فتناولته (فإذا به مختوناً طاهراً مطهراً، كتب على ذراعه: (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً))،(1) وأتيت به نحوه؛ فلمَّا مثلتُ بين يدي أبيه وهو على يدي سلَّم على أبيه، فتناوله الحسن عليه السلام منِّي، فتناوله وأخرج لسانه، فمسحه على عينيه ففتحها، ثمَّ أدخله في فيه فحنَّكه، ثمَّ أدخله في أذنيه، وأجلسه في راحته اليسرى، فاستوى وليُّ الله جالساً، فمسح يده على رأسه، وقال له: يا بنيَّ انطق بقدرة الله.
فاستعاذ وليُّ الله عليه السلام من الشيطان الرجيم، واستفتح: بسم الله الرحمن الرحيم (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَْرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَْرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ).(2)
وصلَّى على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى أمير المؤمنين، والأئمّة عليهم السلام واحداً واحداً حتَّى انتهى إلى أبيه.(3)
والطير ترفرف على رأسه، فصاح بطيرٍ منها، فقال له: احمله، وأحفظه، وردَّه إلينا في كلِّ أربعين يوماً.
فتناوله الطير، وطار به في جوِّ السماء، وأتبعه سائر الطير، فسمعت أبا محمَّد عليه السلام يقول: استودعك الله الذي أودعته أمُّ موسى، موسى.
فبكت نرجس، فقال لها: اسكتي؛ فإنَّ الرِّضاع محرَّم عليه إلاّ من ثدييك، وسيعاد إليك كما ردَّ موسى إلى أمِّه، وذلك قول الله عز وجل: (فَرَدَدْناهُ إِلى أمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ).
قالت حكيمة: فقلت: وما هذا الطير؟
قال: هذا روح القدس الموَّكل بالأئمّة عليهم السلام، يوَّفقهم، ويسددَّهم، ويربيهم بالعلم.
قالت حكيمة: فلمَّا كان بعد أربعين يوماً رُدَّ الغلام، ووجَّه إليَّ ابن أخي عليه السلام، فدعاني؛ فدخلتُ عليه، فإذا أنا بالصبي متحرِّك يمشي بين يديه، فقلت: يا سيدي هذا ابن سنتين؟!
فتبسَّم عليه السلام ثمَّ قال: إنَّ أولاد الأنبياء، والأوصياء إذا كانوا أئمّةً ينشؤون بخلاف ما ينشأ غيرهم، وإنَّ الصبيَّ منَّا إذا كان أتى عليه شهرٌ كان كمن أتى عليه سنةٌ، وإنَّ الصبيَّ منَّا ليتكلَّم في بطن أمِّه، ويقرأ القرآن، ويعبد ربَّه عز وجل، وعند الرضاع تطيعه الملائكة، وتنزل عليه صباحاً ومساءاً.
قالت حكيمة: فلم أزل أرى ذلك الصبي في كل أربعين يوماً إلى أن رأيته رجلاً قبل مضيِّ أبي محمَّد عليه السلام بأيَّام قلائل فلم أعرفه، فقلت لابن أخي عليه السلام: مَنْ هذا الذي تأمرني أن أجلس بين يديه؟
فقال لي: هذا ابن نرجس، وهذا خليفتي من بعدي، وعن قليلٍ تفقدوني، فاسمعي له وأطيعي.
قالت حكيمة: فمضى أبو محمَّد عليه السلام بعد ذلك بأيَّامٍ قلائلٍ، وافترق الناس كما ترى، وواللهِ إنِّي لأراه صباحاً ومساءاً، وإنَّه لينبئني عمَّا تسألون عنه فأخبركم، وواللهِ إنَّي لأريد أن أسأله عن الشيء فيبدأني به).(4)
وقد روي في كتب الشيعة المعتبرة أكثر من ألف حديث في ولادة الإمام المهدي، وغيبته عليه السلام، وأنَّه الإمام الثاني عشر، وأنَّه ابن الإمام الحسن العسكري عليه السلام ؛ وكانت أكثر تلك الأحاديث مقرونةً بالمعجزة لأنَّها كانت قد أخبرت بتعاقب الأئمّة عليهم السلام إلى الإمام الثاني عشر عليه السلام، كما أنَّها كانت قد أخبرت عن خفاء ولادته عليه السلام، وأنَّ له غيبتين ثانيتهما أطول من الأولى، وأنَّه عليه السلام سوف يولد سرَّاً؛ كما أنَّها كانت قد أخبرت عن جميع خصوصياته، وأنَّ كل الأمور سوف تتحقق.
