بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
الكتاب: العقيلة والفواطم المؤلف: الحاج حسين الشاكري الجزء: الوفاة: معاصر المجموعة: من مصادر العقائد عند الشيعة الإمامية تحقيق: الطبعة: سنة الطبع: المطبعة: ستارة الناشر: المؤلف ردمك: ملاحظات: سلسلة السيرة (10) العقيلة والفواطم تأليف حسين الشاكري
2 المقدمة عقيلة بني هاشم، وصريخة عبد المطلب، وحفيدة الرسول الأعظم، ابنة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وابنة فاطمة الزهراء البتول صلوات الله عليهم أجمعين، زينب الكبرى غنية عن التعريف، كالشمس في رابعة النهار. وإذا استطال الشئ قام بنفسه * وصفات ضوء الشمس يذهب باطلا إن من أعظم القربات إلى الله سبحانه وتعالى، هو تعظيم شعائر من أمر الله عباده بمودتهم، والامتثال لأوامرهم ونواهيهم، وموالاتهم وموالاة أوليائهم،
3 ومعاداة أعدائهم، والانحياز إلى حوزتهم، وهم الرسول الكريم وأهل بيته الغر الميامين، صلوات الله عليهم أجمعين. وإن خير ما يعظم به السادة الكرام، هو تعظيم شعائرهم وبث مناقبهم، ونشر فضائلهم، وقد صنف الأفذاذ من العلماء الأعلام، ونقلة الأخبار، في كل قرن من القرون السالفة منذ الصدر الأول للإسلام إلى يومنا هذا، من الموسوعات والأسفار المطولة، والتواريخ المتواترة عن حسن سيرتهم وجميل صفاتهم وتراجم أحوالهم، صلوات الله عليهم. ولما أردت ترجمة حياة السيدة زينب الكبرى بطلة كربلاء بصورة موجزة ضمن سلسلة السيرة، وإظهار مناقبها ومزاياها الشريفة التي خصها الله تعالى بها، وجدت نفسي أصارع أمواجا متلاطمة، في بحر عظمتها، أخبط خبط عشواء كالغريق الذي يستنجد بالقشة
4 لتخلصه، كما وجدت نفسي أمام عدة أبواب شارعة كل واحد منها يؤدي إلى طريق مستقيم قائم بذاته، فتحيرت من أي الأبواب أدخل وفي أي الشوارع ألج لأنتهي إلى مقصدي، لأن شعاع عظمتها يبهر العقول ويغشي الأبصار، فتمسكت بحبل الولاء وسرت على هداهم، ومنه سبحانه وتعالى أستمد العون والتسديد. عسى أن يقبل مني هذا اليسير من الإخلاص الصادق والجهد المتواضع، فإنهم أكرم من لاذ بهم الهاربون، وهو نعم المولى ونعم النصير. العبد المنيب حسين الشاكري دار الهجرة - قم المقدسة الفاتح لشهر الصيام 1421 ه
5 المحتويات 1 - زينب الكبرى... 7 2 - أم كلثوم... 74 3 - فاطمة بنت أسد... 81 4 - فاطمة أم البنين... 115 5 - فاطمة بنت الحسين (عليها السلام)... 127 6 - سكينة بنت الحسين (عليها السلام)... 160 7 - فاطمة المعصومة (عليها السلام)... 191 8 - آمنة بنت وهب (عليها السلام)... 215 9 - أم سلمة (عليها السلام)... 229 10 - فاطمة بنت الحسن (عليها السلام)... 247
6 الفصل الأول زينب الكبرى وأم كلثوم العقيلة زينب في سطور: جدها لأمها: رسول الله (صلى الله عليه وآله). جدتها لأمها: خديجة الكبرى. جدها لأبيها: أبو طالب شيخ البطحاء. جدتها لأبيها: فاطمة بنت أسد. أبوها: علي أمير المؤمنين. أمها: فاطمة الزهراء. أخواها: الإمامان الحسن والحسين. أختها: أم كلثوم. ولادتها: خمسة جمادى الأول السنة الخامسة من
7 الهجرة، بالمدينة. ألقابها: الصديقة الصغرى، العقيلة، عقيلة بني هاشم (1)، عقيلة الطالبيين، العارفة، العالمة، الفاضلة، الكاملة، عابدة آل علي. زوجها: عبد الله بن جعفر الطيار. أولادها: علي، عون، محمد، عباس، أم كلثوم. كان لها مجلس علمي حافل، يقصده جماعة من النساء للتفقه بالدين، شهدت مأساة كربلاء، وتحملت العبء الأكبر بعد شهادة أخيها الحسين وشاركتها أختها أم كلثوم. توفيت في 15 رجب في دمشق الشام سنة 65 ه على أصح الروايات، ودفنت في ضواحي دمشق في قرية يقال لها راوية، ولها مزار يناسب جلالتها وعظمتها.
(1) العقيلة: هي المرأة الكريمة على قومها، العزيزة في بيتها. 8 أبوها (عليهما السلام): أبوها أمير المؤمنين، وسيد الوصيين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين إلى جنات النعيم أبو الحسن والحسين، علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم ابن عبد مناف بن قصي، وابن عم الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) وصنوه، الذي رباه صغيرا، وعلمه شابا علم ما كان وما يكون، ونصبه من بعده علما لأمته، وأبان فضائله التي لا تحصى، ومناقبه التي لا تستقصى، ومعين علمه الذي لا ينضب، وأطواد حلمه الذي لا ينزع، فهو أعلم الناس بعد الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) وأحلمهم، وأجودهم، وأكرمهم، وأزهدهم، وأشجعهم، وأعبدهم، وأوفاهم، وأورعهم، وأقضاهم، صلوات الله عليه. وأما أمها (عليهما السلام): فهي بضعة المصطفى، الطاهرة الزكية، سيدة نساء
9 العالمين، الصديقة الكبرى، فاطمة الزهراء، بنت الرسول الأعظم الخاتم لما سبق، والفاتح لما استقبل، الحوراء الإنسية، التي زوجها الله سبحانه وتعالى في السماء. ولادتها: ولدت الميمونة الطاهرة زينب الكبرى (عليها السلام) في الخامس من شهر جمادى الأول، من السنة الخامسة، أو السادسة للهجرة على ما حققه بعض الأفاضل من المؤرخين، وقيل في شعبان في السنة السادسة من الهجرة. والذي يترجح عندنا هو أن ولادة السيدة زينب كانت في السنة الخامسة من الهجرة، وذلك حسب الترتيب الوارد في أولاد فاطمة الزهراء (عليهم السلام). ولما ولدت زينب (عليها السلام) استبشر بها أبوها الإمام علي (عليه السلام) وأخذها من أمها السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وقالت سم هذه المولودة، فقال: ما كنت لأسبق أبيك
10 رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وكان في سفر له، وأجرى عليها مراسيم الإسلام في المولود، فقد أذن في أذنها اليمنى وأقام في اليسرى. ولما جاء النبي (صلى الله عليه وآله) واحتضنها وسأل الإمام علي (عليه السلام) عن اسمها، فقال: ما كنت لأسبقك يا رسول الله، فقال (صلى الله عليه وآله): ما كنت لأسبق ربي تعالى، فهبط الأمين جبرئيل يقرأ على النبي السلام من الله الجليل العلام، وقال له: سم هذه المولودة زينب، فقد اختار الله سبحانه لها هذا الاسم. ثم أخبره بما يجري عليها من المصائب، فبكى النبي (صلى الله عليه وآله) وقال: من بكى على مصاب هذه البنت كان كمن بكى على أخويها الإمامين الحسن والحسين (عليهما السلام). وتكنى بأم كلثوم، كما تكنى بأم الحسن أيضا. ويقال لها زينب الكبرى، للفرق بينها وبين من سميت باسمها من أخواتها وأقرانها، وكنيت بكنيتها.
11 كما تلقب بالصديقة الصغرى، للفرق بينها وبين أمها الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء (عليها السلام). وتلقب بالعقيلة، وعقيلة بني هاشم، وعقيلة الطالبيين (1)، والموثقة، والعارفة، والعالمة غير المعلمة، والفاضلة الكاملة، والعابدة الزاهدة، وغير ذلك من الصفات الحميدة والسجايا الكريمة والنعوت الحسنة. وهي أول بنت ولدت للسيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام). أشقاؤها: أشقاؤها من أمها وأبيها الإمامين الحسن والحسين (عليهما السلام)، ومن بعدهم السيدة أم كلثوم، وهي أكبر من أختها، وآخرهم الشهيد السقط محسن. كما لها عدة إخوة وأخوات من أمهات شتى أعرضنا عن ذكرهم روما للاختصار.
(1) ومعنى العقيلة هي المرأة الكريمة على قومها، والعزيزة عندهم، والسيدة زينب (عليها السلام) فوق ذلك. 12 نشأتها وتربيتها (عليها السلام): لم نحصل على تفاصيل نشوء السيدة زينب في طفولتها وصباها غير ما ذكره المحقق العلامة النقدي في كتابه (زينب الكبرى) ملخصا، وهذا نصه: التربية هي من أهم الأمور للأطفال الذين يراد تثقيفهم وتهذيبهم وتأديبهم على الوجه الصحيح، لأنها أساس كل فضيلة، ودعامة كل منقبة، وأول شئ يحتاج إليه في التربية هو اختيار المربي الكامل العامل بالدروس التي يلقيها على من يراد تربيته، ولذلك ترى الأمم الناهضة في كل دور من أدوار التاريخ ينتخبون لتربية ناشئتهم من يرون فيه الكفاءة والمقدرة، من ذوي الأخلاق الفاضلة والصفات الكاملة، علما منهم أن الناشئ يتخلق بأخلاق مربيه، ويتأدب بآدابه مهما كانت. ولقد كانت نشأة هذه الطاهرة الكريمة، وتربية تلك الدرة اليتيمة، العقيلة زينب (عليها السلام)، في حضن النبوة،
13 ودرجت في بيت الرسالة، رضعت لبان الوحي من ثدي الزهراء البتول، وغذيت بغذاء الكرامة من كف ابن عم الرسول، فنشأت نشأة قدسية، وربيت تربية روحانية، متجلببة جلابيب الجلال والعظمة، متردية رداء العفاف والحشمة، فالخمسة أصحاب العباء (عليهم السلام) هم الذين قاموا بتربيتها وتثقيفها وتهذيبها، وكفاك بهم مؤدبين ومعلمين. ولما غربت شمس الرسالة، وغابت الأنوار الفاطمية، وتزوج أمير المؤمنين بإمامة بنت أبي العاص - وأمها زينب بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) - بوصية من فاطمة (عليها السلام)، إذ قالت: وأوصيك أن تتزوج بأمامة بنت أختي زينب، تكون لولدي مثلي. قامت أمامة بشؤون زينب خير قيام، كما كانت تقوم بشؤون بقية ولد فاطمة، وكانت أمامة هذه من النساء الصالحات القانتات العابدات. وكانت العقيلة زينب (عليها السلام) تأخذ التربية الصالحة والتأديب القويم من والدها الكرار وأخويها الكريمين
14 الإمامين الحسن والحسين (عليهما السلام)، إلى أن بلغت من العلم والفضل والكمال مبلغا عظيما، كما سيأتي في بيان علمها وفضلها. شرفها ومجدها (عليها السلام): الشرف في النسب: اتصاله بعظيم من العظماء، وأشرفهم الذرية الطاهرة من آل الرسول (صلى الله عليه وآله). والمجد يطلق على الشرف الباذخ، ويطلق على الكرم والعز والجاه. فإذا سمعت هذا فاستمع لما يوحى إليك، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): كل بني أم ينتمون إلى عصبتهم، إلا ولد فاطمة فإني أنا أبوهم وعصبتهم (1). وقد روى هذا الحديث
(1) أورد النبهاني في الشرف المؤيد، الصفحة 51، وقال الصباني في إسعاف الراغبين: هذه الخصوصية لأولاد فاطمة (عليها السلام) فقط دون أولاد بقية بناته (صلى الله عليه وآله). 15 بالإسناد إلى فاطمة بنت الحسين (عليه السلام) عن فاطمة الكبرى بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ورواه الطبراني وغيره بأسانيدهم المختلفة، كما في شرف المؤبد للنبهاني (1) عنه (صلى الله عليه وآله): إن الله عز وجل... وجعل ذرية كل نبي في صلبه، وإن الله تعالى جعل ذريتي في صلب علي بن أبي طالب، والروايات بهذا المعنى كثيرة. وهذا الشرف الحاصل للسيدة زينب (عليها السلام) شرف لا مزيد عليه، فإذا ضممنا إلى ذلك أن أباها علي المرتضى، وأمها فاطمة الزهراء وجدتها خديجة الكبرى، وعمها جعفر الطيار في الجنة، وعمتها أم هانئ، وأخواها سيدا شباب أهل الجنة، وأخوالها وخالاتها أبناء رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فماذا يكون بعد هذا الشرف، وإلى أين ينتهي شأوه ويبلغ مداه.
(1) الصفحة 53، طبعة بيروت، سنة 1309 ه. 16 وإذا ضممنا إلى ذلك أيضا علمها وفضلها وتقواها، وكمالها، وزهدها، وورعها، وعبادتها، وعمق معرفتها بالله تعالى، كان لشرفها شرفا خاصا بها، وبأمثالها من أهل بيتها، ومجدها مجدا مؤثلا لا يليق إلا بها وبهم صلوات الله عليهم. ومما زاد في شرفها أن الخمسة الطاهرة أهل الكساء (عليهم السلام) كانوا يحبونها حبا جما. وحدث يحيى المازني قال: جاورت أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في المدينة المنورة مدة مديدة وبالقرب من البيت الذي تسكنه السيدة زينب ابنته، فلا والله ما رأيت لها شخصا، ولا سمعت لها صوتا، وكانت إذا أرادت الخروج لزيارة جدها (صلى الله عليه وآله) تخرج ليلا، الحسن عن يمينها والحسين عن شمالها، وأمير المؤمنين (عليه السلام) أمامها، فإذا قربت من القبر الشريف، سبقها أمير المؤمنين (عليه السلام) فأخمد ضوء القناديل، فسأله الإمام الحسن (عليه السلام) مرة عن ذلك،
17 فقال: أخشى أن ينظر أحد إلى شخص أختك زينب. وروي: أن الإمام الحسن (عليه السلام) لما وضع الطشت بين يديه وصار يقذف كبده من أثر السم، التي سمته به زوجته جعدة بنت الأشعث بأمر معاوية لعنهم الله، سمع بقدوم أخته السيدة زينب أمر وهو بتلك الحالة، برفع الطشت، إشفاقا عليها. وجاء في بعض الأخبار، إن الإمام الحسين (عليه السلام) إذا زارته أخته زينب يقوم لها إجلالا ويجلسها في مكانه. ولعمري إن هذه منزلة عظيمة للسيدة زينب لدى أخيها الإمام الحسين (عليه السلام) كما أنها كانت أمينة أبيها على الهداية الإلهية. زواجها من عبد الله بن جعفر الطيار: لما بلغت العقيلة زينب (عليها السلام) مبلغ النساء، خطبها الأشراف من العرب ورؤساء القبائل فكان أمير المؤمنين
18 علي (عليه السلام) يردهم ولم يجب أحدا منهم في أمر زواجها. وكان يدور في خلده (عليه السلام) أن يزوج بناته من أبناء إخوته امتثالا لقول الرسول (صلى الله عليه وآله) حين نظر إلى أولاد علي وجعفر وقال: بناتنا لبنينا، وبنونا لبناتنا، ولذلك دعى ابن أخيه عبد الله بن جعفر وشرفه بتزويج الحوراء الإنسية زينب على صداق أمها فاطمة الزهراء (عليها السلام) أربعمائة وثمانين درهما. ويجدر بنا هنا أن نذكر شيئا يسيرا من حياة عبد الله ابن جعفر بن أبي طالب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي، الملقب بالجواد ويكنى بأبي محمد، وأشهر كناه أبو جعفر. أمه أسماء بنت عميس الخثعمية، تزوجها جعفر بن أبي طالب الملقب بالطيار، وهي أم ولده جميعا، ولما استشهد في غزوة مؤتة بالبلقان، تزوجها أبو بكر بن أبي قحافة فولدت له محمدا، ولما توفي عنها تزوجها أمير المؤمنين علي (عليه السلام) فولدت له يحيى بن علي توفي
19 في حياة أبيه (عليه السلام)، هذا قول أبي الفرج الإصبهاني في المقاتل، وقيل: ولدت له يحيى ومحمد الأصفر. ولدت العقيلة زينب الكبرى لعبد الله بن جعفر الطيار كما في تاريخ الخميس (2: 317) عليا وعونا الأكبر، وعباسا، وأم كلثوم. أما عون فقد استشهد مع خاله الحسين في كربلاء يوم الطف، قتل في جملة آل أبي طالب، وهو مدفون مع آل أبي طالب في المقبرة مما يلي رجلي الحسين (عليه السلام) كما نص عليه الشيخ المفيد في الإرشاد، والطبرسي في إعلام الورى. انتهى. أقوال العلماء في فضائلها ومناقبها (عليها السلام): قال شهاب الدين بن حجر في الإصابة: زينب بنت علي بن أبي طالب بن عبد المطلب، الهاشمية سبطة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أمها فاطمة الزهراء.
20 قال ابن الأثير: إنها ولدت في حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكانت عاقلة لبيبة جزلة، زوجها أبوها ابن أخيه عبد الله ابن جعفر فولدت له أولادا، وكانت مع أخيها لما قتل، فحملت إلى دمشق وحضرت عند يزيد بن معاوية، وكلامها ليزيد بن معاوية - حين طلب الشامي أختها فاطمة - مشهور يدل على عقل وقوة جنان. وقال العلامة البرغاني في مجالس المتقين: إن المقامات العرفانية الخاصة بزينب (عليها السلام) تقرب من مقامات الإمامة، وإنها لما رأت حالة زين العابدين (عليه السلام) - حين رأى أجساد أبيه وإخوته وعشيرته وأهل بيته على الثرى صرعى مجزرين كالأضاحي، وقد اضطرب قلبه واصفر وجهه - أخذت (عليها السلام) في تسليته، وحدثته بحديث أم أيمن: من أن هذا عهد من الله تعالى. وفي الطراز المذهب: إن شؤونات زينب الباطنية ومقاماتها المعنوية كما قيل فيها: إن فضائلها وفواضلها،
21 وخصالها وجلالها، وعلمها وعملها، وعصمتها وعفتها، ونورها وضياءها، وشرفها وبهاءها تالية أمها الزهراء ونائبتها عليهن السلام. وفي مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الإصبهاني: زينب العقيلة بنت علي بن أبي طالب، وأمها فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، والعقيلة هي: التي روى ابن عباس عنها كلام فاطمة (عليها السلام) في فدك، فقال: حدثتني عقيلتنا زينب بنت علي. وفي جنات الخلود ما معناه: كانت زينب الكبرى في البلاغة والزهد والتدبير والشجاعة قرينة أبيها وأمها (عليهما السلام)، فإن انتظام أمور أهل البيت بل الهاشميين بعد شهادة الحسين (عليه السلام) كان برأيها وتدبيرها (عليها السلام). وقال ابن عنبة في أنساب الطالبيين: زينب الكبرى بنت أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، كنيتها أم الحسن، تروي عن أمها فاطمة الزهراء بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد
22 امتازت بمحاسنها الكثيرة، وأوصافها الجليلة، وخصالها الحميدة، وشيمها السعيدة، ومفاخرها البارزة، وفضائلها الظاهرة. وعن الحافظ جلال الدين السيوطي في رسالته الزينبية: ولدت زينب في حياة جدها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكانت لبيبة جزلة عاقلة لها قوة جنان، فإن الحسن ولد قبل وفاة جده بثمان سنين، والحسين بسبع سنين، وزينب الكبرى بخمس سنين. وعن النيسابوري في رسالته العلوية: كانت زينب ابنة علي (عليه السلام) في فصاحتها وبلاغتها وزهدها وعبادتها كأبيها المرتضى (عليه السلام) وأمها الزهراء (عليها السلام). وقال عمر أبو النصر اللبناني في كتابه فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) المطبوع في بيروت حديثا: وأما زينب بنت فاطمة (عليها السلام) فقد أظهرت أنها من أكثر آل البيت جرأة وبلاغة وفصاحة، وقد استطارت شهرتها بما أظهرت يوم
23 كربلاء وبعده من حجة وقوة وجرأة وبلاغة، حتى ضرب بها المثل وشهد لها المؤرخون والكتاب. وقال أيضا في كتابه الحسين بن علي المطبوع حديثا أيضا: ومما يجب أن يصار إلى ذكره في هذا الباب ما ظهر من زينب بنت فاطمة وأخت الحسين (عليهما السلام) من جرأة وثبات جأش في مواقفها هذه يوم المعركة وعند ابن زياد وفي قصر يزيد، إلى آخر ما قال. وقال البحاثة فريد وجدي على ما نقله عنه بعض الأجلاء: السيدة زينب بنت علي رضي الله عنها، كانت من فضليات النساء وشريفات العقائل ذات تقى وطهر وعبادة، هاجرت إلى مصر وتوفيت بها، انتهى. وقال الفاضل الأديب حسن قاسم في كتابه السيدة زينب: السيدة الطاهرة الزكية زينب بنت الإمام علي بن أبي طالب ابن عم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وشقيقة ريحانتيه، لها أشرف نسب وأجل حسب وأكمل نفس وأطهر قلب،
24 فكأنها صيغت في قالب ضمخ بعطر الفضائل، فالمستجلي آثارها يتمثل أمام عينيه رمز الحق، رمز الفضيلة، رمز الشجاعة، رمز المروءة وفصاحة اللسان، قوة الجنان، مثال الزهد والورع، مثال العفاف والشهامة، إن في ذلك لعبرة... وقال أيضا: فلئن كان في النساء شهيرات فالسيدة أولاهن، وإذا عدت الفضائل فضيلة - فضيلة من وفاء وسخاء، وصدق وصفاء، وشجاعة وإباء، وعلم وعبادة، وعفة وزهادة - فزينب أقوى مثال للفضيلة بكل مظاهرها. وقال العلامة الأجل السيد هبة الدين الشهرستاني: إن العقيلة زينب باغتت أخاها الحسين (عليه السلام) في خبائه ليلة مقتله، فوجدته يصقل سيفا له ويقول: يا دهر أف لك من خليل * كم لك بالإشراق والأصيل
25 من طالب بحقه قتيل * والدهر لا يقبل بالبديل إلى آخر الأبيات. ذعرت زينب عند تمثل أخيها بهذه الأبيات، وعرفت أن أخاها قد يئس من الحياة ومن الصلح مع الأعداء، وأنه قتيل لا محالة. وصرخت نادبة: يا أخي أراك تغتصب نفسك اغتصابا، وقالت: اليوم مات جدي وأبي وأمي وأخي، ثم خرت مغشية عليها، إذ غابت عن نفسها ولم تعد تملك اختيارها، فأخذ أخوها الحسين (عليه السلام) رأسها في حجره يرش على وجهها من مدامعه، حتى أفاقت وسعد بصرها بنظرة من شقيقها الحسين (عليه السلام)، وأخذ يسليها - وفي بعض التسلية تورية - فقال: يا أختاه إن أهل الأرض يموتون وأهل السماء لا يبقون، فلا يبقى إلا وجهه، وقد مات جدي وأبي وأمي وأخي وهم خير مني، فلا يذهبن بحلمك الشيطان، ولم يزل بها حتى
26 أسكن بروحه روعها، ونشف بطيب حديثه دمعها. نعم، كانت شقيقة الحسين (عليه السلام) أخته بتمام معاني الكلمة، فلا غرو إن شاطرت سيدة الطف زينب أخاها الحسين (عليه السلام) في الكوارث وآلام الحوادث. علمها ومعرفتها بالله تعالى: العلم من أفضل السجايا الإنسانية، وأشرف الصفات البشرية، به أكمل الله أنبياءه المرسلين، ورفع درجات عباده المخلصين، قال تعالى: * (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) *، وقرن أهل العلم بنفسه وبملائكته في آية أخرى، فقال جل شأنه: * (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط) *، وقال تعالى: * (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) *. أما زينب المتربية في مدينة العلم النبوي، المعتكفة
27 بعده ببابها العلوي، المتغذية بلبانه من أمها الصديقة الطاهرة سلام الله عليها، وقد طوت عمرا من الدهر مع الإمامين السبطين، فهي من عباب علم آل محمد (عليهم السلام) تعب، وفضائلهم التي اعترف بها عدوهم الألد يزيد الطاغية بقوله في الإمام السجاد (عليه السلام): إنه من أهل بيت زقوا العلم زقا. وقد نص لها بهذه الكلمة ابن أخيها علي بن الحسين (عليهما السلام): أنت بحمد الله عالمة غير معلمة وفهمة غير مفهمة، يريد: أن مادة علمها من سنخ ما منح به رجالات بيتها الرفيع أفيض عليها إلهاما. ولا شك أن العقيلة زينب الطاهرة قد أخلصت لله كل عمرها، فماذا تحسب أن يكون المنفجر من قلبها على لسانها من ينابيع الحكمة. وما أحلى كلمة قالها علي جلال في كتابه الحسين: من كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) معلمه، ومن كان أبوه علي بن
28 أبي طالب (عليه السلام)، وأمه فاطمة الزهراء، ناشئا في أصحاب جده وأصدقاء أبيه سادات الأمة وقدوة الأئمة، فلا شك أنه كان يغر العلم غرا كما قال ابن عمر. وقال أبو الفرج: زينب العقيلة هي التي روى ابن عباس عنها كلام فاطمة صلى الله عليها في فدك، فقال: حدثتني عقيلتنا زينب بنت علي (عليه السلام)، وتفسير العقيلة في النساء السيدة، كعقال في الرجال يقال للسيد. وروي مرسلا: أنها في طفولتها كانت جالسة في حجر أبيها - وهو (عليه السلام) يلاطفها بالكلام - فقال لها: يا بني قولي: واحد، فقالت: واحد، فقال لها: قولي اثنين، فسكتت، فقال لها: تكلمي يا قرة عيني، فقالت (عليها السلام): يا أبتاه ما أطيق أن أقول اثنين بلسان أجريته بالواحد، فضمها صلوات الله عليه إلى صدره وقبلها بين عينيها، انتهى. وإن زينب (عليها السلام) قالت لأبيها: أتحبنا يا أبتاه؟ فقال (عليه السلام): وكيف لا أحبكم وأنتم ثمرة فؤادي،
29 فقالت (عليها السلام): يا أبتاه إن الحب لله تعالى والشفقة لنا. وهذا الكلام عنها (عليها السلام) روي متواترا، وإذا تأمله المتأمل رأى فيه علما جما، فإذا عرف صدوره من طفلة كزينب (عليها السلام) يوم ذاك بانت له منزلتها في العلم والمعرفة. فصاحتها وبلاغتها وشجاعتها الأدبية: الفصاحة هي: الإبانة والظهور، يقال: كاتب فصيح وشاعر فصيح. والبلاغة هي: الوصول والانتهاء، يقال: كلام بليغ وإنسان بليغ. ويجمعهما حسن الكلام. قال أبو هلال العسكري: إنما يحسن الكلام بسلاسته، وسهولته، وتخير لفظه، وإصابة معناه، وجودة مطالعه، ولين مقاطعه، واستواء تقاسيمه، وتعادل أطرافه، وتشبه إعجازه بهواديه، وموافقة مآخره لمباديه، فتجد المنظوم
30 مثل المنثور، في سهولة مطلعه، وجودة مقطعه، وحسن رصفه وتأليفه، وكمال صوغه وتركيبه، ومتى جمع الكلام بين العذوبة والجزالة، والسهولة والرصانة، والرونق والطلاوة، وسلم من حيف التأليف. وهذا ينطبق كل الانطباق على كلام سيد الفصحاء، وإمام البلغاء، أمير المؤمنين (عليه السلام)، الذي قيل فيه: كلامه فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق، وشاهدي على ما أقول هو كتاب نهج البلاغة الذي جمعه الشريف الرضي (رضي الله عنه) من كلامه (عليه السلام). إذا عرفت هذه المقدمات فاعلم: أن هذه الفصاحة العلوية والبلاغة المرتضوية، قد ورثتها هذه المخدرة الكريمة، بشهادة العرب أهل البلاغة والفصاحة أنفسهم. فقد تواترت الروايات عن العلماء وأرباب الحديث بأسانيدهم عن حذلم بن كثير قال: قدمت الكوفة في المحرم سنة إحدى وستين عند منصرف علي بن
31 الحسين (عليهما السلام) من كربلاء، ومعهم الأجناد يحيطون بهم، وقد خرج الناس للنظر إليهم، فلما أقبل بهم على الجمال بغير وطاء، وجعلن نساء الكوفة يبكين وينشدن، فسمعت علي بن الحسين (عليهما السلام) يقول بصوت ضئيل - وقد نهكته العلة، وفي عنقه الجامعة، ويده مغلولة إلى عنقه -: إن هؤلاء النسوة يبكين، فمن قتلنا؟! قال: ورأيت زينب بنت علي (عليه السلام) ولم أر خفرة أنطق منها، كأنها تفرغ عن لسان أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: وقد أومأت إلى الناس أن اسكتوا، فارتدت الأنفاس وسكنت الأصوات. فقالت: الحمد لله، والصلاة على محمد وآله الطيبين الأخيار، أما بعد يا أهل الكوفة، يا أهل الختر والغدر، أتبكون؟! فلا رقأت الدمعة، ولا هدأت الرنة، إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا، تتخذون أيمانكم دخلا بينكم، ألا وهل فيكم إلا الصلف النطف،
