرب: المالك، المصلح، السيد " (3).
وما يشابه هذا المعنى في كتب اللغة والقواميس الأخرى.
هل للرب معان مختلفة؟
إن وظيفة كتب اللغة والقواميس هي ضبط موارد استعمال اللفظة، سواء أكان
المستعمل فيه هو الذي وضع عليه اللفظة أم لا، وأما تعيين الأوضاع وتمييز
الحقائق عن المجازات فخارج عما ترتئيه كتب اللغة.
وهذا هو نقص ملحوظ ومشهود بوضوح في كتب اللغة ومعاجمها، إذ ما



(1) مقاييس اللغة: 2 / 381.
(2) قاموس اللغة، مادة " رب ".
(3) المنجد، مادة " رب ".
58
أكثر ما يجد الإنسان عدة معاني متباينة ومتمايزة للفظة واحدة حتى أنه ليتصور - في أول
وهلة - أن الواضع العربي جعل هذه اللفظة على عشرة معان في عشرة أوضاع،
ولكن بعد التحقيق والدراسة يتبين أنه ليس لهذه اللفظة سوى معنى واحد لا غير
وأما بقية المعاني المذكورة فهي من شعب المعنى الأصلي.
ومن الصدف أن لفظة رب تعاني من هذا المصير حتى أن كاتبا كالمودودي تصور
أن لهذه اللفظة خمسة معان - في الأصل - وذكر لكل معنى من المعاني الخمسة
شواهد من القرآن الكريم.
ولا شك في أن لفظة رب استعملت في الكتاب العزيز واللغة في الموارد التالية
التي لا تكون إلا صورة موسعة ومصاديق متعددة لمعنى واحد لا أكثر.
وإليك هذه الموارد والمصاديق:
1 - التربية، مثل رب الولد، رباه.
2 - الإصلاح والرعاية مثل رب الضيعة.
3 - الحكومة والسياسة مثل فلان قد رب قومه أي ساسهم وجعلهم ينقادون له.
4 - المالك كما جاء في الخبر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أرب غنم أم
رب إبل.
5 - الصاحب مثل قوله: رب الدار أو كما يقول القرآن الكريم:
(فليعبدوا رب هذا البيت) (قريش - 3).
لا ريب أن هذه اللفظة قد استعملت في هذه الموارد وما يشابهها ولكن جميعها
يرجع إلى معنى واحد أصيل، وما هذه المعاني سوى مصاديق وصور مختلفة
لذلك المعنى الأصيل، وسوى تطبيقات متنوعة لذلك المفهوم الحقيقي الواحد،
أعني: من فوض إليه أمر الشئ المربى من حيث الإصلاح والتدبير والتربية.

59
فإذا قيل لصاحب المزرعة إنه ربها، فلأجل أن إصلاح أمور المزرعة مرتبطة به وفي
قبضته.
وإذا أطلقنا على سائس القوم، صفة الرب، فلأن أمور أولئك القوم مفوض إليه فهو
قائدهم، ومالك تدبيرهم ومنظم شؤونهم.
وإذا أطلقنا على صاحب الدار ومالكه اسم الرب، فلأنه فوض إليه أمر تلك الدار
وإدارتها والتصرف فيها كما يشاء.
فعلى هذا يكون المربي والمصلح والرئيس والمالك والصاحب وما يشابهها
مصاديق وصور لمعنى واحد أصيل يوجد في كل هذه المعاني المذكورة، وينبغي
أن لا نعتبرها معاني متمايزة ومختلفة للفظة الرب بل المعنى الحقيقي والأصيل
للفظة هو: من بيده أمر التدبير والإدارة والتصرف، وهو مفهوم كلي ومتحقق في
جميع المصاديق والموارد الخمسة المذكورة (أعني: التربية والإصلاح والحاكمية
والمالكية والصاحبية).
فإذا أطلق يوسف الصديق - عليه السلام - لفظ الرب على عزيز مصر، حيث قال:
(إنه ربي أحسن مثواي) (يوسف - 23).
فلأجل أن يوسف تربى في بيت عزيز مصر وكان العزيز متكفلا لتربيته وقائما
بشؤونه.
ولو وصف يوسف عزيز مصر بكونه ربا لمصاحبه في السجن فقال:
(أما أحدكما فيسقي ربه خمرا) (يوسف - 41).
فلأن عزيز مصر كان سيد مصر وزعيمها ومدبر أمورها ومتصرفا في شؤونها
ومالكا لزمامها.
وإذا وصف القرآن اليهود والنصارى بأنهم اتخذوا أحبارهم أربابا إذ يقول:

60
(اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) (التوبة - 31).
فلأجل أنهم أعطوهم زمام التشريع واعتبروهم أصحاب سلطة وقدرة فيما يختص
بالله.
وإذا وصف الله نفسه بأنه (رب البيت) فلأن إليه أمور هذا البيت ماديها ومعنويها،
ولاحق لأحد في التصرف فيه سواه.
وإذا وصف القرآن " الله " بأنه:
(رب السماوات والأرض) (الصافات - 5).
وأنه:
(رب الشعرى) (النجم - 49).
وما شابه ذلك، فلأجل أنه تعالى مدبرها ومديرها والمتصرف فيها ومصلح
شؤونها والقائم عليها.
وبهذا البيان نكون قد كشفنا القناع عن المعنى الحقيقي للرب، الذي ورد في
مواضع عديدة من الكتاب العزيز.
* * *
إن الشائع بين الوهابيين تقسيم التوحيد إلى:
1 - التوحيد في الربوبية.
2 - التوحيد في الألوهية.
قائلين: إن التوحيد في الربوبية بمعنى الاعتقاد بخالق واحد لهذا الكون كان موضع
اتفاق جميع مشركي عهد الرسالة.

61
وأما التوحيد في الألوهية فهو التوحيد في العبادة الذي يعني منه أن لا يعبد سوى
الله، وقد انصب جهد الرسول الكريم على هذا الأمر.
والحق أن اتفاق جميع مشركي عهد الرسالة في مسألة التوحيد الخالقي ليس
موضع شك، ولكن تسمية التوحيد الخالقي بالتوحيد الربوبي خطأ واشتباه.
وذلك لأن معنى " الربوبية " ليس هو الخالقية كما توهم هذا الفريق، بل هو - كما
أوضحنا وبينا سلفا - ما يفيد التدبير وإدارة العالم، وتصريف شؤونه ولم يكن هذا -
كما بينا - موضع اتفاق بين جميع المشركين والوثنيين في عهد الرسالة كما ادعى
هذا الفريق.
نعم كان فريق من مثقفي الجاهليين يعتقدون بعدم وجود مدبر سوى الله ولكن
كانت تقابلهم جماعات كبيرة ممن يعتقدون بتعدد المدبر والتدبير، وهي قضية
تستفاد من الآيات القرآنية مضافا إلى المصادر المتقدمة.
هنا نلفت نظر الوهابيين الذين يسمون التوحيد في الخالقية بالتوحيد في
الربوبية إلى الآيات التالية ليتضح لهم أن الدعوة إلى التوحيد في الربوبية لا تعني
الدعوة إلى التوحيد في الخالقية بل هي دعوة إلى " التوحيد في المدبرية "
والتصرف، وقد كان بين المشركين في ذلك العصر من كان يعاني انحرافا وشذوذا
من التوحيد الربوبي، ويعتقد بتعدد المدبر رغم كونه معتقدا بوحدة الخالق.
ولا يمكن - أبدا - أن نفسر الرب في هذه الآيات بالخالق والموجد. وإليك بعض
هذه الآيات:
أ - (بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن) (الأنبياء - 56).
فلو كان المقصود من الرب هنا هو الخالق والموجد لكانت جملة (الذي فطرهن)
زائدة بدليل أننا لو وضعنا لفظة الخالق مكان الرب في الآية للمسنا عدم الاحتياج -
حينئذ - إلى الجملة المذكورة (أعني: الذي فطرهن) بخلاف ما إذا فسر

62
الرب بالمدبر والمتصرف، ففي هذه الصورة تكون الجملة الأخيرة مطلوبة، لأنها تكون -
حينئذ - علة للجملة الأولى، فتعني هكذا: أن خالق الكون هو المتصرف فيه وهو
المالك لتدبيره والقائم بإدارته.
ب - (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم) (البقرة - 21).
فإن لفظة الرب في هذه الآية ليست بمعنى " الخالق " وذلك على غرار ما قلناه في
الآية المتقدمة المشابهة لما نحن فيه، إذ لو كان الرب بمعنى الخالق لما كان لذكر
جملة (الذي خلقكم) وجه، بخلاف ما إذا قلنا بأن الرب يعني المدبر فتكون جملة
(الذي خلقكم) علة للتوحيد في الربوبية، إذ يكون المعنى حينئذ هو: أن الذي
خلقكم هو مدبركم.
ج - (قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شئ) (الأنعام - 164).
وهذه الآية حاكية عن أن مشركي عصر الرسالة كانوا على خلاف مع الرسول
الكريم صلى الله عليه وآله وسلم في مسألة الربوبية على نحو من الأنحاء وأن
النبي الأعظم كان مكلفا بأن يفند رأيهم ويبطل عقيدتهم ولا يتخذ غير الله ربا على
خلاف ما كانوا عليه. ومن المحتم أن خلاف النبي مع المشركين لم يكن حول
مسألة " التوحيد في الخالقية " بدليل أن الآيات السابقة تشهد في غير إبهام بأنهم
كانوا يعترفون بأنه لا خالق سوى الله تعالى، ولذلك فلا مناص من الإذعان بأن
الخلاف المذكور كان في غير مسألة الخالقية وليست هي إلا مسألة تدبير الكون،
بعضه أو كله.
د - (ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين)
(الأعراف - 172).
فقد أخذ الله في هذه الآية - من جميع البشر - الإقرار بالتوحيد الربوبي وكانت علة
ذلك هي ما ذكره من أنه سيحتج على عباده بهذا الميثاق يوم القيامة كما يقول:

63
(أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل
المبطلون) (الأعراف - 173).
إذا تبين هذا فنقول: إن نزول هذه الآية في بيئة مشركة دليل - ولا شك - على
وجود فريق معتد به في تلك البيئة كانوا يخالفون هذا الميثاق، فإذا كانت الربوبية
بمعنى الخالقية استلزم ذلك أن يكون في تلك البيئة من يخالفون النبي في
الخالقية، ولكن الفرض هو عدم وجود أي اختلاف في مسألة " توحيد الخالقية "
في عصر الرسالة فلم يكن المشركون في ذلك العصر مخالفين في هذه المسألة
ليعتبروا مخالفين للميثاق المذكور، فلا محيص - حينئذ - من أن الخلاف كان -
آنذاك - في مسألة تدبير العالم وإدارة الكون.
وبهذا التقرير يكون معنى الرب في الآية المبحوثة هنا هو المدبر.
ه‍ - (أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم) (غافر -
28).
تتعلق هذه الآية بمؤمن آل فرعون الذي كان يدافع عن النبي موسى - عليه السلام -
وراء قناع النصيحة والصداقة لآل فرعون ويسعى تحت ستار الموافقة معهم أن
يدفع الخطر عن ذلك النبي العظيم. وأما دلالتها على كون الرب بمعنى المدبر
فواضحة، لأن فرعون ما كان يدعي الخالقية للسماء والأرض ولا الشركة مع الله
سبحانه في خلق العالم وإيجاده، وهذه حقيقة يدل عليها تاريخ الفراعنة أيضا.
وفي هذه الصورة يجب أن يكون المراد من دعوة النبي موسى بقوله: ربي الله، هو
حصر " التدبير " في الله سبحانه لا مسألة الخلق. ولو كانت تتعلق بمسألة الخلق
والإيجاد لما كان بينه وبين فرعون أي خلاف ونزاع، إذ المفروض اعتراف فرعون
بخالقية الله - كما أسلفنا -، هذا مضافا إلى أن الله تعالى يقول في الآية السابقة لهذه
الآية:
و - (ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم) (غافر - 26)

64
فإن التوحيد في الخالقية لم يكن موضع خلاف لتكون دعوة موسى لبني إسرائيل
سببا لأي تبدل وتبديل.
ومن هذا البيان يتضح المراد من قول فرعون:
(أنا ربكم الأعلى) (النازعات - 24).
ز - (فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعوا من دونه إلها) (الكهف - 14).
إن الفتية الذين فروا من ذلك الجو الخانق الذي أوجده طواغيت ذلك الزمان كانوا
جماعة يسكنون في مجتمع يعتقد بإلوهية غير الله، ولكن إلوهية غير الله - في
ذلك المجتمع - لم تكن في صورة تعدد الخالق، خاصة وأن واقعة أهل الكهف
حدثت بعد ميلاد السيد المسيح حيث كانت عقول البشرية وأفكارها قد تقدمت
في المسائل التوحيدية بشكل ملحوظ وحظت من الرقي بمقدار معتد به ولم يكن
يعقل - في ظل هذا الرقي الفكري - وجود مجتمع منكر لخالقية الله، أو مشرك
فيها فلا بد أن يقال إن شركهم يرجع إلى أمر آخر وهو الاعتقاد بتعدد المدبر.
ح - إن البرهان الواضح على أن مقام الربوبية هو مقام المدبرية وليس الخالقية كما
يتوهم، هو الآية المتكررة في سورة الرحمان:
(فبأي آلاء ربكما تكذبان).
فقد وردت هذه الآية في السورة المذكورة 31 مرة وجاءت لفظة رب جنبا إلى
جنب مع لفظة الآلاء التي تعني النعم، وغير خفي أن قضية النعمة مع التذكير بمقام
ربوبية الله لحياة البشر وحفظها من الفناء أنسب وأكثر انسجاما، إذ ذكر النعم (التي
هي من شعب التربية الإلهية التي يوليها سبحانه للبشر) يناسب موضوع التربية
والتدبير الذي تندرج فيه إدامة النعم وإدامة الإفاضة.
ط - لقد اقترنت مسألة الشكر مع لفظة الرب في خمسة موارد في القرآن

65
الكريم، والشكر إنما يكون في مقابل النعمة التي هي سبب بقاء الحياة الإنسانية ودوامها
وحفظها من الفناء وصيانتها من الفساد، وليست حقيقة تدبير الإنسان إلا إدامة
حياته وحفظها من الفساد والفناء.
وإليك هذه الموارد:
(وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد) (إبراهيم -
7).
(وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي) (النمل -
19).
(قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه)
(النمل - 40).
(قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي) (الأحقاف -
15).
(كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور) (سبأ - 15).
ي - ومما يدل على ما قلناه قوله سبحانه:
(فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا * ويمددكم
بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا) (نوح: 10 - 12).
ومثله في سورة هود الآية 52.
وهكذا: يلاحظ القارئ الكريم كيف جعلت إدارة الكون وتدبير شؤونه تفسيرا
للرب: فهو الذي يرسل المطر، وهو الذي يمدد بالأموال والبنين، وهو الذي يجعل
الجنات، وهو الذي يجعل الأنهار، وكل هذه الأمور جوانب وصور من التدبير.

66
نتيجة هذا البحث:
من هذا البحث الموسع يمكن أن نستنتج أمرين:
1 - أن ربوبية الله عبارة عن مدبريته تعالى للعالم لا عن خالقيته.
2 - دلت الآيات المذكورة في هذا البحث على أن مسألة " التوحيد في التدبير " لم
تكن موضع اتفاق بخلاف مسألة " التوحيد في الخالقية " وأنه كان في التاريخ ثمة
فريق يعتقد بمدبرية غير الله للكون كله أو بعضه، وكانوا يخضعون أمامها باعتقاد
أنها أرباب.
وبما أن الربوبية في التشريع غير الربوبية في التكوين فيمكن أن يكون بعض
الفرق موحدا في الثاني، ومشركا في القسم الأول فاليهود والنصارى تورطوا في
" الشرك الربوبي " التشريعي لأنهم أعطوا زمام التقنين والتشريع إلى الأحبار
والرهبان وجعلوهم أربابا من هذه الجهة، فكأنه فوض أمر التشريع إليهم!!!، ومن
المعلوم أن التقنين والتشريع من أفعاله سبحانه خاصة.
فها هو القرآن يقول عنهم:
(اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) (التوبة - 31).
(ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله) (آل عمران - 64).
في حين أن الشرك في الربوبية لدى فريق آخر ما كان ينحصر بهذه الدائرة بل
تمثل في إسناد تدبير بعض جوانب الكون، وشؤون العالم إلى الملائكة والجن
والأرواح المقدسة أو الأجرام السماوية، وإن لم نعثر - إلى الآن - على من يعزي
تدبير " كل " جوانب الكون إلى غير الله، ولكن مسألة الشرك في الربوبية تمثلت في
الأغلب في تسليم " بعض " الأمور الكونية إلى بعض خيار العباد والمخلوقات.
إن الآيات الدالة على هذه النتيجة - في الحقيقة - أكثر من أن يمكن سردها

67
هنا، لهذا نكتفي بما ذكرنا من الآيات تاركين للقارئ الباحث التفتيش عنها في القرآن
الكريم.
إذا وقفت - أيها القارئ الكريم - على هذه المقدمات العشر يكون قد آن الأوان لأن
نركز البحث على تحديد معنى العبادة وحقيقتها الذي هو المهم في المقام، إذ
بتحديد معنى العبادة وحقيقتها، نعلم معنى التوحيد والشرك، ونميز الموحد عن
المشرك في هذا المجال (أي مجال العبادة)، ويكون ذلك ضابطة ثابتة لتشخيص
كثير من الأعمال التي جرت سيرة المسلمين على القيام بها في حياتهم منذ عصر
الرسالة، وإلى هذا اليوم، ونعرف كيف أنها لا تمت إلى الشرك بصلة أبدا.

68
الفصل الثاني
تحديد حقيقة العبادة..

69
العبادة: هي الخضوع عن اعتقاد بإلوهية المعبود وربوبيته
واستقلاله في فعله
لفظ العبادة من المفاهيم الواضحة كالماء والأرض، فهو مع وضوح مفهومه
يصعب التعبير عنه بالكلمات رغم حضور هذا المفهوم في الأذهان. والعبادة كما
هي واضحة مفهوما، فهي واضحة - كذلك - مصداقا بحيث يسهل تمييز
مصاديقها عن مصاديق التعظيم والتكريم وغيرهما من المفاهيم. فتقبيل العاشق
الولهان دار معشوقته، واحتضان ثيابها شوقا، أو تقبيل تراب قبرها بعد الموت،
لا يدعى عبادة للمعشوقة.
كما أن ذهاب الناس إلى زيارة من يعنيهم من الشخصيات، والوفود إلى مقابرهم
لزيارتها والوقوف أمامها احتراما، وإجراء مراسم وطقوس خاصة لديها لا يعد
عبادة - أبدا - وإن كانت هذه الأفعال تبلغ - في بعض الأحايين - من حيث شدة
الخضوع إلى درجة كبيرة. إن الضمائر اليقظة هي وحدها تقدر على أن تكون
الحكم العدل - في مثل هذا البحث - لتمييز الاحترام والتعظيم عن العبادة، دون
حاجة إلى تكلف، ولكن إذا تقرر أن نعرف العبادة بتعريف موضوعي أمكننا أن
نعرفها بثلاثة تعاريف:

71
1 - تعاريف ثلاثة للعبادة:
التعريف الأول:
العبادة: هي الخضوع اللفظي أو العملي الناشئ عن الاعتقاد ب‍ " إلوهية " المخضوع
له وسيوافيك معنى " الألوهية ".
وآيات كثيرة تدل على هذا التفسير، فمن ملاحظة هذه الآيات يتضح لنا أمران:
الأول: أن عرب الجاهلية الذين نزل القرآن في أوساطهم وبيئاتهم كانوا يعتقدون
بإلوهية معبوداتهم.
الثاني: أن العبادة عبارة عن القول أو العمل الناشئين من الاعتقاد بإلوهية المعبود،
وأنه ما لم ينشأ الفعل أو القول من هذا الاعتقاد لا يكون الخضوع أو التعظيم
والتكريم عبادة.
فهنا دعويان:
الأولى: أن عرب الجاهلية بل الوثنيين كلهم وعبدة الشمس والكواكب والجن،
كانوا يعتقدون بإلوهية معبوداتهم، ويتخذونهم آلهة صغيرة وفوقهم " الإله الكبير "
الذي نسميه " الله " سبحانه.
الثانية: أن الظاهر من الآيات هو أن العبادة عبارة عن الخضوع المحكي بالقول
والعمل الناشئين من الاعتقاد بالإلوهية، إلوهية صغيرة أو كبيرة.
أما الدعوى الأولى فتدل عليها آيات كثيرة نشير إلى بعضها:
يقول سبحانه:
(الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون) (الحجر - 96).

72
(والذين لا يدعون مع الله إلها آخر) (الفرقان - 68).
(واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا) (مريم - 81).
(أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى) (الأنعام - 19).
(وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة) (الأنعام - 74).
فهذه الآيات تشهد على أن دعوة المشركين كانت مصحوبة بالاعتقاد بإلوهية
أصنامهم، وقد فسر الشرك في بعض الآيات " باتخاذ الإله " مع الله وذلك عندما
يقول سبحانه:
(وأعرض عن المشركين * إنا كفيناك المستهزءين * الذين يجعلون مع الله إلها
آخر فسوف يعلمون) (الحجر: 94 - 96).
ولذلك يفسر القرآن حقيقة الشرك ب‍ " اعتقادهم بإلوهية معبوداتهم " إذ قال
سبحانه:
(أم لهم إله غير الله سبحان الله عما يشركون) (الطور - 43).
ففي هذه الآية جعل اعتقادهم بإلوهية غير الله هو الملاك للشرك، والمراد هنا
" الشرك في العبادة ".
وبمراجعة هذه الآيات ونظائرها التي تعرضت لموضوع الشرك وبالأخص
لموضوع شرك الوثنيين تتجلى هذه الحقيقة - بوضوح تام - أن عبادتهم كانت
مصحوبة مع الاعتقاد بألوهيتها، بل يمكن استظهار أن شركهم كان لأجل اعتقادهم
بإلوهية معبوداتهم، ولأجل ذاك الاعتقاد كانوا يعبدونهم ويقدمون لهم النذور
والقرابين وغيرهما من التقاليد والسنن العبادية. وبما أن كلمة التوحيد تهدم
عقيدتهم بإلوهية غيره سبحانه، كانوا يستكبرون عند سماعه كما قال سبحانه:
(إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون) (الصافات - 35).
أي يرفضون هذا الكلام، لأنهم يعتقدون بإلوهية معبوداتهم ويعبدونها لأجل

73
أنها آلهة - حسب تصورهم -.
ولأجل تلك العقيدة السخيفة كانوا إذا دعي الله وحده كفروا به، لأنهم لا يحصرون
الألوهية به وإذا أشرك به آمنوا، لانطباقه على فكرتهم كما قال سبحانه:
(ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلى
الكبير) (غافر - 12).
إلى هنا ظهرت الدعوى الأولى بوضوح وجلاء.
وأما الدعوى الثانية فتدل عليها الآيات التي تأمر بعبادة الله، وتنهى عن عبادة غيره،
مدللا ذلك بأنه لا إله إلا الله إذ يقول:
(يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) (الأعراف - 59).
ومعنى ذلك أن الذي يستحق العبادة هو من كان إلها، وليس هو إلا الله، وعندئذ
فكيف تعبدون ما ليس بإله، وكيف تتركون عبادة الله وهو الإله الذي يجب أن يعبد
دون سواه؟
وقد ورد مضمون هذه الآية في 10 موارد أو أكثر في القرآن الكريم، ويمكن
للقارئ الكريم أن يراجع - لذلك - الآيات التالية:
الأعراف: 65، 73، 85، هود: 50، 61، 84، الأنبياء: 25، المؤمنون: 23، 32، طه:
14.
فهذه التعابير (التي هي من قبيل تعليق الحكم عن الوصف) تفيد أن العبادة هي
ذلك الخضوع والتذلل النابعين من الاعتقاد بإلوهية المعبود، إذ نلاحظ - بجلاء -
كيف استنكر القرآن على المشركين عبادة غير الله بأن هذه المعبودات ليست آلهة،
وأن العبادة من شؤون: الألوهية، فإذا وجد هذا الوصف (أي وصف الألوهية) في
الطرف جاز عبادته واتخاذه معبودا. وحيث إن هذا الوصف لا يوجد إلا في الله
سبحانه لذلك تجب عبادته دون سواه.

74
سؤال وجواب:
أما السؤال فهو أنه لا شك أن الدعوى الأولى ثابتة فالمشركون كانوا معتقدين
بإلوهية الأوثان، وما أورد من الآيات قد أثبتت ذلك بوضوح، غير أن الدعوى
الثانية غير ثابتة، وقصارى ما يستفاد من هذه الآيات هو أن عبادتهم كانت ناشئة من
الاعتقاد بألوهيتها وهذا لا يدل على دخول مفهوم الألوهية في مفهوم العبادة كما
هو المدعى - أو دخول كون النشوء عن ذلك الاعتقاد، في مفهومها.
وعلى الجملة فهذه الآيات لا تدل على أكثر من أن عبادتهم للأوثان كانت مصحوبة
بهذا الاعتقاد أو ناشئة عنه.
وأما كون العبادة موضوعة للخضوع الناشئ عن الاعتقاد بالإلوهية بحيث يكون
النشوء عن تلك العقيدة جزءا لمعنى العبادة فلا يستفاد من الآيات.
وأما الجواب فنقول: إنما يرد الإشكال لو قلنا بأن " الاعتقاد بالإلوهية " داخل في
" مفهوم العبادة " وضعا حتى يقال إن هذه الآيات لا تعطي أزيد من أن العبادة من
شؤون الألوهية، وهذا غير القول باندراج مفهوم الألوهية في مفهوم العبادة، إنما
المراد أن العبادة ليست مطلقة الخضوع والتذلل بل أضيق وأخص منهما، وهذا أمر
يعرفه كل إنسان بوجدانه وفطرته، غير أننا نشير إلى هذه الخصوصية ونميز هذا
الضيق بأنه خضوع " ناشئ عن الاعتقاد بالإلوهية أو الربوبية " كما سيوافيك في
التعريف الثاني، لا أن هذه الجملة (ناشئ عن الاعتقاد بالإلوهية والربوبية) داخلة
بتفصيلها في مفهوم العبادة، ومعناها.
وبعبارة أخرى، أن الإنسان قد لا يقدر على تعريف شئ بنوعه وفصله، أو حده
ورسمه حتى يحده تحديدا عقليا لا خدشة فيه، ولكنه يجد في نفسه ما هو

75
بمنزلة الجنس والفصل فيضعهما مكان الجنس والفصل الواقعيين، والأمر فيما نحن فيه
كذلك إذ نجد أن التعظيم والخضوع والتذلل وما أشبههما أمر مشترك بين العبادة
وغيرها فيتصوره بمنزلة الجنس لها، ويجد أن العبادة تتميز بخصوصية عن غيرها،
ولكنه لا يقدر على بيان تلك الخصوصية بلفظ بسيط فيتوسل بوضع جملة مكانه
وهي ما ذكرناها: " ناشئ عن الاعتقاد بالإلوهية " ويضعها مكان الفصل.
وبعبارة ثالثة: أن الإنسان يجد أن " العبادة " ليست مطلق التعظيم ونهاية التذلل بل
هي من خصائص من بيده شؤون الإنسان كلها، أو شأنا من شؤونه مما به قوام
حياته عاجلا أو آجلا من الموت والحياة، والخلق والرزق، والسعادة والشقاء
والمغفرة والشفاعة فيدير شؤونه ويخطط مصيره حسب ما يليق به.
غير أن هذه الجمل ليست بتفصيلها داخلة في " مفهوم " العبادة. ولكنه يشار إلى
تلك الخصوصية الكامنة والضيق الموجود فيها، بهذه الجمل والتفاصيل وحاشا أن
تؤخذ هاتيك الجمل فيها بطولها.
وعلى ذلك فيصح أن يقال: العبادة قسم خاص من التواضع والخضوع لفظيا أو
عمليا، (يؤتى به لتعظيم ما يعتقده العابد بألوهيته) وما وقع بين الهلالين وإن كان
خارجا عن مفهوم العبادة إلا أنه يبين ما هو المقصود من القسم الخاص من
الخضوع في أول العبارة.
ولذلك نظائر في العرف والعادة مثلا:
1 - يعرف القوس بأنه " قطعة من الدائرة " ولا شك أنه من باب زيادة الحد على
المحدود، إذ لا يعتبر في صدق القوس كونه قطعة من الدائرة بل هو يصدق وإن لم
يكن قطعة منها (أي من الدائرة)، (أي القوس) عبارة عن سطح يحيط به خيط
مستدير ينتهي طرفاه بنقطتين، من غير اعتبار كونه بعضا من الدائرة.
إلا أن أخذ هذا القيد (أعني: كونه بعض الدائرة) من باب بيان الخصوصية

76
الموجودة فيها بحيث لو انضم إليه قوس آخر لتحققت الدائرة.
2 - إن اللغويين يفسرون الصهيل بأنه صوت الفرس، والزقزقة بأنه صوت
العصفور، فليس الفرس والعصفور داخلين في مفهومهما البسيطين وإنما جيئ
بقيد الفرس والعصفور، للإشارة إلى تعيين صوت خاص.
* * *
إلى هنا اتضح أن الحق في التعريف هو أن يقال: العبادة هي الخضوع النابع عن
الاعتقاد بإلوهية المعبود وإلى ذلك يشير آية الله الحجة المرحوم الشيخ محمد
جواد البلاغي، في تفسيره المسمى ب‍ " آلاء الرحمن " في معرض تفسيره وتحليله
لحقيقة العبادة:
" العبادة ما يرونه مشعرا بالخضوع لمن يتخذه الخاضع إلها ليوفيه بذلك ما يراه له
من حق الامتياز بالإلوهية " (1).
لقد صب العلامة البلاغي ما يدركه فطريا للعبادة في قالب الألفاظ والبيان والآيات
المذكورة تؤيد صحة هذا التعريف واستقامته.
التعريف الثاني:
العبادة: هي الخضوع أمام من يعتقد بأنه يملك شأنا من شؤون وجوده وحياته
وآجله وعاجله.
وتوضيح ذلك: أن العبودية من شؤون المملوكية ومن مقتضياتها، فعندما يحس
العابد في نفسه بنوع من المملوكية، ويحس في الطرف الآخر بالمالكية يفرغ
إحساسه هذا - في الخارج - في ألفاظ وأعمال خاصة، وتصير الألفاظ والأعمال



(1) آلاء الرحمان: 57، طبعة صيدا، وقد طبع من هذا التفسير جزءان فقط.
77
تجسيدا لهذا الإحساس، ويكون كل عمل أو لفظ مظهر لهذا الإحساس العميق عبادة.
ولا شك أن المقصود بالمالكية ليس مطلق المالكية فالاعتقاد بالمالكية القانونية
والاعتبارية لا يكون - أبدا - موجبا لصيرورة الخضوع عبادة، إذ أن البشر في عصور:
" العبوديات الفردية " بالأمس، وكذا في عصر: " العبودية الجماعية " الراهن لا يعد
امتثاله لأوامر أسياده عبادة... فلا بد أن يكون المقصود من المملوكية - هنا - هي
القائمة على أساس الخلق والتكوين وأن شأنا من شؤون حياته في قبضته.
وإليك بيان مناشئ أنواع المالكيات الحقيقية.
1 - قد يوصف بالمالكية لكونه خالقا، ولذلك يكون الله سبحانه مالكا حقيقيا
للبشر لأنه خالقه، وموجده من العدم، ولهذا نجد القرآن الكريم يعتبر جميع
الموجودات الشاعرة - مثلا - عبيد الله، ويصفه تعالى بأنه مالكها الحقيقي وذلك
لأنه خلقها إذ يقول:
(إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمان عبدا) (مريم - 93)
ولأجل ذلك أيضا نجده يأمرهم بعبادة نفسه معللا بأنه هو ربهم الذي خلقهم دون
سواه إذ يقول:
(يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم) (البقرة - 21)
(ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شئ فاعبدوه) (الأنعام - 102)
2 - وقد يوصف بالمالكية لكونه رازقا ومحييا ومميتا، ولذلك يحس كل بشر سليم
الفطرة بمملوكيته لله تعالى لأنه مالك حياته ومماته ورزقه، ولهذا يلفت القرآن
نظر البشر إلى مالكية الله لرزق الإنسان وأنه تعالى هو الذي يميته وهو الذي يحييه

78
ليلفته من خلال ذلك إلى أن الله هو الذي يستحق العبادة فحسب. إذ يقول:
(الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم) (الروم - 40)
(هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم) (الروم - 28)
(هو يحيي ويميت) (يونس - 56)
3 - وقد يوصف بها لكون الشفاعة والمغفرة بيده وحيث إن الله تعالى هو المالك
للشفاعة المطلقة:
(قل لله الشفاعة جميعا) (الزمر - 44)
ولمغفرة الذنوب: (ومن يغفر الذنوب إلا الله) (آل عمران - 135)
بحيث لا يملك أن يشفع أحد لأحد من العباد إلا بإذنه لذلك يشعر الإنسان العادي
في قرارة ضميره بأن الله سبحانه مالك مصيره من حيث السعادة الأخروية، وإذا
أحس إنسان بمملوكية كهذه ومالكية مثل تلك ثم جسد هذا الإحساس في قالب
اللفظ أو العمل فإنه يكون بذلك عابدا له دون ريب.
وإلى ذلك يرجع ما ربما يفسر العبادة بأنها الخضوع أمام من يعتقد بربوبيته فمن
كان خضوعه العملي أو القولي أمام أحد نابعا من الاعتقاد بربوبية ذلك الطرف كان
بذلك عابدا له.
فالمقصود من لفظة " الرب " في التعريف هو المالك لشؤون الشئ المتكفل
لتدبيره وتربيته.
وعلى ذلك تكون لفظة العبودية في مقابل الربوبية، أي مالكية تربية الشئ
وتدبيره، ومصيره عاجلا وآجلا.
ويدل على ذلك أن قسما من الآيات تعلل الأمر بحصر العبادة في الله وحده بأنه
الرب لا غير، وإليك بعض هذه الآيات:

79
(وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم) (المائدة - 72)
(إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) (الأنبياء - 92)
(إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم) (آل عمران - 51)
وقد ورد مضمون هذه الآيات، (أعني: جعل العبادة دائرة مدار الربوبية) في آيات
أخرى هي:
يونس: 3، الحجر: 99، مريم: 36، 65، الزخرف: 64.
وعلى كل حال فإن أوضح دليل على هذا التفسير للفظ العبادة هو الآيات التي سبق
ذكرها.
التعريف الثالث:
ويمكننا أن نصب إدراكنا للعبادة في قالب ثالث فنقول:
إن العبادة هي الخضوع ممن يرى نفسه غير مستقل في وجوده وفعله، أمام من
يكون مستقلا. وقد وصف الله سبحانه وتعالى نفسه - في غير موضع من كتابه -
بالقيوم فقال عز وجل:
(الله لا إله إلا هو الحي القيوم) (البقرة - 255)
ومثله في آل عمران - 2.
وقال سبحانه: (وعنت الوجوه للحي القيوم) (طه - 111).
ولا يراد منه سوى كونه قائما بنفسه، وليست فيه أية شائبة من الفقر والحاجة إلى
الغير بل كل ما سواه قائم به.
وبعبارة أخرى: العبادة نداء الله تعالى وسؤاله والقيام بالخضوع وإنزال حاجات
الدنيا والآخرة على أنه الفاعل المختار والمالك الحقيقي لأمور الدنيا