مع أنَّ هذه الكتب التِّي اشتملت على هذه الأخبار قديمة؛ وهذا بنفسه يفيد العلم، بغض النظر عن تواتر هذه الأخبار من جهات أخرى.
هذا بالإضافة إلى إطلاع جمع كثير على ولادته عليه السلام، ورؤية جمع غفير من ثقات الأصحاب جنابه عليه السلام، وكان ذلك من يوم مولده الشريف وحتَّى الغيبة الكبرى.
وهذه كلُّها مذكورة في الكتب المعتبرة عند العامة والخاصَّة، وسوف تذكر فيما بعد.
وقد ثبِتت ولادته عليه السلام مع أكثر الخصوصيات الموجودة في كتب الشيعة، في كتب المخالفين مثل الفصول المهمَّة، ومطالب السَّئوول، وشواهد النبوَّة.
فإذنْ فكما أنَّ ولادة آبائه عليهم السلام معلومة، فكذلك فإنَّ ولادته معلومة أيضاً.
وعليه فسوف لا يفيد المخالفين استبعادهم لولادته عليه السلام بسبب طول غيبته عليه السلام، وخفاء ولادته عليه السلام، وطول عمره عليه السلام ؛ بعد ثبوتها بالأدلة القطعية؛ وأما نفيهم للولادة لمجرَّد الاستبعاد فإنَّه محض سفاهة.
ثمَّ ما وجه الاستبعاد مع أنَّ خلفاء الجور كانوا قد سمعوا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة صلوات الله عليهم أجمعين كانوا قد أخبروا: أنَّ الإمام الثاني عشر سوف يظهر ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً، وإنَّه سوف يزيل خلفاء الجور والسلاطين الظلمة، وأنَّ الشيعة سوف يتعلقون بانتظار وجوده وظهوره، وإنَّ أولئك الظلمة سوف يسعون لإطفاء هذا النور؛ ولذلك فقد حبسوا الإمام عليّ النقيِّ، والإمام الحسن العسكري صلوات الله عليهم أجمعين في سرَّ من رأى، وكانوا يتتبعونه ويبحثون عن حمله، وولادته عليه السلام لأجل إزهاقه؛ فأظهر الحقُّ تعالى كامل قدرته، فستر حمل أمِّه، وأخفى ولادته عليه السلام عن الظَلَمَة، وخلفاء الجور، وأبعده بحفظه، وحمايته عن شرِّ الظالمين.
ومع ذلك؛ فإنَّه وكما جعل ولادته عليه السلام سرّاً خفيَّاً، ولكنَّه كان أظهرها بالآثار والأخبار للشيعة والموالين والمخالفين فكانت واضحةً كالشمس في رابعة النهار لتتمَّ الحجة على جميع العالمين.
وقد اطلع جمع كثير من المعروفين بأسمائهم على ولادته المباركة، من قبيل السيِّدة حكيمة، والقابلة التي كانت جارتهم في سرَّ من رأى.
وكذلك فقد التقى به عليه السلام جماعات كثيرة من حين ولادته إلى وفاة الإمام الحسن العسكري عليه السلام.
وقد ظهرت المعجزات الكثيرة التي تجاوزت حدِّ العدِّ والإحصاء عند ولادة أمّه السيِّدة نرجس عليها السلام ولدها الإمام عليه السلام.
وكان تأريخ مولده الشريف عليه السلام على ما هو المشهور عند الخاصَّة والعامَّة: في سنة مائتين وخمسة وخمسين للهجرة.
وكانت وفاة الإمام الحسن العسكري عليه السلام _ على المشهور _ في سنة مائتين وستّين للهجرة.
فكان له عليه السلام حين وفاة أبيه عليه السلام _ على القول المشهور _ خمس سنين.
ومع ذلك فقد ظهرت منه عليه السلام المعجزات وغرائب الأحوال.