32 والكذب الشنف، وملق الإماء، وغمز الأعداء؟! أو كمرعى على دمنة، أو كفضة على ملحودة، ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون، أتبكون وتنتحبون؟! إي والله فابكوا كثيرا واضحكوا قليلا، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبدا، وأنى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة، ومعدن الرسالة، وسيد شباب أهل الجنة، وملاذ خيرتكم، ومفزع نازلتكم، ومنار حجتكم، ومدره سنتكم، ألا ساء ما تزرون، وبعدا لكم وسحقا، فلقد خاب السعي، وتبت الأيدي، وخسرت الصفقة، وبؤتم بغضب من الله، وضربت عليكم الذلة والمسكنة، ويلكم يا أهل الكوفة، أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم، وأي كريمة له أبرزتم، وأي دم له سفكتم، وأي حرمة له انتهكتم؟! ولقد جئتم بها صلعاء عنفاء، سوداء فقماء، خرقاء شوهاء، كطلاع الأرض، أو ملاء السماء، أفعجبتم أن مطرت
33 السماء دما! ولعذاب الآخرة أخزى وأنتم لا تنصرون، فلا يستخفنكم المهل، فإنه لا يحفزه البدار، ولا يخاف فوت الثار، وإن ربكم لبالمرصاد. قال الراوي: فوالله لقد رأيت الناس يومئذ حيارى يبكون، وقد وضعوا أيديهم في أفواههم، ورأيت شيخا واقفا إلى جنبي يبكي حتى اخضلت لحيته بالدموع، وهو يقول: بأبي أنتم وأمي كهولكم خير الكهول، وشبابكم خير الشباب، ونساؤكم خير النساء، ونسلكم خير النسل، لا يخزى ولا يبزى. أقول: وهذا حذلم بن كثير من فصحاء العرب، أخذه العجب من فصاحة زينب وبلاغتها، وأخذته الدهشة من براعتها وشجاعتها الأدبية، حتى أنه لم يتمكن أن يشبهها إلا بأبيها سيد البلغاء والفصحاء، فقال: كأنها تفرغ عن لسان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. وهذه الخطبة رواها كل من كتب في وقعة الطف أو في
34 أحوال الحسين (عليه السلام). ومن بلاغتها وشجاعتها الأدبية: ما ظهر منها (عليها السلام) في مجلس ابن زياد. قال السيد ابن طاووس وغيره ممن كتب في مقتل الحسين (عليه السلام): إن ابن زياد جلس في القصر وأذن إذنا عاما، وجئ برأس الحسين (عليه السلام) فوضع بين يديه، وأدخلت عليه نساء الحسين وصبيانه، وجاءت زينب ابنة علي (عليه السلام) وجلست متنكرة، فسأل ابن زياد من هذه المتنكرة؟ فقيل له: هذه زينب ابنة علي، فأقبل عليها فقال: الحمد لله الذي فضحكم وأكذب أحدوثتكم. فقالت (عليها السلام): إنما يفتضح الفاجر ويكذب الفاسق، وهو غيرنا. فقال: كيف رأيت صنع الله بأخيك وأهل بيتك؟ فقالت: ما رأيت إلا خيرا، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم،
35 فتحاج وتخاصم، فانظر لمن الفلج يومئذ، ثكلتك أمك يا بن مرجانة. فغضب اللعين وهم أن يضربها، فقال له عمرو بن حريث: إنها امرأة، والمرأة لا تؤاخذ بشئ من منطقها. فقال لها ابن زياد لعنه الله، لقد شفى الله قلبي من طاغيتك الحسين والعصاة المردة من أهل بيتك. فقالت: لعمري لقد قتلت كهلي، وقطعت فرعي، واجتثثت أصلي، فإن كان هذا شفاؤك فلقد اشتفيت. فقال لعنه الله: هذه سجاعة، ولعمري لقد كان أبوها سجاعا شاعرا. فقالت: يا بن زياد، ما للمرأة والسجاعة، وإن لي عن السجاعة لشغلا. ومن ذلك: خطبتها في مجلس يزيد بن معاوية في الشام، رواها جماعة من العلماء في مصنفاتهم، وهي من أبلغ الخطب وأفصحها، عليها أنوار الخطب العلوية،
36 وأسرار الخطبة الفاطمية، ونحن ننقلها هنا من الاحتجاج للطبرسي. قال: روى شيخ صدوق من مشائخ بني هاشم وغيره من الناس: أنه لما دخل علي بن الحسين (عليهما السلام) وحرمه على يزيد وجئ برأس الحسين (عليه السلام) ووضع بين يديه في طشت، وجعل يضرب ثناياه بمخصرة كانت في يده وهو يقول: ليت أشياخي ببدر شهدوا * جزع الخزرج من وقع الأسل لأهلوا واستهلوا فرحا * ثم قالوا: يا يزيد لا تشل لعبت هاشم بالملك فلا * خبر جاء ولا وحي نزل فقامت زينب بنت علي بن أبي طالب، وأمها فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقالت: الحمد لله رب العالمين،
37 وصلى الله على رسوله وآله أجمعين، صدق الله سبحانه حيث يقول: * (ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوءى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤون) *، أظننت يا يزيد - حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا نساق كما تساق الإسراء - أن بنا هوانا على الله وبك عليه كرامة، وأن ذلك لعظم خطرك عنده، فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك، تضرب أصدريك فرحا، وتنفض مذوريك مرحا (1)، جذلان مسرورا حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأمور متسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا، فمهلا مهلا، أنسيت قول الله تعالى: * (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين) *، أمن العدل يا بن الطلقاء تخديرك حرائرك وإمائك وسوقك
(1) أصدريك: منكبيك. مذوريك: جانب الأليتين. 38 بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهن، وأبديت وجوههن، تحدو بهن الأعداء من بلد إلى بلد، ويستشرفهن أهل المناهل والمناقل، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد، والدني والشريف، ليس معهن من رجالهن ولي، ولا من حماتهن حمي، وكيف يرتجى مراقبة ابن من لفظ فوه أكباد الأذكياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء؟! وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشنف والشنآن، والإحن والأضغان؟! ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم. لأهلوا واستهلوا فرحا * ثم قالوا يا يزيد لا تشل منحنيا على ثنايا أبي عبد الله - سيد شباب أهل الجنة - تنكثها بمخصرتك، وكيف لا تقول ذلك وقد نكأت القرحة، واستأصلت الشأفة، بإراقتك دماء ذرية محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ونجوم الأرض من آل عبد المطلب، وتهتف
39 بأشياخك زعمت أنك تناديهم، فتلردن وشيكا موردهم، ولتودن أنك شللت وبكمت، ولم تكن قلت ما قلت، وفعلت ما فعلت، اللهم خذ لنا بحقنا، وانتقم ممن ظلمنا، واحلل غضبك بمن سفك دماءنا، وقتل حماتنا، فوالله يا يزيد ما فريت إلا جلدك، ولا حززت إلا لحمك، ولتردن على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بما تحملت من دماء ذريته، وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته، حيث يجمع الله تعالى شملهم، ويلم شعثهم، ويأخذ بحقهم * (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) * وحسبك بالله حاكما، وبمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) خصيما، وبجبرائيل ظهيرا، وسيعلم من سول لك وأمكنك من رقاب المسلمين، بئس للظالمين بدلا، وأيكم شر مكانا وأضعف جندا، ولئن جرت علي الدواهي مخاطبتك، إني لأستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك، وأستكثر توبيخك، لكن العيون عبرى، والصدور حري، ألا فالعجب كل
40 العجب لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء، فهذه الأيدي تنطف من دمائنا، والأفواه تتحلب من لحومنا، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل، وتعفرها أمهات الفراعل، ولئن اتخذتنا مغنما لتجدنا وشيكا مغرما حين لا تجد إلا ما قدمت يداك، وما ربك بظلام للعبيد، وإلى الله المشتكى، وعليه المعول، فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا تدرك أمدنا، ولا تدحض عنك عارها، وهل رأيك إلا فند، وأيامك إلا عدد، وجمعك إلا بدد، يوم ينادي المنادي: ألا لعنة الله على الظالمين، فالحمد لله رب العالمين، الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب، ويوجب لهم المزيد، ويحسن علينا الخلافة، إنه رحيم ودود، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
41 فقال يزيد: يا صيحة تحمد من صائح * ما أهون النوح على النوائح ومن شجاعتها الأدبية في مجلس يزيد: ما نقله أرباب المقاتل وغيرهم من رواة الأخبار: أن يزيد لعنه الله دعى بنساء أهل البيت والصبيان فأجلسوا بين يديه في مجلسه المشؤوم، فنظر شامي إلى فاطمة بنت الحسين، فقام إلى يزيد وقال: يا أمير هب لي هذه الجارية تكون خادمة عندي، قالت فاطمة بنت الحسين (عليه السلام): فارتعدت فرائصي، وظننت أن ذلك جائز لهم، فأخذت بثياب عمتي زينب، فقلت: عمتاه أوتمت وأستخدم، فقالت عمتي للشامي: كذبت والله ولؤمت، ما جعل الله ذلك لك ولا لأميرك، فغضب يزيد وقال: كذبت والله، إن ذلك لي، ولو شئت أن أفعل لفعلت، قالت: كلا والله ما جعل الله ذلك لك، إلا أن تخرج من ملتنا وتدين بغير ديننا،
42 فاستطار يزيد غضبا وقال: إياي تستقبلين بهذا الكلام، إنما خرج من الدين أبوك وأخوك، فقالت زينب: بدين أبي وأخي اهتديت أنت وأبوك وجدك إن كنت مسلما، قال: كذبت يا عدوة الله، قالت: يا يزيد أنت أمير تشتم ظالما، وتقهر بسلطانك، فكأنه استحيى وسكت، فأعاد الشامي كلامه: هب لي هذه الجارية، فقال له يزيد: اسكت وهب الله لك حتفا قاضيا. وروى السيد ابن طاووس في اللهوف هذه الرواية كما يأتي: قال نظر رجل من أهل الشام إلى فاطمة بنت الحسين (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين هب لي هذه الجارية، فقالت فاطمة لعمتها زينب (عليها السلام): أوتمت وأستخدم، فقالت زينب (عليها السلام): لا ولا كرامة لهذا الفاسق، فقال الشامي: من هذه الجارية؟ فقال يزيد: هذه فاطمة بنت الحسين (عليه السلام)، وتلك زينب بنت علي بن أبي طالب، فقال الشامي، الحسين بن فاطمة، وعلي بن أبي طالب؟
43 قال: نعم، فقال الشامي: لعنك الله يا يزيد، أتقتل عترة نبيك وتسبي ذريته، والله ما توهمت إلا أنهم سبي الروم، فقال يزيد: لألحقنك بهم، ثم أمر به فضربت عنقه. والذي يظهر أن هاتين القضيتين كلتيهما وقعتا في ذلك المجلس المشؤوم. أقول: إن بلاغة زينب (عليها السلام) وشجاعتها الأدبية ليس من الأمور الخفية، وقد اعترف بها كل من كتب في وقعة الطف بكربلاء، ونوه بجلالتها أكثر أرباب التاريخ. ولعمري إن من كان أبوها علي بن أبي طالب، الذي ملأت خطبه العالم، وتصدى لجمعها وتدوينها أكابر العلماء، وأمها فاطمة الزهراء، صاحبة خطبة فدك الكبرى، وصاحبة الخطبة الصغرى التي ألقتها على مسامع نساء قريش ونقلها النساء لرجالهن. نعم، إن من كانت كذلك فحرية بأن تكون بهذه الفصاحة والبلاغة، وأن تكون لها هذه الشجاعة الأدبية،
44 والجسارة العلوية. ويزيد الطاغية يوم ذاك هو السلطان الأعظم، والخليفة الظاهري على عامة بلاد الإسلام، تؤدي له الجزية الفرق المختلفة والأمم المتباينة، في مجلسه الذي أظهر فيه أبهة الملك، وملأه بهيبة السلطان، وقد جردت على رأسه السيوف، واصطفت حوله الجلاوزة، وهو وأتباعه على كراسي الذهب والفضة، وتحت أرجلهم الفرش من الديباج والحرير. وهي صلوات الله عليها في ذلة الأسر، دامية القلب باكية الطرف، حري الفؤاد من تلك الذكريات المؤلمة والكوارث القاتلة، قد أحاط بها أعداؤها من كل جهة، ودار عليها حسادها من كل صوب. ومع ذلك كله ترمز للحق بالحق، وللفضيلة بالفضيلة، فتقول ليزيد - غير مكترثة بهيبة ملكه، ولا معتنية بأبهة سلطانه -: أمن العدل يا بن الطلقاء، وتقول له أيضا:
45 ولئن جرت علي الدواهي مخاطبتك، إني لأستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك، وأستكثر توبيخك. وما أبدع ما قاله الشاعر المفلق الجليل السيد مهدي ابن السيد داود الحلي، عم الشاعر الشهير السيد حيدر الحلي (رحمهما الله)، في وصف فصاحتها وبلاغتها من قصيدة: قد أسروا من خصها بآية * التطهير رب العرش في كتابه إن البست في الأسر ثوب مذلة * تجملت للعز في أثوابه ما خطبت إلا رأوا لسانها * أمضى من الصمصام في خطابه وجلببت في أسرها آسرها * عارا رأى الصغار في جلبابه والفصحاء شاهدوا كلامها * مقال خير الرسل في صوابه
46 زهدها وعبادتها: الزهد في الشئ خلاف الرغبة فيه، وزهد الإنسان في الشئ أي: تركه، فهو زاهد. قال الصدوق (رحمهم الله) في معاني الأخبار: الزاهد من يحب ما يحب خالقه، ويبغض ما يبغضه خالقه، ويتحرج من حلال الدنيا، ولا يلتفت إلى حرامها. وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم): إزهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما بأيدي الناس يحبك الناس. وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا أراد الله بعبد خيرا زهده في الدنيا، أفقهه في الدين، وبصره عيوبها، ومن أوتيهن فقد أوتي خير الدنيا والآخرة. أما زينب (عليها السلام) فقد كانت في بيت زوجها عبد الله ابن جعفر الجواد، وهو من علمت في ثروته ويساره، وكثرة أمواله وخدمه وحشمه يوم ذاك، وكانت تخدمها
47 العبيد والإماء والأحرار، ويطوف حول بيتها الهلاك من ذوي الحوائج وطالبي الاستجداء، وكان بيتها الرفيع وحرمها المنيع لا يضاهيه في العز والشرف وبعد الصيت إلا بيوت الخلفاء والملوك. فتركت ذلك كله لوجه الله، وانقطعت عن علائق الدنيا بأسرها في سبيل الله، وأعرضت عن زهرة الحياة من المال والبيت والزوج والولد والخدم والحشم، وصحبت أخاها الحسين (عليه السلام) ناصرة لدين الله، وباذلة للنفس والنفيس لإمامها ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، مع علمها بجميع ما يجري عليها من المصائب والنوائب، كما سمعته في حديث أم أيمن، مؤثرة الآخرة على الدنيا، والآخرة خير وأبقى. ومن زهدها: ما روي عن السجاد (عليه السلام) من أنها صلوات الله عليها ما ادخرت شيئا من يومها لغدها أبدا.
48 عبادتها وانقطاعها إلى الله تعالى: العبادة من العبودية وهي: غاية الخضوع والتذلل، ولذلك كانت لله تعالى ولا تحسن لغيره، لأنه جل وعلا ولي كل نعمة، وغاية كل رغبة، وأكثر الناس عبادة هو أعرفهم بالله عز وجل، كالأنبياء والأئمة صلوات الله عليهم. وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلي الليل كله، ولقد قام (صلى الله عليه وآله وسلم) عشر سنين على أطراف أصابعه حتى تورمت قدماه واصفر وجهه، فأنزل الله عليه: * (طه * ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) *، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): أو لا أكون عبدا شكورا. وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) يصلي كل يوم وليلة ألف ركعة، ولم يترك النافلة حتى في الحروب، كما روي عنه ذلك في صلواته ليلة الهرير بصفين. وكذلك كانت الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء صلوات الله عليها تصلي عامة الليل، فإذا اتضح عمود الصبح
49 أخذت تدعو للمؤمنين والمؤمنات. وكان الأئمة من ولدها صلوات الله عليها يضرب بهم المثل في العبادة. أما زينب صلوات الله عليها فلقد كانت في عبادتها ثانية أمها الزهراء (عليها السلام)، وكانت تقضي عامة لياليها بالتهجد وتلاوة القرآن. قال بعض ذوي الفضل: إنها صلوات الله عليها ما تركت تهجدها لله تعالى طول دهرها، حتى ليلة الحادي عشر من المحرم. وروي عن زين العابدين (عليه السلام) أنه قال: رأيتها تلك الليلة تصلي من جلوس. وعن الفاضل القائيني البيرجندي: عن بعض المقاتل المعتبرة، عن مولانا السجاد (عليه السلام) أنه قال: إن عمتي زينب مع تلك المصائب والمحن النازلة بها في طريقنا إلى الشام ما تركت نوافلها الليلية.
50 وروى بعض المتتبعين عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) أنه قال: إن عمتي زينب كانت تؤدي صلواتها من قيام الفرائض والنوافل عند سير القوم بنا من الكوفة إلى الشام، وفي بعض المنازل كانت تصلي من جلوس، فسألتها عن سبب ذلك فقالت: أصلي من جلوس لشدة الجوع والضعف منذ ثلاث ليال، لأنها كانت تقسم ما يصيبها من الطعام على الأطفال، لأن القوم كانوا يدفعون لكل واحد منا رغيفا واحدا من الخبز في اليوم والليلة. أقول: فإذا تأمل المتأمل إلى ما كانت عليه هذه السيدة الطاهرة من العبادة لله تعالى والانقطاع إليه لم يشك في عصمتها صلوات الله عليها، وأنها كانت من القانتات اللواتي وقفن حركاتهم وسكناتهن وأنفاسهن للباري تعالى، وبذلك حصلن على المنازل الرفيعة والدرجات العالية، التي حكت برفعتها منازل المرسلين ودرجات الأوصياء عليهم الصلاة والسلام.
51 بعض الأخبار المروية عنها (عليها السلام): أشهر ما روي عنها من الأخبار خطبة والدتها الزهراء (عليها السلام) التي احتجت بها في خصوص فدك. قال ابن أبي الحديد في شرح النهج - عند شرح قوله (عليه السلام): بلى كانت في أيدينا فدك... -. ومن ذلك ما روي في كامل الزيارة للشيخ الفقيه أبي القاسم جعفر بن محمد ابن قولويه طاب ثراه، قال: حدثني نوح بن دراج، قال: حدثني قدامة بن زايدة، عن أبيه، قال: قال علي بن الحسين (عليهما السلام): بلغني يا زايدة أنك تزور قبر أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) أحيانا، فقلت: إن ذلك لكما بلغك، فقال لي: ولماذا تفعل ذلك، ولك مكان عند سلطانك الذي لا يحتمل أحدا على محبتنا وتفضيلنا، وذكر فضائلنا والواجب على هذه الأمة من حقنا؟ فقلت: والله ما أريد بذلك إلا الله ورسوله، ولا أحفل بسخط من سخط، ولا يكبر في صدري مكروه
52 ينالني بسببه، فقال: والله إن ذلك لكذلك؟ فقلت: والله إن ذلك لكذلك، يقولها ثلاثا وأقولها ثلاثا، فقال: أبشر ثم أبشر ثم أبشر، فلأخبرنك بخبر كان عندي في النخب المخزون: فإنه لما أصابنا في الطف ما أصابنا، وقتل أبي (عليه السلام)، وقتل من كان معه من ولده وإخوته وسائر أهله، وحملت حرمه ونساؤه على الأقتاب، يراد بنا الكوفة، فجعلت أنظر إليهم صرعى ولم يواروا، فعظم ذلك في صدري، واشتد لما أرى منهم قلقي، فكادت نفسي تخرج، وتبينت ذلك مني عمتي زينب الكبرى بنت علي (عليه السلام)، فقالت: ما لي أراك تجود بنفسك يا بقية جدي وأبي وإخوتي؟ فقلت: وكيف لا أجزع وأهلع وقد أرى سيدي وإخوتي وعمومتي وولد عمي مصرعين ومضرجين بدمائهم، مرملين بالعراء، مسلبين، لا يكفنون ولا يوارون، ولا يعرج عليهم أحد، ولا يقربهم بشر، كأنهم أهل بيت
53 من الديلم والخزر، فقالت: لا يجزعنك ما ترى، فوالله إن ذلك لعهد من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى جدك وأبيك وعمك، ولقد أخذ الله ميثاق أناس من هذه الأمة لا تعرفهم فراعنة هذه الأمة وهم معروفون في أهل السماوات، إنهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرقة فيوارونها، وهذه الجسوم المضرجة، وينصبون لهذا الطف علما لقبر أبيك سيد الشهداء لا يدرس أثره، ولا يعفو رسمه، على كرور الليالي والأيام، وليجهدن أئمة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه، فلا يزداد أثره إلا ظهورا وأمره إلا علوا، فقلت: وما هذا العهد، وما هذا الخبر؟ فقالت: نعم حدثتني أم أيمن: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) زار منزل فاطمة (عليها السلام) في يوم من الأيام، فعملت له حريرة، وأتاه علي (عليه السلام) بطبق فيه تمر، ثم قالت أم أيمن: فأتيتهم بعس فيه لبن وزيد، فأكل رسول الله وعلي وفاطمة والحسن والحسين من تلك الحريرة، وشرب رسول الله
54 وشربوا من ذلك اللبن، ثم أكلوا وأكل من ذلك التمر والزبد، ثم غسل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يده وعلي (عليه السلام) يصب عليها الماء، فلما فرغ من غسل يده مسح وجهه، ثم نظر إلى علي (عليه السلام) وفاطمة والحسن والحسين نظرا عرفنا به السرور في وجهه. إلى أن قال: قال لي جبرائيل: يا محمد إن أخاك مضطهد بعدك، مغلوب على أمتك، متعوب من أعدائك، ثم مقتول بعدك، يقتله أشر الخلق والخليقة وأشقى البرية، يكون نظير عاقر الناقة، ببلد تكون إليه هجرته، وهو مغرس شيعته وشيعة ولده، وفيه على كل حال تكثر بلواهم ويعظم مصابهم، وإن سبطك هذا - وأومى بيده إلى الحسين (عليه السلام) - مقتول في عصابة من ذريتك وأهل بيتك وأخيار من أمتك، بضفة الفرات، بأرض يقال لها كربلاء، من أجلها يكثر الكرب والبلاء على أعدائك وأعداء ذريتك في اليوم الذي
55 لا ينقضي كربه ولا تفنى حسرته، وهي أطيب بقاع الأرض وأعظمها حرمة، يقتل فيها سبطك وأهله، وأنها من بطحاء الجنة، فإذا كان اليوم الذي يقتل فيه سبطك وأهله وأحاطت به كتائب أهل الكفر واللعنة تزعزعت الأرض من أقطارها، ومادت الجبال وكثر اضطرابها، واصطفقت البحار بأمواجها، وماجت السماوات بأهلها، غضبا لك يا محمد ولذريتك، واستعظاما لما ينتهك من حرمتك، ولشر ما تكافى به في ذريتك وعترتك، ولا يبقى شئ من ذلك إلا استأذن الله عز وجل في نصرة أهلك المستضعفين المظلومين الذين هم حجة الله على خلقه بعدك، فيوحي الله إلى السماوات والأرض والجبال والبحار ومن فيهم: إني أنا الله الملك القادر الذي لا يفوته هارب ولا يعجزه ممتنع، وأنا أقدر فيه على الانتصار والانتقام، وعزتي وجلالي لأعذبن من وتر رسولي وصفيي وانتهك حرمته وقتل عترته ونبذ عهده وظلم
56 أهل بيته، عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين، فعند ذلك يضج كل شئ في السماوات والأرضين بلعن من ظلم عترتك واستحل حرمتك. فإذا برزت تلك العصابة إلى مضاجعها تولى الله قبض أرواحهم بيده. ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فهذا أبكاني وأحزنني. قالت زينب (عليها السلام): فلما ضرب ابن ملجم لعنه الله أبي (عليه السلام) ورأيت عليه أثر الموت منه قلت له: يا أبه، حدثتني أم أيمن بكذا وكذا، وقد أحببت أن أسمعه منك، فقال: يا بنية الحديث كما حدثتك أم أيمن، وكأ ني بك وبنساء أهلك سبايا بهذا البلد أذلاء خاشعين، تخافون أن يتخطفكم الناس، فصبرا صبرا، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما لله على ظهر الأرض يومئذ ولي غيركم وغير محبيكم وشيعتكم. قال زائدة: ثم قال الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) بعد
57 أن حدثني بهذا الحديث: خذه إليك ما لو ضربت في طلبه آباط الإبل حولا لكان قليلا. صبرها وتحملها المشاق وتسليمها لأمر الله: الصبر الممدوح: حبس النفس على تحمل المشاق تسليما لأمر الله تعالى، كحبسها عن الجزع والهلع عند المصاب وفقد الأحبة، وحبسها عن الشهوات نزولا على حكم الشريعة، وحبسها على مشقة الطاعة تزلفا إلى المبدأ الأعلى. وقد مدح الله تعالى الصابرين في كتابه الكريم، فقال عز وجل: * (وبشر المخبتين * الذين إذا ذ كر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) *، وقال تعالى: * (والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرأون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى
58 الدار) *، وقال تعالى: * (والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون) *، والآيات كثيرة في الصبر، والأحاديث أكثر. ولما كان الصبر بهذه المثابة عند الله كان الأقربون إلى الله أكثر صبرا من غيرهم، كالأنبياء وأوصيائهم، ثم الأمثل فالأمثل. وهذه العقيلة الطاهرة قد رأت من المصائب والنوائب ما لو نزلت على الجبال الراسيات لساخت واندكت جوانبها، لكنها في كل ذلك كانت تصبر الصبر الجميل كما هو معلوم لكل من درس حياتها. وأول مصيبة دهمتها هو فقدها جدها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وما لاقى أهلها بعده من المكاره. ثم فقدها أمها الكريمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، بعد مرض شديد، وكدر من العيش، والاعتكاف في بيت الأحزان.
59 ثم رأت شهادة أبيها أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بفلق رأسه من ضربة ابن ملجم لعنه الله. ثم فقدها أخيها المجتبى مسموما، تنظر إليه وهو يتقيأ كبده في الطست قطعة قطعة، وبعد موته ترشق جنازته بالسهام. ثم رؤيتها أخيها الحسين (عليه السلام) تتقاذف به البلاد، حتى نزل كربلاء، وهناك دهمتها الكوارث العظام من قتله (عليه السلام)، وقتل بقية إخوتها وأولادهم وأولاد عمومتها وخواص الأمة من شيعة أبيها عطاشى. ثم المحن التي لاقتها من هجوم أعداء الله على رحلها، وما فعلوه من سلب وسبي ونهب وإهانة وضرب لكرائم النبوة وودائع الرسالة، وتكفلها حال النساء والأطفال في ذلة الأسر، ثم سيرها معهم من بلد إلى بلد، ومن منزل إلى منزل، ومن مجلس إلى مجلس، وغير ذلك من الرزايا التي يعجز عنها البيان ويكل اللسان.
60 وهي مع ذلك كله صابرة محتسبة، ومفوضة أمرها إلى الله تعالى، قائمة بوظائف شاقة، من مداراة العيال، ومراقبة الصغار واليتامى من أولاد إخوتها وأهل بيتها، رابطة الجأش بإيمانها الثابت وعقيدتها الراسخة، حتى كانت تسلي إمام زمانها زين العابدين (عليه السلام)، حتى أنها لما وقفت على جسد أخيها الحسين (عليه السلام) مقطعا أمام جيش الأعداء رفعت يديها إلى السماء وقالت: اللهم تقبل منا هذا القربان، بكل صبر حتى لا يشمت بها الأعداء. أقول: يكفي في علو مقام هذه الدرة المكنونة والجوهرة المصونة في الصبر وعظيم درجتها في التسليم لأمر الله والرضى بقضائه ما نقله في الطراز المذهب: أنها - سلام الله عليها وعلى جدها وأبيها وأمها وإخوانها - لما وقفت على جسد أخيها الحسين (عليه السلام) قالت: اللهم تقبل منا هذا القليل من القربان.
