بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
التعددية والحرية في الإسلام بحث حول حرية المعتقد وتعدد المذاهب تقديم للطبعة الثانية بقلم سماحة آية الله الشيخ محمد مهدي شمس الدين بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد واله الطيبين الطاهرين. إن نظرة بسيطة إلى ما حولنا في الكون المادي الطبيعي، وانتباها إلى ما يحيط بعالمنا و محيطنا الخاص، على مساحة الكرة الأرضية، والتفاته بسيطة إلى آفاق السماء وأعماق الأرض، وإلى الأكوان الإخرى في المجرات الإخرى، تجعل الإنسان يتلقى فورا إحدى اكبر الحقائق الموضوعية التي تطبع عالم الشهادة القريب والبعيد، تطبع الأكوان كلها، وهي التنوع الهائل المدهش الذي تتسم به كل العوالم: عالم المادة الجامدة بشتى تجليانها، من الذرة وما تستبطنه من عوالم إلى المجرات الكبرى، وعالم النبات بكل تنوعاته المدهشة والرائحة والمعجبة، من البذرة الصغيرة المتناهية في الصغر، إلى الأشجار العملاقة، أشجار السيكويا العملاقة. وعالم الحيوان بكل تنوعاته الرائعة من النملة الصغيرة إلى الكائنات لكبيرة. هذا التنوع ليس تنوعا في الأشكال فقط، بل هو تنوع في المهمات وفي الوظائف، وفي التركيب الداخلي، وفي المظاهر الخارجية، إنه تنوع يستوعب كل شيء، ويشمل كل شيء. من هنا فان التنوع يعتبر ظاهرة كونية، وهذا الخنوع في عالم الطبيعة بشتى تجليانها لم يحدث صدفة، كما لم يحدث بطبيعة الحال خارج الإرادة الإلهية المقدسة، بل دل الكتاب العزيز والسنة المطهرة، على أن هذا التنوع من مظاهر الخلق الكبرى، ومن مظاهر الإعجاز في الخلق، ومظاهر الإبداع في الخلق، وتلاحظ الآيات المباركة التي تنص على هذه الحقيقة في عالم الممكنات، فهي تدل على أن الله سبحانه وتعالى وتبارك هو احسن الخالقين، و أبدع الخالقين لا بمجرد إيجاد الأشياء من العدم، بل بإيجادها على هذه الصورة البديعة في تنوعها واختلافها وهي التي تعطي نكهة وطعما للعالم فتجعله عالما جميلا وفاتناً. وهذا التنوع كما تدلنا آيات الكتاب العزيز هو لي!س سمة عالم الدنيا فقط، بل هو سمة عالم الآخرة أيضا. الآيات المباركة حدثتنا عن أن الوجود الاخروي وجود متنوع أيضا. طبعأ هناك فائزون وهناك خاسرون، تحدث هنا عن الفائزين، الآيات تتحدث عن نعيم متشابه (وأتوا به متشابها) ولكن الآيات القرآنية تتحدث أيضا عن تنوع كبير في أوضاع الفائزين، نسأل الله أن يجعلنا منهم، ومن الرتب العالية فيهم برحمته وكرمه. الفائزون هم أيضا يعيشون حياة متنوعة، وليست رتيبة، وهذه نقطه يحسن تقصيها في القرآن الكريم، وفي السنة الشريفة المتعلقة بهذا الموضوع. هذا التنوع في عالم الموجودات المادية ما خفي منها وما ظهر، يجعلنا ننتقل بالفكر إلى التنوع الموجود في ميول البشر، وفي اعتقاداتهم ونزعاتهم واتجاهاتهم، وليس خصوص تنوعهم المادي في إشكالهم ولغاتهم وامزجتهم. نلاحظ مستويين من التنوع: نلاحظ تنوعا فيما لا يتصل بالعقائد الدينية، في الثقافات والأذواق، وأنماط العيش، وطرز البناء، والزيّ، وما إلى ذلك مما يتصل بالثقافة بالمعنى العام، في صيغة الحياة الإنسانية، وممارستها على الأرض وفي المجتمع. وهو تنوع هائل وقد يكون في كثير من الحالات رائعا، لأنه ينسجم مع التنوع التكويني في المخلوقات فيضيف بهجة وعنصر إثارة إلى المجتمعات الإنسانية وإلى حياتها. وهناك تنوع نلاحظه في مجال الاعتقادات الدينية، وما يتصل بها من قناعات واتجاهات سياسية تتعلق بالصيغة التي ينبغي أن تكون عليها حياة الإنسان في مجتمعه من حيث نظامه السياسي والاجتماعي وما يتصل بذلك. هذا التنوع هل هو أمر طبيعي في المجتمعات أو أنه غير طبيعي فيها؟ هذا التنوع هو أحد مظاهر الوجود البشري منذ العهود الأولى لجنس الآدمي على هذه الأرض، منذ اسرة آدم الأولى إلى زماننا هذا لم يأت وقت- فيما نحسب- على النوع الإنساني، لم يكمن فيه مختلفا أو متنوعا في اعتقاداته الدينية والسياسية، ولم يكن ما يسمى بالتعددية ظاهرة ثابتة فيه. ربما مرت فترة صغيرة قصيرة على المنوع الإنساني و!و موحد من هذه الجهة كما على بعض التفسيرات الواردة في قوله تعالى: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين) على أي حال معظم تاريخ الإنسان على الأرض هو تاريخ التنوع، وتاريخ الاختلاف، وتاريخ التعددية في هذا المجال، هنا نسأل: ترى هل هذا التنوع في باب الاعتقادات، هل ينسجم مع طبيعة الخلق الإنساني؟ هل ينسجم مع أهداف وغايات الخلق أو انه لا ينسجم مع هذه الأهداف وهذه الغايات؟ إذا قارنا هذه الظاهرة في تنوع البشر الاعتقادي، وتعدد البشر الاعتقادي، مع ظاهرة التنوع والتعدد الشاملة لكل مظاهر الخلق المادي في جميع الأكوان، فينبغي أن نراها ظاهرة طبيعية تنسجم مع أهداف الخلق، وأهداف الوجود في هذا العالم. ويجب أن نجد تفسيرا لهذا التنوع في باب الاعتقادات ينسجم مع الغايات العامة للخلق. الأمر الآخر الذي أريد أن انبه عليه في هذه المداخلة: هو أن هذا التنوع ترى هل حدث بالرغم من الإرادة الالهية، أو انه ينسجم مع الإرادة الإلهية؟ لا ريب في أنه لم يحدث رغما عن الإرادة االالهية التكوينية، هذا أمر لا ريب فيه، حيث يستحيل أن نتوهم أن شيئا ما يحدث في أي كون من الأكوان خارج عن الإرادة الإلهية التكوينية. الكلام أنه هل هو موافق للإرادة التشريعية الإلهية أم لا؟ بمعنى هل هناك وضع تشريعي يتلاءم مع وجود هذا التنوع بحيث نعتبر هذا التنوع مشروعا أو غير مشروع؟ هنا هذه هي النقطة المركزية التي يبحث عنها وهو نه: من منظور إسلامي على مستوى العقيدة الإسلامية، وغلى مستوى العقيدة الإسلامية، هل ينظر الإسلام إلى التنوع في المجتمع البشري، وإلى التنوع في داخل عالمه الخاص، الذي قد يصل إلى التعارض معه على مستوى الفكر، وعلى مستوى العقيدة، هل ينظر إليه على أنه أمر مشروع أم لا؟ وهنا يجب أن نمرق بين المشروعية، مشروعية الوجود، وبين حقانية الوجود. لا نسأل عن أن هذا التنوع إذا خالف الإسلام في قليل أو كثير هل هو حق أم لا؟ من هذه الناحية، نحن المسلمين نعتقد أن كل ما يخالف الإسلام في قليل أو كثير، في عقيدته أو شريعته، هو ليس حقًا، بل باطل. الكلام ليس هنا، ليس في اعطاء صفة الحق، وصفة الواقعية للمختلف، بل في اعطاء صفة المشروعية، بمعنى هل يشرع له أن يكن موجوداً أو لا يشرع له أن يكون موجوداً؟ وهذه المسألة هي مسألة فقهية في الحقيقة، و هي ليست مسألة كلامية، من ناحية علم الكلام يبحث في أن المتنوعات كلها حقائق، أو أن فيها أباطيل وفيها حقائق، هذه مسألة كلامية فلسفية وهي ليست مورد بحثنا. نحن من زاوية فقهية وعقائدية فلسفية نعتبر أن كل شيء ما عدا الإسلام باطل بحسب ما ندين به لله سبحانه وتعالى، ولكن هل هو مشروع؟ هل له حق الوجود؟ هل له حق الاستمرار؟ هل له حق أن يعبر عن نفسه؟ أن يتنوع أصحابه عن سائر المجتمع أو لا؟ الفكرة السائدة في الفقه الإسلامي: أن وجود التنوع غير مشروع، وهذه في الواقع هي الفكرة السائدة في الشرائع الأخرى، في حدود ما نعلم كل الشرائع، وكل النظم العقائدية هي تنفي مشروعية الوجود عن كل ماعداها في قليل أو كثير، وكل شريعة وكل نظام يحاول أن يجعل من الناس صيغة واحدة ونسخة واحدة منه بحيث يكون الناس تعبيراً متجانساً في الظهور والإثبات عنه في عالم الثبوت، ولا يسمح بأي نوع، ويعتبر أن أي نوع هو خارج عن الشريعة، ليس لها حق البقاء ويجب أن تقمع وأن تحارب. رأينا هذا الأديان الوثنية، ورأينا هذه الأديان التوحيدية السماوية، رأيناه في المسيحية وفي اليهودية وفي المجوسية وفي الديانات الكبرى التي نعتقد أيضاً أن لها أصلاً في الوحي مثل البودية والكنفوشية والهندوسية وما إلى ذلك كلها، تحاول أن تنفي الآخر، وان تثبت ذاتها، ولذلك فان التاريخ العالمي، تاريخ البشر حفل بالعديد العديد من الحروب وأعمال العنف، التي كان منشؤها محاولة الدين الأقوى، أو العقيدة الأقوى، ان توحد المجتمع فيها وعليها، وان تنفي وجود الأغيار، بزعم أن هذا الوجود هو غير شرعي، لأنه مخالف للعقيدة المقدسة، وللإرادة الآلهة، وان أصحابه وحملته لا يتمتعون بأية حرمة، ولا يتمتعون بأية حقوق تسمح لهم بأن يكونوا متنوعين. بل إن تاريخ ?لتنوع الإنساني تقريبا كان المحرك الأعظم الله اهوي فيه تقريباً هذا المحرك، إذا غضضنا النظر عن الدوافع الاقتصادية والسلطوية للحروب، فان الحروب الدينية احتلت مساحة كبيرة جدأ من تاريخ البشر. في الإسلام النظرة الفقهية عنه وفيه أيضا هكذا. النظرة السائدة من غير المسلمين إلى الإسلام هو انه لا يعطي شرعية لأي غير من الأغيار، بل يفترض أدن كل التنوعات ينبغي أن تذوب، وان يتوحد الناس فيه جملة وتفصيلا. وفي الإسلام كما في غيره تجاوز الأمر التوحد الديني إلى محاولات شرسة للتوحد المذهبي أيضأ، حيث يفترض أو يدعى أن من غير المسموح أن يكون داخل المعتقد الواسع الكبير تنوع مذهبي في التفصيلات الثانوية الكبرى داخل الدين. وهكذا نلاحظ أيضا أن هناك حروب إبادة كانت في داخل الأديان الكبرى من مذهب غالب ضد المذاهب والاتجاهات المغلوبة على أمرها. وهذه الظاهرة حصلت أيضا في الإسلام، وحصلت عمليات اضطهاد وقمع وإبادة في بعض الحالات ضد كيانات مذهبية من قبل سلطات تحمل عقيدة أو تعتنق عقيدة مذهبية أخرى. النظرة الشاسعة والسائدة إلى الإسلام هو انه لا يعطي شرعية للتنوعات. ترى هذه النظرة من الناحية الفقهية المحضة- وقلت أننا نبحث عن المسألة من الناحية الفقهية- هل هي نظرة صحيحة؟ هل تدل عليها نصوص شرعية من الكتاب والسنة؟ هل كانت ظاهرة بارزة في السيرة النبوية؟ هذه هي المسألة التي نودّ أن نضيء بعض جوانبها تاركين التفصيل والتوسع في البحث الفقهي إلى مضانه.. وهذا الكتاب (التعددية والحرية في الإسلام) الذي كتبه فضيلة العلامة الجليل الشيخ حسن الصفار أيده الله سبحانه وتعالى، يعالج ويبحث هذه النقطة. وقد قرأت هذا الكتاب، واهنىء فضيلة الشيخ الجليل على توفيق الله له في انجاز هذا العمل، الذي يشق طريقا في مجال غير مطروق في الأبحاث الفقهية والفكرية الإسلامية. أتستطيع أن أقول: إن فضيلة الشيخ الجليل قد وفق توفيقاً كبيرا في إثارة الأسئلة الصعبة في هذا الحقل، ووفق إلى حد كبير في تقديم الإجابات الملائمة على هذه الأسئلة، والتي اظهر فيها ما سنشير إليه بالاجمال من أن الموقف الإسلامي فكرا وفقها من التنوع والتعدد هو موقف إيجابي وليس سلبيا. الإسلام يعطي شرعية الوجود في العقائد والمذاهب والاتجاهات الفكرية المخالفة له، ولا يفرض على أصحابها الإذعان له من دون قناعات، ولا يكره على اعتناقه أحدا. أعود لأقول: إن الكتاب الذي بين يدي القارئ هو أحد الكتب الجديرة بالعناية والرعاية والانتفاع، وأمل من فضيلة الشيخ الجليل، أن يتابع اهتماماته في هذا الحقل، التي اشعر بأن المسلمين بحاجة إليها فيما بينهم. قبل كل شيء وقبل أن نبحث عن مشكلة عالم الأفكار خارج الإسلام، ينبغي بل يجب أن نبحث عن مشكلة عالم الأفكار داخل الإسلام، ينبغي أن ننهي المشكلة التي عاشها المسلمون منذ قرون طويلة، منذ نهايات القرن الأول للهجرة وبدايات القرن الثاني، وهي مشكلة نظر أبناء المذاهب الإسلامية إلى بعضهم وكأنهم ينتمون إلى عوالم مختلفة، وقد تصل هذه النظرة إلى حد سلب شرعية الوجود أو الشرعية الكاملة، في بعخى الحالات تسلب الشرعية المطلقة عن المذهب المخالف، وفي حالات أخرى يعطى شرعية ناقصة تحرم معتنقيه من كثير من حقوقهم الإنسانية الشرعية، التي أقرتها لهم الشريعة العامة والشرائع الخاصة. المسلمون يواجهون مشكلة أن يحلوا إشكالهم الخاص، إشكالهم الداخلي، فيتوحدوا داخل الإسلام وان تنوعوا داخل المذاهب، وليعتبروا أن هذه المذاهب هي تيارات موجودة داخل إسلام واحد. أما بالنسبة إلى المبدأ العام الذي تقوم عليه شرعية التنوع العقائدي فيما بين البشر، وأساس شرعية التنوع في المعتقدات في المجتمع، من وجهة نظر إسلامية، نقول بإيجاز: أن المبدأ الأساسي في الإسلام، والذي نعتقد بأنه لا ينبغي أن يكون موضع جدل، هذا المبدأ التشريحي: هو عدم مشروعية الإكراه في الدين، يعني أن الناس ليسوا موضوعا للإكراه علي اعتناق الإسلام، يقول تعالى (لا إكراه في الدين) وبالإضافة إلى النص الصريح في هذه الاية، توجد عشرات النصوص المتضمنة لمعناها بصورة أو بأخرى في الكتاب العزيز، وفي السنة الصحيحة. وإذا كان الإسلام لا يشرع أي عمل للإكراه، إكراه غير المسلمين على اعتناقه فهنا نتساءل: هل إن دار الإسلام بالاصطلاح، يجب أن تكون نقية من وجهة نظر إسلامية بحيث لا يسكنها إلا المسلمون أو إنها تتسع لغير المسلمين؟ نلاحظ من واقع التاريخ، ومن نصوص التشريع، واحكام الجماعات غير المسلمة، إن دار الإسلام تتسع لغير المسلمين، وهؤلاء يتمتعون في در الإسلام بالحقوق السياسية والإنسانية الكاملة. إن هذا يكشف بصورة غير قابلة للريب على الله اهر أن الإسلام شرع مبدأ التنوع العقائدي في المجتمع، بطبيعة الحال في الدولة الإسلامية يكون هذا التنوع تحت سلطة الإسلام، وتحت شرعية السلطة الإسلامية التي تقبل بوجود هذه التنوعات، وتعطي لا صحابها الحق في أن يمارسوا التنظيمات والتعابير الملائمة عن مضمونهم الاعتقادي فيما بينهم، ولا يؤثر تنوعهم العقائدي عن المسلمين في استحقاقهم للتمتع بالحقوق الإنسانية الأساسية سياسية كانت أو غير سياسية، هذه الحقوق كفلها لهم ا لإسلام. فمن الناحية الفقهية نحن نرى أن الشريعة الإسلامية تقر مبدأ التنوع، وأن الانطباع السائد خطأ عن أن الإسلام يلغي جميع التنوعات في داخله، ولا يسمح لمجتمعه بأن يحتوي على أية تنوعان، وان أي تنوع من هذه التنوعات إذا سمح به فان المنتمين إليه يكونون مواطنين من الدرجة الثانية، أو الثالثة، بحيث يكونون مسلوبي الحقوق التي يخولها لهم النظام الإسلامي العام للمواطن. فهذا أمر لا نوافق عليه من الناحية الفقهية، وبعض ما يبدو أنه مسلمات فقهية في المسألة السياممية، وفي الفقه السياسي، وفي الفقه الإداري والتنظيمي، نحن ناقشنا في صحة هذا الفهم، في محل ذلك من أبحاثنا الفقهية، ورأينا أن كثيرا مما يبدو انه مسلمات في الفقه السياسي والفقه التنظيمي الاداري، فهو من الله واهر ر التنظيمية والتشريعية التدبيرية، التي اقتضاها ظرف تاريخي خاص، كان، المجتمع ووضع المجتمع، وعلاقات دار الإسلام أو دول الإسلام بالاغيار، تقتضي هذه التدابير. أما في زماننا فالمجال يتسع ووفقا للأدلة الشرعية من الكتاب والسنة لرؤية فقهية أخرى إلى هذا الموضوع.. وتفصيل البحث في هذه المسألة موكول إلى محله من دراساتنا في الفقه السياسي، والفقه الإداري التنظيمي. بالطبع فان الإسلام حين يسمح بوجود الأغيإر داخل المجتمع الإسلامي فانه لا يبيح ان يقوم هؤلاء بالدعوة إلى ترك الإسلام، وإلى اعتناق عقيدتهم، انه يعطي للإنسان شرعية أن يتمايز عن الإسلام، ولا يعطي شرعية للعمل ضد الإسلام، وهذا مبدأ أساسي لا يمكن المجادلة فيه. من جهة أخرى وحيث أن الإسلام يحي بصورة كاملة ومطلقة أن لا كراه في الدين، وان وجوب اعتناقه يقوم على القناعة به، فهو يعطي العذر لغير المعتنقين له إذا كانت قناعاهم لم تتكون بدرجة كافية، بالنسبة إليه، وهم معذورون حتى عند الله سبحانه وتعالى، وهنا نتكلم على المستوى الكلامي أو الفلسفي، فان من لم تبلغه الدعوة، أو بلغته ولم يعها، حقيقة وواقعاً، وليس ادعاءً وجحودا، هو معذور عند الله، ولا يمكن أن يؤاخذ بترك تكليف من تكاليف الجوانح أو الجوارح وهو لا يعي، للنص القاطع الذي ورد في الكتاب العزيز بصيغ مختلفة منها قوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) أعود فاكرر التنويه بهذا الكتاب وبمؤلفه فضيلة العلامة الجليل الشيخ حسن الصفار أيده الله تعالى، والكتاب فيما اعتقد يلبي حاجة ماسة ومتنامية في مجتمعاتنا الإسلامية الحي تعصف بها خلافات مذهبية وطائفية، وخلافات بين المسلمين الملتزمين وبين المسلمين الذي يعملون في الحقل السياسي على خلفيات من داخل اطر تنطمية غير إسلامية ذات طابع قومي أو غير قومي، وكذلك بعض المجتمعات تعصف بها الخلافات الدينية بين المسلمين وغيرهم، إن هذا الكتاب وامثاله من الأبحاث التي تشرح وجهة نظر الإسلام الرحبة والمنفتحة للتعايش مع الاغيار يلبي حاجة ماسة. والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا وسيدنا محمد واله الطاهرين. 11/4/1416هـ 1995/9/7 م محمد مهدي يشمس الدين بيروت/ لبنان تقديم للطبعة الأولى بقلم الدكتور محمد فتحي عثمان 1 بسم الله الرحمن الرحيم (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً)2 كرم الله بني آدم على اختلاف ألسنتهم وألوانهم ومذاهبهم الدينية والفكرية والعلمية بما منحهم في طبيعة خلقهم من طاقات وقدرات، وعلى رأسها الطاقة العقلية والإرادة الحرة، وقدرات النطق واللغة والتعبير: (وعلم آدم الأسماء كلها) 3، (خلق الإنسان* علمه البيان)4 وكان من نتائج العقل والإرادة الحرة ذلك الاختلاف الإنساني المشهود في تاريخ الإنسانية الطويل. اختلاف الإنسان مع نفسه وتغير فكره ما بين وقت وآخر، واختلاف الإنسان الفرد مع غيره من أفراد البشر، واختلاف الجماعة مع الجماعة. والاختلاف طبيعة إنسانية لا ضير فيها إذا صانته مناهج التفكير الرشيد وحرمات الأخلاق من مزالق التعصب الذي قد يدفع للكذب والعدوان على الحقيقة وعلى الناس أنفسهم، فإذا شط المرء وجمح دون ضابط دفعته طبيعته في الاعتزاز بالنفس والاعتداء على الغير إلى الاندفاع مع الأهواء وتجاوز الحدود المقبولة البناءة للخلاف إلى الاقتتال وإهدار حرية الآخرين في الرأي والتعبير، وإلى هذا أشار الملائكة في توقعهم من جنوح ذاتية الفكر وحرية الإرادة إلى سفك الدماء والإفساد في الأرض، ولأن طبعتهم الملائكية مجبولة على طاعة أمر الله والتسبيح بحمده (قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون ) 5 وقد شاء العليم الخبير أن يعمر الإنسان الأرض. وكان فكره وإرادته لحرة ضروريين لتحقيق عمارة الأرض وحضارة الإنسان كما شاء الله. وأدى اختلاف الأفكار والإيرادات والأعمال إلى تكامل وتعاون أحيانا وإلى تناقض وتصارع أحيانا أخرى، والله سبحانه في ذلك يبتليهم بالخير والشر فتنة، إماليه مرجعهم فيفصل بينهم فيما كانوا فيه يختلفون. ومحك ا الاختبار ليس هو أن يختلفوا أو لا يختلفوا، فالخلاف في فطرة الإنسان لا مهرب منه ولا محيص عنه، وإنما محك الاختبار هو كيف يتعاملون مع بعضهم البعض خلال! اختلافهم الفطري، فمن اهتدى عرفاللهج الفكري والخلقي والعملي الذي يسلك بالاختلاف السبيل القويم البناء فينتفع الناس من قدح العقول بعضها ببعض وتلاقح الأفكار بعضها مع بعض (كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض )6. أما من زاغ واتبع هواه فلم يحرف لإنسان آخر حقا أو رأياً، فقد انساق مع طبيعة الاختلاف البشري إلى التعصب للتنفس والاقتتال مع الغير والإفساد في الأرض. وهكذا يبتلي الله عباده بما ركب فيهم من طاقات وقدرات لينظر كيف يعملون، والبشر ليسوا مطالبين إلا بالمقدور من توجيه قدراتهم وترشيد تفكيرهم وأعمالهم وتزكية أنفسهم وإعلاء غرائزهم، ولكن يستحيل عليهم إلغاء طبيعتهم والتنكر لفطرتهم: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربّك ولذلك خلقهم )7، فالبشر مختلفون في طبيعتهم، وهم يبتلون بهذا الاختلاف لينظر الله كيف يتصرفون إزاءه، وهل يصلون من ذلك إلى المجادلة والحوار بالتي هي أحسن لتحقيق الاختيار والتوصل إلى القرار، أم يركب كل فرد أو جماعة الرأس ويتبع الهوى وينفق طاقته العقلية والنفسية والجسدية في فرض ما يراه وتصفية ما عداه من رأي ومن عداه من أصحاب الآراء الإخرى! وما يبذله في هذا السبيل محكوم عليه بالفشل الذريع الشنيع لأنه ضد طبيعة البشر في الاختلاف، ولا بد أن تنتهي قوة الإنسان أو أي جماعة من البشر إلى ضعف، وتنتهي الحياة إلى موت، فيتاح للآراء الإخرى وأصحابها الظهور من جديد: (وتلك الأيام نداولها بين الناس )8. وإذا كان فكر الإنسان وإرادته الحرة يسوقان حتما إلى الاختلاف حتى ولو كان الناس محصورين في بقعة معينة، فكيف وقد شاء الله أن يتنقل الناس في فجاج الأرض لأجل عمارتها (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور)9. وقد حمل الله الإنسان في البر والبحر بما أودع فيه من عقل يكشف عن آيات الله في الأفاق وسننه في الكون، ثم حمله في الجو وأجواء الفضاء، وهو بطاقة عقله وحواسه يسير في مدارج الحضارة وأطوارها ويركب (طبقاً عن طبق) تهيؤه لذلك صورته البدنية التي خلقها الله في أحسن تقويم لتعين الإنسان على العمارة والحضارة، فقدماه وقامته تساعده على الانتقال في البر والبحر، ويداه وذراعاه تعيناه على الزراعة والصناعة والتعامل أو قل تعيناه على صناعة الحضارة، حيثما تنقل أو استقر. وكلما أفسح أمام الإنسان مجال التنقل وانبسطت أمام قدميه الأرض وانبسطت أمام يديه وحواسه وعقله فنون العي!ش والعمران والحضارة، تزايد الاختلاف بين البشر نتيجة اختلاف البيئات واختلاف التجاوب مع معطيات البيئة، فيصير الناس شعوبا وقبائل ومجتمعات متباينة، فإذا تعارفوا وتواصلوا وتعاونوا استفادوا من اختلاف البيئات والأعراق والثقافات ثراء وتنوعا وتكاملا، وإذا تناكروا وتقاطعوا وتقاتلوا أهلك بعضهم بعضا وعم الضرر الغالب والمغلوب (يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا)10، (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)11، (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة)12. ومن أجل عمارة الأرض التي استخلف الله الإنسان واستعمره فيها خلق الله فيها موارد الرزق من ثروات نباتية وحيوانية وأرضية ومائية وجوية وقدر فيها أقواتها وأسبغ نعمه ظاهرة وباطنة، ووكل الإنسان إلى الإفادة من هذه الموارد وفي تحقيق هذه التنمية ابتغاء لفضل الله من "الطيبات " التي رزقها إياهم، نراهم يتباينون ويتفاوتون بحكم الفروق الفردية الفطرية والنسبية، وبحكم الفوارق الاجتماعية المفروضة بالسطوة والسلطة، وهكذا ينجم عامل آخر من عوامل الاختلاف يضاف إلى سوابقه، ويكون على الناس أن يتجهوا إلى حل فوارق الثورة بالعدل والحق، فيتحقق تكافؤ الفرص قبل البدء في التسابق والتنافس المشروع، ويكون ما يصل إليه الإنسان هو بجهده العقلي والنفسي والبدني، ويعطى العاجز عن دخول السباق أصلا لشيخوخة أو. مرض أو عجز ما يكفل له ضرورات العيش، ومن ثم يجتمع التنافس والتكافل، وتتوازن مصالح الفرد والجماعة. فإن استقام دولاب التنمية والإنتاج والتوزيع بما يحقق حوافز النفس وتوازن المجتمع، حقق الإنسان أفضليته وأثبت جدارته وتفوقه على كثير ممن خلق الله، وإن اختل ذلك أضيف عامل اختلاف بين البشر إلى عوامل أخرى، فيفسدون في الأرض ويسفكون الدماء ويهلكون الحرث والنسل ويدمرون أنفسهم والأرض التي استخلفوا واستعمروا فيها تدميرا. فكرامة بني آدم التي سجلها الله في كتابه هي فيما أنعم عليهم من طاقات وقدرات، وعليهم رعايتها وتنميتها تحدّثّا بنعمة الله ووفاء بمهمتهم في عمارة الأرض، وهب الله (الكرامـة) شاملة (البني آدم) على اختلاف أفرادهم وشعوبهم وقبائلهم ومللهم ونحلهم، و (كرامة بني آدم) هي صنع عمارة الأرض، لا ينفك أحدهما عن الآخر، فالبشر الذين يصونون كرامتهم الإنسانية في مختلف جوانبها يحققون العمران والحضارة، وفي العمران والحضارة تعزيز لكرامة الإنسان وتوسيع لنطاقها وضمان (كرامة بني آدم) التي حققها الله للإنسان في خلقه وفطرته قدرا لا بد من ضمان تحقيقها (شرعا)، وهكذا كفل الإسلام بعقيدته وشريعته مطالب التنمية للطبيعة وللإنسان وتنمية الإنسان شاملة لجوانبه البدنية والعقلية والنفسية والروحية معا دون تفرقة أو شتات.. وقد اختار الأخ الشيخ حسن الصفار أن يبرز هذه (التعددية) أو هذا (الاختلاف) الذي فطر عليه الإنسان بما حباه الله من عقل وإرادة، اتسع مداه بالتنقل في جنبات الأرض في البر والبحر، وفي الجو والفضاء وبابتغاء الرزق في هذا العالم الواسع الهائل، وأن يبرز في كتابه النافع إن شاء الله، كيف يضمن الإسلام للبشر (الحرية) التي تصلح وتصون وتنمي طبيعتهم في الفكر وحرية الإرادة من جهة، وكيف يكفل لهم في تعدديتهم وحريتهم التكامل والتعاون بما يحقق لهم إطارا من الوحدة يتناسب مع كرامة بني آدم فهي ليست وحدة القمع والمسخ والتشويه وصب الأفراد والجماعات في قالب واحد مفروض من الفكر والسلوك.. وأشهد أنني استمعت إلى الشيخ المؤلف وهو الداعية الإسلامي الملتزم بأحكامه، فوجدته على خلاف كثير من الدعاة الملتزمين غفر الله لنا ولهم، يؤكد حقوق الإنسان وحريته باعتبارها نعم الله الكبرى وركن الإسلام الركين، وهو في عرضه للإسلام وشريعته في أصوله الثابتة الخالدة وفي القضايا الحادثة يبرز هذا الأصل الجوهري في رسالة الله للناس، ولعل إبراز طابع فكر المؤلف المتميز بالنسبة لما يعرض اليوم في سوق الدعوة إلى الإسلام والحديث عن شريعته ودولته، يتضح من كلمات جاء فيها أن قدّمت بها كتابا لي سبق نشره عنوانه (حقوق الإنسان بين شريعة الإسلام والفكر القانوني الغربي) وهي تلتقي مع فكر الشيخ الصفار وكتابه: (أتت شريعة الله بإحقاق الحق وإبطال الباطل وإجراء العدل في مختلف صوره التي تتناول الفرد والمجتمع والدولة والعالم.. وإذا كان الحق يعني العدل والاستقامة والانتظام وانتفاء الميل والاعوجاج والاضطراب بوجه عام، وهو قائم في خلق الله جميعا جماده وأحيائه، فإنه أولى ما يكون في شأن الإنسان الذي خلقه الله في أحسن تقويم، وكرّمه وفضله على كثير ممن خلق الله تفضيلا..). فعبادة الله وانفاذ شريعته كان ينبغي أن يقترنا في الأذهان بإحقاق الحق وكرامة الإنسان: (فإن الله سبحانه أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط- وهو العدل الذي قامت به السماوات والأرض، فإذا ظهرت إمارات العدل وأسفر صبحه بأي طريق فثم شرع الله ودينه ورضاه وأمره).. كما عبّر في إصابة وبلاغة ابن قيم الجوزية رحمه الله (المتوفى سنة 751 هـ). يقول تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس)13.. ولكن من المسلمين المعاصرين من يذهب به الحماس لدينه وتحكيم شريعته إلى الغفلة أو التغافل عن (البينات والكتاب والميزان والقسط) ويطفر مباشرة إلى (الحديد) ليكون دين الله (قتالا) أول ما يكون، أو عقابا وقصاصأ وحدودا أول ما يكون.. ولا يصلح الناس بغير حاكم يسوسهم وقد لينت شريحة الإسلام حقوق أولي الأمر وواجباتهم، ولا بد من عقاب المهددين لأمن الجماعة والأفراد ومصالحهم كيا لا بد من دفع أعداء البلاد المهاجمين لأراضيها.. ولكن لا بد أيضا من أن تأخذ هذه الأحكام مكانها الصحيح من (الترتيب) المنطقي والعملي، ويبدأ فهم الإسلام وتطبيقه من إحقاق حقوقا الإنسان وحفظ كرامته، بحيث يستعمل (الحديد) والقوة في سبيل إحقاق الحق الذي قامت به السموات والأرض وقام به شرع الإنسان ونزل بهما كتابه، روى الطبري في سياق ابتداء أمر القادسية في أخبار سنة 14 هـ أن ربعي بن عامر دخل على رستم قائد الفرس في مجلسه، فسأله رستم: ما جاء بكم؟ فقال ربعي بن عامر: الله ابتعثا، والله جاء بنا: لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه.. إن الله قد وضع عن البشر برسالة محمد (ص) الآصار والأغلال التي كانت فيما سبق من شرانع إلهية ابتلاء أو عقابا، ولآصار والأغلال التي يفرضها الطغاة المتجبرون ريدعو الإسلام المستضعفين إلى الجهاد أو الهجرة خروجا عليها ومقاومة لها: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم)14.. (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يمولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا* الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا)15.. والبغي على حقوق الإنسان مرفوض منكر حتى ولو جاء من المؤمنين، وقتال الباغين فريضة لازمة لدفع الله لم والبغي والعدوان إن لم يفلح الإصلاح وحث الباغي على الإقلاع عن بغيه بالحسنى، والمؤمنون جميعا مطالبون بمؤازرة المظلوم ضد الباغي حتى يرتدع (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الإخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين)16.. فإذا تحطمت الأغلال والآصار أقام الإسلام صرح دولته التي تحمي حقوق الإنسان وحرياته وترعى كرامته، وتقيم شرعة الحق بين الحاكم والمحكوم والغني والفقير والقوي والضعيف... وكتاب المؤلف الفاضل حداء عذب جميل للحرية، وتأصيل لها في طبيعة البشر ودين الله، وتأكيد لها في عالمنا المعاصر وقضايانا وواقعتا، وهو حريص على رفض تراث القهر والقمع والقسر وكشف زيفه وبطلانه مهما تعددت مزاعمه أو تطاولت أحقابه.. فتراث (الجور) ليس مما نرتضيه أو نلتزم بنتائجه، ولو تضافرت سطور أو أبواب أو كتب على ترويجه، ولو توا!ط عهود حاكمة وشخصيات ظالمة على إهدار الحقوق وإذلال البشر وترويعهم وسفك دمائهم وانتحال صفات العزيز الجبار المتكبر القهإر المنفرد بمداومة الحمد والثناء والتسبيح الذي (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون)17.. وهكذا سعدت بقراءة كتاب الشيخ الصفار كما سعدت بالاستماع إليه من قبل، صوت هادر في الدعوة للإسلام في هذا العصر، يؤكد حرية الإنسان وحق الآخرين ويدافع عن (التعددية) ويدين (الإرهاب الفكري).. يقول- نفع الله به وأجزل مثوبته- في تقديم كتابه (التعددية والحرية في ا الإسلام): (ولعل من أهم القضايا التي يجب أن نستوضح رأي الإسلام ورؤيته حولها هي قضية الحرية، فهي روح الإنسان وعمق انسانيته، وهي أخطر امتحان يواجه الإسلاميين في هذا العصر.. ف!ذا كانوا يريدون تطبيق الإسلام وبناء الدولة والمجتمع على أساسه، فما هو موقفهم من الرأي الآخر والمعتقدات المخالفة؟ وضمن دائرة الإسلام هل هناك مجال للتعددية في الرأي والموقف؟ أم هو الرأي الواحد والموقف المتفرد ولا موقع لسواه؟). (إن عصور التخلف المظلمة التي مرت على امتنا أعطت عن الإسلام صورة سلبية بأنه يدعو إلى الدكتاتورية والاستبداد، ويسمح بممارسة القمع والإرهاب! كما أن بعض الجهات والطروحات في الساحة الإسلامية لا تزال إلى اليوم تصر على ?لتفرد بالساحة والاستبداد بالرأي ولا تحترم الموقف المغاير! وبالطبع فإن تلك الصور السلبية من الماضي والمواقف المتعصبة من الحاضر تحدث خوفا وقلقا عند الناس تجاه الإسلام، وتصبح مستمسكا ومبررا لدى المخالفين لتطبيق الإسلام).. وإنني أهلل وأكبر وأحمد الله على أن أسمعني في شيخوختي هذه الصيحة الصادقة من أجل الحرية باسم الإسلام من العالم الداعمة بارك الله فيه، وأقول! له: مرحبا بك يا أخي في صفوف الإسلاميين الملتزمين المؤمنين بالحرية إذ لا إكراه في الدين، وبحقوق الإنسان وكرامة بني آدم، وبالتعددية لا الاستبداد والتسلط والقولبة للمجموع حسبما يرتئيه فرد أو ثلة من الأفراد يتحكم أو يتحكمون في رقاب العباد وأرواحهم وأموالهم وفي عقولهم وتفكيرهم أيضا.. ويقول العالم الداعية أيضا: (إن تربية الإسلام وتعاليمه في الوقت الذي تبني فيه فكر المسلم ومشاعره على أساس عبادة الله وتوحيده والالتزام بدينه الحق فإنها تركز في ذات الوقت على احترام الإنسان كإنسان مهما كان دينه أو مذهبه ما لم يكن معتديا ظالما). (إن الدنيا دار حرية واختيار للإنسان وهو مسؤول أمام ربه غدا يوم القيامة، ولا يحق لأحد في الدنيا أن يفتش عقائد الناس ويحاكمهم على أديانهم فذلك الأمر موكول لرب الخلق يوم الحساب)... وفي إثبات التعددية والانتصار لها يقول المؤلف: (وغالبا ما يختلف الفقهاء في فتاواهم وآرائهم حتى ضمن المذهب الواحد.. فهناك من يصيب الحكم وهناك من يخطئه، ولكن من يخطئ بعد بذل غاية جهده فهو معذور ومأجور لما ورد في الحديث عن رسول الله (ص): (إذا اجتهد الحاكم فاصاب له أجران وإن أخطأ فله أجر).. ويعدد المؤلف عوامل الاختلاف بين الفقهاء، فإنه بعد أن يعدد العوامل (التقنية المتعارفة- إن صح القول- من اختلاف في الأصول أو حجية الرواية أو المعنى اللغوي، يكشف عن بصر وبصيرة إذ يضع بين عوامل الاختلاف- بحق عاملا ما أجله وما أجدره (صحيح ان العمل الاجتهادي نشاط علمي له قواعده وقوانينه وأدواته ومعداته، ولكن المجتهد إنسان له خلفيته الفكرية ومشاعره الإجماعية وليس جهازا آليا كالكمبيوتر يتعامل مع المسألة العلمية تعاملأ حيادياً).. وينقل المؤلف عن الفقيه الشهيد السيد محمد الباقر الصدر هذه الرؤية النفاذة البصيرة في تراثنا الفكري وفي البشر الذي كان هذا الفقه ثمرة قرائحهم وعصارة نفوسهم وانعكاس رؤيتهم للمجتمع وعلاقتهم به: (إن حركة الإجهاد عند الشيعة قاست منذ تولدت تقريبا عزلا سياسيا عن المجالات الاجتماعية للفقه الإسلامي، وهذا أدى تدريجيا إلى تقليص نطاق الهدف الذي تعمل حركة الإجتهاد عند الشيعة لحسابه. ء وهكذا ارتباط الإجتهاد بصورة الفرد المسلم في ذهن الفقيه لا بصورة المجتمع المسلم.. ولم يؤذ هذا فقط إلى انكماش الفقه بل أذى تدريجيأ إلى تسرب الفردية إلى نظرة الفقيه في الشريعة نفسها.. فأصبح ينظر إلى الشريعة في نطاق الفرد. وقد كان من نتائج ترسخ النظرة الفردية قيام اتجاه عام من الذهنية الفقهية يحاوله دائما حل مشاكل الفرد المسلم عن طريق تبرير الواقع وتطبيق الشريعة عليه بشكل من الأشكال-. وامتد ذلك إلى طريقة فهم النص الشرعي أيضا، فمن ناحية أهملت من فهم النصوص شخصية النبي والإمام الحاكم ورئيس الدولة، فإذا ورد نهي عن النبي مثلا كنهيه أهل المدينة على منع نقل الماء فهو إما نهي تحريم أو نهي كراهية...، مع أنه قد لا يكون هذا ولا ذاك بل قد صدراللهي من النبي بوصفه رئيسا للدولة فلا يستفاد منه الحكم الشرعي). كلام جليل نفيس، ولا أرى قصره على ما حدث في تاريخ الفقه الشيعي وتراثه فإنه بغير شك ينطبق على فقه المسنة أيضا، فمن دار من الفقهاء مع السلطان لم يحاول أن ينظر نظرة كلية إلى الانحراف القائم ولا إلى التغيير الجذري الواجب، بل تعامل مع جزئيات جديدة، وحقيقة لن تنتهي المشكلات ما دمنا في الحياة الدنيا حيث النصب واللغوب، وإنما يختلف نوع المشكلات الجزئية باختلاف الوضع الكلي العام ويختلف نهج حل المشكلات بالاتجاه إلى الحل الجذري أو العلاج السطحي. وأما فقهاء أهل السنة الذين لم يتورطوا مع السلطان فقد أجفلوا عن المجتمع وتقوقعوا في بيوتهم واستحكمت نزعتهم الفردية إذ رأوا في المجتمع شرا مستطيرا وإثما كبيرا ولم يفرقوا بين جوهر الإنسان المسلم وطوارئ الجور المستحكمة مهما تطاولت وتجددت.. أما بالنسبة لشخصية الرسول الإمام الحاكم صلوات الله عليه وسلامه، فعلى الرغم مما قرره الاصوليون من أهل السنة عما صدر منه بصفته إماما وقائدا للجماعة في وقته أنه ليس في حجيته الشرعية الدائمة مثل ما يصدر منه بوصفه نبيا رسولا، وقد كتب القواني كتابا مفردا عنوانه: (الأحكام في أصول الأحكام وتصرفات القاضي والإمام) فضلا عن كتابه المعروف في القواعد (الفروق)، فإن تطبيق هذا الأصل الجامع لم يجد في غير ما ورد به النص الصريح من مثل ما وقع في غزوة بدر إذ صرح الرسول عليه صلوات الله وسلامه بأن المنزل الذي اختاره لجيشه وكان محل اعتراض أحد أصحابه (هو الرأي والحرب والمكيدة) وبذلك لم يعد هناك مثار نزاع إما أن تجرد الأمر أواللهي من مثل هذه الدلالة الصريحة، وحاول واحد إعمال القاعدة العامة في الفحص عن الدلالات والقرائن، ولم يجد فيها ما يؤكد أن ما ورد هو من وحي الله وشرعه اللازم الدائم صراحة أو ضمنا، وذهب إلى ما ذهب إليه الفقيه الشهيد في أن الحديث قد يكون من قبيل أعمال الرسول بوصفه إماما للمسلمين فإن الدنيا تقوم ولا تقعد عند تطبيق القاعدة الأصولية المعروفة من الجميع على نص بعينه وبدلا من أن يرد المعترضون على ذلك الفهم للنص ودلالاته وقرائنه بالحجة والمنطق تراهم يستشفعون ويشنعون على أي توقف عند نص صحيح، وكأن صحة النص تلغي محاولة تفهم دلالاته إن كانت قطعية أو ظنية دائمة أو موقوته! فما شكا منه الفقيه الشهيد داء عام، يشكو منه جسم تراثنا الفقهي كله، وتاريخنا وتراثنا خلفه بشر غير معصومين، ولا بد من تبيين قصور الماضي لنتجنبه في عملنا في الحاضر، وتخطيطنا للمستقبل، وغض البصر عن الأخطاء والنظر إلى تاريخنا وتراثنا على أنهما غاية المراد من شأنه إحداث التشويش والاضطراب بالنسبة لفهم الماضي والعمل في الحاضر والتخطيط للمستقبل سواء بسواء.. و (التعددية) في مفهومها تقتضي تقبل رأي الغير مهما كانت الثقة في الذات، وأذكر للإمام الشافعي قولا مأثورا. (رأينا صواب محتمل الخطأ، ورأي غيرنا- في رأينا- خطأ محتمل الصواب).. وهذه (التعددية) تتقبل الرأي الآخر كحقيقة واقعة بحكم الطبيعة الإنسانية والأحكام الشرعية وتحمي حقه في عرض حجته كما تمارس حقها في الاعتراض عليه، أما الداهية الداهية فإنما هي- كما صرح المؤلف- مع من يعتقد أن صراعه وعداءه للآخرين هو تكليف شرعي وأمر ديني حيث يسول له الشيطان أنه وحده على الحق وأن الآخرين على الباطل وأن واجبه معاداتهم انتصارا للحق)... وهذا هو الداء العضال! بين مسلمي عصرنا أفرادا وجماعات، محكومين وحكاما.. ومن عوامل استحكام الداء وتفاقمه (انعدام أو قلة اللقاءات بين الجهات المختلفة في الرأي والمصلحة.. فلا القيادات الدينية تكثف اللقاءات فيما بينها ولا الحركات الإسلامية تحرص على الاجتماعات ولا مختلف الجهات الفاعلة في المجتمع تتبادل الزيارات)... ويزداد المؤلف تحديدا وتحذيرا فيقول (إن التكفير والاتهام بالزندقة والمروق هو مظهر للإرهاب الفكري حيث يدعي البعض لنفسه أن الإسلام ينحصر فيما يراه ويفهمه هو وأن من يخالفه في ذلك كافر لا مكان له في أجواء الإسلام ومجتمعه)... وهو ينقل عن الإمام علي بن أبي طالب ما يعد بحق تأصيلا وتقريرا لحقوق (المعارضة) في دولة الإسلام حين رد رضي الله عنه وكرم وجهه للخوارج الذين اعترضوا خطبته وهو قائم على المنبر في المسجد، فلم يطردهم من بيت الله أو يزجهم في غياهب السجون أو يحصدهم قتلاً، بل روى عنه (المصنف) لابن أبى شيبة بسنده قوله: (ألا إن لكم عندي ثلاث خلال ما كنتم معنا (أي مندمجين في الجماعة غير متحيزين بأرض ومعلنين العصيان أو الحرب): لن نمنعكم مساجد الله، ولا نمنعكم فيئا ما كانت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تقاتلوا، ثم أخذ في خطبته).. وهكذا ينال أولئك المعارضون حقوقهم في بيت المال ما أدوا التزاماتهم للجماعة، حتى لو استعملوا ما يأخذون من المال العام في المعارضة ما داموا لم يبدأوا القتال!