الحديث الثاني: (إخبار الإمام العسكري عليه السلام عن ولادة المهدي عليه السلام):
قال أبو محمَّد بن شاذان رحمه الله:
حدَّثنا محمَّد بن حمزة بن الحسن بن عبد الله بن العبَّاس بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليه قال: سمعت أبا محمَّد عليه السلام يقول:
(قد ولد وليُّ الله، وحجَّتُه على عباده، وخليفتي من بعدي، مختوناً، ليلة النصف من شعبان، سنة خمس وخمسين ومائتين عند طلوع الفجر، وكان أوَّل مَنْ غسَّله رضوان خازن الجنان مع جمع من الملائكة المقرَّبين بماء الكوثر، والسلسبيل، ثمَّ غَسَّلتْه عمَّتي حكيمة بنت محمَّد بن علي الرضا عليهما السلام. قال: أمُّه مليكة التي يقال لها بعض الأيام سوسن، وفي بعضها ريحانة، وكان صقيل، ونرجس أيضاً من أسمائها).
الحديث الثالث: (سطع له نور في أثناء ولادته):
وقال ابن بابويه رحمه الله: حدَّثنا محمَّد بن إبراهيم بن إسحاق الطَّالقاني قال: حدَّثنا الحسن بن علي بن زكريا بمدينة السلام، قال: حدَّثنا أبو عبد الله محمَّد بن خليلان، قال: حدَّثنا أبي عن أبيه عن غياث بن أسيد، قال: سمعتُ محمَّد بن عثمان العَمْرِي قدَّس الله روحه يقول:
لمَّا ولد الخلف المهدي صلوات الله عليه سطع نورٌ من فوق رأسه إلى (أعنان)(5) السماء، ثمَّ سقط لوجهه ساجداً لربِّه عز وجل، ثمَّ رفع رأسه وهو يقول: (اشهد الله أنَّه لا إله إلاّ هو والملائكة وأولي العلم قائماً بالقسط لا إله إلاّ هو العزيز الحكيم).
قال: وكان مولده يوم الجمعة.
الحديث الرابع: (كلامه عليه السلام حين ولادته):
قال الشيخ الصدوق أبو جعفر بن علي بن الحسين قدس سره:
حدَّثنا محمَّد بن ماجيلويه، وأحمد بن محمَّد بن يحيى العطَّار قالا: حدَّثنا محمَّد بن يحيى، قال: حدَّثنا الحسن(6) بن علي النيشابوري، عن إبراهيم بن محمَّد بن عبد الله بن موسى بن جعفر بن محمَّد عليهم السلام، عن السيَّاري قال: حدَّثني نسيم، ومارية قالتا:
(لمَّا سقط صاحب الزمان عجل الله فرجه من بطن أمِّه، سقط جاثياً على ركبتيه، رافعاً سبَّابتيه إلى السماء، ثمّ عطس، فقال: الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّد وآله؛ زعمت الظلمة أنَّ حجَّة الله داحضة، لو أذِنَ لي في الكلام لزال الشكُ).
قال إبراهيم بن محمَّد بن عبد الله:
وحدَّثتني نسيم خادمة أبي محمَّد عليه السلام قالت: قال لي صاحب الزَّمان عليه السلام، وقد دخلت بعد مولده بليلة، فعطستُ عنده، فقال لي: يرحمك الله.
قالت نسيم: ففرحتُ بذلك، فقال لي عليه السلام: ألا أبَشِّرك في العطاس؟
فقلت: بلى.
فقال: هو أمان من الموت ثلاثة أيام).
وروى أبو علي الخيزراني عن جارية للإمام العسكري عليه السلام:
(لمَّا ولد القائم عليه السلام (7) رأيت(8) له نوراً ساطعاً قد ظهر منه، وبلغ أفق السماء، ورأيتُ طيوراً بيضاء تهبط من السماء، وتمسح أجنحتها على رأسه، ووجهه، ثمَّ تطير.
فأخبرنا أبا محمَّد بذلك، فضحك، ثمَّ قال: تلك ملائكة نزلت للتبرك بهذا المولود، وهي أنصاره إذا خرج).(9)
وفي تتمة هذا الحديث برواية أخرى(10) رواها ابن بابويه عن طريف الخادم أنَّه قال:
(دخلت على صاحب الزَّمان عجل الله فرجه(11) فقال: عليَّ بالصندل الأحمر.
فأتيته به؛ ثمَّ قال: أتعرفني؟
قلت: نعم.