61 قال: فقاربت أمها في الكرامات، والصبر في النائبات، بحيث خرقت العادات، ولحقت بالمعجزات. قلت: وهذه الكلمات من هذه الحرة الطاهرة، في تلك الوقفة التي رأت بها أخاها العزيز بتلك الحالة المفجعة التي كان فيها، تكشف لنا قوة إيمانها، ورسوخ عقيدتها، وفنائها في جنب الله تعالى، وغير ذلك مما لا يخفى على المتأمل. قال أبو إسحاق الأسفرائيني في كتاب نور العين في مشهد الحسين (عليه السلام): روي عن العقيلة زينب أخت الحسين (عليه السلام) عند هجوم القوم على الخيام أنها قالت: دخل علينا رجال وفيهم رجل أزرق العيون، فأخذ كل ما كان في خيمتنا التي كنا مجتمعين فيها، إلى أن قالت: فقلت له: قطع الله يديك ورجليك، وأذاقك الله النار في الدنيا قبل الآخرة، قال: فما كان إلا قليل حتى ظهر المختار الثقفي طالبا بثأر الحسين (عليه السلام)، فوقع في يده
62 ذلك الرجل - وهو حولي بن يزيد الأصبحي - فقال المختار: ما فعلت بعد قتل الحسين (عليه السلام)؟ فذكر أفعاله التي فعلها ودعوة العقيلة عليه، فاستجاب الله دعاءها، فقطع المختار يديه ورجليه وأحرقه بالنار. البحث عن مرقدها وفضل زيارتها: استنادا على ما ذكره الشيخ محمد حسنين السابقي في كتابه مرقد العقيلة زينب (عليها السلام) ملخصا مع بعض التغيير في العبارات دون المساس بالمعنى. فضل زيارتها: عن النبي (صلى الله عليه وآله) قوله لعلي (عليه السلام) يا أبا الحسن إن الله تعالى جعل قبرك وقبور ولدك بقاعا من بقاع الجنة وعرصة من عرصاتها، وإن الله جعل قلوب النجباء من خلقه وصفوة عباده تحن إليكم وتحتمل الأذى والمذلة فيعمرون قبوركم ويكثرون في زيارتها تقربا إلى الله
63 ومودة منهم لرسول الله، أولئك يا علي المخصوصون بشفاعتي الواردون حوضي وهم زواري غدا في الجنة، يا علي، من عمر قبوركم وتعاهدها فإنما أعان سليمان ابن داود علي بناء بيت المقدس، ومن زار قبوركم عدل ذلك ثواب سبعين حجة بعد حجة الإسلام (1). السياحون وقبر السيدة زينب (عليها السلام) في مصر: إن الرحالين المسلمين الذين جابوا أنحاء واسعة في مختلف البلدان الإسلامية في القرون الوسطى ضبطوا ما شاهدوه من الآثار الإسلامية من جوامع ومقابر ومدارس وغيرها من التراث الذي لا يفوت ذكره أي رحالة متتبع، ودونوا مشاهداتهم في الكتب المخصصة التي تعطينا وثوقا كاملا لشهرة تلك الآثار في عصورهم. ودخل المشاهير منهم مصر كابن جبير، وابن بطوطة،
(1) فرحة الغري: 77، تأليف النقيب غياث الدين عبد الكريم ابن طاووس المتوفى سنة 693 ه. 64 وابن شاهين، وذكروا ما شاهدوه من القبور المعروفة المقصودة للزيارات في عهدهم، غير أننا لم نجد أحدا منهم يذكر للسيدة زينب الكبرى (عليها السلام) قبرا في مصر، منهم: 1 - السائح الهروي، أبو الحسن علي بن أبي بكر الهروي المتوفى سنة 611 ه. 2 - ابن جبير الأندلسي، أبو الحسين محمد بن أحمد ابن جبير الكناني الغرناطي المتوفى سنة 614 ه بمصر. 3 - ابن بطوطة، أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن بطوطة المغربي المتوفى سنة 777 ه، دخل مصر وذكر جملة من مشاهد مصر المعروفة كمشهد السيدة نفيسة، ومشهد رأس الحسين (عليه السلام)، وتربة الشافعي ولم يذكر في مشاهداته قبرا للسيدة زينب (عليه السلام) لا عينا ولا أثرا. 4 - ياقوت الحموي البغدادي المتوفى 624 ه، الجغرافي المعروف، دخل مصر وذكر عدة مزارات
65 معروفة للعلويات ولم يذكر للعقيلة زينب مشهدا لها. هذا ملخص ما ذكره الشيخ محمد حسنين السابقي في كتابه (مرقد العقيلة زينب (عليها السلام)) نقلناه مع بعض التصرف في العبارة دون المساس بالمعنى، ويقول: ضع يدك على أي كتاب رحالة دخل مصر في القرون الأولى والوسطى لا تجد فيه ذكرا لمشهد العقيلة زينب بنت الإمام علي (عليه السلام). هذا ولو كان لها مرقدا معروفا لذكره أهل مصر وافتخروا به، ومن أجلى البراهين على عدم وجود مرقد لها هو عدم ذكر الحكام الفاطميين في عداد المزارات التي كانت معروفة لديهم بمصر، وقد طال أمد حكمهم وهم المعروفون بالولاء والانتماء إلى السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وبنوها. ويروى أن مرقد العقيلة زينب الحالي المقصود هو غير العقيلة زينب الكبرى بنت الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، والله العالم.
66 نعم، هناك روايات بعض المؤرخين أمثال العبيدلي ومسلمة بن مخلد الأنصاري والي مصر من قبل معاوية ويزيد، وغيرهم. وذكر النسابة العبيدلي في أخبار الزينبيات أن العقيلة زينب الكبرى بعد رجوعها من أسر بني أمية إلى المدينة، أخذت تؤلب الناس على زيد، فخاف عمرو بن سعيد الأشدق والي المدينة انتقاض الأمر، فكتب إلى يزيد بالحال، فأتاه جواب يزيد يأمره بأن يفرق بينها وبين الناس، فأمر الوالي بإخراجها من المدينة إلى حيث شاءت، فأبت الخروج، ثم اجتمع عليها نساء بني هاشم وتلطفن معها في الكلام، فاختارت مصر، وخرج معها من نساء بني هاشم فاطمة بنت الحسين (عليه السلام) وسكينة، فدخلت مصر لأيام بقيت من ذي الحجة سنة 61 فاستقبلها الوالي مسلمة بن مخلد الأنصاري في جماعة معه فأنزلها داره بالحمراء، فأقامت به أحد عشر شهرا
67 وخمسة عشر يوما، وتوفيت عشية الأحد لخمسة عشر يوما من شهر رجب سنة اثنتين وستين هجرية (1). وفي رواية أخرى: قال الشريف أبو عبد الله القرشي: قال سمعت هند بنت أبي رافع... الفهري تقول توفيت زينب بنت علي (عليه السلام) عشية يوم الأحد لخمس عشر يوما مضت من رجب سنة 62 ه وشهدت جنازتها ودفنت بمخدعها بدار مسلمة بالحمراء القصوى. فقد فندها المؤلف محمد حسنين السابقي بكتابه مرقد العقيلة زينب (عليها السلام)، والله العالم. وفي الروايات: تقول إنها توفيت ودفنت في المدينة المنورة، ولو صح هذا لبقي لعقيلة الطالبيين أثر خالد ومشهد يزار كما بقي أثر لمن دونها في المرتبة من بني هاشم، وحتى لمن يمت إليهم بالولاء والصلة من رجالات الأمة، لأن قبور البقيع ذكرها المؤرخون قديما
(1) أخبار الزينبيات: 20 - 22. 68 وحديثا، ولم يذكر قبر لها فيه. كما نقله صاحب الطراز، عن أنوار الشهادة وبحر المصائب بأن العقيلة ماتت ودفنت حوالي الشام أو في إحدى قرى الشام، والله العالم. مشهد العقيلة زينب بغوطة دمشق الشام: هناك أقوال أو تساؤلات من دفنت بأرض الشام؟ لا خلاف في أن المدفونة بقرية راوية هي أم كلثوم من أهل البيت (عليهم السلام)، وصرح أكثر علماء السنة والشيعة بذلك أنها السيدة زينب المكناة بأم كلثوم بنت أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وعلى قبرها حجر قديم بخط كوفي شاهده العلامة السيد محسن الأمين العاملي المتوفى سنة 1371 ه كما ذكره في موسوعته أعيان الشيعة (33: 189)، وشاهد الصخرة العلامة السيد محمد صادق بحر العلوم النجفي سنة 1353 ه أراه إياه سادن الحرم الزينبي حينذاك السيد عباس مرتضى، وقال رأيت فيه هذه العبارة: " هذا قبر السيدة زينب المكناة بأم كلثوم بنت
69 علي بن أبي طالب " كما حدثنا به. فلتعدد المسميات بزينب والمكنيات بأم كلثوم من بنات أمير المؤمنين (عليه السلام) وتشعب الآراء في هذا الباب، يمكن تقسيم القائلين بها أربعة طوائف، أعرضنا عن التفصيل روما للاختصار ومن يريد التفصيل فليراجع المصدر. وإذا نظرنا في الأقوال الأربعة بدقة فلا يصعب علينا أن نجمع بين الآراء بأن المدفونة بقرية راوية، هي زينب المكناة بأم كلثوم بنت الإمام علي (عليه السلام) وإنما الاختلاف في تعين المسماة بهذا الاسم والمكناة بهذه الكنية والذين ينكرون أن تكون البقعة للعقيلة زينب الكبرى بنت الإمام علي (عليه السلام) فإنكارهم يبنى على إنكارهم كون العقيلة الحوراء مكناة بأم كلثوم، فإذا ثبت ذلك زال الشك. ولقد ثبت لدى جماعة من المحققين أن العقيلة زينب الكبرى تكنى بأم كلثوم، لأن الأخبار تنبئنا أن النبي (صلى الله عليه وآله) هو الذي سمى العقيلة زينب بهذا الاسم، وجاء في الأثر
70 أن جبرائيل (عليه السلام) لما نزل بعد ولادة العقيلة (عليها السلام) على النبي (صلى الله عليه وآله) يقرئه السلام من الله جل وعز وقال له سم هذه المولودة زينب (1). وفي أثر آخر قال (صلى الله عليه وآله): أوصي الشاهد والغائب من أمتي، وأخبروهم أن يكرموا هذه الصبية لأنها تشبه خالتها أم كلثوم (2). فالاحتمال القوي أن النبي (صلى الله عليه وآله) هو الذي كناها بأم كلثوم بل ثبت بحديث رواه ابن جبير، وابن بطوطة، فلذلك ورد في زيارة العقيلة (عليها السلام) السلام عليك يا زينب التقية، السلام عليك يا أم كلثوم النقية (3). هذه لمحة سريعة اقتطفناها من كتاب مرقد العقيلة زينب للشيخ محمد حسنين السابقي حيث ذكر ذلك
(1) زينب الكبرى للشيخ جعفر تقوي: 17، الطبعة الرابعة. (2) الطراز المذهب: 36، الخصائص الزينبية: 20. (3) الطراز المذهب: 7. 71 مفصلا والعهدة عليه ومن يريد التفصيل فليراجع المصدر، والله ولي التوفيق. المشهد الزينبي في مصر: ذكر العلامة الشيخ جعفر النقدي في كتابه (زينب الكبرى: 145) ما مضمونه موجزا، ابتداء من دخول الرحالة أبو عبد الله محمد الكوهيني الفاسي الأندلسي القاهرة في 14 محرم سنة 369 ه بالحرم الزينبي بالقاهرة، شاهد بأعلى الضريح قبة عالية بنائها من الجص، وشاهد في صدر (الحجرة) الحرم ثلاث محاريب أطولها الذي في الوسط وعلى كل ذلك نقوش في غاية الإتقان، ويعلو باب الحجرة (زليجة) مكتوب فيها بعد البسملة " إن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحدا " هذا ما أمر به... عبد الله ووليه أبو تميم... أمر بعمارة هذا المشهد على مقام السيدة الطاهرة بنت الزهراء البتول زينب بنت الإمام علي بن أبي طالب صلوات الله عليها وعلى آبائها الطاهرين وأبنائها المكرمين.
72 وفي القرن السادس الهجري أيام ملك سيف الدين بن أيوب أجرى في هذا المشهد عمارة أمير مصر. وفي القرن العاشر الهجري، وسع الحرم وشيد له مسجدا يتصل به من قبل سليمان بن سليم الفاتح وذلك في سنة 956 ه وكذلك جرت على الحرم توسعات وتعديلات في سنة 1174 وسنة 1210، وسنة 1216، وفي سنة 1294 وهكذا توالت التجديدات والتوسعات على الحرم الزينبي المطهر في القاهرة بمصر إلى يومنا هذا. أقول: على كل الأحوال إن تعدد المراقد، باختلاف الروايات لا يضر من ناحية المبدأ، وربما يكون من الخير، لتعظيم الشعائر، وزيادة الأماكن المقدسة وكثرة زوار مراقد أهل البيت (عليهم السلام)، ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب. والله الهادي لما فيه الخير والصلاح.
73 السيدة أم كلثوم في سطور جدها: رسول الله (صلى الله عليه وآله). جدتها لأمها: خديجة الكبرى. جدها لأبيها: أبو طالب شيخ البطحاء. جدتها لأبيها: فاطمة بنت أسد الهاشمية. أبوها: الإمام علي أمير المؤمنين. أمها: السيدة فاطمة الزهراء. أخواها وأشقاؤها: الإمامان الحسن والحسين. أختها وشقيقتها: العقيلة زينب (1). ولادتها: السنة السادسة للهجرة بالمدينة.
(1) هؤلاء أشقاؤها، ولها إخوة وأخوات لأبيها. 74 زوجها: عون بن جعفر بن أبي طالب. شهدت مأساة كربلاء وفاجعة الطف، ورافقتها من البداية إلى النهاية. وفاتها: بالمدينة بعد رجوعها من الشام بأربعة أشهر أوائل شهر رجب من نفس السنة 61 ه. أم كلثوم: هي التالية للعقيلة زينب سنا وفضلا كما أنها شريكتها في تحمل العب ء الذي نهضت به أختها بعد شهادة أخيها الإمام الحسين (عليه السلام) وآله وأصحابه. وتحملت الكمد والأسى، وتوفيت بعد رجوعها المدينة بمدة يسيرة حزنا ولوعة. إن اسم السيدة أم كلثوم يصاحب دائما في الحديث عن كربلاء وما تلاها من الفجائع والمصائب، في المقاتل عند أهل السير والتاريخ. روى السيد ابن طاووس، عند وداع الإمام
75 الحسين (عليه السلام) للعائلة جعلت أم كلثوم تنادي: وا محمداه، وا علياه، وا إماماه، وا أخاه، وا حسيناه، وا ضيعتنا بعدك يا أبا عبد الله، فعزاها الإمام وقال لها: يا أختاه تعزي بعزاء الله، فإن سكان السماوات يفنون، وسكان الأرض يموتون، وجميع البرية يهلكون، فأخذ يوصي إخوانه وبناته وزوجاته، فيقول: انظرن إذا قتلت فلا تشمتن بنا الأعداء، ولا تشققن علي جيبا، ولا تخمشن علي وجها، ولا تقلن هجرا (1). ولما عزم الإمام السجاد على الجهاد، وخرج من الخيام وخرجت أم كلثوم خلفه تنادي ارجع، وهو يقول: يا عمتاه ذريني أقاتل بين يدي ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله). قال الإمام الحسين (عليه السلام): يا أم كلثوم أرجعيه لئلا تخلو الأرض من نسل آل محمد (صلى الله عليه وآله).
(1) اللهوف: 34. 76 وكلما ذكرنا من الفجائع والمصائب التي مرت على العقيلة زينب كلها مرت على السيدة أم كلثوم، واقعة بواقعة وساعة بساعة، وما أرى داعيا لتكرارها، أضف إلى ذلك أن جميع الفضائل والمناقب التي اختصت بها العقيلة وتميزت بها فإنها تشمل السيدة أم كلثوم أيضا. وسوف نذكر خطبتها في الكوفة بعد خطبة أختها العقيلة، قال السيد ابن طاووس: خطبت السيدة أم كلثوم من وراء القناع رافعة صوتها بالبكاء، فقالت: يا أهل الكوفة، سوأة لكم، ما لكم خذلتم حسينا وقتلتموه، وانتهبتم أمواله وورثتموه، وسبيتم نساءه ونكبتموه، فتبا لكم وسحقا. ويلكم أتدرون بأي دواه دهيتم، وأي وزر على ظهوركم حملتم، وأي دماء سفكتموها، وأي كريمة أصبتموها، وأي صبية سلبتموها؟! قتلتم خير رجالات
77 بعد النبي (صلى الله عليه وآله) نزعت الرحمة من قلوبكم، ألا إن حزب الله هم الفائزون، وحزب الشيطان هم الخاسرون. ثم قالت: قتلتم أخي ظلما فويل لأمكم * ستجزون نارا حرها يتوقد إلى آخر الأبيات. قال الراوي: فضج الناس بالبكاء والنوح، ونشر النساء شعورهن، ووضعن التراب على رؤوسهن، وخمشن وجوههن، وبكى الرجال، وقالوا: حسبك يا بنت الطاهرين. وأنشدت أم كلثوم لما وصلت مدينة جدها: مدينة جدنا لا تقبلينا * فبالحسرات والأحزان جينا ألا فأخبر رسول الله عنا * بأنا قد فجعنا في أخينا
78 وأن رجالنا في الطف صرعى * بلا رؤوس وقد ذبحوا البنينا إلى آخر ما قالت (عليها السلام). أما رواية زواجها من عمر بن الخطاب، فهو بهت وكذب محض من نسيج خيال رواة السوء من أرباب الأقلام المسمومة ومن الوضاعين الكذابين المرتزقة السائرين في ركاب حكام بني أمية، والثابت عند أهل البيت أن زواجها الأول والأخير هو عون بن جعفر الطيار ابن أبي طالب. المصادر 1 - أعيان الشيعة 3: 484. 2 - أعلام الزركلي 3: 66. 3 - أعلام النساء المؤمنات: 181، 380، 400. 4 - سلسلة أعلام النساء - دخيل: 5 و 6.
79 5 - النبهاني في شرف المؤيد: 51 و 53. 6 - فرحة الغري لابن طاووس: 77. 7 - زينب الكبرى للشيخ جعفر نقوي: 17. 8 - الطراز المذهب: 7، 36. 9 - الخصائص الزينبية: 20. 10 - اللهوف: 34.
80 الفصل الثاني فاطمة بنت أسد فاطمة بنت أسد في سطور: أبوها: أسد بن هاشم بن عبد مناف بن قصي. أمها: فاطمة بنت هرم بن رواحة بن حجر بن عبد بن معيص بن عامر بن لؤي. زوجها: عبد مناف بن عبد المطلب - أبو طالب - بن هاشم بن عبد مناف بن قصي. أولادها: طالب، عقيل، جعفر، علي أمير المؤمنين. بناتها: جمانة، أم هاني واسمها (فاختة). وفقت لخدمة النبي (صلى الله عليه وآله) لما تكفله زوجها أبو طالب، فكانت نعم الكفيلة والمربية تقدمه على أولادها، في الخدمة والرعاية.
81 أول من أسلم وآمن من النساء بعد خديجة. كانت أول من هاجر من النساء إلى يثرب. وفاتها السنة الرابعة من الهجرة، مدفنها في البقيع، كفنها النبي (صلى الله عليه وآله) بقميصه، واضطجع في قبرها، وكبر في الصلاة عليها سبعين تكبيرة. ذكر ابن الأثير في أسد الغابة (1): فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف، بن قصي، القرشية الهاشمية، أمها فاطمة بن هرم بن رواحة، تزوجها أبو طالب بن عبد المطلب بن هاشم، فولدت الإمام علي بن أبي طالب، وإخوته طالب وعقيل وجعفر. قال الشعبي: أم علي فاطمة بنت أسد، أسلمت وهاجرت إلى المدينة وتوفيت بها (2).
(1) أسد الغابة 7: 217. (2) الإستيعاب 4، الحديث 1891. 82 قال الزهري: هي أول هاشمية ولدت هاشمي، وهي أيضا أول هاشمية ولدت خليفة، ثم بعدها فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولدت [الإمامين] الحسن والحسين (عليهما السلام). أخبرنا أبو الفرج بن أبي الرجاء إجازة بإسناده عن... أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كفن فاطمة بنت أسد في قيمصه، واضطجع في قبرها، وجزاها خيرا، وكانت وفاتها في المدينة السنة الرابعة أو الخامسة من الهجرة. وروى ابن عباس نحو هذا، وزاد، فقالوا: ما رأيناك صنعت بأحد ما صنعت بها؟! قال (صلى الله عليه وآله): إنه لم يكن بعد أبي طالب أبر بي منها، إنما ألبستها قميصي لتكسى من حلل الجنة، واضطجعت في قبرها ليهون عليها عذاب القبر. هذا ملخص ما ذكره ابن الأثير في أسد الغابة 7: 217.
83 وذكر ابن حجر العسقلاني في الإصابة (4: 380) نحو ذلك وذكر السيد محسن الأمين في أعيانه (8: 388) ملخصا. فاطمة بنت أسد بن هاشم أم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) سبقت إلى الإسلام [بعد خديجة] وهاجرت إلى المدينة في أول الهجرة [مع ولدها علي (عليه السلام) والفواطم]. روى الحاكم في المستدرك بسنده عن مصعب بن عبد الله الزبيري قال: كانت فاطمة بنت أسد بن هاشم أول هاشمية ولدت من هاشمي، وكانت بمحل عظيم من الأعيان في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتوفيت في حياته (صلى الله عليه وآله)، وكان اسم ولدها علي أسد ولذلك يقول: " أنا الذي سمتني أمي حيدرة " ولما ولد سمته حيدرة باسم أبيها لأن حيدرة من أسماء الأسد. [ثم هتف بها هاتف لما حملته وخرجت به من الكعبة أن اسمه عليا اشتققت له اسما من
84 أسمائي] كما سيأتي. عن الزبير بن سعيد القرشي، قال: كنا جلوس عند سعيد بن المسيب، فمر بنا علي بن الحسين ولم أر هاشميا قط كان أعبد لله منه فقام إليه سعيد بن المسيب وقمنا معه فسلمنا عليه فرد علينا السلام فقال له سعيد: يا أبا محمد، أخبرنا عن فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، قال: نعم، حدثني أبي، قال: سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يقول: لما ماتت بنت أسد بن هاشم، كفنها رسول الله (صلى الله عليه وآله) في قميصه وصلى عليها وكبر عليها سبعين تكبيرة، ونزل في قبرها فجعل يومي في نواحي القبر كأنه يوسعه ويسوي عليها وجثا في القبر، وخرج من قبرها وعيناه تذرفان قال له أحد الأصحاب رأيتك فعلت على هذه المرأة شيئا لم تفعله على أحد، فقال: إن هذه المرأة كانت بمنزلة أمي التي ولدتني، إن أبا طالب كان يصنع الصنيع وتكون له المأدبة
85 وكان يجمعنا على طعامه فكانت هذه المرأة تفضل منه كله نصيبنا فأعود فيه (1). خلفت فاطمة بن أسد من أبي طالب أربعة من الذكور، وهم: طالب، وعقيل، وجعفر، وعلي أصغرهم، ومن الإناث أم هانئ واسمها فاختة، وجمانة، كلهم أشقاء من أم وأب (2). وذكر الشاكري (3): تميز الإمام علي (عليه السلام) بمناقب وفضائل لم تكن لأحد قبله ولا بعده، وطالما تمنى الصحابة ولو واحدة منها وكما قال أحدهم: " لكانت أحب إلي من حمر النعم " ومن هذه الخصائص ولادته (عليه السلام) في بيت الله الحرام، تلك الفضيلة التي طفحت بها الكتب ما سبقه بها أحد، وتظافر على
(1) المستدرك على الصحيحين 3: 108. (2) طبقات ابن سعد 8: 51. (3) موسوعة المصطفى والعترة 2: 32. 86 نقلها كبار المحدثين والمؤرخين، كالمسعودي في (مروج الذهب) وسبط ابن الجوزي في (تذكرة الخواص)، وابن طلحة الشافعي في (مطالب السؤول) وغيرهم. وإليك نص ما قاله الحافظ الحاكم النيسابوري على ما أورده عنه الحافظ الكنجي الشافعي في (كفاية الطالب) قال: " ولد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بمكة في بيت الله الحرام، ليلة الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من رجب سنة ثلاثين من عام الفيل، ولم يولد قبله ولا بعده مولود في بيت الله الحرام، إكراما له بذلك وإجلالا لمحله في التعظيم ". وقال الحافظ نور الدين علي بن محمد بن الصباغ المكي المالكي (784 - 855 ه) في الفصول المهمة: 30، والحافظ الشافعي السمهوري (844 - 911 ه)، والحافظ
87 برهان الدين الحلبي (975 - 1044 ه)، والشيخ الشبلنجي، من علماء القرن الثالث عشر في نور الأبصار في مناقب آل بيت النبي المختار: 65، وغيرهم: قالوا: عن ولادة علي (عليه السلام) في الكعبة. " ولد بداخل البيت الحرام، ولم يولد في البيت الحرام قبله أحد سواه، وهي فضيلة خصه الله تعالى بها إجلالا له، وإعلاء لمرتبته، وإظهارا لتكرمته ". وقال الحافظ القرشي الكنجي الشافعي 658 ه عن الحاكم النيشابوري 323 - 405 ه في كفاية الطالب والعلامة الشيخ المفيد محمد بن النعمان البغدادي 413 ه في الإرشاد: 9. والحافظ الأسدي الحلي المعروف بابن البطريق 533 - 600 ه في عمدة عيون صحاح الأخبار: 24. والشيخ الوزير علي بن عيسى الأربلي ت 692 ه في كشف الغمة 1: 59.
88 والعلامة الحلي الحسن بن يوسف المطهر 648 - 727 ه في نهج الحق وكشف الصدق: 232. وغيرهم قالوا: في ولادة علي (عليه السلام) في الكعبة: " لم يولد قبله ولا بعده مولود في بيت الله الحرام سواه، إكراما له بذلك وإجلالا لمحله في التعظيم ". أقول: لما أرادت السيدة مريم ولادة السيد المسيح عيسى بن مريم أوحي إليها أن أخرجي من بيت المقدس فإنه دار عبادة لا دار ولادة، ولكن الله سبحانه وتعالى كرم عليا وأمه أن تلد في داخل الكعبة. هذه ثلاث روايات نقلتها لك بصورة موجزة واخترتها من مجموعة كبيرة مما قاله فطاحل العلماء والمحدثين والمؤرخين في صحاحهم ومسانيدهم وتأريخهم وقد ذكر ذلك الأستاذ شاكر شبع في بحث له بهذا الصدد في العدد السادس والعشرين من مجلة تراثنا الصادرة في قم وبيروت سنة 1412 ه فراجعه لتطلع على تفاصيل أوسع ومصادر أكثر.
89 بعد هذه المقدمة لا بد من ذكر حديث ولادة حكيم في الكعبة هذه المزعمة الزائفة، والرواية المجعولة، وإخضاعها لشئ من البحث والتحقيق والتمحيص، لكشف زيفها وبيان وضعها، إذ فيها الكثير مما يوجب الشك والريب في صحتها، فإن بعض ذوي النفوس المريضة، والحاقدة اختلقوا رواية ولادة حكيم بن حزام ابن خويلد في الكعبة المشرفة توهينا لها ولمن ولد في جوفها حسدا من عند أنفسهم وبغضا وثأرا من أمير المؤمنين (عليه السلام) في قتل شيوخهم على تنزيل القرآن وتثبيت الرسالة: * (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله) * (النساء: 54)، * (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون) * (الصف: 8). فالولد الطاهر من النسل الطاهر، ولد في الموضع الطاهر، فأين توجد هذه الكرامة لغيره؟!
90 فأشرف البقاع: الحرم، وأشرف الحرم: المسجد، وأشرف بقاع المسجد: الكعبة، ولم يولد فيه مولود سواه. فالمولود فيه يكون في غاية الشرف، فليس المولود في سيد الأيام (يوم الجمعة) في الشهر الحرام (رجب الأصم) في البيت الحرام سوى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام). هذه الكلمة قالها: الحافظ المؤرخ ابن شهرآشوب السروي المازندراني المتوفى عام 588 ه، بعد أن ذكر عدة أحاديث صحيحة ثابتة في ولادة علي (عليه السلام) في الكعبة المشرفة (1). - ولم يذكر غيره - من نظم الشعراء: وقد أجاد فطاحل العلماء والأدباء والشعراء في نظم ما جادت به قرائحهم بهذه المناسبة الميمونة المباركة.
(1) مناقب آل أبي طالب 2: 175. 91 أذكر بعضا منهم على سبيل المثال لا الحصر وما هو أسرع إلى السمع وأوقع في القلب منهم: العالم الأديب أبو الحسن علاء الدين علي بن الحسين الحلي، من العلماء الشعراء في القرن الثامن الهجري، يقول في قصيدة دالية طويلة: أم هل ترى في العالمين بأسرهم * بشرا سواه ببيت مكة يولد؟ في ليلة جبريل جاء بها مع * الملأ المقدس حوله يتعبد فلقد سما مجدا علي كما علا * شرفا به دون البقاع المسجد ومنهم العالم المتكلم المحدث الفقيه المولى محمد طاهر بن محمد حسين القمي، صاحب المؤلفات القيمة النافعة، المتوفى سنة 1098 ه في لاميته البديعة التي مطلعها:
92 سلامة القلب نحتني عن الزلل * وشعلة العلم دلتني على العمل إلى أن يقول: طوبى له كان بيت الله مولده * كمثل مولده ما كان للرسل ومنهم الفقيه المحدث الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي (1033 - 1104 ه) صاحب (وسائل الشيعة) قال في أرجوزة له في تواريخ المعصومين (عليهم السلام): مولده بمكة قد عرفا * في داخل الكعبة زيدت شرفا على رخامة هناك حمرا * معروفة زادت بذاك قدرا فيا لها مزية علية * تخفض كل رتبة علية ما نالها قط نبي مرسل * ولا وصي آخر وأول
93 ثم شرع بنظم حديث يزيد بن قعنب المشهور. ومنهم الشيخ الفقيه حسين نجف التبريزي النجفي (1159 - 1251 ه) حيث يقول في قصيدته الهائية: جعل الله بيته لعلي * مولدا يا له علا لا يضاهى لم يشاركه في الولادة فيه * سيد الرسل لا ولا أنبياها ومنهم العلامة السيد علي نقي النقوي الهندي اللكهنوي في موشحة ميلادية طويلة، منها قوله: لم يكن في البيت مولود سواه * إذ تعالى عن مثيل في علاه أوتي العلم بتعليم الإله * فغذاه دره قبل الفطام يرتوي منه بأهنى مشرب
94 ومنهم آية الله السيد محسن الأمين (1284 - 1371 ه) صاحب الموسوعة القيمة (أعيان الشيعة) حيث ذكر في أول باب سيرة أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في مولده، من موسوعته الآنفة الذكر: ولدت ببيت الله وهي فضيلة * خصصت بها إذ فيك أمثالها كثر وله أيضا من مقصورة: وولدت في البيت الحرام ولم يكن * هذا لغيرك من يكون ومن مضى ومنهم السيد حسن بن محمود الأمين (1299 - 1368 ه) في قصيدة بائية طويلة: ولدت في البيت بيت الله فارتفعت * أركانه بك فوق السبعة الحجب وتلك منزلة لم يؤتها بشر * بلى ومرتبة طالت على الرتب
95 ومنهم الفاضل الأديب الشيخ محمود عباس العاملي في قصيدته العلوية المسماة ب (الدرر السنية): من مثله في بيت بارئه ولد؟ * ذي خصلة قد خص فيها مذ وجد أمعن بها يا صاحب فكرا واعتمد * وانظر لها النظر الصحيح ولا تحد من واضح المنهاج وقيت الضرر وقال شهاب الدين الآلوسي - صاحب التفسير المشهور - في (الخريدة الغيبية في شرح القصيدة العينية) لعبد الباقي أفندي العمري عند قول الشاعر: أنت العلي الذي فوق العلى رفعا * ببطن مكة عند البيت إذ وضعا وكون الأمير - كرم الله وجهه - ولد في البيت أمر مشهور في الدنيا، وذكر في كتب الفريقين السنة والشيعة... وما أحرى بإمام الأئمة أن يكون وضعه
96 فيما هو قبلة للمؤمنين، وسبحان من يضع الأشياء في مواضعها، وهو أحكم الحاكمين. وقال عند قول الشاعر العمري: وأنت أنت الذي حطت له قدم * في موضع يده الرحمان قد وضعا وأحب عليه الصلاة والسلام أن يكافئ الكعبة حيث ولد في بطنها بوضع الصنم عن ظهرها. وفي رواية أن أباه أبو طالب سماه عليا، وقال شعرا: سميته بعلي كي يدوم له * عز العلا وفخر العز أدومه وقد ذكرت قصة صعود علي (عليه السلام) على منكب النبي (صلى الله عليه وآله) ورميه الأصنام في باب مستقل يأتي إن شاء الله. أما تفاصيل حادثة الولادة الميمونة فمروية في مصادر معتبرة كثيرة.