80
والآخرة كلها، والمتصرف فيها فلو نودي موجود آخر بهذا الوصف تماما أو بعضا فالنداء
عبادة له وشرك فيها والمنادي مشرك بلا كلام.
وعلى ذلك فلو خضع واحد منا أمام موجود زاعما بأنه مستقل في ذاته أو فعله
لصار الخضوع عبادة، بل لو طلب فعل الله سبحانه من غيره كان هذا الطلب نفسه
عبادة وشركا، فإن الطلب في هاتيك الموارد لا ينفك عن الخضوع، فالذي يجب
التركيز عليه هو أن نعرف ما هو فعل الله سبحانه، ونميزه عن فعل غيره حتى لا نقع
في ورطة الشرك عند طلب شئ من الأنبياء والأولياء وغيرهم من الناس فنقول:
إن من أقسام الشرك هو أن نطلب فعل الله من غيره، والمعلوم أن فعل الله ليس هو
مطلق الخلق والتدبير والرزق سواء أكان عن استقلال أم بإذن الله، لأنه سبحانه
نسبها إلى غيره في القرآن، بل هو القيام بالفعل مستقلا من دونه استعانة بغيره، فلو
خضع أحد أمام آخر بما أنه مستقل في فعله سواء أكان الفعل فعلا عاديا كالمشي
والتكلم، أم غير عادي كالمعجزات التي كان يقوم بها سيدنا المسيح - عليه السلام -
(1) مثلا، يعد الخضوع عبادة للمخضوع له.
توضيحه: أن الله سبحانه غني في فعله، كما أنه غني في ذاته عما سواه فهو يخلق
ويرزق ويحيي ويميت من دون أن يستعين بأحد (2) أو يستعين في خلقه بمادة



(1) كما في الآية 49 من آل عمران: (إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه
والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم)
(2) نعم قد سبق منا عند البحث عن التوحيد في الربوبية أن كون الله سبحانه لا يستعين - في فعله - بأحد لا يلازم أن
يقوم بنفسه بكل الأمور، وبأن تكون ذاته مصدرا للخلق والرزق والإحياء والإماتة من دون أن يتسبب في كل ذلك
بالأسباب، بل معناه أن يكون في فعله - سواء في أفعاله المباشرية أو التسبيبية - مستغنيا عن غيره، وإن كانت أفعاله
جارية عبر نظام الأسباب والعلل. فراجع كتابنا مفاهيم القرآن الجزء الأول - الفصل الثامن.
81
قديمة غير مخلوقة له، بل الله سبحانه يخلق الجميع بنفسه من دون استعانة بأحد أو
بشئ، فهو يخلق المادة ويصورها كيف شاء. فلو اعتقدنا أن أحدا مستغن في فعله
العادي، وغير العادي عمن سواه، وأنه يقوم بما يريد من دون استعانة أو استمداد
من أحد حتى الله سبحانه فقد أشركناه مع الله واتخذناه ندا له تعالى.
وصفوة القول هي: إن ملاك البحث في هذا التعريف هو: " استقلال الفاعل " في
فعله وعدم استقلاله، والتوحيد بهذا المعنى مما يشترك فيه العالم والجاهل.
نعم ما يدركه المتأله المثالي من التفاصيل في مورد الاستقلال في المعبود وعدمه
في العابد على ضوء الأدلة العقلية والكتاب العزيز مما يدركه غيره أيضا بفطرته
التي خلق عليها، وعقليته التي نما عليها، فلا يلزم من اختصاص فهم التفاصيل
بهذه الطبقة (أي المتألهين البصيرين) حرمان عرب الجاهلية من فهم معاني العبادة
ومشتقاتها الواردة في القرآن ومحاوراتهم العرفية، فالعبادة بهذا المعنى (أي
باعتقاد كون المعبود مستقلا) يشترك فيه العالم والجاهل، والكامل وغير الكامل،
غير أن كل فرد من الناس يفهمه على قدر ما أعطي من الفهم والدرك كما قال
سبحانه:
(فسالت أودية بقدرها) (الرعد - 17)
غير أن الدارج في ألسن المتكلمين هو " التفويض " فليشرح مقاصدهم.
2 - ماذا يراد من التفويض؟
اتفقت كلمة الموحدين على أن الاعتقاد بالتفويض موجب للشرك، وأن الخضوع
النابع من ذاك الاعتقاد يعد عبادة للمخضوع له، والتفويض يتصور في أمرين:

82
1 - تفويض الله تدبير العالم إلى خيار عباده من الملائكة والأنبياء والأولياء.
ويسمى بالتفويض التكويني.
2 - تفويض الشؤون الإلهية إلى عباده كالتقنين والتشريع، والمغفرة والشفاعة مما
يعد من شؤونه سبحانه. ويسمى بالتفويض التشريعي.
أما القسم الأول:
فلا شك أنه موجب للشرك، فلو اعتقد أحد بأن الله فوض أمور العالم وتدبيرها
من الخلق والرزق والإماتة ونزول الثلج والمطر وغيرها من حوادث العالم إلى
ملائكته أو صالحي عباده، فقد جعلهم أندادا له سبحانه، إذ لا يعني من التفويض،
إلا كونهم مستقلين في أفعالهم، منقطعين عنه سبحانه فيما يفعلون وما يريدون.
وبالجملة: فتفويض التدبير إلى العباد قسم من استقلال العبد في فعله وعمله عمن
سواه، سواء أكان ذاك الاستقلال في الأفعال الراجعة إلى نفسه كمشيه وتكلمه أم
في الأفعال الراجعة إلى تدبير العالم والحوادث الواقعة فيه. غير أنه لما كان زعم
الاستقلال في أفعال العباد العادية بحثا فلسفيا بحتا لم يتوجه إليه مشركو الجاهلية،
لذلك خصوا البحث بالاعتقاد باستقلالهم في تدبير العالم.
وإن أصبح الأول أيضا مثار بحث ونقاش في العهود الإسلامية الأولى، بحيث قسم
الباحثين إلى جبري وتفويضي.
والخلاصة: أن الأمر دائر بين كون العبد ذا فعل بالاستقلال والانقطاع عن الله
سبحانه، أو كونه ذا شأن بأمره تعالى وإذنه ومشيئته، وليس التفويض أمرا ثالثا، بل
هو داخل في القسم الأول.
وأما الاعتقاد بأن القديسين من الملائكة والجن، أو النبي والولي مدبرون

83
للعالم بإذنه ومشيئته، وأمره وقدرته من دون أن يكونوا مستقلين فيما يفعلون، أو
مفوضين فيما يصدرون فلا يكون ذاك موجبا للشرك بل أمره دائر - حينئذ - بين
كونه صحيحا مطابقا للواقع كما في الملائكة أو غلطا مخالفا للواقع كما في النبي
والولي، فإن الأنبياء والأولياء غير واقعين في سلسلة العلل والأسباب، بل هم
كسائر الناس يستفيدون من النظام الطبيعي بحيث يختل عيشهم وحياتهم عند
اختلال تلك النظم، ومعلوم أنه ليس كل مخالف للواقع يعتبر شركا إذ عند ذاك
يحتل الولي مكان العلة الطبيعية والنظم المادية، وليس الاعتقاد بوجود هذا النوع
من العلل والأسباب مكان النظم المادية للظاهرة شركا.
هذا ومن الجدير بالذكر أن مشركي عهد الرسالة كانوا يعتقدون لآلهتهم نوعا من
الاستقلال في الفعل. وكانوا يتوجهون إليها على هذا الأساس وقد مر أن عمر بن
لحي عندما سافر من مكة إلى الشام ورأى أناسا يعبدون الأصنام فسألهم عن سبب
عبادتهم لها فقالوا له:
" هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا ونستنصرها فتنصرنا " (1).
وقد كان ثمة فريق من الحكماء يعتقدون بأن لكل نوع من الأنواع " رب نوع "
فوض إليه تدبير نوعه، وسلمت إليه إدارة الكون التي هي من شأن الله ومن فعله
تعالى. كما أن عرب الجاهلية الذين عبدوا الملائكة الكواكب - سياراتها وثوابتها -
إنما كانوا يعبدونها لأن أمر الكون وأمر تدبيره قد فوض إليها - كما في زعمهم -
وأن الله عزل عن مقام التدبير عزلا تاما، فهي مالكة التدبير دون الله، وبيدها هي
دونه ناصية التصرف، ولهذا كان يعتبر أي خضوع يجسد هذا الإحساس عبادة.
وسيوافيك عقائد عرب الجاهلية حول معبوداتهم.



(1) سيرة ابن هشام: 1 / 79، وقد مر مفصل هذه القصة، وما قاله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديبية
حول الاستمطار بالنوء الذي كان سائدا لدى الجاهليين، والذي نقلناه لك من السيرة الحلبية: 3 / 29، في المقدمة
رقم 2 من هذا الكتاب فراجع ص: 27 - 28.
84
القسم الثاني من التفويض:
إذا اعتقدنا بأن الله سبحانه فوض إلى أحد مخلوقيه بعض شؤونه كالتقنين
والتشريع، والشفاعة والمغفرة فقد أشركناه مع الله، وجعلناه ندا له سبحانه، كما
يقول القرآن الكريم:
(ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله) (البقرة - 165).
ولا ريب أن الموجود لا يقدر أن يكون ندا لله سبحانه إلا إذا كان قائما بفعل أو شأن
من أفعال الله وشؤونه سبحانه " مستقلا " لا ما إذا قام به بإذن الله وأمره، إذ لا يكون
عند ذاك ندا لله، بل يكون عبدا مطيعا له، مؤتمرا بأمره، منفذا لمشيئته تعالى.
هذا وقد كان أخف ألوان الشرك وأنواعه بين اليهود والنصارى وعرب الجاهلية
اعتقاد فريق منهم بأن الله فوض حق التقنين والتشريع إلى الرهبان والأحبار كما
يقول القرآن الكريم: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) (التوبة -
31) وأن الله فوض حق الشفاعة والمغفرة التي هي حقوق مختصة بالله إلى
أصنامهم ومعبوداتهم، وأن هذه الأصنام والمعبودات مستقلة في التصرف في هذه
الشؤون ولأجل ذلك كانوا يعبدونها، لأجل أنها شفعاؤهم عند الله، وبأيديها أمر
الشفاعة، كما يقول سبحانه:
(ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند
الله) (يونس - 18).
ولذلك أصرت الآيات القرآنية على القول بأنه لا يشفع أحد إلا بإذن الله، فلو كان
المشركون يعتقدون بأن معبوداتهم تشفع لهم بإذن الله لما كان لهذا الإصرار

85
على مسألة متفق عليها بين المشركين، أي مبرر، على أن ذلك الفريق من عرب الجاهلية
الذين كانوا يعبدون الأصنام، إنما كانوا يعبدونها لكونها تملك شفاعتهم لا أنها
خالقة أو مدبرة للكون، وعلى أساس هذا التصور الباطل كانوا يعبدونها وكانوا
يظنون أن عبادتهم لها توجب التقرب إلى الله إذ قالوا:
(ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) (الزمر - 3).
3 - لا ملازمة بين توزيع الألوهية ونفي الإله الأعلى:
إن توزيع الألوهية على صغار الآلهة المتخيلة أمر باطل عقلا ونقلا، ولا نطيل الكلام
بسوق براهينه العقلية وما تدل عليه من الآيات.
ثم إن توزيع شؤون الألوهية - كما في زعم عرب الجاهلية - ما كان يلازم نفي الإله
الأعلى القاهر، بل كان الجاهليون يعتقدون بالإله الأعلى رغم عبادتهم للأصنام
واعتقاد توزيع الألوهية عليها.
لكن الأستاذ المودودي (1) أبطل فكرة توزيع الألوهية معللا بأن: هذا التوزيع لا
يجتمع مع الاعتقاد بإله أعلى حيث قال:
" إن أهل الجاهلية ما كانوا يعتقدون في آلهتهم أن الألوهية قد توزعت فيما بينهم
فليس فوقهم إله قاهر بل كان لديهم تصور واضح لإله كانوا يعبرون عنه بكلمة الله
في لغتهم " (2).
وفي هذا الكلام نظر، فإن الجمع بين قوله: " إن الألوهية توزعت فيما بينهم " وقوله:
" فليس فوقهم إله قاهر " يوهم بأن القول بتوزيع الألوهية يلازم القول بنفي الإله
القاهر الذي هو فوق الكل، ولكنه ليس كذلك، فإن الصابئة الذين ورد



(1) راجع بحار الأنوار: 25 / 320 - 350.
(2) كتاب المصطلحات الأربعة: 19.
86
ذكرهم في القرآن أثبتوا للشمس الألوهية والتدبير مع القول بوجود إله قاهر حيث قالوا:
" إن الشمس ملك من الملائك ولها نفس وعقل ومنها نور الكواكب وضياء العالم،
وتكون الموجودات السفلية فتستحق التعظيم والسجود والتبخير والدعاء " (1).
وأي ألوهية أكبر من تكوين الموجودات السفلية التي ينسبها الله سبحانه في
القرآن إلى ذاته.
ومن الصابئة من يقول:
" إن القمر ملك من الملائك، يستحق العبادة وإليه تدبير هذا العالم السفلي والأمور
الجزئية، ومنه نضج الأشياء المتكونة وإيصالها إلى كمالها " (2).
وليس لأحد أن يفسر قولهم بأن الشمس والقمر كانا - في عقيدتهم - يحتلان محل
العلل الطبيعية، وأنهما كانا يقومان بنفس الدور لا أكثر، فإن المفروض أنهم
جعلوهما من الملائكة وأثبتوا لهما العقل والنفس والتدبير القائم على التفكير،
وهذا يناسب الألوهية، وكونهما إلهين، لا كونهما عللا طبيعية، إذ لو كان عللا
طبيعية لما عبدوهما بتلك العبادة. فإذن لا مانع من أن يعتقد المشرك - في حين
اعتقاده بتوزيع شؤون الألوهية بين صغار الآلهة - بوجود إله قاهر وهو الذي وزع
الألوهية.
فالعربي الجاهلي كان يعتقد بتفويض المغفرة والشفاعة إلى أصحاب الأصنام
والأوثان مع اعتقاده بوجود إله آخر قاهر وأعلى. والمغفرة والشفاعة من شؤون
الألوهية، والدليل على أنهم كانوا يعتقدون بالتفويض، هو إصرار القرآن على القول
بأنه لا شفاعة إلا بإذن الله سبحانه:
(من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) (البقرة - 255).



(1) الملل والنحل للشهرستاني: ص 265 - 266.
(2) الملل والنحل للشهرستاني: ص 265 - 266.
87
وأن الله هو الذي يغفر الذنوب: (ومن يغفر الذنوب إلا الله) (آل عمران - 135).
وأظن - ولعله ظن مصيب - أن للأستاذ وراء هذا الكلام (توزيع الألوهية ينافي
الاعتقاد بإله آخر) قصدا وهدفا آخر، وهو إثبات أن الإله في القرآن إنما هو بمعنى
المعبود تبعا لشيخ منهجه " ابن تيمية " فتوصيف الأصنام بالألوهية إنما هو بملاك
المعبودية، لا بملاك أنهم صغار الآلهة، والله سبحانه كبيرها.
والأستاذ وتلاميذ مدرسته نزهوا المشركين عن قولهم بإلوهية الأصنام، وإنما كانوا
يعبدونها من دون أن يتخذوها آلهة صغارا في مقابل إله قاهر.
أضف إلى ذلك أنهم شوهوا بذلك سمعة جمهرة من المسلمين حيث فسروا
الآيات الناهية عن اتخاذ الآلهة، بالنهي عن عبادتها، لأن الإله عندهم بمعنى
المعبود، ثم طبقوا هذه الآيات على توسل المسلمين وزيارتهم لقبور أوليائهم.
فتفسير الآيات الناهية عن اتخاذ الآلهة، باتخاذ المعبود خبط، وعلى فرض الصحة
فإن تطبيقها على توسلات المسلمين وزيارتهم قبور أوليائهم خبط آخر.
4 - خلاصة القول:
خلاصة القول في المقام أن أي عمل ينبع من هذا الاعتقاد (أي الاعتقاد بأنه إله
العالم أو ربه أو غني في فعله وأنه مصدر للأفعال الإلهية) ويكون كاشفا عن هذا
النوع من التسليم المطلق يعد عبادة، ويعتبر صاحبه مشركا إذا فعل ذلك لغير الله.
ويقابل ذلك: القول والفعل والخضوع غير النابع من هذا الاعتقاد.
فخضوع أحد أمام موجود وتكريمه - مبالغا في ذلك - دون أن ينبع من الاعتقاد
بألوهيته لا يكون شركا ولا عبادة لهذا الموجود، وإن كان من الممكن أن

88
يكون حراما، مثل سجود العاشق للمعشوقة أو المرأة لزوجها، فإنها وإن كانت حراما في
الشريعة الإسلامية، لكنها ليست عبادة. فكون شئ حراما، غير القول بأنه عبادة،
فإن حرمة السجود أمام بشر من غير اعتقاد بألوهيته وربوبيته إنما هي لوجه آخر.
من هذا البيان يتضح جواب سؤال يطرح نفسه في هذا المقام وهو: إذا كان الاعتقاد
بالألوهية أو الربوبية أو التفويض، شرطا في تحقق العبادة فيلزم أن يكون السجود
لأحد دون ضم هذه النية جائزا؟
ويجاب على هذا: بأن السجود حيث إنه وسيلة عامة للعبادة، وحيث إن بها يعبد
الله عند جميع الأقوام والملل والشعوب وصار بحيث لا يراد منه إلا العبادة، لذلك
لم يسمح الإسلام بأن يستفاد من هذه الوسيلة العالمية حتى في الموارد التي
لا تكون عبادة. وهذا التحريم إنما هو من خصائص الإسلام إذ لم يكن حراما قبله،
وإلا لما سجد يعقوب وأبناؤه ليوسف - عليه السلام - إذ يقول: (ورفع أبويه على
العرش وخروا له سجدا) (يوسف - 100).
قال الجصاص: " قد كان السجود جائزا في شريعة آدم - عليه السلام -، للمخلوقين
ويشبه أن يكون قد كان باقيا إلى زمان يوسف - عليه السلام - فكان فيما بينهم لمن
يستحق ضربا من التعظيم ويراد إكرامه وتبجيله، بمنزلة المصافحة والمعانقة فيما
بيننا وبمنزلة تقبيل اليد، قد روي عن النبي - عليه السلام - في إباحة تقبيل اليد
أخبار، وقد روي الكراهة، إلا أن السجود لغير الله على وجه التكرمة والتحية
منسوخ بما روت عائشة وجابر وأنس أن النبي قال: ما ينبغي لبشر أن يسجد لبشر،
ولو صلح لبشر أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه
عليها " (1).
* * *



(1) أحكام القرآن: 1 / 32.
89
إلى هنا استطعنا - بشكل واضح - أن نتعرف على حقيقة " العبادة " و " الشرك "
ويلزم أن نستنتج من هذا البحث فنقول: إذا خضع أحد أمام آخرين وتواضع لهم،
لا باعتقاد أنهم " آلهة " أو " أرباب " أو " مصادر للأفعال والشؤون الإلهية " بل لأن
المخضوع لهم إنما يستوجبون التعظيم، لأنهم (عباد مكرمون * لا يسبقونه بالقول
وهم بأمره يعملون) (الأنبياء: 26 - 27) فإن هذا الخضوع والتعظيم والتواضع
والكريم لن يكون عبادة قطعا، فقد مدح الله فريقا من عباده بصفات تستحق
التعظيم عندما قال:
(إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) (آل عمران -
33).
وفي موضع آخر من القرآن صرح الله تعالى باصطفاء إبراهيم لمقام الإمامة إذ
يقول تعالى:
(قال إني جاعلك للناس إماما) (البقرة - 124).
وكل هذه الأوصاف العظيمة التي مدح الله بها: نوحا وإبراهيم وداود وسليمان
وموسى وعيسى ومحمدا - صلوات الله عليهم أجمعين - أمور توجب نفوذهم في
القلوب والأفئدة، وتستوجب محبتهم واحترامهم حتى أن مودة بعض الأولياء
فرضت علينا بنص القرآن (1).
فإذا احترم أحد هؤلاء، في حياتهم أو بعد وفاتهم، لا لشئ إلا لأنهم عباد الله
المكرمون، وأولياؤه المقربون وعظمهم دون أن يعتقد بأنهم " آلهة " أو " أرباب " أو
" مصادر للشؤون الإلهية " لا يعد فعله عبادة - مطلقا - ولا هو مشركا، أبدا.
وعلى هذا لا يكون تقبيل يد النبي أو الإمام أو المعلم، أو الوالدين، أو تقبيل



(1) (قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) الشورى الآية: 23.
90
القرآن أو الكتب الدينية، أو أضرحة الأولياء وما يتعلق بهم من آثار، إلا تعظيما وتكريما، لا
عبادة.
5 - نحن ومؤلف المنار:
وفي ختام هذا البحث يجدر بنا أن نلفت نظر القارئ الكريم إلى طائفة من
التعاريف للعبادة، ونذكر بعض ما فيها من الضعف:
1 - قال في المنار:
" العبادة ضرب من الخضوع، بالغ حد النهاية، ناشئ عن استشعار القلب عظمة
المعبود لا يعرف منشؤها، واعتقاده بسلطة لا يدرك كنهها وماهيتها " (1).
وهذا التعريف لا يخلو عن قصور، إذ بعض مصاديق العبادة، لا تكون خضوعا
شديدا، ولا يكون بالغا حد النهاية كبعض الصلوات الفاقدة للخشوع، ثم ربما
يكون خضوع العاشق أمام معشوقته والجندي أمام آمره، أشد خضوعا مما يفعله
كثير من المؤمنين بالله تجاه ربهم في مقام الدعاء والصلاة والعبادة ومع ذلك
لا يقال لخضوعهما بأنه عبادة، في حين يكون خضوع المؤمنين تجاه ربهم عبادة
وإن كان أخف من الخضوع الأول.
نعم لقد ذكر هذا المؤلف نفسه - في ثنايا كلامه - ما يمكن أن يكون معرفا صحيحا
للعبادة ومتفقا - في محتواه - مع ما قلناه حيث قال:
" للعبادة صور كثيرة في كل دين من الأديان شرعت لتذكير الإنسان بذلك الشعور
بالسلطان الإلهي الأعلى الذي هو روح العبادة، وسرها " (2).



(1) المنار: 1 / 57.
(2) المنار: 1 / 57.
91
إن عبارة: " الشعور بالسلطان الإلهي " حاكية عن أن الفرد العابد حيث إنه يعتقد
بإلوهية المعبود، لذلك يكون عمله عبادة وما لم يتوفر مثل هذا الاعتقاد في عمله
لا يتصف بالعبادة.
2 - وقد جاء شيخ الأزهر الأسبق الشيخ محمود شلتوت بتعريف يتحد مع ما ذكره
المنار معنى ويختلف معه لفظا فقال:
" العبادة خضوع لا يحد لعظمة لا تحد " (1).
فالتعريفان متحدان نقدا وإشكالا فليلاحظ وإن كان تفسير المنار يختص بإشكال
آخر حيث إنه يقول: " العبادة ناشئة عن استشعار القلب عظمة لا يعرف منشؤها "
في حين أن العابد يعلم أن علة العظمة هي: السلطة الإلهية، التي هي إلوهية المعبود
والإحساس بالحاجة الشديدة إليه، وأن بيده مصير العابد، وغير ذلك من الدوافع،
فكيف لا يعرف منشؤها؟ (2).
3 - وأكثر التعاريف عرضة للإشكال هو تعريف ابن تيمية إذ قال:
" العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنية
والظاهرية كالصلاة، والزكاة والصيام، والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة وبر
الوالدين، وصلة الأرحام " (3).
وهذا الكاتب لم يفرق - في الحقيقة - بين العبادة، وبين التقرب، وتصور أن كل
عمل يوجب القربى إلى الله فهو عبادة له تعالى أيضا، في حين أن الأمر ليس
كذلك، فهناك أمور توجب رضا الله، وتستوجب ثوابه قد تكون عبادة كالصوم
والصلاة والحج، وقد تكون موجبة للقربى إليه دون أن تعد عبادة كالإحسان إلى



(1) تفسير القرآن الكريم: 37.
(2) آلاء الرحمان: 59.
(3) مجلة البحوث الإسلامية العدد: 2 / 187، نقلا عن كتاب " العبودية ": 38.
92
الوالدين وإعطاء الزكاة والخمس، فكل هذه الأمور (الأخيرة) توجب القربى إلى الله في
حين لا تكون عبادة، وإن سميت في مصطلح أهل الحديث عبادة فيراد منها كونها
نظير العبادة في ترتب الثواب عليها.
وبعبارة أخرى: أن الإتيان بهذه الإعمال يعد طاعة لله، ولكن ليس كل طاعة عبادة.
وإن شئت قلت: إن هناك أمورا عبادية، وأمورا قربية، وكل عبادة مقرب، وليس كل
مقرب عبادة، فدعوة الفقير إلى الطعام والعطف على اليتيم - مثلا - توجب القرب
ولكنها ليست عبادة بمعنى أن يكون الآتي بها عابدا بعمله لله تعالى.
لقد وقفت - أخي العزيز - على معنى " العبادة " ومفهومها وحقيقتها في ضوء
الكتاب والسنة، ولم يبق لك أي إبهام في معناها ولا أي غموض في حقيقتها،
والآن يجب عليك - بعد التعرف على الضابطة الصحيحة في العبادة - أن تقيس
الكثير من الأعمال الرائجة بين المسلمين من عصر رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم إلى زماننا هذا لترى هل هي تزاحم التوحيد، وتضاهي الشرك، أو أنها
عكس ذلك توافق التوحيد، وليست من الشرك في شئ أبدا؟
ولهذا نجري معك في هذا السبيل (أي عرض هذه الأعمال على الضابطة التي
حققناها في مسألة العبادة) جنبا إلى جنب فنقول:
إن الأعمال التي ينكرها الوهابيون على المسلمين هي عبارة عن:
1): التوسل بالأنبياء والأولياء في قضاء الحوائج، وتحقيق المطالب:
فهل هذا شرك أم لا؟.
يجب عليك أخي القارئ أن تجيب على هذا السؤال بعد عرضه على

93
الضابطة التي مرت في تحديد معنى العبادة ومفهومها، فهل المسلم المتوسل بالأنبياء
والأولياء يعتقد فيهم " إلوهية " أو " ربوبية " ولو بأدنى مراتبها وقد عرفت معنى
الألوهية والربوبية بجميع مراتبهما ودرجاتهما، أو أنه يعتقد بأنهم عباد مكرمون
عند الله تعالى تستجاب دعوتهم، ويجاب طلبهم بنص القرآن الكريم.
فلو توسل المتوسل بالأنبياء والأولياء بالصورة الأولى كان عمله شركا، يخرجه عن
ربقة الإسلام.
ولو توسل بالعنوان الثاني لم يفعل ما يزاحم التوحيد ويضاهي الشرك أبدا.
وأما أن توسله بهم مفيد أم لا، محلل أو محرم من جهة أخرى غير الشرك فالبحث
فيهما خارج عن نطاق البحث الحاضر الذي يتركز الكلام فيه على تمييز التوحيد
عن الشرك، وبيان ما هو شرك وما هو ليس بشرك.
2): طلب الشفاعة من الصالحين الذين ثبتت شفاعتهم بنص القرآن الكريم
والسنة الصحيحة:
فإن طلب الشفاعة منهم إن كان بما أنهم مالكون للشفاعة وأنها حق مختص بهم،
وإن أمر الشفاعة بيدهم، أو أنه قد فوض إليهم ذلك المقام، فلا شك أن ذلك شرك
وانحراف عن جادة التوحيد، واعتراف بإلوهية الشفيع (المستشفع) وربوبيته،
ودعوة الصالحين للشفاعة بهذا المعنى والقيد شرك لا محالة.
وأما إذا طلب الشفاعة من الصالحين بما أنهم عباد مأمورون من جانب الله سبحانه
للشفاعة في من يأذن لهم الله بالشفاعة له، ولا يشفعون لمن لم يأذن الله بالشفاعة
له، وأن الشفاعة بالتالي حق مختص بالله بيد أنه تعالى، يجري فيضه على عباده
عن طريق أوليائه الصالحين المكرمين.
فالطلب بهذا المعنى وبهذه الصورة لا يزاحم التوحيد، ولا يضاهي الشرك،

94
فهو طلب شئ من شخص مع الاعتراف بعبوديته المحضة ومأموريته الخاصة.
وأما أنه طلب مفيد أم لا، أو أنه محلل أو محرم من جهة أخرى غير جهة الشرك
والتوحيد فهو أمر خارج عن إطار هذا البحث الذي يتركز - كما أسلفنا - على بيان
التوحيد والشرك في العبادة.
3): التعظيم أمام أولياء الله وقبورهم وتخليد ذكرياتهم:
فهل هذا العمل يوافق ملاك التوحيد أو يوافق ملاك الشرك؟
الجواب هو أن هذا العمل قد يكون توحيدا من وجه، وقد يكون شركا من وجه
آخر.
فإن كان التعظيم والتكريم - بأي صورة كان - قد صدر عن الأشخاص تجاه أولئك
الأولياء بما أن هؤلاء الأولياء عباد أبرار وقفوا حياتهم على الدعوة إلى الله، وضحوا
بأنفسهم وأهليهم وأموالهم في سبيل الله، وبذلوا في هداية البشرية كل غال
ورخيص، فإن مثل هذا التعظيم يوافق مواصفات التوحيد، لأنه تكريم عبد من
عباد الله لما أسداه من خدمة في سبيل الله، مع الاعتراف بأنه عبد لا يملك شيئا إلا
ما ملكه الله، ولا يقدر على عمل إلا بما أقدره الله عليه.
إن مثل هذا التعظيم يوافق أصل التوحيد بمراتبه المختلفة دون أي شك.
وأما إذا وقع التعظيم والتكريم للولي معتقدا بأنه - حيا كان أو ميتا - مالك لواقعية
الألوهية أو درجة منها، أو أنه واجد لمعنى الربوبية أو مرتبة منها، فإنه - ولا شك -
شرك وخروج عن جادة التوحيد.
وأما أنه مفيد أو لا، أو أنه حلال أو حرام من جهة أخرى غير جهة الشرك والتوحيد
فخارج عن نطاق هذا البحث المهتم ببيان ما هو شرك وما هو ليس بشرك.

95
4): الاستعانة بالأولياء:
فهل هو يوافق التوحيد أم يوافق الشرك؟ إن الإجابة على ذلك تتضح بعد عرض
الاستعانة هذه على الميزان الذي أعطاه القرآن لنا، فلو استعان أحد بولي - حيا كان
أو ميتا - على شئ موافق لما جرت عليه العادة أو مخالف للعادة كقلب العصا
ثعبانا، والميت حيا، باعتقاد أن المستعان إله، أو رب، أو مفوض إليه بعض مراتب
التدبير والربوبية فذلك شرك دون جدال.
وأما إذا طلب منه كل ذلك أو بعضه بما أنه عبد لا يقدر على شئ إلا بما أقدره الله
عليه، وأعطاه، وأنه لا يفعل ما يفعل إلا بإذن الله تعالى، وإرادته، فالاستعانة به
وطلب العون منه حينئذ من صلب التوحيد، من غير فرق بين أن يكون الولي
المستعان به حيا أو ميتا، وأن يكون العمل المطلوب منه عملا عاديا أو خارقا
للعادة.
وأما أن المستعان قادر على الإعانة أو لا، أو أن هذه الإعانة مجدية أم لا، وأن هذه
الاستعانة محللة أو محرمة، من جهات أخرى أم لا؟ فكل ذلك خارج عن إطار
هذا البحث.
5): طلب الشفاء والإشفاء من أولياء الله:
هل ذلك يوافق أصل التوحيد أو لا؟ فلو طلب أحد الشفاء من ولي من أولياء الله
معتقدا بأن الشفاء بيد الله سبحانه فهو الشافي حقيقة غير أنه شاء أن يجري فيضه
ويوصله إلى عباده عن طريق الأسباب الطبيعية وغير الطبيعية فهذا الطلب يوافق
التوحيد ويتلاءم معه، ولا ينافيه، لأنه يرى أن المسؤول لا يفعل إلا بأمر الله
ولا يصدر إلا عن إرادته.

96
وأما إذا اعتقد - وهو يطلب منه الإشفاء - بأنه مستقل في الإشفاء وأنه يملك
الإشفاء أو أنه مفوض إليه ذلك، كان عمله ذلك شركا، وخروجا عن إطار التوحيد.
وأما أن الاستشفاء بأولياء الله مفيد أو لا، أو أنهم قادرون على الإشفاء أم لا، وأن
مثل هذا العمل جائز أو غير جائز من جهة غير جهة التوحيد والشرك، فخارج عن
مهمة ونطاق هذا البحث الذي يهدف معرفة ما هو شرك في طبيعته وما هو ليس
بشرك.
هذا وقد أتينا بهذه الأمثلة لتكون نموذجا يقتديه القارئ الكريم في دراسة بقية
الأمور التي ينكرها الوهابيون مما لم نذكره، هنا اختصارا.
* * *
وبما أن للوهابية أخطاء واشتباهات في معنى الألوهية والربوبية، وكذا أخطاء في
تحديد معايير التوحيد والشرك فإننا نردف هذا البحث بمعالجة ما تصوروه - خطأ
- معيارا للتوحيد والشرك، مما ورد في كتب الكثير من مفكريهم وكتابهم.
وقبل أن نستوفي البحث حول هذه المسائل والأمور نذكر في ختام هذا البحث
عقائد الوثنيين في العهد الجاهلي وكيفية دعوتهم للأصنام، لأن الوقوف على هذا
خير عون لمعرفة الكثير من الآيات التي اتخذت ذريعة لوصف كثير من
التوسلات والدعوات بالشرك اغترارا بظواهرها من دون تأمل في القرائن الحافة
بها.
وإليك هذه الخاتمة.