فقال: مَنْ أنا؟
فقلت: أنت سيِّدي، وابن سيِّدي.
فقال: ليس عن هذا سألتك.
قال طريف: فقلت: جعلني الله فداك فبيِّن لي.
قال: أنا خاتم الأوصياء، وبي يدفع الله عز وجل البلاء عن أهلي وشيعتي).(12)
الحديث الخامس: (أحواله عليه السلام حين ولادته):
قال الشيخ الجليل محمَّد بن الحسن الطوسي نوَّر الله مرقده:
وفي رواية أخرى عن جماعة من الشيوخ:
أنَّ حكيمة حدَّثت بهذا الحديث (أي حديث ولادة الصاحب عليه السلام)، وذكرت: (إنَّه كانت ليلة النصف من شعبان، وأنَّ أمّه نرجس؛ وساقت الحديث إلى قولها: فإذا أنا بحسِّ سيِّدي، وبصوت أبي محمَّد عليه السلام وهو يقول: يا عمَّتي! هاتي ابني إليَّ.
فكشفت عن سيِّدي، فإذا هو ساجد متلقِّياً الأرض بمساجده، وعلى ذراعه الأيمن مكتوب (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً)، فضممته إليَّ، فوجدته مفروغاً منه، فلففته في ثوب، وحملته إلى أبي محمَّد عليه السلام ).
وذكروا الحديث إلى قوله: أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنَّ محمَّداً رسول الله، وأنَّ علياً أمير المؤمنين حقَّاً، ثمَّ لم يزل يعدّ السادة الأوصياء إلى أن بلغ إلى نفسه، ودعا لأوليائه بالفرج على يديه، ثمَّ أحجم.
وقالت: (ثمَّ رفع بيني، وبين أبي محمَّد عليه السلام كالحجاب، ولم أر سيِّدي، فقلت لأبي محمَّد عليه السلام: يا سيِّدي! أين مولاي؟!
فقال: أخذه مَنْ هو أحقّ منكِ، ومنَّا.
ثمَّ ذكروا الحديث بتمامه، وزادوا فيه:
فلمَّا كان بعد أربعين يوماً دخلتُ على أبي محمَّد عليه السلام، فإذا مولانا الصاحب عليه السلام يمشي في الدار، فلم أر وجهاً أحسن من وجهه، ولا لغةً أفصح من لغته.
فقال أبو محمَّد عليه السلام: هذا المولود الكريم على الله عز وجل.
فقلت: سيَّدي، أرى من أمره ما أرى وله أربعون يوماً؟!
فتبسَّم، وقال: يا عمَّتي، أما علمت إنَّا معاشر الأئمّة ننشؤ في اليوم ما ينشؤ غيرنا في السنة.
فقمت وقبَّلتُ رأسه، وانصرفت، ثمَّ عدت، وتفقدته، فلم أره، فقلت لأبي محمَّد عليه السلام: ما فعل مولانا؟
فقال: يا عمَّة، استودعناه الذي استودعته أمُّ موسى عليه السلام ).(13)
وقد ورد في روية أخرى: أنَّ الإمام العسكري ينقل... (أسكتي فإنَّ الرضاع يحرم عليه إلاّ من ثدييك، ويعاد إليك كما ردَّ موسى عليه السلام إلى أمِّه، وذلك قول الله عز وجل: (فَرَدَدْناهُ إِلى أمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ).(14)
الحديث السادس: (الإمام العسكري عليه السلام يعق عنه):
قال الشيخ الصدوق أبو جعفر بن بابويه رحمه الله:
حدَّثنا محمَّد بن علي ماجيلويه رضي الله عنه قال: حدَّثنا محمَّد بن يحيى العطار قال: حدَّثني إسحاق بن روح البصري، عن أبي جعفر العَمْرِي قال:
(لمَّا ولد السيِّد عليه السلام، قال أبو محمَّد صلوات الله عليه: ابعثوا إليَّ بأبي عمرو.