97 منها: أمالي الشيخ الصدوق - المتوفى سنة 381 ه - الصفحة 114 الحديث 9 ط مؤسسة الأعلمي - بيروت. ورواه في (علل الشرائع) الصفحة 135 ح 3 ط المكتبة الحيدرية - النجف الأشرف. وفي معاني الأخبار ص 62 ح 10 ط قم. والشيخ الفقيه عماد الدين أبو جعفر محمد بن علي الطبري - من أعلام القرن السادس - في كتابه (بشارة المصطفى) ص 7 ط المكتبة الحيدرية - النجف الأشرف. والشيخ الأديب بهاء الدين علي بن عيسى الإربلي، المتوفى في بغداد سنة 692 ه، في كتابه (كشف الغمة) 1: 60 ط تبريز. ومن بشائر المصطفى مرفوعا إلى يزيد بن قعنب. ومصادر أخرى كثيرة، يضيق المجال بذكرها. وإليك متن حديث الولادة المبارك:
98 روى هؤلاء جميعا بإسنادهم إلى سعيد بن جبير قال: قال يزيد بن قعنب: كنت جالسا مع العباس بن عبد المطلب وفريق من بني عبد العزى بإزاء بيت الله الحرام، إذ أقبلت فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وكانت حاملا به لتسعة أشهر، وقد أخذها الطلق فقالت: رب، إني مؤمنة بك وبما جاء من عندك من رسل وكتب، وإني مصدقة بكلام جدي إبراهيم الخليل، وإنه بنى البيت العتيق، فبحق النبي الذي بنى هذا البيت، وبحق المولود الذي في بطني لما يسرت علي ولادتي. قال يزيد بن قعنب: فرأينا البيت وقد انفتح من ظهره، ودخلت فاطمة فيه، وغابت عن أبصارنا، والتزق الحائط، فرمنا أن ينفتح لنا قفل الباب فلم ينفتح، فعلمنا أن ذلك أمر من أمر الله عز وجل. ثم خرجت في اليوم الرابع وبيدها أمير المؤمنين علي
99 ابن أبي طالب (عليه السلام)، ثم قالت: إني فضلت على من تقدمني من النساء، لأن آسية بنت مزاحم عبدت الله عز وجل سرا في موضع لا يحب أن يعبد الله فيه إلا اضطرارا وأن مريم بنت عمران هزت النخلة اليابسة بيدها حتى أكلت منها رطبا جنيا. وفي رواية: أوحي إليها أن أخرجي من بيت المقدس فإنه بيت عبادة لا بيت ولادة، فإني دخلت بيت الله الحرام فأكلت من ثمار الجنة وأوراقها، فلما أردت أن أخرج هتف بي هاتف: يا فاطمة، سميه عليا فهو علي، والله العلي الأعلى يقول: إني شققت اسمه من اسمي، وأدبته بأدبي، ووقفته على غامض علمي، وهو الذي يكسر الأصنام في بيتي، وهو الذي يؤذن فوق ظهر بيتي ويقدسني ويمجدني، فطوبى لمن أحبه وأطاعه، وويل لمن أبغضه وعصاه. وتسابق الشعراء إلى نظم بدائع القصائد في هذه
100 الحادثة الميمونة - كما سبق -، اخترنا منها من موشحة الشاعر (ميرزا إسماعيل الشيرازي) المتوفى سنة 1305 ه، التي ذكرها العلامة الأميني في كتابه الغدير 6: 29 - 30 ومطلعها: رغد العيش فزده رغدا * بسلاف منه تشفي سقمي حبذا آناء أنس أقبلت * أدركت نفسي بها ما أملت وضعت أم العلى ما حملت * طاب أصلا وتعالى محتدا مالكا ثقل ولاء الأمم إلى آخر القصيدة. أما نسبه فيتصل بنسب رسول الله (صلى الله عليه وآله) مجدا ومحتدا، ولا يحتاج إلى تعريف، فقد سبق أن ذكرناه في سيرة النبي (صلى الله عليه وآله).
101 أما أمه: فهي فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف، يتصل جدها بجد رسول الله وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما مباشرة. وهي أول هاشمية تلد هاشميا وأول من ولده هاشم مرتين. وكانت من رسول الله (صلى الله عليه وآله) بمنزلة الأم، ربته في حجرها، وقدمته على أولادها، وكانت من السابقات إلى الإيمان، وهاجرت معه بصحبة ولدها والفواطم إلى يثرب يثرب (المدينة المنورة) ولما ماتت شيعها النبي (صلى الله عليه وآله) وكفنها بقميصه ليدرأ به عنها هوام الأرض، وتوسد في قبرها لتأمن بذلك ضغطة القبر، ولقنها الإقرار بولاية ابنها علي كما اشتهرت الرواية. قالت فاطمة: فولدت عليا ولرسول الله (صلى الله عليه وآله) ثلاثون سنة، فأحبه رسول الله (صلى الله عليه وآله) حبا شديدا، وقال لها: اجعلي مهده بقرب فراشي، وكان (صلى الله عليه وآله) يلي أكثر تربيته، وكان يطهر عليا في وقت غسله، ويؤجره اللبن عند شربه، ويحرك مهده عند نومه، ويناغيه في يقظته، ويحمله على
102 صدره ورقبته، ويقول هذا أخي ووليي، وناصري، وصفيي، وذخري، وكهفي، وصهري، ووصيي، وزوج كريمتي، وأميني على وصيتي وخليفتي، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يحمله دائما ويطوف به جبال مكة وشعابها وأوديتها وفجاجها (صلى الله على الحامل والمحمول). وفاة فاطمة بنت أسد الهاشمية: أم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ومربية الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) فاطمة بنت أسد الهاشمية، وأسد بن هاشم بن عبد مناف بن قصي، تجتمع هي وأبو طالب في هاشم. أسلمت وهاجرت مع النبي (صلى الله عليه وآله) وكانت من السابقات إلى الإيمان بمنزلة الأم من النبي (صلى الله عليه وآله)، فلما ماتت بالمدينة كفنها رسول الله (صلى الله عليه وآله) بقميصه وأمر أسامة بن زيد وأبا أيوب الأنصاري وغيرهم، فحفروا قبرها، فلما بلغوا
103 لحدها، حفره النبي (صلى الله عليه وآله) بيديه وأخرج ترابه فلما فرغ اضطجع فيه، وقال: " الله الذي يحيي ويميت وهو حي لا يموت، اللهم اغفر لأمي فاطمة بنت أسد ولقنها حجتها ووسع عليها مدخلها بحق نبيك محمد والأنبياء الذين من قبلي فإنك أرحم الراحمين ". فقيل: يا رسول الله، رأيناك صنعت شيئا لم تكن صنعته بأحد قبلها. فقال (صلى الله عليه وآله): " ألبتسها قميصي لتلبس من ثياب الجنة، واضطجعت في قبرها ليخفف عنها من ضغطة القبر، إنها كانت من أحسن خلق الله صنعا إلي بعد عمي أبي طالب رضي الله عنهما ورحمهما ". وقال (صلى الله عليه وآله): " جزاك الله من أم خيرا ". وذكر العلامة ابن الصباغ المالكي في فصوله المهمة - الفصل الأول - الصفحات 29 - 32 " في ذكر أمير
104 المؤمنين علي بن أبي طالب سلام الله عليه " ننقله بتصرف: هو الإمام الأول واسم أبيه (عبد مناف) وكنيته أبو طالب، ويلقب بأبي البطحاء، واسم أبيه عبد المطلب شيبة الحمد وكنيته أبو الحارث، والحارث شقيق أبو طالب وعبد الله والد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وعند عبد المطلب يجتمع نسب النبي (صلى الله عليه وآله) بنسب علي (عليه السلام) لأنه جدهما. أما عبد الله فولده الوحيد هو - محمد بن عبد الله - رسول الله (صلى الله عليه وآله). وأما (أبو طالب) عبد مناف فأولاده أربعة وثلاث بنات، الكبير منهم طالب الذي كني أبوه به، فكان عقيما لا عقب له، ومن بعده عقيل، ثم جعفر، ثم علي، وكل واحد أسن من الآخر بعشر سنين، وأخواتهم أم هانئ، واسمها فاختة، وجمانة، وأمهم جميعا فاطمة بنت أسد
105 الهاشمية، هكذا ذكر ذلك ضياء الدين أبو المؤيد موفق بن أحمد الخوارزمي في كتابه المناقب مع بعض التصحيح. أما طالب لم أعثر على ترجمة له ولم يذكر التاريخ عنه شيئا. وأما عقيل فكان من أشراف قريش، ويعتبر الأول في أنساب العرب وقريش، خلف أربعة أولاد أكبرهم مسلم ثم عبد الله ثم عبد الرحمن ثم جعفر، وقد بعث الإمام الحسين (عليه السلام) مسلما سفيرا له إلى أهل الكوفة، فبويع له ثم خذل واستشهد بعده بعض أصحابه قبل وصول الإمام الحسين (عليه السلام) إلى كربلاء في قصة مفصلة ذكرتها في الجزء الخامس من هذه السلسلة التي تخص حياة سيد الشهداء الحسين (عليه السلام) ومقتل بقية إخوته في واقعة الطف بكربلاء. أما جعفر بن أبي طالب، فقد هاجر إلى الحبشة ومعه بعض المؤمنين هاربين من مطاردة قريش حين طغيانهم وذلك بأمر من النبي (صلى الله عليه وآله)، عاد إلى المدينة المنورة في
106 أوائل السنة السابعة للهجرة يوم فتح الله خيبر على يد رسول الله بقيادة أخيه أمير المؤمنين (عليه السلام) واستقبله (صلى الله عليه وآله) بكل حفاوة وتقدير وقال: " والله ما أدري بأيهما أشد فرحا بفتح خيبر أو بقدوم جعفر "، وأسهم له من غنائم خيبر، واستشهد جعفر في غزوة مؤتة مع من استشهد من قواد تلك الحملة وهم زيد بن الحارثة، وعبد الله بن رواحة وخلف محمدا الذي قتل بين يدي عمه علي بن أبي طالب بمعركة صفين، وأما عبد الله بن جعفر فقد تزوج بالسيدة الطاهرة زينب الكبرى فأولدت له عونا ومحمدا وقد استشهدا بين يدي خالهم الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء بكربلاء. ولد علي (عليه السلام) بمكة المشرفة، بداخل البيت الحرام، في يوم الجمعة الثالث عشر من شهر الله الأصم رجب الفرد سنة ثلاثين من عام الفيل، قبل الهجرة بثلاث وعشرين سنة، وقيل بخمس وعشرين سنة، ولم يولد في
107 البيت الحرام قبله أحد سواه، وهي فضيلة خصه الله تعالى بها إجلالا له، وإعلاء لمرتبته وإظهارا لتكرمه، وكان علي هاشميا من هاشميين، وأول من ولده هاشم مرتين. وذكر الشاكري (1): ولما ظهر أمره (صلى الله عليه وآله) عاداه أبو جهل، وجمع صبيان بني مخزوم وقال: أنا زعيمكم، وانعقد صبيان بني هاشم وبني عبد المطلب على النبي (صلى الله عليه وآله)، وقالوا: أنت أميرنا. قالت فاطمة بنت أسد: وكان في داري شجرة (نخلة) قد يبست وخلست، ولها زمان يابسة، فأتى النبي (صلى الله عليه وآله) يوما إلى الشجرة فمسها (بيده) فصارت من وقتها وساعتها خضراء، وحملت الرطب فكنت كل يوم أجمع الرطب في دوخلة (2)، فإذا كان وقت ضاحي النهار يدخل ويقول: يا أماه أعطيني ديوان العسكر، وكان يأخذ
(1) موسوعة المصطفى والعترة 1: 72 - 73. (2) الدوخلة: طبق من عروق الشجر. 108 الدوخلة ثم يخرج ويقسم الرطب على صبيان بني هاشم. فلما كان بعض الأيام دخل وقال: يا أماه، أعطيني ديوان العسكر، فقلت: يا ولدي، اعلم أن النخلة ما أعطتنا اليوم شيئا، قال: - والحديث لا يزال للسيدة فاطمة بنت أسد - فوحق نور وجهه، لقد رأيته يقدم نحو النخلة وأشار إليها وتكلم بكلمات ما فهمتها، وإذا بالنخلة قد انحنت حتى صار رأسها عنده فأخذ من الرطب ما أراد، ثم عادت النخلة إلى ما كانت، فمن ذلك اليوم دعوت الله تعالى وقلت: اللهم رب السماء، ارزقني ولدا ذكرا يكون أخا لمحمد (صلى الله عليه وآله)، ففي تلك الليلة واقعني زوجي أبو طالب فحملت بعلي فرزقنيه، فما قرب من صنم، ولا سجد لوثن، كل ذلك ببركة محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله). وقد مات جده عبد المطلب وعمره ثمان سنين. وجاء في كتاب أعلام النساء المؤمنات، الصفحات 489 - 491: فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف بن قصي، أمها
109 فاطمة بنت هرم بن رواحة بن حجر بن عبد بن معيص بن عامر بن لؤي، تزوجها أبو طالب بن عبد المطلب بن هاشم فولدت له عليا وجعفرا وعقيلا وطالبا وهو أسنهم، وأم هاني وجمانة وريطة بني أبي طالب. وهي راوية من راويات الحديث روت عن النبي (صلى الله عليه وآله)، وكانت ذات صلاح ودين، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يزورها ويقيل في بيتها ويحترمها احتراما عظيما، وهي أول امرأة هاجرت إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) من مكة إلى المدينة على قدميها، وكانت من أبر الناس إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله). روى الكليني في الكافي عن علي بن محمد بن عبد الله، عن السياري، عن محمد بن جمهور، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " إن فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين كانت أول امرأة هاجرت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) من مكة إلى المدينة على قدميها، وكانت من أبر الناس برسول الله (صلى الله عليه وآله)، فسمعت
110 رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو يقول: إن الناس يحشرون يوم القيامة عراة كما ولدوا، فقالت: وا سوأتاه، فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله): فإني أسأل الله أن يبعثك كاسية، وسمعته يذكر ضغطة القبر، فقالت: واضعفاه، فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله): فإني أسأل الله أن يكفيك ذلك ". وهي أول هاشمية تزوجها هاشمي، وكانت لرسول الله (صلى الله عليه وآله) بمنزلة الأم، ربي في حجرها، وكان شاكرا لبرها يسميها أمي، وكانت تفضله على أولادها في البر، كان أولادها يصبحون شعثا رمضا ويصبح رسول الله (صلى الله عليه وآله) كحيلا دهينا، وكانت بمحل عظيم من الإيمان، سبقت إلى الإسلام وهاجرت إلى المدينة، ولما توفيت كفنها رسول الله (صلى الله عليه وآله) في قميصه وأمر من يحفر قبرها فلما بلغوا لحدها حفره بيده، واضطجع فيه وقال: " اللهم اغفر لأمي فاطمة بنت أسد " ولقنها حجتها ووسع عليها مدخلها، فقيل: يا رسول الله، رأيناك صنعت
111 شيئا لم تكن تصنعه بأحد قبلها، فقال: " ألبستها قميصي لتلبس من ثياب الجنة "، أو قال: " هو أمان لها من يوم القيامة "، أو قال: " ليدرأ عنها هوام الأرض "، واضطجعت في قبرها ليوسعه الله عليها وتأمن من ضغطة القبر، إنها كانت من أحسن خلق الله صنعا إلي بعد أبي طالب ". وهي المرأة الوحيدة التي ولدت طفلها علي بن أبي طالب في الكعبة، قال الطبرسي في إعلام الورى: ولد علي سلام الله عليه في البيت الحرام يوم الجمعة الثالث عشر من شهر الله الأصم رجب بعد عام الفيل بثلاثين سنة، ولم يولد قط في بيت الله تعالى مولود سواه لا قبله ولا بعده، وهذه فضيلة خصه الله تعالى بها إجلالا لمحله ومنزلته وإعلاء لقدره، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف. وذكرها السيد محسن الأمين في عدة أبيات شعرية
112 قال فيها: له فاطم أم وكانت لأحمد * ببر وإشفاق هي الأم والظئر فيغدوا دهينا عندها مكتحلا * وأولادها شعث شعورهم غبر به آمنت في مكة ثم هاجرت * إلى يثرب ما شاب إيمانها نكر وكفنها خير الورى في قميصه * وفي قبرها قد نام من حفر القبر ولقنها القول السديد الذي به * لدى الحشر تنجو حين يجمعها الحشر لخير أب ينمى وأكرم حرة * بذاك سمت عدنان وافتخرت فهر هما الهاشميان اللذان تفرعا * على خير فرع أصله هاشم عمرو
113 له نسب من شيبة الحمد باهر * جلي فمن ساماه أقعده البهر نماه إلى العليا لؤي بن غالب * وعبد مناف قد مضى قبله النصر المصادر 1 - أعيان الشيعة 8: 388. 2 - موسوعة المصطفى والعترة للمؤلف 1: 72، 2: 21 - 30. 3 - أسد الغابة 7: 217. 4 - الإصابة 4: 380. 5 - الطبقات الكبرى، الأجزاء 1، 3، 4، 6، 8. 6 - أعلام النساء المؤمنات: 489 - 491. 7 - الأعلام للزركلي 5: 130.
114 الفصل الثالث فاطمة بنت حزام أم البنين فاطمة بنت حزام بن خالد أخي لبيد الشاعر بن عامر ابن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة الكلابية زوجة الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام). في كتاب عمدة الطالب أن الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) لما أراد أن يتزوج ندب أخاه عقيلا، وكان عالما بأنساب العرب، أن يخطب له امرأة قد أولدتها الفحول من العرب يتزوجها لتلد منه غلاما زكيا شجاعا حتى ينصر ولده الإمام الحسين (عليه السلام) في يوم الطف بكربلاء فأشار عليه عقيل بالسيدة فاطمة بنت حزام الكلابية - المكناة بأم البنين - فإنه ليس في العرب من هو
115 أشجع من أهلها، ولا أفرس، وكان لبيد الشاعر يقول للنعمان بن المنذر ملك الحيرة: نحن بني أم البنين الأربعة (1) * الضاربون الهام تحت الخبضعة والمطعمون الجفنة المدعدعة * ونحن خير عامر بن صعصعة فلا ينكر عليه أحد من العرب (2)، فندب الإمام (عليه السلام) عقيلا لخطبتها، فانبرى عقيل إلى أبيها فعرض عليه الأمر، فأسرع فرحا إليها يبشرها فاستجابت باعتزاز وفخر. يروى: حينما كان عقيل يحدث أبيها حزام بشأن
(1) كانت جدتهم تكنى بأم البنين. (2) ومن قومها ملاعب الأسنة أبو البراء الذي لم يعرف في العرب مثله في الشجاعة، والطفيل فارس قرزل وابنه عامر فارس المزتوق. 116 خطبة ابنته فاطمة لأخيه الإمام علي (عليه السلام)، كانت فاطمة تحدث أمها بحلم رأته في منامها، كأنها هي جالسة في دارها إذ وقع القمر في حجرها، وتبعه أربع كواكب (نجوم) ولما انتهت من حديثها دخل أبيها يبشرها ويبشر أمها بقدوم عقيل بن أبي طالب لخطبة فاطمة إلى أخيه الإمام علي (عليه السلام) ولما سمع أبيها الحلم استبشر، وقال: لقد حقق الله رؤياك يا بنيتي فأبشري بسعادة الدنيا والآخرة. وزفت إلى الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، وقد رأى فيها النضج والعقل الراجح، وهي لم تزل في ريعان شبابها ولم تبلغ العشرين من عمرها، بالإضافة إلى الإيمان العميق، وسمو الأخلاق، ومحاسن الصفات، والإخلاص، فأعزها (عليه السلام) فكانت جديرة أن تكون قرينة الإيمان وسمو الذات. ويروى ليلة زفافها قالت للإمام علي (عليه السلام) لي إليك
117 حاجة، قال (عليه السلام): وما حاجتك؟ قالت: أرجو أن لا تسميني فاطمة لئلا ينكسر قلب الإمامين الحسنين وأختيهما ويتذكروا أمهم، عند ذلك سماها بكنيتها أم البنين، وهذه واحدة من ضروب الأدب والوفاء لسيدة نساء العالمين بعد رحيلها. رعايتها لسبطي النبي (صلى الله عليه وآله): تزوج الإمام علي (عليه السلام) من فاطمة ابنة حزام العامرية، بعد شهادة الصديقة فاطمة الزهراء كما يراه بعض المؤرخين أو بعد أن تزوج بأمامة بنت زينب كما يراه البعض الآخر، كل هذا حصل بعد وفاة السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) لأن الله سبحانه وتعالى حرم النساء على علي (عليه السلام) ما دامت فاطمة موجودة عنده على قيد الحياة، كما حرم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على نفسه الزواج في حياة السيدة خديجة.
118 فولدت فاطمة بنت حزام أربعة بنين، فهم: العباس، وعبد الله، وجعفر، وعثمان، وكلهم استشهدوا بين يدي أخيهم الإمام الحسين بساحة الطف يوم عاشوراء بكربلاء، وعاشت بعده مدة طويلة إلى ما بعد واقعة الطف واستشهاد أولادها الأربعة، ولم تتزوج من غير الإمام (عليه السلام) كما أن أمامة، وأسماء بنت عميس، وليلى النهشلية لم يخرجن إلى أحد بعده على الرغم ممن تقدم لخطبتهن فامتنعن وروت إحداهن حديثا عن الإمام علي (عليه السلام) إن أزواج النبي والوصي لا يتزوجن بعده فلم يتزوجن الحرائر الأربعة وأمهات الأولاد اللاتي توفي عنهن الإمام علي (عليه السلام) عملا بالرواية. العباس بن علي بن أبي طالب (عليه السلام): يكنى أبا الفضل، وأمه أم البنين فاطمة بنت حزام من بني عامر بن كلاب بن صعصعة، وهو أكبر ولدها، وآخر
119 من قتل من إخوته لأمه وأبيه، بين يدي أخيه سيد الشهداء الإمام الحسين بن علي يوم عاشوراء، وفيه يقول الشاعر: أحق الناس أن يبكى عليه * فتى أبكى الحسين بكربلاء أخوه وابن والده علي * أبو الفضل المضرج بالدماء ومن واساه لا يثنيه شئ * وجاد له على عطش بماء وكانت أم البنين شاعرة فصيحة تخرج كل يوم إلى البقيع ومعها عبيد الله بن العباس ولدها فتندب أولادها الأربعة خصوصا أبي الفضل العباس أشجى ندبه وأحرقها فيجتمع الناس يسمعون بكاءها وندبتها ويشاركونها مصابها، فكان مروان بن الحكم مع قساوة قلبه وشدة عداوته لبني هاشم يجئ فيمن يجئ
120 فلا يزال يسمع ندبتها ويبكي، فمن قولها في رثاء العباس، ما أنشده أبو الحسن الأخفش في شرح المبرد: يا من رأى العباس كر * على جماهير النقد (1) ووراه من أبناء * حيدر كل ليث ذي لبد أنبئت أن ابني أصيب * برأسه مقطوع اليد ويلي على شبلي أمال * برأسه ضرب العمد لو كان سيفه في * يديه لما دنا منه أحد
(1) (النقد) نوع من الغنم قصار الأرجل قباح الوجوه، وزاد البيت حسنا أن اسم العباس من أسماء الأسد. 121 وقولها في رثاء أولادها الأربعة: لا تدعوني ويك أم البنين * تذكريني بليوث العرين كانت بنون لي أدعى بهم * واليوم أصبحت ولا من بنين أربعة مثل نسور الربى * قد واصلوا الموت بقطع الوتين تنازع الحرصات أشلاءهم * فكلهم أمسى صريعا طعين يا ليت شعري أكما أخبروا * بأن عباسا قطيع اليمين وفي كتاب أعلام النساء المؤمنات (1):
(1) تأليف محمد الحسون، طبعة قم، الحديث 333، الصفحة 496. 122 فاطمة بنت حزام. أم البنين فاطمة بنت حزام بن خالد بن ربيعة - أخي لبيد الشاعر - بن عامر بن كلاب بن ربيعة بن صعصعة الكلابية، زوجة الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام). هي من بيت عريق في العروبة والشجاعة، تزوجها الإمام علي (عليه السلام) بإشارة أخيه عقيل حين طلب منه أن يختار له امرأة ولدتها الفحول من العرب ليتزوجها فتلد له غلاما فارسا، وكان عقيل نسابة عالما بأخبار العرب وأنسابهم فاختارها له وقال: أين أنت من فاطمة بنت حزام الكلابية، فإنه ليس في العرب أشجع من آبائها ولا أفرس، كما سبق ذكره، فأرسله فخطبها وتزوجها، فولدت له العباس، ثم عبد الله، ثم جعفر، ثم عثمان، وكلهم قتلوا مع أخيهم الإمام الحسين (عليه السلام) يوم الطف في كربلاء.
123 وكانت أم البنين شاعرة فصيحة، تخرج كل يوم إلى البقيع ومعها حفيدها عبيد الله بن العباس وهو طفل، فتندب أولادها الأربعة أشجى ندبة وأحرقها، كما ذكرنا ذلك مفصلا ومراثيها. قال المامقاني في تنقيح المقال: ويستفاد من إيمانها وتشيعها من أن بشر بن حذلم بعد وروده المدينة نعى إليها الأربعة [من أولادها] قالت: قطعت نياط قلبي، أولادي ومن تحت الخضراء كلهم فداء لأبي عبد الله الحسين (عليه السلام)، فإن علقتها بالحسين ليس إلا لإمامته (عليه السلام)، وتهوينها على نفسها موت مثل هؤلاء الأشبال الأربعة إن سلم الحسين (عليه السلام)، يكشف عن مرتبة في الديانة رفيعة، وإني أعتبرها لذلك من الحسان إن لم نعتبرها من الثقات. وانحصر نسل العباس (عليه السلام) في ولده عبيد الله، وقال الفضل بن محمد بن فضل بن حسين بن عبيد الله بن
124 العباس يرثي جده: إني لأذكر للعباس موقفه * بكربلاء وهام القوم يختطف يحمي الحسين ويحميه على ظمأ * ولا يولي ولا يثني فيختلف ولا أرى مشهدا يوما كمشهده * مع الحسين عليه الفضل والشرف أكرم به مشهدا بانت فضيلته * وما ضاع له أفعاله خلف (1) وفاتها بالمدينة حوالي 69 ه، ومدفنها بالبقيع إلى
(1) مقتل الحسين للخوارزمي 2: 29، إعلام الورى: 250، أعيان الشيعة 3: 475 و 8: 389، تاريخ الطبري 5: 468، مقاتل الطالبيين: 85، الفصول المهمة: 198، أعلام النساء 4: 40. 125 جنب عمات النبي صفية وعاتكة. أقول: وقد حصل لي شرف زيارتها كلما وفقت لزيارة الرسول (صلى الله عليه وآله) وسنحت لي زيارة البقيع. المصادر 1 - موسوعة المصطفى والعترة للمؤلف 2: 6. 2 - أعلام النساء المؤمنات: 496. 3 - الفصول المهمة: 198. 4 - مقتل الحسين للخوارزمي 2: 29. 5 - إعلام الورى: 250. 6 - أعيان الشيعة 3: 475، و 8: 389. 7 - تاريخ الطبري 5: 468. 8 - مقاتل الطالبيين: 85. 9 - أعلام النساء 4: 40.
126 الفصل الرابع السيدتان فاطمة وسكينة بنتي الإمام الحسين (عليه السلام) السيدة فاطمة في سطور: جدها: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام). جدتها: فاطمة الزهراء (عليها السلام). أبوها: الإمام السبط الحسين الشهيد (عليه السلام). عمها: الإمام السبط الحسن المجتبى (عليه السلام). عماتها: العقيلة زينب، وأم كلثوم بنات الإمام علي (عليه السلام). أمها: أم إسحاق بنت طلحة بن عبيد الله التميمي. إخوتها: الإمام السجاد، وعلي الأكبر، وعبد الله الرضيع. أختها: سكينة.
127 زوجها: الحسن المثنى بن الحسن المجتبى (عليه السلام). كنيتها: أم عبد الله. لقبها: فاطمة الصغرى، النبوية. أولادها: عبد الله المحض، إبراهيم الغمر، الحسن المثلث، زينب. ولادتها بالمدينة سنة 40 هجرية. وفاتها: 110 هجرية. وفي رواية: وفاتها سنة 117 ه. علمها: من رواة الحديث ومن التابعيات. في أعلام الزركلي (5: 130): فاطمة بنت الحسين 40 - 110 ه = 660 - 728 م فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب، تابعية، من رواة الحديث، روت عن جدتها فاطمة الزهراء مرسلا، وعن أبيها وغيرهما، حضرت طف كربلاء مع أبيها ولما قتل أبوها حملت إلى الشام مع أختها سكينة، وعمتها العقيلة زينب، وأم كلثوم بنات الإمام علي (عليه السلام) فأدخلن
128 على يزيد، فقالت: يا يزيد، أبنات رسول الله سبايا؟! قال: بل حرائر كرام، ادخلي علي بنات عمك، فدخلت على الأمويات، فما وجدت فيهن إلا نادبة باكية، وعادت إلى المدينة فتزوجها ابن عمها (الحسن بن الحسن بن علي) ومات عنها، فتزوجها عبد الله بن عمرو ابن عثمان ومات عنها، فأبت الزواج من بعده إلى أن توفيت (1). من كلامها وحكمها، ما نال أحد من أهل السفه بسفيههم شيئا، ولا أدركوا من لذاتهم شيئا، وقد ناله أهل المروءات فاستتروا بجميل ستر الله (2). هذا ما نقله الزركلي في أعلامه.