97
6 - عقائد العرب الجاهليين والوثنيين:
إن الوثنيين في ذاك العصر كانوا ينقسمون إلى أصحاب الهياكل والأشخاص
والحرنانية والدهرية، وإليك توضيح عقائد بعض هذه الطوائف:
أ - أصحاب الهياكل:
وكانوا يقولون: إن الإنسان ليس في مستوى عبادة الله والاتصال المباشر به بل لا بد
له من واسطة، فيتوجه إليه ويتقرب به، وحيث إن الأرواح لم تكن في متناول
أيديهم فزعوا إلى الهياكل التي هي السيارات السبع، وكانوا يتقربون إلى هذه
الهياكل تقربا إلى الروحانيات، ويتقربون إلى الروحانيات تقربا إلى البارئ تعالى
لاعتقادهم بأن الهياكل أبدان الروحانيات.
وكانوا يقومون بمراسيم خاصة لدى عبادة هذه الهياكل فيعملون الخواتيم على
صورها وهيئتها وصنعتها، ويلبسون اللباس الخاص به في ساعات مخصوصة من
اليوم ويبخرون ببخوره الخاص ويعبدون كل واحد من تلك السيارات في وقت
معين ثم يسألون حاجتهم منها، ويسمونها: " أربابا " " آلهة " والله هو رب الأرباب
وإله الآلهة (1).
ب - أصحاب الأشخاص:
وكان هؤلاء يشتركون مع الفريق السابق - في بعض العقائد - إلا أنهم كانوا يعبدون
أشكال السيارات بدل السيارات نفسها، لأن لها طلوعا وأفولا، وظهورا بالليل
وخفاء بالنهار، ولهذا صنعوا لها صورا ثابتة على مثالها ويقولون: نعكف



(1) الشهرستاني: الملل والنحل: 2 / 244.
98
عليها ونتوسل بها إلى الهياكل فنتقرب إلى الروحانيات ونتقرب بالروحانيات إلى الله
سبحانه وتعالى فنعبدهم (ليقربونا إلى الله زلفى) (1).
ج - عقائد العرب الجاهلية:
قليل من العرب من كان يتدين بالدهرية فقالوا بالطبيعة المحيية، والدهر المفني
وكانت الحياة - في نظرهم - تتألف من الطبائع والعناصر المحسوسة في العالم
السفلي، فيقصرون الحياة والموت على تركبها وتحللها، فالجامع هو الطبع
والمهلك هو الدهر ولكن أغلبهم كانوا يقرون بالخالق وحدوث الخلق، وينكرون
البعث والإعادة وإرسال الرسل من جانب الله (2).
ومنهم من كان يعبد الملائكة والجن ويعتبرونها بناتا لله سبحانه. وصنف منهم
كانوا من الصابئة الذين يعبدون الكواكب.
ومنهم من كان ينكر الخالق، وحدوث الخلق والبعث وإرسال الرسل، ولكن كلا
الفريقين كانوا يعبدون الأصنام ويعتبرونها مالكة لمقام الشفاعة عند الله.
ومن العرب من كان يتدين باليهودية أو بالنصرانية. وكانت المدينة محط الأولى،
ونجران محط الثانية.
وأما الطوائف المسيحية الثلاث التي كانت تختلف فيما بينها في السيد المسيح
وروح القدس والأب، فكانت عبارة عن: الملكانية والنسطورية واليعقوبية.
وكانت هذه الطوائف رغم اختلافاتها تشترك في عبادة المسيح الذي لم يكن غير
رسول.



(1) الملل والنحل: 2 / 244.
(2) الملل والنحل: 2 / 244.
99
وفي الآيات المتعرضة لذكر احتجاج إبراهيم، إشارة إلى عقائد عبدة الكواكب
والأجرام السماوية.
كما أنه وردت في بيان عقائد المسيحيين آيات.
والآيات التي شجب فيها القرآن، الوثنية - بشدة وعنف - ترتبط بعرب الجاهلية
الذين كانوا يعتنقون عقائد مختلفة إذ كان أكثرهم يعبد الأصنام باعتقاد أنها الشفعاء
وأنها آلهة صغار، ومن هذه الآيات - على سبيل المثال -:
(وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر
الرحمن هم كافرون) (الأنبياء - 36).
(أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم) (الأنبياء - 43).
(وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم) (الأنعام -
100).
(أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى) (النجم - 19 - 20).
إلى من تشير هذه الآيات؟
إن الهدف الأساس في هذه الآيات ونظائرها هو: النهي عن دعوة الفرق الوثنية،
التي كانت تتخذ الأصنام شريكة لله في بعض لتدبير أو مالكة للشفاعة على الأقل
فكان ما يقومون به من خضوع واستغاثة واستشفاع بهذه الأصنام باعتبار أنها آلهة
صغار، فوض إليها جوانب من تدبير الكون وشؤون الدنيا والآخرة.
فأي ارتباط لهذه الآيات بالاستغاثة بالأرواح الطاهرة مع أن المستغيث بها
لا يتجاوز عن الاعتقاد بكونها عباد الله الصالحين.

100
فالمقصود من قوله سبحانه: (وإن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا)
وما شابهها مما تقدم في أول البحث هو الدعوة العبادية التي كان المشركون
يقومون بها أمام اللات والعزى ومناة أو الأجرام الفلكية والملائكة والجن، وكأن
الآية تريد أن تقول: (فلا تعبدوا مع الله أحدا).
فلو نهى القرآن الكريم عن إشراك غير الله معه سبحانه في العبادة، فأي ربط لهذه
المسألة بمسألة دعوة الصالحين وطلب الحاجة منهم مما يقدرون عليها بإذن الله
وإقداره:
فإذا قال القرآن الكريم:
(والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشئ) (الرعد - 14).
(والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم) (الأعراف - 197).
(إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم) (الأعراف - 194).
(والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير) (فاطر - 13).
(قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا) (الأنعام - 71).
(ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك) (يونس - 106).
وما سواها من الآيات مما يوجد في القرآن بوفرة، فكل هذه الآيات مرتبطة
بالدعوة التي تكون عبادة للأصنام والكواكب والملائكة والجن، باعتبار أنها آلهة
صغار وباعتبار أنها معبودات ومدبرة للكون وشفعاء تامي الاختيار، ولا مرية في
أن أية دعوة تكون هكذا، تكون مصطبغة - لا محالة - بصبغة العبادة، فأي ربط لهذه
الآيات بدعوة الصالحين وطلب الشفاعة منهم مع الاعتقاد بأنهم لا يقدرون على
شئ بدون الإذن الإلهي، ومع الاعتقاد بأنهم لا يملكون أي مقام إلهي وربوبي
وتدبير، وما شابههما؟! فهل يمكن قياس الدعوتين بالأخرى، وبينهما بون شاسع.

101
إن أوضح دليل على التباين بين هاتين الدعوتين هو أن الوهابيين يعتقدون بأن مثل
هذا الطلب من الأنبياء الصالحين شرك حرام بعد وفاتهم، وجائز مشروع حال
حياتهم. وقد أثبتنا - فيما سبق - أن الموت والحياة غير مؤثرين - مطلقا - في ماهية
العمل، وفي جوازه وعدم جوازه.
ومما سبق تبين ما في " فتح المجيد " إذ قال:
" وقوله: (أو يدعو غيره): إعلم أن الدعاء نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة، ويراد به
في القرآن هذا تارة وهذا تارة أخرى، ويراد به مجموعهما.
فدعاء المسألة هو طلب ما ينفع الداعي من جلب نفع أو كشف ضر ولهذا أنكر الله
على من يدعو أحدا من دونه ممن لا يملك ضرا ولا نفعا كقوله تعالى: (قل أتعبدون
من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم) (المائدة:
76) وقوله: (أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا
الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى
ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين) (الأنعام - 71) وقال:
(ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من
الظالمين) (يونس - 106).
قال شيخ الإسلام [ابن تيمية]: فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة، وكل دعاء
مسألة متضمن لدعاء العبادة قال الله تعالى: (ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب
المعتدين) (الأعراف - 55) وقال تعالى: (قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم
الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين * بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه
إن شاء وتنسون ما تشركون) (الأنعام - 40 - 41). وقال تعالى: (وأن المساجد لله فلا
تدعوا مع الله أحدا) (الجن - 18) وقال تعالى: (له دعوة الحق والذين يدعون من
دونه لا يستجيبون لهم بشئ إلا كباسط كفيه إلى

102
الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال) (الرعد - 14) وأمثال هذا في
القرآن في دعاء المسألة أكثر من أن يحصر وهو يتضمن دعاء العبادة، لأن السائل
أخلص سؤاله لله وذلك من أفضل العبادات، وكذلك الذاكر لله والتالي لكتابه
ونحوه طالبا من الله في المعنى فيكون داعيا عابدا.
فتبين بهذا من قول شيخ الإسلام إن دعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة، كما أن
دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة " (1).
فمن هذا البحث الضافي حول الدعوتين وكون إحداهما مسألة عبادية، والأخرى
مسألة غير عبادية، تتضح أمور:
الأول: كيف استفاد ابن تيمية من الآية: (ادعوا ربكم تضرعا وخفية) والآية: (وأن
المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا) أن طلب الحاجة من أحد تكون دعوة عبادة
للمدعو.
فإذا كانت لفظة (ادعوا) في قوله سبحانه: (ادعوا ربكم تضرعا) ولفظة (لا تدعوا)
في قوله سبحانه: (فلا تدعوا مع الله) بمعنى المناداة فكيف تكون الدعوة
الطلبية مستلزمة للدعوة العبادية؟
إن هاتين الآيتين - على فرض دلالتهما - (ولا دلالة لهما) لا تدلان على أكثر من
النهي عن دعوة غير الله، وأما أن دعوته تكون مستلزمة لعبادته، فلا يدل ظاهر الآية
عليه أبدا إذ أن النهي عن الشئ ليس دليلا على كون المنهي عنه مصداقا للعبادة.
الثاني: إن الدعوة الطلبية إنما تستلزم الدعوة العبادية إذا اعتقد الداعي بإلوهية
المدعو على مراتبها، ففي هذه الموارد تستلزم الدعوة الطلبية: الدعوة



(1) فتح المجيد: 166.
103
العبادية، بل هي الدعوة العبادية عينها وليست مستلزمة لها، وتكون مثل هذه الدعوة
عبادة لا أنها مستلزمة للعبادة.
ولكن إذا دعى الداعي أحدا، مجردا عن الاعتقاد المذكور، فلا تكون دعوته -
حينئذ - عبادة له.
الثالث: من الغريب جدا أن تصح الاستغاثة بالأحياء وتكون مشروعة - على
الإطلاق - غافلا عن أنه لو كان مطلق الاستغاثة بغير الله (حتى إذا لم تكن مصحوبة
بالاعتقاد بإلوهية أو مالكية المستغاث) شركا لما كان لموت المدعو وحياته أي أثر
في هذا القسم.
وما ورد عن النبي الأكرم من أن الدعاء مخ العبادة، فالمراد هو الدعوة الخاصة،
أعني: ما إذا كانت مصحوبة بالاعتقاد بإلوهية المدعو.
وبتعبير آخر: أن المقصود بالدعاء في الحديث المذكور إنما هو دعاء الله، فيكون
دعاء الله مخ العبادة.
فأي ربط لهذا الحديث بدعوة الصالحين التي لا تكون مقرونة بأي شئ من
الاعتقاد بإلوهية المدعو؟!!
نعم يبقى هنا سؤال وهو أن دعوة الغير وإن لم تكن عبادة له على ما أوضحناه،
ولكنها أمر محرم بحكم هذه الآيات، فدعوة الصالحين من الأموات من الدعوات
المحرمة، لأنها دعوة غيره سبحانه، ودعوة الغير منهية عنه، نعم لا تشمل الآيات
دعوة الأحياء، لأنه أمر جائز بالضرورة، فيستنتج منها حرمة دعوة الصلحاء
الماضين وإن لم يكن شركا.
والجواب عنه واضح بعد الإحاطة بما ذكرناه لأن الآيات ناظرة إلى دعوة خاصة
صادرة من المشركين، وهي دعوة آلهتهم وأربابهم المزعومة، والنهي عن هذه
الدعوة المخصوصة لا توجب حرمة جميع الدعوات حتى فيما لم تكن بهذه
المثابة.

104
وأوضح دليل على ما ذكرناه هو ما اعترف به السائل من عدم شمول الخطابات
لدعوة الأحياء وطلب الحاجة منهم، فإن خروج هذا القسم ليس خروجا عن حكم
الآيات حتى يكون تخصيصا، بل خروج عن موضوعها وعدم شمولها له من أول
الأمر، وليس الوجه لخروجه عن الآيات إلا ما ذكرناه من أن الآيات ناظرة إلى
الدعوة التي كان المشركون يقومون بها طيلة حياتهم وهي دعوة الأصنام والأوثان
بما هي آلهة، بما هم يملكون لهم النفع والضر والشفاعة والغفران، وهذا الملاك
ليس بموجود في دعوة الصلحاء.
ولأجل هذه العقيدة في حق الآلهة يقول سبحانه، في الإله الذي صنعه السامري:
(هذا إلهكم وإله موسى فنسي * أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا
ولا نفعا) (طه 88 - 89).
ومما يدل على ما ذكرناه هو تكرار كلمة (من دونه) في الآيات فإنها ليست لتعميم
كل دعوة متوجهة إلى غيره سبحانه حتى نحتاج إلى إخراج بعض الأقسام أعني:
دعوة الأحياء لطلب الحوائج، أو دعوة الأموات لا لطلب الحاجة، بل للتوسل
والاستشفاع، بل جيئ به لتبيين خصوصية هذه الدعوة. وهي دعوة الغير بظن أنه
يقوم بالفعل مستقلا من دون الله كما هو المزعوم للمشركين في آلهتهم.
وأما طلب الحاجة ممن لا يقوم (في زعم الداعي) إلا بأمره سبحانه ومشيئته بحيث
لا تكون دعوته منفكة عن دعوة الله سبحانه فلا يصدق عليه قوله تعالى:
(والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشئ) (الرعد - 14).

105
الفصل الثالث
الوهابيون وملاكات التوحيد والشرك..

107
- 1 -
هل الاعتقاد بالسلطة الغيبية
لغير الله معيار التوحيد والشرك؟
لا شك في أن طلب الحاجة من أحد - بصورة جدية - إنما يصح إذا اعتقد طالب
الحاجة بأنه قادر على إنجاز حاجته. وهذه القدرة قد تكون قدرة ظاهرية ومادية،
كأن نطلب من أحد أن يسقينا ماء، ويجعله تحت تصرفنا. وقد تكون القدرة قدرة
غيبية، خارجة عن نطاق المجاري الطبيعية والقوانين المادية، كأن يعتقد أحد بأن
الإمام عليا - عليه السلام - قلع باب " خيبر " بالقدرة الغيبية، كما جاء في الحديث.
أو أن المسيح - عليه السلام - كان يقدر، بقدرة غيبية على منح الشفاء لمن استعصى
علاجه، دون دواء، أو إجراء عملية جراحية.
والاعتقاد بمثل هذه القدرة الغيبية إن كان ينطوي على الاعتقاد بأنها مستندة إلى
الإذن الإلهي وإلى القدرة المكتسبة منه سبحانه، فهي حينئذ لا تختلف عن القدرة
المادية الظاهرية، بل هي كالقدرة المادية التي لا يستلزم الاعتقاد بها الشرك، لأنه
سبحانه الذي أعطى القدرة المادية لذلك الفرد، هو أيضا أعطى القدرة الغيبية
لآخر، دون أن يعد المخلوق خالقا، وأن يتصور استغناء أحد عن الله.
فلو قام أحد بمعالجة المرضى عن طريق السلطة الغيبية، فقد قام بأمر الله،

109
وإذنه ومشيئته، ومثل ذلك لا يعد شركا. وتمييز السلطة المستندة إلى الله عن السلطة
المستقلة هو حجر الأساس لامتياز الشرك عن التوحيد، وبذلك يظهر خطأ كثير
ممن لم يفرقوا بين السلطة الغيبية المستندة، والسلطة الغيبية غير المستندة.
وقالوا: لو أن أحدا طلب من أحد الصالحين - حيا كان أم ميتا - شفاء علته أو رد
ضالته أو أداء دينه، فهذا ملازم لاعتقاد السلطة الغيبية في حق ذلك الصالح وأن له
سلطة على الأنظمة الطبيعية، الحاكمة على الكون بحيث يكون قادرا على خرقها
وتجاوزها، والاعتقاد بمثل هذه السلطة لغير الله عين الاعتقاد بإلوهية ذلك
المسؤول، وطلب الحاجة في هذا الحال يكون شركا.
فلو طلب إنسان ظامئ الماء من خادمه فقد اتبع الأنظمة الطبيعية لتحقق مطلبه، أما
إذا طلب الماء من إمام أو نبي موارى تحت التراب، أو عائش في مكان ناء، فإن مثل
هذا الطلب ملازم للاعتقاد بسلطة غيبية لهذا النبي، أو الإمام على نحو ما يكون لله
سبحانه، ومثل هذا عين الاعتقاد بإلوهية المسؤول!!
وممن صرح بهذا الكلام الكاتب أبو الأعلى المودودي إذ يقول:
" صفوة القول إن التصور الذي لأجله يدعو الإنسان الإله، ويستغيثه، ويتضرع إليه
هو - لا جرم - تصور كونه مالكا للسلطة المهيمنة على قوانين الطبيعة وللقوى
الخارجة عن دائرة نفوذ قوانين الطبيعة " (1).
وهذا الكلام صريح في أنه جعل الاعتقاد بهذه السلطة المهيمنة ملاكا للاعتقاد
بالإلوهية، وقد صرح بذلك في موضع آخر من كتابه حيث جعل ملاك الأمر في
باب الألوهية، هو الاعتقاد بأن الموجود المسؤول قادر على أن ينفع أو يضر



(1) المصطلحات الأربعة: 17.
110
بشكل خارج عن إطار القوانين والسنن الطبيعية المألوفة إذ قال:
" فالذي يتخذ كائنا ما وليا له ونصيرا وكاشفا عنه السوء، وقاضيا لحاجته ومستجيبا
لدعائه، وقادرا على أن ينفعه، كل ذلك بالمعاني الخارجة عن نطاق السنن الطبيعية
يكون السبب لاعتقاده ذلك ظنه فيه أن له نوعا من أنواع السلطة على نظام هذا
العالم، وكذلك من يخاف أحدا ويتقيه يرى أن سخطه يجر عليه الضرر، ومرضاته
تجلب له المنفعة لا يكون مصدر اعتقاده ذلك وعمله إلا ما يكون في ذهنه من
تصور أن له نوعا من السلطة على هذا الكون ثم إن الذي يدعو غير الله ويفزع إليه
في حاجته بعد إيمانه بالله العلي الأعلى فلا يبعثه على ذلك إلا اعتقاده فيه أنه له
شركا في ناحية من نواحي السلطة الألوهية " (1).
وصريح هذا الكلام هو التلازم بين القدرة على النفع والضرر، والاعتقاد بالسلطة
الألوهية، وأن كل قدرة على النفع والضرر من غير المجاري الطبيعية ينطوي على
الألوهية، بالملازمة.
وهذا جدا عجيب من المودودي.
إذ مضافا - إلى أن الاعتقاد بالإلوهية لا يستلزم الاعتقاد بالسلطة في الطرف الآخر،
بل يكفي الاعتقاد بكونه مالكا للشفاعة والمغفرة كما كان عليه فريق من عرب
الجاهلية، إذ كانوا يعتقدون في شأن أصنامهم بأنها آلهتهم، لأنها مالكة شفاعتهم
ومغفرتهم ومعلوم - جيدا - أن مالكية الشفاعة غير القول بوجود السلطة التي يراد
منها: السلطة على عالم التكوين - إن الاعتقاد بالسلطة الغيبية الخارجة عن إطار
السنن الطبيعية لا يوجب الاعتقاد بالإلوهية.



(1) المصطلحات الأربعة: 23، وفي موضع آخر صرح بهذا الاستلزام إذ قال في ص 30: " إن كلا من السلطة والألوهية
تستلزم الأخرى ".
111
إن السلطة على الكون بجميعه - فضلا عن بعضه - إذا كانت بأقدار الله تعالى وبإذن
منه - فهي بنفسها - لا تلازم الألوهية، فكما أن الله أعطى لآحاد الإنسان قدرة
محدودة في أمورهم العادية وفضل بعضهم على بعض في تلك القدرة، فكذلك
لا مانع من أن يعطي لفرد أو أفراد من خيار عباده قدرة تامة غير عادية على جميع
الكون، أو بعضه، وذلك بنفسه لا يستلزم الألوهية، والذي يمكن أن يقع عليه
الكلام هو البحث عن وجود تلك القدرة وأنه سبحانه هل أعطى ذلك أو لا؟
والقرآن يصرح بذلك في عدة موارد، منها ما ورد في شأن يوسف - عليه السلام -
.
* النبي يوسف والسلطة الغيبية:
أمر يوسف - عليه السلام - إخوته بأن يأخذوا قميصه إلى أبيه ويلقوه على بصره
ليرتد بصيرا كما يقول القرآن الكريم في هذا الشأن:
(اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا) (يوسف - 93).
(فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا) (يوسف - 96).
إن ظاهر الآية يعطي أن رجوع البصر إلى يعقوب كان بإرادة يوسف وأنه لم يكن
فعلا مباشريا لله سبحانه وإنما فعل ما فعله يوسف بقدرة مكتسبة منه سبحانه.
ولو كان إشفاء يعقوب مستندا إلى الله سبحانه مباشرة بلا دخالة يوسف لما أمر
إخوته أن يلقوا قميصه على وجه أبيهم، بل يكفي هناك دعاؤه من مكان بعيد،
وليس هذا إلا تصرف لولي الله في الكون بإذنه سبحانه.

112
* النبي موسى والسلطة على الكون:
ونظير هذا نجده في أنبياء آخرين كموسى - عليه السلام -، إذ قيل له:
(اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا) (البقرة - 60).
فلو لم يكن لضربه بالعصا عن إرادته، تأثير في تفجير الماء من الصخر لما أمر به
الله سبحانه.
وربما يتصور أن موسى يضرب بعصاه ولكن الله هو الذي يفجر الأنهار، فهذا
لا يدل على سلطة غيبية لموسى، إذ غاية الأمر أن الله تعالى يفعل تفجير الأنهار
عند ضربه، لكنه ضعيف يرجع إلى لغوية الأمر بالضرب بالعصا، فإن الضرب
بالعصا ليس من قبيل الدعاء حتى يقال إنه سبحانه يجيب دعوته عند دعائه، وعلى
الجملة لا يمكن أن تنكر دخالة ضربه بالعصا وإرادته ذاك العمل في تفجر الأنهار
وإن كان إذنه سبحانه ومشيئته فوقه. ولا تدل الآية على أزيد من هذا.
ومثله قوله سبحانه:
(فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود
العظيم) (الشعراء - 63).
ودلالة هذه الآية على ما نرتئيه لا تقصر عن دلالة الآية السابقة.
* أصحاب سليمان والسلطة الغيبية:
أن مثل هذه السلطة الغيبية لم تقتصر على من ذكرنا بل يثبتها القرآن الكريم
لأصحاب سليمان وحاشيته فها هو أحد حاشيته يضمن له - عليه السلام -
بإحضار عرش ملكة سبأ قبل أن يقوم من مقامه، وقبل أن ينفض مجلسه إذ قال
سبحانه:

113
(قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين * قال عفريت من
الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين) (النمل: 38 - 39).
بل ويضمن له آخر من حواشيه أن يحضر العرش المذكور في أقل من طرفة عين
إذ قال: (قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما
رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي) (النمل - 40).
ولم يتبين - إلى الآن - ما المراد من هذا العلم الذي كان يحمله قائل هذا القول: (أنا
آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك) (1).
وسواء أكان المراد من ذلك هو العلم بخواص الأشياء الغريبة وكيفية معالجتها
وإحضارها من مكان بعيد في أقل من طرفة عين، أم كان المراد منه غيره.
وعلى أي تقدير فليس هذا العلم من سنخ العلوم الفكرية التي تقبل الاكتساب
وتنال بالتعلم، وهذا يكفي في عد عمله خارقا للنواميس العادية والسنن الطبيعية
المكشوفة الرائجة.
وربما يحتمل أنه إذا كان عمله مستندا إلى عمله بغرائب خواص الأشياء المستورة
على الناس لا يخرج عن كونه عملا طبيعيا، وإن كان يعد غريبا ولعله كان له علم
بغرائب الخواص.
يلاحظ عليه بأنه - مع أنه احتمال غير مدعم بدليل - لا يخرج عمل العامل عن كونه
قرين المعجزات وعديل الكرامات التي لا يقدر عليها إلا أولياء الله سبحانه.
وقد احتمل بعض في باب المعجزات أن يكون عمل الآتي بها، مستندا إلى



(1) ذكر المفسرون هناك أقوالا واحتمالات، فراجع الميزان: 15 / 363.
114
علمه بالسنن الطبيعية التي لم يقف عليها أحد من الناس، فيتصرف في الطبيعة لإحاطته
بتلك القوانين غير المعروفة، وليس هذا من العلوم الفكرية التي تقبل الاكتساب
والتعلم، وهذا يكفي في عده معجزة أو كرامة.
* النبي سليمان والسلطة الكونية:
ويصرح القرآن كذلك بسلطة خارقة لسليمان - عليه السلام - في سور مختلفة:
1 - إنه كان لسليمان سلطة على الجن والطير حتى أصبحت من جنوده:
(وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير...) (النمل - 17).
2 - إنه وهب السلطة على عالم الحيوانات حتى إنه كان يخاطبهم ويهددهم
ويطلب منهم تنفيذ أوامره:
(وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين * لأعذبنه عذابا شديدا
أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين) (النمل: 20 - 21).
3 - وإنه سلط على الجن فكانوا يعملون بأمره وإرادته.
(ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه... يعملون له ما يشاء) (سبأ: 12 - 13).
4 - وإنه سلط على الريح أيما تسليط:
(ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره) (الأنبياء - 81).
وعلى أي تقدير فأية سلطة أعظم وأوضح من هذه السلطة على عالم التكوين التي
كانت لسليمان، والجدير بالذكر أن بعض الآيات صرحت بأن كل هذه الأمور غير
العادية كانت تتحقق له بأمره.

115
* النبي المسيح والسلطة الغيبية:
ومثله ما صدر عن عيسى المسيح - عليه السلام - من تصرف يكشف عن وجود
سلطة خارقة للعادة، إذ كان يخلق من الطين كهيئة الطير وينفخ فيه فيكون طيرا
يتحرك ويطير، أو يعالج ما استعصى من الأمراض والعلل دونما آلة أو دواء، كما
يحدثنا القرآن الكريم حيث يقول:
(أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه
والأبرص وأحي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن
في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين) (آل عمران - 49).
والجدير بالذكر أن الله يصرح في آية أخرى بأن هذه التصرفات كانت نتيجة فعل
عيسى نفسه، الكاشف عن سلطته نفسه (وإن كانت مستندة إلى الله مآلا) إذ يقول
تعالى:
(وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ
الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني) (المائدة - 110).
ولما كان صدور هذه الآيات منه مستندا إلى الله تعالى من غير أن يستقل عيسى
بشئ منها كرر جملة (بإذن الله) في كل مورد، لكيلا يضل فيه الناس فيعتقدوا
بألوهيته، لصدور تلك الآيات منه، ولأجل ذلك قيد المسيح كل آية يخبر بها عن
نفسه كالخلق وإحياء الموتى ب‍ (إذن الله) ثم ختم الكلام في آية أخرى بقوله:
(إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم) (آل عمران - 51).
وظاهر قوله: (أني أخلق لكم) صدور هذه الآيات منه في الخارج ولم يكن الهدف
منه مجرد الاحتجاج والتحدي، ولو كان المراد ذلك لكان حق الكلام تقييده بقوله:
إن سألتم أو أردتم.

116
على أن ما يحكيه الله سبحانه عنه ويخاطبه به يوم القيامة، يدل على وقوع هذه
الآيات أتم دلالة حيث قال:
(وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه
والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى...)
وها هنا يبرز سؤال وهو: إذا كان الإخبار عن الغيب آية من آياته المعجزة فلماذا لم
يقيده ب‍ " إذن الله " فيما سبق: (وأنبئكم بما تأكلون) كما قيد الآيات الأخر بهذا
القيد مع أن الإتيان بكل آية من آيات الرسل مقيد بإذن الله سبحانه حيث يقول:
(وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله) (غافر - 78).
والإجابة عن هذا السؤال واضحة: فإن الأخبار عن ما يأكله الناس ويدخرونه في
بيوتهم ليس كالخلق والإحياء وإبراء الأكمه والأبرص، فإن القلوب الساذجة تقبل
وتتوهم إلوهية خالق الطير ومحيي الموتى ومبرئ الأكمه والأبرص بأدنى وسوسة
ومغالطة بخلاف إلوهية من يخبر عن المغيبات، فإنها لا تذعن بالاختصاص
الغيب بالله سبحانه، بل تعتقده أمرا يناله كل مرتاض أو كاهن، ولأجل ذلك لم ير
حاجة إلى تقييده ب‍ (إذن الله) (1).
سؤال آخر هو: أن قوله سبحانه: (أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه
فيكون طيرا بإذن الله) مشتمل على أمور:
1 - خلق هيئة الطير من الطين.
2 - النفخ في تلك الهيئة.
3 - صيرورتها طيرا بإذن الله.



(1) الميزان: 3 / 218.
117
وما هو فعل عيسى - عليه السلام - إنما هو الأولان، والثالث خارج عن فعله، بل
هو فعل الله بقرينة تقييد الثالث بإذن الله دون الأول والثاني.
وعلى الجملة للخلق معنيان:
1 - الإيجاد من العدم.
2 - التقدير.
والمتعين في المقام هو المعنى الثاني، والإيجاد من العدم إنما يتصور فيما لم تكن
هنا مادة متحولة، والمفروض وجود " الطين " في المقام وما صدر عن عيسى هو
" التقدير " أعني: تقدير الطين كهيئة الطير، وبقي الثالث وهو صيروته طيرا حقيقيا
فهو فعل الله يتحقق بإذنه سبحانه، فلم يبق هنا فعل غير عادي يصح استناده إلى
المسيح - عليه السلام -.
أما الجواب فنقول أولا: إنا لا نسلم بأن قوله تعالى: (بإذن الله) راجع إلى الأمر
الثالث، بل من المحتمل جدا رجوعه إلى الأمور الثلاثة، والشاهد عليه أنه قيد الأمر
الأول من سورة المائدة بهذا القيد حيث قال سبحانه:
(وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني) (المائدة -
110).
وعلى ذلك فلا يدل تقييد الأمر الثالث بإذن الله على أن الأمرين الأولين فعل
عيسى والأمر الثالث فعل الله سبحانه، بل الكل فعله - عليه السلام - من جهة،
وفعل الله من جهة أخرى.
وثانيا: لو سلمنا ذلك التكلف في خلق الطير، فماذا يمكن أن يقال في إبراء الأكمه
والأبرص وإحياء الموتى، التي هي من أفعال الله، كصيرورة الطين طيرا، فقد نسبه
الله إلى نفسه، وقال:

118
(أبرئ الأكمه والأبرص وأحي الموتى بإذن الله) (آل عمران - 49).
حتى أن الله سبحانه نسبها إلى المسيح وخاطبه بها وقال:
(وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني) (المائدة - 110).
على أن الله يصف طائفة من ملائكته أيضا بهذه السلطة فيقول عن جبرئيل بأنه:
(شديد القوى) (النجم - 5).
أي قواه العلمية كلها شديدة فيعلم ويعمل (1) وكيف لا يكون ذا قوة وقد اقتلع قرى
قوم لوط فرفعها إلى السماء ثم قلبها، ومن شدة قوته صيحته على قوم ثمود حتى
هلكوا (2) ولو كان المراد من شديد القوى هو جبرائيل فقد وصفه الله في موضع
آخر بقوله:
(ذي قوة عند ذي العرش مكين) (التكوير - 20).
ومن هذا هو شأنه فله السلطة الغيبية بإذن الله سبحانه على الكون.
وهل هناك سلطة غيبية أظهر من هذه التي يثبتها القرآن الكريم لفريق من عباد الله
وأوليائه، فإذا كان الاعتقاد بالسلطة الغيبية لأحد ملازما للاعتقاد بألوهيته لزم أن
يكون جميع هؤلاء: آلهة من وجهة نظر القرآن، بل لا بد من القول بأن تحصيل مثل
هذه السلسلة الغيبية أمر ممكن لأشخاص آخرين - حتى غير الأنبياء - عن طريق
العبادة.
فالعبادة - التي يتصور أغلبية الناس أن آثارها تنحصر في جلب رضاء الله، ودفع
غضبه فقط - ربما تمنح الروح قدرة عظيمة، وبعدا أعمق من ذلك.



(1) مجمع البيان: 5 / 173.
(2) مفاتيح الغيب للرازي: 7 / 702.
119
فالعبادة ذات تأثير جدا عظيم، وفي الباطن، والروح.
إذ الانتهاء عن المحرمات، والمكروهات، والتزام الواجبات والمستحبات،
الإخلاص فيها ذو أثر عظيم، وعميق في تقوية الروح، وتجهيزها بقدرة خاصة
خارقة للقوانين والسنن بحيث تكون الروح منشأ لآثار خارقة للعادة.
وهذا هو ما أشارت إليه أحاديث صحاح منها: ما روي في الحديث القدسي عن
قوله تعالى:
" ما تقرب إلي عبد بشئ أحب إلي مما افترضت عليه، وأنه ليتقرب إلي بالنافلة
حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه
الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها " (1).
فالحق: أن السلطة الغيبية التي أعطاها سبحانه لخيار عباده ليتصرفوا في الكون
بإذنه ومشيئته، ويخرقوا قوانين الطبيعة في مجالات خاصة لا تستلزم الاعتقاد
بالإلوهية، ولا يكون صاحبها ندا وشريكا لله تعالى.
نعم، الاعتقاد بالسلطة الغيبية " المستقلة " من دون أن تكون مستندا إليه سبحانه هو
الموجب للاعتقاد بالإلوهية، وقد قال سبحانه في هذا الصدد:
(وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله) (الرعد - 38).