، ولا يجوز منعهم من خدمة الدولة ووظائفها ولا حرمانهم من حرية الرأي والتعبير والاجتماع فهل رأيت أروع وأجمع من هذا الإيجاز المعجز، ومن أقدر من أمير المؤمنين وقاضي القضاة وأبلغ البلغاء عليه، وإنها لقضية ما لها غير أبي الحسن والحسين رضوان الله عليه وعليهما ومن تبعهم بإحسان وانظر إلى رائعته الإخرى في وصف الخوارج أو (المعارضة) أيضا: (أخواتنا بغوا علينا).. وروى الغزالي في (المستصفى) إن الإمام علي أمر قضاته في البصرة بقبول شهادة الخوارج والقضاء بها وهكذا تصان الحقوق المدنية والسياسية للمعارضة أفرادا وجماعات، ولا تنال معارضتهم قيد أنملة من حقوقهم الإنسانية المقررة. وما أصوب ما ذكره الغزالي في (فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة) ونقله المؤلف حيث يقول: (فاطلب من مناظرك من أي طائفة بيان حد الكفر، فإن زعم أن حد الكفر هو ما يخالف مذهب الأشعري أو المعتزلي أو الحنبلي أو غيرهم فاعلم أنه غر بليد قد قيده التقليد، وناهيك حجة على إفحامه مقابلة دعواه بدعوى خصومه.. واعلم أن شرح ما يكفر وما لا يكفر يستدعي تفصيلا طويلا، فاقنع الآن بوصية وقانون، فأما الوصية فهي أن تكف لسانك عن أهل القبلة ما داموا قائلين لا إله إلا الله محمد رسول الله.. غير مناقضين لها والمناقضة تحصل بنحو تجويزهم الكذب على رسول الله وأما القانون: فهو أن تحلم أن النظريات قسمان، قسم يتعلق بأصول العقائد وقسم يتعلق بالفروع. وأصول الإيمان ثلاثة: هي الإيمان بالله والأيمان برسوله والإيمان باليوم الآخر.. وما عدا ذلك فروع.. واعلم أنه لا تكفير في الفروع إلاّ في مسألة واحدة، وهي أن ينكر حكما ثبت عن النبي بالتواتر القاطع وأجمعت عليه الأمة بسائر طوائفها كانكان وجوب الصلوات الخمس أو صوم رمضان.. أما ما يظن أنه تواتر هو في الحقيقة ليس منه فهو كثير، حصل في عصور مختلفة ولكنه لم يحصل به العلم القاطع لدى الجميع). كما نقل المؤلف عن ابن حزم- المعروف بتشدده وحدة أسلوبه- قوله الناصع المنير في كتابه (الفصل في الملل والأهواء والنحل) (وذهبت طائفة إلى أنه لا يكفر ولا يفسق مسلم بقول قاله في اعتقاد أو فتيا، وإن كل من اجتهد من شيء من ذلك فرأي بما رأى أنه الحق فإنه مأجور على كل حمال... وهذا قول ابن أبي ليلى وأبي حنيفة والثافعي وسفيان الثوري وداود بن علي، وهو قول كل من عرفنا له قولا في هذه المسألة من الصحابة لا نعلم منهم خلافأ في ذلك أصلا).. كما ينقل المؤلف عن ابن قدامة في مقدمة كتابه (المغني): (ثم إن كثيرا من العلماء حاولوا أن يجعلوا اختلاف العلماء في مسائل الأحكام رحمة بهذه الأمة، وتحقيقا ليسر دينها الذي ثبت بالكتاب والسنة، واتقوا ما حذر الله في كتابه من مضار التفريق والاختلاف). وبهذا لتكامل (التعددية) في الرأي مع (الوحدة الجامعة) على الأصول والقواعد الكلية للإسلام ولا يتناقضان، ولما كان من (جهل شيئا عاداه)، فإن إطلاع كل صاحب رأي على الرأي الآخر في مصادره يقي مزالق النقل وما يسود ويتواتر من مفتريات وأباطيل.. وغريب أن يسعى المسلمون إلى (الحوار) مع كل صاحب دين للتعرف على وجهة النظر الإخرى في حين يغضون الطرف عن (الحوار) مع الرأي الآخر بين جماعة المسلمين والأخوة في العقيدة.. وقد نقل المؤلف ما قاله مسلم بن معاذ الهروي الإمام جعفر الصادق: (يأتيني الرجل فأعرفه على مذهبكم فأفتيه بأقوالكم، ويأتيني الرجل على غير مذهبكم فأفتيه بأقوال مذهبه، ويأتيني الرجل فلا أعرف مذهبه فأذكر له أقوال الأئمة وأدخل قولكم بين الأقوال.. فأشرق وجه الإمام وقال: أحسنت، هكذا أنا أفعل)... وقد علمت أن طلاب العلم من الزيدية في اليمن يجمعون بين الدراسة على شيوخ مذهبهم والدراسة على شيوخ مذهب الشافعية في البلاد، ويجازون من أولئك وهؤلاء معأ.. وهو نهج رشيد كان من شأنه أن يجعل علماء الزيدية روادا في التقريب لولا ما ابتلت به اليمن من حرب وصراع.. وقد اتجه الأزهر وجهة دراسة مختلف المذاهب في ون قصر ذلك على مذاهب السنة من أيام شيخه محمود شلتوت رحمه الله، وكان المفروض أن يسير قدما في هذه الوجهة بعد إعادة تنظيم جامعة الأزهر بمقتضى القانون الصادر في عام 1961.. ولكن يبدو أن ما مر بالأزهر وبمصر كلها من أحداث لم يحقق أمال المصلحين والمخططين.. وارتادت (دار التقريب) سبيلا لم يشأ الله بها أن تعبده وتوطئه للسالكين.. وبعد... فمرحبا بالكتاب، وبمؤلفه العالم الداعية. ولعل هذه الجولة السريعة بين صفحاته قد فتحت شهية القارئ وكشفت عن أهمية الكتاب والقضايا التي يعالجها والتوفيق الذي حالف صاحبه في معالجة تلك القضايا ذات الخطر البالغ على أمة الإسلام في حاضره ومستقبله. ولربما قضت التعددية الفطرية في الناس والمصونة بالإسلام أن أختلف مع المؤلف في جزئيات معدودة متناثرة هنا وهناك، لكنني ألتقي معه على الجوهر والأصل والأساس والقاعدة، وعلى معظم التفاصيل، وأسأل الله أن يبسط لنا رحمته مع اختلافنا هذا الذي هو من قدره وعلمنا كيف نتعامل معا إزاءه في شرعه.. إلى نتاج متواصل من عالمنا يفتح به القلوب والعقول للحرية باسم الله ووفقا لعقيدة الإسلام في عالمنا المحاصر الذي ما أحوجه لمعرفة الإسلام وما أحوج المسلمين لمعرفة كيف يعرضون رسالة الله ويخاطبون الناس بما يفهمون.. وعلى الله قصد السبيل محمد فتحي عثمان بسم الله الرحمن الرحيم (الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا) ا لأحزاب الآية: 39 المـقــــدمـــــة وانبعث الإسلام من جديد، متحديا كل مؤامرات طمسه وإلغائه. كانوا يراهنون على الزمن لاخلاق الإسلام وتجاوزه. وكانوا واثقين من أن جهودهم المكثفة للتبشير والتغريب قد أنست المسلمين دينهم ومحته من ذاكرتهم. وكانوا يوظفون حالة التخلف والانحطاط في بلادنا لتشويه صورة الإسلام وتحميله تبعات الهزيمة. وكانوا يعتقدون بان تقدمهم العلمي والصناعي والتكنولوجي سيبهر العقول والأنظار ويصرفها عن أي إلتفاتة روحية معنوية. وكان يعينهم على ذلك ما لساد في مجتمعاتنا من جهل وتخلف وتحريف للإسلام في مفاهيمه وأفكاره ولكن الإسلام تحدى كل ذلك وانبعث من جديد: خطة إنقاذ، ومشروع خلاص، وراية تحرر، ليس لاتباعه فقط إنما للبشرية جمعاء *** وشاء الله تعالى أن تنهار أصنام الماركسية في الشرق، وتعلى إفلاسها وفشلها في العقد الأول للانبعاث الإسلامي الجديد، وسيشهد العقد القادم بإذن الله نهاية الرأسمالية في الغرب وإعلان عجزها وتآكلها.. لتتجه البشرية نحو تكاملها الررحي إلى جانب تقدمها المادي، فالحضارة البشرية اليوم مع تفوقها العلمي المذهل إلا أنها عرجاء عوراء، تعتمد على رجل واحدة وعين واحدة، هي المادة، وتفتقد البعد الروحي المعنوي المتمثل في الإيمان والقيم، وذلك هو مبعث آلام الإنسان وشقائه في هذا العصر. *** وكما تحدى الإسلام في انبعاثه الجديد مؤامرات اعدائه ومناوئيه، فإنه يقاوم أيضا تخلف أتباعه ومدّعية، فقد تعرض الإسلام على أيديهم طوال عصور الانحطاط إلى التحريف والتشويه، حتى بهت نرره، وخفي ررنقه، وعلى حد تعبير الإمام علي "لبس الإسلام لبس الفرو مقلوباً؟، إنه لمن الضروري جدا أن نعرف الإسلام على حقيقته، وندركه على واقعة، نافضين عنه غبار التخلف والانحطاط. *** ولعل من أهم القضايا التي يجب أن نستوضح رأي الإسلام ورؤيته حولها هي قضيه الحرية، فهي روح الإنسان، وعمق إنسانيته، وهي أخطر وأهم إمتحان يواجه الإسلاميين في هذا العصر. فإذا كانوا يريدون تطبيق الإسلام وبناء الدولة والمجتمع على أساسه، فما هو موقفهم من الرأي الآخر والمعتقدات المخالفة؟ وضمن دائرة الإسلام هل هناك مجال للتعددية في الرأي والموقف؟ أم هو الرأي الواحد، والموقف المتفرد، ولا موقع لسواه؟ إن عصور التخلف المظلمة التي مرت على امتنا أعطت عن الإسلام صورة سلبية بأنه يدعو إلى الديكتاتورية والاستبداد، ويسمح بممارسة القمع والإرهاب! كما أن بعض الجهات والطروحات في الساحة الإسلامية، لا تزال إلى اليوم تصر على التّفرد بالساحة، والاستبداد بالرأي، ولا تعترف بالرأي ا!* خر، ولا تحترم الموقف المغاير!! وبالطبع فإن تلك الصور السلبية من الماضي، والمواقف المتعصبة في الحاضر، تحدث خوفا وقلقا عند الناس تجاه الإسلام، وتصبح مستمسكأ ومبررا لدى المخالفين لتطبيق الإسلام. وهذه الصفحات المتواضعة، والتي كتبت في فترات مختلفة، تحاول معالجة هذه القضية الحساسة الخطيرة: الحرية والتعددية في الإسلام. على الصعيد الفكري، أرجو أن يصاحبها التوفيق، وأن تسهم في بلورة وتوضيح مفاهيم الإسلام ورؤيته في المجتمع والحياة والله ولي التوفيق. المؤلف 24/5/1420 هـ 23/ 12/ 989 1 م الفصـــــل الأول الإنسان والدين لا إكراه في الدين كيف انتشر الإسلام؟ الحوار لغة التعامل الإنسان والدين الدين حالة وظاهرة عميقة الجذور في تاريخ البشر فعلماء التاريخ والآثار يؤكدون وجود مظاهر ومعالم للتدين والعبادة في حياة مختلف القرون والشعوب البشرية. ذلك لأن الاعتقاد والإيمان انبعاث فطري وحاجة معنوية روحية في شخصية الإنسان لا يمكن تغافلها أو تجاوزها، كما أن للجسد حاجات ومتطلبات تفرض نفسها على الإنسان. صحيح أن هناك من يناقش حول دوافع التدين عند البشر ويتلمس لها أسبابا وجذورا غير الفطرة والروح حيث يرى العالم الإنكليزي (برتراند راسل) مثلا إن منشأ ظاهرة الدين هو الخوف من العوامل الطبيعية ويرى الماركسيون أن الله روف الاقتصادية والحالة الطبقية هي التي تصنع الدين والاعتقاد، ولكن هذه التفسيرات لا تصمد أمام النقد العلمي الموضوعي رغم إنها قد تصدق في بعض الأحيان إلا أنها ليست قانونا ينطبق على جميع الديانات ولا تنفي الدافع الفطري الروحي للتدين (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيـــــــم ولكــــن أكثر الناس لا يعلمون )18. وكتب (ويل دورانت) يقول: دز إن الإيمان أمر طبيعي وهو وليد الحاجات الغريزية والاحساسات المستقيمة بصورة مباشرة، أقوى من الجوع وحفظ النفس والأمان والطاعة والانقياد". ويقول أيضا: "صحيح أن بعض الشحوب البدائية ليس لها ديانة على الله اهر فبحض القبائل الأقزام في أفريقيا لم يكن لهم عقائد أو شعائر دينية على الإطلاق، إلا أن هذه الحالات نادرة الوقوع ولا يزالا الاعتقاد القديم بأن الدين ظاهرة تعم البشر جميعا اعتقادا سليماً وهذه في رأي الفيلسوف حقيقة من الحقائق التاريخية والنفسية" وفي هذا الصدد يقول (دبلوتارك) المؤرخ الاغريقي الشهير منذ نحو من ألفي سنة: "من الممكن أن نجد مدنا بلا أسوار ولا ملوك ولا ثروة ولا آداب ولا مسارح ولكن لم ير قط مدينة بلا معبد، أو لا يمارس أهلها عبادة" فبما أن الإنسان كاثن عاقل مفكر فمن الطبيعي أن يتساءل! مع نفسه عن مبدئه ومصيره، وعن العلة والغاية من خلقته ووجوده في هذه الحياة، وعن تفسير الله واهر الكونية والطبيعية التي يعايشها. وشاءت حكمة الله تعالى مساعدة البشر في الوصول إلى الحقيقة ليتعرفوا على خالقهم وليفهموا نشأتهم، فبعث الله الأنبياء والرسل ليثيروا عقول الناس، ويروون ظمأ أرواحهم بالعقدة الصحيحة والدين الإلهي. حتى بلغ عدد الأنبياء من بداية تاريخ ا!شر مائة واربعة وعشرين ألف نبي أولهم آدم وآخرهم وخاتمهم نبينا محمد (صلى الله عليه واله وصحبه وسلم). وهؤلاء الأنبياء كانت دعوتهم واحدة، والدين الذي يبشرون به واحد، وان اختلفت تفاصيل التشريعات، وتفاوتت مستويات التكامل، تبعا لاختلاف الأزمنة والعهود، وتطور حياة البشر، إلا أن الجوهر واحد وهو عبادة الله وتوحيده والاستعداد للدار الآخرة. وهناك أمم وأجيال من البشر حرمت نفسها من الاستضاءة بهدى السماء، ولكنها لا تستطيع الحياة من دون عقيدة أو دين فاصطنعت لنفسهما أديانا ومذاهبا، نسجتها من تصوراتها البشرية المحدودة، وأشادتها على الخرافات والأساطير وا لأوهام. كما أن العديد من الديانات السماوية تعرضت للتحريف والتشويه وتحولت إلى أديان ممسوخة بعيدة كل البعد عن واقع الرسالات الإلهية. ولو تصفحنا تاريخ الديانات وألقينا نظرة على أوضاع شعوب العالم المعاصر المتدينة لرأينا شتى الديانات المختلطة بالأوهام والقائمة على ا لأساطير. فقد كان العرب في الجاهلية يعبدون الأصنام المصنوعة من الحجارة وبعضهم كان يصنع له صنما من التمر فيعبده كإله فإذا ما جاع أكله.. وإلى الآن نجد في الهند مثلا من يعبد البقر أو الماء أو الجنس.. ولا زال بقايا المجوس يعبدون النار.. وهناك من يعبد الشمس أو القمر أو سائر النجوم إلى آخر ما هنالك من أديان وعبادات.. توارث الأديان: غالبا ما يكون الدين متوارثا بأخذه الجيل الناشئ من سلفه، فالأبناء يتعرفون على الدين في أحضان عوائلهم، وبسبب التربية والبيئة، وانشداد الأبناء لعادات وتقاليد أهاليهم وتقديسهم لها، فإن الأبناء يجدون أنفسهم مندفعين لتقبل وتقمص عقائد ومذاهب عوائلهم دون أن يستخدموا عقولهم أو يعملوا أفكارهم في دراسة ومناقشة تلك العقائد والمذاهب التي ورثوها. ومن هنا فإن أي دين جديد يلاقي صعوبة في الانتشار مبدأ ظهوره، وهذا ما واجهه الأنبياء والرسل فقد كان تمسك الناس بعاداتهم وتقليدهم لا سلافهم حاجزا عن تقبلهم لدعوات الأنبياء، وعادة ما تستغل مراكز القوى هذه الحالة في محاربة الدعوة الجديدة. يقول تعالى: (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على امة وانا على آثارهم مقتدون )19. وفي آية أخرى يقول تعالى: (بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على امة وانا على آثارهم مهتدون)20 ومن تكرار مثل هذه الآيات في القرآن الحكيم وعند الحديث عن مختلف الأمم والمجتمعات يتبين مدى معاناة الأنبياء من هذه المشكلة وكيف كانوا يسعون لتجاوزها. يقول تعالى: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما الفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ) (3). ويقول تعالى: (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلـــمــــــون شيئا ولا يهتدون)21. وحينما يناقش نبي الله إبراهيم (ص) قومه حول سبب عبادتهم للأصنام والتماثيل فإن دليلهم وبرهانهم الوحيد على صحة عبادتهم وراثتهم لها من ابائهم. يقول تعالى. (واتل عليهم نبأ إبراهيم * ملا إذ قال لابيه وقوم ما تعبدون* ير قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين * قال هل يسمعونكم إذ تدعون * أو ينفعونكم أو يضرون * قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون )22 بالطبع ليس إنشار الأبناء لتقليد آباثهم هو السبب الوحيد في توارث الأديان والمعتقدات بل إن ضغط الآباء وإصرارهم على أبنائهم للالتزام بدينهم هو عامل مؤثر في هذا المجال ومكمل للعامل السابق، فالوالدان حيث يعتقدان بصحة طريقتهما لا يرغبان لأولادهم الضلال، فيبذلان جهدهما لاقناع الأبناء بدينهما ومنعهم من مخالفته وتركه إلى غيره. فمصعب بن عمير مثلا حينما أسلم بذل أبواه جهدا كبيرا بالترغيب والترهيب لإرجاعه إلى الكفر حتى سجنوه في غرفة ضيقة في منزله ومنعوا عنه وسائل الراحة، مع انه كان أرفه شاب في مجتمعه كما يقول! رسول الله ص!نف: القد رأيت مصعباً هذا، وما بمكة فتى أنعم عند أبويه منه، ثم ترك ذلك كله حبا لته ورسوله " وسعد بن أبي وقاص أيضا استخدمت أمه معه أقسى الأساليب لإبعاده عن الإسلام حيث قالت له: لتتركن دينك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت، فيعيرك الناس بي، ويقولون لك: يا قاتل أمة. فقال لها سعد: لا تفعلي يا اماه، فاني لا أترك ديني هذا لشيء. فاضربت عن الطعام والشراب حتى ضعفت فجاءها فقال لها في عزم وتصميم: يا أماه والله لو كانت لك مائة نفسي فخرجت نفساً نفساً ما تركت ديني فإن شئت فكلي أو لا تأكلي. وينقل التاريخ أيضا عن الشاعر المعروف السيد إسماعيل الحميري المتوفى سنة 173 هـ أنه حينما إعتنق مذهب أهل البيت (ص) حاربه أبواه وكانا خارجيين يبغضان عليا ويشتمانه فلما علما بمذهبه همّا بقتله فأتى عقبة بن مسلم الهنائي فاخبره بذلك فاجاره وبوّأه منزلا وهبه له فكان فيه حتى مإما فورثهما اختيار الدين: وإذا كان غالبية الناس يتوارثون أديانهم ومعتقداتهم عن ابائهم وأسلافهم فإن هناك من يتنبه نحره أو يتحرك عقله للتأمل والبحث ليختار دينه وعقيدته عن وعي وإدراك. فسلمان الفارسي والذي ولد ونشأ في قرية "جي " من أصفهان إيران في عائلة وبيئة مجوسية ربته على عبادة النار لكنه حينما تفتح وعيه وتحرف على المسيحية اعتنقها لأنه وجدها أقرب إلى الصواب من المجوسية، وبعد فترة اتضحت له نقاط الضعف والثغرات في الديانة الجديدة التي اعتنقها، فصار يتنقل من بلد إلى بلد معرضا نفسه للمغامرات والأخطار حتى نهبت منه جماعة أمواله واسترقته أي اعتبرته عبدا تمتلكه وباعته على يهودي مزارع من يثرب، كل ذلك تقبله بسعة صدر في سبيل البحث عن الحق والحقيقة، حتى أدرك امنيته وتشرف بخدمة الرسول محمد (ص) وأسلم على يديه. إن أفرادا مثل سلمان الفارسي ممن يندفعون ذاتيا للبحث عن الدين الحق هم قليلون ونادرون في تاريخ البشرية، نعم قد يسبب ظهور دعوة ديانة جديدة هزة في المجتمع تدفع البعض وخاصة من فئة الأحداث والشباب إلى إعادة الئظر في ديانتهم الموروثة والتمرد عليها باعتناق الدين الجديد. والطبقة الشابة في كل مجتمع تمثل أرضا خصبة لتقبل الأفكار الجديدة عادة، لتطلعهم للتغيير واستعدادهم للمغامرة، ولضعف تشبعهم بالفكر الساند، لذلك ورد عن رسول الله (ص) قوله: أوصيكم بالشبان خيرا فانهم أرق أفئدة، إن الله بعثني بشيرا ونذيرا فحالفني الشبان، وخالفني الشيوخ، ثم قرأ: فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم " إن تأثر الأبناء وتقبلهم لأفكار وعادات أهاليهم في مرحلة الصغر أمر طبيعي، ولكن بعد إن يتجاوز الإنسان مرحلة الطفولة والصغر ويمتلك رشده ونضجه العقلي فإن عليه أن يجتهد في التفكير والبحث ويناقش الآراء والعقائد السائدة، ليتبين الصواب من الخطأ ولن يكون معذورا أمام الله وأمام عقله ووجدانه بالاسترسال في تقليد أبويه. والإسلام يؤكد على ضرورة استخدام العقل والفكر في قضايا العقيدة والدين ويذم التقليد الأعمى والاتباع الساذج، ومنطق القرآن الحكيم في البرهنة والاستدلال قائم على إثارة العقل والاحتكام إليه. قداسة الدين: من البديهي أن كل جماعة تؤمن بدين أو مذهب معين فإنها ترى فيه الصحة والصواب، وإلا فلن تعتنق مبدأ تعتقد زيفه وفساده اللهم إلا أن يكون ذلك لمجرد العصبية والتظاهر. ويتبوأ الدين في نفوس معتنقيه مكانة رفيعة من القداسة والاحترام، بحيث يندفع المتدينون للدفاع عن عقيدتهم ويقاومون كل من يمس قداستها، ويضحون بأنفسهم لحماية مبادئهم وأديانهم. وحتى عتاد الأوثان والأصنام يثأرون ممن يوجه إساءة لأصنامهم ويخوضون المعارك والحروب للدفاع عن عبادتهم الزائفة.. فنبي الله إبراهيم (ع) حكم عليه قومه الوثنيون بالموت حرقا فألقوه في النار لأنه كان يسخر من عبادتهم وأصنامهم ويحلن بطلانها وفسادها يقـول تعالى: (قالوا حرّقّوه وانصروا آلهتكم ان كنتم فاعلين ! قلنا يا نإذ كوني بردا وسلاما على إبراهيم)23. وطريف جدا أن ننقل هنا عن (المهاتما غاندي) تقديسه واحترامه لعبادة البقرة في الهند وهو شخصية سياسية قيادية مرموقة تحررت الهند على يديه يقول تحت عنوان (امي البقرة) ما يلي: (إن حماية البقرة التي فرضتها الهندوسية هي هدية الهند إلى الحالم، وهي إحساس برباط الاخوة بين الإنسان وبين الحيوان، والفكر الهندي يعتقد أن البقرة أم للإنسان وهي كذلك في الحقيقة، إن البقرة خير رفيق للمواطن الهندي وهي حير حماية للهند.. عندما أرى بقرة لا اعذني أرى حيوانا، لأني أعبد البقرة وسأدافع عن عبادتها أمام العالم أجمع.. وأُمي البقرة تفضل أُمي الحقيقية من عدة وجوه، فالأم الحقيقية ترضعنا مدة عام أو عامين وتتطلب منا خدمات طول العمر نظير هذا، ولكن أمنا البقرة تمنحنا اللبن دائما، ولا تتطلب منا شيئا مقابل ذلك سوى الطعام العادي، وعندما تمرض الأم الحقيقية تكلفنا نفقات باهظة، ولكن أُمنا البقرة فلا نخسر لها شيئا ذا بال، وعندما تموت الأم الحقيقية تتكلف جنازتها مبالغ طاثلة، وعندما تموت أمنا البقرة تعود علينا بالنفع كما كانت تفعل وهي حية، لأننا ننتفع بكل جزء من جسمها حتى العظم والجلد وا لقرن. أنا لا أقول هذا لأقدلل من قيمة الأم، 5 لكن لأبين السبب الذي دعاني عبادة البقرة إن ملايين الهنود يتجهون للبقرة بالعبادة والإجلال وأنا أعد نفسي واحدا من هؤلاء الملايين) إن عددا من المعارك والحروب نشأت في التاريخ القديم والحديث من منطلق حماية الدين والدفاع عن العقيدة، وحتى في أوروبا المعاصرة والتي تسودها المادية فإن فيلما قد عرض خلال السنة الماضية فيه إساءة وتجريح لشخصية السيد المسيح عيسى بن مريم (ع) بعنوان "الاغواء الأخير للسيد المسيح " فحصلت على أثره ضجة ومظاهرات من قبل المسيحيين واحرقوا عدة دور للسينما كانت تعرض ذلك الفيلم. وفي هذه الأيام يعيش العالم ضجة كبرى بسبب انفجار غضب المسلمين ضد ما كتبه مرتزق تحميه بريطانيا يدعى (سلمان رشدي) في كتابه (الآيات الشيطانية)24 من تهجم على مقدسات الإسلام وإساءة للقران الكريم والرسول العظيم محمد (ص) فاندلعت المظاهرات الصاخبة في مختلف أنحاء العالم، وأصدر الإمام الخميني حكمأ بهدر دم الكاتب والناشرين المغرضين للكتاب وعلى أثر ذلك قطعت الجمهورية الإسلامية الإيرانية علاقاتها مع بريطانيا ولا زالت تفاعلات القضية مستمرة وتشكل نموذجا للغيرة على الدين والدفاع عن قداسته. انتشار الأديان: لأن الدين شأن قلبي روحي لذلك فإن الطريق الطبيعي لقبول أي دين هو الاقتناع والاختيار الحر، فبمقدار ما يمتلك أي دين من حجة وأسلوب مؤثر، وحسب مستوى دعاة ذلك الدين وكفاءتهم، يكون إقبال الناس عليه واعتناقهم له. وقد اعتمدت الأديان السماوية منطق الحجة والإقناع في طرح مبادئها على الناس، وكانت اخلاق الأنبياء والأوصياء خير وسيلة للاستقطاب والتأثير. يقول القران الحكيم مقررا لهذا المنهج ومؤكدا عليه: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين)25. كما يستعرض القران الحكيم قصص الأنبياء وطريقة تبليغهم للرسالة وعرضها على أقوامهم بالدليل والبرهان واستقبال حالات التكذيب والرفض بسعة الصدر، وحسن الخلق. فهذا نبي الله نوح (ع) يطوي مئات السنين داعيا قومه إلى رسالة الله متحملأ الأذى والإهانة والتكذيب دون أن يتخلى عن المملوك الطرح الهادئ ومخاطبة الوجدان والعقل يقول تعالى: (ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه إني لكم نذير مبين* أن لا تعبدوا إلا الله اني أخاف عليكم عذاب يوم أليم * فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم اراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين * قال يا قوم ارأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وانتم لها كارهون)26. ونبي الله شعيب (ع) وحينما هدده قومه بأن يرجموه بالحجارة حتى الموت أجابهم بكل ثقة وهدوء (قال يا قوم ارأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أُنيب )27 وبمراجعة سريعة لقصص الأنبياء في القران الكريم تبدو هذه الحقيقة جلية واضحة. لا إكراه في الدين من الطبيعي أن يسعى أصحاب كل دين أو مذهب لنشر دينهم والتبشير بعقيدتهم ليغطي أكبر مساحة ممكنة من أبناء البشر. فما داموا يعتقدون الصواب والحق في دينهم فسيكونون مندفعين لدعوة الناس إليه، كما أن وفاء وإخلاص كل شخص لدينه يجعله متحمسا للتبشير به، ولأن الدين يصبح جزءا هاما من ذاتية الإنسان وشخصيته فأي تقدم أو مكسب للدين يعتبره الإنسان تقدما ومكسبا ذاتيا وشخصيا. بالإضافة إلى ذلك فإن بعض الأديان توجه أبناءها ومعتنقيها للعمل من أجل نشرها واقناع الآخرين بها، كما هو شأن الإسلام مثلا الذي يقول على لسان نبيه محمد (ص) (وأيم الله لأن يهدي الله بك رجلا واحدأ خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت " بالطبع هناك بعض الديانات تحصر نفسها في عرق معين وتغلق أبواب دعوتها على من دم ينحدر من تلك العروق كما ينقل عن المجوسيين الزرادشتيين الذين يحزه س ن على أي إنسان لم يولد زرادشتيا أن يعتنق دينهم رغم اعتقادهم بأفضلية دينهم على ساثر الأديان ولذلك أشرف دينهم على الانقراض حيث لا يزيد عدد أتباعه حاليا على (120) ألف مجوسي في العالم. ولكن كيف تكون الدعوة إلى الدين؟ وكيف ينجح الإنسان في إدخال أكبر عدد من الناس إلى حظيرة الدين الذي يؤمن به؟ إن الطريق الصحيح والمشروع هو محاولة إقناع الآخرين والتأثير على نفوسهم باتجاه الدين- كما سبق الحديث- ولكن البعض !د يستخدم القوة والعنف لفرض الدين أو المذهب الذي يؤمن به على الآخرين، وهذا ناتج عن الجهل أو روح التسلط والظلم. فمن يفرض دينه على الناس بالقوة والقهر إنما يعترف بفشل عقيدته وعجزها عن استقطاب الناس د اقناعهم، أو انه يستغل الدين كستار وغطاء لعدوانه وتسلطه على الناس. وكم عانت البشرية وتحملت المصائب والمآسي في حروب وصراعات دامية تحت شعارات دينية وفكرية. ففي العصور الوسطى مثلا رزحت الشعوب الأوروبية في ظل القمع والإرهاب باسم الكنيسة والدين المسيحي حيث سن الملك الفرنسي (شارلمان) قانونا يقضي بإعدام كل من يرفض أن ينتصر. ولما قاد حملته القاسية على السكسونيين والجرمان أعلن إن غايته إنما هي تنصيرهم ولمحاكم التفتيش التي أنشأتها الكنيسة في تلك العصور سمعة سيئة وسجل قاتم مظلم، فقد اجتهدت في فرض آراء الكنيسة على الناس باسم الدين، والتنكيل بكل من يرفض أو يعارض شيئا من تلك الآراء، فنصبت المشانق وأشعلت النيران لاحراق المخالفين، ويقدر أن من عاقبت هذه المحاكم يبلغ عددهم (000، 300)، احرق منهم (32000) أحياء كان منهم العالم الطبيعي المعروف (برونو)، نقصت منه الكنيسة آراء من اشدها قوله بتعدد العوالم، وحكمت عليه بالقتل، واقترحت بأن لا تراق قطرة من دمه وذلك يعني أن يحرق حيا، وكذلك كان. وهكذا عوقب العالم الطبيعي الشهير غاليلو (15 (Galilio) بالقتل لأنه كان يعتقد بدوران الأرض حول الشمس. وحينما جاء الإسلام أعلن موقفه الواضح والصريح من حرية الاعتقاد واختيار الدين، أرسى القرآن الحكيم مبدأ الحرية الدينية الفكرية في قوله تعالى: (الا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)28. يقول العلامة الطباطبائي في تفسيره الميزان. وفي قوله تعالى. ( لا اكراه في الدين ) نفي الدين الإجباري، لما أن الدين وهو سلسلة من المعارف العلمية التي تتبعها أخرى عملية يجمعها أنها اعتقادات، والاعتقاد والإيمان من الأمور القلبية التي لا يحكم فيها لإكراه والإجبار، فإن الإكراه إنما يؤثر في الأعمال الله اهرية والأفعال والحركات البدنية المادية، وأما الاعتقاد القلبي فله علل وأسباب أخرى قلبية من سنخ الاعتقاد والإدراك، ومن المحال أن ينتج الجهل علما، أو تولد المقدمات غير العلمية تصديقا علميا، فقوله: (لا اكراه في الدين) ان كان قضية أخبارية حاكية عن حال التكوين انتج حكما دينيا ينفي الإكراه على الدين والاعتقاد وان كان حكما إنشاثيا تشريعياً كما يشهد به ما عقبه تعالى من قوله: (قد تبين الرشد من الغي) كان نهيا عن الحمل على الاعتقاد والأيمان كرها، وهو نهي متك على حقيقة تكوينية، وهي التي مر بيانها أن الإكراه إنما يعمل ويؤثر في مرحلة الأفعال البدنية دون الاعتقادات القلبية . ويقول الشهيد سيد قطب في تفسير الآية الكريمة: "ان قضية العقيدة- كما جاء بها هذا الدين- قضية اقتناع بعد البيان والإدراك وليست قضية إكراه وغضب وإجبار، ولقد جاء هذا الدين يخاطب الإدراك البشري بكل قواه وطاقاته، يخاطب العقل المفكر، والبداهة الناطقة، ويخاطب الوجدان المنفعل كما يخاطب الفطرة المستكنة، يخاطب الكيان البشري كله، والإدراك البشري بكل جوانبه، في غير قهر حتى بالخارقة المادية التي قد تلجئ مشاهدها إلجاء إلى الإذعان، ولكن وعيه لا يتدبرها وإدراكه لا يتعقلها لأنها فوق الوعي و الإدراك. وإذا كان هذا الدين لا يواجه الحس البشري بالخارقة المادية القاهرة، فهو من باب أولى لا يواجهه بالقوة والإكراه ليعتنق هذا الدين تحت تأثير التهديد أو مزاولة الضغط القاهر والإكراه بلا بيان ولا إقناع ولا اقتناع. وكانت المسيحية- آخر الديانات قبل الإسلام- قد فرضت فرضا بالحديد والنار ووسائل التعذيب والقمع التي زاولتها الدولة الرومانية من قبل ضد المسيحيين القلائل من رعاياها الذين اعتنقوا المسيحية اقتناعا وحبا! ولم تقصر وسائل القمع والقهر على الذين لم يدخلوا في المسيحية، بل إنها ظلت تتناول في ضراوة المسيحيين أنفسهم الذين لم يدخلوا في مذهب الدولة وخالفوها في بعض الاعتقاد بطبيعة المسيح! فلما جاء الإسلام عقب ذلك جاء يعلن- من أول ما يعلن- هذا المبدأ العظيم الكبير: (ألا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) وفي هذا المبدأ يتجلى تكريم الله للإنسان، واحترام إرادته وفكره ومشاعره، وترك أمره لنفسه فيما يختص بالهدى والضلال في الاعتقاد، وتحميله تبعة عمله وحساب نفسه.. وهذه هي أخص خصائص التحرر الإنساني.. إن حرية الاعتقاد هي أول حقوق "الإنسان " التي يثبت له بها وصف "إنسان " فالذي يسلب إنسانا حربة الاعتقاد، إنما يسلبه إنسانيته ابتداء.. ومع حرية الاعتقاد حرية الدعوة للعقيدة، والأمن من الأذى والفتنة.. وإلا فهي حرية بالاسم لا مدلول لها في واقع الحياة. والإسلام- وهو أرقى تصور للوجود وللحياة، وأقوم منهج للمجتمع الإنساني بلا مراء- هو الذي ينادي بأن لا إكراه في الدين، وهو الذي يبين لا صحابه قبل سواهم انهم ممنوعون من إكراه الناس على هذا الدين.. فكيف بالمذاهب والنظم الأرضية القاصرة، المتعسفة وهي تفرض فرضا بسلطان الدولة، ولا يسمح لمن يخالفها بالحياة؟!. والتعبير هنا يرد في صورة النفي المطلق: الا اكراه في الدين ! نفي الجنس كما يقول! النحويون.. أي نفي جنس الإكراه، نفي كونه ابتداء فهو يستبعده من عالم الوجود والوقوع. وليس مجرد نهي عن مزاولته. والنهي في صورة النفي- والنفي للجنس- أعمق إيقاعأ وآكد دلالة" والآية الكريمة ( لا إكراه في الدين) على وضوحها وصراحتها ليست هي المورد الوحيد لإعلان الحرية الدينية وتأكيدها في القرآن الحكيم، بل هناك العديد من الآيات الشريفة التي تعالج موضوع حرية العقيدة والفكر من مختلف الجوانب والأبعاد فالإنسان في نظر القران ليس مسيّراً مجبرا على أعماله وتصرفاته بل هو حر مختار وبالتالي فهو مسؤول أمام الله عما يصدر منه، يقول تعالى: (إنا هديناه السبيل إما شاكرأ وإما كفورا)29 ويقول تعالى: (وهديناه النجدين)30. والأنبياء وظيفتهم التبليغ والتذكير وليس لهم حق الفرض على الناس أو إكراههم على الإيمان برسالتهم فلو ان الله تعالى يريد الطاعة من الناس بالقسر لكان سهلا ويسيرا على قدرته يقول تعالى (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)31. وفي آية أخرى يقول تعالى. (فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمصيطر)32. ويقول تعالى: (وقل الحق من ربكم فمن شاء فلؤمن ومن شاء فليكفر)33 ويقول تعالى. (نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد)34 وآيات عديدة كثيرة في القران الحكيم تشكل منظومة كاملة حول حرية الإنسان في هذه الحياة وما الآية الكريمة(لا اكراه في الدين) إلا الخلاصة والعنوان لهذه المنظومة الهامة الخطيرة. وبالمناسبة فإن المفسرين ينقلون في سبب لزول الآية الكريمة الروايتين التاليتين. أخرج عبد بن حميد وأبن جرير وابن المنذر عن مجاهد قال. كانت النضير (قبيلة من اليهود) أرضعت رجالا من الاوس، فلما أمر النبي (ص) باجلائهم قال أبناؤهم من الأوس: لنذهبن معهم ولندينن دينهم، فمنعهم اهلوهم واكرهوهم على الإسلام، ففيهم نزلت هده الآيـة. (لا إكراه في الدين) واخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عباس في قوله: (لا إكراه في الدين ) قال: نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له: الحصين كان له ابنان نصرانيان، وكان هو رجلا مسلما فقال للنبي (ص) ألا استكر ههما فانهما قد أبيا إلا النصرانية؟ فانزل الله فيه ذلك. ومناسب أن ننقل ما قاله أحد الغربيين في هذا المجال. يقول- Lane Poole انه في الوقت الذي كان التعصب الديني قد بلغ مداه جاء الإسلام ليهتف (لكم دينكم ولي دين)35 وكانت هذه مفاجأة للمجتمع البشري الذي لم يكن يعرف حرية التدين وربما لم يعرفها حتى الآن، وسار محمد على هذا المنوال مسيرة لم تعرف التردد. كيف انتشر الإسلام؟ ان من يقرأ تاريخ الديانات وأساليب انتشارها، يلاحظ تميزا فريدا اختص به الإسلام في مسيرة انتشاره، فقد اتسعت رقعة الإسلام، واعتنقته أمم كثيرة، في فترة زمنية قياسية لا مثيل لها في تاريخ الديانات. فالإسلام قد ظهر في مجتمع متخلف وأمة ضعيفة، ولم تكن لاتباعه تجربة حضارية، ولا خبرة سياسية في الإدارة والحكم، ولا إمكانيات مادية مساعدة تجعلهم في مستوى مواجهة سائر الأديان والدول والحضارات. وبالتالي فإن الظروف الإجماعية التي انبثق فيها الإسلام لم تكن تؤهله للتقدم السريع والانتشار الواسع، ولكن وبالرغم من كل ذلك فقد سجل الإسلام رقما قياسيا في تقدمه وانتشاره، مما جعل الكثير من المفكرين والمؤرخين- من غير المسلمين- يعربون عن دهشتهم وتعجبهم سرعة انتشار الإسلام. يقول المؤرخ الأمريكي (ستودارد): كاد يكون نبأ نشوء الإسلام النبأ الاعجب الذي دون في تاريخ الإنسان، ظهر الإسلام في امة كانت من قبل ذلك العهد متضعضعة الكيان والبلاد منحطة الشأن فلم يمض على ظهوره عشرة عقود حتى انتشر في نصف الأرض ممزقا ممالك عالية الذرى، مترامية الأطراف، وهادما أديانا قديمة كرت عليها الحقب والأجيال، ومغيرا ما بنفوس الأمم والأقوام، وبانيا عالما حديثا متراص الأركان هو عالم الإسلام، كلما زدنا استقصاء في سر تقدم الإسلام وتعاليه زادنا ذلك العجب العجاب بهرا فارتددنا عنه بأطراف خاسرة وقد عرفنا أن سائر الأديان العظمى إنما نشأت تسير في سبيلها سيرأ بطيئا ملاقية كل صعب حتى كان أن قيض الله لكل دين منها ما أراده له من ملك ناصر وسلطان قاهر إنتحر ذلك الدين ثم أخذ في تأييده والذب عنـه حـــتى رسخت أركانه ومنعت جوانبه فبطل النصرانية (قسطنطين) والبوذية (اسوكا) والمزدكية (قباء كسرى) وكل منهم ملك جبار أيد دينه الذي انتحله بما استطاع من القوة والايد، وليس الأمر كذلك في الإسلام، الإسلام الذي نشأ في بلاد صحراوية تجوب فيها شتى القبائل الرحالة التي لم تكن من قبل رفيعة المكان والمنزلة في التاريخ، فلسرعان ما شرع يتدفق وينتشر وتتسع رقعته في الأرض مجتازا أفظع الخطوب وأصعب العقبات، دون أن يكون من الأمم الإخرى عون يذكر ولا ازر مشدود، وعلى شدة هذه المكانة فقد نصر الإسلام نصرا مبينأ عجيبا، إذ لم يكد يمضي على ظهوره أكثر من قرنين حتى باتت راية الإسلام خفاقة من (البرانس) حتى (هملايا) ومن صحاري أواسط آسيا حتى صحاري أواسط إفريقيا " ويقول مؤرخ آخر هو (فيشر) في كتابه (تاريخ أوروبا): لألم يكن هنالك في جزيرة العرب قبل الإسلام أثر لحكومة عربية أو جيش منتظم أو طموح سياسي عام، كان العرب شعراء خياليين محاربين وتجارا لم يكونوا سياسيين، إنهم لم يجدوا في دينهم قوة تثبتهم أو توحدهم، إنهم كانوا على نظام منحط من الشرك، وبعد مائة سنة عمل هؤلاء الخاملون لأنفسهم قوة عالمية عظيمة، انهم فتحوا سورية ومصر وبلاد فارس وملكوا باكستان الغربية وجزءا من سنجاب، انهم انتزعوا أفريقية من البيزنطينيين والبربر وإسبانيا إلى حدود فرنسا في الغرب، والقسطنطينية في الشرق، ومخرت أساطيلهم المصنوعة في الإسكندرية وموانئ سورية في البحر المتوسط، واكتسحت الجزائر اليونانية وتحدت القوة البحرية للإمبراطورية البيزنطينية، لم يقاومهم الفرس وبربر جبال الأطلس، انهم شقوا طريقهم بسهولة حتى صعب أن يقف في وجههم واقف، ويعرقل سيرهم في الفتح والاستيلاء أحد، لم يعد البحر المتوسط بحر الروم، بل أصبح حوضا عثمانيا لا سيطرة فيه لغير الترك ووجدت الدول النصرانية من أقصى أوروبا إلى أقصاها منذرة مهددة بحضارة شرقية مبنية على دين شرقي " . ويقول أحد المؤلفين الشيوعيين: "ان الإنسان ليدهش إذا تأمل السرعة الغريبة التي تغلب بها طوائف صغيرة من الرحالين الذين خرجوا من صحراء العرب مشتعلين بحماسة دينية على أقوى دولتين في الزمن القديم، لم يمض خمسون سنة على بعثة محمد(ص) حتى عزم أتباعه على الفتح على حدود الهند في جانب، وعلى ساحل بحر الاطلانطيكي في جانب آخر، ان خلفاء دمشق الأولين حكموا على إمبراطورية لم تكن لتقطع في أقل من خمسة أشهر على أصرع جمل، وحتى نهاية القرن الأول للهجرة كان الخلفاء أقوى ملوك العالم، كل نبي جاء بمعجزات آية لما يقول وبرهانا على صدقه، ولكن محمد (ص) هو أعظم الأنبياء وأجلهم، إذ كان انتشار الإسلام أكثر آيات الأنبياء وأروعها إعجابا وخرقا للعادة، إن إمبراطورية الرومية بعد مــا وسعها بطلها (تراجان) نتيجة فتوح عظيمة في سبعة قرون لم تساو المملكة العربية التي أسست في أقل من قرن. ان الإمبراطورية الإسكندرية لم تكن في اتساعها إلا كسرا من كسور مملكة الخلفاء الواسعة، إن الإمبراطورية الفارسية قاومت الروم زهاء ألف سنة ولكنها غلبت وسقطت أمام سيف الله في أقل من عشر سنوات " لقد كان العامل الأساس في سرعة انتشار الإسلام، وإقبال الأمم والشعوب على اعتناقه، أحقية مبادئ الإسلام وانسجامها مع الفطرة والحقل، وأفضلية القوانين والتعاليم التي جاء بها، وعامل آخر لعب دورا مساعدا هو كفاءة وجدارة حملة الإسلام ورواده الأوائل وفي طليعتهم الرسول الأعظم محمد (ص) والأئمة الأطهار من أهل بيته والصحابة الأخيار الذين تربوا على يده. بيد أن بعض الكتاب المعادين للإسلام اختلقوا تفسيرا آخر لميزة التقدم والتوسع الإسلامي، من وحي موقفهم المعادي وليحجبوا الحقائق عن شعوبهم، حيث أشاعوا ان الإسلام انتشر بالسيف والقوة، واستدلوا لفريتهم هذه بوجود فريضة الجهاد في الإسلام، والآيات القرآنية التي تأمر المسلمين بالقتال في سبيل الله ومحاربة الكفر والضلال. وقد بادر علماء الإسلام إلى رد هذا الادعاء الزائف الذي أطلقه وروجه بعض المستشرقين المغرضين وفندوه بالبراهين والأدلة التاريخية والعلمية. لسنا نريد الآن معالجة هذا الموضوع بتفصيل واستيعاب لكننا نكتفي بالإشارة إلى الحقائق التالية: أولا: أثبت الباحثون المسلون أن حروب رسول الله (ص) وكانت دفاعية أو وقائية، وان السلم هو شعار الإسلام وغايته يقول تعالى: (يا أيها الذين امنوا ادخلوا فــي السلم كافـــــة)36. ويقول تعالى: (وان جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله)37 فالحرب حالة استثنائية اضطرارية وخيار أخير في التعامل مع الأعداء، ولذلك يضع الإسلام لها قوانين وتعاليم للتخفيف والتقليل من آثارها وأضرارها. فمثلأ يذكر أحد الكتاب أن جميع القتلى مـن الطرفين (المسلمين والمشركين) لم يتجاوز ألفا وبضعة أشخاص في كل الحروب التي خاضها الرســول (ص) والتي كانت أكثر من ثمانين حربا.. ويذكر كاتب آخر ان عدد الذين قتلوا في جميع الحروب هم ألف وثمانية عشر شخصا.. ويذكر مؤلف ثالث: ان عدد الكفار والمسلمين الذين جميع الحروب لم يتجاوز ألف وأربعمائة.. وهذا أكبر عدد ذكر في هذا الموضوع، بينما الدكتور محمد حميد الله في كتابه (محمد) (ص) يذكر أن محمد (ص) ر مع انه استولى على أكثر من مليون ميل مربع مما يعادل كل أوروبا باستثناء روسيا، ومع أنه كان يسكن هذه المنطقة ملايين من البشر، لم يقتل في كل حروبه- من طرف المسلمين- إلاّ مائة وخمسون مسلما ويضيف ان هذا العدد يعادل: قتيلا واحدا في كل شهر تقريبا.ثانيا: الإسلام كنظام حياتي متكامل كان يسعى لبناء دولته وكيانه السياسي الاجتماعي، ومن ثم حماية هذه الدولة والكيان، وضمان القوة والنفوذ لعرض الرسالة وتبليغها لشعوب الأرض.فلم تشهد معارك الإسلام إجبار أحد على اعتناقه وإنما تعزيز دولة الإسلام وحمايتها، وتوفير فرص تبليغ الدعوة وعرضها على الآخرين. وأكبر شاهد على هذا الأمر فتح مكة سنة 8 للهجرة، والتي كانت معقلا لكفار قريش، وقد تآمروا على الرسول لقتله فيها فاضطر للهجرة منها، وانزلوا بالمسلمين أقسى ألوان المضايقات والتنكيل وشنوا ضد المسلمين المعارك والحروب، ومع ذلك فحينما فتحها رسول الله (ص) وأوقع الهزيمة بمناوئيه الذين أعلنوا عجزهم عن المقاومة، لكنه لم يجبر أحدا من أهل مكة على اعتناق الإسلام، بل خاطبهم قائلا: يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً أخ مريم: أذهبوا فأنتم الطلقاء وقبول الإسلام للجزية من غير المسلمين وهي ضريبة المواطنة تأخذها الدولة الإسلامية من غير المسلمين كما تأخذ الخمس والزكاة من المواطنين المسلمين دليل على حرية العقيدة في ظل الإسلام وإلا لجعل الإسلام اعتناقه خيارا وحيدأ لمن يقحون تحت سلطانه.