(1) هذه رواية الزركلي، وإني أشك في زواجها من عبد الله بن عمرو. (2) طبقات ابن سعد 8: 347، مقاتل الطالبيين: 119، 120، 202 و 237، أعلام النساء 3: 1144. 129 وفي أعلام النساء المؤمنات: 499 - 511: فاطمة الكبرى: بنت الإمام الحسين بن الإمام علي بن أبي طالب سلام الله عليهم. أمها: أم إسحاق بنت طلحة بن عبيد الله التيمي. وجلالة هذه العلوية المخدرة، وعظم شأنها أوضح من أن يحتاج إلى بيان، وإقامة دليل وبرهان. فهي عالمة، محدثة، مجاهدة، تركت أثرا لا يمحى في التاريخ الإسلامي، وإليها وإلى غيرها من بنات أمير المؤمنين (عليه السلام) يرجع الفضل في نجاح ثورة الحسين (عليه السلام) ونهضته الدامية. وما عسى الباحث، أو الكاتب أن يكتب عن حياة هذه العلوية المخدرة، التي قضت عمرها الشريف المبارك في العلم والجهاد، ونحن إذ نترجم حياتها إنما نمر على بعض الجوانب التي اطلعنا عليها، ونكتب عنها بإيجاز خوفا من الإطالة:
130 عبادتها: لقد عرف أهل البيت سلام الله عليهم بكثرة العبادة، وإنما أخذوا ذلك من جدهم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، حيث كان يصلي الليل ويصوم النهار حتى أنزل الله سبحانه وتعالى فيه: * (طه * ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) *، وكذلك كان الإمام علي، وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام)، يصلون في اليوم والليلة ألف ركعة، وفاطمة الكبرى شأنها شأن آبائها الصالحين كانت عابدة زاهدة، تصلي الليل تصوم النهار، وكانت تسبح بخيوط معقود فيها، ومما يدل على ذلك: (1) قال الإمام الحسين (عليه السلام) فيها: " أما في الدين فتقوم الليل كله وتصوم النهار ". (2) وقال الشيخ المفيد في الإرشاد: كانت فاطمة بنت الحسين (عليه السلام) تقوم الليل وتصوم النهار. (3) وفي بعض المصادر: أنها كانت تسبح بخيوط معقود فيها.
131 (4) وقد ضربت على قبر زوجها فسطاطا، كانت تصوم النهار وتقوم الليل، إلى سنة. استيداعها الوصية: ومما يدل على مكانة فاطمة عند الحسين، ورجاحة عقلها، ومعرفتها التامة بنصوص الإمامة، هو إيداع الحسين (عليه السلام) وصيته عندها يوم عاشوراء. روى ثقة الإسلام الكليني في الكافي عن محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين وأحمد بن محمد، عن محمد بن إسماعيل، عن منصور بن يونس، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: " إن الحسين بن علي (عليهما السلام) لما حضره الذي حضر دعا ابنته الكبرى فاطمة بنت الحسين (عليه السلام) فدفع إليها كتابا ملفوفا ووصية ظاهرة، وكان علي بن الحسين (عليه السلام) مبطونا معهم لا يرون إلا أنه لما به، فدفعت فاطمة الكبرى الكتاب إلى علي بن الحسين (عليه السلام)، ثم صار والله ذلك
132 الكتاب إلينا يا زياد ". قال: قلت: ما في الكتاب جعلني الله فداك؟ قال: " فيه والله ما يحتاج إليه ولد آدم، منذ خلق الله آدم إلى أن تنفى الدنيا، والله فيه الحدود، حتى فيه أرش الخدش ". وروى أيضا في الكافي عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن ابن سنان، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: " لما حضر الحسين (عليه السلام) ما حضره دفع وصيته إلى ابنته فاطمة ظاهرة في كتاب مدرج، فلما أن كان أمر الحسين (عليه السلام) ما كان دفعت ذلك إلى علي بن الحسين (عليه السلام) "، قلت له: فما فيه يرحمك الله؟ فقال: " ما يحتاج إليه ولد آدم منذ كانت الدنيا إلى أن تفنى ". مع واقعة الطف: خرجت فاطمة الكبرى مع أبيها الحسين (عليه السلام)،
133 وزوجها الحسن المثنى إلى الكوفة، بعد أن قدمت رسل أهلها أن أقدم يا بن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لقد أينعت الثمار و و و... وشاهدت سلام الله عليها كل ما جرى على أهل بيت العصمة (عليهم السلام) من قتل وسبي، وكانت ضمن السبايا اللواتي ساقهن ابن سعد إلى الكوفة. وفي الكوفة عاصمة أهل البيت (عليهم السلام)، أدخلت السبايا، بنات رسول الله (صلى الله عليه وآله) ونساء الحسين وجواريه وعيالات الأصحاب، وإذا بأهل الكوفة يتفرجون على الحرائر، على ودائع خير الأنبياء، وكأن لم يحصل شئ، لم يقتل ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وعندها صاحت أم كلثوم: يا أهل الكوفة أما تستحون من الله ورسوله أن تنظروا إلى حرم النبي. وبينما الناس تنظر إليهم وتسأل عنهم أومأت ابنة أمير المؤمنين (عليه السلام) وبطلة كربلاء زينب العقيلة إلى ذلك الجمع المتراكم فهدأوا كأن على رؤوسهم الطير، وخطبت
134 خطبتها المشهورة المعروفة، ثم كان لفاطمة دور هام فبعد أن انتهت عمتها زينب (عليها السلام) من خطبتها، وقفت فاطمة بقلب كله عزم وإيمان وثبات ويقين، وضمير صالح صادق تخطب بأهل الكوفة، وتكشف فضائح الأمويين. وسنذكر خطبتها كاملة قريبا. وبعد أن مكثت العائلة في الكوفة عدة أيام جاء الأمر من يزيد إلى ابن زياد بأن يسرح عائلة الحسين (عليه السلام) إلى الشام، وفعلا فقد دخلت العائلة إلى الشام، وإذا بأهل الشام يعيد بعضهم الآخر بالانتصار!!! ورأى الإمام زين العابدين (عليه السلام) أن الجو مناسب لأن يتحدث، وفعلا صعد المنبر وألقى خطبته المعروفة التي قاطعها يزيد عدة مرات. ثم تكلمت العقيلة زينب سلام الله عليها ففضحت بني أمية وعرف الناس حقيقتهم المزيفة. وفي هذا المجلس جرت لفاطمة سلام الله عليها قصة يرويها لنا الشيخ المفيد، قال: قالت فاطمة بنت
135 الحسين (عليه السلام): ولما جلسنا بين يدي يزيد رق لنا، فقام إليه رجل من أهل الشام فقال: يا أمير المؤمنين هب لي هذه الجارية. وكنت جارية وضيئة، فأرعدت وظننت أن ذلك جائز لهم، فأخذت بثياب عمتي زينب، وكانت تعلم أن ذلك لا يكون فقالت عمتي للشامي: كذبت والله ولؤمت، والله ما ذاك لك ولا له. فغضب يزيد فقال: كذبت والله، إن ذلك لي، ولو شئت أن أفعل لفعلت. قالت زينب: كلا والله ما جعل الله ذلك لك، إلا أن تخرج عن ملتنا وتدين بغيرها. فاستطار يزيد غضبا وقال: إياي تستقبلين بهذا، إنما خرج من الدين أبوك وأخوك. قالت زينب: بدين الله ودين أبي ودين أخي اهتديت أنت وجدك وأبوك إن كنت مسلما. قال يزيد: كذبت يا عدوة الله.
136 قالت زينب: أنت أمير تشتم ظالما وتقهر بسلطانك. فكأنه استحى وسكت، فعاد الشامي فقال: هب لي هذه الجارية، فقال له يزيد: أعزب وهب الله لك حتفا قاضيا. وفي رواية أخرى: إن رجلا من أهل الشام نظر إلى فاطمة بنت الحسين (عليه السلام)، فقال: يا أمير المؤمنين هب لي هذه الجارية. فقالت فاطمة لعمتها: أوتمت وأستخدم؟ فقالت زينب سلام الله عليها: لا ولا كرامة لهذا الفاسق. فقال الشامي: من هذه الجارية؟ فقال يزيد: هذه فاطمة بنت الحسين، وتلك زينب بنت علي بن أبي طالب. فقال الشامي: الحسين بن فاطمة، وعلي بن أبي طالب؟! فقال يزيد: نعم.
137 فقال الشامي: لعنك الله يا يزيد، أتقتل عترة نبيك، وتسبي ذريته؟! والله ما توهمت إلا أنهم سبي الروم. فقال يزيد: والله لألحقنك بهم، ثم أمر به فضرب عنقه. نعم هكذا كانت مواقف بنات أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد مقتل الحسين (عليه السلام)، يصدعن بالحق والعدالة جهارا في غير جمجمة ولا إدهان، لا يثنيهن عن قول الحق رهبة يزيد وأذنابه المارقين. ولا تصدهم عن البيان مخافة السيوف والسجون والرماح والنبال. فقد اندفعوا وراء الحق والقرآن يجاهدون دونهما بسماحة نفس وطيب خاطر، وقد تجلت شجاعة بنت الحسين (عليه السلام) في تلك الفترة الحرجة من بعد مقتل والدها حيث وقفت ذلك الموقف البطولي دون أن تعبأ بما سيصيبها من شر، ما دامت تعتقد أنها تدافع الحق وتذود عنه. خطبتها بالكوفة: مر عليك سابقا عزيزي القارئ أن فاطمة بنت الحسين (عليه السلام) وقفت في الكوفة في مجلس ابن زياد
138 وألقت خطبتها المشهورة المعروفة، نعم افتتحت خطبتها بحمد الله، ثم الإقرار بالشهادتين، ثم تعرضت إلى بعض المسائل العرفانية، ثم تطرقت إلى استشهاد أبيها الحسين (عليه السلام) وإخوتها بأسلوب حكيم وبعبارة رزينة صورت فيها ألوان القتل المرير، وترجمت بها أشجان القلوب الكسيرة، وترفعت في الوقت نفسه عن ذكر قتلته (عليه السلام)، فلم تذكرهم ولم تتطرق إلى أسمائهم، لأنهم ليسوا من الذين يستحقون الذكر والبيان، ولم تشتمهم ولم تسبهم ولم تلعنهم، لأنها علمت أن ليست لصاحبة الرسالة أن تشتم، إنما وظيفتها وواجبها أن تنبه الأذهان وتمتلك القلوب ببيانها وأسلوبها، لينفذ في أعماق القلوب ويأخذ مأخذه الراسخ. نعم وقفت فاطمة بنت الحسين (عليه السلام) بقلب كله إيمان وثبات، ونفس كلها اطمئنان وسكون وقالت: بسم الله الرحمن الرحيم.
139 الحمد لله عدد الرمل والحصى، وزنة العرش إلى الثرى، أحمده وأؤمن به، وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن أولاده ذبحوا بشط الفرات من غير ذحل ولا تراث. اللهم إني أعوذ بك أن أفتري عليك، وأن أقول عليك خلاف ما أنزلت من أخذ العهود والوصية لعلي بن أبي طالب المغلوب حقه، المقتول من غير ذنب في بيت من بيوت الله تعالى وبها معشر مسلمة بألسنتهم، تعسا لرؤوسهم ما دفعت عنه ضيما في حياته، ولا عند مماته حتى قبضه الله تعالى إليه محمود النقيبة، طيب العريكة، معروف المناقب، مشهور المذاهب، لم تأخذه فيك لومة لائم، ولا عذل عاذل، هديته اللهم للإسلام صغيرا، وحمدت مناقبه كبيرا، ولم يزل ناصحا لك ولرسولك، زاهدا في الدنيا غير حريص عليها، راغب في الآخرة، مجاهدا لك في سبيلك، رضيته فاخترته، وهديته إلى
140 صراط مستقيم. أما بعد يا أهل الكوفة، يا أهل المكر والغدر والخيلاء، إنا أهل بيت ابتلانا الله بكم، وابتلاكم بنا، فجعل بلاءنا حسنا، وجعل علمه عندنا وفهمه لدينا، فنحن عيبة علمه، ووعاء فهمه وحكمته، وحجته على الأرض في بلاده لعباده، أكرمنا الله بكرامته، وفضلنا بنبيه محمد (صلى الله عليه وآله) على كثير ممن خلق الله تفضيلا. فكذبتمونا وكفرتمونا، ورأيتم قتالنا حلالا، وأموالنا نهبا، كأننا أولاد ترك أو كابل، كما قتلتم جدنا بالأمس، وسيوفكم تقطر من دماء أهل البيت لحقد متقدم، قرت لذلك عيونكم، وفرحت قلوبكم افتراء على الله، ومكرا مكرتم والله خير الماكرين، فلا تدعونكم أنفسكم إلى الجذل بما أصبتم من دمائنا، ونالت أيديكم من أموالنا، فإن ما أصبنا من المصائب الجليلة والرزايا العظيمة في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير،
141 لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم، والله لا يحب كل مختال فخور. تبا لكم فانتظروا اللعنة والعذاب، فكأن قد حل بكم وتواترت من السماء نفحات فيسحتكم بعذاب، ويذيق بعضكم بأس بعض، ثم تخلدون في العذاب الأليم يوم القيامة بما ظلمتمونا، ألا لعنة الله على الظالمين. ويلكم أتدرون أية يد طاعنتنا منكم؟ وأية نفس نزعت إلى قتالنا؟ أم بأي رجل مشيتم إلينا؟ تبغون محاربتنا؟ قست قلوبكم، وغلظت أكبادكم، وطبع الله على أفئدتكم، وختم على سمعكم وبصركم، وسول لكم الشيطان وأملى لكم، وجعل على بصركم غشاوة فأنتم لا تهتدون. تبا لكم يا أهل الكوفة، أي تراث لرسول الله قبلكم، وذحول له لديكم، ثم غدرتم بأخيه علي بن أبي طالب (عليه السلام) جدي، وبنيه عترة النبي الأخيار، وافتخر بذلك
142 مفتخركم: نحن قتلنا عليا وبني علي * بسيوف هندية ورماح وسبينا نساءهم سبي ترك * ونطحناهم فأي نطاح بفيك أيها القائل الكثكث والأثلب، افتخرت بقتل قوم زكاهم الله وطهرهم وأذهب عنهم الرجس، فاكظم واقع كما أقعى أبوك، فإنما لكل امرئ ما اكتسب وما قدمت يداه، حسدتمونا ويلا لكم على ما فضلنا الله تعالى: فما ذنبنا إن جاش دهر بحورنا * وبحرك ساج لا يواري الدعامصا ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور. عندئذ ارتفعت الأصوات بالبكاء والنحيب، وقالوا: حسبك يا ابنة الطاهرين فقد أحرقت قلوبنا، وأنضجت
143 نحورنا وأضرمت أجوافنا، فسكتت عليها وعلى أبيها وجدها السلام. روايتها للحديث: تعد فاطمة الكبرى بنت الإمام الحسين (عليه السلام) راوية من راويات الحديث، ومحدثة من محدثات عصرها روت عن جماعة من الثقات، وروى عنها أيضا أعيان المسلمين. قال ابن حجر العسقلاني: فاطمة بنت الحسين بن علي ابن أبي طالب الهاشمية المدنية روت عن أبيها، وأخيها زين العابدين، وعمتها زينب بنت علي، وجدتها فاطمة الزهراء، وبلال المؤذن، وابن عباس، وأسماء بنت عميس. وروى عنها أولادها: عبد الله، وإبراهيم، وحسين، وأم جعفر بنو الحسن بن الحسن بن علي، ومحمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، وروى أبو المقدام بن زياد
144 عن أبيه وقيل عن أمه عنها، وروى زهير بن معاوية عن شيخ يقال هو مصعب بن محمد عنها، وغيرهم. ذكرها ابن حبان في الثقات، وماتت وقد قاربت التسعين، ووقع ذكرها في صحيح البخاري في الجنائز، قال: لما مات الحسن بن الحسن ضربت امرأته القبة. وقد جمع الشيخ محمد هادي الأميني بعض أحاديثها نذكرها تتميما للفائدة. (1) عن عبد الله بن الحسن، عن أمه فاطمة بنت الحسين، عن فاطمة (عليها السلام) قالت: " كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا دخل المسجد قال: بسم الله، والحمد لله، وصلى الله على رسوله، اللهم اغفر لي ذنوبي، وسهل لي أبواب رحمتك. وإذا خرج قال مثل ذلك، إلا أنه يقول: اللهم اغفر لي ذنوبي، وسهل لي أبواب رحمتك وفضلك ". (2) عبد الله بن الحسن، عن أمه فاطمة بنت الحسين،
145 عن فاطمة الكبرى بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قالت: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا يلومن إلا نفسه من بات وفي يده غمر ". (3) عبد الله بن الحسن، عن أمه فاطمة بنت الحسين، عن أبيها، عن أمه فاطمة الكبرى (عليها السلام)، قالت: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما التقى جندان ظالمان إلا تخلى الله عنهما، ولم يبال أيهما غلب، وما التقى جندان ظالمان إلا كانت الدبرة على أعتاهما ". (4) عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)، قال: " حدثني أبي، عن فاطمة بنت الحسين (عليه السلام)، قالت: سمعت أبي يقول: يقتل منك أو يصاب منك نفر بشط الفرات، ما سبقهم الأولون، ولا يدركهم الآخرون ". (5) قال عبد الله بن الحسن، قالت أمي فاطمة بنت الحسين (عليه السلام): " رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) في النوم فقال لي: يا بنية
146 لا تخسري ميزانك، وأقيمي وزنه وثقليه بقراءة آية الكرسي، فما قرأها من أهلي أحد إلا ارتجت السماوات والأرض بملائكتها، وقدسوا بزجل التسبيح والتهليل والتقديس والتمجيد، ثم دعوا بأجمعهم لقارئها يغفر له كل ذنب ويجاوز عنه كل خطيئة ". (6) فاطمة بنت الحسين، عن أبيها، عن أمه فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله) قالت: " خرج علينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) عشية عرفة فقال: إن الله عز وجل باهى بكم وغفر لكم عامة ولعلي خاصة، وإني رسول الله إليكم غير محاب لقرابتي، إن السعيد كل السعيد من أحب عليا في حياته وبعد موته ". (7) فاطمة بنت الحسين، عن أبيها، عن أخيه الحسن، قال: " رأيت أمي فاطمة (عليها السلام) قامت في محرابها ليلة جمعة فلم تزل راكعة وساجدة حتى انفجر عمود الصبح،
147 وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات، وتسميهم وتكثر الدعاء لهم، ولا تدعو لنفسها بشئ، فقلت لها: يا أماه لم لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ قالت: يا بني الجار ثم الدار ". (8) عبد الله بن الحسن، عن أمه فاطمة بنت الحسين، قالت: " لما اشتدت بفاطمة (عليها السلام) الوجع واشتدت علتها اجتمعت عندها نساء المهاجرين والأنصار يعدنها، فقلن لها: يا بنت رسول الله كيف أصبحت عن علتك؟ قالت: أصبحت والله عايفة لدنياكن، قالية لرجالكن، لفظتم بعد إذ عجمتم، وشنأتم بعد أن سبرتم، فقبحا لفلول الحد وخور القناة وخطل الرأي، وبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون، لا جرم لقد قلدتهم ربقتها، وشنت عليها عارها، فجذعا وعقرا وسحقا للقوم الظالمين "... إلى آخر خطبتها التي ذكرناها
148 في المجلد الرابع من موسوعة المصطفى والعترة. (9) عن محمد بن علي، عن فاطمة بنت الحسين، عن أبيها وعمها الحسن بن علي (عليهما السلام): " أخبرنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لما أدخلت الجنة رأيت الشجرة تحمل الحلي والحلل أسفلها خيل بلق وأوسطها الحور العين، وفي أعلاها الرضوان، قلت: يا جبرائيل لمن هذه الشجرة؟ قال: شجرة طوبى، هذه لابن عمك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، إذا أمر الله الخليقة بالدخول إلى الجنة يؤتى بشيعة علي حتى ينتهي بهم إلى هذه الشجرة، فيلبسون الحلي والحلل ويركبون الخيل البلق وينادي مناد: هؤلاء شيعة علي صبروا في الدنيا فحيوا هذا اليوم ". (10) عن فاطمة بنت الحسين، عن أم كلثوم بنت فاطمة بنت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، عن فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
149 ورضي عنها، قالت: " أنسيتم قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم غدير خم: من كنت مولاه فعلي مولاه، وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): أنت مني بمنزلة هارون من موسى (عليهما السلام) ". (11) أخبرنا الحسن بن أبي بكر، أخبرنا عبد الله بن إسحاق البغوي، أخبرنا ابن أبي العوام، حدثنا أبي، حدثنا جرير بن عبد الحميد، عن شيبة بن نعامة، عن فاطمة بنت الحسن، عن فاطمة، قالت: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كل بني آدم ينتمون إلى عصبتهم، إلا ولد فاطمة فإني أنا أبوهم وأنا عصبتهم ". (12) حدثنا عبد الله بن عمران، حدثنا أبو داود، حدثنا هشام بن أبي الوليد، عن أمه، عن فاطمة بنت الحسين، عن أبيها الحسين بن علي، قال: " لما توفي القاسم بن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قالت خديجة: يا رسول الله درت لبنية القاسم، فلو كان الله أبقاه حتى
150 يستكمل رضاعه، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن إتمام رضاعه في الجنة، قالت: لو أعلم ذلك يا رسول الله لهون علي أمره، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن شئت دعوت الله تعالى فأسمعك صوته، قالت: يا رسول الله بل أصدق الله ورسوله ". زواجها: من المعروف والمتسالم عليه أن الحسن المثنى بن الحسن السبط خطب من عمه إحدى ابنتيه فاطمة أو سكينة، فاختار له عمه فاطمة قائلا له: " إنها أشبه الناس بأمي فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أما في الدين فتقوم الليل كله وتصوم النهار، وفي الجمال تشبه الحور العين ". وفعلا فقد تزوجت فاطمة من ابن عمها الحسن المثنى ابن الحسن السبط (عليها السلام)، وكان سيدا جليلا رئيسا مطاعا ورعا فاضلا، وهو وصي أبيه، ووالي صدقات جده أمير المؤمنين (عليه السلام). وعاشت إلى جنبه حياة ملؤها الحب والإيمان، وقد كونا الأسرة المثالية التي تبني تعاملها
151 على الأسس الإسلامية الرفيعة، كيف لا وهما أبناء الحسن والحسين، ونجلا علي وفاطمة. نعم عاشت فاطمة في بيت زوجها الحسن المثنى سنين طويلة، وقامت بشؤون البيت وإدارته بصورة تضمن لهما السعادة الزوجية والحياة المنزلية، وقد كانت مثالا حيا فيما ينبغي أن تتخذه الزوجة أساسا لحياتها المنزلية الفاضلة. وولدت فاطمة ثلاثة أولاد هم: عبد الله المحض، الحسن المثلث، إبراهيم الغمر. وقد ربت فاطمة أولادها تربية علوية صالحة، حتى عرفوا في التاريخ بالعلم الغزير، والأدب الجم، والخبرة الصائبة، والمعرفة السديدة، والعقيدة الراسخة، والشجاعة والثبات والإقدام، وقطعوا في حياتهم أشواطا في سبيل الجهاد والكفاح، وسيف الأمويين والعباسيين مصلت فوق رؤوسهم، وسياطهم تلهب ظهورهم، وأبواب السجن مفتحة في وجوه كل بني الحسن وعوائلهم، وهم في كل هذه المحن كانوا أصلب عودا وأقوى شكيمة
152 وأشد مراسا وأقوى إيمانا وأكثر صبرا. وعاشت فاطمة بجنب الحسن المثنى إلى أن دس إليه الوليد بن عبد الملك من سقاه سما فمات وعمره ثلاث وخمسون سنة، ورأى في منامه قبل وفاته بقليل كأن بين عينيه مكتوب: قل هو الله أحد، فاستبشر بذلك أهله وفرحوا، فقال سعيد بن المسيب: إن كان رآها قلما بقي، فما أتى عليه إلا قليل حتى مات. وقد صدمت فاطمة بوفاة زوجها صدمة عنيفة، وطعن قلبها بطعنة قاتلة، وتأثرت بها، وقد ملأ الحزن قلبها، فانتقلت إلى موضع قبر زوجها وضربت فسطاطا عليه، وكانت تقوم الليل وهي باكية إلى سنة، ولما كانت رأس السنة قالت لمواليها: إذا أظلم الليل فقوضوا هذا الفسطاط، فلما أظلم الليل وقوضوه سمعت قائلا يقول: هل وجدوا ما فقدوا؟ فأجابه آخر: بل يئسوا فانقلبوا. وبقيت فاطمة بعد وفاة زوجها الحسن المثني مدة من الزمن إلى أن خطبها عبد الله بن عمرو بن عثمان،
153 فتزوجها عبد الله وأنجبت له محمدا، والقاسم، ورقية. وكان سخيا كريما شجاعا شريفا جوادا، روى عن أبيه، وابن عمر، وابن عباس، وعبد الرحمان بن أبي عمرة، والحسين بن علي، ورافع بن خديج وغيرهم. وروى أبو الفرج الإصفهاني في تزويج فاطمة من عبد الله قصة فيها ما فيها من الدس والتحريف الواضح، والخبث واللؤم والعداوة لأهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله)، وهذا هو ديدن النواصب إن لم يقدروا أن ينالوا من شخصية معينة فيعمدوا إلى النيل ممن يتعلق به، فنراهم يقولون: إن أبا طالب مات كافرا، وإن الحسن سلام الله عليه تزوج بأكثر من ثلاثمائة زوجة، وإن عبد الله بن جعفر زوج زينب كان يسمع الغناء ويشرب الخمر، وقالوا في سكينة بنت الحسين (عليه السلام) ما يترفع القلم عن ذكره، وها هم يقولون في زواج فاطمة ما لا يقبله عاقل، ونحن نذكر كلام أبي الفرج الإصفهاني ثم نعلق عليه:... أعرضنا عن نقله لأنه لا يستحق الذكر.
154 وفي أعيان الشيعة (8: 387) ملخصا: السيدة فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام). أمها: قال المفيد وغيره أمها أم إسحاق بنت طلحة ابن عبد الله تيمية، وفي الإرشاد كانت فاطمة بنت الحسين (عليها السلام) تقوم الليل، وتصوم النهار، وكانت تشبه بالحور العين لجمالها. تزويجها من ابن عمها: مر في ترجمة الحسن بن الحسن أنه خطب إلى عمه الحسين (عليه السلام) وسأله أن يزوجه إحدى ابنتيه، وأن الرواية اختلفت في ذلك، فمنهم من قال إنه خيره بين فاطمة وسكينة فاستحيا فاختار له عمه فاطمة وقال: إنها أكثر شبها بأمه فاطمة الزهراء، ومنهم من قال إن الحسن اختار فاطمة. وإن الحسن بن الحسن خرج مع عمه الحسين إلى
155 العراق - كربلاء - ومعه زوجته فاطمة. فجاهد مع عمه يوم عاشوراء بكربلاء جهاد الأبطال وجرح جراحات بليغة، وغلب الظن أنه مات وقد عثر عليه بين القتلى جريحا، فحماه أسماء بن خارجة الفزاري لأنه ابن عم أمه وعالجه، وبعد مدة غير قصيرة عاد إلى المدينة، فكان الحسن المثنى جليلا رئيسا، فاضلا، ورعا، وكان وصي أبيه وولي صدقات جده الإمام علي بن أبي طالب أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو والد الحسن المثلث والحسنين من ذريته. والذي عليه الإمامية أن وصي أبي محمد الحسن (عليه السلام) هو الإمام أبو عبد الله الحسين (عليه السلام)، وللحسن بن الحسن قصص ذكرها السيد محسن الأمين في أعيانه (1) مفصلة أعرضنا عنها روما للاختصار. أما السيدة فاطمة فكانت مع السبايا إلى دمشق مع
(1) أعيان الشيعة 5: 44. 156 عماتها السيدة زينب وأم كلثوم، وأختها سكينة وغيرهن من آل الرسول، ولما ادخلن على يزيد، فصحن نساء يزيد وولولن بنات معاوية، فقالت فاطمة بنت الحسين (عليه السلام): أبنات رسول الله سبايا يا يزيد، فبكى الناس، وبكى أهل داره حتى علت الأصوات. وقال المفيد: ولما مات زوجها الحسن بن الحسن (رضي الله عنه)، ضربت زوجته فاطمة بنت الحسين (عليه السلام) على قبره فسطاطا وكانت تقوم الليل وتصوم النهار، وكانت تشبه بالحور العين لجمالها، فلما كان رأس السنة قالت لمواليها: إذا أظلم الليل فقوضوا هذا الفسطاط فلما أظلم الليل سمعت مناديا يقول هل وجدوا ما فقدوا، فأجابه آخر بل يئسوا فانقلبوا. وفي طبقات ابن سعد: فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب، وأمها أم إسحاق بنت طلحة بن عبيد الله، تزوجها ابن عمها الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب فولدت له عبد الله المحض، وإبراهيم،
157 وحسنا، وزينب ثم مات عنها، فخلف عليها عبد الله بن عمرو بن عثمان، فولدت له القاسم ومحمد، وهو الديباج سمي بذلك لجماله ورقيه فمات عنها، ولم تتزوج بعده، هذا ما يقوله ابن سعد نقلناه بالأمانة. وروى بإسناده أن عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس الفهري عامل يزيد بن عبد الملك على المدينة خطبها فأبت فألح عليها وهددها بجلد ولدها عبد الله بن الحسن المثنى في الادعاء عليه بالخمر، فشكت ذلك إلى يزيد بن عبد الملك فعزله وأدبه... في قصة طويلة لسنا بصددها. ودخل في فرية زواجها من عبد الله بن عمر بن عثمان بأحاديث ما أنزل الله بها من سلطان، وكان بطلها ابن بكار الزبيري، ومن حاك على منواله والوضاعين من رواة الحديث الحاقدين على أهل البيت بأقلامهم المسمومة المأجورة لبني أمية، وبني مروان ومن بعدهم للزبيريين، فسنذكر ما جرى عليها وعلى أختها في ترجمة السيدة سكينة بنت الإمام الحسين مفصلا.