(1) أصول الكافي: 1 / 352، روى هذا الحديث بإسناد صحيح، والرواية ظاهرة في أن العبادة تخلق للنفس قدرة خارقة
مما لا ينكر، واحتمال أن المقصود منها أن فعل العبد يكون محفوفا برضاء الله سبحانه، وأنه لا يفعل ولا يترك إلا ما
فيه رضاه، احتمال مرجوح جدا، فإن الحركة على طبق رضاه طيلة الحياة، ليست أثر خصوص فعل الصلوات -
فرائضها ونوافلها - بل هي قبل كل شئ إثر الإيمان بالله وثوابه وعقابه، لا الإقبال على الفرائض والنوافل، ولو كان
لهذه الأفعال تأثير في تلك الحركة فليكن للصوم والحج والجهاد، تأثير أيضا، فلماذا لم يذكرها؟
فعلم أن للصلاة - فريضتها ونافلتها - تأثيرا في تقوية النفس والروح وترفعتها إلى حد يقدر معه الإنسان، على أن
يكون مظهرا لله سبحانه في بصره وسمعه. وبطشه وتكلمه، فيبصر ببصره، ويسمع بسمعه، ما لا يبصر ولا يسمع
بغيره.
120
كلام آخر للمودودي:
يصف المودودي عقائد الجاهليين ويقول:
" كانت عقيدتهم الحقيقية في شأن سائر الآلهة أن لهم شيئا من التدخل والنفوذ في
إلوهية ذلك الإله الأعلى وأن كلمتهم تتلقى بالقبول، وأنه يمكن أن تتحقق أمانينا
بواسطتهم، ونستدر النفع، ونتجنب المضار باستشفاعهم " (1).
يلاحظ عليه: أن ما صور به عقيدة الجاهلية في شأن سائر الآلهة " بأن لهم شيئا من
التدخل والنفوذ في إلوهية الإله الأعلى " يحتاج إلى التوضيح، فإن تدخل الغير في
شؤونه سبحانه على قسمين:
الأول: بصورة كونهم مستقلين في أفعالهم وأعمالهم، وهذا يوجب الشرك وكون
المتدخل إلها، والتوجه إليه عبادة.
الثاني: التدخل والنفوذ بإذنه سبحانه، وأمره فلا نسلم بطلانه، وليس الاعتقاد به
شركا، والطلب عبادة كيف والقرآن يصرح بأن الملائكة تدبر الأمور الكونية، إذ
يقول: (فالمدبرات أمرا) (النازعات - 5).
وأنهم هم الذين يقبضون الأرواح ويهلكون الأمم العاصية، إذ يقول عن لسان
الملائكة:
(إنا أرسلنا إلى قوم لوط... فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا) (هود - 70
و 82).
فإننا نلاحظ - بجلاء - أن الله هو الجاعل، ولكن المباشر للإهلاك هم: الملائكة،
إذن فلا مناص من تبديل كلمة التدخل والنفوذ في كلامه بكلمة " التفويض "
وغيرها مما ينطوي على التصرف في معزل عن أمر الله وإذنه وإرادته.
وأما ما نقل عنهم من أنهم كانوا يعتقدون في حق آلهتهم " بأنه يمكن أن



(1) المصطلحات الأربعة: 19.
121
تتحقق أمانيهم بواسطتها، ويستدر النفع، ويتجنب المضار باستشفاعهم " لا يخلو من
قصور (1).
فإن أراد " أن النفع الأخروي والتجنب عن الضرر الأخروي لا يجوز سؤاله من غير
الله سبحانه، ويكون عند ذلك مثل الوثنيين الجاهليين " فقد صرح القرآن بخلافه،
إذ لا شك أن دعاء الرسول لمؤدي الزكاة موجب للسكن لهم، ورافع للاضطراب
عنهم، إذ قال سبحانه: (وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم) (التوبة - 103).
كما أن استغفار الرسول موجب لغفران الذنوب لقوله سبحانه:
(ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا
الله توابا رحيما) (النساء - 64).
كما كان دعاء يعقوب موجبا لغفران ذنوب أبنائه لقولهم: (يا أبانا استغفر لنا
ذنوبنا).
فأجابهم يعقوب - عليه السلام - إذ قال: (سوف أستغفر لكم ربي) (يوسف - 98).
وهو كاشف عن جدوى استغفاره، إذ لولا ذلك لما وعدهم به، وعندئذ يجوز أن
يطلب من الرسول الدعاء والاستغفار وهو طلب النفع الأخروي.
وأي نفع - ترى - أولى من النفع الأخروي، وأي دفع ضرر أهم من دفع



(1) أضف إلى ذلك: أن عرب الجاهلية وإن كان يتجنب المضار باستشفاعهم، إلا أن عملهم هذا كان مبنيا على القول
بألوهيتهم ولأجل ذلك عد عملهم شركا، وكم فرق بين طلب دفع المضار بالاستشفاع بما أن الشفيع عبد مكرم
يشفع بإذنه سبحانه، أو أنه إله يعبد ويستقل في فعله وعلى ذلك لا فرق بين الضرر الدنيوي والأخروي، في جوازه
على الأول، وعدمه على الثاني مطلقا، وكان على الأستاذ تركيز البحث على اعتقاد السائل في حق من يطلب منه
جلب النفع ودفع الضرر في أنه هل يعتقد بألوهية المسؤول واستقلاله في الجلب والدفع، أو يعتقد بعبوديته وإنه
لا يجلب ولا يدفع إلا بإذنه؟ يجب أن يركز على هذا لا على الفرق بين الضرر الدنيوي والأخروي.
122
عذاب الله بدعاء النبي؟ ولو طلب أحد من الرسول دعاءه واستغفاره لجلب هذا النفع
لا يكون مشركا ولا عابدا للنبي.
فهل - بعد هذه النماذج الواضحة - يتصور أن يكون الاعتقاد بتأثير النبي والولي في
دفع الضرر وجلب النفع الأخرويين وطلبهما منه موجبا للشرك، والقرآن يصرح
به بأعلى صوته وعلى رؤوس الأشهاد.
وإن أراد من النفع والضرر - في كلامه - النفع والضرر الدنيويين وإن طلبهما
موجب للشرك فقد اعترف القرآن بوقوعه فضلا عن إمكانه أيضا.
فقوم موسى - عليه السلام - استسقوه وهم في التيه فطلبوا منه النفع الدنيوي فلم
يردعهم موسى - عليه السلام - بل استسقى لهم من الله وسقاهم في الحال.
ويشير القرآن الكريم إلى هذا إذ يقول:
(وإذ استسقى موسى لقومه) (البقرة - 60).
كما أنهم طلبوا منه إنزال النعم السماوية فلم يزجرهم عن هذا الطلب، بل دعا لهم.
وقد طلب آل فرعون منه أن يرفع عنهم الرجز (أي العذاب الدنيوي المذكور قبل
الآية) وقالوا:
(ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا
الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل) (الأعراف - 134).
فكل ذلك يدل على أن استدرار النفع وطلب دفع الضرر الدنيوي من الغير بإذن
الله جائز هو أيضا، إذ لولا ذلك لكان على النبي أن يردعهم ويزجرهم في كل هذه
الموارد، وللزم أن يلفت نظرهم إلى الله، ليسألوه تعالى هو مباشرة لا أن يسألوه
ويطلبوا منه ذلك، وهو خلق من خلق الله، وعبد من عبيده.
ولا شك أن لموسى مدخلية في جلب النفع الدنيوي، وكذا في دفع الضرر أيضا.

123
فيجب على الأستاذ أن يقيد كلامه في منع استدرار النفع ودفع الضرر بقولنا:
بالاستقلال ونحوه، بحيث يكون المسؤول مستقلا في ذلك.
وصفوة القول هي أن الحل في هذه المسألة هو أن نفرق بين السلطة المستندة إلى
إرادة الله وإذنه ومشيئته، والسلطة المستقلة ولا نخلط بينهما.
تكملة:
إن النظريات في صدور المعجزات عن عباد الله الصالحين لا تخرج عن أربعة
أقوال:
الأولى: ما عليه الغلاة والمفوضة من كونهم مستقلين في الخلق والإيجاد والإحياء
والإماتة.
الثانية: أن الله يوجد تلك الأمور مقارنا لإرادتهم، وقد مرت النظريتان عند البحث
عن التفويض.
الثالثة: ما استظهرنا من الآيات من أن الفعل مستند إليهم - عليهم السلام - بإذن الله
سبحانه وأقداره.
الرابعة: النظرية التسخيرية التي وردت فيها روايات غير ما أشرنا إليه، ولا تعارض
بين الثلاث الأخيرة، فهي غير مانعة الجمع كما لا يخفى.
والنظرية الأخيرة مبنية على سريان الشعور والإدراك في جميع الموجودات.
وعليه فما في الكون يأتمر بأمر النبي إذا أمر بشئ، وينقاد لطلبه ويؤيده قوله
سبحانه:
(فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب) (ص - 36).

124
- 2 -
هل عادية السبب وغير العادية
ملاك التوحيد والشرك؟
ذهب بعض المتصوفة والدراويش في وصف أقطابهم وشيوخ طرقهم إلى حد
الشرك، كما هو ظاهر، وبذلك هدموا حدود التوحيد والشرك وتجاوزوا
معاييرهما، ويبدو هذا الأمر - بجلاء - من الأبيات التي مجد بها القوم مشايخهم
حيث تفوح من أكثرها رائحة الشرك الجلي فضلا عن الخفي، تلك الأبيات التي
لا تنسجم مع أسس (التوحيد القرآني) بحال، وإن كان بعضهم يحاول أن يجد
لتلك الأبيات والكلمات محامل بمنأى عن الشرك، ولكن الحق هو أن الموحد
لا ينبغي له، بل ولا يجوز، أن يجري على لسانه كلاما غير منسجم مع (التوحيد
الإسلامي القرآني) الجلي الملامح، الواضح الطريق. نعم لا يعم ذلك جميع
المتصوفة بل بعضهم.
ولقد كانت نظرة هذه الفرقة إلى مفهوم الشرك نظرة خاصة وشاذة جدا، حيث
راحت تعد الكثير من أنواع الشرك القطعي بأنه (عين التوحيد)!! وبذلك ضيقوا
(دائرة الشرك) أيما تضييق!!
في مقابل هذه الفرقة - تماما - وقف الوهابيون، فهم توسعوا في فهم حقيقة الشرك
وإطلاقه، توسعا يكاد يشمل كل حركة وسكون وكل تصرف يصدر من أهل
التوحيد تجاه أولياء الله بهدف الاحترام والتكريم حيث اعتبره الوهابيون عين

125
الشرك، والحيدة عن جادة التوحيد!! وسموا فاعله مشركا، حتى أنه اتفق لي أن التقيت
ذات يوم بواحد من " هيئة الأمر بالمعروف " في المسجد الحرام، فاتفق أن صدر
مني تكريم بانحناء رأسي - أثناء ذلك اللقاء - وإذا بذلك الشخص يقول - في جد
وانزعاج -:
لا تفعل هذا... إنه شرك محرم... لا تحني رأسك إنه شرك!!
والحق أنه لو كان معنى الشرك والتوحيد هو كما ما يراه الوهابيون ويقولون به، إذا
لما أمكن أن نمنح لأي أحد تحت هذه السماء وفوق هذه الأرض (هوية الموحد)
ولما استحق أحد أن تطلق عليه تلك الصفة أبدا.
لقد نقل لي صديق ثقة أن إمام المسجد النبوي وخطيبه: الشيخ عبد العزيز كان
يقول في تحديد الشرك:
(إن كل تعلق بغير الله شرك)!
أقول: لو كان معنى الشرك هو هذا الذي يقوله إذن لا بد أن نعتبر كل البشر على
هذه الأرض مشركين، بلا استثناء، حتى الوهابيين أنفسهم، لأنهم يتوصلون إلى
تحقيق مآربهم وتنفيذ حاجاتهم عن طريق التعلق والتوسل بالأسباب مع أنه
لا يمكن أن يقال إن الأسباب والعلل هي الله، بل هي غير الله، فينتج هذا أن يكون
تعلقهم بالأسباب وتوسلهم بالعلل توسلا بغير الله، وتعلقا بسواه!
في حين أن هذا النوع من التعلقات والتشبثات ليست لا تعد شركا فقط بل هي
(عين التوحيد وصميمه) لأن حياة الإنسان في هذه الدنيا مشدودة إلى الأسباب
والعلل.
غاية الأمر أن عليه أن لا يعتقد لهذه الأسباب والعلل أي استقلال وانقطاع عن
الإرادة الإلهية العليا، بل لا بد أن يعتقد بتأثيرها تبعا لمشيئته سبحانه، نعم إن التعلق
بالأسباب والعلل الظاهرية المادية قد يكون (عين التوحيد) من جهة،

126
و (عين الشرك) من جهة أخرى، فعندما لا نعتقد بأي استقلال لهذه الأسباب - عند تشبثنا
بها - ولا نعتبر تأثيرها في مصاف الإرادة الإلهية وفي عرضها بل نعتقد بأنها تقع في
ضمن السلسلة التي تنتهي - بالمآل - إلى الله، فلا نخرج عن إطار التوحيد.
وليس في (الفكر التوحيدي) من مناص إلا الاعتقاد بمثل هذا الأمر وعلى هذا
النمط.
أما عندما نرى لهذه الأسباب والعلل استقلالا، ونعتقد بإمكان تأثيرها بمعزل عن
الإرادة الإلهية، لا بنحو التبعية ففي هذه الصورة سنكون معتقدين بخالقين،
ومؤثرين!!
إن على الموحد أن يحافظ على الاعتقاد بوجود قانون (العلية والسببية) الحاكم في
الظواهر الطبيعية، وإن هذه الأسباب والعلل لا تملك استقلالا في تأثيرها مطلقا بل
هي مفتقرة إلى الله في تأثيرها كما في وجودها وبقائها.
إن الموحد رغم أنه يعرف هذه الحياة ويتعامل معها على أساس أنها خاضعة لنظام
العلية إلا أنه ينظر إلى هذه العلل على أساس أن وجودها وبقاءها وتأثيرها من الله.
فالسبب الأول هو الله سبحانه، وأما الأسباب الأخرى فهي مخلوقة له خاضعة
لإرادته واقعة في طول مشيئته لا في عرضها.
إن الفارق الأساسي بين الموحد والمادي يكمن في هذا المقام.
فالثاني يعتقد ب‍ " أصالة العلل المادية واستقلالها في التأثير " في حين يسندها
الموحد إلى الله خالق كل شئ، مع أنه يعترف بقانون العلية الحاكم في هذا
الكون.

127
* شهادة القرآن:
إن قضية استقلال وعدم استقلال العلل الطبيعية المادية هو الفاصل بين التوحيد
والشرك، وبه يعرف الموحد عن المشرك - بوضوح - وإلى هذه الحقيقة أشار
القرآن الكريم في آيات عديدة، فهناك فريق من الناس عندما يواجهون المشاكل
المستعصية وتنسد في وجوههم جميع الأبواب والسبل ويقابلون المهالك وجها
لوجه، يتوجهون إلى الله ويلوذون به ولا يرون سواه ملجأ ومخلصا، فإذا ما نجوا
عادوا إلى شركهم مرة أخرى، وهذه حالة فريق من الناس، وإلى هذه الحالة تشير
طائفة من آيات القرآن، وها نحن نذكر فيما يلي بعضها على أن المهم لنا هو أن
نعرف ما هو المقصود بالشرك المذكور في هذه الآيات.
وإليك فيما يلي نص الآيات:
(وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق
بربهم يشركون) (الروم - 33).
(فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم
يشركون) (العنكبوت - 65).
(قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون) (الأنعام - 64).
(ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون) (النحل - 54).
هذه بعض الآيات في هذا المجال، والواجب هو الإمعان في عبارة " إذا هم
يشركون ".

128
إن المقصود من الشرك في هذه الآيات - ليس فقط أن هؤلاء إذا وصلوا إلى البر أو
نجوا عكفوا على عبادة الأوثان، بل المراد ما هو أوسع من ذلك فإنهم إذا نجوا
عادوا إلى نسيان الحالة السابقة، والتجأوا إلى الأسباب المادية متصورين أنها
أسباب مستقلة تمدهم في إدامة الحياة من دون استمداد من الله سبحانه وناظرين
إليها بعين العلل المستقلة غير المعتمدة على الله، ولا شك أن النظر إلى الأسباب
العادية من نافذة: الاستقلال، هو أيضا شرك يجب الاجتناب عنه، وهي نقطة
الافتراق بين المدرسة الإلهية والمدرسة المادية، ولو طالعت هذه الآيات المتعلقة
بالشرك والتوحيد بروح علمية لوجدت كيف أن القرآن الكريم يصر على أنه
ليست في عالم الوجود قدرة في مصاف القدرة الإلهية، ولا إرادة في عرض تلك
الإرادة.
ويرشدك إلى هذا أن القرآن يعتقد بأنه سبحانه هو الهادي في ظلمات البر والبحر،
وهو مرسل الرياح بشرى بين يدي رحمته ومنزل الغيث، ويقول:
(أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته
أإله مع الله تعالى الله عما يشركون) (النمل - 63).
مع أن البشر كان ولا يزال يستفيد من الأسباب والوسائل الطبيعية كالنجوم
والبوصلات ويهتدي بها وبغيرها من الأدوات التكنولوجية في أسفاره البرية
والبحرية، وليس هذا إلا لأجل أن سببية الأسباب بتسبيب من الله سبحانه.
كما أن الرياح والأمطار في هذه الطبيعة ينشئان نتيجة سلسلة طويلة من تفاعل
العلل الطبيعية التي تتسبب في وجود ظاهرة الرياح، أو الأمطار، ولكن القرآن مع
ذلك يقول:
(وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته) (الأعراف - 57).
(وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته) (الشورى - 28).

129
وليس ذلك إلا لأن الله وراء تلك الأسباب وهي تفعل بأمره وإقداره.
وبكلام آخر أن هذه العلل والأسباب حيث إنها غير مستقلة، لا في وجودها ولا في
تأثيرها، بل هي مخلوقة بأسرها وبتمام وجودها، وتأثيرها لله، لذا يصرح القرآن
الكريم بأنه سبحانه الهادي في ظلمات البر والبحر والمرسل الرياح ومنزل الغيث
من بعد ما قنطوا.
وهذه الحقيقة - بعينها - مبينة بوضوح تام في آيات سورة الواقعة.
إن هذا لا يعني أن القرآن الكريم يتنكر للعلل والأسباب الطبيعية، وينكر وجودها
ودخالتها، ويلغي دورها. بل حيث إن هذه العلل والأسباب لا تملك من لدن نفسها
استقلالا وتقوم بالله سبحانه قيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي بحيث لو
قطعت عنها عنايته تعالى آنا ما، انهارت وتهافتت جملة واحدة، وانقلب عالم
الوجود مع كل وضوحه إلى ظلام وعدم، لذلك تفنن في تفسير الظواهر الطبيعية
تارة بنسبتها إلى الله سبحانه وأخرى إلى سائر العلل والثالثة إليهما معا، قال:
(وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) (الأنفال - 17).
* التوسل بالأسباب غير الطبيعية:
إلى هنا تبين أن النظرة إلى الأسباب الطبيعية بلحاظ أنها علل غير مستقلة عين
التوحيد، وبلحاظ استقلالها في التأثير عين الشرك، وأما غير الطبيعية من العلل
فحكمها حكم الطبيعية، حيث إن التوسل على النحو الأول عين التوحيد وعلى
النحو الثاني عين الشرك حرفا بحرف، غير أن الوهابيين جعلوا التوسل بغير
الطبيعية من العلل توسلا ممزوجا بالشرك ويقول المودودي في ذلك:
" فالمرء إذا كان أصابه العطش - مثلا - فدعا خادمه وأمره بإحضار الماء

130
لا يطلق عليه حكم " الدعاء " ولا أن الرجل اتخذ الخادم إلها، وذلك أن كل ما فعله الرجل
جار على قانون العلل والأسباب، ولكن إذا استغاث بولي في هذا الحال فلا شك
أنه دعاه لتفريج الكربة واتخذه إلها.
فكأني به يراه سميعا بصيرا، ويزعم أن له نوعا من السلطة على عالم الأسباب مما
يجعله قادرا على أن يقوم بإبلاغه الماء، أو شفائه من المرض ".
" وصفوة القول إن التصور الذي لأجله يدعو الإنسان الإله ويستغيثه ويتضرع إليه
هو لا جرم تصور كونه مالكا للسلطة المهيمنة على قوانين الطبيعة وللقوى
الخارجة عن دائرة نفوذ الطبيعة ".
أقول: إن الحديث في المقام في موردين:
الأول: إذا اعتقد إنسان بأن للظاهرة المعينة سببين: طبيعيا وغير طبيعي فإذا يئس
من الأول ولاذ بالثاني فهل يعد فعله شركا أو لا؟
الثاني: إذا اعتقد بأن لشخص خاص سلطة غيبية على الكون بإذنه سبحانه فهل يعد
هذا الاعتقاد اعتقادا بألوهيته؟
وقد حققنا القول حول الأمر الثاني ونركز البحث على الأمر الأول فنقول:
إذا اعتقد إنسان بأن لبرئه من المرض طريقين أحدهما طبيعي والآخر غير طبيعي،
وقد سلك الطريق الأول ولم يصل إلى مقصوده فعاد يتوسل إلى مطلوبه بالتمسك
بالسبب الثاني كمسح المسيح يديه عليه، فهل يعد اعتقاد هذا وطلبه منه شركا
وخروجا عن جادة التوحيد أو لا؟
وأنت إذا لاحظت الضوابط التي قد تعرفت عليها في تمييز الشرك عن غيره
لاستطعت على الإجابة بأنه لا ينافي التوحيد ولا يضاده بل يلائمه كمال الملائمة
فإنه يعتقد بأن الله الذي منح الأثر للأدوية الطبيعية أو جعل الشفاء في العسل هو

131
الذي منح المسيح قدرة يمكنه أن يبرئ المرضى بإذنه سبحانه، ومعه كيف يعد اعتقاده
هذا شركا؟!
وبكلام آخر: أن الشرك عبارة عن الاعتقاد باستقلال شئ في التأثير، بمعنى أن
يكون أثره مستندا إليه لا إلى خالقه وبارئه والمفروض عدمه، ومع ذلك كيف
يكون شركا، والتفريق بين التوسل بالأسباب الطبيعية وغيرها بجعل الأول موافقا
للتوحيد دون الثاني تفريق بلا جهة فإن نسبتها إلى الله سبحانه في كون التأثير بإذنه
سواسية.
نعم يمكن لأحد أن يخطئ القائل في سببية شئ، ويقول بأن الله لم يمنح للولي
الخاص تلك القدرة وأنه عاجز عن الإبراء، ولكنه خارج عن محط بحثنا فإن
البحث مركز على تمييز الشرك عن غيره لا على إثبات قدرة لأحد أو نفيها عنه
وأظن أن القائلين بكون هذا الاعتقاد والطلب شركا لو ركزوا البحث على تشخيص
ملاك الشرك عن غيره لسهل لهم تمييز الحق عن غيره، إذ أي فرق بين الاعتقاد
بأن الله وهب الإشراق للشمس والإحراق للنار وجعل الشفاء في العسل، وبين
إقداره وليه مثل المسيح وغيره على البرء، أو اعطاءه للأرواح المقدسة من أوليائه
قدرة على التصرف في الكون وإغاثة الملهوف.
وقد ورد في القرآن الكريم نماذج من إعطاء آثار خاصة لعلل غير طبيعية تلقي
الضوء على ما ذكرنا. فإليك بيانها:
1 - إن القرآن يصف عجل السامري بقوله:
(فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي) (طه -
88).
فبعد ما رجع موسى من الميقات ورأى الحال فسأل السامري عن كيفية عمله وأنه
كيف قدر على هذا العمل البديع؟ فأجاب:

132
(بصر ت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك
سولت لي نفسي) (طه - 96).
فعلل عمله هذا بأنه أخذ قبضة من أثر الرسول فعالج بها مطلوبه فعاد العجل ذي
خوار. وهذا يعطي أن التراب المأخوذ من أثر الرسول كان له أثر خاص وقد توسل
به السامري.
2 - إن القرآن يصف كيفية برء يعقوب مما أصاب عينيه، ويقول حاكيا عن يوسف
أنه قال: (اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا وأتوني بأهلكم
أجمعين) (يوسف - 93).
(فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم إني إعلم من
الله ما لا تعلمون) (يوسف - 96).
فإذا اعتقد الإنسان بأن الذي خلق في التراب المأخوذ من أثر الرسول المعين أثرا
خاصا بحيث إذا امتزج مع الحلي يجعلها ذات خوار، أو منح للقميص ذلك الأثر
العجيب هو الذي أعطى لسائر العلل غير الطبيعية آثارا خاصة يستفيد منها الإنسان
في ظروف معينة فهل يجوز لنا رمي المعتقد بهذا، بأنه مشرك؟ وأي فرق بين ما
أخذ السامري من أثر الرسول أو قميص يوسف وسائر العلل مع أن الجميع علل
غير مألوفة؟
إن التوسل بالأرواح المقدسة والاستمداد بالنفوس الطاهرة الخالدة عند ربها نوع
من التمسك بالأسباب في اعتقاد التمسك وقد قال سبحانه:
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة) (المائدة - 35)
وليست الوسيلة منحصرة في العمل بالفرائض والتجنب عن المحرمات بل هي
أوسع من ذلك فتوسل ولد يعقوب بأبيهم كان ابتغاء للوسيلة أيضا.
وأما البحث عن أن هذه الأرواح والنفوس هل في مقدورها أن تغيث من يستغيث
بها أو لا فهو خارج عما نحن بصدده.

133
- 3 -
هل الحياة والموت
يدخلان في مفهومي التوحيد والشرك؟
لا شك أن التعاون، والتعاضد بين أبناء الإنسان أساس الحياة، وما التاريخ الإنساني
إلا حصيلة الجهود البشرية التي نبعت من التعاون، وتقاسم المسؤوليات
والاستفادة المتبادلة من الطاقات الإنسانية.
والقرآن حافل بنماذج كثيرة من استمداد البشر بمثله إذ يقول:
(فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه)
(القصص - 15).
إذن فاستمداد الإنسان بالإنسان الآخر أمر واقع في الحياة البشرية، وجائز عند
جميع الأمم غير أن للوهابيين تفصيلا في المقام يرونه هو الحد الطبيعي الفاصل
بين (التوحيد والشرك).
فيقولون: إن التوسل بالأنبياء والأولياء جائز في حال حياتهم دون مماتهم ويقول
محمد بن عبد الوهاب في هذا الصدد:
" وهذا جائز في الدنيا والآخرة أن تأتي رجلا صالحا تقول له: ادع الله لي كما كان
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسألونه في حياته. وأما بعد مماته
فحاش وكلا أن يكونوا سألوا ذلك، بل أنكر السلف على من قصد دعاء الله عند
قبره فكيف

134
بدعاء نفسه " (1).
إن للتوحيد والشرك معايير خاصة بها يمتاز أحدهما عن الآخر، وإن الإسلام لم
يترك تلك المعايير إلينا بل حدد كل واحد بحد خاص.
وقد ألمعنا بها فيما سبق ولم يذكر في تلك المعايير أن الحياة والموت حدان
للتوحيد والشرك.
وستعرف أنه لا دخالة لحياة المستغاث منه ومماته في تحديد الشرك أو التوحيد
مطلقا، لأن الاستمداد والاستغاثة بالحي مع الاعتقاد باستقلاله في القدرة والتأثير،
وأصالته في إغاثة المستغيث يوجب الشرك، وكون الاستغاثة بالحي أمرا رائجا بين
العقلاء لا يوجب صحتها إذا كانت مقرونة مع الاعتقاد باستقلال المستغاث في
الإغاثة، لأن الدارج بين العقلاء هو: أصل الاستغاثة بالحي لا باعتباره مستقلا في
العمل.
فلا تكون استغاثة شيعة موسى مطابقة للتوحيد إلا في صورة واحدة وهي:
أن لا يعتقد معها باستقلال موسى في التأثير، بل يجعل قدرته، وتأثيره في طول
القدرة الإلهية، ومستمدة منه تعالى.
إن نفس هذه الحقيقة جارية في الاستمداد، والاستغاثة ب‍ " الأرواح المقدسة "
العالمة الشاعرة حسب أخبار القرآن وتأييد العلوم الحديثة، فإذا استغاث شيعة
موسى - عليه السلام - به بعد خروج روحه عن بدنه بهذه العقيدة لم يكن عمله
شركا، ولم يجعل موسى شريكا لله لا في الذات ولا في الصفات ولا في الأفعال
ولا في العبادة، ولم يعبد موسى بهذه الاستغاثة والطلب.
وأما لو استغاث به وهو يعتقد باستقلال روحه في الإغاثة ويعتقد بأنها قادرة



(1) كشف الشبهات، تأليف محمد بن عبد الوهاب: 70، طبع مصر.
135
على التأثير دون القدرة الإلهية. فإن هذا المستغيث يعد مشركا ويكون موسى - كما
يقتضي اعتقاده - في صف الآلهة.
ولو كانت حياة المستغاث ومماته مؤثرة في الأمر فإنما تكون مؤثرة في جدوائية
الاستغاثة أولا. لا في تحديد التوحيد والشرك. والبحث عن الجدوائية وخلافها
خارج عن موضوع بحثنا.
ومن العجب العجاب اعتبار التوسل والاستغاثة بالحي والاستشفاع به عين
التوحيد وعد هذه الاستغاثة والاستشفاء - مع نفس الخصوصيات - بميت شركا
وفاعلها واجب الاستتابة وإن لم يتب فيستحق القتل.
إن الوهابيين يسلمون أن الله سبحانه أمر العصاة بأن يذهبوا إلى النبي صلى الله
عليه وآله وسلم ويطلبوا منه أن يستغفر لهم أخذا بظاهر الآية (النساء - 64) كما
يسلمون أن أولاد يعقوب طلبوا من أبيهم أن يستغفر لهم (يوسف: 97 - 98) غير
أنهم يقولون إن هذين الموردين إنما ينطبقان مع أصول التوحيد لأجل حياة
المستغاث، وأما إذا سئل ذلك في مماته عد شركا.
غير أن القارئ النابه جدا عليم بأن حياة الرسول ومماته لا يغيران ماهية العمل، إذ لو
كان التوسل شركا حقيقة للزم أن يكون كذلك في الحالتين من دون فرق بين
حالتي الحياة والممات.
ولو اعترض على الاستغاثة بالميت بأنه عمل عبثي أولا، وبدعة لم ترد في الشرع
ثانيا، فيقال: في جوابه:
أولا: أن هذا العمل إنما يصطبغ بلون البدعة إذا أتى به المستغيث بعنوان كونه واردا
في الشرع وأما لو أتى به من جانب نفسه من دون أن ينسبه إلى مقام، فلا يعد بدعة
وإحداثا في الدين. لأن البدعة هو إدخال ما ليس من الدين في الدين. وهو فرع
الإتيان بالعمل بما أنه أمر ديني.

136
ثانيا: أن البحث في المقام إنما هو عن تحديد التوحيد والشرك ولا عن كون العمل
مفيدا أو غيره أو بدعة، وغير بدعة فكل ذلك خارج عن بحثنا، أضف إلى ذلك أنه
قد ثبت في محله مشروعية التوسل بالأرواح المقدسة بالدلائل النقلية
الصريحة (1).
وعلى كل حال لا يمكن اعتبار الاستغاثة بالميت شركا إذ لم يفوض ملاك التوحيد
والشرك إلينا بل الميزان في الشرك هو الاعتقاد باستقلال الفاعل في ذاته وفعله
والتوجه به كذلك. كما أن الاعتقاد بعدم استقلاله في ذاته وصفاته وأفعاله يعد
اعترافا بعبوديته ويعد التوجه به تكريما واحتراما. ولو تناسينا هذه القاعدة لما
وجد على أديم الأرض موحدا أبدا.
وفيما يلي نلفت نظر القارئ الكريم إلى كلام لتلميذ ابن تيمية في هذا المجال.
يقول ابن القيم:
" ومن أنواع الشرك طلب الحوائج من الموتى، والاستعانة بهم، والتوجه إليهم.
وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله وهو لا يملك لنفسه ضرا
ولا نفعا " (2).
وما ذكره من الدليل لا يثبت مدعاه لأن قوله: " فإن الميت قد انقطع عمله " دليل على
عدم فائدة الاستغاثة بالميت، وليس دليلا على كونها شركا، وهو لم يفرق بين
الأمرين، والأغرب من ذلك قوله: " ولا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا " إذ لا فرق في
ذلك بين الحي والميت، فلا يملك أحد ضرا لنفسه ولا نفعا بدون إذن الله وإرادته،
سواء أكان حيا، أم ميتا. ومع الإذن الإلهي يملكون النفع والضر، أحياء كانوا أم أمواتا.



(1) راجع رسالتنا: التوسل في ضوء الكتاب والسنة.
(2) فتح المجيد: 68، الطبعة السادسة.
137
ومن هذا اتضح ضعف ما افاده ابن تيمية إذ قال:
" كل من غلا في نبي، أو رجل صالح وجعل فيه نوعا من الإلهية مثل أن يقول:
يا سيدي فلان انصرني أو أغثني... فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه، فإن
تاب، وإلا قتل " (1).
إذا كانت الاستغاثة ب‍ " الأرواح المقدسة " أو (الأموات) حسب تعبير الوهابيين
ملازمة لنوع من الاعتقاد بإلوهية تلك الأرواح، إذا يلزم أن تكون الاستغاثة بأي
شخص - أعم من الحي والميت - ملازمة لمثل هذا الاعتقاد لأن حياة المستغاث
ومماته حد لجدوائية الاستغاثة ولا جدوائيتها، لا أنها حد التوحيد وللشرك في
حين أن الاستغاثة بالحي يعد من أشد ضروريات الحياة الاجتماعية البشرية، ومما
به قوامها.
وإليك فيما يلي نبذة أخرى من كلام ابن تيمية في هذا الصدد فهو يقول:
" والذين يدعون مع الله آلهة أخرى مثل المسيح والملائكة والأصنام لم يكونوا
يعتقدون أنها تخلق الخلائق، أو تنزل المطر وإنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون
قبورهم، أو يعبدون صورهم يقولون: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، أو
هؤلاء شفعاؤنا " (2).
إن قياس الاستغاثة بأولياء الله بما كان يقوم به المسيحيون والوثنيون ابتعاد عن
الموضوعية، لأن المسيحيين كانوا يعتقدون، في حق المسيح بنوع من الألوهية،
وكان الوثنيون يعتقدون بأن الأوثان تملك بنفسها مقام الشفاعة، بل كان بعضهم -
على ما نقل عن ابن هشام - يعتقد بأنها متصرفة في الكون، ومرسلة الأمطار - على
الأقل - ولأجل هذا الاعتقاد كان طلبهم واستغاثتهم بالمسيح وبتلك الأوثان عبادة
لها.



(1) فتح المجيد: 167.
(2) فتح المجيد: 167.
138
فعلى هذا إذا كانت الاستغاثة مقرونة بالاعتقاد بإلوهية المستغاث كانت شركا
حتما، وأما إذا كانت الاستغاثة - بالحي أو الميت - خالية وعارية عن هذا القيد لم
تكن شركا ولا عبادة بل استغاثة بعبد نعلم أنه لا يقوم بشئ إلا بأذنه سبحانه.
نعم يجب في موارد الاستغاثة بالموتى أن نبحث في فائدة مثل هذه الاستغاثة
وعدم فائدتها، لا في كونها شركا وعبادة لغير الله، والكلام إنما هو في الثاني دون
الأول.
ومن العجب أن الوهابية يجوزون التبرك بآثار النبي في حال حياته، لأن الصحابة
كانوا يتبركون بها، ويرون التبرك بآثاره في حال مماته شركا.
وهؤلاء في هذا التفصيل وقعوا في ورطة الشرك من حيث لا يعلمون فإن
تخصيص جواز التبرك بحياته صلى الله عليه وآله وسلم لا ينفك عن الاعتراف
بأن لحياته تأثيرا فيما يقصد في التبرك من البرء والشفاء، ونزول المطر وغيره،
أوليس هذا الاعتقاد في مدرسة هؤلاء شركا؟! إذ لازمه الاعتقاد بتأثير نفس النبي
في برء المريض، ونزول المطر وهو نفس القول بأن للنبي سلطة غيبية على الكون.
فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون قولا؟!