فبعث إليه؛ فقال له: اشتر عشرة آلاف رطل خبزاً، وعشرة آلاف رطل لحماً، وفرِّقه؛ (أحسبه قال: على بني هاشم) وعقَّ عنه بكذا، وكذا شاة).(15)
الحديث السابع: (التقاء إبراهيم النيشابوري به عليه السلام في حياة أبيه):
قال الفضل بن شاذان:
حدَّثنا إبراهيم بن محمَّد بن فارس النيشابوري، قال:
(لمَّا همَّ الوالي عمرو بن عوف بقتلي _ وهو رجل شديد النَّصب، وكان مولعاً بقتل الشيعة _ فأخْبِرْت بذلك، وغلب عليَّ خوف عظيم؛ فودَّعتُ أهلي، وأحبَّائي، وتوجَّهتُ إلى دار أبي محمَّد عليه السلام لأودعه، وكنت أردتُ الهرب.
فلَّما دخلتُ عليه رأيت غلاماً جالساً في جنبه، وكان وجهه مضيئاً كالقمر ليلة البدر، فتحيَّرتُ من نوره، وضيائه، وكاد أن أنسى ما كنت فيه من الخوف، والهرب، فقال: يا إبراهيم! لا تهرب؛ فإنَّ الله تبارك وتعالى سيكفيك شرَّه.
فازداد تحيُّري، فقلت لأبي محمَّد عليه السلام: يا سيِّدي؛ جعلني الله فداك، من هو، وقد أخبرني عمَّا في ضميري؟
فقال: هو ابني، وخليفتي من بعدي، وهو الذي يغيب غيبةً طويلةً، ويظهر بعد امتلاء الأرض جوراً، وظلماً، فيملأها قسطاً وعدلاً.
فسألته عن اسمه؛ قال: هو سميّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكنيّه، ولا يحلّ لأحد أن يسمّيه باسمه، أو يكنيه بكنيته إلى أن يظهر الله دولته، وسلطنته؛ فاكتم يا إبراهيم ما رأيت وسمعت منَّا اليوم إلاّ عن أهله.
فصلَّيت عليهما وآبائهما، وخرجتُ مستظهراً بفضل الله تعالى، واثقاً بما سمعتُه من الصاحب عليه السلام.
فبشَّرني علي بن فارس: بأنَّ المعتمد قد أرسل أبا أحمد أخاه، وأمره بقتل عمرو بن عوف.
فأخذه أبو أحمد في ذلك اليوم، وقطَّعه عضواً عضواً، والحمد لله ربِّ العالمين).
الحديث الثامن: (عرض الإمام العسكري ولده عليه السلام على أحمد بن إسحاق):
قال الصدوق عليه الرحمة:
حدَّثنا علي بن عبد الله الوراق، قال: حدَّثنا سعد بن عبد الله، عن أحمد بن إسحاق بن سعد الأشعري، قال:
(دخلتُ على أبي محمَّد الحسن بن علي عليهما السلام وأنا أريد أن أسأله عن الخلف من بعده؛ فقال لي مبتدءاً: يا أحمد بن إسحاق! إنَّ الله تبارك وتعالى لَمْ يخل الأرض منذ خلق آدم عليه السلام، ولا يخليها إلى أن تقوم الساعة من حجَّة لله على خلقه؛ به يدفع البلاء من أهل الأرض، وبه ينزِّل الغيث، وبه يخرج بركات الأرض.
قال: فقلت له: يا بن رسول الله؛ فمن الخليفة، والإمام بعدك؟
فنهض عليه السلام مسرعاً، فدخل البيت، ثمَّ خرج وعلى عاتقه غلام كأنَّ وجهه القمر ليلة البدر، من أبناء ثلاث سنين؛ فقال: يا أحمد بن إسحاق! لولا كرامتك على الله عز وجل، وعلى حججه ما عرضتُ عليك ابني هذا، إنَّه سميُّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكنيُّه، الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً.
يا أحمد بن إسحاق! مثله في هذه الأمة كمثل الخضر عليه السلام، ومثله مثل ذي القرنين، والله ليغيبنَّ غيبةً لا ينجو من الهلكة فيها إلاّ مَنْ ثبَّته الله عز وجل على القول بإمامته، ووفَّقه للدعاء بتعجيل فرجه.
قال أحمد بن إسحاق: قلت: يا مولاي، هل من علامة يطمئن إليها قلبي؟
فنطق الغلام عليه السلام بلسان عربيٍّ فصيح، فقال: أنا بقيَّة الله في أرضه، المنتقم من أعدائه، فلا تطلب أثراً بعد عين، يا أحمد بن إسحاق.