158 وفاتها: في كتاب أعلام النساء المؤمنات، ذكر أن وفاة السيدة فاطمة بنت الإمام الحسين (عليه السلام) سنة 110 ه بمصر عن عمر بلغ 70 سنة، ودفنت بالدرب الأحمر، وقيل: خلف الدرب الأحمر مدفونة السيدة فاطمة، في زقاق يعرف بزقاق فاطمة النبوية، في مسجد جليل ومقام عظيم، وعليه المهابة والجلالة، ولم يحدثنا التاريخ عن سبب هجرتها إلى مصر مع بعض أبنائها، والله العالم. المصادر 1 - أعيان الشيعة 8: 387. 2 - أعلام الزركلي 5: 130. 3 - طبقات ابن سعد 5: 319. 4 - أعلام النساء المؤمنات: 499 - 515.
159 السيدة سكينة بنت الإمام الحسين (عليه السلام) في سطور جدها: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام). جدتها: السيدة فاطمة الزهراء، بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله). أبوها: الإمام الحسين الشهيد (عليه السلام). عمها: الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام). عماتها: العقيلة زينب، والسيدة أم كلثوم (عليهما السلام) (1). أمها: الرباب بنت امرئ القيس بن عدي القضاعي. إخوتها: الإمام السجاد زين العابدين، علي الأكبر شهيد كربلاء، وشقيقها الطفل عبد الله الرضيع. أختها وشقيقتها: فاطمة بنت الحسين.
(1) هؤلاء إخوة أبيها من السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، ولها أعمام وعمات من غير جدتها فاطمة الزهراء (عليها السلام). 160 اسمها: آمنة، وقيل أمينة، أو أميمة، أمها لقبتها بسكينة لسكونها وهدوئها. ولادتها: 42 ه. زوجها: عبد الله بن الإمام الحسن (عليه السلام). وفاتها: الخميس لخمس خلون من ربيع الأول سنة 117 ه = 735 م، ولها من العمر 75 سنة. وكانت ولادتها وإقامتها ووفاتها بالمدينة المنورة. السيدة سكينة العفيفة الطاهرة، والشريفة المطهرة، كانت سيدة نساء عصرها، أحسنهن أخلاقا، وأكثرهن زهدا وعبادة، ذات بيان وفصاحة، ولها السيرة الحسنة، والكرم الوافر، والعقل الراجح، تتصف بنبل الخصال، وجميل الفعال، وطيب الشمائل، يشهد بعبادتها وتهجدها أبوها الإمام الحسين (عليه السلام) بقوله أما سكينة فغالب عليها الاستغراق مع الله لما أراد الحسن بن الحسن بن عمها
161 يطلبها من عمه ثم اختار له أختها السيدة فاطمة. ولا غرو فإنها من بيت جبلوا على العبادة والتهجد يختلفون عن غيرهم من الناس، ومن هذا النهج هيامهم بالعبادة واتصالهم بالله سبحانه وتعالى، والانقطاع إليه، وهو من مستلزمات حياتهم، كما ذكرهم المؤرخون بوصف عبادتهم، وتهجدهم، وأدعيتهم وبكائهم وتلاوتهم لكتاب الله الحكيم، وقيامهم بالأسحار، فكل من ترجم لهم (عليهم السلام) أكد هذا الاستغراق مع الخالق الجليل والمولى القدير جل شأنه، ولم يذكر المؤرخون، وأهل السير والتراجم لغيرهم من الاستغراق في ذات الله ما ذكروه لهم صلوات الله عليهم. ولكثرة تهجدهم وخلوتهم بربهم، وتفرغهم لعبادته أنشأوا كنوزا من الأدعية عجز عن مجاراتها فطاحل الأدباء وافتخرت الطائفة بهذه الثروة الضخمة إلى اليوم، إذ لم يرد مثلها لغيرهم ولم يعرفها المسلمون لغيرهم من
162 الصحابة والتابعين وفطاحل العلماء والأدباء. كل هذا يدل على انقطاعهم إلى المولى سبحانه وتعالى والاستغراق في ملكوته، والهيام بحبه، والتزلف لديه. وقد أخذ عنهم هذا الاستغراق والانقطاع أبناءهم، فما في الآباء يرثه الأبناء، وقد ورثت السيدة سكينة هذه الخصال عن أبيها وجدها وهذا الاستغراق، كما شهد لها أبوها السبط بذلك: " أما سكينة فغالب عليها الاستغراق مع الله ". ولكن الأقلام المسمومة، والنفوس الخسيسة المأجورة حولت هذه المكارم إلى عكسها، هروبا من العار الذي غرق فيه آل أمية، وآل مروان، وآل الزبير، والفواحش المعشعشة في بيوتهم وبين نسائهم، " رمتني بدائها فانسلت ". إن أعداء أهل البيت الذين ورثوا البغضاء من بني أمية، وبني مروان، الذين سخروا بيت مال المسلمين
163 إلى التنكيل برسول المسلمين والطعن على آله وجعلوا من ذوي النفوس الوضيعة الحاقدة مخلب قط وأداة تخريب من المرتزقة الوضاعين والأقلام المسمومة المأجورة كأبي هريرة، وأبي الدرداء، والمغيرة بن شعبة، وسمرة بن جندب وغيرهم من الذين باعوا دينهم إن كان لهم دين إلى حكام بني أمية وبني مروان، وحاك على منوالهم الزبيريين، أمثال عبد الله بن الزبير، ومصعب بن الزبير، وابن أخيه الزبير بن بكار، والهيثم بن عدي الطائي الكوفي الكذاب، وصالح بن حسان، وأشعب الطامع وأضرابهم، وأصروا بكل عناد ولجاجة بتشويه معالم ومقام أهل البيت الطاهر بكل ما لهم من حول وقوة وشراء الضمائر الميتة، وحيث إنهم لم يتمكنوا من نسبة المفتريات والطامات إلى الذين وجبت العصمة فيهم من الأئمة الطاهرين الهداة الميامين، عمدوا إلى أولادهم وبناتهم فاختلقوا في حقهم كل شائنة وموبقة تخرجهم
164 عن الدين، لتجلب البسطاء من الناس للانضواء إليهم وإلى سلفهم، بكل وسائل الإرهاب والإرعاب والطمع بأموال القائمين على أمور زمانهم، وجاء من بعدهم وسار على خطاهم كالمدائني والخليع المستهتر صاحب الأغاني أبو الفرج الاصفهاني الأموي النسب والعقيدة بالضرب على طبولهم، وإشاعة التهم والبهت والفحشاء على أعراض آل رسول الله (صلى الله عليه وآله). فأكثر من الافتراء على أهل هذا البيت الطاهر، وشحنت مجامع الكذب بمروياته بحيث سادت البسطاء ومن لا تثبت له في النقل والتحقيق. وقد يحصل هناك من يحسب أن سعة العلم في الإكثار من الروايات الضعيفة من غير تثبت في النقل وصحة المصدر، فاختلط الحابل بالنابل، والصحيح بالسقيم، وديف السم في العسل، ثم جاء من بعدهم الكتاب والمؤرخون، لينقلوا ما كتبه سلفهم دون أي تحقيق أو
165 تمحيص يرددون ذلك كالببغاوات، مما زاد في الطين بل. غير أن الاستضاءة بنور العلم الصحيح، وتمحيص الحقائق كشف عن زيف وعوار تلك الأحاديث، المملوءة بالبهت والكذب والدس، وقد وضعوا هؤلاء الرجال على المحك وكشفوا كذبهم ولم يجعلوا لأحاديثهم قيمة في سوق الاعتبار فسدوا معرة أولئك الكذابين الدساسين وإخراجهم عن صفوف من يعتمد عليهم وعلى مروياتهم. وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يعلم بما يحدث بعده من دسائس الدجالين فحذر أمته منهم ومن مفترياتهم فقال (صلى الله عليه وآله): ستكثر علي القالة من بعدي، فمن كذب علي فليتبوأ مقعده من النار (1). وهناك أدلة وبراهين تثبت طهارة أهل البيت (عليهم السلام) لا سيما السيدة الزكية سكينة ابنة الإمام الحسين (عليه السلام)
(1) احتجاج الطبرسي: 247، في احتجاج الإمام الجواد. 166 فراجع كتاب (السيدة سكينة) للسيد عبد الرزاق المقرم، وكتاب (سكينة بنت الإمام الحسين (عليه السلام)) للأستاذ علي الدخيل، ط بيروت، وكتاب (أعلام النساء المؤمنات) للأستاذ محمد الحسون، وغيرها من المصادر المعتبرة، ليتضح لك واقع الأمر والحقيقة. أول من وضع الحديث: إن أول من وضع الأحاديث الشائنة في ابنة الإمام الحسين (عليه السلام) السيدة الطاهرة سكينة، مصعب الزبيري المتوفى سنة 236 ه في كتابه (نسب قريش) لينصرف المغنون والشعراء عن ابنتهم، سكينة بنت خالد بن مصعب ابن الزبير التي تجتمع مع عمر بن أبي ربيعة الشاعر الخليع والمغنيات يغنين لهم (1)، وزمر بها مرافقه في بغداد
(1) الأغاني 1: 67. 167 المدائني (1) المتوفى سنة 225، وزاد عليها الزبير بن بكار وابنه، وتلقاها المبرد المتوفى سنة 285 عن هؤلاء الوضاعين، وعنه أخذها تلميذه الزجاجي وغيره من دون تمحيص وتحقيق فأضلوا كثيرا من الكتاب والمؤرخين حتى رووها بلا إسناد موهمين أنها من المسلمات، ثم جاء من بعدهم أبو علي القالي تلميذ الزجاجي الأموي الفكرة والعقيدة، فسجل في أماليه ما تلقاه من أستاذه قصدا للحط من كرامة البيت العلوي (2) خصوصا وقد تقلب في نعمة الناصر عبد الرحمن الأموي في الأندلس الذي استدعاه من بغداد، فأكرم مثواه، وعزز منزلته، فألف وكتب (3) ما يروق للأمويين الذين نكل بهم
(1) الأغاني 11: 127. (2) سكينة بنت الحسين، للفكيكي: 15، حديث الشهر. (3) ترجمة القالي في مقدمة الأمالي / 3 شرح رسالة ابن زيدون بهامش لامية العجم 1: 11، ط مصر. 168 الهاشميون وبددوا ملكهم. وحديث ولادة بنت المستكفي الخليفة الأموي في الأندلس مشهورة، فإنها كتبت على تاجها: أنا والله أصلح للمعالي * وأمشي مشيتي وأتيه تيها وأمكن عاشقي من لثم ثغري * وأعطي قبلتي من يشتهيها (1) بالإضافة إلى ذلك نقول إن لفظ سكينة في رواية الزجاجي، ولفظ سكين في رواية أبي علي القالي في الأمالي (2) لا إشعار فيه على إرادة سكينة بنت الحسين (عليه السلام)، بل كان المقصود في شعر عمر بن أبي ربيعة هو (سكينة الزبيرية) فإن صاحب الأغاني يروي عن رجاله، إن سكينة بنت خالد بن مصعب بن الزبير، كانت تجتمع مع
(1) نفس المصدر. (2) ج 2: ص 305، ط دار الكتب العربية، بيروت. 169 عمر بن أبي ربيعة ومعها ابنتها [أمة المجيد] زوجة محمد ابن مصعب بن الزبير وجاريتان كانتا تغنيان عندهم يقال لإحداهن البغوم، وللأخرى أسماء (1)، وقد تزوج سكينة بنت خالد بن مصعب بكير بن عثمان بن عفان، فولدت له بنتا يقال لها أم عثمان تزوجها عبد الله العرجي (2). ويحدث ابن كثير: إن مصعب بن الزبير أولد سكينة وأمها فاطمة بنت عبد الله بن السائب (3). وإذا كان هذا حال سكينة بنت آل الزبير مع عمر بن أبي ربيعة والجواري المغنيات فمن القريب جدا أن يزحزح آل الزبير ومن سار على أثرهم من الرواة هذه الشائنة عن ابنتهم ويلصقوها بمن شابهتها في الاسم، خصوصا مع العداء المحتدم بينهم وبين العلويين وقد
(1) الأغاني 1: 67. (2) الأغاني 1: 153. (3) البداية والنهاية 8: 322. 170 عرفت فيما مر عليك أن روايات صاحب الأغاني في هذا الباب مروية عن الزبير بن بكار، وعمه مصعب بن الزبير، والمدائني والهيثم بن عدي الكوفي الكذاب بنص جماعة من علماء الرجال، وكذلك صالح بن حسان وأشعب الطامع، إلى غيرهم ممن يفتعل الحديث أو مجهول الحال، الذي لا يركن إليه. وحديث افتعال البيتين المنسوبة إلى الإمام الحسين (عليه السلام) هي سقطة أخرى باء بإثمها صاحب كتاب الأغاني، حيث لم تقنعه هاتيك السفاسف في خدش عواطف الخفرة فطفق يمس بكرامة أبيها المعصوم (عليه السلام) بما ينافي العصمة أو يصادم العظمة والحفاظ، فذكر في الرواية عن رجال مجاهيل لم يعرفهم علماء الرجال والتراجم، أن السيدة سكينة قالت: عتب عمي الحسن على أبي في أمي الرباب، فقال أبي الحسين رادا عليه (1):
(1) الأغاني 14: 157، ونسب قريش لمصعب الزبيري: 59. 171 لعمرك إنني لأحب دارا * تحل بها سكينة والرباب أحبهما وأبذل جل مالي * وليس لعاتب عندي عتاب وزاد ابن جرير الطبري في المنتخب من الذيل ضغثا على إبالة، فذيلها بثالث. وعلى فرض وقوع العتاب المزعوم، فسيد الشهداء أبر وأتقى من أن يجابه حجة الوقت وإمام عصره على الأمة أجمع بنظم البيتين. ومما لا يلتئم مع حفاظ المرء ووقاره المزري بشم الرواسي وعظمته المشتقة من النبوة، مدح حليلته وابنته بشعر يعلم بطبع الحال أنه ستسير به الركبان ثم يبث ذلك بين الناس، فتلوكه الأشداق حتى يغني به المغنون في منتديات البطر، ومجتمعات الفجور. وهذا البهت لم يكن بدعا من مزاعم ذوي النفوس
172 الخسيسة والباذلين أقلامهم لحكام الجور في زمانهم لحقد في نفوسهم أو طمعا في لعس فتات موائدهم والسحت من أموالهم. الفواجع التي شاهدتها: ثم أين السيدة سكينة من مجالس الأدب ومطاردة الشعر والحكم بين الشعراء وهي التي عاشت فاجعة الطف المروعة وشاهدت محنة أبيها وأعمامها وإخوتها وأهل بيتها وأصحاب أبيها في جهاد أعدائهم الذين أحاطوا بهم من كل جانب والذين بلغوا أكثر من ثلاثين ألف رجل مدججين بالسلاح الفتاك والحقد الأسود الدفين حتى قضوا عليهم، وشاهدتهم بأم عينها مجزرين عطاشى في ساحة الوغى، وتركتهم مطرحين على الثرى مسلوبين عراة بلا غسل ولا كفن ولا دفن، وهي لا تتجاوز الثانية عشر من عمرها الشريف.
173 وأدهى من ذلك مشاهدتها أخيها العليل مطروحا في خيمته لا حول له ولا قوة قد أنهكه المرض والنار تشتعل في خيمته كما سرت النار في باقي خيام بيت الرسالة فصارت العلويات المروعات والأطفال يركضون من خيمة إلى خيمة حتى فروا بأرواحهم إلى البيداء والنار تلاحقهم بعد ما أحرقت كل شئ في الخيام بعد السلب، وترى عماتها وأمها وأخواتها حائرات كما شاهدت عمتها العقيلة زينب التي شاطرت الإمام الحسين في محنته، وتحملت من بعده في تدبير اليتامى والأرامل. وقد أثرت مصيبة الرضيع تأثيرا عظيما فكل شئ كان يدور في خلدها إلا قتل عبد الله الرضيع فقد كانت تنتظر أن تستقبله، بعد أخذ أبيها الحسين (عليه السلام) إلى القوم ليسقيه وقد ارتوى، فإذا هو مذبوح من الوريد إلى الوريد بسهم حرملة لعنه الله. أذهل سكينة قتل أخيها والمصائب التي تحملتها طيلة
174 ذلك اليوم حتى أنها ما استطاعت أن تقوم لتوديع أبيها الحسين (عليه السلام) الوداع الأخير الذي لا لقاء بعده في الدنيا، حيث حفت به بنات الرسالة وكرائم الوحي يتصارخن في توديعه، فقد ظلت في مكانها واجمة، ولحظها أبوها وهي بهذا الحال فوقف على رأسها يصبرها وهو يقول: سيطول بعدي يا سكينة فاعلمي * منك البكاء إذا الحمام دهاني لا تحرقي قلبي بدمعك حسرة * ما دام مني الروح في جثماني فإذا قتلت فأنت أولى بالذي * تأتينه يا خيرة النسوان (1) وبعد مصرع أبيها الحسين (عليه السلام) ومجئ جواده إلى الخيام محمحما، وسرجه ملويا خرجت سكينة مولولة صارخة، فنادت: واقتيلاه، وا أبتاه، واحسناه،
(1) سكينة بنت الحسين للفكيكي: 123. 175 وا حسيناه، واغربتنا بعدك، فلما سمع باقي الحرم خرجن فنظرن الفرس، فجعلن يلطمن الخدود، ويصحن: وا محمداه (1). وحصلت السيدة سكينة على فرصة أخرى لتوديع أبيها (عليه السلام) والتزود منه، وذلك في الحادي عشر من المحرم بعد ما حملهم القوم أسرى يريدون بهم الكوفة، وقد جعلوا طريقهم على ساحة المعركة. ولما شاهدت سكينة جسد أبيها على الصعيد فألقت بنفسها عليه، تتزود من توديعه وتبثه ما اختلج في صدرها من المصائب. ولم يستطع أحد أن ينحيها عنه حتى اجتمع عليها عدة وجروها عنه بالقهر (2). ناهيك عن ما شاهدته وعاشته من فجائع الأسر وذل
(1) زينب الكبرى للشيخ جعفر النقدي: 109. (2) تظلم الزهراء: 224. 176 الموقف، والسير على الجمال في الصحراء من كربلاء إلى الكوفة ومن الكوفة إلى الشام، والمواقف الرهيبة التي وقفتها مع عماتها وأخواتها في مجلس ابن زياد، ومجلس يزيد لعنهم الله. هذا وصف بعض ما شاهدته السيدة سكينة من فجائع يوم عاشوراء وما بعده. فهل ترى أيها الأريب اللبيب بعد ما شاهدت هذه الفجائع أن تركن السيدة سكينة مجالس الأدب ونظم الشعر؟! وهي التي شهد بحقها حجة الله أنها غلب عليها الاستغراق مع الله، لا والله وألف كلا. وجاء في كتاب (السيدة سكينة) للسيد عبد الرزاق المقرم (الصفحات 63 - 66) ما يلي: والسيدة سكينة حضنتها الحجور الزاكية وتلقت من أبيها سيد الشهداء التعاليم الراقية والآداب الإلهية
177 ودرست القيم الإسلامية وجارت في المجاهدة والرياضة جدتها الصديقة وعمتها العقيلة حتى حازت أرقى مراتب العبادة التي يرضاها رب العالمين ومن هنا منحها الإمام الحجة الواقف على نفسيات البشر ومقادير أعمالهم أرقى صفة تليق بامرأة كاملة تفانت في الطاعة لله تعالى وهو (خيرة النساء). من هذا وذاك صحبها (أبي الضيم) إلى محل شهادته في جملة من انتخبهم الباري سبحانه دعاة لدينه فشاهدت بين تلك الثنايا والعقبات الآيات المنذرة بتدابير النفوس وتخاذل القوم عن نصر الهدى واجتماعهم على إزهاق نفس ريحانة الرسول (صلى الله عليه وآله) وإراقة (دمه الطاهر) وأنهم قادمون على عصبة لا ترقب فيهم إلا ولا ذمة فلم تعب ء بتلكم الأهوال التي يشيب لها فؤاد الطفل تسليما للقضاء وطاعة للرحمن عز شأنه. وشاهدت أولئك المناجيد مضرجين بالدماء مقطعين
178 الأوصال وبينهم علة الكائنات ومدار الموجودات أبو عبد الله (الحسين) (عليه السلام) وقد مثلوا فيه بكل مثلة: ووجهوا نحو في الحرب أربعة * السهم والسيف والخطي والحجرا فقابلت تلكم الفوادح برباطة جأش وهدوء بال ولولا انخراطها في الاستغراق مع الله تعالى وتفانيها في الطاعة له كما أخبر أبوها الحجة (عليه السلام) بقوله: " الغالب عليها الاستغراق مع الله " لانهد قواها وساخ صبرها وتبلبل فكرها وفقدت مشاعرها ولكنها بالرغم من ذلك لم يرعها ذل الأسر ولا شماتة العدو وتراكم الرزايا وأنين الأطفال وبكاء الفواقد فلم يصدر عنها ما لا يتفق مع الخضوع للأصلح المرضي لله تعالى. ولو كان (أبي الضيم) يعلم بضعف عزمها وتفكك صبرها لما رافقها إلى محل تضحيته لئلا يستبب من تلكم الأهوال الوقوع في خطر عظيم.
179 إن ذلك المشهد الدامي الذي لم يمر على نبي أو وصي وقابله شهيد الدين بصبر تعجبت منه ملائكة السماوات كما في نص زيارته ترك الجفون قرحى والعيون عبرى والقلوب حري إلى يوم الانقضاء على حد تعبير الإمام أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، ويقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبدا، والسيدة سكينة أبصرت كل ما جرى في ذلك اليوم وسمعت صرخة أبيها المظلوم واستغاثته وشاهدت حرائر النبوة ومخدرات الإمامة يتراكضن في تلك البيداء المقفرة حين شبت النار في مضاربهم ولا محامي يلذن به إلا زين العابدين وقد أنهكته العلة. فلو أن أيوبا رأى بعض ما رأى * لقال بلى هذا العظيمة بلواه فلم يتضعضع صبرها ولا وهى تسليمها للقضاء الجاري ولم يتحدث المؤرخون عما ينافي ثباتها
180 على الخطوب في الكوفة والشام مع ما لاقته من شماتة ابن مرجانة وابن ميسون ونكته بالعود رأس الحسين وأهل المجلس يشاهدون الأنوار تتصاعد من أسارير جبهته والروائح العطرة تفوح منه وهو يرمق حرمه بعينيه ولما أمر يزيد بقتل رسول ملك الروم لأنه أنكر عليه فعلته نطق الرأس المقدس بصوت جهوري (لا حول ولا قوة إلا بالله). فأخذت الناس الحيرة وراح الرجل يحدث جليسه بالضلال الذي عمهم وتحدثت أندية الشام بهذا الحادث الذي لم يسمع بمثله قبل يوم الحسين ولما رجعت السيدة الطاهرة سكينة إلى المدينة أقامت في بيت أبيها أبي عبد الله مع نساء قومها لابسات السواد يبكين الحسين والبهاليل من آل عبد المطلب ليل نهار. ويحدثنا أبو عبد الله الصادق (عليه السلام) عن حزن الفاطميات بقوله: ما اكتحلت هاشمية ولا اختضبت
181 ولا رؤي الدخان في بيت هاشمي خمس حجج إلى أن قتل عبيد الله بن زياد. عاشت السيدة سكينة في بيت أخيها السجاد (عليه السلام) الذي لم يزل ليله ونهاره باكي العين على سيد شباب أهل الجنة وكان جوابه لمن يطلب منه التخفيف لئلا تذهب عيناه: إني كلما نظرت إلى عماتي وإخواني إلا تذكرت فرارهن من خيمة إلى خيمة وكان هذا دأبه في البكاء على (قتيل العبرة) إلى أن استشهد صلوات الله عليه سنة 95 وإذا كان عميد البيت لا يفتر عن النياحة مدة حياته فما ظنك بمن حواه البيت من النساء ومن شأنهن الرقة والجزع والسيدة سكينة تأوي هذا البيت المفعم بالحزن والشجاء وفي مسامعها نشيج أخيها الحجة وتبصر تساقط دموعه على خديه فتشاركه في الزفرة وتجاوبه بالعبرة ولا تبارح فاكرتها الهياكل المضرجة بالدماء وقد شاهدتهم صرعى مقطعين الأوصال.
182 قد غير الطعن منهم كل جارحة * إلا المكارم في أمن من الغير فهل تبقى لها لفتة إلى لوازم الحياة فضلا عن عقد مجالس الأنس والفرح بلى كانت السيدة العفيفة مدة حياة أخيها الإمام وبعده باكية نادبة على أبيها المظلوم الممنوع من الورود وأبو عبد الله حياة الكون وري الوجود. [والماء يصدر عنه الوحش ريانا] ولكن آل الزبير تحدثوا وافتعلوا وأكثروا * (فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون) *. شعرها: في هذا الفصل يكذب ما نسب للسيدة سكينة (عليها السلام) من مجالس الشعراء والتحكيم بينهم، فلو كانت بالمستوى الشعري الذي زعموا لملأت الدنيا رثاء لأبيها الحسين (عليه السلام)، فقد ذكروا أن الخنساء تقول البيت والبيتين
183 وبعد مقتل أخويها بلغت في رثائهما الغاية. وأبيات الرثاء الذي ذكرها لها الزجاج (وعليه العهدة) لم نجد غيرها مع تتبعنا، وهو ينفي أن يكون قائلها بمستوى من يرتضيه رواة الشعر حكما فيما بينهم. ولكن اجتمعت عداوة الزبيري، وحقد الأموي والمرواني على الافتراء عليها، المشتكى إلى الله سبحانه وتعالى. وهذه كل الأبيات التي رثت بها أبيها سيد الشهداء: لا تعذليه فهم قاطع طرقه * فعينه بدموع ذرق غدقه إن الحسين غداة الطف يرشقه * ريب المنون فما أن يخطئ الحدقه بكف شر عباد الله كلهم * نسل البغايا وجيش المرق الفسقه يا أمة السوء هاتوا ما احتجاجكم * غدا وجلكم بالسيف قد صفقه
184 الويل حل بكم إلا بمن لحقه * صيرتموه لأرماح العدا درقه يا عين فاحتفلي طول الحياة دما * لا تبك ولدا ولا أهلا ولا رفقه لكن على ابن رسول الله فاسكبي * قيحا ودما وفي إثريهما العلقة (1) زواجها: من الأباطيل التي طبل لها رواة السوء، والمرتزقة من حثالات الأمة نسبة تعدد الأزواج للسيدة سكينة، فقد خبطوا في ذلك خبط عشواء، وغاب عنهم مقياس العلم والأخلاق والأمانة، فكالوا لأهل البيت الطاهرين وأتباعهم ومحبيهم شتى أنواع البهت والتهم والافتراءات، كل ذلك بسبب ولائهم لأهل البيت الذين أذهب الله عنهم
(1) أمالي الزجاج: 169. 185 الرجس وطهرهم تطهيرا. لقد كان أمر هذا التناقض في الروايات والأخبار يهون لو أنه توزع بين مراجع شتى مختلفة يتفرد كل منها بإحدى الروايات، فيكون أمام المحقق أن يختار أقدمها، أو أدعاها إلى الثقة، على هدى القواعد المقررة للترجيح والمقابلة، والتعديل والتجريح، ولكن نجد كل الروايات التي أمامنا متناقضة، تجتمع في المصدر الواحد دون محاولة من مؤلفها للفصل بينها، أو حسم الخلاف فيها، وحتى دون كلمة تؤذن بأنه يحس طبعا بهذا الخلاف. في صفحة واحدة من كتاب الأغاني مثلا نجد أربع روايات متناقضة، متضاربة، سردها أبو الفرج متتابعة دون تمحيص ثم لا شئ أكثر من هذا السرد، وهذا يدل على كذب الراوي الأول والرواة الذين جاؤوا بعده، وليس له تفسير إلا الحقد الأعمى واتباع السلطان. أما الذي عليه الشيعة أتباع مذهب أهل البيت، فهو أن
186 السيدة سكينة لم تتزوج غير ابن عمها عبد الله بن الإمام الحسن (عليه السلام) فقط وفقط، وهناك روايات تقول ثم تزوجت بمصعب بن الزبير. ويوافق الشيعة على زواجها بعبد الله بن الحسن (عليه السلام) غيرهم من أهل السنة، ويروى أن عبد الله بن الحسن هو الذي قطعت أصابعه لما كان على صدر عمه الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء مستجيرا به (1). وفاتها ومدفنها: في طبقات ابن سعد، وفي تذكرة الخواص: توفيت بالمدينة وعليها خالد بن عبد الله بن الحارث بن الحكم
(1) إعلام الورى: 127، إسعاف الراغبين: 210، رياض الجنان: 51، مقتل الحسين (عليه السلام) للمقرم: 33، سكينة بنت الحسين (عليه السلام): 72، أدب الطف 1: 162، سفينة البحار 1: 638. 187 واليا، [ودفنت بالبقيع] كما في شذرات الذهب، نقلها السيد محسن الأمين في أعيانه، كانت وفاتها بالمدينة، الخميس لخمس خلون من شهر ربيع الأول من سنة 117 ه. أما القبر المنسوب إليها بدمشق في مقبرة الباب الصغير فهو غير صحيح، لإجماع أهل التاريخ أنها دفنت بالمدينة، ويوجد على القبر المنسوب إليها بدمشق، صندوق من الخشب كتبت عليه آية الكرسي بخط كوفي مشجر رأيته (1) وأخبرني الثقة الشيخ عباس القمي النجفي الذي هو ماهر في قراءة الخطوط الكوفية بدمشق في رجب أو شعبان من سنة 1356 ه، أن الاسم المكتوب بآخر الكتابة التي على الصندوق هو (سكينة بنت الملك) وهذا بلا شك ولا ريب، فالقبر إذا لإحدى بنات الملوك المسماة سكينة.
(1) والقول للسيد الأمين في أعيانه 3: 492. 188 إلى هنا أكتفي بترجمة حياة السيدة سكينة ورد العاديات عنها من بهت الكذابين وروايات الحاقدين والذين يريدون المساس بكرامة آل البيت وكذلك عن أختها المظلومة السيدة فاطمة بنت الحسين (عليه السلام). المصادر 1 - أعيان الشيعة 3: 491 و 7: 274. 2 - أعلام النساء المؤمنات: 429. 3 - احتجاج الطبرسي: 247. 4 - الأغاني 1: 67 و 153. 5 - الأعلام للزركلي 3: 106. 6 - إعلام الورى: 127. 7 - إسعاف الراغبين: 210. 8 - سفينة البحار 1: 638.