ثالثا: ان التاريخ في نقله وتسجيله لظروف وملابسات دخول كثير من البلدان والشعوب في الإسلام ليكشف عن مدى استجابة وتقبل الأمم للإسلام إعجابا منهم بمبادئه وتشريعاته، دون أن يكون للقهر والفرض دور في انتمائهم واعتناقهم للإسلام.فالمدينة المنورة، هي أول بلد إحتضن الإسلام ومنها انطلق هل إستجاب أهلها للإسلام تحت ضغط القوة والسيف؟ وأي قوة آنذاك كانت لمحمد المطرود من وطنه الباحث عن ملجأ؟إنه لا يمكن الشك أبدأ في إسلام أهل المدينة بحريتهم واختيارهم. وانتشار الإسلام في إندونيسيا وأفريقيا أيضا لم ترافقه قوة عسكرية وإنما استقطب بجمال عقيدته وشريعته وقد جاء الصليبيون إلى الشرق أبان ضعف الخلافة العباسية والخلافة الفاطمية لمحو الإسلام والقضاء عليه، وإذا بالإسلام يجذب جموعا منهم فيدخلونه ويحاربون في صفوف المسلمين، يقول "توماس ارنولد": لقد اجتذبت الدعوة المحمدية إلى أحضانها من الصليبيين عددا مذكورا حتى في العهد الأول- أي القرن الثاني عشر- ولم يقتصر ذلك على عامة النصارى، بل ان بعض أمرائهم وقادتهم إنضموا- أيضا- إلى المسلمين في ساعات انتصارات المسيحيين ويروي "توماس ارنولد" عن بعض مؤرخي النصارى قوله: ان ستة من أمراء مملكة القدس أتولى عليهم الشيطان (!!) ليلة معركة حطين فأسلموا وانضموا إلى صفوف الأعداء دون أن يقهروا من أحد على ذلك.. فهل يمكن أن نقول إن الإسلام انتشر بين الصليبيين بالقوة؟وفي القرن السابع الهجري هجم المغول على العالم الإسلامي، وكان هجومهم وحشيا قاسيا مدمرا، سفكوا الدماء فسالت أنهارا وحطموا الحضارة الإسلامية وهدموا القصور والمساجد، وأحرقوا الكتب وقتلوا العلماء، وامتدت أيديهم إلى الخليفة فقتلوه وقتلوا معه أهله. وازالوا الخلافة العباسية سنة 656 هـ، وأصبحت للمغول اليد العليا وهوت أمامهم كل قوى المسلمين في عاصمة الخلافة وما حولها، ولكن سرعان ما جذب الإسلام إليه الفاتحين الغزاة، وسرعان ما دخله المغول الذين هاجموه وعملوا على تقويضه فهل يمكن أن نقول ان الإسلام انتشر بين المغول بالقوة؟ويتحدث أحد الكتاب المسيحيين وهو الكاتب الفرنسي "هوبير ديشان " حاكم المستعمرات الفرنسية بأفريقية حتى سنة 1950 م في كتابه " الديانات في أفريقية السوداء" عن دخول الإسلام إلى أفريقية فيقول:"ان انتشار دعوة الإسلام في أغلب الظروف لم تقم على القسر وإنما قامت على الإقناع الذي كان يقوم به دعاة متفرقون لا يملكون حولا ولا طولا إلا إيمانهم العميق بربهم، وكثيرا ما انتشر الإسلام بالتسرب السلمي البطيء من قوم إلى قوم، فكان إذا ما اعتنقته الأرستقراطية وهي هدف الدعاة الأول تبعتها بقية القبيلة، وقد يشر انتشار الإسلام أمر آخر هو أنه دين فطرة بطبيعته، سهل التناول، لا ليس ولا تعقيد في مبادئه، سهل التكليف والتطبيق في مختلف الظروف، ووسائل الانتساب إليه أيسر وأيسر إذ لا يطلب من الشخص لإعلان إسلامه سوى النطق بالشهادتين فيصبح بذلك في عداد المسلمين ".وقال "ارنولد" في كتابه الدعوة إلى الإسلام: "ظهران الفكرة التي شاعت بأن السيف كان العامل في تحويل الناس إلى الإسلام بعيدة عن التصديق وان السيف إذا كان يمتشق أحيانا لتأييد قضية الدين، فإن الدعوة والإقناع، وليس القوة والعنف كانا هما الطابعين الرئيسيين لحركة الدعوة هذه.أما "غوستاف لوبون " فيقول: "وسيرى القارئ حين نبحث في فتوح العرب وأسباب انتصاراتهم أن القوة لم تكن عاملأ في انتشار القران، فقد ترك العرب الفاتحون المغلوبين أحرارا في أديانهم، فإذا حدث أن اعتنق بعض الأقوام النصرانية الإسلام، واتخذوا العربية لغة لهم فلما رأوه من عدل العرب الغالبين مما لم يروا مثله من سادتهم السابقين، ولصا كان عليه الإسلام من السهولة التي لم يعرفوها من قبل، والتاريخ أثبت أن الأديان لا تفرض بالقوة، فلما قهر النصارى عرب الأندلس فضل هؤلاء القتل والطرد على أخرهم على ترك الإسلام، ولم ينتشر الإسلام بالسيف بل أنتشر بالدعوة وحدها، وبالدعوة وحدها اعتنقت الإسلام الشعوب التي قهرت العرب مؤخرا كالترك والمغول ". الإسلام والحرية الدينيةإنطلاقاً من رؤية الإسلام لحكمة وجود الإنسان في هذه الحياة، وانه وجود ابتلاء وامتحان، ليختار الإنسان طريقه بمحض إرادته وحريته، ثم يتحمل مسؤولية هذا الاختيار أمام الله تعالى في الآخرة (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا)38 لذلك يبني الإسلام مجتمعه ونظامه السياسي على أساس الحرية الدينية، فهو يعرض مبادئه، ويبين أحكامه، والناس بعد ذلك أحرار في قبوله أو رفضه (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فلبكفر)39.ففي ظل الإسلام لا تلغى الديانات الإخرى، ولا يحظر وجود سائر المبادئ والملل، بل يخاطبهم القران الحكيم معترفا بوجودهم، وشاركاً لهم حرية اختيارهم (لكم دينكم ولي دين) 40.بل نظم الإسلام تشريعات ووضع قوانين لحماية اتباع الأديان الإخرى وللتعامل معهم في إطار الدولة الإسلامية، فإذا ما خضعوا للنظام السياسي، وساهموا ماليا في توفير احتياجاته عبر دفع الجزية وهي مبلغ سنوي من المال يحدده الحاكم الشرعي على كل فرد ذكر قادر من غير المسلمين، كما يدفع أفراد المسلمين الزكاة والخمس، فإنهم بعد ذلك أحرار في البقاء على أديانهم وممارسة معتقداتهم، دون أن يجبرهم أحد على تركها أو العدول عنها.يقول الشيخ سعيد شعبان- أحد العلماء المسلمين المعاصرين في لبنان-: "نحارب من أجل حرية الإنسان وحرية المعتقد، حتى أننا نحارب من يريد أن يكره النصارى على الدخول في الإسلام فمن يريد إدخالهم بالقسر يكون قد نقض ذمة الله " وحتى المشركون الكفار وان كانوا لا ينتمون إلى ديانة معينة، ويعكفون على عبادة الأصنام والأوثان، فإن الإسلام لايقسرهم على ترك دياناتهم ولا يرفض وجودهم في ظله، بل شأنهم كاتباع الأديان الإخرى من يهودية ومسيحية ومجوسية.وهذا ما حصل في تاريخ الإسلام، ويؤكد على ذلك أحد مراجع الدين المعاصرين (السيد محمد الشيرازي) حيث يقول: "وهذا هو الذي عمله الرسول (ص) فإنه لما ظفر بأصحاب بدر وكانوا مشركين لم يقتلهم بل أخذ منهم الفداء وتركهم على شركهم فلم يجبرهم على الإسلام، وكذلك فعل بأهل مكة فإنه (ص) قال لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء فلم يقتلهم ولم يجبرهم على الإسلام، وكذلك صنع بأهل حنين.. إلى غير ذلك مما لا يخفى على من له أقل إلمام بتاريخ الرسول (ص) "وفي المستدرك عن الحسين بن علي (ع) قال: فإذا آمن أحد من المسلمين أحدا مر المشركين- في حالة الحرب- لم يجب أن يخفي ذمته، ويعرض عليه شر ائط الإسلام فإن قبلوا أن يسلموا أو يكونوا ذمة، وإلا ردوا إلى مأمنهم ولفوتلوا- الحديث- فإن ظاهره قبول الذمة لهم ". "هذا هو المقطوع به من غيرة رسول الله (ص) بل سيرة المسلمين حلول التاريخ الإسلامي فإنه لم يعهد من أي مقاتل من المسلمين أن يقتل جميع الكفار الذين لم يكونوا أهل الكتاب ولم يسلموا، بل مختلف أنواع الكفار كانوا يعيشون في كنف الحكومات الإسلامية السنية والشيعية بسلام كما لا يخفى ذلك على من راجع التاريخ، ثم وهل يمكن إمكانا ملائما لمذاق الإسلام أن يقتل الإسلام ملايين الكفار غير أهل الكتاب إذا لم يسلموا، ومن المعلوم أن الكفار لا يسلمون بسهولة إلا بعضهم، مثلا إذا سيطر المسلمون على الهند يقتلون كل من لم يقبل الإسلام وهم عشرات الملايين؟! وهذا وان كان استبعادا محضا لكنه استبعاد ملائم لمذاق الإسلام الذي بعث رحمة للعالمين حرية العبادات والأحكام وحينما يقبل الإسلام بوجود سائر الأديان والاتجاهات ضمن مجتمعه وفي ظل دولته، فإنه يمنحهم الحرية الكاملة في ممارسة شعائر أديانهم والقيام بطقوس عباداتهم، وتنفيذ تعاليمها وأحكامها دون أن يفرض عليهم شعائره وأحكامه أو يتدخل في شؤون أديانهم. وقد تعهد رسول الله (ص) لنصارى نجران بضمان حريتهم الدينية في عباداتهم وشعائرهم كما جاء في نص معاهدته لهم وفي كتابه لأبي الحارث بن علقمة اسقف نجران وهذا نصه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد النبي... إلى الأسقف أبي الحارث، وأساقفة نجران وكهنتهم، ومن تبعهم، ورهبا نهم: "إن لهم ما تحت أيديهم من قليل وكثير، من بيعهم وصلواتهم ورهبانيتهم، وجوار الله ورسوله، لا يغير أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ولا كاهن من كهانته ولا يغير حق من حقوقهم ولا سلطانهم، ولا شيء مما كانوا عليه. على ذلك جوار الله ورسوله أبدا، ما نصحوا واصطلحوا فيما عليهم غير مثقلين بظلم ولا ظالمين " وهناك حديث يعتبره الفقهاء قاعدة وأصلا للعديد من الأحكام الشرعية ينص على حق أهل كل دين أو مذهب بالالتزام بأحكام وتعاليم دينهم وطريقتهم، وهو ما تعارف عليه الفقهاء بقاعدة الإلزام "ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم " وعن الإمام علي بن موسى الرضا (ع): "انه من دان بدين قوم لزمته أحكامهم ". وما رواه محمد بن مسلم عن أبي جعفر الإمام الباقر (ع) قال: سألته عن الأحكام؟ قال: تجوز على كل ذوي دين ما يستحلون. ولذا نرى إن الإسلام لا يتعرض للمجوسي ونحوه إن نكح أمه وأخته حيث إن ذلك جائز في دينه، لأن الإسلام لا يريد الإكراه، وإنما يريد إعطاء الحرية لكل إنسان فيما يعمل حسب معتقده. وفي روايات متعددة: "أن المجوس يورثون على ما يعتقدون وان لكل قوم نكاحا". فقد روى الكليني عضلته عن أبي عمير، عن عبد الله بن سنان قال: قذف رجل مجوسيا عند أبي عبد الله، فقال له الإمام الصادق (ع) "مه " فقال الرجل: انه ينكح أمه وأخته. فقال الإمام: "ذاك عندهم نكاح في دينهم ". وفي رواية الغوالي: إن رجلا سب مجومميا بحضرة الإمام الصادق (ع) فزبره ونهاه فقال له: انه تزؤج بأمه. فقال (ع): أما علمت أن ذلك عندهم النكاح؟ ". وفي رواية أخرى عن الصادق (ع): أنه قال لبعض أصحابه؟ ما فعل غريمك؟ قال: ذاك إبن الفاعلة! فنظر إليه أبو عبد الله ع!مض نظرا شديدا فقال: جعلت فداك إنه مجوسي نكح أخته، قال الإمام: أوليس ذلك من دينه النكاح؟ وهذه النصوص تظهر روعة تسامح الإسلام وحمايته للحريات، فإنه ليس فقط يمنح الحرية لسائر الأديان في عباداتهم وأحكامهم، وإنما يأمر المسلمين باحترام تلك الأحكام لأصحابها وعدم تعييرهم بها.. ويشيد أحد الكتاب الأجانب (آدم متز) بمستوى الحرية الدينية في ظل الدولة الإسلامية فيقول: لم تكن الحكومة الإسلامية تتدخل في الشعائر الدينية لأهل الذمة، بل كان يبلغ من بعض الخلفاء أن يحضر مواكبهم وأعيادهم ويأمر بصيانتهم، وان الحكومة في حالات انحباس المطر، كانت تأمر بتنظيم مواكب يسير فيها النصارى وعلى رأسهم الأسقف واليهود وعلى رأسهم النافخون بالأبواق. ويقول جولد تسيهر: سار الإسلام لكي يصبح قوة عالمية على سياسة بارعة ففي العصور الأولى لم يكن اعتناقه أمرا محتوما فإن المؤمنين بمذاهب التوحيد أو الذين يستمدون شرائعهم من كتب منزلة كاليهود والنصارى والزرادشتية كان في وسعهم متى دفعوا ضريبة الرأس (الجزية) أن يتمتعوا بحرية الشعائر وحماية الدولة الإسلامية، ولم يكن واجب الإسلام أن ينفذ إلى أعماق أرواحهم إنما كان يقصد إلى سيادتهم الخارجية، بل لقد ذهب الإسلام في هذه السياسة إلى حدود بعيدة ففي الهند مثلاً كانت الشعائر القديمة تقام في الهياكل والمعابد في ظل الحكم الإسلامي. وجاء في (الأخبار النصرانية) شهادة تؤيد مدى التسامح الإسلامي، وهـــي شهادة (عيشويابة) الذي تولى كرسي البطريركية من سنة 647- 657 هـ إذ كتب يقول: إن العرب الذين مكنهم الربّ من السيطرة على العالم يعاملوننا كما تعرفون، انهم ليسوا بأعداء للنصرانية، بل يمتدحون ملتنا، ويوقرون قسّيسينا ويمدّون يد المعونة إلى كنائسنا وأديرتنا وأكثر من ذلك يقول الأستاذ متز: إن الكنائس والبيع ظلت في المملكة الإسلامية كأنها خارجة عن سلطان الحكومة، وكأنها لا تكون جزءا من المملكة معتمدة في ذلك على العهود وما أكسبتهم من حقوق، وقضت الضرورة أن يعيش اليهود والنصارى بجانب المسلمين، فأعان ذلك على خلق جو من التسامح لا تعرفه أوروبا في القرون الوسطى. وما زال التاريخ يقصّ علينا أن الخليفة عمر كتب بيده عهدا لأهل الكتاب بعد استيلائه على حصن (بابليون) بحماية كنيستهم، ولعن أي مسلم يخرجهم منها، وكتب أمانا للبطريق بنيامين، ورده إلى كرسيه، بعد أن تغتب عنه ثلاثة عشر عاماً، وأمر باستقباله بالحفاوة وعندما ممار إلى الإسكندرية، ولما لقي عمرا بها خطب أمامه وشكره، واقترح عليه عدة أمور تحفظ الكنيسة، فتقبلها عمر وخؤله السلطة التامة على القبط، وعلى شؤون الكنيسة. وحينما دخل الخليفة عمر كنيسة القيامة وحان وقت الصلاة غادر الكنيسة إلى خارجها وأدى الصلاة الواجبة ولما سئل في ذلك قال: إني أخشى إذا ما صقيت في الكنيسة أن يقول المسلمون هنا صلى عمر ثم يتخذونه مسجدا وينقل التاريخ إن أحد قواد الخليفة المعتصم أمر بجلد إمام ومؤذن لأنهما اشتركا في هدم معبد من معابد المجوس، لتستخدم أحجاره في بناء مسجد مكانه. ويدلّ على ذلك أيضا أن معابد النار في القرن العاشر الميلادي بعد فتح فارس من قبل المسلمين بثلاثة قرون كانت تملأ العراق وفارس وكرمان وسجستان وخراسان وأذربيجان، حتى أنه لم تخل مدينة من مدن فارس من معبد أو معابد لعبادة النار كما يذكره اليعقوبي في مروج الذهب. احترام الديانات وأتباعها: المسلم الممتلئ ثقة بدينه وانه دين الله الحق، والطريق الوحيد للهدى والصواب، وان ما عداه باطل وضلال وإنحراف، كيف يتسع فكره وصدره للتعايش مع الديانات الزائفة حسب عقيدته ومع الطقوس والشعائر الخرافية الفاسدة لتلك الديانات، كعبادة النار والخضوع للأوثان، وكنكاح المحارم وتقديس البقر..؟ إن تربية الإسلام وتعاليمه في الوقت الذي تبني فيه فكر الإنسان المسلم ومشاعره على أساس عبادة الله وتوحيده والالتزام بدينه الحق فأنها تركز في ذات الوقت على احترام الإنسان كإنسان مهما كان دينه أو مذهبه ما لم يكن معتديا ظالما أو محاربا للحق. فالناس (صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق كما يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع). واحترام الإنسان يعني حرمة حقوقه المادية كجسده وماله وحقوقه المعنوية كحريته وكرامته واختياره لدينه. من هنا يرفض الإسلام اضطهاد الناس على أساس دينهم أو اعتقاداتهم، بل ويوصي الإسلام أبناءه بأن يكونوا المثل الأعلى في الأخلاق وحسن التعامل مع الآخرين، حتى لا تحسب تصرفاتهم غير اللائقة على الإسلام فنشؤه لسمعته وتنفر الآخرين منه. إن القران الحكيم يشجع المسلمين على البر والإحسان للكفار غير المعادين المحاربين يقول تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم ان تبرّوهم وتقسطوا إليهم ان الله يحب المقسطين )41. وإذا كان مطلوباً من المسلم أن يدعو إلى دينه وأن يوضح بطلان وفساد الأديان الإخرى إلا إن ذلك يجب أن يكون بأسلوب لائق لا يجرح مشاعر الآخرين ولا ينفّرهم، يقول تعالى: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم)42. وما أروع تأديب الإسلام لأبنائه وتربيته لهم على احترام الآخرين حينما ينهي القران الحكيم المسلمين عن لسب أصنام الكفار وأوثانهم !! لماذا؟ لأن الكفار يعتبرون الأصنام مقدسات لهم، وكل إنسان يدافع عن مقذساته وان كانت زائفة باطلة، ف!ذا ما اعتدى المسلمون وأهانوا مقذسات الكفار فستكون ردة الفعل الطبيعية للكافرين إهانة وسب مقذسات المسلمين، ولا يرضى الإسلام تبادل الإهانة والسمت كلغة حوار وتعامل بين أصحاب الأديان فلنتأمل الآية الكريمة التالية ولتندبّر في أبعادها العظيمة، يقول تعالى: (ولا تسبّوا الذين يدعون من درن الله فيسبّوا الله عدواً بغير علم كذلك زيّنّا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون)43. فالآية الكريمة تلفت أنظار المؤمنين إلى عدة حقائق يجب أن يأخذوها بعين الاعتبار في تعاملهم مع الآخرين: ا- إن كل أمة أو جماعة لها مبدأ فإنها تعتقد بقداسته وان كان باطلا في نظر الآخرين (كذلك زينا لكل أمة عملهم). 2- إن الدنيا دار حرية واختيار للإنسان وهو مسؤول أمام ربه غدا يوم الميامة، ولا يحق لأحد في الدنيا أن يفتش عقائد الناس ويحاكمهم على أديانهم، فذلك الأمر موكول لرب الخلق يوم الحساب. 3- إن أي فعل تجاه الآخرين يسبب ردّ فعل من نوعه وجنسه، فإذا كان المسلمون حريصين على احترام دينهم، ومقدساتهم فعليهم أن يحترموا أديان الآخرين ومقدساتهم في ظاهر التعامل معهم وإلا فليتوقعوا الإهانة لمعتقداتهم حينما يسبّون معتقدات الآخرين. وقد وردت أحاديث ونصوص كثيرة تؤكد على المسلمين حسن التعامل مع الآخرين ففي سنن أبي داوود عن رسول الله (ص): إ ألا من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة" . إن من حق كل من يعيش في ظل الإسلام أن يتنعم بالعدالة ويشمله التضامن والتكافل الإجماعي وان لم يكن مسلما، ففي عهد الإمام علي (ع) مرّ شيخ مكفوف كبير يسأل، أي يستجدي الصدقة من الناس، فانزعج الإمام من هذا المشهد وقال: ما هذا؟ ولم يقل: من هذا؟ ذلك لان هذه الحالة غير مقبولة ولا مرضية بغض النظر عن دين صاحبها أو مذهبه. وحينما أجابه أصحابه: يا أمير المؤمنين هذا نصراني ! ردهم الإمام غاضبا بقوله: استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه! أنفقوا عليه من بيت المال. ولم يكتف الإسلام باحترام الأحياء من إتباع سائر الأديان بل ترى النبي (ص) يحترم بنفسه أمواتهم ويأمرنا بذلك أيضا. ففي صحيح البخارى بسنده عن جابر بن عبد الله قال: "مر بنا جنازة فقام لها النبي وقمنا به، فقلنا يا رسول الله، انها جنازة يهودي! قال: "إذا رأيتم الجنازة فقوموا ". وفيه أيضا: "كان سهل بن حنيف وقيس بن سعد قاعدين بالقادسية، فمرّوا عليهما بجنازة، فقاما، فقيل لهما: انها من أهل الأرض، أي من أهل الذمة، فقالا ة إن النبي مرت به جنازة فقام فقيل له: انها جنازة يهودي، فقال: أليست نفسا. فهذا منطق الإسلام يرى للإنسان وحتى لجنازته بأي ملة ودين كان حرمة وشأنا ما لم يتجاوز على حقوق غيره . وعن رسول الله (ص) انه قال: "من آذى ذميا فقد آذاني " بهذا الأسلوب وهذه التربية نجح الإسلام في تحقيق التوازن والتعادل في نفس الإنسان المسلم بين ثقته المطلقة بأحقية دينه وصوابيته وبين احترام سائر الأديان وأصحابها، وقد تحدث "غوستاف لوبون " عن هذه الميزة الفريدة للإسلام بقوله: "إن الإسلام هو الذي علم الإنسانية كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين وقد كان يظن أنهما لا يجتمعان " كما أشار "هاملتون " إلى ذلك عند تعرضه لدراسات مقارنات الأديان فقال: العرب هم أول من ألفوا في الملل والنحل، لأنهم كانوا واسعي الصدر تجاه العقائد الإخرى، وحاولوا أن يفهموها ويدحضوها بالبرهان والحجة، ثم انهم اعترفوا بما أتى قبل الإسلام من ديانات توحيدية. وقد كتب أبو الريحان البيروتي في أديان الهند في القرن الخامس من الهجرة، فلم يمس عاطفة أحد من أهلها، وكان إذا كتب عن نحلة يوهمك أنه هو أحد أبناء تلك النحلة لتلطفه في وصف شعائرها. وكان كتاب العرب يذكرون جميع المخالفين بكل حرمة، وفي كتاب طبقات الأطباء لابن أبي اصيبعة، وطبقات الحكماء لابن القفطي، وطبقات الأدباء لياقوت، والوافي بالوفيات للصفدي، وفي تاريخ حكماء الإسلام للبيهقي أمثلة لهذا التسامح. فقد ترجم المؤلفون للنصارى واليهود والسامريين والمجوس كأنهم أبناء ملة واحدة. ويتحدث الدكتور الشيخ يوسف القرضاوي في بحثه المفصل عن "غير المسلمين في المجتمع الإسلامي " فيقول: جرى العرف الإسلامي على تسمية المواطنين من غير المسلمين في المجتمع الإسلامي بإسم "أهل الذمّة" أو "الذميين كلمة معناها العهد والضمان والأمان، وإنما سموا كذلك لأن لهم عهد الله وعهد رسوله وعهد جماعة المسلمين. أن يعيشوا في حماية الإسلام وفي كنف المجتمع الإسلامي آمنين مطمئنين، فهم في أمان المسلمين وضمانهم بناء على عقد الذمة. فهذه تعطي أهلها من غير المسلمين ما يشبه في عصرنا الجنسية السياسية التي تعطيها الدولة لرعاياها. فيكتسبون بذلك حقوق المواطنين ويلتزمون بواجباتهم، فالذمي على هذا الأساس من "أهل دار الإسلام " كما يعبر الفقهاء أو من حاملي الجنسية الإسلامية كما يعتر المعاصرون اليوم. ويرى من حقوقهم على المسلمين: ا- الحماية من الاعتداء الخارجي وذلك بمنع من يؤذيهم وفك أسرهم ودفع من قصدهم بأذى ان كانوا بدار الإسلام. 2- الحماية من الله لم الداخلي، أمر يوجبه الإسلام، ويحذر المسلمين أن يمدوا أيديهم أو ألسنتهم إلى أهل الذمة بأذى أو عدوان والحماية المقررة لهم تشمل حماية دمائهم وأنفسهم وأبدانهم كما تضمن حماية أموالهم وأعراضهم. 3- ويتوجب تأمينهم عند العجز والشي?وخة والفقر. 4- ويؤمن الإسلام لهم حق الحرية وأولها حرية الاعتقاد والتعبد وحرية العمل والكسب. 5- وجعل الإسلام من حق أهل الذمة تولي وظائف الدولة كالمسلمين إلا ما غلبت عليه الصبغة الدينية كالإمامة ورئاسة الدولة والقضاء والقيادة في الجيش والولاية على الصدقات. أما واجباتهم فهي: ا- أداء الجزية وهذه تسقط عنهم إذا لم تستطع الدولة حمايتهم أو حين يشتركون مع المسلمين في القتال والدفاع عن دار الإسلام. 2- التزام أحكام القانون الإسلامي في المعاملات المدنية ونحوها. 3- احترام شعائر المسلمين ومشاعرهم. إن من يقرأ تاريخ المسلمين وخاصة في عصوره الأولى ليندهش من مستوى الإحسان والتسامح الذي يتعامل به المسلمون مع غيرهم من أبناء الديانات الإخرى، فقد كانوا يتعايشون محا كأبناء مجتمع واحد دون أن يؤثر اختلاف الدين على أسلوب علاقاتهم وتعاملهم الإنساني. فقد روي إن غلاما لابن عباس ذبح شاة فقال له إبن عباس: إذا سلخت فابدأ بجارنا اليهودي، ثم كررها حتى قال له الغلام: لم تقول هذا؟ فقال: إن رسول الله !ت لم يزل يوصينا بالجار حتى خشينا أنه سيورثه. فاليهودي مجاور لابن عباس، وأخلاقيات الجوار تنطبق على كل إنسان مهما كان دينه. وهذا علي بن أبي طالب وهو أمير المؤمنين وخليفة المسلمين يرافق ذميا في طريق سفره فيسأله الذقيّ: أين تريد؟ فيجيبه الإمام: أريد الكوفة. وعند مفترق الطريق إلى الكوفة، لم يسلك الإمام طريق الكوفة وإنما سار مع الذمي في طريقه، فالتفت إليه الذمي: أليس تريد الكوفة؟ قال: بلى، فسأله الذمي: فلماذا تجاوزت طريق الكوفة إذا؟ قال الإمام علي: هذا من تمام حسن الصحبة أن يشيّع الرجل صاحبه هنيهة إذا فارقه وكذلك أمرنا نبينا. الحوار لغة التعامل الحقيقة يجب أن تكون هي الغاية التي ينشدها الإنسان فلا يرضى لنفسه إتباع الجهل والخطأ والوهم، وخاصة في مجال الديانة والمعتقد وهي القضية الأهم والأخطر، فلا بد ان يتصف الإنسان بالحذر والدقة، ويتسلح بالموضوعية والمنطق حتى لا يتخبط في متاهات الضلال والانحراف. وإذا كان الإسلام يقرّ حرية العقيدة والفكر، فإنه في ذات الوقت يدعو أبناء البشر لاختيار الحق واتباع الهدى، وان لا تكون حالات التعصب والانفعال والأهواء المصلحية سببا لابتعاد الإنسان عن الحق وارتمائه في حضيض الباطل. لذلك حمل الإسلام دعاته وأبناءه مسؤولية هداية الآخرين والسعي لإقناعهم بالدين الحق عبر الحوار والمناقشة الموضوعية الهادفة في جوّ من الحرية والاحترام المتبادل. والحوار الموضوعي لا يتنافى مع الحرية بل هو مظهر صادق لوجودها وطريق سليم للوصول إلى الحق. وينطلق الحوار في نظر الإسلام من منطلق ضرورة البحث عن الحق ولزوم اتباعه، يقول تعالى: (فماذا بعد الحق إلا الضلال)44. (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى 45. (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه)46. أما وسيلة إكتشاف الحق والتعرف عليه فهي العقل ولا غيره، فالدليل والبرهان المستند إلى العقل هو المقياس والمعيار، يقول تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلـوب يعقلون بها)47 (أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة ان هو إلا نذير مبين) 48 (قل هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين)49. وأسلوب الحوار يجب أن يكون موضوعيأ هادئا بعيدا عن التشنج والانفعال وتجريح المشاعر يقول تعالى: (ادع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)50 (ولا تجادلو أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن)51. ضمن هذه المعادلة يشجع الإسلام إجراء الحوار مع أصحاب الديانات والعقائد الإخرى، وينقل لنا التاريخ صورا رائعة عن مجالس المناظرة والحوار التي كانت تحصل بين أئمة المسلمين وعلمائهم وبين قادة واتباع سائر الأديان، وهي صور ومشاهد يجب أن يعتز بها تاريخ البشر كنموذج أسمى للتعامل بين المبادئ والأديان وللانفتاح الفكري والأخلاق الحضارية. القرآن مدرسة العوار: إذا كان ربنا العظيم سبحانه يدخل مع عباده الضعفاء الذين لا قيمة لهم ولا وجود لهم إلا بفضله ورحمته، يدخل معهم في حوار، ويجيب على إشكا لاتهم وتساؤلاتهم، فهل يحق لاحد بعد ذلك أن يترفع على النقاش أو يعتبر رأيه فوق التساؤلات والاشكالات؟ إن القران الحكيم وحينما يخصص مساحة وافية من آياته الكريمة للتحاور مع الرأي الاخر، إنما ليكون مدرسة للمسلمين والبشرية جمعاء، يتتلمذون من خلاله على أسلوب الحوار والتعامل الفكري والعقائدي بعيدا عن تبادل البطش والإرهاب.. لقد حاور القران الحكيم كل المخالفين لرسالات الله والمنكرين لوجوده تعالى فينقل آراءهم بأمانة وان كانت تشتمل على أفكار باطلة أو عبارات بذيئة ثم يناقشها بموضوعية ووضوح ويردها بالأدلة والبراهين... وكنموذج لأسلوب القران في الحوار، واستعراض الرأي الآخر، ثم مناقشته وتضيده، نتأمل الآن بخشوع مجموعة من الآيات الكريمة من سورة الطور، وهي تناقش تقولات الكفار المشركين وتشكيكهم في نبوة الرسول محمد (ص) واتهامهم له بالكهانة والجنون، وان القران لون من الشعر قد اصطنعه ونسبه افتراء إلى الله، ثم تستعرض هذه المجموعة الكريمة من الآيات إنكارهم لوجود الخالق، وادعاءهم الفاسد بأن الملائكة بنات الله، ومع فظاعة وفظاعة كل هذه التقولات الا إن القران الحكيم يستعرضها ويناقشها عن طريق إثارة الوجدان الفطري، والاحتكام إلى العقل، وأخيرا فإن لم يحكموا عقولهم أو يستنطقوا ضمائرهم وان أصروا على كفرهم ودعواهم الباطلة فشأنهم وما اختاروا لأنفسهم والحساب والجزاء عند الله يوم القيامة اما في الدنيا فلهم حريتهم واختيارهم، يقول تعالى: (فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون * أم يقولون شاعر نتربّص به ريب المنون * : قل تربصوا فإني معكم من المتربصين * أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون * أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون * فليأتوا بحديث مثله ان كانوا صادقين * أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون * أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون * أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون * أم لهم سلم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين * أم له البنات ولكم البنون * أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون * أم عندهم الغيب فهم يكتبون * أم يريدون كيداً فالذين كفروا هم المكيدون *أم لهم إله غير الله سبحان الله عما يشركون * وان يروا كسفا من السماء ساقطاً يقولوا سحاب مركوم * فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون * يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا ولا هم ينصرون)52 لقطة من القرن الثاني: في بداية القرن الثاني للهجرة، ومع انفتاح المسلمين على سائر الأمم، ودخول مختلف الشعوب في إطار الأمة، وما رافق ذلك من ترجمة كتب الثقافات الإغريقية والفارسية وتسرّب الأفكار الأخرى كل ذلك أدى إلى تبلور اتجاهات إلحادية مناوئة للإسلام، وبروز تيارات تحريفية وتشكيكية، تصدى الإمام جعفر الصادق (ع) لمواجهتها بالأسلوب الذي اختطه القران الحكيم في الصراع العقائدي الفكري، أي بالحوار الموضوعي، وبالنقاش المستند إلى الدليل والبرهان. لقد كان الملحدون والزنادقة يسعون لبث أفكارهم التشكيكية حتى في الأماكن المقدسة للمسلمين كالمسجد الحرام بمكة المكرمة والمسجد النبوي بالمدينة المنورة، لكن ذلك لم يحدث أي أثر من التشنج أو الانفعال لدى الإمام الصادف في مناقشته لهم ورده على إشكالاتهم وآرائهم، بل كان يتحاور معهم في جو من الحرية والانفتاح حتى اعترف له أقطابهم بالتفؤق والتميز الأخلاقي.. يقول المفضل بن عمر أحد أصحاب الإمام الصادق (ع) كنت ذات يوم بعد العصر جالسا في الروضة بين القبر والمنبر- بين قبر الرسول ومنبره- وأنا مفكر فيما خصّ الله به سيدنا محمداً (ص) من الشرف والفضائل.. فإني لكذللث إذ أقبل إبن أبي العوجاء فجلس بحيث أسمع كلامه فلما استقرّ به المجلس إذا رجل من أصحابه قد جاء فجلس إليه، فتكلم ابن أبي العوجاء فقال: لقد بلغ صاحب هذا القبر العزّ بكماله.. فقال له صاحبه: انه كان فيلسوفا ادعى المرتبة العظمى والمنزلة الكبرى.. فقال إبن أبي العوجاء: دع ذكر محمد فقد تحتر فيه عقلي، وضل في أمره فكري، وحدثنا في ذكر الأصل الذي يمشي به، ثم ذكر ابتداء الأشياء وزعم أن ذلك بإهمال لا صنعة فيه ولا تقدير، ولا صانع له ولا مدبر، بل الأشياء تتكؤن من ذاتها بلا مدير، وعلى هذا كانت الدنيا لم تزل ولا تزال. قال المفضل: فلم أملك نفسي غضبا وغيظا وحنقا، فقلت: يا عدو الله ألحدت في دين الله، وأنكرت الباري جل قدسه، الذي خلقك في أحسن تقويم، وصورك في أتم صورة، ونقلك في أحوالك، حتى بلغ بك إلى حيث انتهيت، فلو تفكرت في نفسك، وصدقك لطيف حسك لوجدت دلائل الروبية، أثار الصنعة فيك قائمة، وشواهده جل وتقدس في خلقك واضحة وبراهينه لك لائحة. فقال ابن أبي العوجاء: يا هذا إن كنت من أهل الكلام كلمناك، فإن ثبت لك حجة تبعاك، وان لم تكن منهم فلا كلام لك، وان كنت من أصحاب جعفر بن محمد الصادق فما هكذا يخاطبنا، ولا بمثل دليلك يجادلنا، ولقد سمع من كلامنا أكثر مما سمعت، فما أفحش في خطابنا، ولا تعذى في جوابنا، وانه للحليم الرزين، العاقل الرصين، لا يعتريه خرق ولا طيش ولا نزق، ويسمع كلامنا، ويصغي إلينا، ويستغرق حجتنا حتى إذا استقرغنا ما عندنا وظننا أنا قد قطعناه ادحض حجتنا بكلام يسير، وخطاب قصير يلزمنا به الحجة، ويقطع العذر، ولا نستطيع لجوابه ردا، فان كنت من أصحابه فخاطبنا بمثل خطابه. وذات يوم وبينما كانت حشود الحجيج تطوف بالكعبة المشرفة غارقين في خشوعهم وابتهالهم، كان يقف في احدى زوايا المسجد الحرام عدة نفر مــن أقطاب الزنادقة الملحدين كعبد الله بن المقفع وعبد الكريم بن أبي العوجاء يتفرجون ساخرين على مناسك الحج وعبادتهم، وعلى مقربة منهم كان يجلس الإمام جعفر الصادق. فالتفت عبد الله بن المقفع مخاطبا رفاقه. ترون هذا الخلق- مشيرا إلى الطائفين- ما منهم أحد أوجب له اسم الإنسانية إلا ذلك الشيخ الجالس- يعني الإمام الصادق- فأما الباقون فرعاع وبهائم. واقتربوا من الإمام الصادق فبادرهم الإمام بقوله: إن يكن الأمر على ما يقول هؤلاء- الطائفون- وهو على ما يقولون فقد سلموا وعطبتم، وان يكن الأمر على ما تقولون وليس كما تقولون فقد استويتم أنتم وهم. فقال إبن المققع: يرحمك الله وأي شيء نقول وأي شيء يقولون؟ ما قولي وقولهم الا واحد: قال الإمام: فكيف يكون قولك وقولهم واحدا، وهم يقولون: إن لهم معادا وثوابا وعقابا ويدينون بأن للسماء إلها، وإنها عمران، وأنتم تزعمون أن السماء خراب ليس فيها أحد! فرد ابن المققع: ما منعه- الله- إن كان الأمر كما تقول ان يظهر لخلقه، ويدعوهم إلى عبادته حتى لا يختلف منهم اثنان، ولم احتجب عنهم وأرسل إليهم الرسل ولو باشرهم بنفسه كان أقرب إلى الإيمان به؟! فقال الإمام: ويلك وكيف احتجب عنك من أراك قدرته في نفسك، نشؤك ولم تكن، وكبرك بعد صغرك، وقوتك بعد ضعفك، وضعفك بعد قوتك، وسقمك بعد صحتك، وصحتك بعد سقمك، ورضاك بعد غضبك، وغضبك بعد رضاك، وحزنك بعد فرحك، وفرحك بعد حزنك، وحبك بعد بغضك، وبغضك بعد حبك، وعزمك بعد إبائك، وإباؤك بعد عزمك، وشهوتك بعد كراهتك، وكراهتك بعد شهوتك، ورغبتك بعد رهبتك، ورهبتك بعد رغبتك، ورجاؤك بعد يأسك، ويأسك بعد رجائك، وخاطرك بما لم يكن في وهمك، وغروب ما أنت معتقده عن ذهنك.. يقول ابن المقفع. وما زال يعدّ عليّ قدرته التي هي في نفسي التي لا أدفعها حتى ظننت أنه سيظهر فيما بيني وبينه. مشهد من القرن الثالث: بإعداد من الخليفة العباسي المأمون عقد مجلس مهيب للمناظرة والحوار بين أئمة وقادات الأديان والمبادىء، شارك فيه الجاثليق كبير النصارى، ورأس الجالوت زعيم اليهود والهربذ الأكبر ممثل الزردشتية، وعمران الصابي قطب الصابئة، والفيلسوف قسطاس الرومي وجمع من المتكلمين. وكان المتصدي لمحاورتهم ومناظرتهم أمام المسلمين الامام علي بن موسى (ع). وقد انعقد هذا المحفل خلال الثلاث سنوات الأولى من القرن الثالث الهجري في مرو عاصمة الخلافة آنذاك. ان الحوار الذي ينقل التاريخ حصوله في ذلك المحفل المهيب يمثل وثيقة تاريخية فكرية عظيمة، كما أنه حوار ممتع يعكس أجواء الحرية والانفتاح، وروح الموضوعية والأدب التي تحلى بها أئمة الإسلام. كان المجلس غاصا بأهله من أصحاب الديانات ومسؤولي الدولة وقادة الجيش يتصدره الخليفة العباسي وقد أجلس الإمام الرضا إلى جانبه، بينما احتل رؤساء الأديان مواقعهم البارزة. وأعلن الخليفة المأمون بدء الحوار بالتفاتة إلى الجاثليق كبير النصارى مخاطبا له: يا جاثليق هذا إبن عمي علي بن موسى بن جعفر وهو من ولد فاطمة ببنت نبتنا (ص) إبن علي بن أبي طالب فأحب أن تكلمه وتحاحّه وتنصفه. فقال الجاثليق. يا أمير المؤمنين كيف أحاج رجلاً يحتجّ علي بكتاب أنا منكره، ونبيّ لا أؤمن به؟ فقال الإمام الرضا: يا نصراني فإن احتججت عليك بإنجيلك أتقر به؟ أجاب الجاثليق: وهل أقدر على دفع ما نطق به الإنجيل نعم والله أقزّ به على رغم أنفي. ودار الحوار شيقا ممتعاً والمجلس أذن صاغية لما يقوله الطرفان، والإمام الرضا يحتج على الجاثليق من خلال الإنجيل وينتزع منه الاعترافات والتناقضات. ومن جملة ما رد به الإمام على تأليه النصارى لنبي الله عيسى!ش أن قال للجاثليق: يا نصراني والله انا لنؤمن بعيسى وما ننقم على عيسى شيئا إلا ضعفه وقلة صيامه وصلاته! قال الجاثليق: أفسدت والله عملك وضعفت أمرك وما كنت ظننت إلا أنك أعلم أهل الإسلام. قال الإمام: وكيف ذلك؟ الجاثليق: من قولك ان عيسى كان ضعيفا قليل الصوم والصلاة، وما أفطر عيسى يوما وما نام بليل قط، وما زال صائما قائم الليل. وهنا وجد الإمام فرصته لإبطال تأليه عيسى فإذا كان إلها فلماذا يتعبد؟ هل يعبد نفسه؟ قال الإمام: فلمن كان يصلي ويصوم؟ وانتبه الجاثليق إلى الاستدراج الذي وقع فيه والتناقض الذي حصل في كلامه فلم يحر جواباً. وحينما استدل الجاثليق على ربوبيّة عيسى بأنه أحيا الموتى وأبرأ الأكمة والأبرص فهو بذلك ربّ مستحق لأن يعبد. أجابه الإمام: فإن اليسع قد صنع مثل ما صنع عيسى مشى على الماء وأبرأ الأكمة والأبرص، فلم تتخذه أمته ربا ولم يعبده أحد من دون الله عر وجل. ولقد صنع حزقيل النبي مثل ما صنع عيسى بن مريم، فأحيا خمسة وثلاثين ألف رجل من بعد موتهم بستين سنة. ثم انتقل الإمام مع الجاثليق للمناقشة حول الإنجيل المتداول عند النصارى وانه ليس الكتاب المقدّس الذي أنزله الله تعالى على عيسى وإنما هو نسخة شابها التحريف والتغيير والدليل على ذلك تعدد الأناجيل. قال الإمام: يا جاثليق ألا تخبرني عن الإنجيل الأول حين أفتقدتموه عند من وجدتموه؟ ومن وضع لكم هذا الإنجيل؟ الجاثليق: ما افتقدنا الإنجيل إلا يوما واحدا حتى وجدناه غضا طريا فأخرجه إلينا يوحنا ومتى. الإمام: ما أقل معرفتك بسنن الإنجيل وعلمائه، فإن كان كما تزعم فلم اختلفتم في الإنجيل؟ وإنما الاختلاف في هذا الإنجيل الذي في أيديكم اليوم، فإن كان على العهد الأول لم تختلفوا فيه، انه لما افتقد الإنجيل الأول اجتمعت النصارى إلى علمائهم فقالوا لهم: قتل عيسى بن مريم وافتقدنا الإنجيل، وأنتم العلماء فما عندكم؟ فقال ?هم (الوقا) و (مرقايوس) و (يوحنا) و (متّى): إن الإنجيل في صدورنا نخرجه إليكم سفرا سفرا، في كل أحد، فلا تحزنوا عليه، ولا تخلوا الكنايس فإن سنتلوه عليكم في كل أحد سفراً سفرأ حتى نجمعه كله.. وكانت الجولة الثانية من الحوار مع رأس الجالوت كبير الطائفة اليهودية حيث وتجه إليه الإمام سؤاله قائلا: ما الحجّة على أن موسى ثبتت نبوته؟ رأس الجالوت: انه جاء بما لم يجيء به أحد من الأنبياء قبله. الإمام: مثل ماذا؟ رأس الجالوت. مثل فلق البحر، وقلبه العصا حيّة تسعى، وضربه الحجر فانفجر منه العيون، وإخراجه يده بيضاء للناظرين، وعلامات لا يقدر الخلق على مثلها. الإمام: صدقت في انها كانت حجته على نبوته، انه جاء بما لا يقدر الخلق على مثله إبليس كل من ادعى انه نبي، وجاء بما لا يقدر الخلق على مثله وجب عليكم تصديقه؟ رأس الجالوت: لا. لأن موسى لم يكن له نظير لمكانه من رفي وقربه منه، ولا يجب علينا الإقرار بنبوة من ادّعاها، حتى يأتي عن الأعلام بمثل ما جاء. الإمام: فكيف أقررتم بالأنبياء الذين كانوا قبل موسى، ولم يفلقوا البحر، ولم يفخروا من الحجر اثنتي عشرة عينا، ولم يخرجوا أيديهم مثل إخراج موسى يده بيضاء، ولم يقلبوا العصا حية تسعى؟! رأس الجالوت: قد أخبرتك أنه متى جاءوا على نبوتهم من الآيات بما لا يقدر الخلق على مثله، ولو جاءوا بمثل ما لم يجيء به موسى، أو كانوا على ما جاء به موسى وجب تصديقهم. الإمام: يا رأس الجالوت! فما يمنعك من الإقرار بعيسى بن مريم وكان يحيي الموتى، وييرىء الأكمة والأبرص، ويخلق من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيه فيكون طائرا بإذن الله؟! رأس الجالوت: انه فعل ذلك ولم نشهده. الإمام: أرأيت ما جاء به موسى من الآيات وشاهدته أليس إنما جاء الأخبار من ثقات أصحاب موسى انه فعل ذلك؟ رأس الجالوت: بلى. الإمام: كذلك أيضا أتتكم الأخبار المتواترة بما فعل عيسى إبن مريم فكيف صدقتم موسى ولم تصدقوا عيسى؟ وكذلك أمر محمد وما جاء به. وهكذا يستمر الحوار مع بقية زعماء الأديان والمعتقدات بكل حرية وموضوعية وانفتاح وقد ذكر التفاصيل أبو منصور أحمد بن علي الطبرسي من علماء القرن السادس الهجري في كتابه القيّم (الاحتجاج). مقارنة الأديان: انطلاقأ من تعاليم الإسلام الداعية إلى الانفتاح على سائر الأديان والأفكار، والحوار مع أصحابها بالتي هي أحسن، عبر الاحتكام إلى العقل والرجوع إلى الفطرة والمنطق، ليتضح الحق للباحثين عنه، وتثبت الحجة على الجاهلين والضالين.. فقد تمخض عن تلك المناظرات والحوارات الموضوعية التي أدارها قادة المسلمين وعلماؤهم مع أئمة مختلف الأديان والمبادئ تمخض عنها علم جديد لم يكن متداولا من قبل هو عدم مقارنة ا لأديان. فقبل الحضارة الإسلامية لم تكن للبشرية حضارة تحترم تعددية الأديان، بل كل ديانة كانت ترفض وجود سائر الديانات في ظلها، وبالتالي لا تكون هناك أجواء حوار وأخذ ورد، ولا يجد أحد دافعا للمقارنة العلمية ا لموضوعية. ولكن الإسلام وباعترافه بالأديان والأنبياء والكتب السماوية التي جاءت قبله، وبإقراره للحرية الدينية، ودعوته إلى الحوار والجدال الهادف، فقد شق الطريق أمام أبنائه لتأسيس هذا اللون الجديد من العلم. وفي البدء كان هذا العلم جزءا وتابعا لعلم الكلام الذي يبحث موضوعات العقيدة، حيث نبغ في المسلمين علماء تخصصوا وتفرقوا في مجال المناظرة والمحاكمة بين الأديان والمذاهب كهشام بن الحكم الكندي الكوفي المتوفى سنة 197 هـ وهو تلميذ مقرّب للإمام جعفر الصادق (ع) له كتابات ومناظرات عديدة مع شتى الأديان والمذاهب،. مع الزنادقة، وجاثليق النصارى، والبراهمة، والاباضية، والمعتزلة، ومخالفي إمامة أهل البيت (ع).. وكمؤمن الطاق محمد بن علي بن النعمان البجلي الكوفي وهو الآخر تلميذ مقرّب للإمام الصادق(ع) وعند منتصف القرن الثاني للهجرة حينما بدأت حركة التدوين والتأليف لدى المسلمين اتجه بعض علمائهم للكتابة التخصصية في المقارنة بين الأديان، ومنهم النوبختي (202 هـ) الذي يعتبر أول من ألف في هذا المجال وكتب كتابه (الآراء والديانات) وبعده كتب المسعودي (346 هـ) كتابين عن (الديانات) ثم جاء المسبحي (420 هـ) فكتب كتابه (درك البغية في وصف الأديان والعبادات) وهو كتاب مطوّل يقع في حوالي ثلاثة آلاف ورقة. وكثر بعد ذلك التأليف في هذا المجال، ومن أبرز الكتب المشهورة كتاب (الملل والنحل) لأبي منصور البغدادي (439 هـ) وكتاب (الفصل في الملل رالأهواء والنحل) لابن حزم الأندلسي (456 هـ) وكتاب (الملل والنحل) للشهرستاني (548 هـ) وهناك كتاب (تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة) لأبي الريحان البيروني. ويقرر (MEZ ) ان هذا العلم علم إسلامي بقوله: ان تسامح المسلمين في حياتهم مع اليهود والنصارى، ذلك التسامح الذي لم يسمع بمثله في العصور الوسطى، كان سببا في أن يلحق بمباحث علم الكلام شيء لم يكن قط من مظاهر العصور الوسطى وهو علم مقارنة الأديان ونشأة هذا العلم لم تكن من جانب المتكلمين ومعنى ذلك ان هذا العلم لم يكن وسيلة عند المسلمين للحطّ من الأديان الإخرى، وإنما كان دراسة وصفية، لا تعصب فيها، تؤدي الى نتائجها الطبيعية، وبواسطة هذا الحلم دخل الآلاف والملايين في الدين الإسلامي. وكان يجب أن تهتم الجامعات الدينية والحوزات العلمية للمسلمين في هذا العصر بعلم مقارنة الأديان، ليتخرج العالم الديني أو المبلغ عارفا بتاريخ واراء سائر الأديان والمبادئ، وقادرا على الحوار مع أربابها، لإثبات عقاثد الإسلام وأفكاره، ولكن المؤسف هو عدم توجّه الحوزات الدينية لهذا الجانب المهتم. نعم نبغ بعض العلماء في هذا المجال باندفاعهم الذاتي وجهدهم الخاص، كالعلامة المرحوم الشيخ محمد جواد البلاغي النجفي (1282 هـ - 1352 هـ) فقد أتقن اللغة الإنكليزية والعبرية (بالإضافة إلى لغته العربية والفارسية) فقرأ مصادر المسيحية واليهودية وناقشها بموضوعية وعمق في كتبه القيمة المتخصصة بذلك مثل كتابه (الهدى إلى دين المصطفى) ويقع في 700 صفحة، وكتابه (الرحلة المدرسية والمدرسة السيارة) حوالي 600 صفحة ورسالته حول! (التوحيد والتثليث) وأخرى بعنوان (أعاجيب الأكاذيب) وكتاب (أنوار الهدى) في الرد على الماديين وكتاب (نصائح الهدى والدين) حول البهائية.. وكلها مطبوعة ومترجمة إلى مختلف للغات. الفصل الثاني التعددية والوحدة التعددية في حياة البشر حديث عن الوحدة لا للإرهاب الفكري التعددية في حياة البشر كل مؤمن صادق الإيمان يتمنى من أعماق نفسه أن يرى أمته ومجتمعه متوحدا متماسكا بعيدا عن الصراعات والنزاعات.. وكل مجاهد واع يحمل منتهى الرجاء والأمل بأن يصبح العاملون الله (يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص)53 دون صدامات أو اختلا فات.. ولكن كيف تتوحد الصفوف ويجتمع الشمل ونتخلص من مشاكل الصراعات الداخلية؟ البعض يعتقد ان الوحدة إنما تتحقق باتفاق الآراء وتطابق المصالح ووحدة القيادة فإذا كانت القناعات الفكرية والاراء السياسية واحدة، وتوافقت مصالح كل الأطراف، وخضع الجميع لقيادة واحدة.. فإننا سنتخلص من أي مظهر للتفرقة والاختلاف وسننعم بما نطمح إليه من وحدة واجتماع.. وهذه صورة مثالية ومستوى رفيع قد يستحيل تحقيقه في حياة الأمة إلا بوجود قيادة معصومة تخضع لها كل الأمة وتقبلها كقيادة الرسول الأعظم محمد (ص) أو حينما يظهر الإمام المهدي صاحب العصر والزمان ويهيئ الله له أسباب الهيمنة على العالم.. واقع الاختلاف في حياة البشر: أن يختلف الناس في أفكارهم وآرائهم ومواقفهم وعاداتهم فذلك أمر طبيعي تقتضيه ظروف حياة البشر، فلو استقصينا أزمنة التاريخ لما وجدنا البشرية في أي لحظة من الزمن تجتمع وتتفق على كل الأمور والقضايا بمجملاتها وتفاصيها اللهم إلا تلك الفترة البدائية القصيرة التي يتحدث عنها القران الحكيم بقوله: (كان الناس أمة واحدة)54 أي قبل أن يعملوا عقولهم ويتنبهوا إلى ما حولهم من حقائق ومصالح.. وحتى المجتمعات الإيمانية من أبناء البشر كأتباع الأنبياء والأئمة والأولياء لم يكونوا جميعا على مستوى واحد من الفكر والإلتزام، ولا كانت آراؤهم متطابقة ولا متفقة على جميع الجزئيات والتفاصيل الدينية و ا لحياتية. ونلاحظ جليا في حياتنا كيف يختلف الناس في كل شعب حتى لا نكاد نجد أمرا يتفق عليه الجميع وقد يتفاوت أفراد العائلة الواحدة في توجهاتهم وأذواقهم. ولعلنا نستوحي أو نستشف من بعض الآيات الكريمة في القران الحكيم حتمية وجود الاختلاف والتفاوت بين أبناء البشر حسبما شاءت إرادة الله تعالى وحكمته. يقول تعالى: (ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من وليّ ولا نصير).55 (وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون ) 56. (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ) 57 وتوضيحا لهذه الحقيقة يقول العلآمة الطباطبائي في تفسيره للآية الأخيرة: "ثم الاختلاف ويقابله الاتفاق من الأمور التي لا يرتضيها العقل السليم، لما فيه من تشتيت القوى وتضعيفها. وآثار أخرى غير محمودة، من نزاع ومشاجرة وجدال! وقتال وشقاق، كل ذلك يذهب بالأمن والسلام، غير أن نوعا منه لا مناص منه في العالم الإنساني وهو الاختلاف من حيث الطبائع المنتهية إلي اختلاف البنى فإن التركيبات البدنية مختلفة في الأفراد وهو يؤدي إلى اختلاف الاستعدادات البدنية والروحية. وبانضمام اختلاف الأجواء والظروف إلى ذلك، يظهر اختلاف السلائق والسنن والآداب والمقاصد، والأعمال النوعية والشخصية في المجتمعات الإنسانية، وقد أوضحت الأبحاث الاجتماعية انه لولا ذلك لم يعش المجتمع الإنساني ولا طرفة عين. وقد ذكره الله تعالى في كتابه ونسبه إلي نفسه حيث قال: (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخرياً)58. ولم يذمه تعالى في شيء من كلامه إلا إذا صحب هوى النفس وخالف هدى العقل ". ويقول الشاعر: رب قبح عند زيد فهما ضدان فيه فمن الصادق فيما ولماذا ليس للحسن هو حسن عند عمر وهو وهم عند بكر يدعيه ليت شعري قياس لست أدري59 وحتى الأمور الواضحة والحقائق الجليه دم تسلم من اختلاف البشر حولها.. فهل هناك حقيقة أظهر وأصرح من وجود الحق سبحانه وتعالى؟ (أفي الله شكّ فاطر السماوات والأرض )60؟ ومع ذلك يتمادى الملحدون والمنكرون في الكفر بوجوده سبحانه وتعالى والشرك به. فيا عجبأ كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد ولله في كل تحريكه وفي كل تسكينه شاهد وفي كل شئ له آيه تدل على أنه واحد ولخن الآن موجودون ونعيش في هذه الدنيا ونتعامل مع أشيائها ولكن هناك من يناقش في هذا الأمر ويخر وص في راح خارج الشعور، فما هي إلا تصورات ومشاعر يظن الإنسان من خلالها انه موجود وانه يعيل كذا ويشاهد كذا تماما كما يرى النائم الأشياء في أطيافه وأحلامه دون أن يستلزم ذلك وجودها الخارجي.. وهذا هو ما يراه المثاليون ومن فلاسفتهم الحديثين "باركلي " وأتباعه الذين يدعون بأنصار الشك الحديث بقيادة "دافيد هيوم " إذا فحالة الاختلاف بين أبناء البشر عريقة في تاريخ وجودهم، وشاملة تتسع لمختلف أبعاد حياتهم.. والمجتمعات الدينية وان كانت تمتاز عن سائر البشر، بنعمة الدين والارتباط بالته والإيمان بالرسالة، إلا أن ذلك لا يلغي مجالات الاختلاف والتفاوت.. فهناك أسباب ومظاهر عديدة للتفاوت والاختلاف بين الناس وحتى المؤمنون منهم في أفكارهم ومواقفهم وممارستهم نشير إلى أهمها. الإيمان درجات: ضمن دائرة الإيمان بالله وفي إطار الاعتقاد بدينه وشريعته، تتفاوت درجات إيمان المؤمنين فهناك من يكون في أدنى درجة من الإيمان وهناك من يوفقه الله تعالى لتسلًق القمة والارتقاء إلى أرفع الدرجات، وبالطبع فإن تفاوت درجات الإيمان بين المؤمنين قد تسبب تمايزا واختلافا في بعض الأفكار والمواقف والممارسات.. وهذا شيء مقبول يجب أن تتسع له صدورنا ولا يجوز لنا أن نسقط اعتبار أناس مؤمنين لأنهم يختلفون معنا في بعض الجوانب والتفاصيل فلعل مرد ذلك إلى تفاوت درجات الإيمان بيننا وبينهم بأن نكون أعلى أو أدنى منهم مرتبة.. يقول تعالى: (هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون) 61 وقد أفرد العلاّمة المجلسي "قدس الله سرًه " في بحار الأنوار بابا مستقلا جمع فيه الأحاديث و الآيات المتعلقة بهذا الموضوع تحت عنوان (درجات الإيمان وحقائقه) ".. حري بكل مؤمن واع أن يراجعه ويتدتّز نصوصه ليصبح أقدر على فهم واقع الحياة الإجماعية والتعامل بموضوعية مع قضايا الاختلاف وتعدد المواقف والآراء.. ا- عن يعقوب بن الضحاك عن رجل من أصحابنا سراج وكان خادما لأبى عبد الله جعفر بن محمد الصادق (ع) قال. بعثتي أبو عبد الله !ش في حاجة وهو بالحيرة أنا وجماعة من مواليه، فانطلقنا فيها ثم رجعنا مغتمين، وكان فراشي في الحائر الذي كنا فيه نزولا، فجئت وأنا بحال فرميت بنفسي. فبينما أنا كذلك إذا أنا بأبي عبد الله قد أقبل. فاستويت جالسا وجلس على صدر فراشي فسألني عما بعثني له، فأخبرته، فحمد الله، ثم جرى ذكر قوم فقلت: جعلت فداك، أنا نبرأ منهم انهم لا يقولون ما نقول!!! فقال: يتولونا ولا يقولون ما تقولون تبرؤون منهم؟ قلت: نعم. قال: فهو ذا عندنا ما ليس عندكم فينبغي لنا أن نبرأ منكم؟ قلت: لا جعلت فداك. قال: وهو ذا عند الله ما ليس عندنا افتراه اطرحنا؟ قلت: لا والله جعلت فداك. ما نفعل؟ قال: فتولوهم ولا تبرؤوا منهم. إن من المسلمين من له سهم، ومنهم من له سهمان، ومنهم من له ثلاثة أسهم، ومنهم من له أربعة أسهم، ومنهم من له خمسة أسهم، ومنهم من له ستة أسهم، ومنهم من له سبعة أسهم. فلا ينبغي ألن يحمل صاحب السهم على ما عليه صاحب السهمين، ولا صاحب السهمين على ما عليه صاحب الثلاثة، ولا صاحب الثلاثة على ما عليه صاحب الأربعة، ولا صاحب الأربعة على ما عليه صاحب الخمسة، ولا صاحب الخمسة على ما عليه صاحب الستة، ولا صاحب الستة على ما عليه صاحب السبعة. 00. إن الحديث الشريف يقدم لنا درسا أخلاقيا عظيما، فإذا ما رأينا أفرادا أو تجمعات داخل إطار الإيمان، لكنها لا تحمل نفس مفاهيمنا وتوجهاتنا، فلا يصح أن يكون ذلك سببا للتبرؤ منهم وإخراجهم من دائرة ا لإيمان.. 2- وعن عبد العزيز القراطيسي قال: قال لي أبو عبد الله الصادق (ع): "يا عبد العزيز ان الإيمان ع!ر درجات بمنزلة السلم. يصعد منه مرقاة بعد مرقاة، فلا يقولن صاحب الاثنين لصاحب الواحد: لست على شيء.. حتى ينتهي إلى العاشرة. فلا تسقط من هو دونك، فيسقطك من هو فوقك، وإذا رأيت من هو أسفل منك بدرجة فارفعه إليك برفق، ولا تحملن عليه ما لا يطيق فتكسره، فإن من كسر مؤمنا فعليه جبره. وفي الحديث إشارة مهمة إلى أنه حينما تقاطع من يختلف محك فإن الآخرين سيقاطعونك لاختلافك معهم.. كما يوجه الحديث تحذيراً شديدا إلى من يسقطون اعتبار إخوانهم المؤمنين ويتجاهلون حقوقهم وشخصياتهم لا لشيء إلا لانهم لا يوافقونهم في كل ما يعتقدون أو يعملون.. على هؤلاء ان يتأملوا قول الإمام الصادق !ش: "من كسر مؤمنا فعليه جبره.. ". 3- عن الصباح أبي سيابة، عن أبي عبد الله الصادق (ع) قال: "ما أنتم والبراءة يبرأ بعضكم من بعض؟ ان المؤمنين بعضهم أفضل من بعض، وبعضهم أكثر صلاة من بعض، وبعضهم أنفذ بصيرة من بعض، وهي الدرجات " ما أروع هذا الحديث، وما أشد وضوحه، وأمس احتياجنا إليه في هذه الأوضاع، وحيث يتجرأ بعضنا على تكفير الآخرين أو تفسيقهم، أو إسقاط قيمتهم ومكانتهم، لاختلافه معهم في فكرة أو موقف أو لأي سبب جانبي؟؟ !! 4- عن عثمان بن أبى الأحوص قال: قلت لأبي عبد الله الصادق (ع): إن عندنا أقواما يقولون بأمير المؤمنين ويفضلونه على الناس كلهم، وليس يصفون ما نصف من فضلكم أنتولاّهم؟ فقال لي: "نعم في الجملة، أليس عند الله ما لم يكن عند رسول الله؟ ولرسول الله (ص) من عند الله ما ليس لنا، وعندنا ما ليس عندكم، وعندكم ما ليس عند غيركم؟ ان الله تبارك وتعالى وضع الإسلام على السبعة أسهم: على الصبر، والصدق، و اليقين، والرضا، والوفاء، والعلم، والحلم. ثم قسم ذلك بين الناس فمن جعل فيه هذه السبعة الأسهم، فهو كامل الإيمان محتمل. ثم قسم لبعض الناس السهم، ولبعض السهمين، ولبعض ثلاثة أسهم، ولبعض الأربعة أسهم، ولبعض الخمسة أسهم، ولبعض الستة أسهم، ولبعض السبعة أسهم. فلا تحملوا على صاحب السهم سهمين، ولا على صاحب السهمين ثلاثة أسهم، ولا على صاحب الثلاثة أربعة أسهم، ولا على صاحب الأربعة خمسة أسهم. ولا على صاحب الخمسة ستة أسهم. ولا على صاحب الستة سبعة أسهم. فتثقلوهم وتنفروهم ولكن ترفقوا بهم وسهلوا لهم المدخل.. " 5- لقد وقف الأئمة (ع) أمام نمّو حالات التطرف والحدية لدى أتباعهم في التعامل مع الناس وتصنيفهم، ودأبوا على توجيه تلاميذهم والسائرين على خطهم للالتزام بحق القران الداعي إلى سعة الصدر والإنفتاح على الآخرين وتذويب الحواجز والفواصل بين المؤمنين. مرة سمع الإمام أبو جعفر الباقر (ع)من تلميذه المخلص زرارة وهو يتحدث بحدة وتطرف عمن يخالف منهج أهل البيت (ع). ويقول. "من وافقنا من علوي أو غيره توليناه، ومن خالفنا برئنا منه من علوي أو غيره " فرد عليه الإمام الباقر فورا. "يا زرارة قول الله أصدق من قولك، أين الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا؟ " مشيرا إلى قوله تعالى: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم ان الله غفور رحيم )62 6- عن القاسم بن الصقيل رفع الحديث إلى أبي عبد الله الصادق (ع) قال: كنا جلوسا عنده (الإمام الصادق) فتذاكرنا رجلا من أصحابنا، فقال بعضنا: ذلك ضعيف! فقال أبو عبد الله (ع): "ان كان لا يقبل ممن دونكم حتى يكون مثلكم لم يقبل منكم حتى تكونوا مثلنا" مستوى المعرفة والوعي: مدارك الناس وقدراتهم على الاستيعاب والفهم متفاوتة، فما كل الحقائق يكتشفها كل الناس، وإن اكتشفت فليس على درجة واحدة من الوضوح لدى الجميع. وصدق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) حين يقول: (ان هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها" ونصيب الناس من العلم ليس واحدا يقول تعالى: (نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم)63 وما دامت معارف الناس متفاوتة: ومستوى الإدراك والوعي نديهم مختلفا فمن الطبيعي أن بحدث كلى أثر ذلك تفاوت واختلاف في العقائد والمواقف والممارسات.. فقد تتجلى حقيقة ما لبعضنا تقوده إلى منهج معين ونظرية في العمل والتحرك.. بينما يرفض الآخرون تلك النظرية والمنهج لعدم اطلاعهم أو اقتناعهم بالحقيقة التي قامت النظرية على أساسها.. من هنا قال علي (ع) "الناس أعداء لما جهلوا" وقد تتوفر لأحدنا معلومات تدفعه لموقف معين، بيد أن من لا يمتلك تلك المعلومات أو لا يثق بها لا يمكنه أن يتخذ ذات الموقف.. وهذا وارد حتى بالنسبة للأنبياء والأولياء المعصومين و المقربين فإذا شاءت حكمة الله تعالى ان يطلع نبيا على حقيقة معينة يحجبها عن النبي الآخر فسوف تكون النتيجة نوعا من التفاوت والاختلاف في الرأي أو الموقف بين دينك النبيين. ومن خلال القرآن الحكيم والأحاديث الشريفة نسوق المثالين التاليين: بين موسى والخضر: موسى نبي من أنبياء الله العظام وأحد الأنبياء الخمسة "أولو العزم " والخضر ولي مقرب عند الله تعالى يقول عنه سبحانه: (فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما)64 "والذي يتحصل من الروايات النبوية أو الواردة من طرق أئمة أهل البيت في قصته كما في رواية محمد بن عمارة عن الصادق (ع): ان الخضر كان نبيا مرسلا بعثه الله تبارك وتعالى إلى قومه فدعاهم إلى توحيده والإقرار بأنبيائه ورسله وكتبه، وكان آيته أنه لا يجلس على خشبه يابسة ولا أرض بيضاء إلا أزهرت خضراء وإنما سمّي خضـرا لذلك.. " أوحى الله سبحانه إلى موسى (ع) ان هناك عبدا من عباده عنده من العلم ما ليس عند موسى، وأخبره أنه انطلق إلى مجتمع البحرين وجده هناك، وهو بالمكان الذي يحيي فيه الحوت الميت (أو يفتقد فيه الحوت). فعزم موسى أن يلقى العالم ويتعلم منه بعض ما عنده ان أمكن وأخبر فتاه عما عزم عليه (وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا)65 وفتاه كما في بعض الروايات هو يوشع بن نون. فخرجا قاصدين مجمع البحرين وقد حملا معهما حوتا ميتا وذهبا حتى بلغا مجمع البحرين وقد تعبا وكانت هناك صخرة على شاطئ البحر فآويا إليها ليستريحا هنيهة وقد نسيا حوتهما وهما في شغل عنه. وإذا بالحوت اضطرب ووقع في البحر حيا، أو وقع فيه وهو ميت، وغار فيه (فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا)66 والفتى يشاهده ويتعجب من أمره غير أنه نسي أن يذكره لموسى حتى تركا الموضع، وانطلقا حتى جاوزا مجمع البحرين وقد نصبا. فقال له موسى: آتنا غذائنا لقد أتعبنا السفر، فذكر الفتى ما شاهده من أمر الحوت، وقال لموسى: انا إذ أوينا إلى الصخرة حي الحوت ووقع في البحر يسبح فيه حتى غار وكنت أريد أن أذكر لك أمره لكن الشيطان انسانيه: (فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غدائنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا* قال أرأيت إذ آوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا)67 قال موسى ذلك ما كنا نبغي ونطلب فلنرجع إلى هناك، فعادا على نفس الطريق يهتديان بآثار مواقع أقدامهما (قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا)68 فوجدا عبدا من عباد الله آتاه الله رحمة من عنده، وعقمه علما من لدنه وهو الخضر، فعرض عليه موسى وسأله أن يتبعه فيعلمه شيئا ذا رشد مما علمه الله (فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما * قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا)69 قال العالم: انك لن تستطيع محي صبرا على ما تشاهده من أعمالي التي لا علم لك بتأويلها، وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا؟ (قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشداً * قال انك لن تستطيع معي صبرا* وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا)70. فوعده موسى أن يصبر ولا يعصيه في أمر إنشاء الله (قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا)71. فقال له العالم بانيا على ما طلبه منه ووعد به (قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى احدث لك منه ذكرا)72. فانطلق موسى والعالم حتى ركبا سفينة وفيها ناس من الركاب وموسى خالي الذهن عما في قصد العالم، فخرق السفينة خرقا لا يؤمن معه الغرق (فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها)73. فأدهش ذلك موسى وأنساه ما وعده فقال للعالم: (قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا)74. قال له العالم: (ألم أقل لك انك لن تستطيع معي صبرا)75. فاعتذر إليه موسى بأنه نسي ما وعده من الصبر: (قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا). فانطلقا فلقيا غلاما فقتله العالم، فلم يملك موسى نفسه دون أن تغير وأنكر عليه ذلك (فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا)76. قال له العالم ثانيا: (ألم أقل لك أنك لن تستطيع معي صبرا)77. فلم يكن عند موسى ما يعتذر به ويمتنع به عن مفارقته، ونفسه غير راضية بها، فاستدعى منه مصاحبة مؤجلة بسؤال آخر إن أتى به كان له فراقه (قال ان سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا)78. فانطلقا حتى أتيا قرية وقد بلغ بهما الجوع، فاستطعما أهلها فلم يضيفهما أحد منهم. وإذا بجدار فيها يريد أن ينقض ويتحدر منه الناس فأقامه العالم. قال له موسى: لو شئت لاتخذت على عملك منهم أجرا فتوسلنا به إلى سد الجوع فنحن في حاجة إليه والقوم لا يضيفوننا. (فانطلقا حتى إذا آتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجر ا)79. فقال له العالم: (هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا) 80. وشرع يبين لموسى أسرار ومبررات ما كان ينكره من أعماله قائلا: وأما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر ويتعيشون بها وكان وراءهم ملك ظالم يأخذ كل سفينة صالحة غصبا من أصحابها فخرقتها لتكون معيبة لا يرغب فيها: (أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا) 81. وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين، ولو أنه عاش لأرهقهما بكفره وطغيانه فشملتهما الرحمة الإلهية وأمرني الله أن أقتله ليبدلهما ولداً خيرا منه زكاة وأقرب رحما فقتلته (وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفراء فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما)82. (وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا)83.فشملتهما الرحمة الإلهية لصلاح أبيهما فأمرني الله أن أقيمه فيستقيم حتى يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما، ولو سقط الجدار لانكشف الكنز وانتهبه الناس (فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك )84. وختم العالم حديثه مودعا موسى قائلا (وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا) 85. لو تأملنا هذه القصة وتدبرنا مقاطعها كما ينقلها القران الحكيم لعرفنا أن تفاوت مستوى العلم والمحرفة ?جاه أي قضية من القضايا قد يسبب اختلافا وتفاوتا في النظر إلى تلك القضية والموقف تجاهها. وإذا كان التفاوت في المعرفة واردا بالنسبة للأنبياء والمعصومين حينما تشاء حكمة الله تعالى فهو بالنسبة لسائر البشر أكثر حدوثا بل هو الأمر الطبيعي. وإذا ما صح لنبي معصوم ان ينكر على نبي آخر عملا معيناً لعدم اطلاعه على خليفته ومبرراته ويخاطبه بأنه قد ارتكب شيئا- إمرا- أي مفجعا. ومرة أخرى يتهمه بأنه فعل شيئا- نكرا- أي منكر يستنكره الطبع ولا يعرفه المجتمع. أفلا يكون من الطبيعي أن نختلف على تقويم موقف أو شخص أو حادثة بسبب عدم انكشاف كل الخلفيات والمبررات لنا جميعا وبذات الدرجة من الوضوح؟؟ بين داوود وسليمان: داوود نبي من أنبياء الله العظام وكان حاكما مبسوط اليد، وقد خاطبه الله تعالى بقوله: (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق)86. مرة تداعى لديه شخصان أحدهما يملك مزرعة والآخر يمتلك غنما انطلقت ليلا إلى مزرعة صاحبه فأتلفت زرعها فحكم نبي الله داوود لصاحب الزرع رقاب الغنم يعني أن يمتلكها. عوضا عما افتقده من زرع. ولكن ابنه سليمان وهو الآخر نبي عظيم ألهمه الله سبحانه الحكم في القضية بأسلوب آخر فاقترح على أبيه داوود تعديل الحكم بأن تكون منافع الغنم في تلك السنة من ضرع وصوف ونتاج تعويضا لصاحب الزرع لا أن يصلك ذات الغنم وأمضى الله سبحانه أسلوب سليمان في الحكم. يقول تعالى: (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين* ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلماً وسخرنا مع داوود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين)87. واختلف المفسرون في درجة هذا التعديل في الحكم هل ان حكم سليمان كان مغايرا لما حكم به أبوه داوود أو انه تعديل وتغيير في أسلوب تنفيذ الحكم فقط؟ جاء في مجمع البيان: "فقيل: انه زرع وقعت فيه الغنم ليلا فأكلته عن قتادة، وقيل: كان كرما وقد بدت عناقيده فحكم داوود بالغنم لصالح الكرم، فقال سليمان: غير هذا يا نبي الله! قال: وما ذاك؟ قال: يدفع الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان ويدفع إلى صاحبه ماله. عن أبي مسعود". وروى ذلك عن أبى جعفر وأبي عبد الله (ع). وقال الجبائي: أوحى الله تعالى إلى سليمان بما نسخ به حكم داوود الذي كان يحكم به قبل، ولم يكن ذلك عن اجتهاد لأنه لا يجوز للأنبياء ان يحكموا بالاجتهاد، وهذا هو الصحيح المعول عليه عندنا. وقال علي بن عيسى والبلخي: يجوز أن يكون ذلك عن اجتهاد، لأن رأي النبي أفضل من رأي غيره، فإذا جاز التقيد بالتزام حكم غير النبي من طريق الاجتهاد فيكون أولى من حكم النبي على هذا الوجه. والذي بدل على صحة القول الأول إن النبي إذا كاد يوحى إليه وله طريق إلى العلم بالحكم فلا يجور له أن يحكم بالظن، على أن الحكم بالظن والاجتهاد والقياس قد بين أصحابنا مي كتبهم انه لم يتقيد بها في الشرع إلا في مواضع مخصوصة ورد النص بجواز ذلك ميها، نحو قيم المتلفات وأروش الجنايات، وجزاء الصيد والقبلة وما جرى هذا المجرى. وأيضاً فلو جاز للنبي أن يجتهد لجاز لغيره أن يخالفه كما يجوز للمجتهدين أن يختلفا، ومخالفة الأنبياء تكون كفرا هذا وقد قال الله سبحانه (وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى)88 فأخبر سبحانه انه إنما ينطق عر جهة الوحي ويقوي ما ذكرناه قوله تعالى: (ففهمناها سليمان)89 أي علمناه الحكومة في ذلك. وقيل أن سليمان قضى لذلك وهو أبن إحدى عشرة سنة وروي عن النبي (ص). "انه قضى بحفظ المواشي على أربابها ليلا وقضى لحفظ الحرث على أربابه نهارا". ويقول العلامة الطباطبائي في الميزان "فكان الحكم حكما واحدا هو حكم الأنبياء والظاهر أنه ضمان صاحب الغنم للمال الذي أتلفته غنمه فكان الحكم حكما واحدا اختلفا في كيفية إجرائه عملاً، إذ لو كان الاختلاف في أصل الحكم لكان فرض صدور حكمين منهما بأحد وجهين اما يكون كلا الحكمين حكما واقعيا لله ناسخا أحدهما- وهو حكم سليمان- الآخر وهو حكم داوود لقوله تعالى (ففهمناها سليمان)90. و اما يكون الحكمان معاً عن اجتهاد منهما بمعنى الرأي الله ني مع الجهل بالحكم الواقعي وقد صدق تعالى اجتهاد سليمان فكان هو حكمه. أما الأول وهو كون حكم سليمان ناسخا لحكم داوود فلا ينبغي الارتياب في أن ظاهر حمل الآية لا يساعد عليه إذ الناسخ والمنسوخ ولو كان حكما هما من قيل النسخ ومتباينين لقيل. وكنا لحكمهما أو لحكميهما ليدل على التعدد والتباين لو لم يقـل (وكنا لحكمهم شاهدين)91المشعر بوحدة الحكم وكونه تعالى شاهدا له الله اهر في صونهم عن الخطأ، ولو كان داوود حكم في الواقعة بحكم منسوخ لكان على الخطأ، ولا يناسبه أيضا قوله. (وكلا آتينا حكما وعلما)92 وهو مشعر بالتأييد ظاهر في المدح. وأما الثاني وهو كون الحكمين عن اجتهاد منهما مع الجهل بحكم الله الواقعي فهو أبعد من سابقه لأنه تعالى يقول: (ففهمناها سليمان)93 وهو العلم بحكم الله الواقعي، وكيف ينطبق على الرأي الله ن بما أن!- رأي ظني؟ ثم يقول: (وكلا آتينا حكما وعلما)94 فيصدق بذلك أن الذي حكم به داوود أيضا كان حكما علميا لا ظنيا. ولو لم يشمل قوله: (وكلا آتينا حكما وعلما)95 حكم داوود في الوقعة لم يكن وجه لا يراد الجملة في المورد. بل دلالة على ان الحكم كان واحدا ومصونا عن الخطأ. فلا يبقى إلا أن يكون حكمهما واحدا في نفسه مختلفا من حيث كيفية الإجراء وكان حكم سليمان أوفق وأرفق. وقد وردت في روايات الشيعة وأهل السنة ما إجماله أن داوود حكم لصاحب الحرث برقاب الغنم وسليمان حكم له بمنافعها في تلك السنة من ضرع وصوف ونتاج. ولعل الحكم كان هو ضمان ما أفسدته الغنم من الحرث على صاحبها وكان ذلك مساويا لقيمة رقاب الغنم فحكم داوود لذلك برقابها لصاحب الحرث، وحكم سليمان بما هو أرفق منه وهو أن يستوفي ما التلفت من ماله من منافعها في تلك السنة، والمنافع المستوفاة من الغنم كل سنة تعادل قيمتها قيمة الرقبة عادة. وسواء كان الاختلاف بين حكمي داوود وسليمان جوهريا أو أسلوبيا فان في ذلك دلالة على اختلاف الموقف حينما يختلف الفهم لأي قضية وفي هذه القصة كان الترجيح من قبل الله تعالى لفهم سليمان للمسألة على فهم أبيه داوود لحكمة شاءها الله سبحانه. وإذا كان يحدث الاختلاف في أسلوب المعالجة والتطبيق لحكم شرعي بين نبيين معصومين لتفاوت درجة فهمهما لمورد الحكم ألا تتسع صدورنا لتعدد أساليب العمل والتحرك وتنوع أشكال الممارسات و المواقف؟! اختلاف الفقهاء في الفتوى: عبر الفقهاء يتعرف المسلمون على أحكام دينهم، ومنهم يأخذون تعاليم الشريعة، لأن معرفة تفاصيل الأحكام وجزئياتها من مصادر الشريعة عسير على الفرد المسلم ما لم يصل إلى مستوى من العلم والمعرفة يمكنه من استنباط الأحكام، ويعبر عن ذلك المستوى بملكة الاجتهاد والفقاهة. والمجتهدون الفقهاء يبذل كل واحد منهم جهده العلمي، ويستخدم قدرته الاجتهادية لاكتشاف حكم الله في كل مسالة، وغالبا ما يختلف الفقهاء في فتاواهم وآرائهم حتى ضمن المذهب الواحد. علماً بأن حكم الله تعالى واحد لا يتعدد في كل مسألة خلافاً لما يراه المصوّبة، فهناك من يصيب الحكم وهناك من يخطئه، ولكن من يخطئ بعد بذل غاية جهده فهو معذور ومأجور عند الله سبحانه وتعالى لما ورد في الحديث عن رسول الله (ص) "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذ اخطأ فله أجر" واختلاف الفقهاء في الفتوى هو مظهر من واقعية الاختلاف في حياة البشر، وقبول الإسلام لهذه الواقعية، وهو في كثير من موارده نتيجة لتفاوت المستوى العلمي والإدراك والإطلاع. ذلك لأن اختلاف الفقهاء إنما هو ناشئ لأسباب علمية عديدة نذكر منها ما يلي: ا- الاختلاف في حجية بعض المباني والقواعد الأصولية، فمثلا اختلافهم في حجية خبر الواحد، فإن الخبر الوارد عن المعصوم ان نقله جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب فهو خبر متواتر يتفق الفقهاء على قبوله وحجيته، أما إذا لم يكن الخبر كذلك وإنما رواه شخص واحد مثلا ولم تصاحبه قرائن توجب العلم بصدقه فهنا يختلف الفقهاء في حجية هذا النوع من الأخبار فبعض العلماء كالسيد الشريف المرتضى ينكر حجيته، والبعض الآخر كالشيخ الطوسي يثبت حجيته. فإذا ما حصل في مسألة من المسائل الشرعية أن ورد فيها خبر من أخبار الآحاد فسيختلف موقف الفقهاء من المسالة بسبب اختلافهم في حجية الدليل الوارد في المسألة. 2- اختلافهم في سند الروايات والإطلاع عليها، فقد يرى بعض الفقهاء وثقافة أحد الرواة فيقبلون روايته، بينما يتوقف فيه علماء آخرون فيمتنعون عن قبول مروياته. وقد يطلع فقيه على حديث تثبت لديه صحته بينما لا يطلع الفقيه الآخر على ذلك النص. 3- الاختلاف في فهم معاني النصوص وأبعادها. فقد يفهم فقيه من النص معنا معينا بينما الفقيه الآخر يفهم معنى مغايرا، وهذا وارد بالنسبة للآيات القرآنية والروايات وسير المعصومين. 4- ثقافة الفقيه ورؤيته الاجتماعية.. صحيح أن العمل الاجتهادي نشاط علمي له قواعده وقوانينه وأدواته ومعداته، ولكن المجتهد الذي يؤدي العمل الاجتهادي إنسان له خلفيته الفكرية ومشاعره الاجتماعية وليس جهازا آليا كالكمبيوتر يتعامل مع المسألة العلمية تعاملا حياديا. من هنا فإن ثقافة الفقيه ورؤيته الاجتماعية لها تأثير حاسم على فتاواه فإذا كان فقيه يرى ضرورة قيام حكم إسلامي عادل ويعطي الأولوية في حياة الأمة لتحقيق هذه الضرورة، بينما فقيه آخر يعتقد أن قيام الحكم الإسلامي هو وظيفة صاحب الزمان المهدي المنتظر (ص) وانه طموح غير واقعي ولا مطلوب شرعا في زمن الغيبة، فإن رؤية كل منهما ستنعكس على استنباطاته وفتاواه ولو في بعض الموارد، مما ينتج اختلافا في الفتوى. ويتحدث الفقيه الشهيد السيد محمد باقر الصدر عن تأثير رؤية المجتهد وأفكاره على فتاواه في بحث له بعنوان (الاتجاهات المستقبلية لحركة الاجتهاد عند الشيعة) جاء فيه: "إن حركة الاجتهاد عند الشيعة قاست منذ تولدت تقريبا عزلا سياسيا عن المجالات الاجتماعية للفقه الإسلامي... وهذا العزل السياسي أدى تدريجياً إلى تقليص نطاق الهدف الذي تعمل حركة الاجتهاد عند الشيعة لحسابه، وتعمق على مر الزمن شعورها بأن مجالها الوحيد الذي يمكن أن تنعكس عليه في واقع الحياة وتستهدفه هو مجال التطبيق الفردي وهكذا ارتبط الاجتهاد بصورة الفرد المسلم في ذهن الفقيه لا بصورة المجتمع المسلم. إن الانكماش وأخذ المجال الفردي للتطبيق بعين الاعتبار فقط نجم عنه انكماش الفقه من الناحية الموضوعية، فقد أخذ الاجتهاد يركز باستمرار على الجوانب الفقهية الأكثر اتصالاً بالمجال التطبيقي الفردي وأهملت المواضيع التي تمهد للمجال التطبيقي الاجتماعي. وهذا الاتجاه الذهني لدى الفقيه لم يؤد فقط إلى انكماش الفقه من الناحية الموضوعية بل أدى بالتدريج إلى تسرب الفردية إلي نظرة الفقيه نحو الشريعة نفسها فإن الفقيه بسبب ترسخ الجانب الفردي من تطبيق النظرية الإسلامية للحياة في ذهنه واعتياده أن ينظر إلى الفرد ومشاكله عكس موقفه هذا على نظرته إلى الشريعة فاتخذت طابعا فرديا وأصبح ينظر إلى الشريعة في نطاق الفرد. وقد كان من نتائج ترسخ النظرة الفردية قيام اتجاه عام في الذهنية الفقهية يحاول دائما حلّ مشكل الفرد المسلم عن طريق تبرير الواقع وتطبيق الشريعة عليه بشكل من الأشكال، فنظام الصيرفة القائم على أساس الربا مثلا بوصفه جزءا من الواقع الاجتماعي المعاش يجعل الفقيه يحس بأن الفرد المسلم يعاني مشكلة تحديد موقفه من التعامل مع مصارف الربا ويتجه البحث عندئذ لحل مشكلة الفرد المسلم عن طريق تقديم تفسير مشروع للواقع المعاشي بدلا عن الإحساس بأن نظام الصيرفة يعتبر مشكلة في حياة الجماعة ككل. وقد امتد أثر الانكماش وترسخ النظرة الفردية للشريعة إلى طريقة فهم النص الشرعي أيضا فمن ناحية أهملت في فهم النصوص شخصية النبي والإمام الحاكم ورئيس الدولة فإذا ورد نهي عن النبي مثلا كنهيه أهل المدينة عن منع نقل الماء فهو إما نهي تحريم أو نهي كراهة عندهم مع أنه قد لا يكون هذا ولا ذاك بل قد يصدرا للهي من النبي بوصفه رئيسا للدولة فلا يستفاد منه الحكم الشرعي.. ". اختلاف المصالح: المعصوم فقط هو الذي تكون دوافعه في أفكاره وأعماله ومواقفه نابحة من الحق وقاصدة إليه، والعصمة رتبة عظيمة يختص بها الملائكة الذين هم (عباد مكرمون * لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون)96 والأنبياء فالنبي معصوم (وما ينطق عن الهوى * إن هو إلآ وحي يوحى)97. والأئمة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. أما سائر الناس مهما علت درجات إيمانهم فهم بشر للمصالح والأهواء دخل وتأثير على آرائهم ومواقفهم، فكل جهة أو فئة أو جماعة تسعى وتعمل للدفاع عن مصالحها ومنافعها، وعلى أساس ذلك تتخذ مواقفها وتتبنى قناعاتها. وهنا يحدث التصادم والتعارض بين مصالح الفئات ومنافعها والتي قد تكون مصالح مشروعة. وليس حل مثل هذا النوع من الاختلاف يكون دائما بإعطاء الأولوية لمصلحة هذه الجهة على حساب الجهة الأخرى، لأن المصالح متشابكة والمنافع متداخلة، ومعرفة الحد الفاصل بين المصالح على أساس الحق والعدل أمر عسير، وإذا ما عرفناه فإن قبول تلك الجهات به وخضوعهم أمر أعسر، والذين يريدون معالجة الاختلافات الاجتماعية على أساس مبدئي وقانوني حاد عليهم أن يعرفوا أن ذلك ليمس ممكنا ولا سهلا في الغالب. وحتى في النزاعات الفردية والمالية فإن الإسلام لم يجعل الحل الوحيد منحصرا في تشخيص الحق والحكم به وان كان ذلك واردا في الدعاوي والمنازعات حيث ترفع إلى الحاكم الشرعي فيحسمها بتحديد الحق عن طريق إقامة البينة أو اليمين.. ولكن إلى جنب ذلك هناك طريق (الصلح) وهو عقد قائم بنفسه، يعتمد على تراضي طرفي النزاع على حل وسط وقبولهما به دون أن يكون هناك تدخل حاسم من الحاكم الشرعي لتحديد حق كل من الطرفين. إذاً فاختلاف المصالح بين الجهات أمر وارد وهو يسبب الاختلاف في المواقف.. ولكن ذلك لا يمنع التعاون والتوافق ضمن صيغة تحفظ لكل منهم مصلحته التي يراها وتمنعه من الاعتداء على مصالح الآخرين وهذا هو الأسلوب الحضاري الذي تتعامل به الجهات المتحضرة المتمدنة في العالم فيما بينها. فهم يعترفون باختلاف المصالح فيما بينهم، ويتنافسون في اكتساب المصالح والمكاسب ولكنهم يتعاونون في نفس الوقت ضمن أطر وصيغ مرنة. وبهذا الأسلوب تتعايش الأحزاب المتنافسة على المصالح في أمريكا وأوروبا الغربية، فحينما يصل حزب إلى الحكم في بلد فإن الحزب الآخر يأخذ موقف المعارضة ولكن ضمن حدود وأطر متفق عليها بين الطرفين ويستمر بينهما التشاور والتعاون والتعامل وخاصة عند التحديات وفي المواقف المشتركة. الخلاصة: يتبين من كل ما سبق ان الاختلاف في حياة البشر أمر طبيعي وواقعي، وحتى في المجتمعات الإيمانية لا تزول ولا تنتهي أسباب الاختلاف، فهناك تفاوت في درجات الإيمان، وتفاوت في مستوى المعرفة والوعي، وتعارض بين المصالح. وحينما تدعو الفطرة ويشجعنا العقل على التعاون، ويأمرنا الدين بالوحدة والتالف فذلك ليس مشروطا بأن نكون متفقين في كل أفكارنا ومواقفنا ومصالحنا فذلك أمر مستحيل أو متعذر. وانما المطلوب منا التآلف والتعاون حتى مع وجود حالات الاختلاف والتنافس. والذين يجعلون الإنفاق في كل شيء شرطا للوحدة والتعاون اما أن يكونوا غافلين عن الحقائق الواقعية، و اما هم غير جادّين في التطلع لوحدة الأمة وتماسك قواها المؤمنة الخيّرة. حديث عن الوحدة (1) الوحدة والتعاون بين أبناء البشر مسألة فطريه، وحدانية لا تحتاج إلى استدلال علمي ولا بدل جهد عقلي. ذلك أن الله سبحانه وتعالى أودع في أعماق لمسر كل إنسان فطرة صافية ووجدانا نقياً وبالفطرة والوجدان يهتدي الإنسان إلى الخير ويكتشف موارد الشر، وبها يتفق أبناء البشر على المبادئ الخيرة والبديهيّات العقلية يقول تعالى (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله)98 إلا أن تربية الإنسان والأجواء التي ينشأ فيها قد تلوث صفاء فطرته ونقاء وجدانه يقول (ص) "كل مولود يولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه وينصرانه " إنك لو سألت أي إنسان عن رأيه في الوحدة والتفرقة لما تردد في الإجابة بأن الوحدة خير وأن التفرقة شر بغض النظر عن التفاصيل والملابسات.. وتشير بعض الآيات الكريمة إلى أن البشر في بدء حياتهم على وجه الأرض يوم كانوا يعيشون البساطة والعفوية كانوا متحدين لم يعرفوا معنى للتفرقة والاختلاف، ولكن حينما بعث الله الأنبياء والرسل خالفهم من تلوثت فطرته، وهناك بدأ الصراع والاختلاف في حياة الناس.. يقول تعالى: (كان الناس أقة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق الحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه)99 (فظاهر الآية يدل على أن هذا النوع قد مر عليهم في حياتهم زمان كانوا على الاتحاد والاتفاق، وعلى السذاجة والبساطة، لا اختلاف بينهم بالمشاجرة والمدافعة في أمور الحياة، ولا اختلاف في المذاهب والآراء). وفي أية أخرى يقول سبحانه. (وما كان الناس إلا أقة واحدة فاختلفوا).100 وعادة ما تتجلى الفطرة أمام الإنسان في الظاهرالخطيرة والدقيقة لتي تمر عليه فتزيل عن قلبه حجب الغفلة والشهوة ويتصرف بوحي من فطرته ووجدانه، فلو أن مجموعة أفراد كانوا يستقلون سيارة في سفر لهم، وكان كل واحد منهم من دين أو مذهب معتن، أو كانوا يختلفون في الاتجاه السياسي وبشكل مفاجئ يصيبهم حادث اصطدام أو يهاجمهم بعض اللصوص وقطاع الطرق.. فهنا سيصبحون في حالة خطر ووضع حساس، وبذلك سيتغير تعاملهم مع بحضهم البعض وتنتهي حالة الخصومة السابقة وسيتصرف كل واحد في الدفاع عن المجموع والتعاون معه بوحي من فطرته ووجدانه، ففي حادث الاصطدام سيقوم غير المصاب بإسعاف المصابين ويتحرك الأقل إصابة لمساعدة من هو أشد إصابة.. وتسودهم حالة من التعاون غير المتكلف ولا المخطط ولكنها الفطرة والوجدان تتجلى في مثل هذه المواقف.. ويمكننا أن نلمس هذه الحالة الفطرية في مجتمع الأطفال الصغار وقبل أن تستحكم الشهوات والمصالح في نفوسهم فإنهم يتعاونون ويلعبون، وقد يضرب بعضهم بعضا، لكن ذلك لا يؤدي بهم إلى القطعة والحقد، بل سرعان ما يتناسون نزاعاتهم ويعودون إلى التعامل واللعب معا. وكثيرا ما يحدث أن يشتكي بعض الأطفال لدى عوائلهم ضد الأطفال الآخرين ويحصل النزاع والاختلاف بين أهالي الأطفال ويبقى لفترة طويلة، بينما يتناسى الأطفال صراعاتهم ويعودون بسرعة إلى اللعب معا.. إذا فالوحدة والتعاون أمر تدعو إليه الفطرة ويؤيده الوجدان الإنساني. (2) الأمة الإسلامية التي لص الله سبحانه وتعالى على وحدتها فقال: (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون )101، وفي آية أخرى يقول تعالى: (وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتّقون)102 وكانت هذه الأمة تعيش تحت قيادة واحدة وفي وطن واحد يتعايش فيه جميع المسلمين كمواطنين متساوين في حقوقهم السياسية، ولكن هذه الأمة الواحدة والدولة الواحدة والوطن الواحد تحولت الآن إلى أكثر من (43) دولة ووطنا !! ولكل دولة علم وشعار وحدود وعملة خاصة وقوانين معينه !! وأصبح انتقال المسلم من بلد إسلامي إلى بلد إسلامي آخر تكتنفه العديد من المشاكل والتعقيدات، فلا بد من تأشيرة دخول وجواز وجمارك وتفتيش.. إلى ما هنالك من قوانين ما أنزل الله بها من سلطان. إن هذا التمزق السياسي العجيب الذي تعيشه الأمة الإسلامية هو سبب رئيسي لتحققها ولضياع ثرواتها وجيرانها وهيمنة الأعداء والطامعين وعادة ما تنشب الحروب والخلافات بين حكام هذه الدولارات المصطنعة والضحية هي مصالح المواطنين حيث يقع عليهم التهجير ومصادرة الأموال ويتقاتل الحكام بهم!! (3) إن النداء الإلهي بالوحدة والتعاون موجه للمؤمنين الصالحين، فهم الذين يريد الله اتحادهم وتعاونهم على البر والتقوى، وفي تلك الوحدة خير لهم وللبشرية جمعاء لأن قوى الحق والصلاح إذا اجتمعت وتكاتفت كانت أقدر على نشر الهدى والخير وبسط العدل ومكافحة الشر والظلم.. ولذلك يوجه الله سبحانه وتعالى دعوة التعاون للمؤمنين كما في الآيات الأولى من سورة المائدة.. يقول تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تحقوا شعائر الله ولا الشهر الحرام..