139
- 4 -
هل القدرة والعجز
حدان للتوحيد والشرك؟
ربما يستفاد من كلمات الوهابيين أن هناك معيارا آخر للشرك في العبادة وهو
" قدرة المستغاث على تحقيق الحاجة وعجزه عنه " فإذا طلب أحد من آخر حاجة
لا يقدر عليها إلا الله عد عمله عبادة وشركا، فها هو ابن تيمية يكتب في هذا الصدد
قائلا:
" من يأتي إلى قبر نبي أو صالح، ويسأله حاجته، ويستنجد به مثل أن يسأله أن يزيل
مرضه ويقضي دينه أو نحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، فهذا شرك
صريح يجب أن يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل ".
(1) لقد جعل الكاتب في هذه العبارة للشرك معيارا آخر وهو قدرة المسؤول
وعجزه عن تلبية السائل، ولو كان هذا هو الميزان يجدر بابن تيمية أن يضيف بعد
قوله: " قبر نبي أو صالح " جملة أخرى هي: " أو ولي حي " ليتضح أن المعيار الذي
اعتمده - هنا - ليس هو موت المستغاث وحياته، بل قدرته على تلبية الحاجة
وعدم قدرته على ذلك، كما فعل الصنعاني وهو أحد المتأثرين من الوهابية إذ
قال: " من الأموات أو من الأحياء ".



(1) زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور: 156، وفي رسائل الهدية السنية: 40، نجد ما يقرب من هذا المطلب أيضا.
140
وإليك فيما يأتي نص عبارة الصنعاني في المقام:
" الاستغاثة بالمخلوقين الأحياء فيما يقدرون عليه مما لا ينكرها أحد.
وإنما الكلام في استغاثة القبوريين وغيرهم بأوليائهم، وطلبهم منهم أمورا لا يقدر
عليها إلا الله تعالى من عافية المريض وغيرها، وقد قالت أم سليم: يا رسول الله
خادمك أنس ادع الله له.
وقد كانت الصحابة يطلبون الدعاء منه وهو حي وهذا أمر متفق على جوازه.
والكلام في طلب القبوريين، من الأموات أو من الأحياء أن يشفوا مرضاهم ويردوا
غائبهم ونحو ذلك من المطالب التي لا يقدر عليها إلا الله " (1).
وهكذا نعرف أن المعيار هنا هو غير ما سبق.
ففي المبحث السابق كان المعيار هو: حياة وموت المستغاث فلم يكن الطلب من
الحي موجبا للشرك بينما كان الطلب من الميت موجبا لذلك، ولكن في هذا
المبحث جعلت قدرة المستغاث على تحقيق الحاجة المطلوبة منه، أو عجزه عنها
هي الميزان والمدار للتوحيد والشرك.
فلو سأل أحد شخصا لقضاء حاجة وكانت تلك الحاجة مما لا يقدر عليها غيره
سبحانه فإنه يعتبر - حسب هذا المعيار الجديد - مشركا دون أن يكون لحياة
وموت المستغاث أي ربط بذلك.
فإذن لا تفاوت في هذا المعيار بين حياة المستغاث وموته.
مناقشة هذا الرأي:
والحق أن هذا الرأي أضعف من أن يحتاج إلى مناقشة ونقد، وذلك لأن قدرة
المستغاث أو عجزه إنما يكون معيارا لعقلائية مثل هذا الطلب وعدم عقلائيته



(1) كشف الارتياب: 272.
141
لا معيارا للتوحيد والشرك، فالساقط في بئر - مثلا - لو استغاث بالأحجار والصخور
المحيطة به واستنجد بها عد - في نظر العقلاء - عابثا أما لو استغاث بإنسان واقف
عند البئر قادر على إنقاذه كان طلبه عملا عقلائيا.
وأغلب الظن أن مراد الوهابيين من قولهم " مما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل " ليس
هو التفريق بين القادر والعاجز، وأن طلب الحاجة من الثاني شرك دون الأول، وإن
كان هذا تفيده ظواهر كلماتهم وعباراتهم، بل المقصود من تلك الجملة هو
التفريق بين طلب ما هو من فعل الله وشأنه وما لا يكون من فعله وشأنه فتكون
النتيجة أنه لو طلب أحد من غير الله ما هو من فعل الله وشأنه ارتكب شركا، كما
تشعر بذلك عبارة ابن تيمية إذ قال: " أن يسأله أن يزيل مرضه ويقضي دينه أو نحو
مما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل " ومثله عبارة الصنعاني إذ قال: " من عافية
المريض وغيرها... ".
ولا شك أن طلب ما هو من فعل الله وشأنه من غيره من أقسام الشرك، ويعد
السائل عابدا له، وعمله عبادة. وقد سبق منا بيان هذا القسم من الشرك عند الكلام
في التعريف الثالث للعبادة، ونحن والمسلمون جميعا نوافقهم في هذا الأصل.
إلا أن الكلام كله إنما هو في تشخيص ما يعد فعلا لله سبحانه عن فعل غيره، وقد
سلم ابن تيمية بأن إشفاء المريض وقضاء الدين على وجه الإطلاق من أفعاله
سبحانه ولذلك لا يجوز طلبه من غيره مطلقا، بيد أن الحق أن هذه الأمور ليست
من فعل الله مطلقا بل القسم الخاص منها يعد فعلا له سبحانه وهو قضاء حاجة
المستنجد (كإبراء المريض وقضاء الدين ورد الضالة وغيرها من الأفعال) على
وجه الاستقلال من دون استعانة بأحد.
وأما القسم الذي يقوم به غيره بإذنه سبحانه وإقداره فلا يعد فعلا خاصا به، ولأجل
ذلك لو طلب أحد هذه الأمور من غير الله من الاعتقاد بأن المستغاث

142
يقوم بهذه الأمور مستمدا من قدرة الله ونابعا عن إذنه ومشيئته، لم يكن شركا.
كيف لا وقد نسب القرآن الكريم إشفاء المرضى والأكمه إلى المسيح - عليه السلام
- مع التلويح بالإذن الإلهي إذا قال:
(وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني) (المائدة - 110).
كما نسب أيضا: الخلق والتدبير والإحياء والإماتة والرزق إلى كثير من عباده مع
أنها - ولا شك - من أوضح أفعاله سبحانه ولا يقل وضوح انتسابه إلى الله مما مثل
به ابن تيمية.
وليست هذه النسبة إلى غير الله إلا لأجل ما أشرنا إليه، في محله من أن ما يعد فعلا
للبارئ سبحانه ليس هو مطلق الخلق والرزق، والتصرف والتدبير، والإحياء
والإماتة، حتى يناقض نسبتها إلى غيره سبحانه (كما في كثير من الآيات) بل القسم
الخاص منها وهو ما يكون الفاعل مستقلا في فعله، منحصر به سبحانه كما أنه ليس
ثمة مسلم يطلب هذه الأفعال بهذا النحو من غيره سبحانه حتى يعد عمله شركا
ويكون سؤاله عبادة.
فالواجب على ابن تيمية وأتباعه دراسة أفعاله سبحانه وتمييزها عن أفعال غيره
أولا، فإنه مفتاح الوحيد لحل هذه المشكلة، بل هو المفتاح والطريق لحل كل
الاختلافات بين ظواهر الآيات التي تبدو متعارضة مع بعضها في نسبة الأفعال.
وعلى ذلك فإن طلب إزالة المرض ورد الضالة وغيرهما على نحوين:
قسم يختص به سبحانه ولا يجوز طلبه عن غيره وإلا لعاد الطالب مشركا وعابدا
لغير الله.
وقسم يجوز طلبه من غيره ولا يعد الطالب مشركا، ولا يكون بطلبه عابدا لغير الله.
وأما أن المسؤول والمستغاث هل يقدر على تحقيق الحاجة أو لا. وإن الله هل
أقدره على ذلك أو لا؟ فهي أمور خارجة عن موضوع بحثنا الفعلي.

143
- 5 -
هل طلب الأمور الخارقة
حد للشرك؟
لا شك أن لكل ظاهرة - بحكم قانون العلية - علة لا يمكن للمعلول أن يوجد
بدونها، فليس في الكون الفسيح كله من ظاهرة حادثة لا ترتبط بعلة، ومعاجز
الأنبياء، وكرامات الأولياء غير مستثناة من هذا الحكم فهي لا تكون دون علة، غاية
الأمر أن علتها ليست من سنخ العلل الطبيعية، وهو غير القول بكونها موجودة بلا
علة مطلقا.
فإذا ما تبدلت عصا موسى - عليه السلام - إلى ثعبان يتحرك ويبتلع الأفاعي وإذا
ما عادت الروح إلى جسد ميت بال، بإعجاز السيد المسيح - عليه السلام - وإذا ما
انشق القمر نصفين بإعجاز خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم أو تكلم
الحصى معه، أو سبح في يده فليس معنى ذلك أنها لا ترتبط بعلة كسائر الظواهر
الحادثة، بل ترتبط بعلل خاصة غير العلل الطبيعية المألوفة.
فلو استمد إنسان بإنسان آخر لقضاء حاجته عن علله الطبيعية لقد جرى على
السنة مألوفة بين العقلاء، إنما الكلام في الاستمداد في قضاء الحاجة عن الطرق
الغيبية والعلل غير الطبيعية وهذا هو ما يتصور أنه شرك وفي ذلك يقول
المودودي لو طلب حاجة وأمرا لتعطي له من غير المجرى الطبيعي وخارجا عن

144
أطار السنن الطبيعية كان شركا وملازما للاعتقاد بإلوهية الجانب الآخر المسؤول (1).
غير أن هذا التفصيل لا يمكن الركون إليه إذ جرت سيرة العقلاء على طلب
المعجزة والأمور الخارقة للعادة من مدعي النبوة، وقد نقل القرآن تلك السيرة عن
الذين عاصروا الأنبياء من دون أن يعقب على ذلك بالرد والنقد، قال سبحانه حاكيا
عنهم:
(قال إن كنت جئت ب آية فأت بها إن كنت من الصادقين) (الأعراف - 106).
وقد كان الأنبياء يدعون الناس ليشهدوا ما يقع على أيديهم من خوارق العادات
وعلى هذا فالإنسان المستهدي المتطلب لمعرفة صدق دعوى المتنبئ كالسيد
المسيح وغيره إذا طلب منه أن يبرئ الأكمه ويشفي الأبرص - بإذن الله - (2)
لا يكون مشركا ومثله فيما إذا طلب ذلك منه بعد رفعه إلى الله سبحانه فلا يمكن
التفكيك بين الصورتين باعتبار الأول عملا توحيديا، والثاني عملا ممزوجا
بالشرك.
أضف إلى ذلك أن بني إسرائيل طلبوا من موسى الماء والمطر وهم في التيه
ليخلصهم من الظمأ إذ يقول سبحانه: (وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن
اضرب بعصاك الحجر) (الأعراف - 160).
وقد طلب سليمان من حضار مجلسه إحضار عرش المرأة التي كانت تملك قومها
كما يحكي سبحانه:
(قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين * قال عفريت من
الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك) (النمل: 38 - 39).



(1) راجع المصطلحات الأربعة: 14.
(2) راجع للوقوف على معاجز سيدنا المسيح سورة آل عمران الآية 249 والمائدة الآية 110.
145
فلو كان طلب الخوارق من غيره سبحانه شركا كيف طلب بنوا إسرائيل من نبيهم
موسى ذلك الأمر أو كيف طلب سليمان من أصحابه إحضار ذلك العرش من
المكان البعيد وكل ذلك يعطي بأن طلب الخوارق أو طلب الشئ عن غير مجاريه
الطبيعية ليس حدا للشرك كما أن الحياة والموت ليسا حدين للشرك، فلا يمكن
أن يقال بأن طلب الخوارق جائز من الحي دون الميت، ولأجل ذلك ركزنا البحث
في التعرف على ملاك الشرك والتوحيد.
وتصور أن طلب الخوارق ملازم للاعتقاد بالسلطة الغيبية الملازمة للألوهية فقد
عرفت جوابه في ذلك الفصل.
وتصور أن طلب شفاء المريض وأداء الدين طلب لفعل الله من غيره، مدفوع بما
عرفت من أن الملاك في تمييز فعله سبحانه عن غيره ليس هو كون الفعل خارجا
عن إطار السنن الطبيعية وخارقا للقوانين الكونية ليكون طلب مثل هذا من غير الله
طلبا للفعل الإلهي من غيره.
بل المعيار في الفعل والشأن الإلهي هو ما كان الفاعل مستقلا في الخلق والإيجاد
غير معتمد على غيره سواء أكان الأمر أمرا طبيعيا أم غير طبيعي. ويجب على
متطلب الحقيقة أن يدرس فعل الله وفعل غيره دراسة معمقة نابعة عن الكتاب
والسنة والعقل السليم.
وبكلام آخر: أنه ليس القيام بأمر عن طريق عادي فعلا للإنسان، والقيام به عن
طريق غير عادي فعلا لله سبحانه بل الفعل على قسمين: قسم منه يعد فعلا له
سبحانه لا يجوز طلبه من غيره سواء أكان عاديا أم غير عادي، وقسم يعد فعلا لغير
الله يجوز طلبه من غيره سواء أكان عاديا أم غير عادي أيضا، وبذلك يعلم أن طلب
الشفاء من الأولياء على النحو الذي بيناه لا يخالف أصول التوحيد.
* * *

146
الفصل الرابع
عقائد الوهابيين..

147
إن من سبر كتب الوهابية وعاش بين ظهرانيهم رأى بأن الاتهام بالشرك أكثر شئ
تردده كتبهم وألسنتهم ومحافلهم، فلا يميل المرء يمينا أو شمالا إلا ويسمع أنهم
يصفونه فورا بأنه مشرك وأن عمله بدعة وأنه بذلك مبتدع، بحيث إذا كان
المقياس هو ما ذكروه أو يذكرونه في كتبهم ومحافلهم لما استطاع الإنسان أن
يسجل كثيرا من المسلمين في ديوان الموحدين.
ترى ما هذا الضيق الذي أوجده الوهابيون في دائرة الأمة الإسلامية وهل هذا بدافع
تحري الحقيقة، وتمييز الموحد عن المشرك، أو أن هناك أمورا سياسية وأحداثا
تخلقها يد الاستعمار بهدف إيجاد التفرقة بين المسلمين، وتمزيق صفوفهم،
وتفكيك العرى بينهم، ليتسنى له الوصول إلى مآربه ومطامعه؟ والله أعلم.
غير أننا نريد هنا أن نعرض هذا الأمر على كتاب الله وسنة رسوله، وسيرة خلفائه
لنرى هل كتاب الله وسيرة النبي وخلفائه على هذا الضيق؟ الجواب هو كلا كما
ستعرف..
* المرونة في قبول الإسلام:
إن من يلاحظ عصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وما تلاه من عصور
التحول العقائدي والفكري يجد إقبال الأمم المختلفة ذات التقاليد والعادات
المتنوعة على الإسلام

149
وكثرة دخولهم واعتناقهم هذا الدين، ويجد أن النبي والمسلمين كانوا يقبلون إسلامهم،
ويكتفون منهم بذكر الشهادتين دون أن يعمدوا إلى تذويب ما كانوا عليه من
عادات اجتماعية، وصوغهم في قوالب جديدة تختلف عن القوالب والعادات
والتقاليد السابقة تماما.
وقد كان احترام العظماء - أحياء وأمواتا - وإحياء ذكرياتهم والحضور عند القبور،
وإظهار العلاقة والتعلق بها من الأمور الرائجة بينهم.
واليوم نجد الشعوب المختلفة - الشرقية والغربية - تعظم وتخلد ذكريات
عظمائها، وتزور قبور أبنائها، وتتردد على مدافنهم، وتسكب في عزائهم الدموع
والعبرات... وتعتبر كل هذا الصنيع نوعا من الاحترام النابع من العاطفة والمشاعر
الداخلية الغريزية.
وصفوة القول أننا لا نجد موردا عمد فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى قبول
إسلام الوافدين والداخلين فيه بعد أن يشرط عليهم أن ينبذوا تقاليدهم الاجتماعية
هذه... وبعد أن يفحص عقائدهم، بل نجده صلى الله عليه وآله وسلم يكتفي من
المعتنقين الجدد للإسلام بذكر الشهادتين ورفض الأوثان.
وإذا كانت هذه العادات والتقاليد شركا لزم أن لا يقبل النبي صلى الله عليه وآله و
سلم إسلام تلك الجماعات والأفراد إلا بعد أن يأخذ منهم الاعتراف بنبذ تلكم
التقاليد والمراسم.
والحاصل أن ترك التوسل بالأولياء والتبرك بآثارهم وزيارة قبورهم لو كان شرطا
لتحقق الإيمان المقابل للشرك والصائن للدم والمال لوجب على نبي الإسلام
اشتراط ذلك كله (أي ترك هذه الأمور) عند وفود القبائل على الإسلام، وللزم
التصريح به على صهوات المنابر وعلى رؤوس الأشهاد مرة بعد أخرى. ولو صرح
بذلك لما خفي على المسلمين، إذن فكل ذلك يدل على عدم اشتراط ترك هذه

150
الأمور وليس ذلك إلا لأن تركها ليس شرطا لتحقق الإيمان ورفض الشرك ولعدم كون
الآتي بها مجانبا للإيمان ومعتنقا للشرك.
ولو كان التوسل والتبرك والزيادة ملازما للاعتقاد بالإلوهية لما خفي ذلك على
المسلمين الذين جرت سيرتهم العملية على ذلك حتى يكون عملهم مخالفا
لاعترافهم بإله واحد.
وقد تواترت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وآله بأن الإسلام يحقن
به الدم، ويصان به العرض، والمال، وتؤدي به الأمانة، إلى غير ذلك من الأحكام
المترتبة على الإسلام.
وحسبك أيها القارئ الكريم ما أخرجه البخاري عن ابن عباس عن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لمعاذ بن
جبل حين بعثه إلى اليمن:
" إنك ستأتي قوما أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله
وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم
خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد
فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك
بذلك فإياك وكرائم أموالهم " (1).
وأخرج البخاري ومسلم في باب فضائل علي - عليه السلام - أنه (2) قال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم يوم خيبر:
" لأعطين هذه الراية رجلا يحب الله ورسوله يفتح الله على يديه ".
قال عمر بن الخطاب: ما أحببت الإمارة إلا يومئذ قال:



(1) صحيح البخاري: 5 / 162، باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن.
(2) واللفظ لمسلم، وراجع البخاري: 2 في مناقب علي - عليه السلام -.
151
فتساورت لها رجاء أن أدعى لها، قال: فدعى رسول الله صلى الله عليه وآله و
سلم علي بن أبي طالب فأعطاه إياها وقال: " امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك "
فسار علي شيئا ثم وقف ولم يلتفت وصرخ: يا رسول الله على ماذا أقاتل الناس؟
قال صلى الله عليه وآله وسلم:
" قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. فإذا فعلوا ذلك فقد
منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله " (1).
وأخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم:
" بني الإسلام على خمس:
شهادة أن لا إله إلا الله.
وأن محمدا رسول الله.
وإقام الصلاة.
وإيتاء الزكاة.
والحج.
وصوم رمضان " (2).
وأخرج البخاري - أيضا - عن ابن عمر أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال:
" أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن



(1) صحيح مسلم: 6، باب فضائل علي بن أبي طالب - عليه السلام -.
(2) راجع التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول تأليف الشيخ منصور علي ناصف: 1 / 20.
152
محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم
وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله " (1).
إلى غير ذلك من الأحاديث النبوية في كتاب الإيمان في كتب الصحاح والسنن.
وأما ما روي عن أئمة أهل البيت فيكفيك ما رواه سماعة عن الإمام الصادق - عليه
السلام - قال:
" الإسلام: شهادة أن لا إله إلا الله والتصديق برسول الله به حقنت الدماء وجرت
المناكح والمواريث " (2).
وكل هذه الأحاديث تصرح بأن ما تحقن به الدماء وتصان به الأعراض ويدخل
الإنسان به في عداد المسلمين هو الاعتقاد بتوحيده سبحانه ورسالة الرسول.
وعلى ذلك جرت سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد كان يكتفي من الرجل
بإظهاره الشهادتين، ولم ير منه أنه سأل الوافدين المظهرين للشهادتين: هل هم
يتوسلون بالأنبياء والأولياء والقديسين أو لا، هل هم يتبركون بآثارهم أو لا هل هم
يزورون قبور الأنبياء أو لا؟ فيشترط عليهم أن يتركوا التوسل والتبرك والزيادة.
أجل كل ذلك يدل على أن الإسلام الحاقن للدماء، الصائن للأعراض



(1) صحيح البخاري: 1، كتاب الإيمان، باب فإن تابوا وأقاموا الصلاة، وفي صحيح ابن ماجة: 2 / 457 باب الكف عمن
قال: لا إله إلا الله.
(2) الكافي: 2 / 25، الطبعة الحديثة، راجع باب الإيمان يشارك الإسلام والإسلام لا يشارك الإيمان، ترى فيها نصوصا
رائعة وصريحة في هذا المقام.
وراجع التاج: 1 / 20 - 34، كتاب الإسلام والإيمان.
153
والأموال هو قبول الشهادتين وإظهارهما فقط، وأما ما وراء ذلك فلا دخالة له في حقن
الدماء والأموال والأعراض.
نعم إن الله فرض على المسلمين عندما تنازعوا، أو اختلفوا في أمر أن يردوه إلى
الله والرسول كما قال سبحانه:
(فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم
الآخر) (النساء - 59).
وقال سبحانه:
(ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم)
(النساء - 83).
وعلى ذلك فليس لأحد من المسلمين سب طائفة منهم وشتمها ورميها بالكفر
والإلحاد ما دامت تتمسك بالشهادتين وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وذلك لأجل
توسلهم بالأنبياء أو تبركهم بآثارهم، أو غير ذلك من المسائل الفكرية الدقيقة التي
تضاربت فيها آراء علمائهم ونظرياتهم.
فإن طعن فيهم طاعن أو رماهم بالشرك فقد خرج عن النهج الذي شاءه الله
للمسلمين، وقال:
(إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ) (الأنعام - 159)
وقال:
(ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا) (النساء - 94).
وقال سبحانه:
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون *
واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) (آل عمران: 102 - 103).

154
والمراد بحبل الله الذي يجب الاعتصام به هو دينه المفسر بالإسلام كما قال:
(إن الدين عند الله الإسلام) (آل عمران - 19).
والإسلام هو إظهار الشهادتين ولا ريب في وجوده في طوائف المسلمين إلا من
اتفقت كلمتهم على تكفيرهم كالنواصب.
ومن راجع الكتاب والسنة يجد أنهما يركزان دعوتهما على لزوم التوادد والتحابب
بين المسلمين لا على التنافر، ورمي بعضهم بعضا بالكفر، والتعدي بالضرب
والشتم والقتل.
وأخرج البخاري بطرق عديدة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في
حجة الوادع:
" انظروا ولا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض " (1).
فكيف يسمح الوهابيون لأنفسهم إذن بأن يرموا المسلمين الموحدين بالشرك
ليس إلا لأنهم يظهرون ما يضمرونه من محبة وود للنبي صلى الله عليه وآله و
سلم بتقبيل ضريحه وتعظيمه.
ومع ذلك كله فنحن نعرض عقائد الوهابيين على الكتاب والسنة في مجال
التوحيد والشرك فقط بالتفصيل حتى تظهر الحقيقة بأجلى مظاهرها، ونكتفي -
هنا - بالقليل من الكثير فنقصر البحث في المسائل التالية:
1 - هل طلب الشفاء والإشفاء من غيره سبحانه شرك؟
2 - هل طلب الشفاعة من عباد الله سبحانه شرك؟
3 - هل الاستعانة بأولياء الله شرك؟
4 - هل دعوة الصالحين شرك؟



(1) البخاري: 9 / كتاب الفتن، الباب السابع، الحديث الأول والثاني، ورواه أيضا في مختلف كتبه، ورواه ابن ماجة في
باب سباب المسلم فسوق راجع: 2 / 462، ط مصر.
155
5 - هل تعظيم أولياء الله وتخليد ذكرياتهم شرك؟
6 - هل التبرك بآثار النبي والأولياء شرك؟
7 - هل البناء على القبور شرك؟
8 - هل زيارة القبور شرك؟
9 - هل الصلاة عند قبور الصالحين شرك؟
10 - هل الحلف بغير الله وإقسامه بمخلوق أو حقه عليه شرك؟
وعلى تقدير عدم كون هذه الأمور شركا، فهل هو جائز أو لا؟ وقد ركزنا البحث
على الأول، وبحثنا عن الثاني على وجه الإجمال لكون المطلوب في هذه الرسالة
هو تحديد التوحيد والشرك، لا جواز الشئ أو منعه. وربما يمكن أن لا يكون
عمل شركا ولكن يكون حراما.

156
المسائل العشر
- 1 -
هل طلب الإشفاء من غيره سبحانه شرك؟
لا شك في أن هذا الكون عالم منظم، فجميع الظواهر الكونية فيه تنبع من الأسباب
والعلل التي - هي بدورها - مخلوقة لله تعالى، ومعلولة له سبحانه.
وحيث إن هذه العلل والأسباب لا تملك من لدن نفسها أي كمال ذاتي، بل وجدت
بمشيئة الله، وصارت ذات أثر بإرادته سبحانه لذلك صح أن ينسب الله آثارها
وأفعالها إلى نفسه، كما يصح أن تنسب إلى عللها.
هذا ما أوضحناه في ما سبق أتم إيضاح، وبذلك يظهر أن الشفاء تارة ينسب إلى
الله سبحانه وأخرى إلى علله القريبة المؤثرة بإذنه وبذلك يرتفع التعارض
الابتدائي بين الآيات فبينما يخص القرآن الإشفاء بالله سبحانه ويقول:
(وإذا مرضت فهو يشفين) (الشعراء - 80)
وبينما ينسب الشفاء إلى غيره كالقرآن والعسل، والجواب أنه ليس هنا في الحقيقة
إلا فعل واحد وهو الإشفاء ينسب تارة إلى الله على وجه التسبيب وإلى غيره من
الأسباب العادية كالعسل والأدوية وغيرها على وجه المباشرة.
فهو الذي وهب أنبياءه وأولياءه: القدرة على الإشفاء والمعافاة، والإبراء. وهو الذي
أذن لهم بأن يستخدموا هذه القدرة الموهوبة ضمن شروط خاصة.

157
فهذا القرآن إذ يصف الله تعالى بأنه هو الشافي الحقيقي (كما في آية 80 الشعراء)
يصف العسل بأنه الشافي أيضا عندما يقول:
(فيه شفاء للناس) (النحل - 69).
أو ينسب الشفاء إلى القرآن عندما يقول:
(وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين) (الإسراء - 82).
وطريق الجمع الذي ذكرناه وارد هنا وجار في هذا المقام كذلك، وهو بأن نقول:
إن الإبراء والإشفاء - على نحو الاستقلال - من فعل الله لا غير.
وعلى نحو التبعية والاستقلال من فعل هذه الأمور والأسباب فهو الذي خلقها، و
أودع فيها ما أودع من الآثار، فهي تعمل بإذنه وتؤثر بمشيئته.
ففي هذه الصورة إذا طلب أحد الشفاء من أولياء الله وهو ملتفت إلى هذا الأصل (1)
كان عمله جائزا ومشروعا وموافقا للتوحيد المطلوب تماما.
لأن الهدف من طلب الشفاء من الأولياء هو تماما مثل الهدف من طلب الشفاء من
العسل والعقاقير الطبية، غاية ما في الباب أن العسل والعقاقير تعطي آثارها بلا إرادة
وإدراك منها، بينما يفعل ما يفعله النبي والولي عن إرادة واختيار، فلا يكون الهدف
من الاستشفاء من الولي إلا مطالبته بأن يستخدم تلك القدرة الموهوبة له ويشفي
المريض بإذن الله كما كان يفعل السيد المسيح - عليه السلام - إذ كان يبرئ من
استعصى علاجه من الأمراض بإذن الله والقدرة الموهوبة له من الله.
وواضح أن مثل هذا العمل لا يعد شركا إذ لا تنطبق على ذلك معايير الشرك أو قل
المعيار الواحد الحقيقي.



(1) نعني كونهم يؤثرون بإذن الله وقدرته ومشيئته.
158
نعم يمكن المناقشة في أنهم هل يقدرون على ذلك أو لا، وهل أعطيت لهم تلك
المقدرة أو لا؟ غير أن البحث مركز على كونه طلبا توحيديا أو غير توحيدي.
ومما يوضح ذلك أن الفراعنة كانوا يطلبون من موسى كشف الرجز كما في قوله
سبحانه: (قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن
لك ولنرسلن معك بني إسرائيل) (الأعراف - 134).
ولا نريد أن نستدل بطلب فرعون أو قومه بل الاستدلال إنما هو بسكوت موسى
أمام مثل هذا الطلب.
وعلى الجملة فلو طلب رجل من السيد المسيح وقال له: إنك تقول:
(وأبرئ الأكمه والأبرص وأحي الموتى بإذن الله) (آل عمران - 49).
وهذا ولدي قد ابتلي بالمرض الصعب العلاج فأبرئه بإذن الله، وهذا أخي قد مات
فأطلب منك أن تحييه، وعند ذلك أنا وجميع أسرتي نؤمن بك وبرسالتك.
فهل ترى أن المسيح ينسب هذا الطلب إلى الشرك ويعد الطالب مشركا، قائلا: بأن
الإبراء والإحياء من أفعاله سبحانه؟ أو أنه يتلقى هذا الرجل متحريا للحقيقة، وطالبا
للهداية، وأن الإبراء والإحياء إنما يعدان من أفعاله سبحانه إذا قام الفاعل بهما على
وجه الاستقلال، والاعتقاد بأن المطلوب واجد لهذا النحو من القدرة اعتقاد
بألوهيته والطلب منه عبادة له؟
وأما الإبراء والإحياء وبقدرة مكتسبة من الله وإذن وإرادة منه سبحانه بحيث يعد
المبرئ والمحيي أدوات فعله وأسباب نفوذ إرادته، ومظهر مشيئته فلا يعد مثل
هذا الاعتقاد اعتقادا بالإلوهية ولا الطلب عبادة.

159
المسائل العشر
- 2 -
هل طلب الشفاعة من غيره سبحانه شرك؟
لا مرية في أن الشفاعة حق خاص بالله سبحانه، فالآيات القرآنية - مضافة إلى
البراهين العقلية - تدل على ذلك مثل آية:
(قل لله الشفاعة جميعا) (الزمر - 44).
إلا أن في جانب ذلك دلت آيات كثيرة أخرى على أن الله أذن لفريق من عباده أن
يستخدموا هذا الحق، ويشفعوا - في ظروف وضمن شروط خاصة - حتى أن
بعض هذه الآيات صرحت بخصوصيات وأسماء طائفة من هؤلاء الشفعاء كقوله
تعالى:
(وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن
يشاء ويرضى) (النجم - 26).
كما أن القرآن أثبت لنبي الإسلام " المقام المحمود " إذ يقول:
(عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) (الإسراء - 79).
وقد قال المفسرون: إن المقصود بالمقام المحمود هو: مقام الشفاعة، بحكم
الأحاديث المتضافرة التي وردت في هذا الشأن.
كل هذا مما اتفق عليه المسلمون إنما الكلام في أن طلب الشفاعة ممن أعطي

160
له حق الشفاعة كأن يقول " يا رسول الله اشفع لنا " هل هو شرك أو لا؟
وليس البحث في المقام - كما ألمعنا إلى ذلك غير مرة - في كون هذا الطلب مجديا
أو لا إنما الكلام في أن هذا الطلب هل هو عبادة أو لا؟
فنقول: قد ظهر الجواب مما أوضحناه في الأبحاث السابقة، فلو اعتقدنا بأن من
نطلب منهم الشفاعة، لهم أن يشفعوا لمن أرادوا ومتى أرادوا وكيفما ارتأوا، دون
رجوع إلى الإذن الإلهي أو حاجة إلى ذلك، فإن من المحتم أن هذا الطلب
والاستشفاع عبادة وأن الطالب يكون مشركا حائدا عن طريق التوحيد لأنه طلب
الفعل الإلهي وما هو من شؤونه من غيره.
وأما لو استشفعنا بأحد هؤلاء الشفعاء ونحن نعتقد بأنه محدود مخلوق لله
لا يمكنه الشفاعة لأحد إلا بإذنه فهذا الطلب لا يختلف عن طلب الأمر العادي ماهية
ولا يكون خارجا عن نطاق التوحيد.
وإن تصور أحد أن هذا العمل (أعني طلب الشفاعة من أولياء الله) يشبه - في
ظاهره - عمل المشركين، واستشفاعهم بأصنامهم، فهو تصور باطل بعيد عن
الحقيقة.
لأن التشابه الظاهري لا يكون أبدا معيارا للحكم بل المعيار الحقيقي للحكم إنما
هو: قصد الطالب، وكيفية اعتقاده في حق الشافع، ومن الواضح جدا أن المعيار هو
النيات والضمائر، لا الأشكال والظواهر، هذا مع أن الفرق بين العملين واضح من
وجوه:
أولا: إنه لا مرية في أن اعتقاد الموحد في حق أولياء الله يختلف - تماما - عن
اعتقاد المشرك في حق الأصنام.
فإن الأصنام والأوثان كانت - في اعتقاد المشركين - آلهة صغارا يملكون شيئا من
شؤون المقام الألوهي من الشفاعة والمغفرة، بخلاف أهل التوحيد فإنهم

161
يعتقدون بأن من يستشفعون بهم: عباد مكرمون لا يعصون الله وهم بأمره يعملون، وأنهم
لا يملكون من الشفاعة شيئا، ولا يشفعون إلا إذا أذن الله لهم أن يشفعوا في حق من
ارتضاه.
وبالجملة فإن تحقق الشفاعة منهم يحتاج إلى وجود أمرين:
1 - أن يكون الشفيع مأذونا في الشفاعة.
2 - أن يكون المشفوع له مرضيا عند الله.
فلو قال مسلم لصالح من الصالحين: (اشفع لي عند الله) فإنه لا يفعل ذلك إلا مع
التوجه إلى كونه مشروطا بالشرطين المذكورين.
ثانيا: إن المشركين كانوا يعبدون الأصنام مضافا إلى استشفاعهم بها، بحيث كانوا
يجعلون استجابة دعوتهم وشفاعهم عوضا عما كانوا يقومون به من عبادة لها
بخلاف أهل التوحيد فإنهم لا يعبدون غير الله طرفة عين أبدا.
وأما استشفاعهم بأولئك الشفعاء فليس إلا بمعنى الاستفادة من المقام المحمود
الذي أعطاه الله سبحانه لنبيه في المورد الذي يأذن فيه الله، فقياس استشفاع
المؤمنين بما يفعله المشركون ليس إلا مغالطة. وقد مر غير مرة أنه لو كان الملاك
التشابه الظاهري للزم أن نعتبر الطواف بالكعبة المشرفة واستلام الحجر والسعي
بين الصفا والمروة موجبا للشرك وعبادة للحجر.
* * *

162
الوهابيون وطلب الشفاعة:
إن الوهابيين يعتبرون مطلق طلب الشفاعة شركا وعبادة ويظنون أن القرآن لم
يصف الوثنيين بالشرك إلا لطلبهم الشفاعة من أصنامهم كما يقول سبحانه:
(ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند
الله) (يونس - 18)
وعلى هذا فالشفاعة وإن كانت حقا ثابتا للشفعاء الحقيقيين إلا أنه لا يجوز طلبه
منهم لأنه عبادة لهم، قال محمد بن عبد الوهاب:
" إن قال قائل: الصالحون ليس لهم من الأمر شئ ولكن اقصدهم وأرجو من الله
شفاعتهم، فالجواب أن هذا قول الكفار سواء بسواء واقرأ عليهم قوله تعالى:
(والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) (الزمر - 3)
وقوله:
(ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند
الله) (يونس - 18) (1).
وإن قال: إن النبي أعطي الشفاعة وأنا أطلبه ممن أعطاه الله، فالجواب أن الله أعطاه
الشفاعة ونهاك عن طلبها منه فقال تعالى:
(فلا تدعوا مع الله أحدا) (الجن - 18).
وأيضا فإن الشفاعة أعطيها غير النبي. فصح أن الملائكة يشفعون، والافراط
يشفعون، والأولياء يشفعون، أتقول إن الله أعطاهم الشفاعة فأطلبها منهم؟ فإن
قلت هذا رجعت إلى عبادة الصالحين التي ذكرها الله في كتابه " (2).