189 9 - مقتل الحسين للمقرم: 33. 10 - أدب الطف 1: 162. 11 - سكينة بنت الحسين - الفكيكي: 15. 12 - البداية والنهاية 8: 322. 13 - شرح رسالة ابن زيدون. 14 - أمالي الزجاج: 169.
190 الفصل الخامس السيدة فاطمة المعصومة السيدة فاطمة في سطور: السيدة فاطمة بنت الإمام موسى بن جعفر الصادق إلى أن ينتهي نسبها إلى الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام). أمها أم ولد يقال لها: سكن النوبية، وقيل: خيزران المرسية، وقيل: نجمة، وقيل: صفر، وقيل: أروى، وكنيتها أم البنين، ولما ولدت الإمام الرضا (عليه السلام) سميت بالطاهرة، إذا هي شقيقة الإمام الرضا (عليه السلام) أبا وأما. ولدت في المدينة المنورة سنة 179 ه ويروى أنها ولدت سنة 183 ه والظاهر عدم دقة التاريخ الثاني حيث
191 أن سنة 183 ه كانت شهادة أبيها الإمام الكاظم في بغداد وفيها كان (عليه السلام) رهين سجون الظالمين. رضعت من ثدي الإيمان، ونشأت وترعرعت في أحضان العفة والطهارة، تحت رعاية أخيها الإمام الرضا (عليه السلام)، لأن أباها الإمام الكاظم (عليه السلام) أشخص إلى بغداد وسجن فيها بأمر الرشيد العباسي لذلك تكفل أخوها الإمام الرضا (عليه السلام) رعايتها ورعاية أخواتها وكانت أصغرهن، ورعاية بقية العلويين الذين كان الإمام الكاظم (عليه السلام) قائم برعايتهم. هذه العقيلة هي من الدوحة العلوية الهاشمية الطاهرة النقية، ومن حفيدات الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) ومن العالمات المحدثات، اللواتي اختصهن الله سبحانه وتعالى بملكة العقل والرشاد والإيمان والثبات، والفداء والتضحية، والعفة والطهارة، والابتعاد عن عوامل الذل والخذلان، والخوف والاستسلام.
192 تعرف هذه السيدة بالمحدثة، والعابدة، والمقدامة، وكريمة أهل البيت (عليهم السلام)، وفي غاية الورع والزهد والتقوى، والانقطاع إلى الله سبحانه وتعالى. كيف لا؟ وأبوها الإمام الكاظم (عليه السلام) العبد الصالح، والحكيم الزاهد، صاحب الكرامات، المعروف بباب الحوائج، كاظم الغيظ والعافي عن الناس بحلمه. روايتها للحديث: جاء في كتاب النساء المؤمنات (ص 577 - 579): كانت السيدة فاطمة الكبرى بنت الإمام الكاظم (عليه السلام) عالمة محدثة راوية، حدثت عن آبائها الطاهرين (عليهم السلام)، وحدث عنها جماعة من أرباب العلم والحديث، وأثبت لها أصحاب السنن والآثار روايات ثابتة وصحيحة من الفريقين الخاصة والعامة، فذكروا أحاديثها في مرتبة الصحاح الجديرة بالقبول والاعتماد.
193 روى الحافظ شمس الدين محمد بن محمد الجزري الشافعي المتوفى سنة 813 ه، بسنده عن بكر بن أحمد القصري، عن فاطمة بنت علي بن موسى الرضا، عن فاطمة وزينب وأم كلثوم بنات موسى بن جعفر، قلن حدثتنا فاطمة بنت جعفر بن محمد الصادق، حدثتني فاطمة بنت محمد بن علي، حدثتني فاطمة بنت علي بن الحسين، حدثتني فاطمة وسكينة ابنتا الحسين بن علي، عن أم كلثوم بنت فاطمة بنت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ورضي عنها قالت: " أنستيم قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوم غدير خم: من كنت مولاه فعلي مولاه، وقوله (صلى الله عليه وسلم): أنت مني بمنزلة هارون من موسى (عليهما السلام) ". وبسنده عن بكر بن أحنف قال: حدثتنا فاطمة بنت علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، قالت: حدثتني فاطمة وزينب وأم كلثوم بنات موسى بن جعفر (عليهم السلام)، قلن:
194 حدثتنا فاطمة بنت جعفر [الصادق] بن محمد (عليهما السلام)، قالت: حدثتني فاطمة بنت محمد [الباقر] بن علي (عليهما السلام)، قالت: حدثتني فاطمة بنت علي بن الحسين (عليهما السلام)، قالت: حدثتني فاطمة وسكينة ابنتا الحسين بن علي (عليهما السلام)، عن أم كلثوم بنت علي (عليه السلام)، عن فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) قالت: " سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: لما أسري بي إلى السماء دخلت الجنة فإذا أنا بقصر من درة بيضاء مجوفة، وعليها باب مكلل بالدر والياقوت، وعلى الباب ستر، فرفعت رأسي فإذا مكتوب على الباب: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي ولي الله، وإذا مكتوب على الستر: بخ بخ من مثل شيعة علي. فدخلته فإذا أنا بقصر من عقيق أحمر مجوف وعليه باب من فضة مكلل بالزبرجد الأخضر، وإذا على الباب ستر فرفعت رأسي فإذا مكتوب على الباب: محمد
195 رسول الله، علي وصي المصطفى، وإذا على الستر مكتوب: بشر شيعة علي بطيب المولد. فدخلته فإذا أنا بقصر من زمرد أخضر مجوف لم أر أحسن منه، وعليه باب من ياقوت حمراء مكللة باللؤلؤ، وعلى الباب ستر فرفعت رأسي فإذا مكتوب على الستر، شيعة علي هم الفائزون. فقلت: حبيبي جبرئيل: لمن هذا؟ فقال: يا محمد لابن عمك ووصيك علي بن أبي طالب (عليه السلام)، يحشر الناس كلهم يوم القيامة حفاة عراة إلا شيعة علي، ويدعى الناس بأسماء أمهاتهم ما خلا شيعة علي (عليه السلام) فإنهم يدعون بأسماء آبائهم. فقلت: حبيبي جبرئيل، وكيف ذاك؟ قال: لأنهم أحبوا عليا فطاب مولدهم ". وروى الصدوق في الأمالي عن أحمد بن الحسين المعروف بأبي علي بن عبد ربه، قال: حدثنا الحسن بن
196 علي السكري، قال: حدثنا محمد بن زكريا الجوهري، قال: حدثنا العباس بن بكار، قال: حدثني الحسن بن يزيد، عن فاطمة بنت موسى، عن عمر بن علي بن الحسين، عن فاطمة بنت الحسين (عليه السلام)، عن أسماء بنت أبي بكر، عن صفية بنت عبد المطلب، قالت: لما سقط الحسين (عليه السلام) من بطن أمه وكنت وليتها قال النبي (صلى الله عليه وآله): " يا عمة هلمي إلي ابني "، فقلت: يا رسول الله، إنما لم ننظفه بعد، فقال (صلى الله عليه وآله): " يا عمة أنت تنظفيه؟! إن الله تبارك وتعالى قد نظفه وطهره ". أحوال السيدة فاطمة: وجاء في موسوعة المصطفى والعترة (1): الولادة والوفاة: نقل عن كتاب (نزهة الأبرار في نسب أولاد الأئمة
(1) الجزء 11: 27 - 31. 197 الأطهار) وكتاب (لواقح الأنوار في طبقات الأخيار): أن ولادة فاطمة بنت موسى بن جعفر (عليها السلام) في المدينة المنورة غرة ذي القعدة الحرام سنة 183 ه بعد الهجرة النبوية، وتوفيت في العاشر من ربيع الثاني في سنة إحدى ومائتين في بلدة قم. وفي رواية: أن ولادتها كانت سنة 179 ه. وهو الأصح. والظاهر عدم دقة تاريخ الولادة، حيث إن سنة 183 ه هي سنة شهادة الإمام موسى الكاظم (عليه السلام)، وقد كان فيها رهين سجون الظالمين في بغداد. في سبب خروجها من المدينة ووفاتها: قال الحسن بن محمد القمي: أخبرني مشايخ قم عن آبائهم: أنه لما أخرج المأمون الرضا (عليه السلام) من المدينة إلى مرو لولاية العهد في سنة 200 من الهجرة، خرجت فاطمة أخته تقصده في سنة 201 ه، فلما وصلت إلى
198 ساوة مرضت، فسألت: كم بينها وبين قم؟ قالوا: عشرة فراسخ، فقالت: احملوني إليها، فحملوها إلى قم، وأنزلوها في بيت موسى بن خزرج بن سعد الأشعري. قال: وفي أصح الروايات أنه لما وصل خبر وصولها إلى قم، استقبلها أشراف قم، وتقدمهم موسى بن خزرج، فلما وصل إليها أخذ بزمام ناقتها وجرها إلى منزله، وكانت في داره سبعة عشر يوما، ثم توفيت رضوان الله عليها، فأمر موسى بتغسيلها وتكفينها وصلى عليها ودفنها في أرض كانت له، وهي الآن روضتها، وبنى عليها سقيفة من البواري، إلى أن بنت زينب بنت محمد بن علي الجواد (عليه السلام) عليها قبة. وروى الحسن بن محمد القمي، بإسناده عن محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد، أنه لما توفيت فاطمة رضوان الله عليها سنة 201 ه وغسلت وكفنت، حملوها إلى مقبرة بابلان، ووضعوها على سرداب حفر لها، فاختلف
199 آل سعد في من ينزلها إلى السرداب، ثم اتفقوا على خادم لهم صالح كبير السن يقال له قادر، فلما بعثوا إليه رأوا راكبين مقبلين من جانب الرملة وعليهما اللثام، فلما قربا من الجنازة نزلا وصليا عليها، ثم نزلا السرداب وأنزلا الجنازة ودفناها فيه، ثم خرجا ولم يكلما أحدا وركبا وذهبا ولم يدر أحد من هما. وقال: المحراب الذي كانت فاطمة رضوان الله عليها تصلي فيه موجود إلى الآن في دار موسى بن خزرج ويزوره الناس. قال المؤلف: ولا يزال هذا المحراب إلى يومنا هذا يؤمه الناس للصلاة والدعاء والتبرك، وهو الآن مسجد عامر في شارع جهار مردان بقم المقدسة، وقد جددت عمارته أخيرا بشكل يناسب مقام السيدة فاطمة المعصومة رضوان الله عليها. وقد زرت حجرتها ومحرابها عدة مرات.
200 مشهدها رضوان الله عليها: يعد مشهد السيدة فاطمة المعصومة رضوان الله عليها في مدينة قم اليوم من المشاهد المشهورة في عالمنا الإسلامي، وهو مبني على طراز إسلامي رائع، ويقصده محبو أهل البيت (عليهم السلام) من مختلف ديار الإسلام للزيارة والتوسل والدعاء. وببركة السيدة فاطمة المعصومة رضوان الله عليها تعج المدينة المقدسة قم بأعداد غفيرة من طلبة العلم، يختلفون إلى عشرات المدارس الدينية وفي مراحل مختلفة من أقطار شتى، فهي اليوم جامعة علمية دينية يتخرج منها آلاف الطلبة كل عام، حتى أصبحت مدينة قم مدينة العلم والاجتهاد. فضل زيارتها رضوان الله عليها: 1 - روى ابن قولويه والشيخ الصدوق بالإسناد عن سعد بن سعد، قال: سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن
201 زيارة فاطمة بنت موسى بن جعفر (عليه السلام)، فقال: من زارها فله الجنة. 2 - وروى ابن قولويه بالإسناد عن العمركي، عمن ذكره، عن ابن الرضا (عليه السلام)، قال: من زار قبر عمتي بقم فله الجنة. 3 - عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن سعد، عن علي ابن موسى الرضا (عليه السلام)، قال: يا سعد، عندكم لنا قبر. قلت له: جعلت فداك، قبر فاطمة بنت موسى (عليه السلام). قال: نعم، من زارها عارفا بحقها فله الجنة. 4 - روى الحسن بن محمد القمي عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)، قال: إن لله حرما وهو مكة، وإن للرسول (صلى الله عليه وآله) حرما وهو المدينة، وإن لأمير المؤمنين (عليه السلام) حرما وهو الكوفة، وإن لنا حرما وهو بلدة قم، وستدفن فيها امرأة من أولادي تسمى فاطمة، فمن زارها وجبت له الجنة.
202 المدفونات في مشهدها: قال الحسن بن محمد القمي: ثم ماتت أم محمد بنت موسى بن محمد بن علي الرضا (عليه السلام) فدفنوها في جنب فاطمة (عليها السلام)، ثم توفيت ميمونة أختها فدفنوها هناك أيضا، وبنوا عليهما قبة متصلة بقبة فاطمة (عليها السلام). وفي هاتين القبتين ستة قبور، هي: في القبة الأولى قبر السيدة فاطمة بنت موسى بن جعفر (عليه السلام)، وقبر أم محمد بنت موسى أخت محمد بن موسى (عليه السلام)، وقبر أم إسحاق جارية محمد بن موسى. وفي القبة الثانية قبر أم حبيب جارية أبي علي محمد ابن أحمد بن موسى بن محمد بن الرضا (عليه السلام)، وهي أم، أم كلثوم بنت محمد، وقبر أم القاسم بنت علي الكوكبي، وقبر ميمونة بنت موسى أخت محمد بن موسى (عليه السلام). سيأتي تفصيل ذلك في المجلد الحادي عشر من موسوعة المصطفى والعترة إن شاء الله تعالى.
203 كراماتها: وجاء في كتاب أعلام النساء المؤمنات (ص 583): للسيدة فاطمة المعصومة سلام الله عليها كرامات كثيرة مدونة في الكتب، ويتناقلها العلماء والأدباء في محافلهم ومجالسهم، نذكر بعضها: قال الفقيه المحدث الميرزا حسين بن الشيخ محمد تقي النوري الطبرسي المتوفى سنة 1320 ه: ومن آيات الله العجيبة التي تطهر القلوب عن رجز الشياطين: إنه في أيام مجاورتنا في بلدة الكاظمين (عليهما السلام) كان رجل نصراني ببغداد يسمى يعقوب عرض له مرض الاستسقاء، فرجع إلى الأطباء فلم ينفعه علاجهم، واشتد به المرض وصار نحيفا ضعيفا إلى أن عجز عن المشي، قال المريض: وكنت أسأل الله تعالى مكررا الشفاء أو الموت، إلى أن رأيت ليلة في المنام - وكان ذلك في حدود الثمانين بعد المائتين والألف هجرية وكنت نائما
204 على السرير - رأيت سيدا جليلا نورانيا طويلا حضر عندي فهز السرير، وقال: إن أردت الشفاء فالشرط بيني وبينك أن تدخل بلدة الكاظمين (عليهما السلام) وتزور، فإنك تبرأ من هذا المرض، وانتبهت من النوم وقصصت رؤياي على أمي، فقالت: هذا من الشيطان وأتت بالصليب والزنار وعلقتهما علي. ونمت ثانيا فرأيت امرأة منقبة عليها إزارها فهزت السرير وقالت: قم فقد طلع الفجر، ألم يشترط معك أبي أن تزوره فيشفيك؟ فقلت: ومن أبوك؟ قالت: الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام)، فقلت: ومن أنت؟ قالت: أنا المعصومة أخت الرضا (عليه السلام). فانتبهت متحيرا في أمري ما أصنع، وأين أذهب فوقع في قلبي أن أذهب إلى بيت جارنا السيد الراضي البغدادي الساكن في محلة الرواق منه، فمشيت إليه فلما دققت الباب نادى من أنت؟ ... إلى آخر ما ذكر في كتاب أعلام النساء المؤمنات: 577.
205 كرامة مشتركة بين الإمام الرضا (عليه السلام) وأخته فاطمة المعصومة (عليها السلام): وجاء في كتاب ذكرياتي للمؤلف (2: 109): قال المؤلف: في صباح الأربعاء 8 صفر من سنة 1406 ه زرت الخطيب السيد محمد كاظم القزويني في داره بقم، وقدم لي بسكويتا وحلوى وقال: كل، إن لهذه الحلوى قصة ظريفة تتصل بكرامة من كرامات الإمام أبي الحسن الرضا وأخته الطاهرة فاطمة المعصومة (عليها السلام). ثم أردف قائلا: زارني اليوم شابان وطلبا مني إجراء عقد لزواجهما، وتبلغ الشابة عشرين سنة من العمر وقالت: أحدثك بقصتي. إني كنت مشلولة شللا كاملا ولا أستطيع القيام ولا حتى الزحف لقضاء حاجاتي الضرورية، وقد راجعت معظم الأطباء المتخصصين فلم ينفعني علاجهم حتى أظهروا عجزهم عن شفائي، وبعد اليأس من علاج الأطباء التجأت إلى حرم سيدتي الطاهرة فاطمة بنت
206 الإمام موسى بن جعفر المعصومة (عليهما السلام) - بقم - متوسلة بها ومتشفعة إلى الله تعالى وباكية، وقد ربطت نفسي في شباك ضريحها الطاهر متلجئة وداخلة عليها وطالبة من الله القدير أن يمن علي بشفائي بشفاعتها وجاهها عند الله ورسوله مما أنا فيه من الشلل، وفي منتصف الليل، وبينما أنا نائمة عندها ومربوطة بضريحها المطهر، رأيتها فيما يرى النائم قائلة لي أنا شفيت نصفك العلوي، وشفاء النصف الثاني عند أخي الإمام أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، فقمت من النوم ولا أزال مربوطة بالشباك وإذا بي سالمة النصف الأعلى، وبقي النصف الثاني الأسفل لا يزال كما هو مشلول... لا تتصور عمق الشعور بالفرح الذي غمرني عندما لمست نصفي الأعلى سالما معافى كأن الله تعالى من علي بعمر جديد وأعادني إلى الحياة بعد الموت المحقق. وفي اليوم التالي حزمت أمتعتي ومعي بعض أهلي
207 وقصدنا حرم الإمام أبي الحسن الرضا (عليه السلام) بخراسان ولما وصلت إلى الصحن نقلت إلى الحرم الشريف على الدراجة المخصصة للعجزة والمشلولين من أمثالي، وربطت نفسي بشباك الضريح المطهر، وكلي ثقة واطمئنان بشفائي وخروجي من الحرم سالمة أمشي على رجلي، وفعلا لم يطل بي المقام حتى خرجت من عند الإمام وحرمه المطهر سالمة معافاة أمشي على رجلين سالمتين صحيحتين كما يمشي الأصحاء. وقد خطبني هذا الشاب من أهلي ليتزوجني وليتبرك بهذه الكرامة والمعجزة، وأنا موافقة على الزواج منه، فأرجو أن تعقد له علي... انتهت القصة. أقول: إن الله تبارك وتعالى من علينا بالتوحيد والإسلام، وبرسوله الكريم وأهل بيته الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، رحمة لنا وكفارة لذنوبنا، وإن فضائلهم وكراماتهم لا تعد ولا تحصى، والشواهد على
208 ذلك كثيرة وكثيرة جدا لمسناها لمس اليد، وهم أرأف بنا من آبائنا وأمهاتنا. ولكننا نحن المقصرون في أداء حقوقهم علينا، ولا نعرف قدرهم ومكانتهم وشرفهم عند الله تعالى. اقرأ زيارة الجامعة الكبيرة المنسوبة للإمام الهادي (عليه السلام) وتمعن في كلماتها لتلمس الحقيقة. أسأل الله العلي القدير بحقهم أن لا يحرمنا عطفهم وشفاعتهم، وأن لا يفرق بيننا وبينهم طرفة عين أبدا في الدنيا والآخرة، إنه سميع مجيب. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين. كرامة لأبي الحسن الرضا (عليه السلام): في ربيع سنة 1417 ذهبت ومعي هيئة إغاثة اللاجئين العراقيين إلى الأهوار المتاخمة للحدود الإيرانية العراقية، لتفقد شؤون العراقيين اللاجئين والهاربين
209 بأرواحهم من جحيم صدام، وعند عودتنا إلى قم وفي الطريق انقلبت سيارتنا وتحطمت وخرجنا منها بأعجوبة سالمين إلا من بعض الرضوض وقد أصابني من جراء ذلك انزلاق في فقرات ظهري لازمت على إثرها الفراش مدة من لزمن ثم تماثلت للشفاء تدريجيا ولله الحمد، ولكن المرض لم يبارحني كليا ويعود علي بين الفينة والفينة وأعالجه ويسكن الألم. وفي سنة 1419 استفحل المرض بحيث جعلني طريح الفراش ولا أستطيع النهوض إلا بصعوبة، ودخلت المستشفى في طهران، وبعد إجراء الفحوصات والتحاليل أجمع الأخصائيون على وجوب إجراء عملية جراحية لفقرات ظهري، ولا مناص منه، وقد امتنعت من ذلك، واتصل بي أخي عبد الصاحب من لندن ودعاني للمعالجة فيها فأجبته إني لا أطلب الشفاء من لندن. وبعد اليأس اتجهت إلى حرم الإمام الرضا (عليه السلام) قاصدا ومتوسلا به إلى الله تعالى في شفائي، وخاطبته بلسان حالي، وقلت:
210 إني من مواليكم والتابعين لكم ومن خدامكم الذي قضى عمره يلثم أعتابكم فهل تتركونه صريع المرض ورهين الفراش؟ فإني لا أريد إجراء عملية جراحية في مستشفيات إيران ولا الذهاب إلى لندن، قلت كل ذلك متوسلا بكل جوارحي ومتشفعا به إلى الله سبحانه وتعالى، ثم رجعت إلى محل سكناي في دار هجرتي في قم المقدسة وبعد أسبوع أرشدني أحد أصدقائي العراقيين إلى رجل يعالج مرضاه بالتمرين الرياضي فقط وحصل له الشفاء بواسطته، ويسكن ضواحي طهران - منطقة (فرديس) - واسمه (محمد فتحي) قصدته مع بعض أولادي ولما فحصني وشاهد الأشعة قال إن شاء الله أعالجك وتشفى خلال ستة أشهر دون أي دواء أو عملية جراحية، وفعلا راجعته عدة مرات خلال ثلاثة أشهر وبعد إجراء بعض التمرينات تماثلت للشفاء تدريجيا خلال السنة الأولى بنسبة 80 %، والحمد لله وهذا من بركات الإمام الرضا وأخته السيدة المعصومة سلام الله
211 عليهم، وبقي آثار الشيخوخة وهذا داء لا دواء له، والحمد لله. كرامة للسيدة معصومة (عليها السلام): زارني السيد عدنان الحسيني ليلة عيد الفطر المبارك من سنة 1421 ه وحدثني عن شخص حدثه بهذه الكرامة، للسيدة معصومة بواسطة المرحوم العلامة السيد المرعشي النجفي (قدس سره) بما مضمونه: كان سيد عراقي يملك مبلغ مئة ألف تومان يتاجر بها يشتري بعض البضائع ويذهب بها إلى بعض القرى لبيعها ويتكسب بها لمعيشته وعياله، وقد نجح في تجارته، ولما شاهد أحد أصدقائه نجاح تجارته أعطاه مبلغ خمسين ألف تومان مضاربا في تجارته. وبعد فترة خسر هذا كل ما في يده بما فيه الأموال التي قبضها للمضاربة، وصار صديقه صاحب المبلغ يطالبه ويلح عليه بإعادة المبلغ ويعلم أنه صادق في دعواه الخسارة، ولكن هدده بإقامة
212 الدعوى عليه في المحاكم وسجنه فاضطر إلى زيارة السيدة فاطمة المعصومة شاكيا لها حاله ولا يخفى عليها ذلك، وراجعها المرة تلو الأخرى ولم تستجاب دعوته ولم تلبي طلبه، وأخيرا عاتبها عتابا مرا وزعل عليها، وحتى لم يمر على حرمها المطهر. حتى اضطر أحد الأيام المرور من حرمها المطهر إذ سمع في مذياع استعلامات الحرم ينادى باسمه، ولما راجع المسؤول وهو مرتبك قيل له: إن آية الله العظمى السيد المرعشي النجفي يبحث عنك منذ ثلاثة أيام، فلما زاره ومثل بين يديه وعرفه بنفسه، أولا استغرب عن عدم زيارته وإقامة الصلاة جماعة في الصحن وعدم حضوره، وثانيا عاتبه وأنبه على عدم أداء أدب الاحترام للسيدة الطاهرة فاطمة المعصومة والعتب الشديد عليها لعدم قضاء حاجته فورا، وهو ابنهم ومحسوب عليهم، وبعدها أخرج له مبلغ خمسين ألف تومان وقال له: أدها إلى غريمك وخلص نفسك من مطاردته إياك.
213 وقبل أن يقبض المبلغ توسل به أن يخبره بالحادث، قال سماحته: لقد رأيت عمتي في المنام وأخبرتني بالحادث وأمرتني بدفع هذا المبلغ لتسديد دينك. ومثل هذه القصة حصلت للمرحوم الشيخ محمد هادي الأميني وقد عاتبها وزعل عليها، حتى أرسل خلفه آية الله الشيخ جعفر المجتهدي وهو من الأبدال، والمعروف بالكرامات، ذكر ذلك مفصلا في مقدمة كتابه (فاطمة بنت الإمام موسى بن جعفر (عليها السلام)). المصادر 1 - أعيان الشيعة 8: 391. 2 - موسوعة المصطفى والعترة 11: 27 - 30. 3 - أعلام النساء المؤمنات: 576 - 585. 4 - ذكرياتي للمؤلف 2: 109. 5 - أعلام النساء - دخيل. 6 - فاطمة المعصومة - الدكتور محمد هادي الأميني.