فخرجت فرحاً مسروراً، فلمَّا كان الغد عدُّت إليه، فقلت: يا ابن رسول الله، لقد عظم سروري بما مننت عليَّ، فما السنَّة الجارية فيه من الخضر، وذي القرنين؟
فقال: طول الغيبة، يا أحمد.
فقلت له: يا ابن رسول الله، وإنَّ غيبته لتطول؟
قال: إي وربِّي حتَّى يرجع عن هذا الأمر أكثر القائلين به، فلا يبقى إلاّ مَنْ أخذ الله عهده بولايتنا، وكتب في قلبه الإيمان، وأيَّده بروح منه.
يا أحمد بن إسحاق! هذا أمر من أمر الله جلَّت عظمته، وسرٌّ من سرِّ الله، وغيب من غيب الله، فخذ ما آتيتك واكتمه وكن من الشاكرين تكن معنا (غداً)(16) في عليين).(17)
اللهمَّ ارزقنا جوار أصفيائك الطاهرين.
الحديث التاسع: (الإمام الكاظم عليه السلام يبشر بالمهدي عليه السلام ):
قال ابن بابويه في كتاب كمال الدين:
حدَّثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني رضي الله عنه، قال: حدَّثنا علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن صالح بن السندي، عن يونس بن عبد الرحمن، قال:
دخلت على موسى بن جعفر عليهما السلام، فقلت له: يا بن رسول الله، أنت القائم بالحق؟
قال: أنا القائم بالحق؛ لكن القائم الذي يطهر الأرض من أعداء الله عز وجل، ويملأها عدلاً كما ملئت جوراً وظلماً هو الخامس من ولدي له غيبة يطول أمدها خوفاً على نفسه، يرتدّ فيها قوم، ويثبت فيها آخرون.
ثمَّ قال عليه السلام: طوبى لشيعتنا المتمسكين بحبلنا في غيبة قائمنا الثابتين على موالاتنا والبراءة من أعدائنا أولئك منَّا، ونحن منهم، قد رضوا بنا أئمّةً، ورضينا بهم شيعةً؛ فطوبى لهم، والله إنَّهم معنا في درجتنا يوم القيامة).(18)
والسلام على من اتبع الهدى.
الحديث العاشر: (علة قتل خلفاء الجور أئمة الحق عليهم السلام):
قال أبو محمَّد بن شاذان عليه الرحمة:
حدَّثنا أبو عبد الله بن الحسين بن سعد الكاتب رضي الله عنه قال أبو محمَّد عليه السلام:
قد وضع بنو أميَّة، وبنو العبَّاس سيوفهم علينا لعلَّتين:
إحداهما: إنَّهم كانوا يعلمون ليس لهم في الخلافة حقّ، فيخافون من ادِّعائنا إيَّاها، وتستقرّ في مركزها.
وثانيتهما: إنَّهم قد وقفوا من الأخبار المتواترة على أنَّ زوال ملك الجبابرة، والظلمة على يد القائم منَّا، وكانوا لا يشكُّون أنَّهم من الجبابرة، والظلمة، فسعوا في قتل أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإبادة(19) نسله طمعاً منهم في الوصول إلى القائم عليه السلام، أو قتله؛ فأبى الله أن يكشف أمره لواحد منهم إلاّ أن يتمّ نوره ولو كره المشركون.
ويؤيد هذا الحديث ما نقله الشيخ الطوسي، والشيخ الطبرسي، والشيخ الراوندي، وجمع كثير غيرهم عن رشيق المادرائي.
وقد ذكر سابقاً في مولده الشريف أنَّه كانت ولادة الإمام المهدي عليه السلام في سنة مائتين وخمس وخمسين للهجرة، وكانت وفاة الإمام الحسن العسكري عليه السلام _ على المشهور _ في سنة مائتين وستين، فيكون قد قضى من عمره الشريف خمس سنوات؛ وعليه فإنَّه صار إماماً وله من العمر خمس سنوات، ومع ذلك فقد ظهرت منه المعجزات، وغرائب الأحوال عليه السلام.
وكانت له غيبتان أحداهما الصغرى، والأخرى الكبرى.
وكان يرفع له عليه السلام في غيبته الصغرى جمع من سفرائه، ونوَّابه رقاعاً، ومسائل الناس، ويأتون بالأجوبة بخطه الشريف.