- إلى أن يقول سبحانه ة- وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم العدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب).103 وفي سورة آل عمران يقول عزّ وجل: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقانه ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون * واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فأتف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا).104 وفي سورة الحجرات يقول سبحانه: (إنّما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعقكم ترحمون).105 إذا فالوحدة المطلوبة من قبل الله سبحانه هي وحدة المؤمنين مع بعضهم البعض، فأما الكافرون والظالمون فإن اتحادهم ليس في صالح البشرية لأن ذلك يقوي بغيهم وضلالهم ويهدد أمن الناس وحريتهم بالخطر والسوء.. ولذلك يتوعد الله المنحرفين بإلقاء العداوة والنزاع في صفوفهم، فعن أدعياء النصرانية المنحرفين عن منهج الله يقول تعالى: (ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون)106 وعن اليهود المجرمين يقول تعالى: (وقالت اليهود يد الله مغلولة غّلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفى كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربّك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة).107 وفي الدعاء المشهور "اللهم اشغل الظالمين بالظالمين ". إن وحدة المؤمنين وتعاونهم يجب أن يتحققا على مستويين: المستوى الأول: الجهات الفاعلة والقيادية في مجتمعاتنا الدينية من مراجع وعلماء وحركات ومراكز ومؤسسات. المستوي الثاني: في أوساط الجماهير وبين الناس المؤمنين مع بعضهم البعض.. ومؤسف جدا أن تعاني أمتنا الإسلامية من الخلاف والتمزق بين المؤمنين حتى على أعلى المستويات.. بل إن عدم توفر الوحدة والتعاون على المستوى الأول هو الذي يسبب الخلافات والصراعات على المستوى الثاني.. فحينما لا تستطيع الجهات الفاعلة والقيادية- مع ما يفترض فيها من وعي وإخلاص- أن تتعاون وتتحد فسوف لن تنجم الجماهير والمجتمعات المتدينة بأجواء الوحدة والانسجام لانعكاس اختلاف القيادات على أوضاع القاعدة والأتباع.. فعلى صعيد المراجع والعلماء والذين هم القيادة الشرعية لجماهير الأمة والحماة لوحدتها والحريصون على مصلحتها.. نرى بعض النزاعات والخلافات وبعض المجتمعات الدينية تعاني الآن من الانقسام والتناحر بسبب الخلافات المرجعية والعلمائية.. وعلى صعيد الحركة والتنظيمات الإسلامية وحتى في المناطق الساخنة والملتهبة كأفغانستان والعراق ولبنان تحدث نزاعات تصل إلى حد التقاتل واستخدام السلاح أو الحرب الإعلامية والدعائية بالتشهير المتبادل والاتهامات الرخيصة.. وعلى صعيد المراكز والمؤسسات الدينية هناك تنافس غير شريف في بعض الحالات، وهناك صدامات وتناقضات حتى على مستوى المساجد والحسينيات.. إننا لا نريد بهذا أن نرسم صورة قاتمة سوداء لواقع النشاط والتحرك الإسلامي المعاصر، فهناك إيجابيات كبيرة ومكاسب عظيمة، ولكننا بصدد تسليط الأضواء على هذا المرض الخطير الذي ينخر في كيان مسيرتنا الإسلامية لنتحمس أكثر في مقاومته. فالمبتلى بوجع أسنانه لا يهنأ ولا يتمتع بنشاط سائر أجزاء جسمه، وكذلك نحن مهما تقدمت أعمالنا ونشاطاتنا فإن مرض الخلافات والنزاعات يسلبنا الراحة والإطمئنان.. وفي المرحلة الأولى علينا أن نسعى لنزع فتائل الصراع وتهدئة الأجواء وإعلان وقف إطلاق النار على بعضنا البعض ليسير كل في برنامجه ويواصل مشروعه دون أن يضطر لصرف الجهد والإهتمام لمواجهة إخوانه المؤمنين وتعبئة أتباعه ضدّهم وتحصين أعماله عن تأثيرات تجريبهم.. ثم نطمح للوصول إلى مستوى متقدم وهو الوحدة والتعاون والانسجام. (4) ما هي موقعية الوحدة والتعاون في فكر الإسلام وتعاليم ال!ريعة؟ وكيف ينظر الإسلام إلى حالة النزاع والتخاصم بين أبناء الأمة؟ إن كثيرا من المتدينين يعتبر شكل علاقته مع إخوانه المؤمنين عملا شخصيا يخضع لمزاجه ومصلحته، وأن لا دخل للدين في هذه المسألة، بل له الحرية الكاملة في أن يعادي أو يتعاون مع من يشاء !! وفي أحسن الفروض يعتبر حسن علاقته مع الآخرين شيئا كماليا مستحبا لن يسأله الله تعالى عنه ولن يحاسب عليه يوم القيامة.. وسبب هذه التصورات الساذجة اعتقاد كثير من المتدينين انحصار الدين في القضايا الإعتقادية والأمور العبادية، أما شؤون الحياة وأوضاع المجتمع فذاك لا يرتبط بالدين.. ولذا يهتم هذا الصنف من الناس بمسائل الطهارة والصلاة ب!كل تفصيلي ودقيق ويراعون الاحتياطات والمستحبات في هذه الأمور. بينما يتجاهلون أبسط مبادئ الأخلاق في التعامل مح الآخرين ويتجاوزون الحقوق الإجماعية.. فإذا ما شك في نطقه للفظ من ألفاظ الصلاة فإنه يذهب لسؤال العالم الديني ويراجع الرسالة الفقهية العملية لمعرفة وظيفته الشرعية. أما إذا شك في نوايا ومواقف أخيه المؤمن فهو لا يكف نفسه عناء البحث وأخذ رأي الإسلام في المسألة، بل يحكم مزاجه وأهواءه والتي غالبا ما تقوده إلى سوء الله ن واتهام المؤمنين. ومقاييسنا في تقويم الناس متأثرة أيضا بهذا الفهم الساذج للدين، فلكي تثبت لنا عدالة إنسان نهتم بمعرفة التزامه بالصلاة والصيام وسائر العبادات، ولا يهنا بعد ذلك أخلاقه في التعامل مع الآخرين، وكأن هذه القضية لا تؤثر في العدالة ولا تخل بها !! ولو رأينا شخصاً يترك صلاة أو فريضة أو صيام يوم أو يأكل أو يشرب شيئا محرماً لحكمنا عليه بالفسوق وأسقطنا عدالته، ولكن لو رأينا شخصاً يستعيب مؤمناً أو يفتري عليه أو يشهر به فإن ذلك لا يؤثر على عدالته في نظرنا ولا يزعزع الثقة به في نفوسنا!! إن قضية الوحدة والتعاون بين المؤمنين تحتل موقعاً هاما في ثقافة الإسلام وتعاليمه، والمؤمن ليس مخيرا بين السلوك الوحدوي والأخلاقية التعاونية وبين التفرقة والتخاصم.. بل انه ملزم من قبل الله تعالى بوحدة الصف ولم الشمل. ومكلف بالابتعاد عن التفرقة والبغضاء.. فالوحدة والتعاون واجب شرعي وتكليف إلهي على كل مسلم مراعاته وتطبيقه.. والتفرقة والعداوة بين المؤمنين عمل محرم وجريمة نكراء يحرم اقترافها وممارستها.. ا- يقول تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا)..108 فالآية تحمل أمرا صريحا بالاجتماع، ونهيا واضحا عن التفرقة.. 2- ويقول تعالى: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم) 109إنه تعالى يحذرنا بلغة جازمة من أن نصبح متنازعين متفرقين كاليهود والنصارى ويتوعدنا بالعذاب العظيم إن حدث لنا ذلك.. 3- ويقول تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذين أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه)110 فالوحدة في إطار الدين والابتعاد عن التفرقة هي وصية الله لكل أنبيائه ووصية الأنبياء لأممهم. 4- ويأمرنا سبحانه بأن نتعاون مع بعضنا على أمور الخير والصلاح فيقول سبحانه: (وتعاونوا على البر والتقوى)111 5- وينهانا الله عن التنازع لأن عاقبته الفشل وفقدان القوة (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين)112 6- إن انتشار العداوة والبغضاء بين المؤمنين هدف شيطاني ومن يمارسها أو يساعد عليها فإنما ينفذ إرادة الشيطان.. يقول تعالى: (إنما يريد الشيطان أق يوقع بينكم العداوة والبغضاء)113 أما الأحاديث الشريفة الواردة عن النبي محمد وعن الأئمة من اله صلوات الله عليه وعليهم أجمعين، ففيها حشد هاثل من النصوص التي تؤكد أهمية الوحدة والتعاون وأنها من أساسيات المبادئ الإسلامية، وتنهى عن التفرقة والمعاداة لأنها من أخلاق أهل النار، ونقتبس من تلك الأحاديث بعض الومضات المشرقة: الألفة والعب: الأصل في شخصية المؤمن الألفة والحب للآخرين، أما النفور من الآخرين ومعاداتهم (بالطبع غير أعداء الله) فليس من خلق المؤمن وإنما هي سمة الفخار. يتحدث الإمام الصادق (ع) عن انجذاب قلب المؤمن لأخيه المؤمن مقارنا لها بتنافر قلوب الفاسقين الفخار فيقول: إن ائتلاف قلوب الأبرار إذا التقوا وإن لم يظهروا التودد بألسنتهم كسرعة اختلاط قطر السماء على مياه الأنهار، وإن بعد ائتلاف قلوب الفخار إذا التقوا وإن أظهروا التودد بألسنتهم كبعد البهائم من التعاطف، وإن طال اعتلافها على مذود واحد. والرسول الأعظم (ص) يعتبر الألفة من الناس مقياسا للأفضلية في الخير، ويصف من يفتقد هذه الخصلة بانعدام الخير في شخصيته.. عنه (ص): "خياركم أحسنكم أخلاقا الذين يألفون ويؤلفون " (1). وأيضا عنه (ص): "خير المؤمنين من كان مألفة للمؤمنين، ولا خير فيمن لا يؤلف ولا يألف " إن اقتراب المؤمن من إخوانه المؤمنين وانشداده القلبي إليهم يؤهله للاقتراب إلى رسول الله (ص) يوم القيامة حيث يقول: "أقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحسنكم أخلاقا، الموطئون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون " المقاطعة والهجرة: أن تعامل أخاك المسلم بسلبية وإعراض، وأن تقاطعه وتهجره فذلك أمر محرم مبغوض عند الله، فلست حرا مختارا في أن تقيم علاقة مع إخوانك المؤمنين أو لا تقيم، بل أنت مطالب بذلك، وإذا ما حدث سوء فهم أو تفاهم أوجب نوعا من الإعراض فلا يصح أن يستمر طويلا وبالتحديد أكثر من ثلاثة أيام كما تؤكد على ذلك الأحاديث الشريفة: فعنه (ص): "لا هجرة فوق ثلاث " وفي حديث آخر يقول (ص): "أيما مسلمين تهاجرا فمكثا ثلاثا لا يصطحان إلا كانا خارجين من الإسلام ولم يكن بينهما ولاية فأتهما سبق إلى كلام أخيه كان السابق إلى الجنة يوم الحساب" إن الشيطان الرجيم هو المستفيد الأكبر من تباعد المؤمن عن أخيه المؤمن ومقاطعته له، وهذا ما يؤكده الإمام جعفر الصادق (ع) بقوله: (لا يزال إبليس فرحا ما اهتجر المسلمان، فإذا التقيا اصطكت ركبتاه وتخلعت أوصاله ونادى يا ويله ما لقي من الثبور" وعنه (ص) "هجر المسلم اخاه كسفك دمه " وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) "عليكم بالتواصل والموافقة وإياكم والمقاطعة والمهاجرة " وفي وصيته لأبى ذر يقول (ص) ((يا أبا ذر إياك وهجران أخيك فإن العمل لا يتقبل من الهجران " وعنه (ص) "يطلع الله إلى جميع خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن " وعن الإمام الرضا عن آبائه (ع): "في أول ليلة من شهر رمضان يغل المردة من الشياطين ويغفر في كل ليلة سبعين ألفا فإذا كان في ليلة القدر غفر الله بمثل ما غفر في رجب وشعبان وشهر رمضان إلى ذلك اليوم إلا رجل بينه وبين أخيه شحناء فيقول عز وجل "انظروا هؤلاء حتى يصطلحوا") ولخطورة الهجران والمقاطعة بين المؤمنين يحمل الإمام الباقر (ع) طرفي المقاطعة مسئوليتها ويعتبرهما شريكين في الإثم حتى المظلوم منهما فهو يستطيع إنهاء الهجر بالتنازل لأخيه يقول (ع) "ما من مؤمنين اهتجرا فوق ثلاث إلا وبرئت منهما في الثالثة فقيل له: يا ابن رسول الله: هذا حال الظالم فما حال المظلوم؟ فقال (ع) ما بال المظلوم لا يصير إلى الظالم فيقول: أنا الظالم حتى يصطلحا" وكما تنطبق هذه الأحاديث على حالة المقاطعة والهجر بين الأفراد المؤمنين فهي أشد انطباقا على الجماعات المؤمنة، فلا يصح أن يكون هناك إعراض وتجاهل ومقاطعة بين الجماعات المؤمنة.. مساوئ الاختلاف والفرقة: ينخدع البعض منا بالمكاسب العاجلة والمحدودة التي قد يجنيها بصراعه واختلافه مع إخوانه المؤمنين بأن يستشعر الانتصار لذاته، ويعبئ حوله أنصاره، وينال بعض الغنائم، أو يفرض رأيه في الساحة أو مط أشبه.. ولكنا لو راجعنا التعاليم الإسلامية وقرأنا النصوص الواردة عن قادتنا المعصومين (ع) لعرفنا كيف أن هذه المكاسب السريعة والمحدودة تكون على حساب مصالحنا الاستراتيجية والمصيرية كمؤمنين، وهل من العقل أن يرضى الإنسان بغنائم تافهة وحقيرة بتنازله عن مكاسب مهمة وكبيرة؟ إن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) يؤكد لنا أن ما نتصوره مكسبا وخيرا بعدائنا واختلافنا مع المؤمنين الآخرين لهو تصور خاطئ واهم.. يقول (ع): "وان الله سبحانه لم يعط أحدا بفرقة خيرا، ممن مضى ولا ممن بقي " ومشكلتنا هي مع من يعتقد أن صراعه وعداءه للآخرين هو تكليف شرعي وأمر ديني حيث يسول له الشيطان أنه وحده على الحق وأن الآخرين على الباطل، وأن من واجبه معاداتهم انتصارا للحق!! إن الإمام علي (ع) ينسف هذا التفكير المتعجرف بإرجاع بواعث الفرقة والخلاف بين المسلمين إلى وساوس الشيطان وتضليلاته، وأدن الفرقة والعداء داخل المجتمع المسلم لا يمكن أن تكون مقبولة ومندوبا إليها من قبل الله تعالى.. لقول (ع)::إن الشيطان يسني لكم طرقه، ويريد أن يحل دينكم عقدة عقدة، ويعطيكم بالجماعة الفرقة، وبالفرقة الفتنة فاصدفوا عن نزعاته ونفثاته " إن من أهم أسباب انه?ار الحضارات وهزيمة الأمم وقوع النزاعات والاختلافات في أوساطها.. ولو درسنا تاريخ المجتمعات البشرية لواجهتنا هذه الحقيقة الواضحة في أزمنة التاريخ.. يقول الرسول الأعظم محمد (ص) "لا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا" وبشيء من التفصيل يستعرض الإمام علي (ع) هذه الحقيقة في خطبته المعروفة (القاصعة) الواردة في نهج البلاغة فيقول: "احذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات بسوء الأفعال، وذميم الأعمال فتذكروا في الخير والشر أحوالهم، واحذروا أن تكونوا أمثالهم.. وتدبروا أحوال الماضين من المؤمنين قبلكم.. فانظروا كيف كانوا حيث كانت الآراء مجتمعة، والأهواء متلفة، والقلوب معتدلة، والأيدي مترادفة، والسيوف متناصرة، والبصائر نافذة، والعزا?م واحدة.. ألم يكونوا أرباباً في أقطار الأرضين، وملوكاً على رقاب العالمين؟ فانظروا إلى ما صاروا إليه في آخر أمورهم، حين وقعت الفرقة وتشتت الألفة، واختلفت الكلمة والأفئدة؟ وتشعبوا مختلفين، وتفرقوا متحاربين قد خلع الله عنهم لباس كرامته، وسلبهم غضارة نعمته.. " تلاقي المؤمنين وتزاورهم: حينما يبتعد المؤمن عن أخيه المؤمن، وتنعدم اللقاءات والاجتماعات بينهما فإن الفرصة مواتية للشيطان حينئذ ليخلق بينهما حواجز العداوة والفرقة وخاصة إذا كان بينهم اختلاف في الرأي أو المصلحة.. فبسبب الابتعاد تتضخم القضايا الصغيرة في نظر كل منهما عن الآخر، كما تتراكم الانفعالات النفسية، ويقوم الوشاة والنمامون بدورهم الخبيث في نقل المساوئ فيما بين الطرفين. ولو التقيا لذاب كثير من الجليد والتراكمات النفسية التي بينهما ولتفاهما على ما يختلفان عليه وجعلاه في حدوده الواقعية.. ومشكلتنا هي انعدام أو قلة اللقاءات بين الجهات المختلفة في الرأي أو المصلحة حيث يبتعد كل طرف عن أماكن تواجد الطرف الآخر، فلا القيادات الدينية تكثف اللقاءات فيما بينها ولا الحركات الإسلامية تحرص على الاجتماعات ولا مختلف الجهات الفاعلة في المجتمع تتبادل الزيارات.. ولما اللقاءات والاجتماعات من أثر كبير في تقريب النفوس وتأليف القلوب وتضييق شقة الخلافات نرى الأحاديث الدينية تؤكد عليها بشكل عجيب... ففي الحديث الشريف: "إن الله عز وجل يقول: أيما مسلم زار مسلماً فليس إياه زار بل إياي زار وثوابه علي الجنة" وعن رسول الله (ص): "من زار أخاه في بيته قال الله عز وجل له: أنت ضيفي وزائري، علي قراك وقد أوجبت لك الجنة بحبك إياه " وعن الإمام الصادق (ع): "لزيارة مؤمن في الله خير من عتق عشر رقاب مؤمنات" ويقول أمير المؤمنين علي (ع): "لقاء الأخوان مغنم جسيم وإن قلوا" ويوجه الإمام الصادق (ع) وصية لتلامذته وأتباعه يؤكد عليهم فيها المواظبة على اللقاءات والاجتماعات فيما بينهم فيقول: "اتقوا الله وكونوا أخوة بررة، متحابين في الله، متواصلين متراحمين، تزاوروا، وتلا قوا، وتذاكروا، و أحيوا أمرنا " ويشير الإمام الجواد (ع) إلى أن في اللقاءات الأخوية فائدتين أساسيتين: فائدة نفسية بتحصيل السرور والانشراح النفسي، وفائدة فكرية حيث يكون اللقاء فرصة لتبادل الآراء.. يقول (ع): "ملاقاة الأخوان نشرة وتلقيح العقل " إن الزيارات واللقاءات تساعد على رأب الصدع ولم الشمل وتخفيف حدة الصراعات، وتهيئ الأجواء للتعاون والتقارب. وصدق رسول الله (ص) حينما قال: "الزيارة تنبت المودة" (5) المرحلة التي تمر بها الأمة الإسلامية ليست عادية ولا طبيعية، إنها مرحلة جد، حساسة وخطيرة.. حيث تتآمر وتتكاتف قوى الشرق والغرب لإجهاض الصحوة الإسلامية المباركة ولمنع تحرك الأمة باتجاه دينها واستقلالها وحريتها.. والمستهدف الرئيسي في تآمر الأعداء هم طلائع الأمة والفئات العاملة لتوعية الأمة وقيادتها في معركتها المصيرية الحاسمة. إن الأعداء يسعون بكل قوة ونشاط لتصفية الحركات والنشاطات الثورية في الأمة أو الأقل لإضعافها وعزلها عن التفاعل مع جماهير الأمة. وفي مقابل توحد الأعداء وتعاونهم على إثم ظلمنا والعدوان على استقلالنا وحرياتنا رغم كل ما بينهم من اختلافات أيديولوجية وسياسية ومصلحية هل يصح لنا نحن المتصدين للعمل في سبيل الله والذين تجمعنا رابطة الإيمان والجهاد أن نواجه عدونا المتوحد المتكاتف بصفوف ممزقة ورايات متصارعة؟ فمهما كانت أسباب الخلاف وموجباته فإن الخطر الذي يحدق بنا من الأعداء يفرض علينا التعاون والاتحاد وتأجيل الاختلافات الجانبية والتفصيلية حتى إشعار آخر.. وإلا فوجودنا وديننا ومستقبلنا وأوطاننا كل ذلك مهدد بالفناء والدمار.. إن المعركة والقتال يستوجبان التلاحم والتراص في مواجهة الأعداء ولذلك يؤكد ربنا سبحانه على اتحاد المؤمنين وتكاتفهم في المعارك حتى يكونوا كالبنيان المرصوص.. (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص)114 فالاتحاد سلاح يتقوى به من يشهره مؤمنا كان أو كافرا، والفرقة ضعف تسبب الهزيمة لمن يعيشها مؤمنا كان أو كافرا.. وصدق ربنا سبحانه حيث يقول: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع ال?ابرين)115 وفي الآية إشارة مهمة إلى أن الوحدة وعدم النزاع يحتاجان إلى صبر وتحمل نفسي. وإذا ما كان الأعداء متوحدين أمامنا وكنا عاجزين عن تجاوز وتجميد خلافاتنا في مقابلهم فإن الهزيمة الشنعاء هي المستقبل الذي ينتظرنا لا سمح الله.. وقديما وقف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) أمام أصحابه المتفرقين لينذرهم بتغلب جيش معاوية المتحد عليهم.. يقول: (والله لأظن أن هؤلاء القوم سينالون منكم باجتماعهم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم) وهناك قصة مشهورة تنقل عن زعيم إحدى القبائل العربية السابقة أنه جمع أبناءه الاثني عشر عند وفاته وأوصاهم بالوحدة والتعاون وحذرهم من الاختلاف والصراع، وبشرهم بالقوة والانتصار على أي عدو إذا اتحدوا كما أنذرهم بالهزيمة ?ن تفزقوا، ثم ضرب لهم مثلا واقعيا واضحا حيث طلب منهم إحضار اثني عشر عصاة ثم شدها إلى بعضها بواسطة حبل وأمر كل واحد من أبنائه أن يحاول كسر العصي محزومة مجتمعة، فكان ذلك صعبا وغير ممكن، ثم فك الأب الحزام الذي يربط العصي معا وأعطى كل واحد عصاة واحدة ليحاول كسرها على ركبتيه، وبسهولة بالغة أثنى كل واحد عصاته على رجله لتنكسر العصي جميعا. فقال لهم: مثلكم كهذه العصي، إذا اتحدتم كنتم كالعصي المحزومة تستعصي على الكسر، وإذا تفرقتم كختم كالعصي المفردة يهزمكم العدو بأدنى قوة وجهد. وقد صاغ أحد الشعراء هذه القصة في بيت شعر معروف يقول: تأبى العصي إذا اجتمعن تكسرا وإذا افترقن تكسرت احاداً (6) الخلافات والصراعات في أوساط المؤمنين العاملين تسبب انخفاضاً وتراجعاً كبيراً في نشاطهم وفعاليتهم في الساحة وذلك للأسباب التالية: أولاً: حينما تتآلف القلوب وتتراص الصفوف فإن الله تعالى ينزل بركته وتوفيقه، أما حينما تدب الفرقة والنزاع وتسود الخلافات فإن الله ينزع بركته ويسلب تأييده وتوفيقه. ولعل ذلك ما يشير إليه الحديث الشريف المروي عن رسول الله (ص): " يد الله مع الجماعة" وفي حديث آخر عنه (ص) أيضا: "الجماعة رحمة والفرقة عذاب " ثانياً: حالات الصراع والخلاف الداخلي تحدث في نفس الإنسان انفعالات وجراحات ومضاعفات مقيتة جدا، فيمارس الإنسان العامل دوره في الساحة ونفسه مثقلة بتلك المضاعفات مما يقلل من اندفاعه وإنتاجيته وجودة وإتقان عطائه.. رقد تتراكم تلك الانفعالات فتنحرف به عن الطريق ويتراجع عن مواصلة مسيرة الجهاد.. وكم رأينا عناصر عاملة مجاهدة في سبيل الله انسحبت من ميدان العمل وتخلت عن الجهاد بتأثير هذه المضاعفات النفسية التي تحدثها الخلافات والصراعات، وإن كنا لا نبرر انسحاب هؤلاء العاملين ولا نقبل أعذارهم في التهرب من المسؤولية ولكنا مطالبون بتنقية الأجواء وتهيئة الظروف المساعدة على الاستقامة والصمود في خط الجهاد. وبمراجعة سريعة للتعاليم الدينية والنصوص الإسلامية نكتشف بوضوح مدى حرص الإسلام على طهارة ونقاء نفس الإنسان المؤمن ليتمكن من النهوض بمسؤولياته العظيمة ودوره الخطير في هذه الحياة.. إن الصراع الداخلي يستلزم تلوث النفس بالكراهية والحقد على الآخرين من أبناء المجتمع.. رما أفتك (الحقد) بطهارة القلب، إنه ورم خبيث وجرثومة مقيتة تجعل النفس مظلمة متآكلة.. لذلك يقول الإمام علي (ع): "الحقد ألأم العيوب " وفي حديث آخر: "طيبوا قلوبكم من الحقد فإنه داء موبي " ويبارك الإمام علي لمن عافاه الله من مرض الأحقاد بأنه يعيش راحة في قلبه وتفكره.. يقول (ع): "من اطرح الحقد استراح قلبه ولبه " ويقول أيضاً: "الحقود معذب النفس متضاعف الهم " ولكن ماذا يكون موقف المؤمن إذا رأى من أخيه المؤمن عملا مؤذيا؟ ألا يحق له أن يتأثر ويأخذ من نفسه عليه؟ تجيب الأحاديث الشريفة بأن ذلك تأثرا وانفعالا طبيعيا لا إشكال في حصوله ولكن لا يصح أن يبقى ويستمر في نفس الإنسان المؤمن على أخيه المؤمن.. يقول الإمام جعفر الصادق (ع). "حقد المؤمن مقامه ثم يفارقه أخاه فلا يجد عليه شيئا" وفي حديث آخر: "المؤمن يحقد ما دام في مجلسه فإذا قام ذهب عنه الحقد" وعن رسول الله (ص) في صفة المؤمن: "قليلا حقد" مساكين هم أولئك الناس الذي يثقلون قلوبهم بالأحقاد على الآخرين لا لشيء إلا لأنهم يختلفون معهم في رأي أو موقف.. إن البعض من هؤلاء يبدو وكأنهم يتلذذون بالخصومة والنزاع مع الآخرين ويحملون في نفوسهم قوائم سوداء يصنفون الناس من خلالها فيعادون هذا الشخص ويحاربون تلك الجهة ويستشكلون على هذه الجماعة أو تلك بأسباب ومبررات، مهما كانت فإنها لا تجيز للمسلم أن يوقع نفسه في سلوكية الخصام والعداء لأبناء دينه ومجتمعه.. إن المؤمن ليدعو الله من أعماق قلبه أن يطهر نفسه من مرض الأحقاد والعداء للمؤمنين: (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم)116 أما كيف يبتلى الإنسان بمرض الخصومة مع الآخرين؟ يحدد الإمام الصادق (ع) سببين لهذا المرض السيئ فيقول: "لا يخاصم إلا رجل ليس له ورع أو رجل شاك " فحينما يفقد الإنسان (الورع) ويعيش حالة اللاإهتمام تجاه المعاصي والذنوب فإنه يتجزأ على مخاصمة الآخرين والنزاع معهم. وحينما يبتلى بسوء الظن والتشكيك في نوايا الآخرين وأعمالهم ومواقفهم فإنه يندفع للخصام والعداوة.. إن الخصومات تضعف دين الإنسان وتقلل إنتاجيته وفعاليته وتكرس في نفسه الشكوك واللاثقة بالآخرين.. يقول الإمام محمد الباقر(ع): "الخصومة تمحق الدين وتحبط العمل وتورث الشك" وإذا كانت المصالح الدنيوية الضيقة توقع الإنسان في الخصومات والأحقاد فإن رحابة الدين وسماحته لا تسمح للمتدينين بأن يخاصموا في دينهم.. وهؤلاء الذين يجعلون اعتقادهم بفكرة دينية أو اقتناعهم بعمل ديني سببا لمخاصمة الآخرين وعداوتهم بدلاً من السعي للحوار معهم ودعوتهم بالحكمة والموعظة الحسنة، هؤلاء بعيدون عن روح الدين ومخالفون لأخلاقه الكريمة.. عن علي بن يقطين قال: قال أبو الحسن (موسى الكاظم) (ع): "مر أصحابك أن يكفوا من ألسنتهم ويدعوا الخصومة في الدين ويجتهدوا في عبادة الله عز وجل " وعن الإمام جعفر الصادق (ع): "إياكم والخصومة في الدين فإنها تشغل القلب عن ذكر الله عر وجل، وتورث النفاق، وتكسب الضغائن، وتستجير الكذب " وإذا ما تورط الإنسان في الخصومة والنزاع مع الآخرين فيصبح بين خيارين: إما التنازل والقبول بالهزيمة أو إيقاع أكبر قدر من الخسائر بالطرف الآخر، وكلاهما مشكل لإنسان المؤمن، والأفضل هو اجتناب التورط والوقوع في هذا الفخ الشيطاني المهلك حيث يتعذر على المؤمن أن يراعي حرمات الله ويحافظ على تقواه في حالة الخصومة والصراع.. يقول أمير المؤمنين علي (ع) من بالغ في الخصومة أثم، ومن قصر فيها ظلم، ولا يستطيع أن يتقي الله من خاصم " وعن رسول الله محمد (ص): "ما عهد إلي جبرائيل (ع) في شيء ما عهد إلي في معاداة الرجال " وعن الإمام علي (ع): "معاداة الرجال من شيم الجهال " وقال أيضا: "رأس الجهل معاداة الناس" ثالثاً: تستهلك الخلافات والصراعات الداخلية قسطا لا بأس به من اهتمام وجهود العاملين في الوقت الذي تشتد فيه الحاجة إلى كل ذرة من الجهد والإهتمام لمواجهة الأخطار المحدقة بالأمة والأعداء الرئيسيين على ا لإسلام.. إن كل جهة تضطر إلى صرف شيء من الوقت والتفكر في مواجهة الجهات الأخرى.. كما تبذل الكثير من الجهد لتحصين أفرادها وأتباعها من تشكيك الآخرين وإثارتهم.. وقد تخصص نسبة من إعلامها للرد على الفئات المخالفة لها داخل الساحة الإسلامية.. ويلعب التخريب من كل جهة على أعمال ومشاريع الجهة الأخرى دورا بشعا في استنزاف الطاقات الإسلامية عند الخلافات والصراعات.. ف!ذا ما قامت جهة بمشروع اجتماعي فإن الجهات المناوئة لها ستسعى إلى إفشال ذلك المشروع وإضعافه.. وإذا ما أصدرت جهة مطبوعة إعلامية أو ثقافية فإن الجهات المعادية ستبث الدعايات والإشاعات التي تمنع الناس من التفاعل مع تلك المطبوعة.. وإذا ما عملت جهة على استقطاب أفراد أو جماعة إلى جانبها فإن الجهات الأخرى ستحاول تشكيكهم وإبعادهم عن تلك الجهة.. وحينما نسأل: على من تقع الخسارة في مثل هذه الحالات؟ فإن الجواب الذي لا شك فيه: إنها على حساب الإسلام والهدف المقدس الذي يسعى إليه الجميع.. أليس كذلك؟ رابعاً: وتؤثر الخلافات والصراعات بين العاملين في سبيل الله على مدى تفاعل الناس وتجاوبهم مع خط الجهاد والتحرك، حيث تضعف ثقة الناس بالمتنازعين ويشككون في سلامة نواياهم وصحة مسيراتهم حيث يتوقع الناس من المتصدين لقيادة الأمة والداعين إلى الإسلام أن يكونوا نموذجا رفيعا لأخلاق الإسلام وقيمه وتعاليمه، ف!ذا ما رأوهم يتنازعون ويتسابقون في إبداء عيوب بعضهم البعض وكشف نقاط ضعفهم فإن ذلك سيضعف احترامهم في أعين الناس ويقلل نسبة التجاوب مع أطروحاتهم ومشاريعهم.. كما سيكون ذلك فرصة مناسبة لدعايات العدو المشترك وإشاعته ضد الإسلام والعاملين من أجله.. لا للإرهاب الفكري كانت الشعوب الأوروبية تخضع لهيمنة الكنيسة المسيحية باعتبارها القيادة الدينية لتلك الشعوب، ولكن تحجر الكنيسة وممارستها للإرهاب الفكري في العصور الوسطى كان من أسباب ثورة الناس على الكنيسة وتمردهم على سلطانهم الروحي وانبثاق ما يسمى بعصر النهضة الأوروبية وفق المنهج المادي المناوئ للدين. فقد تجمدت عقلية المسيطرين على الكنيسة آنذاك على أفكار ونظريات اعتبروها دينا، وفرضوها على الناس بالقوة، وصادروا حرية التفكير والبحث العلمي حتى داخل أوساط رجال الكنيسة أنفسهم، فأي كاهن أو راهب يتجرأ على مناقشة المسلمات الفكرية للكنيسة، أو يدعو إلى تطويرها كان يحكم بكفره وزندقته أو يطرد من رحاب الكنيسة، لا بل يعاقب بالموت شنقا أو حرقا!! فالتسامح ممنوع في شؤون المعتقدات، ولغة التفكير و الإعدام هي لغة التعامل مع المخالفين وإن كانت مخالفاتهم مظنونة غير ثابتة وقد سن الملك الفرنسي (شارلمان) قانونا يقضي بإعدام كل من يرفض أن يتنصر. وأصبحت حرية الفكر جريمة يعاقب عليها بمنتهى القسوة، حتى تأسست محاكم التفتيش سنة 1183 م والتي تولى شؤونها رجال الدين للدفاع عن المعتقدات، وكانت التهمة أو الوشاية كافية لإحراق المتهم بعد التنكيل به. فقد ظهر في مقاطعة بريثانيا بفرنسا أواخر القرن الثاني عشر مفكران مصلحان أولهما يدعى (أموري البيناوي) وثانيهما (داوود الدينانتي) تلميذه ورفيقه وكانا يهاجمان جمود الكنيسة وتحجرها وديكتاتوريتها، فشكلت الكنيسة لهما ولاتباعهما محكمة عاجلة حكمت عليهما وعلى اتباعهما بالحرق بالنار، وأحرق بالفعل عدد من الاتباع أما المفكران فقد هربا حتى ماتا مختفيين فأمرت الكنيسة بنبش قبريهما وإحراق رفاتهما!! والراهب الفيلسوف الإيطالي (جورد انوبرونو) وهو من أبناء الكنيسة ورجالها، ولكنه كان ينادي بضرورة العلم وضرورة التجربة فيه وبحرية التفكير وإبداء الرأي، فاتهم بالمروق والهرطقة وأحرق في مدينة روما. كما حكموا بكفر الراهب البوهيمي الدكتور (جون هيس) واحرقوه بالنار لانه يخطب باللغة البوهيمية التي يفهمها الناس لا اللاتينية ويخالف تحجر الكيسة سنة 1415 م. والراهب الهولندي (هرمان فان ريزويك) احرق بتهمة المروق والهرطقة عام 1512 في مدينة لاهاي عاصمة هولندا لإعجابه وإتباعه لمذهب أرسطو وفلسفة الفيلسوف العربي ابن رشد. لقد حرف رجال الكنيسة الكتاب المقدس، وادخلوا في الدين المسيحي آراءهم البشرية، وبعض النظريات العلمية من جغرافية وتاريخية وطبيعية، التي كانت سائدة في وقت غابر، ثم فرضوا على عقول الناس أن تتوقف عند حدود هذه الآراء والنظريات، وعارضوا تجارب العلم، وتطوير الفكر، بل بالغوا في القسوة ضد المخالفين لهم "ويقدر أن من عاقبت محاكم التفتي!ش يبلغ عددهم ثلاثمائة ألف!! احرق منهم اثنان وثلاثون ألفا أحياء!! كان منهم العالم الطبيعي المعروف (برونو) نقمت منه الكنيسة آراء من أشدها قوله بتعدد العوالم، وحكمت عليه بالقتل، واقترحت بأن لا تراق قطرة من دمه، وكان ذلك يعني أن يحرق حياً، وكذلك كان. وهكذا عوقب العالم الطبيعي الشهير (غاليلو) بالقتل لأف كان يعتقد بدوران الأرض حول الشمس ". وبينما كانت الشعوب الأوروبية تعيش هذا الوضع المأساوي في ظل القمع والإرهاب كان الإسلام يبني حضارته المجيدة على أساس الحرية والتسامح والعلم، فالإسلام لا يلغي دور العقل بل يجعله المصدر والمرجع في الحياة ف "العقل رسول الحق " و"العقل أفضل موجود" على حد تعبير الإمام علي (ع) وعن رسول الله (ص) "قوام المرء عقله، ولا دين لمن لا عقل له " وما دام الإسلام يشجع العقل على ممارسة دوره القيادي في حياة الإنسان فلا بد وان يزيل العقبات والحواجز من طريقه. وأكبر حاجز وعقبة تشل فاعلية عقل الإنسان، وتعطل قدراته الذهنية، هو الإرهاب الفكري ومصادرة حرية الرأي، وحينئذ تتضاءل إنسانية الإنسان، وتتلاشى كفاءاته. وخلافا لما كانت تفرضه الكنيسة الأوروبية من قمع فكري وإرهاب سياسي جاء الإسلام مبشرا بالحرية، داعيا إلى التسامح، مؤكدا على كرامة الإنسان وقيادية العقل.. يقول تعالى مبينا دور النبي محمد(ص): (ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كـــــانت عليهم).117 حرية العقيدة: فالإسلام هو الدين الحق وهو العقيدة الصائبة التي ينبغي أن يؤمن بها الإنسان ليرضي خالقه ويسعد حياته في الدارين، ولكن الله تعالى يريد للإنسان أن يعتنق الحق ويلتزم الصواب بمليء حريته واختياره، عن طريق استخدام عقله، والتأمل فيما حوله، لا أن بقسر على الإيمان، أو يفرض عليه الدين قهرا، فذلك يتنافى مع إنسانية الإنسان، وصفاته التي ميزه الله بها. ولو أراد الله تعالى قسر الإنسان على الإيمان في هذه الحياة لخلقه على هيئة الملائكة ولسلب منه حرية الإرادة والاختيار، ولكنه شاءت حكمته أن يكون الإنسان حرا مختارا، يستخدم عقله، ويمارس ارادته، وينتخب طريقه.. والأنبياء يقتصر دورهم على التذكير والتوجيه، وليست لهم صلاحية الإكراه والجبر وهذا ما تؤكد عليه آيات عديدة في القران الحكيم يقول تعالى: (فذكر إنما أنت مذكر* لست عليهم بمصيطر).118 (وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد). 119 (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين).120 (ألا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي).121 وقد روي أن سبب نزول هذه الآية (لا إكراه في الدين) هو النهي والتحذير لأحد أصحاب رسول الله (ص) وهو رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له الحصين والذي كان له ابنان نصرانيان فاراد أن يجبرهما على اعتناق الإسلام، فانزل الله تعالى هذه الآية دفاعا عن حرية العقيدة، ومنعا للإرهاب والقمع الفكري. حرية الفكر: والعقيدة الإسلامية إطار واسع يمنح الإنسان حرية الفكر والتأمل والاستنباط، ف!ذا آمن الإنسان بأصول العقيدة فهو مسلم له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، أما التفاصيل وقضايا العلم وشؤون الحياة، فللإنسان أن يعتمد على فكره وعقله على هدى تلك الأصول العقيدية وبشكل لا يتناقض معها. فالقرآن الحكيم لا يفرض على الإنسان حتميات ومسلمات علمية في شؤون الحياة بل يوجه الإنسان للتأمل والتفكير والنظر راسما له منهجية التفكير السليم، والنظرة العلمية الموضوعية حتى لا يقع فكر الإنسان تحت تأثير الضغوط والشهوات. وقد كان بعض المعاصرين لنزول القران الحكيم يتوقعون منه الإجابة على تساؤلاتهم العلمية والحياتية لكن الخالق سبحانه كان يريد منهم أعمال عقولهم واستخدام أفكارهم دون الاعتماد على إجابات جاهزة تأتيهم من السماء لذلك نلاحظ إعراض الوحي عن الإجابة على العديد من التساؤلات، كسؤالهم عن الروح، يقول تعالى: (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا)122 وكامتناع الوحي عن البت في مسألة عدد أهل الكهف وهي مسألة ترتبط بالتاريخ وعلم الآثار يقول تعالى: (سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي اعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا)123 والملفت للنظر أن فهم آيات القرآن وتفسيرها هي وظيفة عقل الإنسان وفكره، حيث لم يفرض الإسلام إلى جانب القرآن فسيرا منصوصاً محددا يلزم به كل مسلم، بل دعا الناس إلى استخدام عقولهم في تفهم القران وتدبر آياته: يقول تعالى: (أفلا يتدبرون القران أم على قلوب أقفالها)124 (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب)125 (أفلا يتدبرون القران ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيراً)126 ويشير الإمام علي بن موسى الرضا(ع) إلى أن كل جيل ومجتمع يمكنه أن يستفيد فهما جديدا من القران الكريم فيقول حينما سأله رجل: ما بال القران لا يزداد على النشر والدرس إلا غضاضة؟ أجاب (ع): "لأن الله تبارك وتعالى لم يجعله لزمان دون زمان، ولا لناس دون ناس فهو في كل زمان جديد، وعند كل قوم غض إلى يوم القيامة" أما إذا أشكل على الإنسان شيء في فهمه لآية من القران الحكيم أو تشابهت عليه معاني الآيات، فعليه أن يرجع إلى الراسخين في ا. لعلم ويسأل أهل الذكر(فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)127 ونتيجة لفذه الحرية الفكرية التي أرساها الإسلام في مجتمعه تعددت المدارس العقائدية والمذاهب الفقهية ونبغ علماء الطبيعة والمخترعون والمكتشفون فإعمال الفكر مطلوب في الإسلام ينال صاحبه عليه الثواب حتى وإن لم يوفق للصواب شرط صحة المنهج فالمجتهد إذا أصاب له أجران وإذا أخطأ له أجر واحد كما هو مفاد حديث شريف. التسامح واحترام الرأي: لكي تعطي حرية الفكر نتائجها الإيجابية في تقدم مسيرة المجتمع لابد من معالجة بعض السلبيات والأمراض التي قد ترافقها، ومن أبرزها ما قد تجر إليه هذه الحرية من تفرق وصراع. وهنا لا بد من مبادئ أخلاقية وتعاليم تربوية تجعل الحقول منفتحة والصدور متسعة لاختلاف الرأي وتعدد وجهات النظر، وهذا ما صنعه الإسلام بالتأكيد على مبدأ التسامح واحترام الرأي فليسر في الإسلام محاكم للتفتيش، ولا يحق لأحد أن يمارس دور الوصاية والرقابة على أفكار الناس ونواياهم ومشاعرهم، والانتماء إلى الإسلام والعضوية في مجتمعه لا تحتاج إلى شهادة أو قبول من أحد، وبذلك لا يمتلك أحد حق الحكم بطرد أحد من إطار الإسلام ما دام يعلن قبوله بالإسلام حتى لا تتكرر ماسي التكفير والاتهام بالزندقة والمروق الذي كانت تفعله الكنيسة كما سبق. إن التكفير والاتهام بالزندقة والمروى هو مظهر للإرهاب الفكري حيث يدعي البعض لنفسه أن الإسلام ينحصر فيما يراه ويفهمه هو: وان من يخالفه في ذلك الفهم أو الرأي والمذهب فهو كافر لا مكان له في أجواء الإسلام ومجتمعه! ولقد حذر رسول الله (ص) من أن يشهر مسلم على أخيه المسلم سلاح التكفير ففي الحديث الصحيح: "من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما" وعن الإمام علي (ع): "إذا قال المؤمن لأخيه: أف انقطع ما بينهما فإذا قال له: أنت كافر كفر أحدهما، وإذا اتهمه إنماث الإسلام في قلبه كما يماث الملح في الماء" وعن أبي جعفر الإمام الباقر(ع): "ما شهد رجل على رجل بكفر قط إلا باء به أحدهما، إن كان شهد على كافر صدق، وإن كان مؤمنا رجح الكفر عليه فإياكم والطعن على المؤمنين " وعن الإمام الصادق (ع): "ملعون ملعون من رمى مؤمنا بكفر ومن رمى مؤمنا بكفر فهو كقتله" وعنه أيضاً (ع): "من اتهم أخاه في دينه فلا حرمة بينهما" ولم يك مبدأ التسامح مجرد فكرة نظرية أو خلق مثالي بل كان سياسة ونظاما اجتماعياً طبقه رسول الله (ص) عنه في حياته وذلك ملحوظ في تعامله مع المنافقين حيث لم يكفرهم ولم يطردهم من مجتمع المسلمين ولم يقاتلهم، وبعد رسول الله (ص) ينقل لنا التاريخ صفحات رائعة من حالة التسامح التي كانت سائدة في حياة المسلمين، ومن أروع الصفحات موقف الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) من مخالفيه ومناوئيه فعلي (ع) لا ينكر علمه وفضله، وإذا كان هناك من يتهم فهم علي للإسلام فهو- الإمام علي- بلا شك واثق من نفسه متأكد من فهمه، وهو أقرب الناس لرسول الله (ص) وألصقهم به ومع ذلك فإنه لم يحكم على من اختلف معه في الفهم أو الموقف بالخروج عن حظيرة الإسلام، ولم يحرمهم من حقوقهم كأعضاء في المجتمع الإسلامي. ورغم أن المتمردين على الإمام علي من الخوارج تجرءوا?حتى على تكفيره واتهموه بالشرك، ولكنه (ع) رفض أن يبادلهم التهمة بل اعترف لهم بالإسلام وعاملهم معاملة سائر المسلمين. ففي مصنف ابن أبي شيبة بسنده عن كثير بن نمر قال: "بينا أنا في الجمعة وعلي بن أبي طالب على المنبر إذ جاء رجل فقال: لا حكم إلا لله، ثم قام آخر فقال: لا حكم إلا لله ثم قاموا من نواحي المسجد يحكمون الله، فأشار عليهم بيده: اجلسوا: نعم، لا حكم إلا لله: كلمة حق يبتغى بها باطل، حكم الله ينتظر فيكم، ألا إن لكم عندي ثلاث خلال ما كنتم معنا: لن نمنعكم مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ولا نمنعكم فيئا ما كانت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تقاتلوا، ثم أخذ في خطبته " وفي الوسائل عن قرب الإسناد بسنده عن مسعدة بن زياد، عن جعفر عن أبيه (ع) أن عليا (ع) لم يكن ينسب أحداً من أهل حربه إلى الشرك ولا إلى النفاق ولكنه كان يقول: "هم إخواننا بغوا علينا". وروى قريبا من هذه الرواية ابن أبي شيبة في مصنفه، فروى بسنده عن أبي البحتري قال: سئل علي عن أهل الجمل، قال: قيل: أمشركون هم؟ قال: من الشرك فروا، قيل: أمنافقون هم؟ محال إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا، قيل: فما هم؟ قال: إخواننا بغوا علينا. وينقل عن إمام المذهب الحنفي أبو حنيفة انه قد جلس بالمسجد يوما فدخل عليه بعض الخوارج شاهري سيوفهم، فقالوا. يا أبا حنيفة، نسألك عن مسألتين، فإن أجبت نجوت وإلا قتلناك، قال: اغمدوا سيوفكم فإن برؤيتها ينشغل قلبي. قالوا: وكيف نغمدها ونحن نحتسب الأجر الجزيل بأغمادها في رقبتك؟ قال: سلوا إذن. قالوا: جنازتان بالباب، إحداهما رجل شرب الخمر فمات سكران. والأخرى امرأة حملت من الزنى فماتت في ولادتها قبل التوبة أهما مؤمنان أم كافران؟ فسألهم: من أي فرقة كانا؟ من اليهود؟ قالوا: لا، قال. من النصارى؟ قالوا: لا، قال: ممن كانا؟ قالوا: من المسلمين. قال: قد أجبتم! قالوا: هما في الجنة أم في النار؟ قال: أقول فيهما ما قال الخليل (ع) فيمن هو شر منهما (فمن تبعني فانه مني ومن عصاني فانك غفور رحيم)128 وأقول كما قال عيسى(ع): (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم)129 فنكسوا رؤوسهم وانصرفوا " التعصب واحتكار الحق: أن يكون لك رأي فذلك حق طبيعي، لكن الإسلام ينصحك أن تتوخى في آرائك الصواب وتبحث عن الحق، وان لا تصم أذنك وتحجب عقلك عن الآراء الأخرى، فلعلها أصوب من رأيك وأقرب إلى الحق، وإذا ما تبين لك الخطأ فلا يصح لك الإصرار على الرأي الخاطئ يقول تعال: (فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب)130 ففي مقابل خلق التسامح واحترام الرأي هناك مرض التعصب واحتكار الحق بان يتشبث الإنسان برأيه، ويرفض مجرد النقاش والبحث في الرأي الاخر، ويعتقد بأن رأيه الحق المطلق، ليس بعده إلا الكفر والضلال. إن هذا المرض المقيت يسبب تحجر الفكر، ويؤدي إلى الإرهاب الفكري، وينتج الصراع والنزاع في المجتمع. فالحق والصواب في أي أمر علمه الواقعي عند الله سبحانه، وأي رأي بشري يحتمل الصواب كما يحتمل الخطأ، وقد لا يكون الصواب والخطأ في أي رأي مطلقا وتاما بل قد تختلف نسبته المئوية فهو صحيح أو خطأ بنسبة 1% أو 10% أو 50% أو 90% وهكذا. من هنا يربي الإسلام أبناءه على خلق التسامح واحترام الرأي والبحث عن الحق واستماع القول! لاتباع أحسنه، ويحذرهم من التعصب المقيت وادعاء الحق المطلق. سئل الإمام جعفر الصادق (ع): ما أدنى ما يكون به العبد كافرا؟ قال: فاخذ حصاة من الأرض فقال: إن يبتدع شيئا فيتولى عليه ويبرأ ممن خالفه. وفي نص آخر قال (ع): "إن يقول لهذه الحصاة أنها نواة ويبرأ ممن خالفه على ذلك" وعن الإمام علي(ع): "أدنى ما يكودن به الرجل كافرا أن يتدين بشيء فيزعم إن الله أمره به عما نهى الله عنه ثم ينصبه فيتبرأ ويتولى ويزعم أنه يعبد الله الذي أمره به" وعن أبي العباس قال: "سألت أبا عبد الله (ع) عن أدني ما يكون به الإنسان مشركاً قال: فقال: من ابتدع رأياً فاحب عليه أو أبغض عليه" وعنه في نص آخر: أن يبتدع شيئاً فيتولى عليه ويبرأ ممن خالفه. مآسي الإرهاب الفكري: في عصور الإسلام الأولى كان التسامح واحترام الرأي هو الخلق الاجتماعي السائد الذي ينظم حرية الفكر، ولكن بعد بروز الانحراف السياسي في حياة المسلمين، وضعف الالتزام بمبادئ الإسلام وأخلاقه وتعاليمه وخاصة لدى بعض الفئات والجهات المؤثرة، بدأ الفكر يعيش حالة المعاناة، وابتلي المسلمون بمآسي الإرهاب الفكري في العديد من الفترات والعهود، فالسلطات الحاكمة كانت تتدخل بقوتها لفرض رأي أو لمحاربة آخر، وبعض رجال الدين المرتبطين بالسلطات كانوا يشجعونها بهذا الاتجاه ولعل الخوارج هم أول من مارس هذا النوع من الإرهاب الفكري في تاريخ المسلمين حيث كفروا!ن يخالفهم في الرأي أو الموقف السياسي حتى وان كان علي بن أبي طالب أول! ا!ناس إسلاما وأسبقهم إيمانا وأقربهم من رسول الله. وحدثت من جراء ذلك آلام ومآسي بتبادل اتهامات التكفير والمروق من الدين، وباستباحة الدماء وهتك الحرمات لخلاف على فكرة أو حكم فقهي !! الوحدة والإرهاب الفكري: والآن ونحن نعيش القرن الخامس عشر للهجرة، ونلاحظ تطور العلم والتكنولوجيا، والمدى الذي وصلت إليه المجتمعات الصناعية المتقدمة، الآن وقد تنامى مستوى الوعي والإدراك في أوساط أمتنا الإسلامية الناهضة، هل يمكن القبول بتكرار مآسي الماضي، وعودة أجواء التحجر والتزمت والإرهاب الفكري؟ مؤسف جدا أن هناك من لا يزال يعيش بتلك العقلية الضيقة ويريد فرض وصايته وآرائه على الآخرين، وإذا ما خالفه أحد أو ناقشه بادر إلى إصدار فتوى التكفير والمروق عن الدين بحقه أو اتهمه بالابتداع والضلال. يقول الدكتور الشيخ يوسف القرضاوي. وقد عرفنا في عصرنا أناسا يجهدون أنفسهم، ويجهدون الناس معهم، ظانين أنهم قادرون على أن يصبوا الناس في قالب واحد يصنعونه هم لهم، وان يجتمع الناس على رأي واحد، يمشون فيه وراءهم، وفق ما فهموه من النصوص الشرعية، وبذلك تنقرض المذاهب، ويرتفع الخلاف، ويلتقي الجميع على كلمة سواء. ونسي هؤلاء أن فهمهم للنصوص ليس أكثر من رأي يحتمل الخطأ، كما يحتمل الصواب، إذ لم تضمن العصمة لعالم فيما ذهب إليه، وان جمع شروط الاجتهاد كلها. كل ما ضمن له هو الأجر على اجتهاده أصاب أم أخطأ... ولا تحسبن أني أنكر عليهم دعوتهم إلى اتباع النصوص، أو اجتهادهم في فهمها فهذا من حق كل مسلم استوفى شرائط الاجتهاد وأدواته، ولا يملك أحد أن يغلق بابا فتحه رسول الله (ص) للأمة، إنما أنكر عليهم تطاولهم على مناهج علماء الأمة، واحتقارهم للفقه الموروث، ودعاواهم العريضة في انهم وحدهم على الحق، وما عداهم على خطأ أو ضلال، وتوهمهم أن باستطاعتهم إزالة الخلاف، وجمع الناس قاطبة على قول واحد هو قولهم. قال لي واحد من طلبة العلم المخلصين من تلاميذ هذه المدرسة مدرسة "الرأي الواحد": ولم لا يلتقي الجميع على الرأي الذي معه النص؟ قلت: لا بد أن يكون النص صحيحا مسلماً به عند الجميع، ولا بد أن يكون صريح الدلالة على المعنى المراد، ولا بد أن يسلم من معارض مثله أو أقوى منه من نصوص الشريعة الجزئية أو قواعدها الكلية، فقد يكون النص صحيحا عند إمام، ضعيفا عند غيره، وقد يصح عنده ولكن لا يسلم بدلالته على المراد، فقد يكون عند هذا عاما وعند غيره خاصا، وقد يكون عند إمام مطلقا، وعند آخر مقيدا، وقد يراه هذا دليلا على الوجوب أو الحرمة، ويراه ذلك على الاستحباب أو الكراهية وقد يعتبره بعضهم محكما، ويراه غيره منسوخا إلى غير ذلك من الاعتبارات. إن وجود فئات تحمل هذا التوجه المتشدد، ترفض حرية الفكر وخلق التسامح، ليهدد الحركة العلمية والفكرية بالشلل والتحجر، كما يخلق حالة النزاع والعداوة ويمنع من الوحدة والتعاون. وخاصة إذا ما كانت هناك مصالح سياسية تدفع بعض الحكومات ذات النفوذ والثروة لتبني مثل هذه التوجهات، وهذا هو ما تعاني منه الأمة الإسلامية في هذا العصر. فحينما تأسست في القاهرة دار التقريب بين المذاهب الإسلامية في الستينات وهي مشروع وحدوي حضاري قام به نخبة من علماء المسلمين السنة والشيعة، ثارت ثائرة أولئك المتشددين وبدءوا يصدرون الكتب والمجلات، التي توزع أحكام التكفير والمروق من الدين على هذا المذهب وتلك الطائفة، حتى كتب أحدهم كتابا قال في مقدمته مهاجما فكرة التقارب بين المذاهب الإسلامية: انه لا يمكن المجمع بين النور والظلام والتقريب بين الحق والباطل!! وبعد انتشار الصحوة الإسلامية وانبثاق الحركات والانتفاضات الجماهيرية في الأمة جدد هؤلاء المتزمتون نشاطهم وضمن مخطط سياسي لمواجهة الصحوة المباركة، فصاروا يصدرون ألوان الكتب والمجلات، ويمارسون نشاطاً مكثفا ضد المذاهب والمدارس الفكرية المخالفة لهم، بهدف إيجاد البلبلة وتعميق الفرقة، ولإضعاف الجهود الوحدوية الصادقة. إن محاربة أي مذهب أو فكرة بالقمع والإرهاب غالبا ما لا يقضي على ذلك المذهب أو تلك الفكرة بل يفجر إرادة التحدي عند الاتباع، ويجعلهم أكثر إصرارا وتمسكا برأيهم، بل قد يدفعهم إلى الهجوم المضاد، والرد الانتقامي وبذلك تتمزق وحدة الأمة، وتتمدد طاقاتها على حساب معركتها المصيرية وقضاياها الأساسية.والواعون من الأمة مطالبون بمقاومة الإرهاب الفكري، وتشجيع حرية الفكر، وبث أخلاق الإسلام الداعية إلى التسامح واحترام الرأي. ومن المبادرات الإيجابية!ي هذا المجال الكتاب الذي أصدره الدكتور الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي من أبرز علماء المسلمين في سوريا تحت عنوان (السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي) فالكتاب دهان كانت بعض نقاطه مورد نقاش واختلاف نظر، لكن الموضوع الأساسي للكتاب دفاع عن حرية الرأي والفكر وإدانة للإرهاب الفكري، ويشير المؤلف إلى أخطار التحجر الفكري ومصادرة حق الآخرين في إبداء آرائهم وما ينتجه هذا التوجه الذي تتخذه السلفية شعارا ولواء من تكريس للخلافات وتمزيق للصف الإسلامي الواحد.يقول في ص 244:"الأذى المتنوع البليغ الذي انحط في كيان المسلمين من جراء ظهور هذه الفتنة المبتدعة فلقد أخذت تقارع وحدة المسلمين، وتسعى جاهدة إلى تبديد تآلفهم وتحويل تعاونهم إلى تناحر وتناكر. وقد عرف الناس جميعا أنه ما من بلدة أو قرية في أي من أطراف العالم الإسلامي، إلا وقد وصل إليها من هذا البلاء شظايا، وأصابها من جرائه ما أصابها من خصام وفرقة وشتات، بل ما رأيت أو سمعت شيئا من أنباء هذه الصحوة الإسلامية التي تجتاح اليوم كثيرا من أنحاء أوروبا وأمريكا واسيا، مما يثلج الصدر، ويبعث على البشر والتفاؤل إلا ورأيت بالمقابل من أخبار هذه الفتنة الشنعاء التي سيقت إلى تلك الأوساط سوقا، ما يملأ الصدر كربا ويزج المسلم في ظلام من الخيبة الخانقة والتشاؤم الأليم.كنت في هذا العام المنصرم 406 ا هـ واحد ممن استضافتهم رابطة العالم الإسلامي للاشتراك في الموسم الثقافي، وأتيح لي بهذه المناسبة أن أتعرف على كثير من ضيوف الرابطة الذين جاءوا من أوروبا وأمريكا وآسيا وأفريقيا، وأكثرهم يشرفون في الأصقاع التي آتوا منها على مراكز الدعوة الإسلامية أو يعملون فيها، والعجيب الذي لا بد أن يهيج آلاما ممزقة في نفس كل مسلم أخلص لته في إسلامه، إنني عندما كنت أسأل كلا منهم عن سير الدعوة الإسلامية في تلك الجهات، أسمع جواباً واحدا لطلقه كل من هؤلاء الأخوة على انفراد، بمرارة وأسى خلاصته: المشكلة الوحيدة عندنا هي الخلافات والخصومات الطاحنة التي تثيرها بيننا جماعة السلفية.. ولقد اشتدت هذه الخصومات منذ بضع سنوات، في مسج واشنطن إلى درجة ألجأت السلطات الأمريكية إلى التدخل، ثم إلى إغلاق المسجد لبضعة شهور.ولقد اشتدت هذه الخصومات ذاتها واهتاجت، في أحد مساجد باريس منذ ثلاثة أعوام، حتى اضطرت الشرطة الفرنسية إلى اقتحام المسجد، والمضحك المبكي بان واحد، من أن أحد أطراف تلك الخصومة أخذته الغيرة الحمقاء لدين الله ولحرمة المساجد، لما رأى أحد الشرطة داخلا المسجد بحذائه فصاح فيه أن يخلع حذاءه ولكن الشرطي صفعه قائلا: وهل ألجأنا إلى اقتحام المسجد على هذه الحال غيركم أيها السخفاء؟!وفي أحد الأصقاع النائية، حيث تدافع أمة من المسلمين الصادقين في إسلامهم عن وجودها الإسلامي، وعن أوطانها وأراضيها المغتصبة، تصوب إليهم من الجماعات السلفية سهام الاتهام بالشرك والابتداع، لأنهم قبوريون توسليون، ثم تتبعها الفتاوى المؤكدة بحرمة إغاثتهم بأي دعم معنوي أو عون مادي ويقف أحد علماء تلك الأمة المنكوبة المجاهدة، ينادي في أصحاب تلك الفتاوى والاتهامات: يا عجبا لاخوة يرموننا بالشرك، مع أننا نقف بين يدي الله كل يوم خمس مرات نقول: (إياك نعبد وإياك نستعين)131 ولكن النداء يضيع ويتبدد في الجهات دون أي متدبر أو مجيب " وأخيرا فإن حالات الإرهاب الفكري بالإضافة إلى أضرارها الداخلية وعونها للعدو الخارجي علينا فإنها تشكل إساءة وتشويها لسمعة الإسلام أمام سائر الشعوب، التي تمارس الحرية الفكرية والعلمية في أجوائها على أوسع نطاق، فماذا سيكون انطباعهم عن دين يتبادل اتباعه التكفير والتفسيق، وتسود بينهم لغة القمع والبطش بغطاء ديني؟!! الفصل الثالثالديانات وتعدد المذاهب. العوامل والأسباب. المذاهب الإسلامية: أصول مشتركة. لا للتكفير. التعصب والإرهاب الطائفي. الانفتاح الفكري بين المذاهب الإسلامية. الديانات وتعدد المذاهببنظرة عابرة يلقيها الباحث في تاريخ الأديان والمبادئ يجد أن ظاهرة تعدد المذاهب والفرق تشكل سمة وحالة لازمة ثابتة في جميع ا لأديان.ففي بداية كل دين وأثناء حياة مؤسسه يكون مدرسة واحدة وتيارا واحدا، أما بعد فترة من الزمان وبعد ارتحال المؤسس من الدنيا فعادة ما يحصل الاختلاف والانشقاق بين اتباع ذلك الدين وتتعدد المذاهب والفرق ضمن الدين الواحد، وفي مرحلة لاحقة يحدث الانشقاق والتعدد داخل كل مذهب من المذاهب المتفرعة عن الدين الرئيسي.فرق اليهودية:ففي اليهودية مثلا هناك فرق عديدة تختلف فيما بينها على فهم الديانة وطقوسها وتعاليمها منها فرقة "الفريسيين " أي المنعزلون والمنشقون كما يطلق عليهم بينما هم يسمون أنفسهم "الأحبار" أو "الاخوة في الله " أو " الربانيون ".ويرى هؤلاء "الفريسيون " أن التوراة بأسفارها الخمسة خلقت منذ الأزل، وكانت مدونة على ألواح مقدسة ثم أوحي بها إلى نبي الله موسى.. ويرون أن التوراة ليست هي كل الكتب المقدسة التي يعتمد عليها وإنما هناك بجانبها روايات شفوية ومجموعة من القواعد والوصايا والشروح والتفاسير تعتبر توراة شفوية يتناقلها الحاخامات جيلا بعد جيل وهي التي يطلق عليها "التلمود".وهناك فرقة " الصدوقيون " المنتسبون إلى "صادوق " الكاهن الأعظم في عهد سليمان، أو إلى كاهن آخر بهذا الاسم وجد في القرن الثالث قبل الميلاد.. وينقل عن هؤلاء إنكارهم للبعث والحياة الأخرى والجنة والنار والتعاليم الشفوية " التلمود".ومن فرق اليهودية فرقة "القراؤون " وهم لا يعترفون إلا بالعهد القديم كتابا مقدسا وينكرون "التلمود" ويقولون بالاجتهاد الذي يسمح لهم برفض أو تغيير بعض تعاليم وآراء السلف الماضي.وأيضا هناك فرقة "الكتبة" و"المتعصبون " وغيرها من الفرق العديدة في الديانة اليهودية.طوائف المسيحية:والديانة المسيحية هي الأخرى تعددت فيها المذاهب والطوائف قديما وحديثا. وكان منشأ الخلاف والتعدد هو تحديد طبيعة السيد المسيح (ع) حيث يرى مذهب "النسطوريين " المنسوب إلى " نسطور " بطريرك القسطنطينية سنة 431: أن مريم لم تلد إلها بل ولدت عيسى إنسانا غمره اللاهوت فيما بعد فاتحدت فيه طبيعتان الإنسانية واللاهوتية بينما يعتقد المذهب اليعقوبي نسبة إلى داعيته يعقوب البرادعي والذي أخذت به الكنائس الشرقية أن طبيعة المسيح واحدة منذ ولادته فللسيد المسيح- في نظرهم اقنوماً إلهياً واحدا اتحد بالطبيعة الإنسانية اتحادا تاما بلا اختلاط ولا امتزاج ولا استحالة.وعلى أساس هذين القولين وبالتطوير والتغيير فيهما نشأت طوائف أخرى كالملكانية والمارونية.ولم يقتصر الخلاف بين الطوائف المسيحية على تحديد طبيعة المسيح بل تطور وتبلور في مختلف المجالات العقيدية والعبادية والسلوكية وأبرز الطوائف المسيحية حاليا هي:- الكاثوليك: وكنيستهم تسمى الكنيسة الكاثوليكية أو الغربية أو اللاتينية أو البطرسية أو الرسولية نسبة لمؤسسها الأول "بطرس " كبحر الحواريين ورئيسهم والبابوات في رومـا خلفاؤه.- الأرثوذكس: وتسمى كنيستهم كنيسة الروم الأرثوذكسية أو الشرقية أو اليونانية فأكثر أتباعها من الروم الشرقيين وروسيا والبلقان واليونان وكان مقرها الأصلي القسطنطينية وقد انفصلت عن الكنيسة الكاثوليكية أيام "ميخائيل كارو لاريوس " بطريرك القسطنطينية سنة 1054م وهي الآن مؤلفة من عدة كنائس مستقلة.- البروتستانت: وتسمى كنيستهم الكنيسة الإنجيلية، ويرون انهم يتبعون الإنجيل دون غيره ويعطون الحق لكل أحد في فهم الإنجيل فليس ذلك وقفا على رجال الكنيسة فقط. وتنتشر البروتستانية في ألمانيا وإنجلترا والدانمرك وهولندا وسويسرا والنرويج وأمريكا الشمالية.ولإقرار مذهب البروتستانت حرية الفكر والاجتهاد فقد تعددت شعبه وفرقه ويختلف بعض هذه الطوائف عن البعض الآخر إلى حد انهم لا يكادون يبدون فرعا لمذهب واحد واستمر انقسام الطوائف البروتستانية حتى اليوم إذ أصبح هناك 200 طائفة مختلفة ولا تزال طوائف جديدة في سبيل الظهور.وفي أوائل عام 1960 م بلغ عدد الكاثوليك في العالم 353 مليونا والأرثوذكس 137 مليونا والبروتستانت 170 مليونا.اتجاهات البوذية:رغم أن البوذية المنسوبة إلى " بوذا " الذي نشأ في الهند خلال القرن الخاص قبل الميل?د أقرب إلى الحالة الفلسفية الأخلاقية منها إلى الدين العقائدي المتكامل، إلا أنها أيضا تعددت فيها الاتجاهات والفرق.وقد قسمها العلماء حسب الطابع العام إلى البوذية القديمة والبوذية الجديدة. فالبوذية القديمة صبغتها أخلاقية، وميزتها سذاجة المنطق وإثارة العاطفة، وطابعها الحض على الخضوع لقوانين النظام. أما البوذية الجديدة فهي عبارة عن تعاليم بوذا مختلطة بآراء دقيقة في الكون وأفكار مجردة عن الحياة والنجاة، مؤسسة على نظريات فلسفية، وقياسات عقلية، قد سمحت بها قرائح المتأخرين..ومن أبرز الفرق الفلسفية البوذية:- فرقة تقول بوحدانية الله، وانه أوجد أولا عددا محدودا من الأرواح، ثم ترك الإنشاء والتعمير مكتفيا بما وضعه في العالم من قوانين وقوى كالبذور تسير سيرها الطبيعي وهذه الأرواح هي التي تخلق الخير والشر.- وفرقة ترى أنه أودع هذه الأرواح التي أرسلها للعالم قوى تستطيع منها أن تعرف الخير من الشر، ومن أجل ذلك لا يرسل الله رسلاً اكتفاء بذلك.- وفرقة ترى أن الله يفرغ الكمالات الإنسانية في كل زمن على إنسان يتجرد لعبادته، ويبتعد عن إرضاء الشهوات الحيوانية، وهذا الإنسان المختار يحل محل الإله في إظهار الرضا عن بعض الناس أو الغضب عليهم، تبعا لما يأتونه من الأعمال.- وتبالغ فرقة أخرى في تصوير المعنى السابق فتقول أن الله يحل في أية صورة يختارها من صور أفراد الإنسان حلول تطهير وتكميل لا حلول استقرار (كاللاما في بلاد التبت).- وتتكلم كل الفرق عن التناسخ وارتباطه بالكارما، ولكن بعض الفرق ترى تناسخ النوع الإنساني مقصورا عليه، وتناسخ الحيوان مقصورا عليه، فلا تنتقل روح من إنسان إلى حيوان ولا العكس، وتزيد فرقة أخرى أن روح العالم لا تنتقل إلى صانع وهكذا...سائر الديانات والاتجاهات:ولو تتبعنا و استقرأنا سائر الديانات والاتجاهات لوجدناها تشترك جميعا في ظاهرة تعدد المذاهب والطوائف فالديانة السيخية وهي واحدة من أحدث الديانات في العالم حيث ظهرت إلى الوجود في القرن الخامس عشر الميلادي في الهند، على يد " ناناك " الذي سعى إلى استحداث ديانة جديدة زعم أنها تصل بين الإسلام والهنديوسية ويصل عدد اتباع هذه الديانة إلى حوالي 13 مليون يتركز حوالي 9 ملايين منهم في (البنجاب) ويتوزع الباقون في سائر أنحاء الهند.هذه الديانة على محدوديتها وحداثتها تنقسم الآن إلى خمس طوائف رئيسية.والاشتراكية الشيوعية هي الأخرى لم تعد مدرسة واحدة بل تعددت فيها الاتجاهات ففي حياة "كارل ماركس" (1818- 1883 م) انشقت الاشتراكية على نفسها سنة 1873 م إلى فريق " باكونين " وفريق "كارل ماركس " ثم وقع انقسام آخر في الحركة الاشتراكية في فرنسا وفي مؤتمر رانس سنة 1881 م وبعد ذلك بعام في مؤتمر سانت ايتين بين " الامكاينين " والماركسيين فالأولون كانوا يقولون بإجراء إصلاحيات تدريجية في سبيل تحقيق الاشتراكية في النهاية وهاجموا برنامج الحد الأدنى الذي وضعه ماركس.وقسم ريمون آرون R. ARON) (الماركسية إلى أسر مقدسة متباينة: فهناك ماركسية كنتية (نسبة إلى فلسفة كانت الأخلاقية) حين تضع الاشتراكية هدفا لها إيجاد ضمير أخلاقي تجاه الواقع الرأسمالي وهناك ماركسية هيجلية تستند خصوصا إلى " ظاهريات العقل " لهيجل. وهناك ماركسية ذات نزعة علمية مستمدة من كتاب "ضد دورنح ".ومعروف افتراق الشيوعية في الصين على يد ماوتسي تونغ عن سياسة شيوعية الاتحاد السوفيتي كما أن الأحزاب الاشتراكية في أوروبا الغربية تأخذ إلى حد ما منحى. مستقلا فكريا وسياسيا.المذاهب الإسلامية:ولم يكن الإسلام مبادئ عن هذه الظاهرة، بل حدث له ما يحدث لكل الأديان والمبادئ من انقسام أتباعه إلى عدة مذاهب ومدارس وفرق. ويروي بعض أصحاب الحديث عن رسول الإسلام محمد (ص) أنه كان يتوقع حصول هذه الفرق والانقسامات في أمته وفقا لما حصل للأديان السماوية السابقة كاليهودية والمسيحية والمجوسية.حيث يروى عنه (ص) أنه قال: افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة.وقد ورد هذا الحديث بصورة مختلفة في أغلب مصادر الحديث عند فرق المسلمين وناقش العديد من العلماء مدى صحة الحديث من حيث سنده ومن حيث انطباقه على الواقع الخارجي يقول العلامة الشيخ جعفر السبحاني: (وعلى كل تقدير فيجب إمعان النظر في المراد منه على فرض صحة سنده والظاهر من الحديث أن أمته تفترق إلى تلك الفرق الهائلة حقيقة غير أن المشكلة عند ذاك هو عدم بلوغ الفرق الإسلامية هذا العدد).(ثم إن الذين ذهبوا إلى صحة الحديث تمايلوا يمينا ويسارا في تصحيح مفاده بعد الإذعان بصحة إسناده فقالوا: أن المراد من ذلك العدد الهائل هو المبالغة في الكثرة كما في قوله سبحـانه: (إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم)132. وأنت خبير بأن هذه المحاولة فاشلة لأنها إنما تصح إذا ورد الحديث بصورة سبعين أو غيرها من العقود العديدة فإن هذا هو المتعارف ولكن الوارد غير ذلك فترى أن النبي يركز في حق المجوس على عدد السبعين وفي حق اليهود على عدد الإحدى والسبعين وفي حق النصارى على أثنين وسبعين وفي حق الأمة الإسلامية على ثلاث وسبعين وهذا التدرج يعرب بسهولة عن أن المراد هو البلوغ إلى هذا الحد بشكل حقيقي لا بشكل مبالغي).(وهناك محاولة جيدة لمحقق كتاب الفرق بين الفرق: وهي أنه على فرض صحة الحديث لا ينحصر الافتراق فيما كان في العصور الأولى فإن حديث الترمذي يتحدث عن افتراق أمة محمد (ص) وأمته مستمرة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين فيجب أن يتحدث في كل عصر عن الفرق التي نجمت في هذه الأمة من أول أمرها إلى الوقت الذي يتحدث فيه المتحدث، ولا عليه إن كان العدد قد بلغ ما جاء في الحديث أو لم يبلغ، فمن الممكن بل المقطوع لو صح الحديث وقوع الأمر في واقع الناس على وفق ما أخبر به).وبعيدا عن هذا الحديث فإن تاريخ الأمة الإسلامية وواقعها المعاصر يحكي عن تعددية في المذاهب والمدارس أبرزها حاليا.- السنة بمذاهبها الأربعة: (المالكي- الحنفي- الشافعي- الحنبلي).- الشيعة بطوائفها الثلاث: (الإمامية الاثنى عشرية- الزيدية- الإسماعيلية).- الخوارج والمعروف منهم حالياً: (الإباضية). العوامل والأسبابفي حياة مؤسس أي دين وبسبب التفاف الأتباع حوله وإيمانهم به، وممارسته دور القائد الذي يرجع إليه في مختلف الشؤون، فإن حصول الانشقاق وتعدد المذاهب ضمن ذلك الدين يكون مستبعدا ونادر الوقوع، ولكن إذا فارق القائد المؤسس الحياة فإن المجال يصبح مفتوحا لتعدد الآراء واختلاف الإرادات بين اتباعه حيث تتأطر وتتبلور على شكل مذاهب وطوائف وفرق بمرور الزمن.ولكن لماذا يحصل الانشقاق بين اتباع الدين الواحد؟ ولماذا تتعدد المذاهب والطوائف فيه؟ وما هي العوامل والأسباب التي تنبثق منها هذه الظاهرة بشكل عام؟يمكننا تسليط الضوء على العوامل والأسباب التالية والتي هي مشتركة غالبا في جميع حالات تعدد مذاهب الأديان:أولا: العامل الفكري: فبسبب تفاوت العقول والأفكار واختلاف مستويات الإدراك والمعرفة يحصل تباين في فهم معتقدات الدين وتفسير تعاليمه، وإذا كان القائد المؤسس مرجعا للحسم والفصل يخضع له الجميع في حياته، فليس هناك ما يدعو هذا الطرف أو ذاك للتنازل عن فهمه ورأيه بعد وفاة المؤسس، بل يعتقد كل طرف أن فهمه ورأيه هو الأصح والأصوب، هنا تبدأ بذور الانشقاق والتعدد.. وعلى أساس ذلك الاختلاف الفكري قد يحصل تعارض في المواقف السياسية أيضا. وكنموذج لتأثير الاختلاف الفكري في إنشاء المذاهب وتعدديتها: الانقسام. الذي حصل بين علماء المسلمين أواخر القرن الأول الهجري إلى أهل الحديث وأهل الرأي فقد كان الفقهاء في الحجاز يعتمدون النصوص والأحاديث كمصدر أساسي لاستنباط الأحكام الشرعية ولا يعطون اعتبارا كبيرا للقياس والرأي بعكس فقهاء العراق القائلين بالقياس والرأي.وكان أهل الحديث يعيبون أهل الرأي بأنهم يتركون الأحاديث لأقيستهم، والدين لا يقاس بالرأي، و انما سموا أهل الرأي لأن عنايتهم بتحصيل وجه من القياس والمعنى المستنبط من الأحكام وبناء الحوادث عليها، وربما يقدمون القياس الجلي على آحاد الأخبار، وطريقتهم أن للشريعة مصالح مقصودة التحصيل من أجلها شرعت، فجعلوا هذه المصالح أصلا من أصول الأدلة إذا لم يجدوا نصا في الكتاب والسنة الصحيحة عندهم، وقد كانت قليلة العدد لبعد العراق عن موطن الحديث. وأما أهل الحديث فلم يجعلوا للرأي والقياس في استنباط الأحكام هذا المحل، واتسعت شقة الخلاف واحتدم النزاع وافترق أهل الفتيا إلى فرقتين؟.ولم يقتصر الخلاف بين المنهجين على الجانب الفقهي بالطبع بل انعكست آثاره على المجالات العقائدية، فكان أهل الحديث يتعبدون بظواهر الآيات والروايات ويبنون عليها عقائدهم دون التعميق في مفاهيمها أو قبول التأويل لمتشابهاتها، بينما كان أهل الرأي والذين أطلق عليهم "المعتزلة" فيما بعد يتمسكون بالعقل أكثر من النقل ويؤولون النقل إذا وجدوه مخالفا لفكرتهم وكان التشاجر قائمأ على ساقيه بين الفرقتين طوال قرون.ويقسم السيد محمد تقي الحكيم مناشئ الاختلاف الفقهي بين علماء المسلمين إلى قسمين:ا- الخلاف في الأصول والمباني العامة التي يعتمدونها في استنباطهم، كالخلاف في حجية أصالة الظهور الكتابي، أو الإجماع، أو القياس، أو الإستصحاب، أو غيرها من المباني مما يقع موقع الكبرى من قياس الاستنباط.2- اختلافهم في مدى انطباق هذه الكبريات على صغرياتها بعد اتفاقهم على الكبرى سواء كان منشأ الخلاف اختلافا في الضوابط التي تعطى لتشخيص الصغريات بوجهة عامة أم ادعاء وجود قرائن خاصة لها مدخلية في التشخيص لدى بعض وإنكارها لدى آخرين كأن يستفيد أحدهم من آية الوضوء، مثلاً - بعد اتفاقهم على حجية الكتاب- أن التحديد فيها انما هو تحديد لطبيعة الغسل وبيان لكيفيته فيفتي تبعا لذلك بالوضوء المنكوس بينما يستفيد الآخرون انه تحديد للمغسول وليس فيه أية دلالة على بيان كيفية الغسل أي أنه لم يكن في مقام البيان من هذه الجهة فلا بد من التماس بيان الكيفية من الرجوع إلى الأدلة الأخرى كالوضوءات البيانية وغيرها.ولسنا الآن بصدد استعراض واستقصاء موارد الخلاف العقائدي والفقهي بين المذاهب الإسلامية ولكننا أشرنا فقط إلى نموذج لدور العامل الفكري العلمي في حصول المذاهب والفرق.ثانيا: العامل السياسي و المصلحي: فالفراغ القيادي الذي يتركه المؤسس يخلق حالة من التنافس على السلطة، وباستمرار فان التطلع للحكم وجاذبية السلطة، والرغبة في المصالح كل ذلك يشجع على حدوث الإنشقاقات والخلافات، وقد يستعار لها غطاء عقائدي لتبريرها وكسب المؤيدين وكما أن الخلاف الفكري قد ينتج عنه خلاف سياسي، ف!ن الصراع السياسي والخلافات المصلحية قد تتحول إلى قناعات فكرية مذهبية.وفي تاريخ المسلمين فإن العامل السياسي والمصلحي لعب دورا أساسيا في تمزيق الأمة وتعدد طوائفها ومذاهبها حتى قيل ما سل سيف في الإسلام على شيء مثلما سل على الإمامة والخلافة.ففي نفس اليوم الذي التحق فيه الرسول محمد (ص) بالرفيق الأعلى وحتى قبل أن يوارى جثمانه الثرى تفجرت مشكلة الخلافة والإمامة بين المسلمين، ويومها كانت بذور انشطار الأمة إلى طائفتين أساسيتين: طائفة السنة والذين يرون عدم وجود نص ديني على تعيين خليفة لرسول الله وأن الأمر متروك لاختيار المسلمين، وطائفة الشيعة الذين يعتقدون بالنص على علي بن أبي طالب كخليفة وإمام مفترض الطاعة بعد رسول الله (ص).كما وقد رافق بيعة الخليفة الأول للمسلمين ملابسات وظروف كانت تهدد وحدة الأمة بالخطر حنكة الإمام عي بن أبي طالب ومبدأيته ساعدت على إنقاذ الموقف.ولننقل بعض اللقطات التي يذكرها التاريخ للتدليل على دور الحامل السياسي في إيجاد حالة التعدد المذهبي والطائفي.جاء في تاريخ إبن الأثير (الكامل في التاريخ) تحت عنوان (حديث السقيفة وخلافة أبي بكر رضي الله عنه و أرضاه) ما يلي:(لما توفي رسول (ص) أجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة ليبايعوا سعد بن عبادة، فبلغ ذلك أبا بكر فاتاهم ومعه عمر وأبو عبيده بن الجراح، فقال: ما هذا؟فقالوا. منا أمير ومنكم أمير.فقال أبو بكر: منا الأمراء ومنكم الوزراء، ثم قال! أبو بكر: قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين عمر وأبا عبيده أمين هذه الآمة.فقال عمر. أيكم يطيب نفسا أن يخلف قدمين قدمهما النبي (ص)؟فبايعه عمر وبايعه الناس.فقالت الأنصار أو بعض الأنصار: لا نتايع إلا علياً: قال: وتخلف علي وبنو هاشم والزبير وطلعة عن البيعة. وقال الزبير: لا أغمد سيفاً حتى يبايع علي.فقال عمر: خذوا سيفه واضربوا به الحجر، ثم أتاهم عمر فأخذهم بالبيعة.وقيل لما سمع علي ببيعة أبى بكر خرج في قميص ما عليه إزار ولا رداء عجلاً حتى بايعه، ثم استدعى إزاره وردائه فتجلله.والصحيح أن أمير المؤمنين ما بايع إلا بعد ستة أشهر، والله أعلم.وقيل: لما اجتمع الناس على بيعة أبي بكر أقبل أبو سفيان وهو يقول إني لأرى عجاجة لا يطفئها الأدم، يا آل عبد مناف فيم أبو بكر من أموركم؟ أين المستضعفان؟أين الأذلان علي والعباس؟ ما بال هذا الأمر في أقل حي من قريش ثم قال لعلي: ابسط يديك أبايعك ، فوالله لأن شئت لأملأها عليه خيلاً ورجلاً، فأبي علي (ع) عليه فتمثل بشعر المتلمس:ولن يقيم على خسف يراد به إلا الأذلان غير الحي والوتد هذا على الخسف معكوس برمته جوذا يشج فلا يبكي له أحد فزجره علي وقال: والله إنك ما أردت بهذا إلا الفتنة، وإنك والله طالما بغيت بالإسلام شراً ! لا حاجة لنا في نصيحتك)ويستطرد ابن الأثير في ذكر الحوادث والملابسات حول هذا الموضوع بما لا مجال لنقل جميعه هنا.وجاء تمرد الخوارج على الإمام عي أواخر محركة صفين لتنشأ على أساسه طائفة جديدة في تاريخ المسلمين وهم الخوارج والذين تعددت مذاهبهم فيما بعد.كما عمقت أحداث كربلاء الدامية ومقتل السبط الشهيد الحسين بن علي خط التشيع والموالاة لأهل البيت (ع).هذا عن العامل السياسي أما العامل المصلحي المحض فيمكننا الاستشهاد بفرقة "الواقفة" في أوساط الشيعة.فالشيعة الإمامية يعتقدون باثني عشر إماما، والإمام موسى الكاظم هو السابع منهم وحيث انه قضى فترة طويلة من حياته في السجون، فقد نصب له وكلاء لاستلام الحقوق الشرعية فاجتمعت أموال ضخمة عند بعضهم، فكان عند زياد بن مروان القندي سبعون ألف دينار؟ وعند علي ابن أبي حمزة ثلاثون ألف دينار.. وهكذا عند غيرهما، فلما توفي الإمام موسى الكاظم، صعب على هؤلاء أن يتخلوا عن تلك المبالغ ويضعونها تحت تصرف الإمام علي بن موسى الرضا، وهو الإمام المطاع بعد أبيه الإمام موسى الكاظم، ولكي يبرروا احتفاظهم بالأموال وتصرفهم فيها ابتدعوا فكرة خلود الإمام موسى الكاظم وانه القائم المنتظر وأنكروا موته.. وتبعهم على ذلك نفر من الناس وأصبحوا فرقة ضمن الشيعة لكنهم انقرضوا بعد مدة من الزمن.ثالثا: العامل الخارجي: يسعى أعداء كل دين أو تجمع لتشجيع حالة الاختلاف والانشقاق في ذلك الدين أو المجتمع لإضعاف وحدته وشل فاعليته، ومن ثم فهم يعملون على تسريب وترويج الأفكار التي من شأنها تفريق المجتمع الواحد، كما يجتهدون في تأليب بعض القوى ضد البعض الآخر. ومن ناحية ثانية فان اتساع رقعة الدين وتفاعل مجتمعات جديدة معه يسبب دخول بعض العادات والأفكار والتقاليد غير المألوفة عند الاتباع السابقين فيحصل تعدد في الفهم والأساليب.وفي هذا المجال يرصد الباحثون الدور الذي قام به اليهودي " شاؤول " تجاه المسيحية فقد كان يهوديا متعصبا ضد المسيحيين حسب اعترافه وكما يقول عنه تلميذه المناصر له " لوقا " بأنه كان راضيا بقتل المسيحيين، وكان يسطو على الكنيسة، ويدخل البيوت، ويجر رجالاً ونساء ويسلمهم إلى السجن ولم يزل ينفث تهديداً وقتلاً على تلاميذ الرب.. هذا العدو الحاقد على المسيحية والمسيحيين تحول! فيما بعد إلى رسول مجدد ومؤسس في الديانة المسيحية وأصبح اسمه "بولس الرسول" وعلى يده دخلت في المسيحية تغييرات وتحريفات والسعة أثارت الخلاف والتمزق في أوساط المسيحيين، فكيف حصل التحول والتغير في شخصية (شاؤول بولس)؟يقول تلميذه (لوقا): وعندما كان بولس قريبا من دمشق، فبغته برق حوله نور من السماء فسقط على الأرض، وسمع صوتا قائلا له. شاؤول لماذا تضطهدني؟ فقال: من أنت يا سيد؟فقال الرب: أنا يسوع الذي تضطهده، فقال وهو مرتعد ومتحير: يا رب ماذا تريد أن افعل؟ فقال له: قم وكرز بالمسيحية. ويقول لوقا في ختام هذه القصة جملة ذات بال غيرت وجه التاريخ هي: " وللوقت جعل يكرز في المجامع بالمسيح أن هذا هو إبن الله، ولم تكن هذه الفكرة قد عرفت من قبل فأصبحت نقطة التحول في الدراسات المسيحية وقد حدث هذا التطور لشاؤول وهو في الطريق من أورشليم إلى دمشق.وهكذا أخذ شاؤول- بولس الزمام في يده، فهو لم ير المسيح قط ولا سمعه يتكلم ولكنه قال بصلة مباشرة بينه وبين المسيح.. وبهذه الدعوى لم يعد لأحد حق في أن يناضله فيما ينشره من تعاليم ما دام يقول أنه تلقاها مباشرة من السيد المسيح.وفي وسط المحنة التي كان يمر بها المسيحيون استخف الطرب بالمسيحيين عندما رأوا بولس أكبر أعدائهم ينضم إليهم، وقد تشكك بعضهم في أمره ولكن (برنابا) دافع عنه وأحسن تقديمه إلى هؤلاء، وبعد أن أعلن بولس فكره الذي يتنافى مع المسيحية الحقيقية نفر منه زملاؤه وتلاميذه ولم يبق معه إلا تلميذه لوقا.وهكذا راح بوليس يعتبر نفسه القيم المؤتمن على المسيحية ويقول في صراحة انه الوحيد الذي أؤتمن على المسيحية الصحيحة وعلى إن?يل مجد الله المبارك وان كل ما يخالف ما يقول به من تعاليم كلام باطل دنس مخالف للعلم.و بولس هو الذي ابتدع عقيدة التثليث وكون عيسى إبن الله أنزله ليضحي بنفسه تكفيرا عن خطيئة البشر وأمثالها من المعتقدات الجديدة. وعمدت مهارة بولس إلى إرضاء طبقة السادة والحاكمين حيث جعل طاعتهم دينا كإطاعة المسيح.. وحدث صراع ضخم بين بولس وأنصاره من جهة وبين المسيحيين الحقيقين من جهة أخرى وامتد قرونا بعد وفاة بول!س..ويرى كثير من الباحثين أن عداوة بولس للمسيحية هي التي دفعته ليتظاهر بالدخول فيها ليستمر في حربها بسلاح جديد، سلاح التهديد من الداخل.أما في تاريخ الإسلام فيبدو أن خططا ومؤامرات كثيرة قد وضعت لتصنع بالإسلام ما صنعه بولس- شاؤول في المسيحية، وقد نجح بعضها إلى حط ط، في إثارة الخلافات بين المسلمين، وتشويه بعض معالم الفكر الإسلامي.حيث لما قويت شوكة الدعوة المحمدية واشتد ساعدها، وتحطمت أمامها كل قوة تنازعها، لم ير من كانوا يقفون أمامها ويصدون عن سبيلها، إلا أن يكيدوا لها عن طريق الحيلة والخداع.. ولما كان أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود، لأنهم بزعمهم شعب الله المختار، فلا يحترفون لأحد غيرهم بفضل، ولا يقرون لنبي بعد موسى برسالة، فإن رهبانهم وأحبارهم لم يجدوا بدا من أن يستعينوا بالمكر، ويتوسلوا بالدهاء، لكي يصلوا إلى ما يبتغون فهداهم المكر اليهودي إلى أن يتظاهر بعضهم بالإسلام حتى يخفى كيدهم، ويجوز على المسلمين مكرهم، وقد كان أقوى هؤلاء الكهان دهاء وأشدهم مكرا: كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام، ولما وجدوا أن حيلهم قد راجت بما أظهروه من كاذب الورع والتقوى، وان المسلمين قد سكنوا إليهم، واكتروا بهم، جعلوا أول همهم أن يضربوا المسلمين في صميم دينهم، وذلك بأن يدسوا إلى أصوله التي قام عليها ما يريدون من أساطير وخرافات وأوهام وتر هات...وكعب الأحبار هو كحب بن مانع ا!يري من كبار أحبار اليهود، قدم من اليمن وأسلم في خلافة عمر بن الخطاب وسكن المدينة، ثم تحول إلى الشام في زمن الخليفة عثمان فاستصفاه معاوية وجعله من مستشاريه، ومات بحمص سنة 34 هـ بعدما ملأ الشام وغيرها من البلاد الإسلامية برواياته وقصصه اليهودية.ويؤكد العلامة الشيخ جعفر السبحاني أن بعض الأفكار التي أصبحت مجالا للاختلاف العقائدي بين المسلمين هي من صنع وبث كعب الأحبار هذا، فالمطالع في مروياته يقف على أنه يركز على القول بأمرين: التجسيم والرؤية- رؤية الله...