214 الفصل السادس آمنة بنت وهب لما ولد شيبة الحمد بن هاشم (عبد المطلب) كان حالك الشعر أسودا إلا خصلة بيضاء في مقدم رأسه يشع منها نور لذلك أطلقت عليه أمه سلمى ابنة عمرو بن عدي ابن النجار اسم (شيبة). وكلما كبر شيبه واشتد ساعده شعت تلك الخصلة البيضاء نورا وانتقل إلى جبهته ووجهه. حتى ولد له عبد الله الذي هو الشقيق الأصغر لعبد مناف (أبو طالب) عند ذلك انتقل ذلك النور إلى وجه وجبهة عبد الله. وبعد عام الفيل ونجاته من الذبح بعد فداءه مئة من
215 الإبل نحرها أبوه (1) اشتد ساعد عبد الله بن عبد المطلب وأصبح في ريعان الشباب وقد تألق ذلك النور وظهر أكثر فأكثر في وجهه فتعلقن به سيدات قريش وخيرة فتياته منهن أخت ورقة بن نوفل فقالت له لما نظرت إلى وجهه لك مثل الإبل التي نحرت عنك، وقع علي الآن فتعفف وأبى. ولما وجد عبد المطلب ذلك أخذ بيده ومشى به إلى دار وهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، وكان زعيم قومه يخطب ابنة أخيه آمنة بنت وهب إلى ابنه عبد الله فزوجها إياه وكان عمره حينذاك حوالي عشرين عاما، وفي نفس المجلس خطب عبد المطلب لنفسه هالة ابنة وهيب من أبيها فزوجها إياه، ودخلا
(1) كما ذكرنا ذلك مفصلا في الكراس الثاني من سلسلة سيرة العظماء. 216 في تلك الليلة بزوجاتهم فولدت هالة بنت وهيب حمزة بن عبد المطلب، وولدت آمنة بنت وهب محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله). السيدة آمنة بنت وهب أم رسول الله (صلى الله عليه وآله): عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) قال: كانت آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب في حجر عمها وهيب بن عبد مناف بن زهرة، فمشى إليه عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بابنه عبد الله بن عبد المطلب أبي رسول الله (صلى الله عليه وآله) فخطب إليه آمنة بنت وهب، فزوجها عبد الله بن عبد المطلب، وخطب إليه عبد المطلب بن هاشم في مجلسه ذلك ابنته هالة بنت وهيب على نفسه فزوجه إياها، فكان زواج عبد المطلب بن هاشم وزواج الابن عبد الله بن عبد المطلب في مجلس واحد، [ودخلا بهن في نفس الليلة]
217 فولدت هالة بنت وهيب لعبد المطلب، حمزة، وولدت آمنة بنت وهب لعبد الله محمد (صلى الله عليه وآله) فكان حمزة عم رسول الله (صلى الله عليه وآله) في النسب وأخاه في الرضاعة. لما تزوج عبد الله بن عبد المطلب آمنة بنت وهب أقام عندها ثلاثا، وكانت تلك السنة عندهم إذا دخل الرجل على امرأته في أهلها (1). حملها بالنبي (صلى الله عليه وآله): فلما حملت آمنة بنت وهب بالنبي الكريم محمد (صلى الله عليه وآله) كان السحرة والكهنة والشياطين والمردة من الجان والمردة من أهل الكتاب يظهرون العجائب، ويأتون بالغرائب من السحر، ويحدثون الناس بما يخفون من السرائر، ويكتمون في الضمائر، وينطق السحرة
(1) طبقات ابن سعد 1: 94. 218 والكهنة على ألسنتهم، بما يسترقون السمع من الملائكة، وما كانت السماء لتحجبهم حينذاك، إلى أن ولد خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله) فلما حملت به السيدة آمنة بنت وهب (عليها السلام) لم يبق ساحر، ولا كاهن، ولا مارد من الجن، ولا من مردة أهل الكتاب إلا وأخبر وعلم بواسطة شياطينهم والجان المسخرين لهم بقرب ولادة الرسول العظيم (صلى الله عليه وآله). منهم الكاهنان اللذان فاقا أهل زمانهما في الكهانة والسحر، وهما: ربيعة بن مازن الغساني المعروف ب (سطيح) والآخر (وشق) بن هالة اليماني. فكتب سطيح إلى وشق يخبره الحال، ويشرح له المقال، فرد عليه الجواب: قد ظهر عندي بعض الذي ذكرت، وسيظهر النور الذي وصفت، غير أني لا علم لي به. كما كتب سطيح إلى زرقاء اليمامة، التي ملكت اليمن
219 بسحرها وشعوذتها، فكانت من أعظم السحرة والكهنة، وكانت حادة البصر، عظيمة الخطر، تنظر من مسيرة ثلاثة أيام، كما ينظر الإنسان الذي بين يديه. وإذا أراد أعدائها الخروج إلى بلدها تخبر قومها بذلك، وتقول لهم: احذروا العدو فقد جاءكم من الجهة الفلانية، فيجهزون إليه فيجدون الأمر كما ذكرت. وقد جرت بينهما رسائل عديدة بهذا الشأن لسنا بصددها. ومن آيات ولادة النبي الكريم (صلى الله عليه وآله)، أن منعت السماء صعود مردة الجن إليها لاستراق السمع، كما في (سورة الجن) وقد مات الكاهنان (سطيح ووشق) ليلة ولادته (صلى الله عليه وآله) وخرت الأصنام على وجوهها، وارتج إيوان كسرى، ووقع منه أربعة عشر شرفة، فلما أصبح كسرى وقد هاله ما رأى، فدعا بوزرائه وقال لهم: ما هذا الذي حدث في البلاد، فهل عندكم علم؟
220 قال الموبذان، وهو كاهن المعبد: أيها الملك العظيم، لقد رأيت ليلة أمس إبلا صعاب تقودها خيل عراب، قد حطت في الوادي، وانتشرت في البلاد، وما ذاك إلا لأمر عظيم. وفاة الزوج: كل هذا حصل لما ولدت السيدة آمنة بنت وهب (عليها السلام) الرسول العظيم (صلى الله عليه وآله)، وكانت تسمع الهواتف في الليل والنهار تبشرها بأنها حاملة بسيد البشر، وكانت تخبر زوجها عبد الله بن عبد المطلب بذلك، وبما تسمع، فيقول لها: اكتمي عن كل أحد أمرك. ولما كان الشهر السابع من حمل آمنة بنت وهب برسول الله (صلى الله عليه وآله) دعا عبد المطلب ولده عبد الله وقال: يا بني، إنه قرب ولادة آمنة، ونحن نريد أن نعمل للمولود الجديد وليمة وليس عندنا شئ فامض إلى يثرب واشتر
221 لنا منها ما يصلح لذلك، فخرج عبد الله من وقته، وسافر حتى وصل يثرب، وهناك طرقته حوادث الزمان فمات فيها. ووصل خبره إلى مكة، فعظم عليهم ذلك، وبكى أهل مكة جميعا عليه، وأقيمت المآتم في كل ناحية، وناح عليه أبوه، وآمنة، وإخوته، وكان مصابا عظيما. ولادتها النبي (صلى الله عليه وآله): ولما كان الشهر التاسع من حملها، أراد الله تعالى خروج النبي (صلى الله عليه وآله) وما كان عليها أثر للحمل، إذ اختفى عنها منذ شهرها السادس، ولكنها كانت تشعر بأيام حملها الأخير وكانت تحدث نفسها: كيف يكون وضعي، ولم يعلم بي أحد من قومي. فبينما هي كذلك إذ دخل عليها أربع نسوة طوال، تفوح منهن رائحة المسك والعنبر، وقد تنقبن بأطمارهن،
222 وبأيديهن أكواب من البلور الأبيض. قالت آمنة (سلام الله عليها): وجعلت أقول: من أين دخلن علي هؤلاء النسوة؟ وقد كنت أغلقت الباب خلفي فجعلت أنظر إليهن ولم أعرف واحدة منهن. قالت آمنة (سلام الله عليها): فتقدمن مني وسلمن علي وقلن لي: إشربي يا آمنة من هذا الشرب، فلما شربت، أضاء نور وجهي وعلاه نور ساطع وضياء لامع، وقلن: أبشري بسيد الأولين والآخرين، محمد المصطفى (صلى الله عليه وآله) وقلن لها: لا بأس عليك يا جارية، إنا جئنا لنخدمك، فلا يهمك أمرك. وقعدت الحوريات واحدة إلى يمينها، وواحدة إلى شمالها، وواحدة بين يديها، وواحدة من ورائها، فهومت عين آمنة وغفت غفوة، ما كان من أمرها إلا أنها كانت نائمة عند خروج ولدها من بطنها، فانتبهت وقد وضع المولود الجديد جبينه على الأرض، ساجدا
223 لله رافعا سبابته إلى السماء مشيرا بهما، وهو يقول: لا إله إلا الله. قال عبد المطلب: كنت في الساعة التي ولد فيها محمد أطوف بالكعبة، وإذا بالأصنام قد تساقطت وتناثرت، والصنم الكبير سقط على وجهه، وسمعت قائلا يقول: الآن آمنة قد ولدت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلما رأيت ما حل بالأصنام تلجلج لساني، وتحير عقلي، وخفق فؤادي حتى صرت لا أستطيع الكلام، فخرجت مسرعا أريد باب بني شيبة، وإذا الصفا والمروة يركضان بالنور فرحا، ولم أزل مسرعا إلى أن قربت من منزل آمنة، وإذا بغمامة بيضاء قد عمت منزلها، فقربت من الباب وإذا روائح المسك الأذفر والند والعنبر قد عبقت بكل مكان حتى عمتني الرائحة. فدخلت على آمنة وإذا بها قاعدة، وليس عليها أثر النفاس، فقلت: أين مولودك؟ أريد أن أنظر إليه.
224 قالت: قد حيل بيني وبينه، ولقد سمعت هاتفا ينادي: لا تخافي على مولودك، وسيرد عليك بعد ثلاثة أيام. فلما تمت له ثلاثة أيام دخل عليه جده عبد المطلب فلما نظر إليه قبله وقال: الحمد لله الذي أخرجك إلينا، حيث وعدنا بقدومك، فبعد هذا اليوم لا أبالي أصابني الموت أم لا، ثم دفعه إلى آمنة فجعل يهش ويضحك لجده وأمه كأنه ابن سنة. قال عبد المطلب: يا آمنة، احفظي ولدي هذا، فسوف يكون له شأن عظيم. وأقبل الناس من كل فج عميق يهنئون عبد المطلب، وجاءت جملة النساء إلى آمنة، وقلن لها: لم لم ترسلي إلينا لنساعدك في ولادتك بعد أن هنأنها بالمولود وقد عبقت بهن جميعا رائحة المسك، فكان يقول الرجل لزوجته: من أين لك هذا؟ فتقول: هذا طيب مولود آمنة.
225 فأقبلت القوابل ليقطعن سرته فوجدنه مقطوع السرة، فقلن لآمنة: ما كفاك أنك وضعت به حتى قطعت سرته بنفسك، فقالت لهن: والله لم أره إلا على هذه الحالة، ولا مسسته، فتعجبت القوابل من ذلك، وكانت تأتيها القوابل بعد ذلك وإذا به مكحولا مقموطا. فلما مضى له من الوضع سبعة أيام، أولم عبد المطلب وليمة عظيمة وذبح الأغنام ونحر الإبل، وأكل أهل مكة والقادمون من الناس ثلاثة أيام، وما فضل من ذلك الطعام رمي به في البرية فأكلته الوحوش والسباع والطيور. فلما كان بعد أيام التمس له مرضعة تربيه على عادة أهل مكة، فقدمت حليمة بنت أبي ذؤيب في نسوة من بني سعد بن بكر، تلتمس الرضعاء بمكة. إلى آخر الحديث الذي ذكرناه في موسوعة المصطفى والعترة (1: 64 - 71).
226 وفاتها: وجاء في كتاب أعلام النساء المؤمنات (ص 97): ولدت السيدة آمنة بنت وهب رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد وفاة عبد الله بن عبد المطلب بالمدينة، عند أخوال أبيه من بني النجار بالمدينة، فكانت كل عام تخرج من مكة إلى يثرب فتزور قبر زوجها عبد الله، في حي بني النجار (1)، فمرضت في إحدى رحلاتها، وعند عودتها إلى مكة فتوفت بموضع يقال له (الأبواء)، بين مكة والمدينة ودفنت فيها، وكان محمد (صلى الله عليه وآله) من العمر ست سنين ورجع بعد دفن أمه مع مربيته بركة، كسير
(1) وقد حصل لي شرف زيارة قبره (عليه السلام) عدة مرات عندما أوفق لزيارة ولده الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ومراقد الأئمة الطاهرين من آله في البقيع، وبعد التوسعات الجديدة للحرم النبوي ضاعت كل معالمه. 227 النفس دامع العين حزين. هذا ما كان موجزا من حياة السيدة الطاهرة آمنة بنت وهب، ذكرنا المطلوب منه، والله ولي التوفيق. المصادر 1 - أعيان الشيعة 1: 218. 2 - أعلام الزركلي 1: 26. 3 - طبقات ابن سعد 1: 94. 4 - السيرة النبوية لابن هشام 1: 53 و 57 و 292. 5 - تاريخ الإسلام للذهبي 1: 21 و 35. 6 - بحار الأنوار 15: 60. 7 - أعلام النساء المؤمنات: 97. 8 - موسوعة المصطفى والعترة - للمؤلف 1: 66.
228 الفصل السابع السيدة أم سلمة السيدة أم سلمة في سطور: اسمها: هند. أبوها: أبو أمية، حذيفة بن المغيرة المخزومي القرشي. أمها: عاتكة بنت عامر بن ربيعة الكناني. زوجها الأول: عبد الله بن عبد الأسد المخزومي ابن عمها. هجرتها الأولى: إلى الحبشة مع زوجها. هجرتها الثانية: إلى يثرب مع زوجها. أولادها: سلمة، عمرو، درة، زينب.
229 تزوجها رسول الله (صلى الله عليه وآله) في شوال من السنة الرابعة من الهجرة بعد وفاة زوجها، فكانت نعم الزوج بعد السيدة خديجة. شهدت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقعة خيبر، وسمعت وقع سيف علي في أسنان مرحب (1). مسندها: من الأحاديث المروي عنها 378 حديثا (2). وفاتها: بالمدينة سنة 59 - وقيل: 61، وقيل: 62 - دفنت بالبقيع مع أمهات المؤمنين. والأرجح بعد شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء سنة 61. عمرها: 84 سنة. أم المؤمنين هند بنت أبي أمية سهيل المخزومي زوجة النبي (صلى الله عليه وآله). كانت أفضل أمهات المؤمنين بعد السيدة خديجة بنت
(1) الإستيعاب 2: 780. (2) المستدرك على الصحيحين 3: 121. 230 خويلد، وهي من المهاجرات السابقات، جليلة القدر، ذات رأي وعقل، وكمال وجمال، حالها في الجلالة والإخلاص لأمير المؤمنين، ولفاطمة الزهراء وللحسن والحسين، أشهر من أن يذكر، وأجلى من أن يوصف. ولا يسعنا في هذا المجال الموجز أن نحيط بحياة هذه السيدة العظيمة، ونلم بكل ما لديها من الصفات الحميدة، والأخلاق العالية، إنما نستعرض لمحات عن حياتها المباركة وسيرتها الجميلة نعرضها للقراء الكرام، لتتخذ المؤمنات منها العظة والمثل الأعلى، والاقتداء بها والسير على نهجها، واقتباس الدروس والعبر من حياة هذه السيدة الجليلة التي قضت عمرها الشريف مهاجرة مجاهدة، ومدافعة عن مبدئها وعقيدتها. زوجها: أبو سلمة، عبد الله بن الأسد المخزومي ابن عمها، كانت نعم الزوج محبة له ومطيعة، ولا تخالف له أمرا، قضت معه حياة سعيدة هانئة، وأنجبت له: سلمة،
231 وعمرو، ودرة، وزينب. وبعد أن ازداد ضغط المشركين على النبي (صلى الله عليه وآله) وأصحابه المؤمنين إبان الدعوة حتى أمرهم (صلى الله عليه وآله) بالهجرة إلى الحبشة، فكان أبو سلمة وزوجته هند في الرعيل الأول من المهاجرين، تاركين وطنهم فارين بدينهم، من بطش قريش وتجبرها، لينالوا الحرية في ممارسة شعائر دينهم. وفي الحبشة وافتهم أنباء سارة، بأن قريشا تغير موقفها من الإسلام، ويسرع أبو سلمة وزوجته إلى مكة ليكونا بالقرب من رسول الله (صلى الله عليه وآله) بخدمته ونصب أمره ونهيه، ولكن عند وصولهما يفاجأ بالأمر معكوسا، فقريش قد ازدادت في طغواها وعتوها، وتجبرها وأذاها وتعذيبها للمسلمين، وكاد أبو سلمة وزوجته أن يقع في هذا الفخ لولا أنه استجار بخاله أبي طالب، شيخ البطحاء، فأجاره وزوجته، وهبت قريش تطلب النزول عن هذا
232 الجوار، فقالت: هب أنك دافعت عن ابن أخيك محمد والتزمته فكيف بك وأنت تجير ابننا، فأجابهم أبو طالب، إنه استجار بي، وأنا إن لم أمنع ابن أختي، لم أمنع ابن أخي. وتقف قريش مكتوفة الأيدي إزاء هذا الطود الشامخ فمن يجرأ الوصول لأبي سلمة وقد استجار بخاله أبي طالب. وبعد أن أراد الله لرسوله الهجرة، ليتسنى له بناء دولته الإلهية الكبرى، وتشييد دعائمها من (يثرب) فكان أبو سلمة، وزوجته أول المسلمين استجابة لهذه الهجرة فخرج بزوجته وابنه، وهناك وقائع مريرة وطويلة اعترضتهم حتى وصولهم يثرب والتحاقهم بالرسول أعرضنا عن ذكرها روما للاختصار. اشترك أبو سلمة في معركة أحد وقد أبلى بلاء حسنا وأصيب بدنه بعدة جروح، وصار يعاني منها، مدة من
233 الزمن ولم تندمل جراحاته، وتضاءل الأمل في شفائه، فتكون خاتمة المطاف الشهادة. ويبلغ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن بعض المشركين يعدون العدة لمهاجمة المدينة، بعد معركة أحد، فعقد لأبي سلمة على مائة وخمسين من المسلمين الشجعان، وأمرهم بالاستخفاء نهارا، والسير ليلا، وسلوك الطرق المجهولة، لكيلا يكشف أمرهم حتى يفاجئهم بهجمة صادقة، وقد وقعت الدائرة على المشركين ولم يقووا على الثبات، ورجع بعد ذلك بالغنيمة والنصر، ويعيد للمسلمين بعض هيبتهم، فيكم الأفواه ويلجم النفوس ويدخل في روع المشركين أن الإسلام قادر على ردعهم. ويرجع أبا سلمة، وترجع إليه آلامه من جراحه يوم أحد، ويتضاعف الألم. وفي لوعة الأسى ومضض المصيبة، تذكرت أم سلمة حديثا سمعته من زوجها الراحل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)،
234 قوله: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: لا يصيب أحدا مصيبة فيسترجع عند ذلك ويقول: اللهم عندك أحتسب مصيبتي هذه، اللهم اخلفني فيها خيرا منها، إلا أعطاه الله عز وجل. قالت أم سلمة: فلما أصبت بأبي سلمة، قلت الذي سمعته من زوجي الراحل، فلما انقضت عدتها، أرسل إليها أبو بكر يخطبها فأبت، ثم أرسل إليها عمر يخطبها فأبت، ثم أرسل إليها رسول الله (صلى الله عليه وآله) يخطبها فقالت: مرحبا برسول الله (صلى الله عليه وآله)، فتزوجها، وانتقلت إلى داره. فحرصت على نيل رضاه بكل ما تملك، وتميل إليه نفسه، فرأته يحب خديجة فأحبتها هي أيضا، ورأته يحب فاطمة وعلي والحسن والحسين (عليهم السلام) فأحبتهم بكل جوارحها وتفانت في الإخلاص لهم، وقد عانت من الحزب المناوئ لأهل البيت (عليهم السلام): عائشة وحفصة وسودة ومن جارينهن.
235 وبعد وفاته، اقترنت بسيد البشرية، الرسول العظيم (صلى الله عليه وآله) فنالت بذلك شرف الدنيا والآخرة. واقتبست منه الأخلاق الكريمة والصفات الحميدة، وحفظت منه الحديث، فصارت تعلم ما تعلمته للناس لا سيما نساء عصرها. لأم سلمة مكانة رفيعة في عالم الرواية والحديث، فكانت أعلمهن بالكتاب والسنة بعد أم المؤمنين خديجة، وحتى أن عائشة قالت لها: أنت أول المهاجرات، وأنت كبيرة أمهات المؤمنين، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقسم لنا في بيتك، وكان جبرائيل أكثر ما يكون في منزلك. وكانت آخر من مات من أمهات المؤمنين، عمرت حتى بلغها مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) فوجمت لذلك وغشي عليها وحزنت ولم تلبث بعده يسيرا حتى انتقلت إلى جوار ربها. وبعد ارتحال النبي (صلى الله عليه وآله) وانتقاله إلى الرفيق الأعلى،
236 فقد وقفت إلى جانب وصية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ودافعت عن سيدتها ومولاتها فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وأصبحت المؤتمنة على ولديها الإمامين الحسن والحسين (عليهما السلام)، وتحيطهما بعنايتها كالأم الرؤوم، كما أنها ما تركت نصيحة إلا وقد أبدتها لأولئك الذين غرتهم الدنيا، وباعوا حظهم بالأرذل الأدنى، وغصبوا الولاية من أهلها، وجاروا على أهل البيت (عليهم السلام). وقفت أم سلمة إلى جنب رسول الله (صلى الله عليه وآله) في جميع مواقعه، وكان يأنس بآرائها، وبعد صلح الحديبية أراد رسول الله بذبح الهدي الذي خصصه المسلمون بعد أداء العمرة، فامتنع المسلمون وتلكأوا فدخل على أم سلمة خيمتها، وهو منفعل فاستفسرت منه الحالة فأخبرها، واستشارها ما يفعل فقالت: بأبي أنت وأمي اذهب وانحر هديك، واحلق شعرك، ولا تكلم أحدا منهم. فلما شاهد
237 المسلمون فعله تراكضوا وفعلوا كما فعل رسول الله (صلى الله عليه وآله). روايتها للحديث: تعد السيدة أم سلمة من راويات الحديث، عدها البرقي والشيخ الطوسي في كتابيهما من الراويات عن الرسول (صلى الله عليه وآله)، وكذا ابن عبد البر، وابن مندة، وأبو نعيم، وكل من ترجم لها. وقد روت عن النبي (صلى الله عليه وآله)، وعن فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وعن أبي سلمة زوجها الأول، وروى عنها جماعة من الصحابة والتابعين. وهي من رواة حديث النبي (صلى الله عليه وآله) قوله: " من كنت مولاه فعلي مولاه "، ومن رواة حديث (آية التطهير)، ومن رواة (حديث الثقلين). قال أبو عبد الله الجدلي - وكان من أهل الشام -: حججت وأنا غلام فمررت بالمدينة وإذا الناس عنق
238 واحد فاتبعتهم، فدخلوا على أم سلمة زوج النبي (صلى الله عليه وآله) فسمعتها تقول: يا شبث بن ربعي، فأجابها رجل جلف جاف: لبيك يا أماه. قالت: أيسب رسول الله في ناديكم؟ قال: وأنى ذلك؟! قالت: علي بن أبي طالب؟ قال: إنا لنقول أشياء نريد عرض الدنيا. قالت: فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: من سب عليا فقد سبني، ومن سبني فقد سب الله تعالى (1). وعنه أيضا قال: دخلت على أم سلمة فقالت لي: أيسب رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيكم؟ قلت: سبحان الله، أو معاذ الله! قالت: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: من سب عليا فقد سبني.
(1) المستدرك على الصحيحين 3: 121. 239 وقالت رضي الله عنها: سمعت النبي (صلى الله عليه وآله) يقول لعلي: لا يبغضك مؤمن، ولا يحبك منافق (1). وقالت رضي الله عنها: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: علي مع القرآن، والقرآن مع علي، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض (2). وقالت رضي الله عنهما: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول وهو آخذ بيد علي (عليه السلام): الحق بعدي مع علي يدور معه حيث دار (3). وبعد رحيل الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) والتحاقه بالرفيق الأعلى أخذت أم سلمة تمارس دورها الريادي في المجتمع المتدهور مستغلة مكانتها الرفيعة وعقليتها الجبارة، ومستعينة بفصاحة لسانها، نراها تجيب هذا
(1) مسند الجامع 20: 645، أم سلمة: 57. (2) المستدرك على الصحيحين 3: 130. (3) أمالي الشيخ الطوسي: 305. 240 وترشد ذاك، ولم تترك مقولة الحق أبدا. وحينما عزمت عائشة على الخروج على الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) والسير بجيشها إلى البصرة، ذهبت لاستمالة أم سلمة لعلمها بمكانتها ومنزلتها، إلا أن أم سلمة وعظتها ونصحتها وذكرتها بأشياء وأحاديث كثيرة سمعتها من رسول الله (صلى الله عليه وآله) تناستها، وإقامة الحجة الدامغة عليها، لذلك تراجعت عائشة عن غيها بعض الشئ، وقد كان تأثير ذلك مؤقتا، فقد جاءها ابن أختها عبد الله بن الزبير ومن هو على رأيه فنفث في سمعها وأرجعها إلى عزمها الأول. ولما انحرف الناس عن الحق بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) إلا القليل الذين ثبتوا مع أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ومن أولئك السيدة أم سلمة حيث بقيت مخلصة ومدافعة بقدر جهدها. وهناك روايات، ووقائع كثيرة دلت على عظمة منزلة أم المؤمنين أم سلمة، أعرضنا عنها روما للاختصار.
241 قال السيد الأمين في أعيانه (1) - ملخصا -: كانت من أعقل النساء، وكانت لها أساليب بديعة في استعطاف النبي (صلى الله عليه وآله) عند غضبه، وأدب بارع في مخاطبته، وطلب الحوائج منه. فمن ذلك لما استأذن عليه ابن عمه وأخوه في الرضاعة أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب عبد الله المخزومي، فلم يأذن لهما وأعرض عنهما، وهو في طريقه إلى فتح مكة، فقالت أم سلمة: يا رسول الله، ابن عمك وابن عمتك وصهرك، فقال: لا حاجة لي بهما، أما ابن عمي فهتك عرضي، وأما ابن عمتي فهو الذي قال لي ما قال بمكة. فقالت أم سلمة: لا يكونا أشقى الناس. فرق لهما النبي (صلى الله عليه وآله) فدخلا عليه وأسلما. ولما أراد علي (عليه السلام) أن تدخل فاطمة (عليها السلام) عليه،
(1) أعيان الشيعة 10: 272. 242 فدخلت أم أيمن على أم سلمة فأخبرتها، وأخبرت سائر نسائه بذلك، فاجتمعن عنده. فقالت أم سلمة من بينهن: فديناك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله، إنا قد اجتمعنا لأمر لو كانت خديجة في الأحياء لقرت عينها، هذا أخوك وابن عمك في النسب علي بن أبي طالب يحب أن تدخل عليه زوجته، حبا وكرامة، ثم التفت إلى النساء بعد ما دخلن البيت فقال: من ها هنا؟ فقالت أم سلمة: وهذه فلانة وفلانة، فأمرهن أن يصلحن من شأن فاطمة وحجرة أم سلمة، وابتدأتهن أم سلمة بالزجر أمام فاطمة لما زفت. روى الحاكم في المستدرك بسنده عن عمرة بنت عبد الرحمن قالت: لما سار علي (عليه السلام) إلى البصرة دخل على أم سلمة زوج النبي يودعها فقالت: سر في حفظ الله وفي كنفه، فوالله إنك على الحق والحق معك، ولولا أني أكره أن أعصي الله ورسوله، فإنه أمرنا أن نقر في بيوتنا، لسرت معك، ولكن والله لأرسلن معك من هو أفضل
243 عندي وأعز علي من نفسي ابني عمرو. وبسنده عن أبي سعيد التميمي عن أبي ثابت مولى أبي ذر قال: كنت مع علي يوم الجمل، ولما رأيت عائشة واقفة دخلني بعض ما دخل الناس، فكشف الله عني ذلك عند صلاة الظهر، فقاتلت مع علي أمير المؤمنين، فلما فرغ [علي (عليه السلام)] ذهبت إلى المدينة فأتيت أم سلمة فقلت: إني والله ما جئت أسأل طعاما ولا شرابا، ولكني مولى لأبي ذر، فقالت: مرحبا، فقصصت عليها قصتي، فقالت: أين كنت حين طارت القلوب مطائرها؟ قلت: إني حيث كشف الله ذلك عني عند زوال الشمس، قالت: أحسنت، سمعت رسول الله يقول: علي مع القرآن والقرآن مع علي، لن يفترقا حتى يردا علي الحوض. روى النسائي في الخصائص بسنده عن عبد الله الجدلي قال: دخلت على أم سلمة فقالت لي: أيسب رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيكم؟ قلت: سبحان الله - أو معاذ الله - قالت: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول من سب عليا فقد
244 سبني، والجدلي اسمه عتبة بن عبد كان ساكنا في الشام فلهذا قالت له أم سلمة ذلك. وكانت فقيهة عارفة بغوامض الأحكام الشرعية، حتى أن جابر بن عبد الله الأنصاري يستشيرها ويرجع إلى رأيها. هذا ملخص ما ذكره السيد محسن الأمين في أعيانه (10: 272) فراجع. وفاتها: ذكر ابن سعد في طبقاته عن عبد الله بن نافع عن أبيه قال: ماتت أم سلمة زوج النبي (صلى الله عليه وآله) سنة تسع وخمسين من الهجرة، فكان لها يوم ماتت أربع وثمانون سنة (1). وقال الحاكم النيسابوري في مستدركه، عن ابن عمر، عن عبد الله بن نافع، عن أبيه قال: أوصت أم سلمة أن
(1) الطبقات الكبرى 8: 68. 245 لا يصلي عليها الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، والي المدينة، فماتت حين دخلت سنة تسع وخمسين وصلى عليها ابن أخيها عبد الله بن عبد الله بن أبي أمية (1). هذا ملخص ترجمة حياة أم المؤمنين، السيدة هند بنت ابن أبي أمية (أم سلمة) آمل أن يكون فيه الكفاية، والسلام عليها يوم ولدت، ويوم هاجرت، وجاهدت ويوم ماتت ويوم تبعث حيا لتحشر مع زوجها (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الطاهرين وأصحابه الميامين، فإنه أرحم الراحمين. المصادر 1 - أعلام النساء المؤمنات: 631. 2 - أعلام النساء - دخيل، كراس 4. 3 - طبقات ابن سعد 1: 204. 4 - أعيان الشيعة 10: 272.
(1) المستدرك على الصحيحين 4: 20. 246 الفصل الثامن فاطمة بنت الإمام الحسن (عليه السلام) زوجة الإمام السجاد وأم الإمام الباقر (عليهم السلام) العلوية الطاهرة، والصديقة المخدرة، ذات علم وفقه وكمال وفضل وشرف، وحياء وعفة، العابدة الزاهدة. فهي غصن من الدوحة الهاشمية، والشجرة المحمدية السيدة فاطمة بنت الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) حفيدة الإمام علي، وفاطمة الزهراء صلوات الله عليهم أجمعين. أضف إلى ذلك المجد الشامخ أنها قرينة الإمام السجاد ووالدة الإمام الباقر (عليه السلام)، فقد جمعت المجد من أطرافه والفخر من أعلى سنامه إلى أن تصل إلى هاشم بن عبد مناف بن قصي.
247 فقد سجل التاريخ لها مناقب وكرامات كثيرة، منها ما رواه الشيخ الكليني في الكافي، عن محمد بن يحيى... معنعنا إلى أن يصل إلى الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام)، قال: " كانت أمي قاعدة عند جدار فتصدع الجدار وسمعنا هده فقالت بلسانها وأومأت بيدها: لا وحق المصطفى ما أذن الله لك بالسقوط، فبقي معلقا في الجو حتى جازته، فتصدق أبي عنها بمائة دينار " (1). ومما يدل على مكانتها العالية، ومنزلتها السامية قول الإمام الصادق (عليه السلام) في حقها، ففي الكافي أيضا قال الشيخ الكليني: قال أبو الصباح: وذكر أبو عبد الله الصادق (عليه السلام) جدته أم أبيه فاطمة يوما فقال: " كانت صديقة لم تدرك في آل الحسن امرأة مثلها " (2).
(1) الكافي 1: 390، حديث 1، باب مولد أبي جعفر الباقر (عليه السلام). (2) نفس المصدر السابق. 248 زوجة الإمام السجاد: وقد حضرت هذه السيدة العلوية مع زوجها الإمام السجاد وابنها الإمام الباقر (عليه السلام) واقعة الطف يوم عاشوراء، وبذلك تكون قد شاهدت الفجائع المروعة وما جرى على آل الرسول (صلى الله عليه وآله) في ذلك اليوم من مصائب ومحن، فقد شاهدت مصرع عمها الإمام الحسين (عليه السلام) وقتل أخوها القاسم ومصارع بقية الأبطال من آل البيت وأصحابهم الكرام، وشاهدت أيضا زوجها العليل مكبل بالأغلال، وولدها الإمام الباقر (عليه السلام) البالغ من العمر أربع سنوات، يشكون العطش ومرارة الأسر وذله، محتسبة كل ذلك في سبيل الله (1). وفي الأعيان 8: 390: أم عبد الله فاطمة بنت الإمام الحسن (عليه السلام)، زوجة
(1) أعيان الشيعة 1: 650، و 8: 390، أعيان النساء: 498، رياحين الشريعة 3: 15. 249 الإمام السجاد، وأم الإمام الباقر (عليه السلام). كان الإمام الباقر (عليه السلام) هاشميا بين الهاشميين، وعلويا بين علويين، وفاطميا بين فاطميين، وهو أول من اجتمعت له ولادة الحسن والحسين (عليهما السلام)، مثل جده الإمام علي (عليه السلام) أولده هاشم مرتين. وقال الحافظ عبد العزيز الأخضر الجنابذي: أمها أم فروة بنت القاسم ابن محمد بن أبي بكر، حكاه عنه في كشف الغمة، وقال أبو الصباح: وذكر أبو عبد الله جدته أم أبيه يوما فقال: كانت صديقة لم يدرك في آل الحسن مثلها.