كما كان عليه السلام يقبض الخمس، والنذور التي يبعثها شيعته، ويأمر بإيصالها إلى السادات، وفقراء الشيعة، وكان يعيّن لجماعة كثيرة عطايا سنوية يتقاضونها كل سنة.
الهوامش
(1) يبدو أن المؤلف قد أضاف هذا المقطع إلى هذه الرواية من الروايات الأخرى التي وردت فيه؛ من جملتها: ما رواه الشيخ الصدوق في: كمال الدين/ ص 425/ باب 42/ حديث (1) عن السيدة حكيمة في مولده عليه السلام، إلى أن قال عليه السلام: فإذا أنا به نظيف متنظف.
وفي: ص434 و435/ باب 44/ حديث 1، بإسناده عن أبي هارون قال: (رأيت صاحب الزمان عليه السلام ووجهه يضيء كأنَّه القمر ليلة البدر، ورأيت على سرَّته شعراً يجري كالخط، وكشفت الثوب عنه فوجدته مختوناً، فسألت أبا محمَّد عليه السلام عن ذلك، فقال: هكذا ولد، وهكذا ولدنا، ولكنَّا سنمِّر الموسى عليه لإصابة السنَّة).
وروى الشيخ الطوسي في: الغيبة/ ص 239/ فقرة 207، عن السيدة حكيمة في خبر ولادته عليه السلام أنها قالت عليها السلام: (فكشفت عن سيدي، فإذا هو ساجد متلقياً الأرض بمساجده، وعلى ذراعه الأيمن مكتوب: (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً)، فضممته إليَّ، فوجدته مفروغاً منه، فلففته في ثوب، وحملته إلى أبي محمَّد عليه السلام).
(2) وجاءت في المتن جملة إعتراضية من المؤلف رأينا وضعها في الهامش أنسب، وتعريبها: وهذه الآية نازلة وفق الأحاديث المعتبرة بحقِّه عليه السلام، وبشأن آبائه عليهم السلام.
(3) قد نقل المؤلف هذا المقطع من رواية الشيخ الطوسي التي رواها عن السيدة حكيمة عليها السلام في خبر مولده عليه السلام ؛ راجع: الغيبة/ ص 236/ الفقرة 204.
(4) راجع: كمال الدين/ الصدوق: ص 326 - 329؛ وجاء في آخره: (وقد أخبرني البارحة بمجيئك إليَّ، وأمرني أن أخبرك بالحقِّ).
(5) هذه الزيادة في نسخة المصدر المطبوعة، ولا توجد في نسخة الكتاب.
(6) في المصدر: الحسين، بدل الحسن.
(7) في المصدر: لما ولد السيِّد، بدل القائم.
(8) في المصدر: رأت، بدل رأيت.
(9) كمال الدين/ الصدوق: ص 431/ باب 42، حديث 7.
(10) ذكر الشيخ الصدوق في المصدر هذه الرواية بشكل مستقل عن الرواية الأولى، وليست متممة لها؛ فبعدما ذكر الرواية الأولى التي عنونها مؤلف كتابنا هذا تحت رقم الحديث الرابع، وأنهاها بكلمة: من الموت ثلاثة أيام؛ أتبع هذه الرواية بالرواية التالية حيث قال: وبهذا الإسناد، عن إبراهيم بن محمَّد العلوي قال: حدَّثني طريف أبو نصر (نصير خ. ل) ... الخ.
(11) في أصل هذا الكتاب كانت في ترجمة العبارة زيادة مؤداها: دخلت في حجرة كان صاحب الزمان عجل الله فرجه في مهد في تلك الحجرة... الخ؛ والظاهر أنَّ الزيادة وقعت بسبب الترجمة، وليست من أصل الرواية، والله تعالى العالم.
(12) كمال الدين: ص 431/ باب 43/ حديث 12.
(13) الغيبة/ الطوسي: ص 239 و240/ تحت فقرة 207.
(14) القصص: 13.
(15) كمال الدين: ص 430/ باب 42/ حديث 6.
(16) هذه الزيادة في المصدر.
(17) كمال الدين: ص 384 و385/ باب 38/ حديث 1.
(18) كمال الدين: ص 361/ باب 34/ حديث 4.
(19) وفي نسخة أخرى: إبارة؛ بدل إبادة.