(1) كشف الشبهات: 7 - 9، طبعة القاهرة.
(2) كشف الشبهات: 7 - 9، طبعة القاهرة.
163
استدل ابن عبد الوهاب على حرمة طلب الشفاعة بآيات ثلاث:
الأولى: قوله سبحانه:
(ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند
الله)
إذ قال بأن عبادة المشركين للأوثان كانت متحققة بطلب الشفاعة منهم لا بأمر آخر.
الثانية: قوله سبحانه:
(والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) (الزمر - 3).
قائلا بأن عبادة المشركين للأصنام كانت متحققة بطلب شفاعتهم منها.
الثالثة: قوله سبحانه:
(فلا تدعوا مع الله أحدا) (الجن - 18)
ولا بد من البحث حول هذه الآيات الثلاث التي استدل بها القائل على أن طلب
الشفاعة ممن له حق الشفاعة عبادة له فنقول:
أما الاستدلال بالآية الأولى فالإجابة عنه بوجهين:
1 - ليس في قوله سبحانه (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم...)، أية دلالة على
مقصودهم، وإذا ما رأينا القرآن يصف هؤلاء بالشرك فليس ذلك لأجل
استشفاعهم بالأوثان، بل لأجل أنهم كانوا يعبدونها لغاية أن يشفعوا لهم بالمآل.
وحيث إن هذه الأصنام لم تكن قادرة على تلبية حاجات الوثنيين لذلك كان
عملهم وطلبهم عملا سفيها لا أنه كان شركا.

164
فالإمعان في معنى الآية وملاحظة أن هؤلاء المشركين كانوا يقومون بعملين:
(العبادة وطلب الشفاعة كما يدل عليه قوله: (ويعبدون) ويقولون) يكشف عن أن
علة اتصافهم بالشرك واستحقاقهم لهذا الوصف كانت لأجل عبادتهم لتلك
الأصنام لا لاستشفاعهم بها، كما لا يخفى.
ولو كان الاستشفاع بالأصنام عبادة لها في الحقيقة لما كان هناك مبرر للإتيان
بجملة أخرى أعني قوله: (ويقولون هؤلاء شفعاؤنا) بعد قوله: (ويعبدون) إذ كان
حينئذ تكرارا.
إن عطف الجملة الثانية على الأولى يدل على المغايرة بينهما، إذن لا دلالة لهذه
الآية على أن الاستشفاع بالأصنام كان عبادة فضلا عن كون الاستشفاع بالأولياء
المقربين عبادة لهم، نعم قد ثبت أن الاستشفاع بالأصنام كان عبادة لهم بملاك آخر
غير موجود في الاستشفاع بالنبي، كما سيوافيك في التالي.
2 - إن هناك فرقا بين الاستشفاعين فالوثني يعتبر الصنم ربا مالكا للشفاعة يمكنه
أن يشفع لمن يريد وكيفما يريد. والاستشفاع بهذه العقيدة شرك، ولأجل ذلك
يقول سبحانه نقدا لهذه العقيدة.
(قل لله الشفاعة جميعا) (الزمر - 44)
والحال أن المسلمين لا يعتقدون بأن أولياءهم يملكون هذا المقام فهم يتلون آناء
الليل وأطراف النهار قوله سبحانه:
(من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) (البقرة - 255)
ومع هذا التفاوت البين والفارق الواضح كيف يصح قياس هذا بذلك؟
والدليل على أن المشركين كانوا معتقدين بكون أصنامهم مالكة للشفاعة أمران:

165
الأول: تأكيد القرآن في آياته بأن شفاعة الشافع مشروطة بإذنه سبحانه وارتضائه:
قال سبحانه:
(من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) (البقرة - 255)
وقال:
(ما من شفيع إلا من بعد إذنه) (يونس - 3)
وقال:
(يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن) (طه - 109)
وقال:
(لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء) (النجم - 26)
وقال:
(ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) (الأنبياء - 28)
الثاني: تأكيد القرآن على أن الأصنام لا تملك الشفاعة بل هي لمن يملكها:
قال سبحانه:
(ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق) (الزخرف - 86)
وقال سبحانه:
(لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا) (مريم - 87)
فالشفاعة محض حق لمالكها، وليس هو إلا الله، كما تصرح بذلك الآيات السابقة،
وأما المشركون فكانوا يعتقدون أن أصنامهم تملك هذا الحق، ولذلك كانوا
يعبدونها أولا، ويطلبون منها الشفاعة عند الله ثانيا.
نعم إن الظاهر من قوله سبحانه:

166
(لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا) (مريم - 87)
وقوله سبحانه: (ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق)
(الزخرف - 86)
هو: أن المتخذين للعهد والشاهدين بالحق يملكون الشفاعة كما هو مقتضى
الاستثناء.
لكن المراد من المالكية في هاتين الآيتين هو: المأذونية بقرينة سائر الآيات لا
المالكية بمعنى التفويض وإلا لزم الاختلاف والتعارض بين مفاد الآيات، وما ورد
في السير والتواريخ من أن المشركين كانوا يقولون عند الإحرام والطواف: (إلا
شريك هو لك تملكه وما ملك) (1) يحتمل الأمرين.
وبذلك يظهر ضعف الاستدلال بالآية الثانية: (ما نعبدهم إلا ليقربونا...) إذ حمل
ابن عبد الوهاب قوله سبحانه: (ما نعبدهم) على طلب الشفاعة مع أن الآية
المتقدمة صريحة في مغايرة العبادة لطلب الشفاعة.
نعم إنما يكون عبادة إذا اتخذ الشافع المدعو إلها أو من صغار الآلهة - كما تقدم -.
وأما ما اعترف به ابن عبد الوهاب (ضمن كلامه المنقول سلفا) من أن الله أعطى
الشفاعة لنبيه ولكنه تعالى نهى الناس عن طلبها منه فغريب إذ لا آية ولا سنة تدل
على النهي عن طلبها مضافا إلى غرابة هذا النهي من الناحية العقلية إذ مثله أن
يعطي للسقاء ماء وينهى الناس عن طلب السقي منه، أو يعطي الكوثر لنبيه وينهى
الأمة عن طلبه.
وأما قوله تعالى: " فلا تدعوا مع الله أحدا " وهي ثالثة الآيات التي استدل بها ابن عبد
الوهاب فسيوافيك مفادها عن قريب حيث نبين - هناك - أن المراد من



(1) الملل والنحل: 2 / 255.
167
الدعوة في الآية المذكورة هو: العبادة، فيكون معنى: (فلا تدعوا) هو: فلا تعبدوا مع الله
أحدا، فالحرام المنهي عنه عبادة غير الله، لا مطلق دعوة غير الله، وليس طلب
الشفاعة إلا طلب الدعاء من الغير لا عبادة الغير، وبين الأمرين بون شاسع.
ومن ذلك يظهر ضعف دليل رابع لمحمد بن عبد الوهاب في كشف الشبهات ما
حاصله:
" أن الطلب من الشفيع ينافي الإخلاص في التوحيد الواجب على العباد في قوله:
(مخلصين له الدين) (1).
إن دعوة الشفيع - بعد ثبوت الإذن له والرضا من الله - ليست عبادة للشفيع حتى
تنافي إخلاص العبادة لله سبحانه، بل هو طلب الدعاء منه، وإنما يشترط
الإخلاص في العبادة، لا في طلب الدعاء من الغير، كما لا تنافي دعوة الله،
ولا تنفك عنها إذ الشفاعة من الشفع وطلب الشفاعة من الشفيع بمعنى أن
المستشفع يدعو الشفيع لأن ينضم إليه، ويجتمعا ويدعوا الله سبحانه - معا -،
فدعوة المستشفع للشافع ليس إلا دعوة الثاني إلى أن يدعو الله في حقه ليغفر
ذنوبه لا أكثر... فأي ضير في هذا ترى؟!
ومن العجب تفسير (طلب الشفاعة) من النبي وغيره بأنه دعاء للنبي مع الله كما في
أسئلة الشيخ ابن بلهيد: قاضي القضاة من علماء المدينة (2) حيث قال:
" وما يفعل الجهال عند هذه الضرائح من التمسح بها ودعائها مع الله ".



(1) كشف الشبهات: 8.
(2) نقلت جريدة أم القرى في عددها 69، المؤرخ 17 شوال عام 1344 كل نص هذه الأسئلة والأجوبة.
168
ولا يخفى ما في كلامه من ضعف:
أما أولا: فإن هؤلاء المتوسلين عند الضرائح لا يشركون أحدا في الدعاء (الذي هو
مخ العبادة) ولا يدعون إلا الله الواحد القهار، وإنما يطلبون من أوليائهم أن يضموا
دعاءهم إلى دعاء المتوسلين، فيشتركوا معهم في دعاء الله لنجاح حاجتهم، ولولا
ذلك لما كان لطلب الشفاعة معنى، فإن الشفاعة مأخذوة من الشفع - كما قلنا -
الذي هو ضد الوتر، فهو يطلب من وليه أن ينضم إليه في الدعاء ويجتمع معه في
العمل فأين ذلك من تشريك غير الله معه في الدعاء؟!.
وثانيا: إن المسلمين لا يدعون الضرائح بل يطلبون من (صاحب) الضريح أن
يشترك معهم في الدعاء لأنه ذو مكانة مكينة عند الله، وإن كان متوفيا، ولكنه حي
يرزق عند ربه - بنص الكتاب العزيز - وأنه لا يرد دعاءه لقوله سبحانه في حق النبي
صلى الله عليه وآله وسلم مثلا:
(ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا
الله توابا رحيما) (النساء - 64)
(وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم) (التوبة - 103)
ثم إنه يظهر من ابن تيمية في بعض رسائله (1)، وتلميذ مدرسته محمد بن عبد
الوهاب في رسالة " أربع قواعد " (2) إنهما استدلا على تحريم طلب الشفاعة من
غير الله بقوله سبحانه:
(قل لله الشفاعة جميعا) (الزمر - 44)



(1) رسالة " زيارة القبور والاستغاثة بالمقبور ": 156.
(2) ص 25، راجع كشف الارتياب: 240 - 241 وكشف الشبهات لمحمد بن عبد الوهاب: 8.
169
وكأن الاستدلال مبني على أن معنى الآية هو: ولله طلب الشفاعة فقط.
ولكنه تفسير خاطئ للآية إذ ليس معنى الآية أن الله وحده هو الذي يشفع وغيره
لا يشفع، لأنه تعالى لا يشفع عند أحد، وإنما الأنبياء والصالحون والملائكة هم
الذين يشفعون لديه.
كما أنه ليس معناها أنه لا يجوز طلب الشفاعة إلا منه سبحانه بل معناها أن الله
مالك أمرها فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه.
قال سبحانه: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) وقال: (ولا يشفعون إلا لمن
ارتضى).
ويتضح ما قلناه إذا لاحظنا صدر الآية وهو:
(أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون * قل لله
الشفاعة جميعا) (الزمر - 43 و 44)
فالمقطع الأخير من الآية بصدد الرد على الذين اتخذوا الأصنام والأحجار شفعاء
عند الله، وقالوا: هؤلاء شفعاؤنا عند الله مع أنها ما كانت تملك شيئا فكيف كانت
تملك الشفاعة وهي لا عقل لها حتى تشفع.
يقول الزمخشري - في كشافه -:
(من دون الله) أي من دون إذنه (قل لله الشفاعة جميعا) أي مالكها فلا يشفع
أحد إلا بشرطين:
أن يكون المشفوع له مرتضى، وأن يكون الشفيع مأذنونا له وهاهنا الشرطان
مفقودان جميعا (1).
وما ذهب إليه ابن عبد الوهاب ومن قبله ابن تيمية وأتباعهما من أن الآية



(1) تفسير " الكشاف ": 3 / 34.
170
هذه تدل على أن طلب الشفاعة لا يكون إلا من الله وحده، دون طلبها من المخلوق وإن
كان له حق الشفاعة، لم يذكره أحد من المفسرين.
* * *
ثم إنه كيف يمكن التفريق بين طلب الشفاعة من الحي وطلبها من الميت فيجوز
الأول بنص قوله تعالى:
(ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا
الله توابا رحيما) (النساء - 64)
وبدليل طلب أولاد يعقوب من أبيهم الشفاعة وقولهم:
(يا أبانا استغفر لنا) (يوسف - 97)
ووعد يعقوب - عليه السلام - إياهم بالاستغفار لهم، بينما لا يكون الثاني (أي
الاستشفاع بالميت) جائزا؟
أفيمكن أن تكون الحياة والممات مؤثرتين في ماهية عمل وقد سبق أن الحياة أو
الممات ليست (معيارا) للتوحيد والشرك وبالنتيجة لجواز الشفاعة أو عدم
جوازها.
وإذا لاحظت كتب الوهابيين لرأيت أن الذي أوقعهم في الخطأ والالتباس هو
مشابهة عمل الموحدين في طلب الشفاعة والاستغاثة بالأموات والتوسل بهم،
لعمل المشركين عند أصنامهم، ومعنى ذلك أنهم اعتمدوا على الأشكال والظواهر
وغفلوا عن النيات والضمائر.
وأنت أيها القارئ لو وقفت على ما في ثنايا هذه الفصول لرأيت أن الفرق بين
العملين من وجوه كثيرة، نذكر منها:
1 - إن المشركين كانوا يقولون بإلوهية الأصنام بالمعنى الذي مر ذكره،

171
بخلاف الموحدين.
2 - إن الأوثان والأصنام كانت أعجز من أن تلبي دعوتهم وهذا بخلاف الأرواح
الطاهرة المقدسة فإنها أحياء بنص الكتاب العزيز، وقادرة على ما يطلب منها في
الدعاء.
3 - إن الأوثان والأصنام غير مأذونة لها، بخلاف النبي الأكرم فإنه مأذون بنص
القرآن الكريم:
(عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) (الإسراء - 79)
والمقام المحمود - باتفاق المفسرين - مقام الشفاعة.

172
المسائل العشر
- 3 -
هل الاستعانة بغير الله شرك؟
إن الاستعانة بغير الله يمكن أن يتحقق بصورتين:
1 - إن نستعين بعامل - سواء أكان طبيعيا أم غير طبيعي - مع الاعتقاد بأن عمله
مستند إلى الله بمعنى أنه قادر على أن يعين العباد ويزيل مشاكلهم بقدرته
المكتسبة من الله وإذنه.
وهذا النوع من الاستعانة - في الحقيقة - لا ينفك عن الاستعانة بالله ذاته، لأنه
ينطوي على الاعتراف بأنه هو الذي منح تلك العوامل ذلك الأثر وأذن به وإن شاء
سلبها وجردها منه.
فإذا استعان الزارع بعوامل طبيعية كالشمس والماء وحرث الأرض، فقد استعان
بالله - في الحقيقة - لأنه تعالى هو الذي منح هذه العوامل: القدرة على إنماء ما
أودع في بطن الأرض من بذر ومن ثم إنباته والوصول به إلى حد الكمال.
2 - وإذا استعان بإنسان أو عامل طبيعي أو غير طبيعي مع الاعتقاد بأنه مستقل في
وجوده، أو في فعله عن الله فلا شك أن ذاك الاعتقاد يصير شركا والاستعانة في
هذه الحالة عبادة للاعتقاد بالألوهية فيه.
فإذا استعان زارع بالعوامل المذكورة وهو يعتقد بأنها مستقلة في تأثيرها، أو أنها
مستقلة في وجودها ومادتها كما في فعلها وقدرتها، فالاعتقاد شرك والطلب
عبادة.

173
مع مؤلف المنار في تفسير حصر الاستعانة:
إن مؤلف المنار تصور أن حد التوحيد هو: أن نستعين بقدرتنا ونتعاون فيما بيننا -
في الدرجة الأولى - ثم نفوض بقية الأمر إلى الله القادر على كل شئ، ونطلب منه
- لا من سواه - ويقول في ذلك:
" يجب علينا أن نقوم بما في استطاعتنا من ذلك ونبذل لإتقان أعمالنا كل ما
نستطيع من حول وقوة وأن نتعاون، ويساعد بعضنا بعضا، ونفوض الأمر فيما وراء
كسبنا إلى القادر على كل شئ ونلجأ إليه وحده، ونطلب المعونة للعمل والموصل
لثمرته منه سبحانه دون سواه " (1).
إذ صحيح أننا يجب أن نستفيد من قدرتنا، أو من العوامل الطبيعية المادية ولكن
يجب بالضرورة أن لا نعتقد لها بأية أصالة وغنى واستقلال وإلا خرجنا عن حدود
التوحيد.
فإذا اعتقد أحد بأن هناك - مضافا إلى العوامل والقوى الطبيعية - سلسلة من العلل
غير الطبيعية التي تكون جميعها من عباد الله الأبرار الذين يمكنهم تقديم العون
(2) لمن استعان بهم تحت شروط خاصة وبإذن الله وإجازته دون أن يكون لهم أي
استقلال لا في وجودهم ولا في أثرهم، فإن هذا الفرد لو استعان بهذه القوى غير
الطبيعية مع الاعتقاد المذكور - لا تكون استعانته عملا صحيحا فحسب بل تكون -
بنحو من الأنحاء - استعانة بالله ذاته كما لا يكون بين هذين



(1) المنار: 1 / 59.
(2) البحث مركز في أن طلب العون والحال هذه شرك أو لا؟ وأما أنه هل أعطيت لهم تلك المقدرة على العون أو لا
؟ فخارج عن موضوع بحثنا، وإنما إثباته على عاتق الأبحاث القرآنية الأخرى وقد نبهنا على ذلك غير مرة.
174
النوعين من الاستعانة (الاستعانة بالعوامل الطبيعية والاستعانة بعباد الله الأبرار) أي فرق
مطلقا.
فإذا كانت الاستعانة بالعباد الصالحين - على النحو المذكور - شركا لزم أن تكون
الاستعانة في صورتها الأولى هي أيضا معدودة في دائرة الشرك، والتفريق بين
(الاستعانة بالعوامل الطبيعية) و (الاستعانة بغيرها) إذا كانتا على وزان واحد وعلى
نحو الاستمداد من قدرة الله وبإذنه ومشيئته، بكونها موافقة للتوحيد في أولى
الصورتين، ومخالفة له في ثانية الصورتين، لا وجه له.
من هذا البيان اتضح هدف صنفين من الآيات وردا في مسألة الاستعانة:
الصنف الأول: يحصر الاستعانة بالله فقط ويعتبره الناصر والمعين الوحيد دون
سواه.
والصنف الثاني: يدعونا إلى سلسلة من الأمور المعينة غير الله ويعتبرها ناصرة
ومعينة، إلى جانب الله.
أقول: من البيان السابق اتضح وجه الجمع بين هذين النوعين من الآيات وتبين أنه
لا تعارض بين الصنفين مطلقا، إلا أن فريقا نجدهم يتمسكون بالصنف الأول من
الآيات فيخطئون أي نوع من الاستعانة بغير الله، ثم يضطرون إلى إخراج
(الاستعانة بالقدرة الإنسانية والأسباب المادية) من عموم تلك الآيات الحاصرة
للاستعانة بالله بنحو التخصيص بمعنى أنهم يقولون:
إن الاستعانة لا تجوز إلا بالله إلا في الموارد التي أذن الله بها، وأجاز أن يستعان فيها
بغيره، فتكون الاستعانة بالقدرة الإنسانية والعوامل الطبيعية - مع أنها استعانة بغير
الله - جائزة ومشروعة على وجه التخصيص، وهذا مما لا يرتضيه الموحد.
في حين أن هدف الآيات هو غير هذا تماما، فإن مجموع الآيات يدعو إلى أمر

175
واحد وهو: عدم الاستعانة بغير الله، وأن الاستعانة بالعوامل الأخرى يجب أن تكون بنحو
لا يتنافى مع حصر الاستعانة بالله بل تكون بحيث تعد استعانة بالله لا استعانة
بغيره.
وبتعبير آخر: إن الآيات تريد أن تقول: بأن المعين والناصر الوحيد والذي يستمد
منه كل معين وناصر، قدرته وتأثيره، ليس إلا الله سبحانه، ولكنه - مع ذلك - قيم
هذا الكون على سلسلة من الأسباب والعلل التي تعمل بقدرته وأمره، وعلى
استمداد الفرع من الأصل، ولذلك تكون الاستعانة بها كالاستعانة بالله، ذلك لأن
الاستعانة بالفرع استعانة بالأصل.
وإليك فيما يلي إشارة إلى بعض الآيات من الصنفين:
(وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم) (آل عمران - 126)
(إياك نعبد وإياك نستعين) (الحمد - 4)
(وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم) (الأنفال - 10)
هذه الآيات نماذج من الصنف الأول وإليك فيما يأتي نماذج من الصنف الآخر
الذي يدعونا إلى الاستعانة بغير الله من العوامل والأسباب:
(واستعينوا بالصبر والصلاة) (البقرة - 45)
(وتعاونوا على البر والتقوى) (المائدة - 2)
(ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة) (الكهف - 95)
(وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر) (الأنفال - 72)
ومفتاح حل التعارض بين هذين الصنفين من الآيات هو ما ذكرناه وملخصه:
إن في الكون مؤثرا تاما، ومستقلا واحدا غير معتمد على غيره لا في وجوده

176
ولا في فعله وهو الله سبحانه.
وأما العوامل الأخر فجميعها مفتقرة - في وجودها وفعلها - إليه وهي تؤدي ما
تؤدي بإذنه ومشيئته وقدرته، ولو لم تعط تلك العوامل ما أعطيت من القدرة ولم
تجر مشيئته على الاستمداد منها لما كانت لها أية قدرة على شئ.
فالمعين الحقيقي في كل المراحل - على هذا النحو تماما - هو الله فلا تصح
الاستعانة بأحد باعتباره معينا مستقلا. لهذه الجهة حصرت مثل هذه الاستعانة بالله
وحده، ولكن هذا لا يمنع بتاتا من الاستعانة بغير الله باعتباره غير مستقل (أي
باعتباره معينا بالاعتماد على القدرة الإلهية)، ومعلوم أن استعانة - كهذه - لا تنافي
حصر الاستعانة بالله سبحانه لسببين:
أولا: لأن الاستعانة المخصوصة بالله هي غير الاستعانة بالعوامل الأخرى،
فالاستعانة المخصوصة بالله هي: ما تكون باعتقاد أنه قادر على إعانتنا بالذات،
وبدون الاعتماد على غيرها، في حين أن الاستعانة بغير الله سبحانه إنما هي على
نحو آخر، أي مع الاعتقاد بأن المستعان قادر على الإعانة مستندا على القدرة
الإلهية، لا بالذات، وبنحو الاستقلال، فإذا كانت الاستعانة - على النحو الأول -
خاصة بالله تعالى فإن ذلك لا يدل على أن الاستعانة بصورتها الثانية مخصوصة به
أيضا.
ثانيا: إن استعانة - كهذه - غير منفكة عن الاستعانة بالله، بل هي عين الاستعانة به
تعالى، وليس في نظر الموحد (الذي يرى أن الكون كله من فعل الله ومستند إليه)
مناص من هذا.
ومما سبق يتبين لك أيها القارئ الكريم ما في كلام ابن تيمية من الإشكال إذ
يقول:
" أما من أقر بما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع من شفاعته صلى الله عليه وآله و
سلم والتوسل به

177
ونحو ذلك، ولكن قال: لا يدعى إلا الله وأن الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله فلا تطلب إلا
منه، مثل غفران الذنوب وهداية القلوب وإنزال المطر وإنبات النبات ونحو ذلك،
فهذا مصيب في ذلك بل هذا مما لا نزاع فيه بين المسلمين أيضا كما قال تعالى:
(ومن يغفر الذنوب إلا الله) (آل عمران - 135)
وقال: (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) (القصص - 56)
وكما قال تعالى: (يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالق غير الله
يرزقكم من السماء والأرض) فاطر - 3)
وكما قال تعالى: (وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا
من عند الله) (آل عمران - 126)
وقال: (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في
الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا) (التوبة - 40) (1).
فقد غفل ابن تيمية عن أن بعض هذه الأمور يمكن طلبها من غير الله مع الاعتقاد
بعدم استقلال هذا الغير في تحقيقها، وهذا لا ينافي طلبها من الله مع الاعتقاد
باستقلاله وغناه عمن سواه في تحقيقها.
نعم، لا تقع هذه الاستعانة مفيدة إلا إذا ثبتت قدرة غيره سبحانه على إنجاز الطلب
ولكنه خارج عن محط بحثنا، فإن البحث مركز على كون هذا العمل شركا أو لا،
وأما كون المستعان قادرا فالبحث عنه خارج عن هدفنا.
وربما يتوهم أنها لا تنفع أيضا إلا إذا ثبتت مأذونية الغير من قبله سبحانه في الإعانة،
كما يتوقف على ذلك جواز أصل طلب العون، وإن كان غير شرك.



(1) مجموعة الرسائل الكبرى: لابن تيمية، الرسالة الثانية عشرة: 482.
178
ولكنه مدفوع، بأن إعطاء القدرة دليل على المأذونية في أعمالها في الجملة، إذ لا
معنى لأن يعطيه الله القدرة ويمنعه عن الأعمال مطلقا، أو يعطيه القدرة ويمنع
الغير عن طلب أعمالها.
ويكفي في الجواز، كون الأصل في فعل العباد، الجواز والإباحة، دون الحظر
والمنع إلا أن ينطبق على العمل أحد العناوين المحرمة في الشرع.
وأخيرا نذكر القارئ الكريم بأن مؤلف المنار حيث إنه لم يتصور للاستعانة
بالأرواح إلا صورة واحدة، لذلك اعتبرها ملازمة للشرك فقال:
" ومن هنا تعلمون: أن الذين يستعينون بأصحاب الأضرحة والقبور على قضاء
حوائجهم وتيسير أمورهم وشفاء أمراضهم ونماء حرثهم وزرعهم، وهلاك
أعدائهم وغير ذلك من المصالح هم عن صراط التوحيد ناكبون، وعن ذكر الله
معرضون " (1).
ولا يخفى عدم صحته إذ الاستعانة بغير الله (كالاستعانة بالعوامل الطبيعية) على
نوعين:
أحدهما: عين التوحيد، والآخر: موجب الشرك، أحدهما: مذكر بالله، والآخر:
مبعد عن الله.
إن حد التوحيد والشرك ليس هو كون الأسباب ظاهرية أو غير ظاهرية، إنما هو
الاستقلال وعدم الاستقلال، هو الغنى والفقر، هو الأصالة وعدم الأصالة.
إن الاستعانة بالعوامل غير المستقلة المستندة إلى الله، التي لا تعمل ولا تؤثر إلا بإذنه
تعالى ليس فقط غير موجبة للغفلة عن الله، بل هو خير موجه، ومذكر بالله. إذ
معناها: انقطاع كل الأسباب وانتهاء كل العلل إليه.



(1) المنار: 1 / 59.
179
ومع هذا كيف يقول صاحب المنار: " أولئك عن ذكر الله معرضون " ولو كان هذا
النوع من الاستعانة موجبا لنسيان الله والغفلة عنه للزم أن تكون الاستعانة
بالأسباب المادية الطبيعية هي أيضا موجبة للغفلة عنه.
على أن الأعجب من ذلك هو كلام شيخ الأزهر الشيخ محمود شلتوت الذي نقل -
في هذا المجال - نص كلمات عبده دون زيادة ونقصان، وختم المسألة بذلك،
وأخذ بظاهر الحصر في (إياك نستعين) غافلا عن حقيقة الآية وعن الآيات
الأخرى المتعرضة لمسألة الاستعانة (1).
نقد نظر ثالث:
وهناك رأي آخر يتوسط بين الرأيين، وهو أنه تجوز الاستعانة بالأسباب الطبيعية
في الحوائج الحيوية، ولا تجوز الاستعانة بالأسباب غير العادية إلا إذا كان بصورة
التوسل والاستشفاع إلى الله سبحانه.
وهذا القول وإن كانت عليه مسحة من الحق ولمسة من الصدق إلا أنه ليس عينه.
فإن المنع عن الاستعانة بالأسباب غير العادية إذا لم يكن بكلا النحوين خاطئ فإنه
إن كان لأجل كونه مستلزما للشرك، فالمفروض عدمه، إذ المستعين إنما يستعين،
باعتقاد أن المستعان إنما يعين بالقدرة المعطاة له من الله سبحانه، ويعملها بإذنه
ومشيئته. وطلب العون مع هذا الاعتقاد لا يستلزم الشرك. ومع فرضه فأي فرق بين
الممنوع (طلب العون) والمجاز وهو التوسل والاستشفاع؟
وإن كان المنع لأجل عدم وجود القدرة فيهم على الإعانة، فهو مناقشة وهو



(1) راجع تفسير شلتوت: 36 - 39.
180
في الصغرى خارج عن موضوع بحثنا فإن البحث إنما هو على فرض قدرتهم.
وإن كان المنع، لأجل كون الأصل في فعل المكلف، هو المنع حتى يثبت الجواز،
فهو محجوج بأصالة الإباحة ما لم يمنع عنه دليل قاطع. وعدم ورود تلك الاستعانة
في الأدعية وغيرها على فرض صحته لا يدل على المنع.
ولو كان المنع لأجل أن قوله سبحانه: (وإياك نستعين) شامل لهذه الاستعانة التي
لا تنفك عن الاستعانة به سبحانه كما أوضحناه، فلا يمكن تخصيصه بالتوسل
والاستشفاع لأن لسانه آب عن التخصيص وغير قابل له.

181
المسائل العشر
- 4 -
هل دعوة الصالحين عبادة لهم؟
تبين من البحوث السابقة أن (طلب الحاجة من غير الله) مع الاعتقاد بأنه لا يملك
شيئا من شؤون المقام الألوهي، ولم يفوض إليه شئ، بل لو قام بشئ لا يقوم به
إلا بإذن الله سبحانه، لا يكون شركا.
وبقي في هذا المجال مطلب آخر وهو: أن القرآن الكريم نهى - في موارد متعددة
- عن دعوة غير الله سبحانه غير أن الوهابية استنتجت من هذه الآيات مساوقة
الدعوة للعبادة.
وإليك فيما يأتي الآيات المتضمنة، بل المصرحة بهذا المطلب:
(وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا) (الجن - 18)
(له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشئ) (الرعد - 14)
(والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون) (الأعراف -
197)
(إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم) (الأعراف - 194)
(والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير) (فاطر - 13)

182
(قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا)
(الإسراء - 56)
(أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة) (الإسراء - 57)
(ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك) (يونس - 106)
(إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم) (فاطر - 14)
(ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة) (الأحقاف
- 5)
فقد جعل دعاء الغير - في هذه الآيات - مساويا مع دعاء الله ويستنتج من ذلك أن
دعاء الغير عبادة له، ومن هذه الآيات يستنتج الوهابيون كون دعوة الأولياء
والصالحين - بعد وفاتهم - عبادة للمدعو.
وملخص كلامهم أن من قال متوسلا: يا محمد، فنداؤه ودعوته بنفسها عبادة
للمدعو.
يقول الصنعاني في هذا الصدد:
" وقد سمى الله الدعاء: عبادة بقوله: (ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون
عن عبادتي) ومن هتف باسم نبي أو صالح بشئ، أو قال: إشفع لي إلى الله في
حاجتي، أو أستشفع بك إلى الله في حاجتي أو نحو ذلك، أو قال: اقض ديني أو
اشف مريضي أو نحو ذلك، فقد دعا ذلك النبي والصالح، والدعاء عبادة بل مخها
فيكون قد عبد غير الله، وصار مشركا، إذ لا يتم التوحيد إلا بتوحيده تعالى في
الإلهية باعتقاد أن لا خالق ولا رازق غيره، وفي العبادة بعدم عبادة غيره ولو ببعض
العبادات وعباد الأصنام إنما أشركوا لعدم توحيد الله في العبادة " (1).
* * *



(1) تنزيه الاعتقاد للصنعاني كما في كشف الارتياب: 272 - 274. والآية 60 من سورة غافر.
183
ولكن لا مرية في أن لفظة الدعاء تعني في لغة العرب: النداء لطلب الحاجة فلا
يتحقق مفهوم الدعوة إلا بطلب الحاجة، ولو استعملت في مورد في مطلق النداء
ولم يكن معه طلب حاجة فإنما هو لأجل أن المنادي يطلب توجه المنادي إلى
نفسه، بينما تعني لفظة " العبادة " معنى آخر (وهو الخضوع النابع من الاعتقاد
بالإلوهية والربوبية على ما مر تفصيله)، ولا يمكن اعتبار اللفظتين مترادفتين،
ومشتركتين في المفاد والمعنى بأن يكون معنى الدعاء هو العبادة، لأسباب عديدة
هي:
أولا - إن القرآن استعمل لفظة الدعوة والدعاء في موارد لا يمكن أن يكون المراد
فيها العبادة مطلقا مثل:
(قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا) (نوح - 5)
فهل يمكن أن نقول: إن مراد نوح - عليه السلام - هو أنه عبد قومه ليلا ونهارا؟!!
وأيضا مثل قوله تعالى حاكيا عن الشيطان قوله:
(وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي) (إبراهيم - 22)
فهل يحتمل أن يكون مقصود الشيطان هو أنه عبد اتباعه، في حين أن العبادة - لو
صحت وافترضت - فإنما تكون من جانب أتباعه له لا من جانبه تجاه أتباعه.
ومثل هاتين الآيتين ما يأتي من الآيات:
(ويا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار) (غافر - 41)
(وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم) (الأعراف - 193)
(وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا) (الأعراف - 198)

184
(وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم) (المؤمنون - 73)
(فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم) (آل عمران - 61)
ففي هذه الآيات وأمثالها استعملت لفظة الدعاء والدعوة في غير معنى العبادة
ولهذا لا يمكن أن نعتبرهما مترادفتين. ولذلك فلو دعى أحد وليا أو نبيا أو رجلا
صالحا، فإن عمله ذلك لا يكون عبادة له، لأن الدعاء أعم من العبادة وغيرها (1).
ثانيا - إن المقصود من الدعاء في مجموع الآيات (المذكورة في مطلع البحث هذا)
ليس هو مطلق النداء، بل نداء خاص يمكن أن يكون - مآلا - مرادفا للفظ العبادة.
لأن مجموع هذه الآيات وردت حول الوثنيين الذين كانوا يتصورون بأن أصنامهم
آلهة صغار قد فوض إليها بعض شؤون المقام الألوهي، ويعتقدون في شأنها بنوع
من الاستقلال في التصرف والفعل.
ومعلوم أن الخضوع والتذلل أو أي نوع من القول والعمل أمام شئ باعتقاد أنه إله
كبير أو إله صغير لكونه ربا أو مالكا لبعض الشؤون الإلهية، يكون عبادة.
لا شك أن خضوع الوثنيين ودعاءهم واستغاثتهم أمام أوثانهم كانت بوصف أن
هذه الأصنام آلهة أو أرباب أو مالكة لحق الشفاعة، وباعتقاد أنها آلهة



(1) النسبة بين الدعاء والعبادة عموم وخصوص من وجه: ففي هذه الموارد يصدق الدعاء ولا تصدق العبادة، وأما في
العبادة الفعلية المجردة عن الذكر كالركوع والسجود، فتصدق العبادة لأنها تقترن مع الاعتقاد بإلوهية المسجود له
ولا يصدق الدعاء لخلوه عن الذكر اللفظي.
ويصدق كلا المفهومين: " الدعاء والعبادة " في أذكار الصلاة لأنها دعوة بالقول ناشئة عن الاعتقاد بإلوهية المدعو.
185
مستقلة في التصرف في أمور الدنيا والآخرة. ومن البديهي أن أية دعوة لهذه الموجودات
وغيرها مع هذه الشروط، عبادة لا محالة.
وتدل طائفة من الآيات:
على أن دعوة الوثنيين كانت مصحوبة بالاعتقاد بإلوهية الأصنام أو مالكيتها لمقام
الشفاعة والمغفرة وإليك بعضها:
(فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شئ) (هود - 101)
ففي هذه الآية يتضح جليا بأنهم كانوا يعبدونها متصورين ومعتقدين بأنها تغنيهم
من شئ كما يمكن للإله الحقيقي أن يفعل ذلك.
(ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة) (الزخرف - 86)
(والذين تدعون من دونه لا يملكون من قطمير) (فاطر - 13)
(فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا) (الإسراء - 56)
فالآيات المذكورة (في مطلع هذا الفصل) لا ترتبط بموضوع بحثنا مطلقا، إذ
الموضوع هو الدعوة دون الاعتقاد بإلوهية، ولا مالكية لشئ ولا استغناءه،
واستقلاله في التصرف في أمور الدنيا والآخرة، بل لأجل أن المدعو عبد من عباد
الله المكرمين. وإنه ذو مقام معنوي استحق به منزلة النبوة أو الإمامة، ولأنه وعد
المتوسلون به بقبول أدعيتهم، وإنجاح طلباتهم فيما إذا قصدوا الله عن طريقه. كما
ورد في حق النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم:
(ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا
الله توابا رحيما) (النساء - 64)
ثالثا - يمكن أن يقال: إن المراد من الدعاء في هذه الآيات هو القسم الخاص منه،
أعني ما كان ملازما للعبادة لا بمعنى أن الدعاء مستعمل في مفهوم

186
العبادة ابتداء، بل بمعنى أنها مستعملة في معناها الحقيقي، غير أنها لما كانت في موارد
الآيات مقرونة باعتقاد الدعاة بألوهيتهم يكون المنهي عنه ذلك القسم من الدعوة
لا مطلقا، وتكون عقيدة الدعاة في حق المدعوين قرينة متصلة على أن المقصود
ذلك القسم المعين لا جميع أقسامها، ومن المعلوم أن الدعاء مع هذه العقيدة
يكون مصداقا للعبادة.
والدليل على أن المراد من الدعوة في هذه الآيات هو القسم الملازم للعبادة أنه
ربما وردت في إحدى الآيتين ذاتي مضمون واحد لفظة الدعوة، ووردت في الآية
الأخرى لفظة الدعاء مثل قوله:
(قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا) (المائدة - 76)
بينما يقول في الآية الأخرى وهي:
(قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا) (الأنعام - 71)
ويقول أيضا في الآية 13 من سورة فاطر:
(والذين تدعون من دونه لا يملكون من قطمير)
ففي هذه الآية وما قبلها استعملت لفظة (تدعون) و " ندعوا " في حين استعملت
في الآية الأولى لفظة " تعبدون ".
ونظير ما سبق قوله سبحانه:
(إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا) (العنكبوت - 17)
هذا وقد ترد كلتا اللفظتين في آية واحدة وتستعملان في معنى واحد:
(قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله) (الأنعام - 56)
وقوله سبحانه:
(وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي

187
سيدخلون جهنم داخرين) (غافر - 60)
والآية وما تقدمها ظاهرتان في أن المراد من الدعوة هو العبادة لا مطلق النداء
وطلب الحاجة، وليس ذاك بمعنى استعمال الدعاء ابتداء في معنى العبادة حتى
يكون الاستعمال مجازيا بل إنما استعملت في معناها الحقيقي، أعني: الدعاء،
ولكن لما كان الدعاء مقرونا باعتقاد الداعي بإلوهية المدعو صار المراد منه -
بالمآل - العبادة، وقد تقدمت تلك النكتة آنفا.
ويؤيد ما ذكرناه ما ورد في دعاء سيد الساجدين زين العابدين - عليه السلام -
مشيرا إلى مفاد الآية المتقدمة حيث يقول:
" وسميت دعاءك عبادة، وتركه استكبارا وتوعدت على تركه دخول جهنم
داخرين " (1).
وإنا لنطلب من القارئ الكريم أن يراجع بنفسه مادة الدعوة في المعجم المفهرس
فسيرى ورود مضمون واحد تارة بلفظ العبادة وأخرى بلفظ الدعاء والدعوة.
وهذا هو أوضح دليل على أن المقصود من الدعوة في الآيات المذكورة (في مطلع
هذا الفصل) هو العبادة وليس مطلق النداء.
هذا والقارئ الكريم إذا درس مجموع الآيات التي ورد فيها لفظ الدعوة وأريد منه
القسم الملازم للعبادة لرأى أن الآيات إما وردت حول خالق الكون الذي يعترف
جميع الموحدين بألوهيته وربوبيته ومالكيته. أو وردت في مورد الأوثان التي
كانت عبدتها يتصورون ألوهيتها وأنها مالكة لمقام الشفاعة، وفي هذه الحالة فإن
الاستدلال بهذه الآيات في مورد بحثنا الذي هو الدعاء مجردا عن تلك العقيدة
لمن أعجب العجب!



(1) الصحيفة السجادية: الدعاء 49.
188
سؤال وجواب:
إلى هنا تبين أن دعوة العباد الصالحين بأي شكل كان، سواء أكان لأجل التوسل
والاستشفاع أم لأجل طلب الحاجة وإنجازها ليست عبادة ولا تشملها الآيات
الناهية عن الدعوة بتاتا غير أنه يطرح هنا سؤال وهو: أنه إذا كان غيره سبحانه
لا يملك من قطمير ولا يملك كشف الضر والتحويل، فما فائدة هذه الدعوة إذ قال
سبحانه:
(فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا) (الإسراء - 56)
(والذين تدعون من دونه لا يملكون من قطمير) (فاطر - 13)
والجواب: أن عبدة الأصنام كانوا معتقدين بأنهم يملكون فوق القطمير ويملكون
كشف الضر فجاءت الآيات رادة عليهم.
وأما توسل عباد الله بالنبي فليس مبنيا على أنه يملك كشف الضر ويقدر عليه من
عند نفسه، بل يكفي كونه مأذونا في الدعاء وطلب العون من الله بالنسبة إلى عباده
المتوسلين به أو قادرا على إنجاز الأمر بإذنه سبحانه.
ملخص البحث:
إن هذه الآيات راجعة إلى أصنام العرب الخشبية والمعدنية والحجرية ويتضح
ذلك من سياق الآيات. هذا أولا، وثانيا أن الهدف من نفي المالكية عن غير الله
ليس هو مطلقها بل المراد المالكية المناسبة لمقامه سبحانه، أعني: المالكية
المستقلة، ونفي هذه المالكية عن غيره سبحانه لا يدل على انتفاء ما يستند إليه
سبحانه، عنهم، ويؤيد ذلك أنه سبحانه يقول:
(يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد) (فاطر - 15)
والمراد من الفقر هنا هو الفقر الذاتي ولا ينافي القدرة المكتسبة والفعالة بإذنه

189
سبحانه.
والدليل على أن العرب كانوا يعتقدون في أصنامهم القدرة المستقلة قوله سبحانه:
(قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا) (المائدة - 76)
وقوله سبحانه:
(ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا
ولا يستطيعون) (النحل - 73).
وعلى ذلك فلو قال سبحانه لا يملكون عن الله كشف الضر ولا تحويلا،
فالمقصود هو نفي تلك المالكية لا الأعم منها ومن المكتسبة.

190
المسائل العشر
- 5 -
هل تعظيم أولياء الله وتخليد ذكرياتهم شرك؟
ينزعج الوهابيون - بشدة - من تعظيم أولياء الله وتخليد ذكرياتهم، وإحياء
مناسبات مواليدهم أو وفياتهم، ويعتبرون اجتماع الناس في المجالس المعقودة
لهذا الشأن شركا وضلالا ففي هذا الصدد يكتب محمد حامد الفقي، رئيس جماعة
أنصار السنة المحمدية في هوامشه على كتاب فتح المجيد:
" الذكريات التي ملأت البلاد باسم الأولياء هي نوع من العبادة لهم وتعظيمهم " (1).
إ ن هؤلاء لم يعينوا حدا للتوحيد والشرك، وللعبادة على الأخص ولذلك رموا كل
عمل بالشرك حتى أنهم تصوروا أن كل نوع من التعظيم عبادة وشركا.
ولأجل ذلك جعل الكاتب " العبادة " إلى جانب التعظيم وتصور أن للفظتين معنى
واحدا، ومما لا شك فيه أن القرآن يعظم فريقا من الأنبياء والأولياء بعبارات
صريحة كما يقول في شأن زكريا ويحيى - عليهما السلام -:
(إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين)
(الأنبياء - 90).



(1) فتح المجيد: 154، ثم نقل عن كتاب قرة العيون ما يشابه هذا المضمون.
191
فلو أن أحدا أقام مجلسا عند قبر من عناهم الله وسماهم في هذه الآية، وقرأ في
ذلك المجلس هذه الآية المادحة، معظما بذلك شأنهم، فهل اتبع غير القرآن؟!.
كما ويقول في شأن أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
(ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا) (الدهر - 8).
فهل ترى لو اجتمع جماعة في يوم ميلاد علي بن أبي طالب - وهو أحد الآل -
وقالوا: إن عليا كان يطعم الطعام للمسكين واليتيم والأسير، كانوا مشركين؟!
أو ترى لماذا يكون مشركا لو أن أحدا تلا الآيات المادحة لرسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم في حفلة عامة في يوم مولده الشريف كالآيات التالية:
(وإنك لعلى خلق عظيم) (القلم - 4).
(إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا)
(الأحزاب: 45 و 46).
(لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين
رؤوف رحيم) (التوبة - 128).
(إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا
تسليما) (الأحزاب - 56).
فلو تلا أحد هذه الآيات المثنية على النبي، أو قرأ ترجمتها بلغة أخرى، أو سكب
هذا المديح الإلهي القرآني في قالب الشعر وأنشد ذلك في مجلس كان مشركا؟!
إن عدم وجود هذه الاحتفالات في زمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ليس
دليلا على كونها شركا، وأقصى ما يمكن أن يقال إنها بدعة لا شركا ولا عبادة
للإنسان الصالح، بل

192
لا تعد بدعة، إذ لو نسب إقامة الاحتفالات التكريمية أو مجالس العزاء في الذكريات، إلى
الشارع المقدس وادعى بأن الله أمر بذلك يلزم أن نتفحص عن مدى صحة هذه
النسبة وصدق هذا الادعاء، لا أن نصف إقامة هذه المجالس بأنها: شرك.
وأما لو أقامها من جانب نفسه من دون أن يسندها إلى أمره سبحانه فلا تكون بدعة
بتاتا.
إن الآيات القرآنية تدل على جواز هذه الاحتفالات بعناوين خاصة نشير إليها:
أ - إقامة ذكرى النبي تعزيزا له:
كيف لا، وهذا القرآن الكريم يثني على أولئك الذين أكرموا النبي صلى الله عليه
وآله وسلم وعظموا شأنه وبجلوه، إذ يقول:
(فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم
المفلحون) (الأعراف - 157).
إن الأوصاف التي وردت في هذه الآية والتي استوجبت الثناء الإلهي هي:
1 - آمنوا به.
2 - وعزروه.
3 - ونصروه.
4 - واتبعوا النور الذي أنزل معه.
فهل يحتمل أحد أن تختص هذه الجمل الثلاث:
" آمنوا به. ونصروه. واتبعوا " بزمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ الجواب: لا.
فإن الآية لا تعني الحاضرين في زمن النبي - خاصة - فعندئذ من القطعي أن

193
لا تختص جملة " عزروه " بزمان النبي، أضف إلى ذلك أن القائد العظيم يجب أن يكون
موضعا للتكريم والاحترام والتعظيم في كل العهود والأزمنة.
فهل إقامة المجالس لإحياء ذكريات: المبعث أو المولد النبوي، وإنشاء الخطب
والمحاضرات والقصائد والمدائح إلا مصداق جلي لقوله تعالى: (وعزروه) والتي
تعني: أكرموه وعظموه.
عجبا كيف يعظم الوهابيون أمراءهم بالاحترام الذي يفوق ما يفعله غيرهم تجاه
أولياء الله فلا يكون ذلك شركا، وأما إذا أتى أحد بشئ يسير من ذلك في حقهم
عد شركا؟!!
إن المنع عن تعظيم الأنبياء والأولياء وتكريمهم - حيا وميتا - يصور الإسلام في
نظر الأعداء دينا جامدا لامكان فيه للعواطف الإنسانية، كما يصور تلك الشريعة
السمحاء المطابقة للفطرة الإنسانية دينا يفقد الجاذبية المطلوبة القادرة على
اجتذاب أهل الملل الأخرى واكتسابهم.
ماذا يقول - الذين يخالفون إقامة مجالس العزاء للشهداء في سبيل الله - في قصة
يعقوب - عليه السلام -؟ وماذا يقولون فيه وهو يبكي على ابنه أسفا وحزنا في
فراق ولده يوسف، ليله ونهاره، ويسأل كل من لقيه عن ابنه المفقود حتى فقد
بصره، كما يقول سبحانه:
(وابيضت عيناه من الحزن) (يوسف - 84).
فلماذا يكون إظهار مثل هذه العلاقة في حال حياة الولد جائزا ومشروعا ومطابقا
لأصول التوحيد بينما إذا كان في حال مماته عد شركا؟!
فإذا اتبع أحد طريق يعقوب فبكى على فراق أولياء الله وأحبائه يوم استشهادهم
فلماذا لا يعد عمله اقتداء بيعقوب - عليه السلام -.
لا ريب في أن مودة ذوي القربى هي إحدى الفرائض الإسلامية التي دعا

194
إليها بأوضح تصريح فلو أراد أحد أن يقوم بهذه الفريضة الدينية بعد أربعة عشر قرنا
فكيف يمكنه، وما هو الطريق إلى ذلك؟ هل هو إلا أن يفرح في أفراحهم، ويحزن
في أحزانهم؟
فإذا أقام أحد - لإظهار مسرته - مجلسا يذكر فيه حياتهم، وتضحياتهم أو يبين
مصائبهم فهل فعل إلا إظهار المودة، المندوبة إليها في القرآن الكريم..؟!
وإذا زار أحد - لإظهار مودة أكثر - مقابر أقرباء النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وأقام مثل هذه المجالس عند تلكم القبور فإنه لم يفعل - في نظر العقلاء - إلا إظهار
المودة.
ب - إقامة الذكرى ترفيع لذكر النبي.
إن القرآن الكريم يصرح بأن الله سبحانه من على رسوله بشرح صدره ووضع
الوزر عنه وإعلاء اسمه الذي عبر عن كل ذلك بقوله:
(ألم نشرح لك صدرك * ووضعنا عنك وزرك * الذي أنقض ظهرك * ورفعنا لك
ذكرك..) (الانشراح: 1 - 4).
فالله سبحانه رفع اسمه وأعلاه وجعله مشهورا معروفا في العالم إجلالا له.
فهذه الاحتفالات التي يقصد منها تخليد ذكرى النبي لا تتعدى رفع ذكر رسول الله
وإعلاء اسمه، وإلفات نظر العالم إلى مقامه ومكانته السامية، فإذا كان القرآن أسوة،
فلماذا لا نقتدي بالقرآن ولماذا لا نرفع ذكره، واسمه؟
ج - نزول المائدة السماوية واتخاذه عيدا.
إن المسيح - عليه السلام - سأل ربه سبحانه بأن ينزل عليه مائدة إذ قال سبحانه
حاكيا:
(قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا
وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين) (المائدة - 114).

195
فالمسيح - عليه السلام - اتخذ نزول المائدة السماوية والبركة الإلهية عيدا، لأنه
سبحانه أكرمه وأكرم تلاميذه بهذه المائدة، فإذا كانت المائدة السماوية سببا لاتخاذ
يوم نزولها " عيدا " فلماذا لا يجوز أن نتخذ يوم " البعثة النبوية " الذي هو يوم البركة،
ويوم نزول المائدة المعنوية عيدا؟
هل يستطيع أن يدعي أحد أن وجود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما
جاء به من شريعة عظيمة خالدة أقل بركة من المائدة المادية التي نزلت على
المسيح - عليه السلام - وتلاميذه؟!
وفي الختام نقول: إن من راجع الكتاب والسنة يقف على أن حب النبي الأكرم
صلى الله عليه وآله وسلم أصل من أصول الدين، وللحب مظاهر، فكما أن من
مظاهره الاتباع، فهكذا تكريمه مطلقا من غير فرق بين ميلاده وغيره من مظاهره،
لكن الظروف دفعتنا إلى اختيار يوم ميلاده لإظهار حبنا وودنا له من غير أن ننسب
خصوصية ذلك اليوم إلى الدين، وإنما المنسوب إليه هو الدعوة إلى نفس الحب
والود، فما كان له أصل في الدين لا يعد تجسيده في يوم خاص، بدعة.
فإذا أمر الإسلام بالتدريب العسكري، فنحن نخص العمل بذلك الأصل بيوم أو
يومين في الأسبوع، فلا يعد التخصيص - بعد وجود الأصل في الشريعة - بدعة.
أو إذا أمر الشارع بتعليم الأولاد معالم الدين وكتابه المنزل وإذا خصصنا - خضوعا
لظروف وحوافز خاصة - يوما خاصا في كل أسبوع، فلا يعد الاجتماع في ذلك
اليوم للتعلم بدعة.
وما أكثر الأمثال والنظائر للمسألة.
على أنه يظهر من الروايات أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يهتم بيوم
ميلاده وقد جئنا بتفصيله في كتابنا " البدعة " فلاحظ.

196
المسائل العشر
- 6 -
هل التبرك بآثار النبي والأولياء شرك؟
لقد جرت سنة السلف الصالح على التبرك بآثار النبي وآله، سنة قطعية لا يشك
فيها كل من له إلمام بتاريخ المسلمين، [ولهذا ألف الشيخ محمد طاهر المكي كتابا
في ذلك وأسماه " تبرك الصحابة بآثار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " نقل
فيه شواهد تاريخية قطعية على تبركهم وتبرك التابعين بآثاره قاطبة، وقد طبع هذا
الكتاب عام 1385 ه‍، ثم أعيد طبعه عام 1394 ه‍]، بيد إن الوهابيين أنكروا ذلك
أشد الإنكار وعدوه شركا، وإن كان بدافع محبة النبي وآله، ومودتهم.
غير أن المتبرك إذا اعتمد في عمله على عمل يعقوب حيث وضع قميص يوسف
على عينيه، فارتد بصيرا هل يصح لنا رميه بالشرك، إذ أي فرق بين التبرك بآثار
النبي وآثار سائر الأولياء وتبرك يعقوب بقميص يوسف. قال سبحانه:
(فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا) (يوسف - 96).
فنحن نرى أن يعقوب - عليه السلام - يتبرك بقميص يوسف، وقد ذكر القرآن
ذلك، كما ذكر أنه ارتد بصيرا بهذا التبرك.
فلو كان هذا العمل مستلزما للشرك، ولما ارتكبه ذلك النبي العظيم، ولما ذكره
القرآن الكريم ولما كان مؤثرا.

197
فأي فرق بين القميص المنسوج من القطن، والضريح المصنوع من الحديد؟!
وكيف يكون العمل الأول غير مزاحم للتوحيد ويكون مؤثرا في رد البصر، ويكون
تقبيل الضريح النبوي الطاهر شركا وخروجا عن جادة التوحيد؟!.
فلماذا هذا التفريق الذي يقوم به الوهابيون؟! هذا وبما أن بحثنا في هذا الكتاب
يقتصر على دراسة هذه الأمور التي يستنكرها الوهابيون، في ضوء القرآن الكريم
فإننا نكتفي بهذا القدر من الكلام، وإلا ففي السنة والتاريخ شواهد كثيرة على وقوع
هذا التبرك، إذ كان الصحابة والتابعون يتبركون بآثار النبي صلى الله عليه وآله و
سلم وبعض الأولياء.
هذا ولقد وردت في الصحاح وغيرها من كتب الحديث والسير أخبار وروايات
تكشف عن تبرك الصحابة والتابعين بآثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم نذكر
بعضها هنا على سبيل المثال لا الحصر:
ففي صحيح البخاري باب غزوة الطائف عن أبي موسى قال: كنت عند النبي صلى
الله عليه وآله وسلم وهو نازل بالجعرانة بين مكة والمدينة ومعه بلال، فأتى النبي
صلى الله عليه وآله وسلم أعرابي فقال: ألا تنجز لي ما وعدتني؟ فقال له: " أبشر "،
فقال: قد أكثرت علي من أبشر، فأقبل على أبي موسى وبلال كهيئة الغضبان فقال:
" رد البشرى، فاقبلا أنتما "، قالا: قبلنا، ثم دعا بقدح فيه ماء فغسل يديه ووجهه فيه
ومج فيه ثم قال: " اشربا منه وأفرغا على وجوهكما ونحوركما وأبشرا "، فأخذا
القدح ففعلا، فنادت أم سلمة من وراء الستر أن أفضلا لأمكما، فأفضلا لها منه
طائفة.. (1)
وفي صحيح البخاري في كتاب اللباس باب القبة الحمراء من أدم، عن ابن



(1) صحيح البخاري: 5 / 157.
198
أبي جحيفة عن أبيه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في قبة حمراء من
أدم ورأيت بلالا أخذ وضوء النبي صلى الله عليه وآله وسلم والناس يبتدرون
الوضوء فمن أصاب منه شيئا تمسح به، ومن لم يصب منه شيئا أخذ من بلل يد
صاحبه (1).
ففي صحيح مسلم في كتاب الفضائل باب قرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم
من الناس وتبركهم به، عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم إذا صلى الغداة جاء خدم المدينة بآنيتهم فيها الماء فما يؤتى بإناء إلا غمس
يده فيها فربما جاءه في الغداة الباردة فيغمس يده فيها (2).
وفي صحيح البخاري في كتاب الأدب، باب حسن الخلق والسخاء، عن سهل بن
سعد قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ببردة فقال سهل
للقوم: أتدرون ما البردة؟ فقال القوم: هي شملة، فقال سهل: هي شملة منسوجة
فيها حاشيتها فقالت: يا رسول الله أكسوك هذه؟ فأخذها النبي صلى الله عليه وآله
وسلم محتاجا إليها فرآها عليه رجل من الصحابة فقال: يا رسول الله ما أحسن
هذه فاكسنيها، فقال: " نعم "، فلما قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأمه
أصحابه، قالوا: ما أحسنت حين رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذها
محتاجا إليها ثم سألته إياها وقد عرفت أنه لا يسأل شيئا فيمنعه، فقال: رجوت
بركتها حين لبسها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي أكفن فيها (3).



(1) صحيح البخاري: 7 / 154.
(2) صحيح مسلم: 7 / 79.
(3) صحيح البخاري: 8 / 14.
199
المسائل العشر
- 7 -
البناء على القبور
إن البناء على قبور الأنبياء والأولياء مما جرت عليها اتباع الأنبياء والشرائع
السماوية قبل الإسلام، وبعده.
فقد كانوا يشيدون الأبنية والأضرحة على قبور الأنبياء والأولياء، ولا زال كثيرها
قائما إلى الآن في العراق وفلسطين والشام.
غير أن الوهابيين زعموا أن ذلك من الشرك أو من البدعة، فأجمعوا أمرهم على
هدم هذه الأبنية والأضرحة.
يقول ابن القيم في كتابه " زاد المعاد في هدى خير العباد ": يجب هدم المشاهد التي
بنيت على القبور ولا يجوز إبقاؤها، بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوما (1).
وعلى هذه السنة السيئة جرى الوهابيون، فإنهم بعد أن استولوا على الحجاز
استفتوا علماء المدينة عن تلك الأضرحة والقبور، ذاكرين في استفتائهم الحكم
والجواب الذي يجب أن يجيب به علماء المدينة فطرح ابن بلهيد - يومذاك -
سؤالا قال فيه:



(1) زاد المعاد: 661.
200
" ما قول علماء المدينة المنورة زادهم الله فهما وعلما في البناء على القبور
واتخذاها مساجد، هل هو جائز أو لا؟ وإذا كان غير جائز بل ممنوع منهي عنه نهيا
شديدا (1) فهل يجب هدمها ومنع الصلاة عندها؟ " (2).
وبما أن البحث هنا مركز على دراسة هذه المسائل في ضوء القرآن الكريم، فإننا
نطرح هذه المسألة على الكتاب الإلهي العزيز لنرى ما هو الجواب الصحيح فيها.
وإليك ما نستفيده في هذا المجال من القرآن الكريم:
1 - يظهر من بعض الآيات أن أهل الشرائع السماوية كانوا يبنون المساجد على
قبور أوليائهم أو عندها ولأجل ذلك لما كشف أمر أصحاب الكهف تنازع الواقفون
على آثارهم فمنهم من قال وهم المشركون:
(ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم)
وقال الآخرون وهم المسلمون:
(لنتخذن عليهم مسجدا) (الكهف - 21).
قال الزمخشري في تفسير قوله: (ابنوا عليهم بنيانا): أي ابنوا على باب كهفهم لئلا
يتطرق إليهم الناس ضنا بتربتهم ومحافظة عليها كما حفظت تربة رسول الله
بالحظيرة.
وقال في تفسير قوله: (قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا): أي
قال المسلمون وكانوا أولى بهم وبالبناء عليهم: لنتخذن على باب الكهف مسجدا،
يصلي فيه المسلمون ويتبركون بمكانهم (3).



(1) أنظر إلى الجواب الذي يمليه المستفتي على علماء الدين الذين عليهم أن يفتوا وفقه!!!
(2) جريدة أم القرى العدد: 17 من أعلام: 14.
(3) الكشاف: 2 / 254.
201
وقال في تفسير الجلالين: فقالوا - أي الكفار -: ابنوا عليهم - أي حولهم - بنيانا
يسترهم، ربهم أعلم بهم (قال الذين غلبوا على أمرهم): أمر الفتية وهم المؤمنون:
(لنتخذن عليهم) - حولهم - (مسجدا) يصلى فيه) (1).
وعلى الجملة فقد اتفق المفسرون على أن القائل ببناء المسجد على قبورهم كان
هم المسلمون ولم ينقل القرآن هذه الكلمة منهم إلا لنقتدي بهم ونتخذهم في
ذلك أسوة.
ولو كان بناء المسجد على قبورهم أو قبور سائر الأولياء أمرا محرما لتعرض عند
نقل قولهم بالرد والنقد لئلا يضل الجاهل.
وأما ما روي عن النبي من قوله: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم
مساجد (2) فالمراد منه هو السجود على قبور الأنبياء واتخاذها قبلة في الصلاة
وغيرها والمسلمون بريئون عن ذلك، وقد أوضحه القسطلاني في كتابه إرشاد
الساري في شرح صحيح البخاري.
إن قبور الأنبياء المنتشرة حول بيت المقدس كقبر داود - عليه السلام - في القدس
وقبور إبراهيم، وبنيه إسحاق ويعقوب ويوسف الذي نقله موسى من مصر إلى
بيت المقدس في بلد الخليل، كلها مبنية مشيدة قد بني عليها بالحجارة العادية
العظيمة من قبل الإسلام، وبقي ذلك بعد الفتح الإسلامي إلى اليوم.
غير أن ابن تيمية اعتذر عن ذلك في كتابه: " الصراط المستقيم " بأن البناء الذي كان
على قبر إبراهيم الخليل - عليه السلام - كان موجودا في زمن الفتوح، وزمن
الصحابة إلا أن باب ذلك البناء كان مسدودا إلى سنة 400 ه‍.
ولكن هذا الكلام لا يفيده أبدا ولا يضرنا، فإن " عمر " لما فتح بيت المقدس



(1) تفسير الجلالين: 2 / 3.
(2) صحيح البخاري: 2 / 111، كتاب الجنائز.
202
رأى ذلك البناء ومع ذلك لم يهدمه. وسواء أصح قول ابن تيمية أنه كان مسدودا إلى عام
400 أم لم يصح يدل على عدم حرمة البناء على القبور، وقد مضت على هذا البناء
الأعصار والدهور، وتوالت عليها القرون، ودول الإسلام، ولم يسمع عن أحد من
العلماء والصلحاء وأهل الدين وغيرهم قبل الوهابية أنه أنكر ذلك وأمر بهدمه أو
حرمه، أو فاه في ذلك ببنت شفة على كثرة ما يرد من الزوار والمترددين من جميع
أقطار المعمورة.
هذا مضافا إلى أنه قد دفن النبي في حجرة بيته ودفن فيها صاحباه ولا فرق بين
البناء السابق واللاحق، ولم يقل أحد بالفرق بين البناء السابق واللاحق كما لا
يخفى.
وفي تاريخ بناء الحرم النبوي ما يفيدك في هذا المجال، جدا، فلاحظ.
الوهابية ورواية ابن الهياج:
هذا وفي الختام نشير إلى ما اتخذه الوهابيون ذريعة لهدم القبور وهو ما رواه مسلم
في صحيحه إذ قال: حدثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب،
قال يحيى: أخبرنا، وقال الآخران: حدثنا وكيع عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت،
عن أبي وائل، عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك
على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن لا تدع تمثالا إلا
طمسته، ولا قبرا مشرفا إلا سويته " (1).
فقد استدل الوهابيون بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " ولا قبرا مشرفا إلا سويته "
على لزوم هدم



(1) صحيح مسلم: 3 / 61 كتاب الجنائز، وسنن الترمذي: 2 / 256، باب ما جاء في تسوية القبر، سنن النسائي: 4 / 88،
باب تسوية القبر.
203
القبور وتسويتها بالأرض.
بيد أن الاستدلال بالحديث المذكور يتوقف على أمرين:
1 - أن يكون السند صحيحا ورواته موثوق بهم.
2 - دلالة الحديث على المراد.
ولكن الحديث مخدوش من جانبين:
أما السند ففيه أشخاص لا يصح الاحتجاج بأحاديثهم وهم عبارة عن:
1 - وكيع.
2 - سفيان الثوري.
3 - حبيب بن أبي ثابت.
4 - الوائل الأسدي.
وأما وكيع فقد قال الإمام أحمد بن حنبل عنه أنه " أخطأ في خمسمائة حديث " (1).
كما نقل عن محمد بن المروزي أنه (أي وكيع) كان يحدث بالمعنى ولم يكن من
أهل اللسان أي لم يرو الأحاديث بنصوصها وألفاظها كما أنه لم يكن عارفا باللغة
العربية (2).
وأما سفيان الثوري فقد نقل عن ابن مبارك أنه قال: حدث سفيان بحديث فجئته
وهو يدلسه فلما رآني استحيى (3).
وقد نقل في ترجمة يحيى بن القطان عنه أنه قال كان سفيان يحاول أن يوثق لي



(1) تهذيب التهذيب: 11 / 125.
(2) المصدر نفسه: 11 / 130.
(3) المصدر نفسه: 4 / 115.
204
شخصا غير ثقة فلم يستطع (1).
وأما حبيب بن أبي ثابت فقد نقل عن أبي حبان أنه: كان مدلسا (2).
كما نقل عن عطا أنه قال عنه: لا يتابع عليه وليست محفوظة (3).
وأما وائل فيقال عنه أنه كان مبغضا لعلي - عليه السلام -.
هذا حال السند.
وأما الأمر الثاني (أعني دلالة الحديث) فلا بد من الدقة في اللفظتين الواردتين فيه
وهما " مشرفا " و " سويته ".
أما المشرف فالمراد منه هو المكان العالي المطل على غيره (4).
وقد جاء في القاموس: الشرف - محركة -: العلو، ومن البعير سنامه (5).
وأما التسوية فيراد منها تسوية المعوج يقال سوى الشئ: جعله سويا، ويقال:
سويت المعوج فما استوى: صنعه مستويا.
وجاء في القرآن الكريم:
(الذي خلق فسوى) (الأعلى - 2)
وعلى ذلك فمن القريب أن يكون معنى سويته تسوية القبر بتسطيح سنامها لا
هدم القبر من أساسه. وهذا هو مذهب جماعة منهم الشافعي، حيث جاء في كتاب
الفقه على المذاهب الأربعة: " ويندب ارتفاع التراب فوق القبر بقدر



(1) تهذيب التهذيب: 11 / 218.
(2) المصدر نفسه: 3 / 179.
(3) الشرح الحديدي.
(4) المنجد " مادة شرف ".
(5) القاموس " مادة شرف ".
205
شبر " (1) وجاء أيضا: ويجعل كسنام البعير، وقال الشافعي: جعل التراب مستويا أفضل من
تسنيمه (2).
فهذا الحديث يؤيد مذهب الشافعي وعليه الشيعة الإمامية أيضا.
ومن الجدير بالانتباه أن مسلم صاحب الصحيح أورد هذا الحديث تحت عنوان
" باب الأمر بتسوية القبر " لا تحت عنوان " الأمر بتخريب القبور وهدمها " (3).
ويؤيد ذلك أن مسلم نقل في صحيحه ما يؤيد ما استظهرناه من الحديث المذكور
من المعنى. قال - بعد ذكر جملة من الرواة -: قال ثمامة بن شفي: كنا مع فضالة بن
عبيد بأرض الروم برودس فتوفي صاحب لنا فأمر فضالة بن عبيد بقبره فسوي ثم
قال: سمعت رسول الله يأمر بتسويتها.
ولا شك أن المراد من التسوية ليس جعلها والأرض سواء، لأن ذلك خلاف السنة
القطعية التي تقضي بأن يرتفع القبر عن الأرض بشبر واحد، فيكون المراد أن
يسطح سنامها، ولهذا جاء في عبارة النووي عند تفسير الحديث المذكور في
صحيح مسلم " ولا يسنم بل يرفع نحو شبر ويسطح " (4).
ولم ننفرد نحن بهذا التفسير للحديث بل ذهب إليه ابن حجر القسطلاني في كتابه
" إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري " (5) إذ قال - بعد أن ذكر أن السنة هي
تسطيح القبر وأنه لا ينبغي ترك التسطيح مخالفة للشيعة -: " لأنه لم يرد تسويته



(1) الفقه على المذاهب الأربعة: 1 / 420.
(2) المصدر نفسه: 1 / 420.
(3) صحيح مسلم: 3 / 61، كتاب الجنائز.
(4) شرح صحيح مسلم للنووي 7 / 36.
(5) إرشاد الساري: 2 / 468.
206
بالأرض وإنما أراد تسطيحه جمعا بين الأخبار ".
وأخيرا لم يرد في حديثه صلى الله عليه وآله وسلم بل قال: " ولا قبرا إلا سويته ولا
بناء مبنيا على القبر ولا قبة إلا سويتها "، فإذن المراد ليس إلا ما ذكرناه من عدم جعل
نفس القبر مسنما، وأما البناء فوق القبر فليس بمقصود وليس هناك ما يدل من
الحديث على عدم جواز البناء على القبور، بل السيرة العملية للمسلمين على
خلافه كما عرفت.
وحتى لو فرضنا أن المراد من التسوية هو تخريب القباب والأبنية المقامة على
القبور، فمن المحتمل جدا أن يكون المراد هو قبور المشركين المقدسين - آنذاك
- من قبل الوثنيين وأهل الشرك، إذ كانت تلك القبور بعد ظهور الإسلام متروكة
على حالها، ويؤيد هذا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث عليا - عليه
السلام - لمحو الصور وهدم التماثيل الموجودة في أطراف المدينة أو غيرها،
وليست هذه التماثيل والصور، إلا الأصنام والأوثان التي كانت تعبد حتى بعد ظهور
الإسلام.
وعلى هذا فأي ارتباط لهذا الحديث بقبور الأنبياء والأولياء والصالحين؟
2 - قال الله الكريم:
(في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال * رجال
لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب
فيه القلوب والأبصار) (النور: 36 - 37).
الاستدلال بهذه الآيات على جواز البناء على القبور يتوقف على أمرين:
1 - ما هو المراد من هذه البيوت؟
2 - ما المراد من رفعها؟
أما الأمر الأول فقد روي عن ابن عباس أن المراد بها هي المساجد، تكرم وينهى
عن اللغو فيها، ويذكر فيها اسمه.

207
غير أنه يجب علينا - في المقام - التأمل في هذا التفسير، حيث إن الظاهر أن تفسير
ابن عباس للبيوت بالمساجد بيان لأحد المصاديق، لا المصداق المنحصر، وكم
لهذا التفسير من نظير، في غير هذا المقام.
بل يمكن أن يقال: إن " البيوت " غير المساجد، لأن المساجد يستحب أن تكون
عمارتها مكشوفة غير مسقفة، وأفضل الأربعة " المسجد الحرام " ونراه بالحس
والعيان قد بني مكشوفا، والبيت لا يطلق حقيقة على المكان المكشوف، بل هو
عبارة عن المكان الذي يكون له سقف وظهر، قال تعالى:
(لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة) (الزخرف - 33).
وقال:
(وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها) (البقرة - 189).
وهذا واضح بملاحظة العرف أيضا، فإنه يطلق على بيوت الأعراب وعلى خيامهم
الموجودة في البادية ولا يطلق على نفس البادية لكونها مكشوفة بخلاف الخيام
فإنها مسقفة، ولأجل ما ذكرناه لا تكاد تجد في القرآن الكريم موضعا أطلق فيه
البيت على المسجد، بخلاف الكعبة فإنها حيث كانت مسقفة أطلق عليها البيت في
مواضع شتى.
قال سبحانه:
(طهرا بيتي للطائفين) (البقرة - 125).
وقال سبحانه:
(جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس) (المائدة - 97).
وقال سبحانه:
(ثم محلها إلى البيت العتيق) (الحج - 33).

208
وعلى ذلك فالمراد بها غير المساجد بل البيوت المشرفة التي أذن الله أن ترفع،
ويذكر فيها اسمه، وبيوت الأنبياء والأولياء من أوضح مصاديقها لما خص الله هذه
البيوت وأهاليها بمزيد الشرف، والكرامة فقد قال الله عن البيت النبوي وأهله:
(إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) (الأحزاب -
33).
وهذا البيت نظير بيت إبراهيم حيث قالت الملائكة في شأنه لامرأة إبراهيم:
(أتعجبين من أمر الله رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد)
(هود - 73).
ولأجل ذلك نرى العلامة السيوطي بعد نقل قول ابن عباس نقل عن مجاهد قوله:
إن المراد، هي بيوت النبي.
وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك وبريدة أنه قال: قرأ رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم هذه الآية، فقام إليه رجل فقال: أي بيوت هذه يا رسول الله؟ قال:
بيوت الأنبياء، فقام إليه أبو بكر فقال: يا رسول الله هذا البيت منها؟ (يعني بيت علي
وفاطمة) قال: نعم من أفاضلها (1).
هذا عن الأمر الأول.
وأما المراد من الرفع (هو الأمر الثاني) فهو يحتمل أحد معنيين:
أ): أذن الله أن ترفع تلك البيوت بالبناء والعمارة للعبادة التي وردت في نفس الآية
من ذكر اسمه تعالى فيها، والتسبيح فيها بالغدو والآصال.
ويدل على ذلك قوله سبحانه:



(1) الدر المنثور في التفسير بالمأثور: 5 / 50 في تفسير الآية.
209
(وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل) (البقرة - 127).
فالظاهر هو أن المراد من " الرفع " في كلا المقامين واحد، وهو بناؤها وعمارتها -
البيوت - وإعلاؤها.
ب): إن المراد من الرفع هو تعظيمها وتوقيرها.
فلو كان المراد هو الأول لكان نصا صريحا في المطلوب (وهو البناء على القبور
التي في بيوتهم).
ولو كان المراد الثاني كان نصا في توقيره وتعظيمه وتكريمه، ومن المعلوم أن
عمارة البيت وصونه عن الخراب بتعميره وتجديد بنائه، وفرشه بالسجاجيد
والإسراج فيه وتزيينه بغير ما نهى الله عنه، والدفاع عن قصد تخريبه وهدمه،
توقيرا وتعظيما له كما يكون ستر الكعبة المعظمة بالأستار الثمينة تعظيما لها عرفا.
كل ذلك تكريما للنبي وتعظيما له حتى تتحقق - بها أيضا - الغايات التي ذكرتها
الآية، (من ذكر اسم الله والتسبيح له بالغدو والآصال).
3 - البناء على القبور تعظيم للشعائر، وقد قال الله تعالى:
(ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) (الحج - 32).
والشعائر جمع شعيرة بمعنى العلامة، وليس المراد منه علائم وجوده سبحانه لأن
العالم برمته علائم وجوده بل علائم دينه، ولأجل ذلك فسره المفسرون بمعالم
الدين، والله يصف " الصفا والمروة " بأنهما من شعائر الله إذ يقول:
(إن الصفا والمروة من شعائر الله) (البقرة - 158).
ويقول:

210
(والبدن جعلناها لكم من شعائر الله) (الحج - 36).
ويقول:
(يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله) (المائدة - 2).
وليس المراد إلا كونها علامات دينه..
فإذا وجب تعظيم شعائر الله بتصريح القرآن معللا بأنها من تقوى القلوب جاز
تعظيم الأنبياء والأولياء باعتبارهم أعظم آية لدين الله وأعظم تعظيم وأفضل
تكريم. فهم الذين بلغوا دين الله إلى البشرية فيكون حفظ قبورهم وأضرحتهم
وآثارهم عن الاندراس والاندثار خير تكريم وتعظيم لهم.
وإن شئت قلت: إن تعظيم كل شئ بحسبه، فتعظيم الكعبة يكون بسترها بالأستار،
وتعظيم البدن الذي هو من شعائر الله بالمواظبة على إبلاغها إلى محلها وترك
الركوب عليها وتعليفها، وتعظيم الأنبياء والأولياء في حياتهم بنحو وبعد وفاتهم
بنحو آخر.
فكل ما يعد تعظيما وتكريما يجوز بنص هذه الآية من غير شك ولا شبهة.
وورود الآية في مشاعر الحج وشعائره لا يكون دليلا على اختصاصها بها فإن قوله
تعالى (ومن يعظم شعائر الله) ضابطة كلية ومبدأ هام، ينطبق على مصاديقه
وأفراده وجزئياته الكثيرة.

211
المسائل العشر
- 8 -
زيارة القبور
اتفق المسلمون على جواز زيارة القبور، ويظهر وجه ذلك لمن راجع الكتب
الفقهية والحديثية، ولا نطيل المقام بذكر الأحاديث المتضافرة الواردة في هذا
المجال.
ويكفي في ذلك ما أفتى به أئمة المذاهب الأربعة حيث جاء في كتاب " الفقه على
المذاهب الأربعة " ما يلي:
" زيارة القبور مندوبة للاتعاظ وتذكر الآخرة، وتتأكد يوم الجمعة ويوما قبلها ويوما
بعدها.
وينبغي للزائر الانشغال بالدعاء والتضرع والاعتبار بالموتى، وقراءة القرآن للميت
فإن ذلك ينفع الميت على الأصح - إلى أن قال: - ولا فرق في الزيارة بين كون
المقابر قريبة أو بعيدة، بل يندب السفر لزيارة الموتى خصوصا مقابر الصالحين،
وأما زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهي من أعظم القرب " (1).
ومن أراد الوقوف على الروايات الواردة في هذا المورد فليراجع كتب الحديث
من الصحاح والسنن.



(1) الفقه على المذاهب الأربعة: 1 / 424 - 425، آخر كتاب الصلاة.
212
ومن جملة هذه الروايات قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
" قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور فقد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه فزوروها فإنها
تذكر بالآخرة ".
رواه الخمسة إلا البخاري واللفظ للترمذي.
ولا تنحصر الروايات الواردة في هذا المجال بهذا بل هناك روايات متضافرة
جمعها العلامة السمهودي في كتابه " وفاء الوفا " (1).
غير أننا نريد هنا أن نستدل لجواز هذا العمل بنفس الكتاب العزيز فنقول:
إن الله سبحانه نهى نبيه عن الوقوف على قبور المشركين والصلاة عليهم إذ قال:
(ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره) (التوبة - 84).
فالآية الكريمة تنهى عن الوقوف على قبر المنافق والمشرك والصلاة عليه كما
تدل عن طريق المفهوم، على أن القيام عند قبور المؤمنين والدعاء لهم، والصلاة
عليهم كان من سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وليس المراد بالقيام هو
خصوص القيام عند الدفن حتى لا يشمل القيام للزيارة لعدم الدليل على التقييد
واللفظ مطلق.
ولأن المعنى بحكم واو العطف: لا تقم على قبره أبدا يعني في جميع الأزمان
فيشمل ما بعد الدفن أيضا، كما إذا قيل: ما جاءني زيد قط ولا عمرو، أو قيل:
لا تطعم زيدا أبدا ولا تسقه وهذا واضح.
ولعله لما ذكرنا فسره في " الجلالين " بقوله " لدفن " أو " لزيارة ".
ليس المراد من الصلاة خصوص صلاة الميت، إذ لو أريد ذلك لم يكن وجه لقوله
" أبدا " ضرورة أن الصلاة على الميت تجب مرة واحدة، ولا تتكرر حتى يقول



(1) وفاء الوفا: 2 / 3903 - 3904.
213
أبدا، وليس المراد إفادة الاستغراق الافرادي وبيان شمول الحكم لجميع أفراد المنافقين،
لسبق الدلالة على ذلك بقوله " على أحد منهم " ولأن ظاهر لفظ " أبدا " هو بيان
استمرار الحكم في الأزمان، لا الاستغراق في الأفراد. قال تعالى:
(ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا..) (الأحزاب - 53)
يعني ولو بعد عشر سنين أو عشرين سنة، إلى آخر الأبد، فدل على أن المراد
بالصلاة، مطلق طلب الرحمة الذي يكرر في مدة العمر لا خصوص صلاة الميت،
نعم هي أيضا داخلة في عموم الآية وهو واضح.
فإذا كان ذلك من سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدلالة القرآن فكيف
يكون بدعة؟ بل يكون حينئذ سنة، وقال تعالى:
(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) (الأحزاب - 21).
وقال:
(قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) (آل عمران - 31).
فإذا استحبت زيارة قبر المؤمن - أعني القيام عند قبره - لسيرة النبي فكيف بقبر
النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقبور الأئمة - عليهم السلام - وهم أركان الدين
ورؤساء المؤمنين وأكملهم وأفضلهم وسادتهم أجمعين.
وفي الختام نشير إلى ما تمسك به الوهابيون لمنع شد الرحال إلى زيارة القبور فقد
استدلوا بما رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه
قال:
" لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد النبي، والمسجد
الأقصى ".
فقد قال عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: " وتسن زيارة النبي صلى الله عليه وآله
وسلم إلا أنه لا يشد الرحل إلا لزيارة المسجد، والصلاة فيه، وإذا قصد مع ذلك
الزيارة

214
فلا بأس " (1).
والحق أن الحديث الذي تمسك به الوهابيون لا يدل على حرمة شد الرحل إلى
زيارة القبور، والأماكن والمشاهد المشرفة، وذلك لأن الاستثناء الوارد في
الحديث مفرغ قد حذف فيه المستثنى منه، فكما يمكن أن يكون تقدير المستثنى
منه: " لا تشد الرحال إلى مكان من الأمكنة " يمكن أن يكون تقديره: " لا تشد الرحال
إلى مسجد من المساجد ".
ولكن المتعين هو الثاني لكون الاستثناء متصلا وهو يقتضي تقدير " المسجد "
بعنوان المستثنى منه، لا غيره.
إن الضرورة قاضية بجواز شد الرحال إلى طلب التجارة، وإلى طلب العلم، وإلى
الجهاد، وزيارة العلماء والصلحاء، وإلى التداوي والنزهة، وأن المسلمين في
مواسم الحج يشدون الرحال إلى عرفة والمزدلفة ومنى، وإلى أماكن كثيرة، ومع
ذلك فكيف يمكن أن يقال: إن المراد هو " لا تشد الرحال إلى مكان من الأمكنة إلا
إلى هذه الثلاث "؟!.
والحاصل أنه لا يشك من عنده أدنى معرفة باللغة والتراكيب العربية في أن المراد
بقوله " لا تشد الرحال " أي لا ينبغي أن يسافر المرء إلى مسجد غير هذه المساجد لا
أنه لا يسافر إلى مكان مطلقا.
هذا مضمون الحديث ومعناه ومع ذلك لا يفهم من هذا الحديث وأشباهه حرمة
السفر إلى باقي المساجد، بل هي ظاهرة في أفضلية هذه المساجد على ما عداها
بحيث بلغ فضلها أن تستحق شد الرحال والسفر إليها للصلاة فيها.
وأما سائر المساجد فليس لها هذا الشأن، لأن المترقب من الثواب حاصل



(1) الرسالة الثانية من الرسائل الموسومة ب‍ " الهدية السنية ".
215
من التوجه إلى كل مسجد، فإن سائر المساجد إما مسجد الجامع، أو مسجد السوق أو
مسجد المحلة فلكل واحد من هذه المساجد نظير في بلد المرء فلا ينبغي أن يشد
إليها الرحال في البلاد الأخرى ما دامت تتساوى في الفضيلة، نعم ما يترتب على
الصلاة في هذه المساجد الثلاثة لا يترتب على الصلاة في سائر المساجد ولذلك
يستحب شد الرحال إليها.
فتلخص أولا أن معنى الحديث هو عدم شد الرحال إلى مسجد من المساجد لا إلى
مكان من الأمكنة ولا إلى قبر.
هذا أولا ونقول ثانيا: إن النهي عن شد الرحال إلى سائر المساجد دون الثلاثة ليس
نهيا إلزاميا، بل هو للإرشاد إلى عدم ترتب ثواب وافر على التوجه إلى سائر
المساجد.
ويدل على ذلك أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يشد الرحال إلى غير
المساجد المذكورة في الحديث كما في صحيح البخاري:
ففي باب إتيان مسجد قبا راكبا وماشيا عن ابن عمر قال: كان النبي صلى الله عليه و
آله وسلم يأتي قباء راكبا وماشيا (1).
وفي باب من أتى مسجد قباء كل سبت، عن ابن عمر قال: كان النبي صلى الله عليه
وآله وسلم يأتي مسجد قباء كل سبت ماشيا وراكبا وكان عبد الله (بن عمر) يفعله
(2).
وفي باب مسجد قباء عن ابن عمر أنه كان يحدث أن رسول الله يزوره راكبا
وماشيا (3).



(1) صحيح البخاري: 2 / 61.
(2) المصدر نفسه: 2 / 61.
(3) المصدر نفسه: 2 / 61.
216
فهذا هو الإمام البخاري يروي لنا أن النبي كان يشد الرحال إلى مسجد " قباء " في كل
سبت، أوليس هذا دليلا على جواز شد الرحال إلى غير هذه الثلاثة من المساجد
والأماكن.
وبما أنه ربما تترتب على زيارة سائر المساجد مصالح خاصة وأن مثلها موجودة
في محل الراحل، يكون الرحيل إليها أيضا أمرا مستحسنا بالعرض.
أوليس صحيح البخاري أجمع وأصح كتاب عند أهل السنة؟ وأين قول العلامة
السيوطي في حقه:
فما من صحيح كالبخاري جامعا * ولا مسند يلفى كمسند أحمد
فلماذا تركوه وراءهم ظهريا وآمنوا ببعضه دون بعض.

217
المسائل العشر
- 9 -
الصلاة عند القبور
يقول ابن تيمية في رسالة " زيارة القبور ": " لم يذكر أحد من أئمة السلف أن الصلاة
عند القبور وفي مشاهدها مستحبة، ولا أن الصلاة والدعاء أفضل منها في غيرها،
بل اتفقوا كلهم على أن الصلاة في المساجد والبيوت أفضل منها عند قبور الأنبياء "
(1).
هذا كلام ابن تيمية ومن حذى حذوه من الوهابية، فنقول:
إن ما دل على جواز الصلاة والدعاء في كل مكان يدل بإطلاقه على جواز الصلاة،
والدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقبور سائر الأنبياء والصالحين
أيضا، ولا يشك في الجواز من له أدنى إلمام بالكتاب والسنة، وإنما الكلام هو في
رجحانها عند قبورهم فنقول في هذا المجال:
إن إقامة الصلاة عند تلك القبور لأجل التبرك بمن دفن فيها وهذه الأمكنة مشرفة
بهم وقد تحقق شرف المكان بالمكين، وليست الصلاة - في الحقيقة - إلا لله تعالى
لا للقبر ولا لصاحبه، كما أن الصلاة في المسجد هي لله أيضا، وإنما تكتسب
الفضيلة بإقامتها هنا لشرف المكان، لا أنها عبادة للمسجد، فالمسلمون يصلون
عند قبور من تشرفت بمن دفن فيها لتنالهم بركة أصحابها الذين جعلهم الله



(1) زيارة القبور: 159 - 160.
218
مباركين، كما يصلون عند المقام الذي هو " حجر " شرف بملامسة قدمي إبراهيم الخليل
لها.
قال سبحانه:
(واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى...) (البقرة - 125).
فليس لاتخاذ المصلى عند ذلك المقام الشريف سبب إلا التبرك بقيام إبراهيم -
عليه السلام - عليه، وهم يدعون الله عند القبور لشرفها بمن دفن فيها فيكون
دعاؤهم عندها أرجى للإجابة وأقرب للاستجابة، كالدعاء في المسجد أو الكعبة أو
أحد الأمكنة، أو الأزمنة التي شرفها الله تعالى.
والحاصل أنه يكفي في جواز الصلاة الاطلاقات والعمومات الدالة على أن الأرض
جعلت لأمة محمد مسجدا وطهورا.
وأما الرجحان فللتبرك بالمكان المدفون فيه النبي أو الولي ذي الجاه عند الله،
كالتبرك بمقام إبراهيم.
أفلا يكون المكان الذي بورك بضمه لجسد النبي الطاهر، مباركا، مستحقا لأن
تستحب عنده الصلاة وتندب عبادة الله فيه.
والعجب أن ابن القيم جاء في كتابه " زاد المعاد " بما يخالف عقيدته، وعقيدة
أستاذه ابن تيمية إذ قال:
" إن عاقبة صبر هاجر وابنها على البعد والوحدة، والغربة والتسليم إلى ذبح الولد
آلت إلى ما آلت إليه من جعل آثارهما، ومواطئ أقدامهما مناسك لعبادة المؤمنين،
ومتعبدات لهم إلى يوم القيامة وهذه سنته تعالى فيمن يريد رفعه من خلقه " (1).



(1) زاد المعاد في هدي خير العباد، طبعة البابي الحلبي، مصر، مراجعة طه عبد الرؤوف طه عام 1390 ه‍ - 1970 م.
219
فإذا كانت آثار إسماعيل وهاجر لأجل ما مسها من الأذى مستحقة لجعلهما
مناسك ومتعبدات، ف آثار أفضل المرسلين، الذي قال: " ما أوذي نبي قط كما
أوذيت " لا تستحق أن يعبد الله فيها، وتكون عبادة الله عندها، والتبرك بها شركا
وكفرا؟؟
كيف وقد كانت السيدة عائشة ساكنة في الحجرة التي دفن فيها النبي، وبقيت
ساكنة فيها بعد دفنه ودفن صاحبيه، وكانت تصلي فيها، وهل كان عملها هذا عبادة
لصاحب القبر يا ترى؟!

220
المسائل العشر
- 10 -
الحلف بغير الله سبحانه
وإقسامه بمخلوق أو بحقه عليه
لقد منع الوهابيون من الحلف بغير الله تعالى وعدوه شركا على الإطلاق وهكذا
فعلوا بالنسبة إلى إقسام الله بمخلوق من مخلوقاته أو بحقه عليه.
وإليك الكلام في كلتا المسألتين:
1 - الحلف بغير الله سبحانه
وقبل أن نستعرض النصوص الحديثية الدالة على جواز هذا الأمر لا بد أن نعرض
المسألة على كتاب الله لنرى هل أن الله سبحانه حلف بالمخلوق أو لا؟
إن مراجعة آيات القرآن الكريم تفيد أن الله حلف بمخلوقه في مواضع كثيرة
تقارب الأربعين من حيث المقسم به.
فحلف بالملائكة (الصفات، المرسلات، النازعات، الذاريات).
وبالنبي إذ قال:
(لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون) (الحجر - 72).
(والبروج - 3) و (البلد - 1)
وأقسم بالقرآن (يس: 1 - 3) و (الدخان: 1 - 3) و (ق: 1 - 3) و (الزخرف - 41) و
(ص - 1).

221
وحلف بالنفس الإنسانية (الشمس: 7 - 10) و (القيامة - 2).
وحلف بالنون والقلم (القلم - 1).
وحلف بالكتاب (الطور 2 - 3).
وحلف بالأفراس العاديات (العاديات - 2).
وحلف بالوالد وما ولد (البلد - 3).
وحلف بالشمس ونورها (الشمس - 1).
وحلف بالسماوات (الذاريات - 7) و (البروج - 1) و (الطارق - 11).
وحلف بالصبح (المدثر - 34) و (التكوير - 18) (الفجر - 1)، وبالتالي حلف
بالنهار، والضحى، وغروب الشمس، والليل، وليال عشر، والنجوم والأرض،
والقمر والرياح، والسحب، والبحر، والسفن، والتين، والزيتون، والعصر، والشفع،
والوتر، وبالوجود جميعا. كما يتضح من مراجعة الآيات القرآنية في السور
المختلفة التي تركنا ذكرها تفصيلا بعد ذكر نماذج منها.
فهل يمكن أن يكون الحلف بغيره شركا وقبيحا، ومع ذلك يصدر من الله
سبحانه؟
أفهل يمكن أن يقع مثل هذا الحلف في الكتاب العزيز مرات عديدة جدا، ومع
ذلك يكون محرما على غيره، دون أن يذكر الله ذلك التحريم والحظر في كتابه
المجيد؟
وهل يصح أن نقول: إن الحلف بالمخلوق من الشرك إذا صدر من المخلوق،
وليس من الشرك إذا صدر من الله الخالق سبحانه، إلا خطلا من القول وشططا من
الكلام، لأن العمل الواحد من حيث الماهية، والذات لا يتصور له حالتان، ولا يتلون
بلونين متضادين.
وبالجملة إذا كان القرآن قدوة وأسوة وكان كل ما جاء فيه من القول والعمل

222
منهاجا لجميع المسلمين، فكيف يمكن أن تصدر هذه الأقسام من الله سبحانه وتجوز
عليه ولا تجوز على غيره؟ ويكون عين التوحيد تارة ونفس الشرك أخرى مع
وحدة ماهية العمل وحقيقته.
إن الغاية من حلفه سبحانه بمخلوقاته تتردد بين الدعوة إلى التدبر في خلقه
والسنن المكنونة في وجوده كما هو الحال في أكثر إقساماته وبين إظهاره كرامته
وجلالته عند الله كما هو الحال في الحلف بعمر النبي الأكرم صلى الله عليه وآله و
سلم.
هذا بالنسبة إلى كتاب الله تعالى.
وأما السنة الشريفة فقد روى مسلم في صحيحه أنه: جاء رجل إلى النبي فقال:
يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجرا؟ فقال: أما وأبيك لتنبأنه، أن تصدق وأنت
صحيح شحيح تخشى الفقر (1).
فقد حلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأبي السائل قائلا " وأبيك ".
وروي أيضا أنه جاء رجل إلى رسول الله من أهل نجد يسأل عن الإسلام؟ فقال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " خمس صلوات في اليوم والليلة "، فقال:
هل علي غيرهن؟ قال: " لا إلا أن تطوع، وصيام شهر رمضان "، فقال: هل علي
غيره؟ قال: " لا إلا أن تطوع "، وذكر له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الزكاة
فقال: وهل علي غيره؟ قال: " لا، إلا أن تطوع "، فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد
على هذا ولا أنقص منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " أفلح وأبيه
إن صدق " أو " دخل الجنة وأبيه إن صدق " (2).
وفي حديث آخر في مسند الإمام أحمد بن حنبل أن النبي صلى الله عليه وآله و
سلم قال: " فلعمري لئن تكلم بمعروف وتنهى عن منكر خير من أن تسكت " (3).



(1) صحيح مسلم: 3 / 94.
(2) صحيح مسلم: 1 / 31 - 32، باب ما هو الإسلام وبيان خصاله.
(3) مسند أحمد بن حنبل: 5 / 225، وراجع أيضا مسند أحمد: 5 / 212، سنن ابن ماجة: 4 / 995 و 1 / 225.
223
وقد أفتى بعض أئمة المذاهب الأربعة بجواز ذلك أيضا، فقد جاء في " الفقه على
المذاهب الأربعة " ما يلي:
" الحنفية قالوا: الحلف بنحو أبيك ولعمرك ونحو ذلك جاز على كراهة.
الشافعية قالوا: يكره الحلف بغير الله تعالى إذا لم يقصد شيئا مما ذكر في أعلى
الصحيفة (أي إشراك الله...).
المالكية قالوا: الحلف بمعظم شرعا كالنبي والكعبة ونحوهما فيه قولان: الحرمة
والكراهة، والمشهور الحرمة.
الحنابلة قالوا: يحرم الحلف بغير الله تعالى وصفاته ولو بنبي أو ولي " (1). وعلى
كل تقدير فسواء أجاز الحلف بغيره سبحانه أم لا، لا يعد شركا ولا الحالف مشركا.
لأن الحلف بشئ لا يدل على أن الحالف يعتقد بألوهيته وربوبيته وأقصى ما يعرف
عنه أنه يعظمه ويكرمه، واختلاف الفتيا (الفتاوى) يعرف عن أن المسألة مختلف
فيها، وهل يمكن اتهام المسلم بالشرك بعمل تضاربت فيه الفتيا؟!
نعم لا ينعقد الحلف بغيره سبحانه ولا يقضى في المحاكم إلا بالحلف به سبحانه،
وهذا لا يعتبر دليلا على كون الحلف بغيره سبحانه وتعالى، شركا أو حراما.
2 - الإقسام بمخلوق أو بحقه:
لقد منع الوهابيون من الإقسام على الله بمخلوق من مخلوقيه، مثل أن يقول
السائل: أقسم عليك بفلان، أو بحق فلان، أو أسألك بفلان أو بحقه، وهو - في
نظرهم - نوع من التوسل.



(1) الفقه على المذاهب الأربعة: 2 / 75.
224
إذن هلم معي نحاسب هذا المنع، هل يوافق السيرة العملية للمسلمين أو لا؟
وقبل كل شئ نقول: إن الإقسام بغير الخالق لا يعد شركا ولا الحالف، لما عرفت
ما قررناه من معيار الشرك أو التوحيد، وإنما الكلام في جوازه وعدمه فنقول:
لا شك أن الله سبحانه مدح جماعة بقوله:
(الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار) (آل عمران -
17).
فلو قال الرجل في عدواته ومناجاته: اللهم إني أسألك بحق المستغفرين بالأسحار
إلا غفرت لي ذنوبي، فهل ارتكب شركا، ولماذا يكون عمله هذا شركا؟ وقد سبق
أن عرفت ملاك الشرك في العبادة، وأنه إنما يتحقق عنوان الشرك العبادي إذا كان
الداعي يعتقد الألوهية والربوبية في مدعوه فهل - في الصورة التي ذكرناها - يعتقد
المتكلم في من يقسم بهم على الله غير ما يصفه الله بهم، إذ يقول (المستغفرين
بالأسحار)؟.
إن الشرك والتوحيد لم يناطا بنظرنا فليس متروكا لنا أن نعد عملا شركا وآخر
توحيدا، وهذا مشركا، وذاك موحدا، فقد عرف القرآن الميزان الواقعي للشرك
والتوحيد في موارد كثيرة، فالمشرك هو من يصفه الله بقوله:
(وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من
دونه إذا هم يستبشرون) (الزمر - 45).
والمشرك هو الذي يصفه القرآن الكريم أيضا بقوله:
(إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون * ويقولون أئنا لتاركو

225
آلهتنا لشاعر مجنون) (الصافات: 35 - 36).
فهل يصح لنا أن نجعل، المقسمين، بخيرة خلق الله، من هؤلاء الذين وصفهم الله
سبحانه في الآيات السابقة.
فإذا تبين أن الإقسام بأحد على الله ليس بشرك، في ميزان القرآن الكريم،
فلنعرض المسألة على الأحاديث الشريفة.
فلقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه علم أعمى أن يقول:
" اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة " (1)
كما أنه روى أبو سعيد الخدري عن النبي أنه كان يقول:
" اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وأسألك بحق ممشاي هذا " (2)
يبقى أن نعرف أنهم يعترضون على هذا الأمر بأنه ليس لأحد حق على الله،
فيقولون: إن المسألة بحق المخلوق لا يجوز لأنه لا حق للمخلوق على الخالق.
والجواب: هو أن هذا صحيح إلا إذا جعل الخالق حقا للغير على نفسه وقد فعل
ذلك إذ قال:
(وكان حقا علينا نصر المؤمنين) (الروم - 47).
وقال:
(وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل) (التوبة - 111).
وقال: (كذلك حقا علينا ننج المؤمنين) (يونس - 103).
وقال:
(إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة) (النساء - 17).



(1) سنن ابن ماجة: 1 / 441، مسند أحمد: 4 / 138 وغيرهما.
(2) سنن ابن ماجة: 1 / 262 و 261، مسند أحمد: 3 / 2.
226
وجاء في الحديث:
1 - " حق على الله عون من نكح التماس العفاف مما حرم الله " (1).
2 - قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " ثلاثة حق على الله عونهم: الغازي
في سبيل الله... " (2).
3 - " أتدري ما حق العباد على الله... "؟ (3).
فتبين من هذا البحث أن الحلف بغيره سبحانه ولا إقسامه بمخلوق لا يمت إلى
الشرك بصلة، بل لا يخرج عن دائرة الإكرام والتبجيل، وليس كل تعظيم وتكريم -
خصوصا تعظيم من عظمه الله وتكريم من أكرمه الله - شركا.
ودلت الروايات وراء ذلك على جوازه، وإباحته. فماذا بعد الحق إلا الضلال.
هذا آخر ما أردنا إيراده في هذه الرسالة حول ميزان التوحيد والشرك في القرآن
الكريم آملين أن ينفع الله به المسلمين ويكون خطوة على طريق وحدتهم
وتقارب طوائفهم. وأن يرزقهم الله توحيد الكلمة كما رزقهم كلمة التوحيد.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين



(1) الجامع الصغير للسيوطي: 2 / 33.
(2) سنن ابن ماجة: 2 / 841.
(3) النهاية لابن الأثير " مادة حق ".
227
/ 1