أما وهب بن منبه فقد ذكر المؤرخون أنه فارسي الأصل جاء جده إلى اليمن في جملة من بعثهم كسرى لنجدة اليمن على الحبشة وكان يهودياً بعد أن كان مجوسيا ولد سنة 34 هـ وتوفي بصنعاء سنة 14 ا هـ، ويظهر من تاريخ حياته ومروياته أنه أحد المصادر لانتشار نظرية نفي الاختيار والمشيئة عن الإنسان، هذه النظرية التي حدث حولها صراع عقائدي شديد بين المسلمين.وإلى جانب العناصر اليهودية المندسة كانت هناك عناصر مسيحية تظاهرت بالإسلام ولعبت دورا فكريا في أوساط المسلمين ببث بعض المفاهيم واختلاق الأحاديث والروايات ومن أبرز تلك العناصر المشبوهة: تميم بن أوس الداري وهو من نصارى اليمن أسلم سنة 9 هـ وسكن المدينة، والتحق بمعاوية في الشام بعد مقتل عثمان ومات سنة 40 هـ وهو أول من استخدم أسلوب القصص بين المسلمين لعرض أخبار الأمم السالفة وروج عبرها الأساطير والأفكار المسيحية.ومنهم عبد الملك بن جريج الرومي وكان نصرانيا ولد سنة 80 هـ وتوفي سنة 150 هـ وعنه صدرت أحاديث كاذبة موضوعة كثيرة.كما ويشير الأستاذ محمد أبو زهرة إلى أن مسألة خلق القرآن أو قدمه هي من المسائل التي أثارها المندسون في المسلمين، وكم عانى المسلمون من صراع حول هذه المسألة؟ يقول أبو زهرة: "كثر القول حول! القرآن الكريم في كونه مخلوقا أو غير مخلوق، وقد عمل على إثارة هذه المسألة النصارى الذين كانوا في حاشية البيت الأموي وعلى رأسهم يوحنا الدمشقي الذي كان يبث بين علماء النصارى في البلاد الإسلامية طرق المناظرات التي تشكك المسلمين في دينهم، وينشر بين المسلمين الأكاذيب عن نبيهم.. ".ويرى الدكتور مصطفى الرافعي أن مذهب "القدرية" كانت بدايته في البصرة وأول من دعا إليه رجل يهودي و أخذه عنه غيلان الدمشقي ومعبد الجهمي، فهذا كان يدعو إلى القدرية في البصرة وقد قتله الحجاج، وغيلان كان يدعو إليها في الشام وقد قتله هشام بن عبد الملك.تلك كانت بعض النماذج التي تكشف عن وجود عامل ظ رجي لعب دورا مؤثراً في حصول الانقسامات المذهبية في الأمة. التعامل بين المذاهبوإذا كانت تعددية المذاهب والفرق ظاهرة طبيعية في جميع الأديان والمبادئ، فكيف كان يتم التعامل والعلاقة بين المذاهب المختلفة ضمن الدين الواحد؟بالطبع إن مستوى وعي الإنسان بالقيم ومدى التزامه بالأخلاق الفاضلة هو الذي يحدد طريقة تعامله مع من يخالفه في الدين أو المذهب.. ذلك أن الإيمان بقيمه الإنسان كإنسان وحقه في أن يعيش حراً كريماً حسبما يشاء ويختار، هذا الإيمان يفرض على صاحبه احترام إرادة الآخرين والاعتراف بحريتهم في اختيار أديانهم ومذاهبهم ومعتقداتهم.. وللتربية الأخلاقية دورها الفعال والحاسم في تنظيم علاقة الإنسان بالآخرين وخاصة من يختلف معهم.ومؤلم حقا ما يحتفظ به التاريخ من سجلات دامية لحالات الصراع والاضطهاد المتبادل بين أبناء الدين الواحد عند اختلاف مذاهبهم في فترات انحطاط الوعي وتدني المستوى الأخلاقي.وإذا كانت هناك أعذار تلتمس ومبررات تفتعل للصراع والعداء بين اتباع الأديان المختلفة المتناقضة فما هي مبررات الصراع بين أبناء الدين الواحد مع انتمائهم لعقيدة واحدة تجمعهم وإيمانهم بزعيم روحي واحد، ومع وجود القواسم المشتركة ومجالات الاتفاق التي هي أوسع وأكبر من مساحة الاختلاف فيما بين مذاهبهم؟بالتأكيد لا سبب ولا مبرر إلا تفشي الجهل وتدني الأخلاق وتحريك المغرضين المصلحين من الخارج أو الداخل.ولقد عانت المجتمعات المسيحية في سالف الزمان الأهوال والويلات من جراء الصراعات والنزاعات الطائفية بين الاتجاهات المسيحية المختلفة، فالمسيحية التي ظهرت وأصبحت ذات سلطان بتبني الإمبراطور قسطنطين لها مع مطلع القرن الرابع كانت مسيحية بولس والتي ابتدعت أشياء لا يوصي بها المسيحيون الأصليون كألوهية المسيح والتثليث وغيرهما، فبدأ صراع جديد اعتبر فيه المسيحيون الأصليون متمردين، وأوقعت بهم المسيحية الإغريقية أو مسيحية بولس ألوانا من العنت والاضطهاد.فحينما عارض (اريوس 336 م) القول بألوهية المسيح انعقد ضده مجمع نيقية والذي قرر إدانة اريوس) وإحراق كتاباته، وتحريم اقتنائها، وخلع أنصاره من وظائفهم، ونفيهم، والحكم بإعدام كل من أخفى شيئا من كتابات (اريوس) واتباعه.وفي عهد (تيودوسيوس 395 م) ظهرت لأول مرة محكمة التفتيش لاكتشاف المخالفين في العقيدة وإيقاع أشد العقوبات بهم واستمرت محاكم التفتيش هذه قرونا عديدة ترتكب أبش!ع الجرائم والمظالم مما هو معروف في تاريخ القرون الوسطى.ولما ظهر مذهب (البروتستانت) في المسيحية اتجهت الكنيسة لهم بالاضطهاد العنيف وكثرت المذابح ومن أهمها مذبحة باريس في 24 أغسطس سنة 572م التي سطا فيها الكاثوليك على ضيوفهم من البروتستانت، هؤلاء الذين دعوا لباريس لعمل تسوية تقرب بين وجهات النظر، ثم قتلوا خيانة وهم نيام، فلما أصبحت باريس كانت شوارعها تجري بدماء هؤلاء الضحايا، وانهالت التهاني على (تشارلس التاسع) من البابا ومن ملوك الكاثوليك وعظمائهم على هذا العمل الدنيء!!والعجيب أن البروتستانت لما قويت شوكتهم مثلوا نفس دور القسوة مع الكاثوليك ولم يكونوا أقل وحشية في معاملة خصومهم من أعدائهم السابقين.وقد اعتبر الصليبيون الكاثوليك المسيحيين المصريين كفرة وملاحدة ومنعوهم من الحج للقدس لأنهم يتبعون مذهب (الأرثوذكس).أما في تاريخنا الإسلامي ورغم إقرار الإسلام لحرية العقيدة والفكر حيث يهتف قرآنه العظيم (لا إكراه في الدين) 133 ورغم تأكيد التعاليم والتوجيهات الإسلامية على حسن الأخلاق والتعامل حتى مع المخالفين في الدين (وان جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا) 134 ورغم كل النداءات القرآنية والمحمدية التي تدعوا المسلمين للاتحاد والتعاون والتالف ونبذ حالة التنازع والتقاطع.. رغم كل ذلك فقد شوهت تاريخنا الإسلامي صفحات سوداء قائمة من الخلافات والصراعات الطائفية بين اتباع المذاهب الإسلامية وذوي الاتجاهات الفكرية المختلفة في الأمة.. ولا تزال تلقي بظلالها السلبية المقيتة على واقع الأمة المعاصر.بيد أن من الملاحظ حصول تلك الأوضاع الشاذة في فترات التخلف وانحطاط الوعي وسيطرة الجهل وتغلب القوى الانتهازية والفاسدة على مقدرات الأمة، أما في أوساط الواعين المخلصين وعندما كانت أمتنا الإسلامية في أوفي عزتها وتقدمها الحضاري فقد كانت روح التسامح وحرية الفكر ومنطق الحوار والتعامل الإيجابي هي اللغة السائدة بين المذاهب والتيارات المختلفة في الأمة.وسنحاول فيما يلي من البحوث تسليط الأضواء ورصد مسيرة هذين الخطلين المتقابلين في الأمة: خط التسامح وحرية الرأي والفكر بين المذاهب والفرق والاتجاهات.. وخط العصبية الطائفية والتصادم الإرهاب الفكري. المذاهب الإسلامية: أصول مشتركة- لا للتكفير. - المتعصبون يشهرون صلاح التكفير. - التعصب والإرهاب الطائفي. - الانفتاح الفكري بين المذاهب الإسلامية. وإذا كانت هناك أسباب وعوامل أدت إلى تحدد المذاهب والفرق في الأمة الإسلامية فان هناك ضمانات مطمنة لحفظ وحدة الأمة وتماسك صفوفها ولمعالجة مضاعفات حالة الاختلاف والتعدد، لتكون التعددية في الرأي والخلاف في الموقف عاملا إيجابيا يستثير العقول ويحرك القوى ويدفع نحو التنافس الشريف والوصول للرأي الأفضل والموقف ا لأصوب.ومن أهم تلك الضمانات وأبرزها شيئان:ا- الوعي والتوجيهات الأخلاقية: حيث يؤكد الإسلام على ضرورة الاهتمام بالمصلحة العامة ومواجهة الأعداء الرئيسيين، ويربي أبناءه على الأخلاق الفاضلة للتعامل فيما بينهم وخاصة عند الاختلاف والنزاع.. ولهذا الجانب تفصيل قد نتوفق للكتابة عنه فيما يأتي من البحوث.2- الأسس والأصول المشتركة: فرغم تعدد المذاهـب والفرق الإسلامية، ورغم أن الخلاف بينها أخذ منحى سلبيا في بعض الفترات، ووصل إلى حد التنازع والتقاتل، إلا أن من نعم الله تعالى على هذه الأمة اتفاقها على أسس الدين وأصوله، وعلى أكثر قضاياه وأحكامه، فالاختلاف بين المذاهب الإسلامية حاصل في جزئيات العقائد، وتفاصيل القضايا وتطبيقاتها، وفي الفروع والأحكام الجانبية.وهذا الاتفاق على الأسس والأصول يشكل ضمانة كبيرة لحفظ وحدة الأمة وتماسك كيانها، كما يشكل أرضية مناسبة لمعالجة نقاط الاختلاف وموارد الافتراق.لكن ذلك مشروط بتوجه الأمة وتركيزها على هذا الاتفاق والاشتراك في الأصول والأسس، والانطلاق منه للتعامل مع مسائل الاختلاف بروح وحدوية ايجابية، أما حين تتغافل الأمة وتتناسى موضوع الاتفاق الأهم في الأصول و تتوجه لتضخيم قضايا الاختلاف على الفروع والجزئيات فإن ذلك يهدد وحدة الأمة بالتزلزل والاهتزاز.ونستعرض هنا أهم الأسس والأصول التي تجمع الأمة وتتفق عليها بشكل إجمالي مع وجود اختلاف بين المذاهب في جزئيات وتفاصيل تلك الأسس. أولاً: أصول العقيدة: حيث يتفق المسلمون على أنها ثلاث لا يتحقق الإسلام بدونها ولا يضر الاختلاف فيما عداها، وهي الإيمان بالله وبالنبوة وبالمعاد يوم القيامة، فليس مسلما من أنكر وجود الله ووحدانيته، ولا من جهل نبوة النبي محمد (صلى الله عليه واله وصحبه)، ولا من شكك في البعث والمعاد بعد الموت في القيامة، أما تفاصيل كل أصل من هذه الأصول الثلاثة، كصفات الله الثبوتية والسلبية، وخصائص الرسول وجوانب حياته، وجزئيات قضايا الآخرة والمعاد، فهي ساحة واسعة للبحث والنقاش واختلاف الرأي بين المذاهب بل بين أتباع المذهب الواحد في كثير من الأحيان. ذلك أن القضايا العقائدية في الأصل تعتمد على عقل الإنسان وإدراكه ولا مجال فيها للاتباع والتقليد دون برهان ودليل. ثانيا: القرآن الكريم: فهو الكتاب الإلهي الوحيد الذي بقي مصانا محفوظا من أن تمسه يد التحريف والتغيير، كما حدث للكتب السماوية السابقة- التوراة والإنجيل وغيرهما- وإذا كان اليهود يختلفون فيما بينهم على أسفار كتابهم المقدس المعروف بالعهد القديم، فبعض أحبار اليهود يضيفون أسفارا لا يقبلها أحبار آخرون... وإذا كان النصارى يختلفون في أسفار إنجيلهم المعروف بالعهد الجديد ويلغون بحضها حسب قرارات مجمع نيقية سنة 325 م ثم يتفقون على أربعة أناجيل (إنجيل متى- إنجيل مرقس- إنجيل لوقا- إنجيل يوحنا) بالإضافة إلى مجموعة رسائل، ولا تتحد هذه الأناجيل نصا ومضمونا.. إذا كان هذا حال اليهود والنصارى مع كتبهم المقدسة، فليس الأمر كذلك عند المسلمين والحمد دثه، فهم يؤمنون جميعا بالقرآن الكريم، على اختلاف مذاهبم وفرقهم، وهو هذا القرآن المتداول عندهم دون تشكيك في أي سورة أو آية أو حرف منه زائدا أو ناقصا لأن الله تعالى يقول: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)135 أما بعض الروايات الواردة في كتب الأحاديث كصحيح البخاري والكافي وغيرهما والتي تشير إلى حدوث تحريف وتغيير في القران الحكيم فهي مرفوضة عند جميع المسلمين. نعم هناك اختلاف في تفسير بعض آيات القران وتحديد مقاصدها ليس بين المذاهب فقط وإنما بين العلماء والمفسرين حتى المنتمين منهم لمذهب واحد. ثالثا: معالم الشريعة: فالفرائض والعبادات الإسلامية هناك اتفاق على أصولها وهيكليتها العامة وان كان هناك اختلاف في بعض الجزئيات والتفاصيل، فالصلوات الخمس، وصوم رمضان، والحج، والزكاة، والخمس، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كلها متفق على إجمالها وكذلك أصول المعاملات والعقود كالزواج والطلاق والإرث والقضاء وسائر مجالات الشريعة غالبا ما يتفق المسلمون على معالمها وكلياتها وقد يختلف الفقهاء حتى من اتباع المذهب الواحد في الجزئيات والتفاصيل.. لو قمنا بدراسة تفصيلية لتحديد مساحات الاتفاق والافتراق بين المذاهب الإسلامية عقائديا وفقهيا، لوجدنا أن الاختلاف هو الأضيق مساحة والأقل شأنا، بينما يشمل الإتفاق أغلب المسائل وأهمها، ولكن مشكلة المسلمين تكمن في وجود من يثير ويضخم مسائل الاختلاف لأهداف مغرضة مشبوهة. وتأكيدا لهذه الحقيقة المهمة نستعرض آراء وكلمات بعض العلماء والمفكرين المخلصين الذين انبروا للدفاع عن وحدة الأمة والتأكيد على الجوامع والقواسم المشتركة بين فرقها ومذهبها. كتب الإمام الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء (1) في مجلة رسالة الإسلام ما يلي: (إن المسلمين جميعا مهما اختلفوا في أشياء من الأصول والفروع فانهم قد اتفقوا على مضمون الأحاديث المقطوع عندهم بصحتها من أن من شهد الشهادتين، واتخذ الإسلام دينا له، فقد حرم دمه وماله وعرضه، والمسلم أخو المسلم، وان من صلى على قبلتنا، وأكل من ذبيحتنا، ولم يتدين بغير ديننا فهومنا، له ما لنا وعليه ما علينا). (وكفى بالقران جامعا لهم مهما بلغ الخلاف بينهم في غيره، فان رابطة القرآن تجمعهم في كثير من الأصول والفروع، تجمعهم في أشد الروابط من التوحيد والنبوة والقبلة وأمثالها من الأركان والدعائم واختلاف الرأي فيما يستنبط أو يفهم من القرآن في بعض النواحي اختلاف اجتهادي لا يوجب التباغض والتعادي). وكتب العلامة الشيخ محمد جواد مغنية يقول: (المسلم من صدق مقتنعا بكل ما اعتبره الإسلام من الأصول والفروع والأصول ثلاثة: التوحيد، والنبوة، والمعاد، فمن شك في أصل منها أو ذهل عنه قاصرا أو ما قصرا فليس بمسلم، ومن آمن بها جميعا جازما فهو مسلم). (ويكفي من التوحيد الإيمان بوحدة الله تعالى، وقدرته وعلمه وحكمته، ولا تجب معرفة صفاته الثبوتية والسلبية بالتفصيل، ولا أنها عين ذاته أو غيرها. ويكفي من النبوة الإيمان بان محمدا (ص) رسول من الله صادقا فيما أخبر به، معصوم في تبليغ الأحكام..). (ويكفي من المعاد الاعتقاد بأن كل مكلف يحاسب بعد الموت على ما اكتسب في حياته وانه ملاق جزاء عمله، إن خيرا فخيرا، وإن شرا فشر، إما انه. كيف يحاسب العبد؟ وعلى أي صورة بالتحديد يكون ثواب المحسن وبأي لون يعاقب المسيء؟ فلا يجب التدين بشيء من ذلك، فالتوحيد والنبوة والمعاد، دعائم ضرورية لدين الإسلام فمن أنكر واحدا منها، أو جهله فلا يعد مسلما شيعيا ولا سنيا. أما الفروع التي هي من ضرورات الدين، فهي كل حكم اتفقت عليه المذاهب الإسلامية كافة من غير فرق بين مذهب ومذهب، كوجوب الصلاة والصوم، والحج والزكاة، وحرمة زواج الأم والأخت وما إلى ذلك مما لا يختلف فيه رجلان من المسلمين فضلا عن طائفتين منهم، فإنكار حكم من هذه الأحكام إنكار للنبوة وتكذيب لما ثبت في دين الإسلام بالضرورة). (فالتدين بالأصول أمر لا بد منه للمسلم، ولا يعذر فيها الجاهل، أما إنكار الأحكام الفرعية الضرورية فضلا عن الجهل بها، فلا يضر بإسلام المسلم إلا مع العلم بأنها من الدين، فالإمامة ليست أصلا من أصول دين الإسلام وإنما هي أصل لمذهب التشيع، فمنكرها مسلم إذا اعتقد بالتوحيد والنبوة والمعاد ولكنه ليس شيعيا) وقد أصدر الإمام الأكبر محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر فتواه التاريخية بالمساواة بين المذاهب الإسلامية وجواز التعبد بأي منها وقال في جزء منها: (إن مذهب الجعفرية المعروف بمذهب الشيعة الاثني عشرية مذهب يجوز التعبد به شرعا كسائر مذاهب أهل السنة فينبغي للمسلمين أن يعرفوا ذلك وان يتخلصوا من العصبية بغير حق لمذاهب معينة فما كان دين الله وما كانت شريحته بتابع لمذهب معين أو مقصورة على مذهب فالكل مجتهدون مقبولون عند الله تعالى) ويقول الشيخ محمد خليل الزين (مهما تعددت الفرق الإسلامية وتباينت في العقائد فان مرجع تلك العقائد واحد فجميع الفرق تعتقد أن الإسلام أفضل الأديان وأكملها وأتمها وان محمد(ص) أفضل الرسل وسيدهم وخاتم الأنبياء وان القران هو كلام الله المنزل على نبيه بواسطة جبرائيل آية للعالمين. فالفرق بأسرها متفقة على أصول العقائد الإسلامية وكل ترمز نحو حقيقة وهدف واحد واختلافها في التطبيق والاتجاه لا يخرجها عن كونها مسلمة تتمسك بالأصول الإسلامية واختلاف الفرق في فهم أصول العقائد ليس بحديث بل يرجع تاريخه إلى عصر الخلفاء الراشدين). وكتب العالم الكبير الشيخ محمد الغزالي يقول: (ولم تنج العقائد من عقبى الاضطراب الذي أصاب سياسة الحكم، ذلك أن شهوات الاستعلاء والاستئثار أقحمت فيها ما ليس منها فإذا المسلمون قسمان كبيران شيعة وسنة مع أن الفريقين يؤمنان بالله وحده وبرسالة محمد(ص)، ولا يزيد أحدهما على الآخر في استجماع عناصر الاعتقاد التي يصلح بها الدين وتلتمس النجاة... فان الفريقين يقيمان صلتهما بالإسلام على الإيمان بكتاب الله وسنة رسوله ويتفقان اتفاقا مطلقا على الأصول. الجامعة في هذا الدين فان اشتجرت الآراء بعد ذلك في الفروع الفقهية والتشريعية فان مذاهب المسلمين كلها سواء في أن للمجتهد اجره أخطأ أم أصاب..- وعندما ندخل مجال الفقه المقارن ونعيش الشقة التي يحدثها الخلاف الفقهي بين رأي ورأي أو بين تصحيح حديث وتضعيفه نجد أن المدى بين الشيعة والسنة كالمدى بين المذهب الفقهي لأبي حنيفة والمذهب الفقهي لمالك أو الشافعي) وقد كتب حجة الإسلام عميد زنجاني بحثا مفصلا جميلا حول وفاق المذاهب الإسلامية على الصعيد الفقهي نقتبس من بحثه القيم المقاطع التالية: (الأحكام الفقهية على قسمين: الأول: وهو الحجر الأساس للفقه الإسلامي وهو أصوله العبادات، وأصول المعاملات وساير الأسس المتفق عليها في شتى أبواب الفقه من القضاء والحدود والديات، وهذه في عالم الفقه ومحكماته التي لم يختلف فيها أساطين الفقه وفقهاء المذاهب الإسلامية. الثاني: الفروع التي لا يضر الاختلاف فيها سواء أكانت في الشؤون العملية أم في المسائل النظرية. من الضروري أن نعرف انه هل الوفاقيات هي العمدة في الأهمية والقيمة أم الخلافيات بعد تسليط الضوء على المسائل الفقهية نرى وفاق جميع فقهاء السنة والشيعة في الصلوات الواجبة وعددها، وأصول أوقاتها، وأركانها، وأجزائها الرئيسية، وعمدة الشرائط المعتبرة فيها. وأما الخلاف فقد وقع في مثل التكتف هل هو راجح أو جائز أم لا؟ وان المأكول والملبوس هل يجوز السجود عليهما أم لا؟ ونرى في صيام شهر رمضان كذلك أن وجوبه والمحرمات الرئيسية والمبطلات الأصلية مشتركة بين الفقهاء، وموقع الخلاف في فروع: مثل بقايا الغذاء المتخلفة بين الأسنان إن ابتلعها عامدا نهاراً... ومن العبادات الهامة الحج فأعمال العمرة من الإحرام والطواف وصلاة الطواف والسعي والتقصير وكذا أعمال الحج من الإحرام والوقوف بعرفة والمزدلفة وأعمال منى وغيرها مما اتفق الكل عليه وكذا كثير من محرمات الإحرام وان اختلفوا في أن المحرم هل جوز له خطبة النساء في حال الإحرام أم لا؟ أو اختلفوا في أن استظلال المحرم في النهار جائز أم لا؟ كما أن الأقوال الفقهية المتفق عليها بين جميع المذاهب الفقهية من مذاهب السنة والشيعة تبلغ حداً موفوراً بحمد الله. كذلك حين تقارن فتاوى الشيعة مع مذاهب السنة نجد أكثرها موافقة لأحد الأقوال من فقهـا أحد المذاهب الأربعة. وقد نرى من تلك الوفاقيات حتى في أصول الأدلة الفقهية، مثلا الشيعة لا تستند على القياس عند اليأس من العثور على النص في الكتاب والسنة بل تنتقل رأساً إلى الإباحة بالشبهات البدوية وإلى الاحتياط في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي ونرى ابن حزم يوافق الشيعة ويصف كتابا في أبطال القياس والرأي الاستحسان. يرى فقهاء الإمامية اشتراط الاجتهاد في القاضي وقد وافق عليه الإمام الشافعي، وقال الشيعة بجواز شهادة الصبيان إذا بلغوا عشر سنين في الجراح والشجاج بشرط عدم تفرقهم وبشرط اجتماعهم على المباح وقد وافق الإمام مالك على هذا الرأي. من الجدير بالذكر أن نجد في التاريخ شخصيات عديدة من فقهاء الشيعة قد تصدوا لكرسي التدريس والإفتاء على المذاهب الأربعة و!يرها، و!ن من!م شيخ الفقهاء أبو جعفر الطوسي وقد تصدى لكرسي التدريس بدعوة من الخليفة العباسي القائم بأمر الله المتوفى 467 هـ. وكتابه الخلاف في الأحكام لنموذج من علمه الوافر وإحاطته بالأقوال والمذاهب الفقهية تتلمذ عليه 300 من مجتهدي عصره من السنة والشيعة. اتفق جمهور فقهاء الإسلام في قواعد تبتنى عليها شتى الأحكام الشرعية ويستقى كثير من الآراء الفقهية من ينابيعها، ومنها: القاعدة العملية المتخذة عن قوله (ص): (كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه). ومنها: قاعدة الرفع المأخوذة عن حديث الرفع، ومنها قاعدة لا ضرر ولا ضرار في الإسلام، و منها: قاعدة نفي العسر والحرج المتخذة من قوله تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) و (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)، ومنها: قاعدة اليد الآخذة من قوله (ص): (على اليد ما أخذت حتى تؤدي)، ومنها: قاعدة من ملك شيئاً ملك الإقرار به. هنا مساحة كبيرة من الاتفاق في مجال الحديث والعلوم النقلي المأثور: أن المطالع لكتب الحديث المتداولة والموثوق بها لدى كل من أهل السنة والشيعة يجد أن الأحاديث التي تتفق في اللفظ أو المعنى أكثر من الأحاديث التي ينفرد بها مذهب خاص. هذا الاتفاق لا يختص بموضوع دون آخر بل يتسع وينسحب إلى شتى الموضوعات والمجالات، فنرى طائفة كبيرة من الروايات المشتركة في الفقه، كما نجد قسما عظيماً منها في العقائد والأخلاقيات والآداب وغيرها من الموضوعات الإسلامية، وقد ثبت أن أئمة الحديث والفقه من أهل السنة كانوا يروون عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ومحدثي الشيعة وكبار علمائهم، روى أصحاب الصحاح الستة عن رجال من الشيعة كأبان بن تغلب وجابر الجعفري ومحمد بن حازم وعبيد الله بن موسى وغيرهم، وكان المقياس في العمل بالحديث رواية الراوي هو الثقة بصدق الراوي وأمانته في النقل- سنيا كان أو شيعيا- كالحكمة التي يأخذها المؤمن متى وأنى وجدها. وهذا هو نفس المقياس الذي يعتمد عليه عند الشيعة الإمامية. وكانوا محدثي الشيعة كثيراً ما يرون الأحاديث النبوية بطرق غير أئمة أهل البيت وأصحابهم، وفقهاء الشيعة يستندون في الأحكام الشرعية إلى الأحاديث المروية ممن خالفهم في المذهب إذا توفرت شرائط الحديث وأسموا أخبارهم بالموثقات). لا للتكفير أراد الإسلام لمجتمعه أن يكون مجتمعاً قائماً على التسامح والرحمة، وان تكون أبواب المجتمع المسلم مفتوحة مشرعة على أبناء البشرية جمعاء لاستقطابهم واحتوائهم تحت راية الإيمان بالله والخضوع لشريعته.. لذلك لم يتشدد الإسلام في وضع شرائط ومؤهلات الانتماء لكيانه الاجتماعي.. فمجرد إعلان الشهادتين (لا إله إلا الله محمد رسول الله) كاف لقبول عضوية الفرد في مجتمع المسلمين، بأن يصبح جزءاً منهم له ما لهم وعليه ما عليهم. ثم يبقى المجال مفتوحا لتفاوت مستوى الإخلاص ودرجات الإيمان والتقوى بين أفراد المجتمع. ولأن في الناس من يحاول إلباس الدين ثوب أنانيته ونظرته الضيقة أو المصلحية فقد حارب الإسلام ورفض أي دور "بوليسي " على بوابة الإسلام، بأن ينصب أحد من نفسه شرطيا يطرد الراغبين في الدخول إلى رحاب المجتمع الإسلامي، أو يحكم بإخراج أحد ممن يعيش في ظلال الإسلام. فبنص قاطع صريح ينهى الله سبحانه وتعالى عن رفض من يتظاهر بقبول الإسلام وان كان ذلك المتظاهر قد خاض لتوه معركة ضد الإسلام وقاتل المسلمين يقول تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا ان الله كان بما تعملون خبيرا) 136. ففي الحرب إذا وجه أحد المحاربين الكافرين تحية الإسلام أي (السلام عليكم) لأحد من المسلمين كإعلان منه بالانتماء للإسلام فيجب على المسلمين قبوله واعتباره فردا منهم مهما كانت دوافعه وخلفياته وسوابقه.. ونستعرض فيما يلي بعض الأحاديث والنصوص وآراء العلماء التي تؤكد تسامح الإسلام وسعة رحاب كيانه الاجتماعي: يقول الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق أحد أعلام السلفيين المعاصرين: إننا نحكم لشخص ما أو لقوم ما بالإسلام إذا ظهر لنا من أحوالهم أو في إشارة ترشد إلى ذلك كأن نجدهم يصلون أو يسيرون في طرقات المسلمين، أو يلبسون ملابسهم، أو يسمون على طعامهم كالمسلمين، أو يشهدون أمامنا أن لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله. والدليل على ذلك أن الله تعالى يقول: (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا)137 وهذا من الله إنكار على بعض المسلمين الذين قتلوا في الحرب رجلا مع رفع يديه مستسلماً للمسلمين شاهداً شهادة الإسلام، ولذلك قال رسول الله (ص) لأسامة بن زيد الذي قتل في الحرب رجلا بعد أن قال لا إله إلا الله: "أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله وما تفعل بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة!! " فقال أسامة يا رسول الله إنما قالها متعوذاً فقال (ص): "هلاّ شققت عن قلبه "!! وذلك أن هذا الرجل الذي قتله أسامة كان قتل طائفة من المسلمين فلما علاه أسامة بالسيف قال: لا إله إلا الله!! وفي هذه قرينة أكيدة تبلغ درجة الدليل أن مثل هذا كافر القلب وإنه لم يقل ذلك إلا خوفا من السيف ومع ذلك أمرنا الرسول أن نكف عنه حتى مع عدم أمننا من انقلابه علينا بعد ذلك وقتاله لنا. وهذا من أعظم الأدلة على أن لا إله إلا الله تحرم علينا دم قائلها حتى لو قطعنا بيقين أنه كاذب في هذه الكلمة. ومن الأدلة أيضاً على وجوب معاملة الرجل معاملة المسلمين حتى لو لم يقم عندنا الدليل على إسلامه حقيقة قول النبي (ص): "و أفش السلام على من عرفت ومن لم تعرف ". ولهذا قبل رسول الله (ص) من كافة الوفود التي جاءته إسلامها وشهد لها بذلك وعاملهم معاملة المسلمين مع أن كثيرا منهم لم يكن الإيمان قد دخل قلوبهم بحد، وكثير!هم كذلك كان جهل حقائق الإيمان، كما قال تعالى: (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم)138 وهذه شهادة من الله سبحانه على أناس انهم لم يدخل الإيمان في قلوبهم بعد ومع ذلك أمرهم سبحانه أن يقولوا: أسلمنا، ولا شك أن قولهم أسلمنا يلزم المؤمنين أن يعاملوهم بالإسلام فيكفوا عن دمائهم ويلقوا عليهم السلام ونحو ذلك من حقوق المسلم على المسلم. بل أمرنا الكتاب والسنة بالحكم بالإسلام لكل من أظهر شيئا من الدين وأعلن الدخول في الإسلام حتى لو كان منافقا كاذبا كالأعراب الذين أعلنوا الإسلام ولم يفهموه ولم يعلموا حقائق الإيمان بعد، وكالمتعوذين الخائفين الذين قد يعلنون الإسلام خوفا من السيف. وكالطامعين المنافقين الذين قد يعلنون الإسلام ويخفون من الكفر ما الله به عليم. وكل أولئك أمرنا الله أن نقبل علانيتهم وندع سرائرهم إلى الله سبحانه وتعالى، كما قبل النبي (ص) علانية المنافقين وعاملهم بذلك، ولم يعاملهم بما أظهر الله سبحانه وتعالى للنبي من أسرارهما، وبما وقف عليه الرسول نفسه من أخبارهم بل ترك معاقبتهم على سوء نيتهم لله سبحانه وتعالى. وفي صحيح البخاري بسنده قال رسول الله (ص): "من شهد أن لا إله إلا الله واستقبل قبلتنا وصلى صلاتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم له ما للمسلم وعليه ما على المسلم. وفيه أيضا بالإسناد إلى أنس قال: قال رسول الله (ص): "من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله فلا تخفروا الله في ذمته). وأخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أسامة بن زيد قال: بعثنا رسول الله (ص) إلى الحرقة فصبحنا القوم فهزمناهم ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، فكف الأنصاري عنه فطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا بلغ النبي (ص) ذلك فقال: يا أسامة أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله قلت: كان متعوذا، قال: فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم. وفي الصحيحين بالإسناد إلى المقداد بن عمرو انه قال: يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلا من الكفار فاقتتلنا فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها ثم لاذ مني بشجرة فقال: أسلمت لله، أ أقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ فقال رسول الله (ص): لا تقتله فان قتلته فانه بمنزلتك قبل أن تقتله- أي أصبح مؤمنا- وأنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال- أي تكون كافرا حربيا-. ويعلق السيد شرف الدين رحمه الله على هذا الحديث قائلا: ليس في كلام العرب ولا غيرهم عبارة هي أدل على احترام الإسلام وأهله من هذا الحديث الشريف، وأي عبارة تكايله في ذلك أو توازنه وقد قضى بأن المقداد على سوابقه وحسن بلائه لو قتل ذلك الرجل لكان بمنزلة الكافرين المحاربين لله ولرسوله، وكان المقتول بمنزلة واحد من أعاظم السابقين وأكابر البدريين الأحديين، وهذه أقصى غاية يؤمها المبالغ في احترام أهل التوحيد فليتق الله كل مجازف عنيد. وعن الإمام جعفر الصادق (ع) في خبر سفيان بن السمط قال: "الإسلام هو الظاهر الذي عليه الناس، شهادة أن لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله (ص) وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وحج البيت وصيام شهر رمضان ". وقال سلام الله عليه في خبر سماعة: "الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله، والتصديق برسول الله (ص)، وبه حقنت الدماء، وعليه جرت المناكح والمواريث، وعلى جماعة الناس ". وقال الإمام محمد الباقر (ع) في صحيح حمران بن أعين من جملة حديث: الإسلام ما ظهر من قول أو فعل، وهو الذي عليه جماعة من الناس من الفرق كلها، وبه حقنت الدماء، وعليه جرت المواريث، وجاز النكاح، واجتمعوا على الصلاة والزكاة والصوم والحج، فخرجوا بذلك عن الكفر وأضيفوا إلى الإيمان.وجاء في "مصباح الفقيه " أحد الكتب الفقهية المعتبرة عند الشيعةلآغا رضا الهمداني في الجزء الثالث من كتاب الطهارة ص 49. من أقر بالشهادتين يعامل معاملة المسلمين من جواز المخالطة والمناكحة والتوارث حتى ولو علم نفات وعدم اعتقاده.وهكذا أراد الإسلام لأبنائه أن يتربوا على سعة الأفق ورحابة الصدر وروح التسامح ليستوعبوا ما قد يحدث بينهم من اختلاف في الرأي وتفاوت في الأفكار.. فما دام الجميع يرفعون شعار الإسلام ويعلنون الالتزام به فهم مسلمون مهما تعددت مذاهبهم وتنوعت فرقهم.. كيف والأصول واحدة متفق عليها بين المذاهب، والأسس واحدة ينطلق منها الجميع. بيد أن مرضا خبيثا تفشى في بعض الأوساط الإسلامية هو مرض التسرع في تكفير من يخالفهم في المذهب أو الرأي، فالإسلام عند هؤلاء المرضى محدود النطاق ضيق الإطار يتلخص فيما يرونه ويعتقدونه ومن حاد عنه قيد شعرة خلعوا عنه رداء الإسلام وحكموا بكفره وزندقته!!الخوارج ابتدعوا التكفير:بعدما اضطر الإمام علي بن أبي طالب (ع) إلى قبول التحكيم في حربه بصفين ضد تمرد معاوية بن أبي سفيان سنة 37 هـ، تكتل جماعة من جيش الإمام علي معلنين مخالفتهم للصلح مع معاوية وقبول التحكيم، وخرجوا على طاعة الإمام وبدءوا تكوين نظرية وفلسفة لخروجهم ورفضهم التحكيم، وتطرفوا في موقفهم إلى حد الحكم بكفر الإمام علي، وشن الحرب ضد حكومته وقتل أتباعه وأصحابه.ويذكر التاريخ بعض موارد ومظاهر تطرفهم منها: أنهم أصابوا في طريقهم مسلما ونصرانيا فقتلوا المسلم لأنه عندهم كافر لمخالفته معتقدهم واستوصوا بالنصراني وقالوا: احفظوا ذمة نبيكم!!وأقبل واصل بن عطاء مسافرا مع رفقة له فاحسن بالخوارج متمركزين في أحد منعطفات الطريق، فأصاب الهلع رفاقه خوفا من بطش الخوارج لكنه طمأنهم بأنه سيؤمن لهم النجاة بادعائه أنه وأصحابه مشركون أمام الخوارج، وبالفعل لم يعتد الخوارج عليهم بل طبقوا عليهم قوله تعالى: (وان أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه) !!139ولقيهم عبد الله بن خباب صاحب رسول الله (ص) في عنقه مصحف وهو راكب على حمار ومعه زوجته وكانت حاملا فقالوا إن هذا الذي في عنقك يأمرنا بقتلك!! وفي هذه الأثناء بادر رجل منهم إلى رطبة سقطت من نخلة فوضعها في فيه فصاحوا به فلفظها تورعا وعرض لرجل منهم خنزير فضربه فقتله. فقالوا: هذا فساد في الأرض وحكموا عليه باسترضاء صاحب الخنزير!!فلما رأى ذلك منهم عبد الله بن خباب قال: لئن كنتم صادقين فيما أرى فما علي منكم بأس إني لمسلم ما أحدثت في الإسلام حدثا ولقد آمنتموني وقلتم لا روع عليك. فقالوا له: ما تقول في علي بعد التحكيم والحكومة؟ قال: إن عليا أعلم بالله منكم وأشد توقيا في دينه وأنفذ بصيرة.قالوا: إنك لست تتبع الهدى إنما تتبع الرجال على أسمائهم، والله لنقتلنك قتلة ما قتلناها أحدا، فأخذوه فكتفوه ثم اقبلوا به وبامرأته وهي حبلى في آخر شهر لحملها فأضجعوه فذبحوه وسال دمه في النهر، واقبلوا إلى المرأة فقالت: إنما أنا امرأة ألا تتقون الله؟ فبقروا بطنها وقتلوها!! كما قتلوا ثلاث نسوة من طيء وقتلوا أم سنان الصيداوية.هكذا ابتلي الخوارج بمرض تكفير المسلمين المخالفين لهم في الرأي وكانت ظاهرة جديدة في الأمة، حيث لم يتجرأ عليها أحد تجلهم مع حصول الاختلاف في الرأي والموقف والذي قد يصل إلى حد الاقتتال كمقتل الخليفة عثمان وحرب الجمل وحرب صفين دون أن يكفر أحد من الطرفين الآخر.وتسرب هذا الداء الوبيل منهم لغيرهم، وصار التكفير سلاحا في معارك الخلاف المذهبي والفكري لدى الفئات المتعصبة المتطرفة، حيث تعتبر كل جهة متعصبة أن الإسلام محصور في عقيدتهم وفهمهم، وان من خالف ذلك الفهم ولو أدنى مخالفة فهو خارج عن حظيرة الإسلام محكوم بالكفر أو الشرك!!فمثلا ينقل عن محمد بن موسى الحنفي قاضي دمشق المتوفى سنة 556 هـ قوله: "لو كان لي من الأمر شيء لأخذت على الشافعية الجزية".كما ينقل عن أبي حامد الطوسي المتوفى سنة 567 هـ قوله: "لو كان لي أمر لوضعت على الحنابلة الجزية "!!ومعنى وضع الجزية اعتبارهم غير مسلمين يعاملون كأهل الكتاب. وحينما طرح إبن تيميه الدمشقي المتوفى سنة 867 هـ أراءه المخالفة لآراء سائر العلماء والمذاهب نودي في دمشق وغيرها من كان على دين إبن تيميه حل ماله ودمه!! يعني انهم كفرة محاربون.على أن الشيخ إبن حاتم الحنبلي يقول: "من لم يكن حنبلياً فليس بمسلم ".وعكسه الشيخ أبو بكر المقري الواعظ في جوامع بغداد ذهب إلى تكفير الحنابلة أجمع.وهذا الشيخ علي بن الحسن الملقب بسيف الدين المتوفى سنة 631 هـ كان حنبليا ثم صار شافعيا وتعصب عليه فقهاء البلاد وحكموا عليه بالكفر والزندقة.ولعل من أعظم تلك الفتن التي وقعت بين المذاهب هي فتنة إبن القشيري الشافعي عندما ورد بغداد سنة 469 هـ وجلس في النظامية وأخذ يذم الحنابلة وينسبهم إلى التجسيم، وكتب إلى الوزير يشكو الحنابلة ويسأله المعونة، وهجم أصحاب القشيري على زعيم الحنابلة عبد الخالق ابن عيسى، ووقع قتال بين الطرفين وأغلق أتباع القشيري الشافعيون أبواب سوق مدرسة النظام، و!حب أبو إسحاق الشيرازي وكاتب فقهاء الشافعية نظام الملك غضبا لتسلط الحنابلة واتسعت الفتنة ونحر الخليفة في حل هذه المشكلة واهتدى إلى سعيه في الصلح، فجمع القشيري وأصحابه وأبا جعفر الشريف زعيم الحنابلة وأصحابه بمحضر الوزير، فقام القشيري رئيس الشافعية والتفت إلى الوزير عندما طلب منه الصلح وقال: أي صلح يكون بيننا؟ إنما يكون الصلح بين مختصمين على ولاية أو دين أو تنازع في ملك، فأما هؤلاء القوم فانهم يزعمون أنا كفار ونحن نزعم أن من لا يعتقد ما نعتقده كان كافرا فأي صلح يكون بيننا؟.محنة خلق القرآن:وفي أواخر القرن الثاني الهجري أثيرت مسألة على بساط البحث بين علماء المسلمين وهي تحديد هوية القرآن هل هو مخلوق محدث أوجده الله أو هو قديم لانتسابه لله سبحانه؟بالطبع ليس لنتيجة البحث هذا أي تأثير على أصول العقيدة ولا برامج التشريع ولا مصالح الحياة، بل هو بحث هامشي لا داعي له لذلك امتنع الأئمة الهداة من الخوض فيه فقد سأل الريان بن الصلت في الإمام علي ابن موسى الرضا (ع): ما تقول في القرآن؟ فقال كلام الله لا تتجاوزوه ولا تطلبوا الهدى في غيره فتضلوا.فالمهم هو الالتزام بالقرآن وعدم الضلال عنه.وحدث سليمان بن جعفر الجعفري قال. "قلت لأبي الحسن موسى بن جعفر(ع): يا ابن رسول الله ما تقول في القرآن؟ فقال اختلف فيه من قبلنا، فقال قوم انه مخلوق، وقال قوم انه غير مخلوق؟ فقال (ع) إما أني لا أقول في ذلك ما يقولون ولكني أقول انه كلام الله ".إن امتناع الأئمة من إعطاء رأيهم الصريح في الموضوع آنذاك إنما هو ابتعاد منهم عن المشاركة في فتنة مشبوهة كما أشار إلى ذلك الإمام علي الهادي ك!م! حيث كتب إلى بعض شيعته ببغداد الرسالة التالية: "بسم الله الرحمن الرحيم. عصمنا الله وإياك من الفتنة فان يفعل فقد اعظم به نعمة، وان لا يفعل فهي الهلكة. نحن نرى الجدال في القران بدعة اشترك فيها السائل والمجيب، فيتعاطى السائل ما ليس له ويتكلف المجيب ما ليس عليه، وليس الخالق إلا الله عر وجل، وما سواه مخلوق، والقرآن كلام الله، لا تجعل له اسماً من عندك فتكون من الضالين جعلنا الله وإياك من الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون ".ولكن هذه المسألة الجزئية الهامشية أصبحت ملاكا واحداً فاضلا بين الإيمان والكفر لدى المتعصبين والمتطرفين فهذا أبو عبد الله محمد بن يحيى الدهلي المتوفى سنة 255 يقول: من زعم أن القرآن مخلوق فقد كفر، وبانت منه امرأته، فان تاب وإلا ضربت عنقه، ولا يدفن في مقابر المسلمين!! وشاع التكفير حتى عند النساء يحدثنا الخطيب في تاريخ بغداد ج 10، ص 74، أن امرأة تقدمت إلى قاضي الشرقية عبد الله بن محمد الحنفي، فقالت: إن زوجي لا يقول بمقالة أمير المؤمنين في القرآن، ففرق بيني وبينه. واتسع الخلاف بين المسلمين من تكفير البعض للبعض فطائفة تقول أن من قال القرآن غير مخلوق فهو كافر، وعليه إبن أبي داوود وجماعته، حتى إن الخليفة الواثق استفك من الروم أربعة آلاف من الأسرى، ولكنه اشترط أن من قال القرآن مخلوق يخلى من الأسر، ويعطى دينارين ومن امتنع عن ذلك فيترك في الأسر ولا يفك، بمعنى انه رتب آثار الكفر على من لم يقل بخلق القرآن). ولما قدم أحمد بن نصر إليه قال له الواثق: ما تقول في القران؟ وكان احمد ممن يذهب إلى أن القرآن غير مخلوق فقال: كلام الله، وأصر على رأيه غير متلعثم فقال بعض الحاضرين: هو حلال الدم! وقال إبن أبي داوود: هو شيخ مختل لحل له عاهة أو تغير عقله، يؤخر أمره ويستتاب! فقال الواثق: ما أراه إلا داعيا للكفرة، ثم دعى بالصمصامة فقال: إذا قمت إليه فلا يقومن أحد معي فإني أتحسب خطاي إلى هذا الكافر الذي يعبد ربا لا نعرفه، ثم أمر بالنكل فأجلس عليه وهو مقيد، وأمر أن يشد رأسه بحبل، وأمرهم أن يمدوه، ومشى إليه برجله وضرب عنقه، وأمر بحمل رأسه إلى بغداد!! أليس مؤلماً أن يسبب الخلاف في الرأي مثل هذه الجرائم المرعبة؟ وأليس عجيبا أن يحدث مثل ذلك في أمة يقوم دينها على التسامح ويدعو إلى الرحمة ويؤكد على حرية الإنسان وكرامته وحرمة المسلم ومكانته؟ وقد نال مذهب الشيعة الإمامية حصة الأسد من فتاوى التكفير التي يصدرها المعصبون البعيدون عن روح الإسلام وأخلاقه وكان من أواخرهم الشيخ (نوح الحنفي) فقد أفتى في كتابه الفتاوى الحامدية بتكفير الشيعة وأوجب قتلهم وأباح سبي ذراريهم ونسائهم سواء تابوا أم لم يتوبوا!!. المتعصبون يشهرون سلاح التكفير وكان مؤملا أن تتجاوز الأمة الإسلامية هذه التفاهات ولتخلص من أمراض القرون الماضية في هذا العصر الحديث، وحيث تواجهها تحديات عظيمة، وتعيش في عصر التقدم العلمي والتكنولوجي، ولكن ما يدعو إلى التألم والأسف ظهور حركات وتوجهات متعصبة تريد إعادة ما حدث في التاريخ من صراعات طائفية مريرة تمزق صفوف الأمة في وقت أحرج ما تكون فيه إلى الوحدة والتماسك لتدافع عن مقدساتها المغتصبة وثرواتها المنهوبة. وعاد سلاح التكفير من جديد تشهره هذه الفئات في وجه من يخالفها المعتقد أو الرأي من المذاهب الإسلامية. ويستنتج الشيخ محمد جواد مغنية بعد مطالعته لأهم كتب المتعصبين ما يلي: "وأهم ما يلفت النظر في هذه الكتب هو الحرص الشديد على تكفير أمه محمد (ص) - غيرهم- حرصا بلغ حد الشهوة أو الانتقام، فمبدأهم الديني والاجتماعي والسياسي هو: إما أن تكون مثلهم، وأما القتل لك، والنهب لأموالك والسبي لذراريك !. كما يشير إلى ذلك الدكتور محمد البهي عند دراسته لهؤلاء بقوله: "وهنا في هذه المبالغة يكمن عامل الفرقة بينهم- المتعصبين- وبين بقية المسلمين، فبينما هم يرون أنفسهم موحدين أو أهل توحيد، ويرون غيرهم- ممن لا يسلك سبيلهم في المبالغة- مشركين، إذا بغيرهم ينظرون إليهم على أنهم أهل تشدد وتزمت، وأصحاب ضيق في الأفق والفهم لهذا الأصل الإسلامي وهو أصل التوحيد، لأن زيارة القبور، أو إقامتها على وجه الأرض سوف لا يعيد الآن مجال وضع الوثنية العربية الأولى على عهد الدعوة الإسلامية ومن ثم لا وجه لخشية الشرك، فضلا عن وقوعه ممن يقيم القبر أو يزوره. والوثنية التي يمكن أن توجد في القرن العشرين ليست وثنية الأحجار أو الأموات، انما وثنية الأحياء أصحاب السلطات والنفوذ. ولا يقضى على هذه الوثنية بالدعوة إلى هدم القبور، وتحريم زيارتها وإنما بتحقيق شعور المساواة بين الحاكم والمحكوم، وبتحقيق الإخاء والتعاون في الإسلام بين الفرد والمجموع وتحقيق بقية المبادئ الإسلامية الأخرى في المجتمع الإسلامي ". خطورة التكفير: منحى التكفير واتهام الناس في أديانهم أمر مرفوض شرعيا وعقليا، والذين كانوا يسلكون هذا المنحى إنما ينطلقون من جهلهم بحقائق الإسلام ومن ابتعادهم عن أخلاقه وتعاليمه الحضارية السامية، وبالتالي فهم يشكلون خطاً شاذاً منحرفاً في ثقافة الأمة وتاريخها. وبمراجعة عابرة لأحكام الإسلام وآدابه، ولسيرة ومواقف أئمة الهدى وعلماء الأمة المخلصين الواعين نكتشف مدى انحرافية ذلك المنحى وانه مظهر لحالات التخلف والانحطاط التي عصفت بالأمة، كما تتجلى لنا حضارية الفكر الإسلامي، وتقدمية مناهجه وسمو أخلاق الملتزمين به. فهذا علي بن أبي طالب (ع) حينما تمرد عليه الخوارج، وهو الحاكم الشرعي المنتخب من جماهير الأمة، ورغم أن الخوارج تجرءوا على الإمام برميه بالكفر والشرك، إلا أنه وانطلاقا من بصيرته الدينية النافذة، وخلقه الإسلامي الرفيع، رفض أن يعتبر الخوارج الذين كفروه كفاراً، أو أن يحكم بخروجهم عن الإسلام.. فضلا عن موقفه وتعامله مع سائر المخالفين المحاربين له. يقول الإمام محمد الباقر (ع): أن جده علياً (ع) لم يكن ينسب أحداً من أهل حربه إلى الشرك ولا إلى النفاق ولكنه كان يقول: (هم إخواننا بغوا علينا). وسئل الإمام علي عن أهل الجمل. أم!ركون هم؟ قال: من الشرك فروا. قيل: أمنافقون هم؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا. قيل: فما هم؟ قال: إخواننا بغوا علينا. وعن كثير بن نمر: بينما أنا في الجمعة وعلي بن أبي طالب على المنبر إذ جاء رجل- من الخوارج- فقال: لا حكم إلا لله، ثم قام آخر فقال: لا حكم إلا لله، ثم قاموا من نواحي المسجد يحكمون الله. فأشار عليهم بيده: اجلسوا. نعم لا حكم إلا لله، كلمة حق يبتغى بها باطل، حكم الله ينتظر فيكم، ألا إن لكم عندي ثلاث خلال ما كنتم معنا: لن نمنعكم مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، ولا نمنعكم فيئا ما كانت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تقاتلوا. ثم اخذ في خطبته. وروى أنه (ع) كان جالسا في أصحابه، فمرت بهم امرأة جميلة، فرمقها القوم بأبصارهم فقال (ع): إن أبصار هذه الفحول طوامح، وان ذلك سبب هبابها فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه فليلامس أهله، فإنما "هي امرأة كامرأته. فقال رجل من الخوارج: قاتله الله كافرا ما افقهه؟ فوثب القوم ليقتلوه لسبه الإمام وتكفيره له. فمنعهم الإمام علي قائلا: رويدا انما هو سب بسب أو عفو عن ذنب. ونقل الغزالي في المستصفى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه استشاره قضاته في البصرة في القضاء بشهادة أهل البصرة من الخوارج أو عدم قبول شهادتهم؟ فأمرهم بقبولها. وموقف الإمام علي هذا إنما هو انعكاس وتجسيد لأخلاق رسول الله (ص) ولتوجيهاته حيث كان يربي أصحابه واتباعه على احترام حقوق الإنسان بشكل عام ورعاية حرمة الفرد المسلم بشكل خاص، وعدم التسرع في اتهامه في دينه. ففي الصحيح بالإسناد إلى ابن عمر"رض " قال: قال النبي (ص) وهو بمنى مشيرا إلى مكة المعظمة: أتدرون أي بلد هذا: قالوا. الله ورسوله أعلم. قال: فان هذا بلد حرام. أتدرون أي يوم هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: إنه يوم حرام. أتدرون أي شهر هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: شهر حرام. ثم قال!: فان الله حزم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. وأخرج البخاري في باب بعث علي وخالد إلى اليمن: أن رجلا قام فقال: يا رسول الله اتق الله. فقال (ص) ويلك ألست أحق أهل الأرض أن يتقي الله؟ فقال خالد: يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟ قال(ص): لا، لعله أن يكون يصلي!! ومثله ما نقله العسقلاني في الإصابة في ترجمة سرحوق المنافق من انه لما أتي به ليقتل قال رسول الله (ص): هل يصلي؟ قالوا: إذا رآه الناس. قال: إني نهيت أن أقتل المصلين!. وفي صحيح البخاري أيضا عن عتبان بن مالك الأنصاري انه أتى النبي (ص) فسأله أن يأتي بيته فيصلي فيه ليتخذه مصلى. قال عتبان: فغدا رسول الله (ص) فصلى بنا ركعتين وحبسناه على جريرة.. إلى أن قال فثاب في البيت رجال ذوو عدد فقال قائل منهم: أين مالك بن الدخشن؟ فقال بعضهم: ذلك منافق لا يحب الله ورسوله. فقال رسول الله (ص): لا تقل ذلك ألا تراه قد قال "لا إله إلا الله " يريد بذلك وجه الله. قال: فأنا نرى وجهه ونصيحته إلى المنافقين. قال رسول الله. فان الله قد حرم على النار من قال "لا إله إلا الله " يبتغي بذلك وجه الله. وكان أبو حامد الغزالي من كبار علماء القرن الخامس الهجري قد عدل عن مذهب الأشاعرة فقامت قيامتهم ضده حتى اتهموه في دينه وحكم بعضهم بكفره، مما دفعه إلى تأليف كتاب ضد منحى التكفير والإرهاب الفكري سماه (فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة) ومما جاء فيه الفقرات التالية: "فاطلب من مناظرك من أي طائفة من طوائف المتكلمين بيان حد الكفر، فان زعم أن حد الكفر هو ما يخالف مذهب الأشعري، أو مذهب المعتزلي، أو مذهب الحنبلي، أو غيرهم فاعلم انه غر بليد، قد قيده التقليد، وناهيك حجة على إفحامه مقابلة دعواه بدعوى خصومه لأنه لا يجد بين طائفة وأخرى فرقا. وأعلم أن شرح ما يكفر وما لا يكفر يستدعي تفصيلا طويلا فاقنع الآن بوصية وقانون. أما الوصية فهي أن تكف لسانك عن أهل القبلة ما داموا قائلين: لا إله إلا الله محمد رسول الله غير مناقضين لها. والمناقضة تحصل بنحو تجويزهم الكذب على رسول الله (ص). أما القانون فهو أن تعلم أن النظريات قسمان قسم يتعلق بأصول العقائد وقسم يتعلق بالفروع. وأصول الإيمان ثلاثة: هي الإيمان بالله، والإيمان برسوله، والإيمان باليوم الآخر، وما عدا ذلك فروع. واعلم انه لا تكفير في الفروع إلا في مسألة واحدة وهي أن ينكر حكما ثبت عن النبي (ص) بالتواتر القاطع، وأجمعت عليه الأمة بسائر طوائفها كإنكار وجوب الصلوات الخمس أو صوم رمضان. أما ما يظن أنه تواتر وهو في الحقيقة ليس منه فهو كثير، حصل في عصور مختلفة، ولكنه لم يحصل به العلم القاطع لدى الجميع... من ذلك ادعاء بعض الشيعة أن هناك نصا من الله سبحانه على أحقية علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالإمامة وأنها فيه وفي ذريته فقط. ويقابل ذلك ما تواتر عند خصومهم بخلاف ما يزعمون.. ومع أننا ننكر قول الشيعة ذلك فإننا لا نكفرهم... ". ويقول الإمام الشهيد حسن البنا: لا نكفر مسلماً أقر بالشهادتين، وعمل بمقتضاهما وأدى الفرائض، برأي أو محصية إلا أن أقر بكلمة الكفر أو أنكر معلوما من الدين بالضرورة، أو كذب صريح القران، أو فسره على وجه لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحال، أو عمل عملا لا يحتمل تأويله غير الكفر" وقد صدر أخيراً كتاب للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق أحد الأعلام السلفيين المعاصرين بعنوان (فصول السياسة الشرعية في الدعوة إلى الله) يتناول بالبحث والتفصيل مسألة تكفير المتظاهرين بالإسلام ويثبت بمختلف الأدلة خطأ وفساد منحى التكفير، إلا أن مشكلة هذا الكتاب تغافله لموضوع التكفير بين المذاهب وعلى أساس الاختلاف في بعض الآراء والعقائد، وهو ما انزلق إليه أغلب السلفيين، وتركيزه على الدفاع عن إسلام الحكام الظاهري وإدانة الحركات الإسلامية الثائرة على الحاكمين الظالمين!! أما الشيخ رشيد رضا فيقوله في صفحة 44 من المجلد السابع عشر من مناره: (إن من أعظم ما بليت به الفرق الإسلامية رمي بعضهم بعضا بالفسق والكفر مع أن قصد كل الوصول إلى الحق بما بذلوا جهدهم لتأييده واعتقاده والدعوة إليه فالمجتهد وان أخطأ معذور). وقال ابن حزم حيث تكلم فيمن يكفر ولا يكفر في صفحة 247 من أواخر الجزء الثالث من كتاب الفصل في الأهواء والملل والنحل ما هذا لفظه: "وذهبت طائفة إلى أنه لا يكفر ولا يفسق مسلم بقول قاله في اعتقاد أو فتيا، وان كل من اجتهد في شيء من ذلك فدان بما رأى أنه الحق فانه مأجور على كل حال، إن أصاب فأجران، وان أخطأ فأجر واحد. قال: وهذا قول ابن أبي ليلى وأبي حنيفة والشافعي وسفيان الثوري وداوود بن علي، وهو قول كل من عرفنا له قولا في هذه المسألة من الصحابة لا نعلم منهم خلافاً في ذلك أصلا".وعن الأوزاعي: والله لئن نشرت لا أقول بتكفير أحد من أهـل الشهادتين.وعن ابن سيرين: أهل القبلة كلهم ناجون.وعن أبي عيينة: لأن تأكل السباع لحمي أحب إلي من أن ألقى الله تعالى بعداوة من يدين له بالوحدانية ولمحمد(ص) بالنبوة. التعصب والإرهاب الطائفيكان "ابان بن تغلب " من خواص تلامذة الإمام جعفر الصادق (ع)، وقد أمره أستاذه الإمام أن يجلس للإفتاء في مسجد المدينة، ولأن السائلين والمستفتين كانوا يختلفون في مذاهبهم ومراجعهم، فقد وجهه الإمام إلى أن لا يقتصر على نقل رأي مذهب أهل البيت أو فتاواهم، بل يفتي السائلين حسب مذاهبهم، يقول له الإمام الصادق (ع): "انظر ما علمت أنه من قولهم فاخبرهم بذلك ".وينقل الشيخ أبو زهرة قصة مشابهة عن تلميذ آخر للإمام جعفر الصادق (ع) وهو مسلم بن معاذ الهروي انه كان يجلس في المسجد ويفتي الناس بأقوال الأئمة جميعا حتى قال له يوما سيدنا جعفر: بلغني أنك تجلس في المسجد وتفتي الناس.أجاب نعم وكنت أود أن أسألك عن ذلك إذ يأتيني الرجل فاعرفه على مذهبكم فأفتيه بأقوالكم، ويأتيني الرجل فاعرفه على غير مذهبكم فأفتيه بأقوالي مذهبه، ويأتيني الرجل فلا أعرف مذهبه- فاذكر له أقوال الأئمة وأدخل قولكم بين الأقوال، فاشرق وجه سيدنا الإمام جعفر رضوان الله عليه وقاله: " أحسنت أحسنت هكذا أنا أفعل ا لأنه كان إذا سئل عن مسألة ذكر كلى أقوال العلماء فيها.وبالفعل كان الإمام جعفر الصادق (ع) إذا طرحت عليه مسألة ذكر آراء مختلف العلماء فيها كما ينقل ذلك بإكبار الإمام أبو حنيفة يقول: إما رأيت. أفقه من جعفر بن محمد لما أقدمه المنصور بعث إلي فقال: يا أبا حنيفة إن الناس قد افتتنوا بجعفر بن محمد فهيئ له من المسائل الشداد، فهيأت له أربعين مسألة، فجعلت القي عليه فيجيبني، فيقول: أنتم تقولون كذا وأهل المدينة يقولون كذا ونحن نقول كذا فربما تابعهم وربما خالفنا جميعا حتى أتيت على الأربعين مسألة، ثم قال أبو حنيفة: ألسنا روينا أن أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس ".إن الإمام جعفر الصادق هو أحد أئمة أهل البيت (ع) ولا شك أنه يعتقد الصواب في رأيه والحق في فتواه ولكن ذلك لا يمنعه من نقل آراء الآخرين وفتاواهم ليعطي للأمة درسا في التسامح وفي احترام الرأي الأخر مهما اختلفت معه.وهناك حديث آخر عن الإمام الصادق نفسه يرويه عن جده علي بن أبي طالب (ع) يفيد مضمونه أن أبواب الجنة مشرعة لجميع المسلمين مهما اختلفت مذاهبهم يقول (ع): "إن للجنة ثمانية أبواب باب يدخل منه النبيون والصديقون، وباب يدخل منه الشهداء والصالحون، وخمسة أبواب يدخل منها شيعتنا ومحبونا، وباب يدخل منه سائر المسلمين ممن يشهد أن لا إله إلا الله ولم يكن في قلبه ذرة من بغضنا أهل البيت "هكذا كان يفكر الخط الواعي في الأمة ويتحامل مع الاختلافات المذهبية بسعة أفق ورحابة صدر، بينما عانت الأمة الويلات والمآسي من تصرفات وممارسات خط التعصب المذهبي والإرهاب الطائفي، أولئك الذين كانوا يعتقدون أن الحق !حصر في آرائهم، والجنة لا تتسع لغيرهم، ويجيزون لأنفسهم محاسبة الناس ومحاكمتهم على اعتقاداتهم وانتماءاتهم، ويعتبرون الرأي الآخر جريمة لا يطيقون سماعه فضلا عن نقله واحترامه.ولكي ندرك خطر هذا الاتجاه وويلاته ومآسيه، ولتتحصن أجواء الأمة من وجوده وانبعاثه المقيت نلتقط من التاريخ البعيد والقريب بعض تلك الجرائم والآلام.تحدث العلامة ابن قدامة المتوفى سنة 620 هـ في مقدمة كتابه المغني عن وجود خطين في الأمة للتعامل مع الاختلاف المذهبي خط التسامح وخط التعصب ومن جملة ما قال:ثم إن كثيرا من العلماء حاولوا أن يجعلوا اختلاف العلماء في مسائل الأحكام رحمة بهذه الأمة، وتحقيقاً ليسر دينها الذي ثبت بنصوص الكتاب والسنة، واتقوا ما حذر الله في كتابه من مضار التفريق والاختلاف الذي أفسد على الأمم السابقة دينها ودنياها، وحذرنا سبحانه وتعالى من أن نكون مثلهم بقوله: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا...- إلى أن قال:- ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات، وأولئك لهم عذاب عظيم)140ولكن المتعصبين للمذاهب أبوا أن يكون الاختلاف رحمة، وتشدد كل منهم في تحتيم تقليد مذهبه، وحرم على المنتمين إليه أن يقلدوا غيرهم ولو لحاجة فيها مصلحتهم، وكان من طعن بعضهم في بحض ما هو معروف في كتب التاريخ وغيرها كالاحياء للغزالي حتى صار بعض المسلمين إذا وجد في بلد يتعصب أهله لمذهب غير مذهبه، ينظرون إليه نظرتهم إلى البعير الأجرب بينهم!!ومن ذلك أن بعض الأحناف من الأفغانيين سمع رجلا يصلي بجواره مأموما يقرأ الفاتحة فضربه بيده على صدره ضربة قوية وقع منها على ظهره حتى كاد يموت!!وان بعضهم كسر سبابة مصل لأنه رفعها في التشهد!! وسئل بعض المتعصبين من الشافعية عن حكم الطعام الذي وقعت عليه قطرة نبيذ فقال عفا الله عنه: يرمى لكلب أو حنفي!! ويقابله قول متعصب آخر حنفي لمن سأله: هل يجوز للحنفي أن يتزوج المرأة الشافعية؟ فقال: إن ذلك لا يجوز لأنها تشك في إيمانها يشير بذلك إلى أن الشافعي يجيز أن يقول المسلم "أنا مؤمن إن شاء الله " ويفتي حنفي آخر بأنه يجوز للحنفي أن يتزوج الشافعية لا على أنها مؤمنة بل بقياسها على الكتابية (اليهودية أو النصرانية) التي تجوز للمسلم بالاتفاق!!ويذكر الرحالة المغربي (ابن بطوطة): انه حين دخل الأناضول، وأراد أن يصلي في إحدى المساجد لم يكد يكبر تكبيرة الإحرام ويشرع في قراءة الفاتحة حتى أحس باللكمات تتساقط عليه من هنا وهناك، فصرخ: يا قوم ماذا جنيت؟ فقالوا: أنت شيعي ترسل يديك في الصلاة!! فقال: بل أنا سني مالكي، وفي مذهبنا إرسال اليدين، فقالوا: أنت كاذب!! فوالله لم يصدقوني حتى ذبحوا لي أرنبا، وأطعموني إياه فأكلته- وكنت جائعا- (باعتبار أن مذهب الشيعة يحرم أكل الأرانب فأرادوا التأكد من عدم تشيعه)!! أما ياقوت الحموي فقد ذكر في معجمه انه في محنة 617 هـ مر على مدينة "ري " فوجد أكثرها خرابأ، ولما سأل بعض عقلائها عن السبب أجاب بأنه كان في المدينة ثلاث طوائف: شيعة وأحناف وشافعية. فتظاهر الأحناف والشافعية على الشيعة، وتطاولت بينهم الحروب، حتى لم يتركوا من الشيعة إلا من نجا بنفسه، ثم وقعت الحرب بين الأحناف والشافعية، فتغلب هؤلاء على أولئك، وهذا الخراب هو في ديار الشيعة والأحناف فقط!!.ويصل التعصب المذهبي بالبعض إلى حد يدفعه للابتعاد عن بعض السنن والأعمال رغم شرعيتها لتداولها عند أهل مذهب آخر خلافا لقوله تعالى (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه)141 فقد ذكر الزرقاني في المواهب اللدنية في صفة عِمة النبي (ص) على رواية علي (ع) في إسدالها على منكبه حين عممه رسول الله (ص) ثم ذكر قول الحافظ العراقي أن ذلك أصبح شعار كثير من فقهاء الإمامية فينبغي تجنبه لترك التشبه بهم!!.وقال الزمخشري في كيفية الصلاة على النبي محمد (ص): وأما إذا أفرد غيره من أهل البيت بالصلاة كما يفرد، فمكروه لأن ذلك صار شعارا لذكر رسولا الله (ص) ولأنه يؤدي إلى الاتهام بالرفض!!.وضمن هذا السياق يقول ابن تيميه في منهاجه عند بيان التشبه بالشيعة: ومن هنا ذهب من ذهب من الفقهاء إلى ترك بعض المستحبات، إذ صارت شعارا لهم، فانه وان لم يكن الترك واجبا لذلك لكن في إظهار ذلك مشابهة لهم، فلا يتميز السني من الرافضي، ومصلحة التمييز عنهم لأجل هجرانهم ومخالفتهم أعظم من مصلحة ذلك المستحب!.هكذا يفعل التعصب بأهله: ترك ما ندب إليه الشرع، إصراراً على إيجاد الحواجز والفواصل بين المسلمين، والدعوة الصريحة إلى التنافر والتهاجر المنهي عنه شرعا بين أبناء الأمة الواحدة.وقال مصنف الهداية من الحنفية: إن المشروع التختم باليمين ولكن لما اتخذته الرافضية جعلناه في اليسار!!.ويقول آخر: إن تسطيح القبور هو المشروع، ولكن لما جعلته الرافضية شعارا لها، عدلنا عنه إلى التسنن!!.هنا ينزلق المتعصبون إلى خطأ جسيم بدافع من طائفيتهم بأن يبتدعوا من أنفسهم حكماً مخالفا لما شرعه الله غافلين عن قوله تعالى: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون)142.وكم من عالم مسلم دفع حياته ثمناً لإبدائه رأيا يعتقده أو فتوى استنبطها لتسلط سيف الإرهاب الطائفي على المجتمع فهذا المولى ظهير الدين الاردبيلي، حكم عليه بالإعدام واتهم بالتشيع- وهو لم يكن شيعيا- وذلك لأنه ذهب إلى عدم وجوب مدح الصحابة على المنبر وانه ليس بفرض، فقبض عليه وقدم للمحاكمة وحكم عليه بالإعدام ونفذ الحكم في حقه فقطعوا رأسه، وعلقوه على باب زويلة بالقاهرة!!.وهذا سليمان بن عبد القوى المعروف بابي العباس الحنبلي المتولد سنة 657 هـ والمتوفى سنة 716 هـ، كان من علماء الحنابلة، ومن المبرزين في عصره، ودرس في أكثر مدارس الحنابلة في مصر، ولكن لأنه مدح الإمام علي بقصيدة، أبدى رأيه حولا منع الخليفة عمر لكتابة الأحاديث بأن ذلك صار سببا لعدم انضباط الأحاديث وضياعها، لذلك اتهم بالرفض وعزر في القاهرة وناله الضرب والسجن والتبعيد عن وطنه، وفصل عن وظيفة التدريس، وكان يستغرب مما نسب إلي? قائلا:حنبلي رافضي ظاهري أشعري إنها إحدى الكبر وذكروا أن محمد بن جرير الطبري صاحب التفسير والتاريخ ألف كتابا في اختلاف الفقهاء ولم يتعرض فيه لآراء الإمام أحمد بن حنبل لأنه يعتبره محدثا أكثر منه فقيها فأساء ذلك الحنابلة، فسألوه عن حديث الجلوس على العرش فقال: انه محال وانشد:سبحان من ليس له أنيس ولا له في عرشه جليس فمنعوا الناس من الجلوس إليه، ومن الدخول عليه، ورموه بمحابرهم، فلما لزم داره، رموه بالحجارة حتى تكدست....تلك كانت بعض اللقطات من ماسي خط التعصب والإرهاب الطائفي والذي كاد أن يغطي صفحات تاريخ الأمة، لولا وعي وتضحيات المخلصين الذين يشكلون خط الوعي والتحرر والانفتاح في تاريخنا الإسلامي، ونحن الآن مطالبون بمتابعة هذا الخط و إحيائه في الواقع المعاصر، والوقوف أمام من يريدون إعادة وتكرار تلك الماسي الطائفية في وقت تشتد فيه حاجة الأمة إلى التماسك والالتحام لمواجهة التحديات الحضارية والأخطار المعادية. الانفتاح الفكري بين المذاهب الإسلاميةما الذي يشد الإنسان المسلم إلى مذهب من المذاهب، أو إمام من الأئمة؟وما الذي يدفعه إلى اعتناق هذه الفكرة أو الالتزام بذلك المنهج؟ المفروض أن الدافع وعنصر الانشداد هو طلب الحقيقة والوصول إلى الرأي الأصح والأصوب عقائديا وتشريعياً لإحراز براءة الذمة ورضا الله سبحانه وتعالى، حيث يتفتح وعي الإنسان المسلم في هذه الحياة فيرى أمامه عدة مناهج وطرق في فهم عقائد الإسلام وتحديد جزئيات أحكامه، وعند الاختلاف فان الحق لا يتعدد خلافا لما يراه المصوبة، فإذا ما جمان هناك أكثر من رأي حول قضية واحدة فلا بد أن بعضها مصيب والآخر مخطئ، كما أن نسبة الصواب والخطأ قد تكون نسبية بين الآراء وعلى أحسن الفروض فان هناك صحيح وأصح وصائب وأصوب، مع قطع النظر عن معذورية المخطئ بل وثوابه ما دام مجتهدا قد بذل غاية وسعه فإن المجتهد إذا أصاب فله أجران وإذا أخطأ فله أجر واحد.وهنا يفترض في المسلم أن يدرس ويتأمل المذاهب والمناهج المطروحة في الساحة الإسلامية ويعتمد على عقله وتفكيره وعوامل الاستدلال والاطمئنان المتوافرة لديه لكي يختار أحد تلك المناهج والمذاهب.وهذا يعني أمرين:الأول: إتاحة الفرصة وتوفر المجال للاطلاع على مختلف الآراء والمذاهب بأن تسود أجواء المجتمع حرية فكرية ثقافية، يتمكن الإنسان عبرها من التعرف على جميع الطروحات والآراء، وهذا ما كان متداولا ومعروفا في العصور الإسلامية الأولى، حيث كانت تتعدد حلقات الإفتاء والتدريس في المساجد العامة وفقا لتعدد المذاهب واختلاف الأئمة، كما كانت تنعقد جلسات المناظرة والحوار وتتداول كتب العقائد والحديث والفقه على رأي مختلف المذاهب والمدارس.بالطبع فإن حرية الفكر والثقافة حق طبيعي للإنسان ومبدأ أساسي من مبادئ الإسلام، وإذا ما انعدمت هذه الحرية الفكرية واستبد بالساحة مذهب واحد ورأي فكري واحد مع حظر باقي المذاهب وقمع سائر ا!دارس ف!نه لا يمكن للمسلم أن يطمئن إلى صحة اختياره وانتخابه للمذهب المفروض عليه بشكل غير مباشر.الثاني: اهتمام المسلم بالبحث الموضوعي وتجرده عن دواعي التعصب والمصلحة، ذلك أن الكثيرين لا يجدون دافعا للبحث والاهتمام مكتفين بما يجدون عليه عوائلهم وأهاليهم، وما يسود في مجتمعهم وبيئتهم.وإذا ما تجاوزنا المسألة الذاتية ومسؤولية الإنسان تجاه نفسه بالبحث عن الحق لاعتناقه والتزامه، فان هناك قضية أخرى ترتبط بموقف الإنسان تجاه الآخرين وإصداره الأحكام على معتقداتهم ومذاهبهم حيث لا يصح له الإطلاق من الجهل والتسرع دون معرفة واطلاع للحكم على الآخرين، يقول تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا) 143إن من أهم عوامل الصراع وسوء التفاهم بين أتباع المذاهب الإسلامية هو الجهل المتبادل وعدم الانفتاح الفكري فيما بينهم حتى على مستوى العلماء والقيادات، حيث يحتفظ كل طرف لنفسه بانطباع وموقف سلبي تجاه الطرف الآخر، دون أن يكف نفسه عناء البحث والتأكد من صحة انطباعه وموقفه وكأنه ليس مسؤولا أمام الله عن سوء ظنه بالآخرين وخطأ حكمه عليهم، أو غير مدرك لما ينتجه هذا الموقف الجاهلي من أخطار وتبعات على وحدة الأمة وتماسك صفوفها.وهذا الجهل وعدم الانفتاح بين المذاهب هو الذي يتيح الفرصة للأعداء والمغرضين ليصطادوا في الماء الحكر، وليشوهوا سمعة كل مذهب أمام المذاهب الأخرى، وليعبئوا كل طائفة تجاه الطوائف ا لأخر ى.يقولا أحد العلماء اللبنانيين وهو يتحدث عن دور الجهل في تعميق الخلاف الطائفي بين السنة والشيعة ما يلي: (وظني أن الكثير من المسلمين لو اطلعوا على ما عليه الشيعة لم يكن منهم إلا المودة والإخاء، حدثني بعض أهل العراق فقال ما مضمونه: لما جاء الترك بجيشهم لمقابلة الإنكليز محاماة عن العراق من جهة البصرة في الحرب الكبرى وكان في جيشهم من ديار بكر والموصل من لا يعرف الشيعة فلما رأوا من علماء الشيعة ورجالها ما رأوا من التزامهم بالصلاة وغيرها من العبادات وإخلاصهم في المدافعة عن بيضة الإسلام وكيان المسلمين، وتفانيهم في المحاباة عن دينهم أخذ يقول بعضهم لبعض العراقيين: إنا ما كنا نعرف الشيعة، ف!ن كان أنتم شيعة فنحن كلنا شيعة). وأعجب من ذلك ما حدثني به بعض الفضلاء عن أحد أعلام الشيعة عن رجل من علماء نابلس انه قال له: (كنا نتقرب إلى الله بدم الشيعي والآن صرنا نتقرب إلى الله بحب الشيعي) ويبدو أن هناك إشكالا عميقا يكمن في مناهج الدراسة في الحوزات والجامعات والمعاهد الدينية، حيث تقتصر كل مؤسسة على تدريس اتجاه معين في العقائد والفقه والعلوم الدينية متجاهلة سائر الاتجاهات والمذاهب، والأخطر من ذلك هو تعبئة الطلاب في كل معهد ديني ضد ما يخالف مذهبه ومنهجه عبر أسلوب التهريج والإسقاط والدعاية السوداء، فيتخرج طلاب العلوم الدينية بفكر منغلق وعقلية ضيقة جاهلين بالرأي الآخر منحازين بتعصب ضده. ولقد حدثنا التاريخ إن الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رأى- قبل أخذه شهادة التدريس- أن يطالع مع بعض الطلاب كتبا منها (شرح العقائد النسفية) للتفتازاني مع حواشيه، وسوغ لنفسه في أثناء ذلك أن يرجح مذهب المعتزلة في بعض المسائل الكلامية، على مذهب الأشعرية، فقامت لذلك ضجة كبرى في الأزهر ووصل الأمر إلى المرحوم الشيخ عليش الكبير، وكان رجلا، حاد المزاج، سريع الغضب، شديد الغيرة على ما يعتقد، فهاج وماج، وأرسل إلى الشيخ محمد عبده، وكلمه في ذلك كلاما شسديدا، وتعصب للشيخ عليش في ذلك طلاب من الأزهر وعلماء، حتى كان الشيخ عبده يفطر إلي اصطحاب عصا معه وهو يقرأ الدرس خوفا على نفسه من اعتداء ذوي العصبية.ويشير العلامة الشيخ محمد جواد مغنية إلى هزه الملاحظة الهامة في مقالة نشرتها مجلة (رسالة الإسلام) المصرية عدد تشرين 1952 م بقوله. (إن الشريعة الإسلامية لم تستخرج من الوهم والخيال بل لها أصول مقررة لا يختلف عليها مسلمان مهما كان مذهبهما وانما الخلاف الجدال بين المذاهب حصل فيما يتفرع عن تلك الأصول، وما يستخرج منها فالحلاقة بين أقوال المذاهب الإسلامية هي العلاقة بين الفرعين المنبثقين عن أصل واحد.ونحن إذا أردنا معرفة إن هذا المذهب على حق في أسلوبه واستخراج ا!كم من مصدره في ون سائر المذاهب فعلينا أن نلاحظ جميع الأقوال المتضاربة حول الحكم وندرسها بطريقة حيادية بصرف النظر عن كل قائل وعن منزلته العلمية والدينية، ثم نحكم بما يؤدي إليه الأصل والمنطق على نحو لو اطلع عليه أجنبي لاقتنع بأنه نتيجة حتمية للأصل المقرر، وبهذا نكون من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.أما من يطلع على قول مذهب من المذاهب، يؤمن به ويتعصب له، لا لشيء إلا لأنه مذهب آبائه ويحكم على سائر المذاهب بأنه بدعة وضلالة فهو مصداق للآية الكريمـــــة (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه اباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون).144وأي فرق بين رجل أفنى العمر في حفظ معتقدات أبيه ودرسها، لا يتجاوزها قيد أنملة، ورجل لم يقرأ ولم يكتب ولم يدرس شيئا ولكن تكونت له من بيته وبينته عادات ومعتقدات؟ أي فرق بين الرجلين حتى يقال: ذاك عالم، وهذا جاهل؟وليس العالم من وثق برأيه ومعتقدات آبائه، وكانت له المقدرة التامة على المحاورة والمداورة، وإنما العالم من فصل الواقع عن ذاته وعاطفته، وفكر تفكيرا حرا مطلقا، لم يتعصب لرأي على رأي، بل يقف من كل قول موقف الشك والتساؤل وان كثر به القائلون وآمن به الأقدمون.إن احترام العالم يقاس باحترامه للحقيقة، فهي ضالته أينما وجدت ولقد أثبتت التجارب إن الاختصاص بعلم من العلوم يحتاج إلى ثقافة عامة ومعرفة نظريات ومبادئ علوم شتى، فكيف يكون الإنسان متخصصا بعلم وهو لا يعرف عنه إلا قول عالم يخالفه فيه كثير من العلماء؟ وأستطيع التأكيد إن من الأجانب من يعرف عن الإسلام وتاريخه وشريحته ورجاله وعقائدهم ما لم يعرفه كثير من متخرجي الأزهر النجف. وانه لغريب إن تقوم جامعتان لهما تاريخهما وغمتهما، احداهما في العراق والثانية في مصر، يبحثان في موضوع واحد، ويهدفان إلي شيء واحد: إلى نشر الشريعة الإسلامية ثم لا يكون بينهما أي نوع من أنواع التعارف والتعاون.إن في كتب الشيعة الإمامية اجتهادات لا يعرفها الخواص من علماء السنة، ولو اطلعوا عليها لقويت ثقتهم بالشيعة وتفكيرهم، وكذا الشأن بالقياس إلى كتب السنة وعلماء الشيعة، إن اطلاع كل فريق على ما كند الآخر من أقوى البواعث على تمهيد السبيل للتقريب بين الأخوة، ص حيث يريدون أو لا يريدون).وقبل الشيخ مغنية بعدة قرون كان العلامة الشاطبي المتوفى سنة 795 هـ يقرع جرس الإنذار هذا بقولة: (إن تعويد الطلاب كلى إن لا طلع إلا على مذهب واحد ربما يكسبه ذلك نافورا وإنكارا لكل م!هـ ب في مذهبه ما دام لم طلع على أدلته، فيورثه ذلك حزازة في الاعتقاد في فضل أئمة أجمع الناس على فضلهم).ووصل الجهل بين المسلمين ببعضهم البعض إلى حد اعتقد فيه بعض ا!صبين أن هناك فوارق تكوينية بين الشيعة وباقي المسلمين وان للشيعة ذنبا في سفل أجسامهم؟ فهل يضحك الإنسان أم يبكي لهذا الجهل المفرط والمتعصب الحاقد. وهناك طريفة ينقلها الاصفهاني في كتابه (المحاضرات) إذ يقول: سئل رجل كان يشهد على آخر بالكفر عند جعفر بن سليمان، فقال: انه معتزلي ناصبي حروري جبري رافضي، يشتم علي بن الخطاب، وعمر بن أبي قحافة، وعثمان بن أبي طالب، وأبا بكر بن عفان، ويشتم الحجاج الذي هدم الكوفة على أبي سفيان، وحارب الحسين بن معاوية، يوم القطائف!! فقال له جعفر بن سليمان: قاتلك الله. ما أدري على أي شيء أحسدك؟ أعلى علمك بالأنساب؟ أم بالأديان؟ أم بالمقالات؟وقد لعب بعض الكتاب والمفكرين دورا مثيرا في تكريس حالة الجهل والتضليل الإعلامي لدى كل مذهب تجاه سائر المذاهب، حيث يقدم أولئك الكتاب صورة خاطئة تنطوي على الجهل والمغالطات عن هذا المذهب أو تلك الطائفة، أما لغرض في نفس الكاتب أو لاعتماده على المصادر المعادية والمناوئة للجهة التي يكتب عنها، أو لتقصيره في البحث والمر ا جعة.فمثلا: حينما يطلع القارئ على كتاب (كشف الظنون على أسامي الكتب والفنون) لمؤلفه الشيخ مصطفى بن عبد الله الحنفي (1017 هـ- 1067 هـ) والمعروف بالحاج خليفة فانه سيعتبره مرجعا ومصدرا في موضوعه، لما فيه من دلالة على سعة اطلاع المؤلف وتقصيه للكتب وفنون المعارف، ولكن القارئ سيصاب بالدهشة حينما يقرأ ما كتبه المؤلف عن المذهبين الأمامي الشيعي والشافعي حيث مزج بينهما بشكل غريب ولننقل جزءا من نصه:قال: (والكتب المؤلفة على مذهب الإمامية الذين ينسبون إلى مذهب أبن إدريس، أعني الشافعي رحمه الله، كثيرة، منها شرائع الإسلام، والذكرى والقواعد، والنهاية... الخ).وقال عند تفسير الشيخ الطوسي، فقيه الشيعة: (هو أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي فقيه الشيعة الشافعي، كان ينتمي إلى مذهب الشافعي المتوفى سنة 460 هـ سماه مجمع البيان لعلوم القران). هذا الخلط والخطأ الذي وقع فيه مؤلف كشف ا!نون لضعف اطلاعه أو عدم دقته في البحث أصبح نظرية يتناقلها بعض الكتاب المعاصرين دون بحث أو تمحيص كالمحامي صبحي محمصاني الذي كتب عن المذهب الشيعي قائلا: (وهذا المذهب لا يختلف كثيرا عن المذهب الشافعي في فروع الفقه). وحتى الذين كتبوا في الفرق والمذاهب لم تأت أغلب كتاباتهم وفقا لقواعد التحقيق الموضوعية والبحث، كما هو الحال! في كتاب (الفرق بين الفرق) لأبي منصور البغدادي، وكتاب (الملل والنحل) للشهرستاني، وكتاب (التبصير) للاسفرائيني، وكتاب (الفصل) لأبي حزم الظاهري. يقول الرازي عند ذكره لكتاب (الملل والنحل) للشهرستاني: إنه كتاب حكى فيه مذاهب أهل العالم بزعمه، ألا انه غير معتمد عليه لأنه نقل المذاهب الإسلامية من الكتاب المسمى ب (الفرق بين الفرق) من تصانيف الأستاذ أبي منصور البغدادي وهذا الأستاذ كان شديد التعصب على المخالفين، ولا يكاد ينقل مذهبهم على الوجه الصحيح، ثم إن الشهرستاني نقل مذاهب افرق الإسلامية من ذلك الكتاب فلهذا السبب وقع فيه الخلل في نقل هذه المذاهب. ويسجل الشيخ محمد شلتوت شيخ الجامع الأزهر هذه الملاحظة على كتب الفرق بقوله: لقد كان أكثر الكاتبين عن الفرق الإسلامية متأثرين بروح التعصب الممقوت، فكانت كتاباتهم مما تورث نيران العداوة والبغضاء بين أبناء الملة الواحدة، وكان كل كاتب لا ينظر إلى من خالفه إلا من زاوية واحدة هي تسخيف رأيه، وتسفيه عقيدته بأسلوب شره أكثر من نفحه، ولهذا كان من أراد الأنصاف لا يكون رأيه عن فرقة من الفرق إلا من مصادرها الخاصة ليكون هذا أقرب إلى الصواب وأبعد عن الخطأ). وقال السبكي في الطبقات عند ذكره لكتاب (الملل والنحل) للشهرستاني: (ومصنف ابن حزم أبسط منه إلا أنه مبدد ليس له نظام، ثم فيه من الحط على أئمة السنة ونسبة الأشاعرة، إلى ما هم بريئون منه، ثم إن إبن حزم نفسه لا يدري علم الكلام حق الدراية على طريق أهله). كما أن لكتابات المستشرقين دورا سيئا في تضليل أفكار المسلمين وتشويه نظرتهم تجاه بعضهم البعض، وكما هو معروف فإن هناك أهدافا سياسية مغرضة وراء حركة الاستشراق، لا بد أن يكون تمزيق شمل الأمة الإسلامية وتعميق الخلافات في صفوفها واحداً من أبرز تلك الأهداف التي تسعى حركة الاستشراق لتنفيذها ثقافيا، من هنا جاءت كتاباتهم عن المذاهب والفرق تخدم هذا التوجه، ومؤسف جدا أن تكون كتاباتهم مصادرا ومراجعا يعتمدها بعض المؤلفين المسلمين لتقييم التيارات والمدارس الإسلامية. ومما يثير الدهشة والاستغراب إن بعض الكتاب يحترفون بعدم اطلاعهم على آراء وكتب الطرف الآخر ولكنهم مع ذلك يسمحون لأنفسهم بإصدار الحكم واتخاذ الموقف المضاد من ذلك الطرف الذي لم يسمحوا منه ولم يطلعوا على حجته، فالعلامة إبن خلدون في مقدمته الشهيرة يعلن إعراضه وعدم قراءته لكتب بعض المذاهب كالشيعة والخوارج ولكنه مع ذلك يكيل لهم القدح والتهم والطعن، قال ما نصه: (وشذ بمثل ذلك الخوارج ولم يحتفل الجمهور بمذاهبهم بل أوسعوها جانب الإنكار والقدح، فلا نعرف شيئا من مذاهبهم ولا نروي كتبهم، ولا أثر لشيء منها الا في مواطنهم، فكتب الشيعة في بلادهم وحيث كانت دولتهم قائمة في المغرب والمشرق واليمن، والخوارج كذلك، ولكل منهم كتب وتآليف وآراء في الفقه غريبة). إننا نعيش الآن عصر العلم والمعرفة، وازدياد حالة الفضول لدى الإنسان للاطلاع على خبايا الكون والحياة، والتعرف على أوضاع الشعوب والقبائل النائية والبعيدة، فهل يصح لنا أن نجهل بحضنا البعض وينغلق كل منا على مذهبه ومعتقداته دون أن يوسع أفق معلوماته بدراسة سائر الآراء والمذاهب والاطلاع على مختلف التيارات والمدارس، لإسلامي!.؟. وكما ينبغي لكل قادر واع أن يسعى للمعرفة والاطلاع، فان على اتباع المذاهب إن يعملوا لتعريف مذاهبهم وتبيين وجهات نظرهم دفعا للتهم والشبهات، فالناس أعداء ما جهلوا. إن ساحتنا الفكرية تعاني من الجمود والتقوقع والإرهاب فلا بد لنا من نهضة ثقافية فكرية نرتفع بها إلى مستوى الانفتاح العلمي والتحرر الفكري والتنافس المعرفي الهادف، حتى تتفجر الطاقات والمواهب وتتبلور الأفكار والآراء، ونستفيد من إيجابيات كل المذاهب الإسلامية لتقديم صورة مشرقة عن الإسلام العظيم للعالم، ولبناء أسس حضارة إسلامية جديدة ترتقبها كل جماهير؟ متنا بشوق ورجاء. إننا بحاجة إلى مؤسسات علمية فكرية تدرس قضايا الدين والحياة على ضوء مختلف المذاهب الإسلامية، وإلى معاهد ومؤتمرات وندوات تخصصية لمناقشة موارد الاتفاق والاختلاف بين طوائف المسلمين بروح موضوعية أخوية. المصادر ا- القران الكريم 2- أصول العقائد في الإسلام ج أ 3- معالم التوحيد في القران 4- موسوعة الفداء في الإسلام ج 1/ 2 5- الغدير ج2 6- مسؤولية الشباب 7- أديان الهند الكبرى 8- الصياغة الجديدة 9- بين علي والثورة الفرنسية 10- ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين 11- الميزان في تفسير القران 12- في ظلال القران ج1 13- ا لإسلام 14- الكامل في التاريخ ج2/ 3 15- الإسلام ومنطق القوة 16- الفكر الإسلامي المعاصر والتحديات 17- الفقه- الجهاد 18- دراسات في ولاية الفقيه ج 2 19- القواعد الفقهية ج 4 20- النظم الإسلامية مجتبى اللاري الشيخ جعفر السبحاني الدكتور أحمد الشرباصي الشيخ عبد الحسين الأميني حسن الصفار الدكتور أحمد شبلي السيد محمد الشيرازي جورج جرداق الشيخ أبو الحسن الندوي السيد محمد حسين الطباطبائي سيد قطب الدكتور أحمد شلبي إبن الأثير السيد محمد حسين فضل الله منير شفيق السيد محمد الشيرازي الشيخ حسين علي المنتظري الشيخ ناصر مكارم الدكتور حسين الحاج حسن 21- النظ?م السياسي في الإسلام 22- شرح رسالة الحقوق ج 2 23- مجلة عالم الفكر 24- نهج البلاغة 25- وسائل الشيعة ج 11 26- قضايا العصر ومشكلات الفكر 27- بحار الأنوار 28- أئمتنا ج1 29- اليهودية 30- شعراء الغري ج 2 31- مجلة دراسات وبحوث (عدد 7 السنة 2) 32- الأصول العامة للفقه المقارن 33- الفكر الإسلامي مواجهة حضارية 34- الاجتهاد أصوله وأحكامه 35- دائرة المعارف الإسلامية الشيعية ج 3 36- ميزان الحكمة 37- المحجة البيضاء ج 3 38- أصول الكافي ج2 39- الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف 40- القرآن والسلطان 41- الإمام الصادق والمذاهب الأربعة 42- السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي 43- المسيحية 44- قصة الديانات 45- مجلة العربي الكويتية الشيخ باقر شريف القرشي السيد حسن القبانجي (العدد 4 المجلد 1) الإمام علي الحر العاملي أنور الجندي الشيخ محمد باقر المجلسي علي محمد علي دخيل الدكتور أحمد شلبي علي الخاقاني جماعة العلماء المجاهدين السيد محمد تقي الحكيم السيد محمد تقي المدرسي السيد محمد بحر العلوم السيد حسن الأمين محمدي الري شهري الفيض ا لكاشاني الكليني الدكتور يوسف القرضاوى فهمي هويدي الشيخ أسد حيدر الدكتور محمد سعيد البوطي الدكتور أحمد شلبي سليمان مظهر (عدد 348) 46- موسوعة الفلسفة ج 2 47- أبحاث في الملل والنحل 48- حياة الإمام موسى بن جعفر 49- أضواء على السنة المحمدية 50- إسلامنا 51- الشيعة في الميزان 52- السنة والشيعة ضجة مفتعلة 3- تاريخ الفرق الإسلامية 54- مجلة التوحيد (عدد 7 السنة 2) 55- فصول من السياسة الشرعية 56- الفصول المهمة 57- الوهابية في الميزان 58- هذي هي الوهابية 59- الفكر الإسلامي في تطوره 60- ما لا يجوز فيه الخلاف بين المسلمين 61- التربية الإسلامية ومدرسة حسن البنّا 62- معجم رجال الحديث ج 1 63- الإسلام بين السنة والشيعة ج 2 64- الحقائق في الجوامع والفوارق 65- مجلة رسالة الإسلام العدد 4 السنة 2 66- سلمان الفارسي الدكتور عبد الرحمن بدوي الشيخ جعفر السبحاني الشيخ باقر شريف القرشي محمود أبو رية مصطفى الرافعي الشيخ محمد جواد مغنية الدكتور عز الدين إبراهيم الشيخ محمد خليل الزين منظمة الإعلام الإسلامي عبد الرحمن عبد الخالق السيد عبد الحسين شرف الدين الشيخ جعفر السبحاني الشيخ محمد جواد مغنية الدكتور محمد البهي الشيخ عبد الجليل عيسى الدكتور يوسف القرضاوي السيد أبو القاسم الخوئي هاشم الدفتر الشيخ حبيب آل إبراهيم دار التقريب بين المذاهب الإسلامية عبد الله سبيتي ـــــــــــــــــــــــ 1 أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة جنوب كالفيورنيا U.S.C / مفكر إسلامي بارز له العديد من الكتب منها:حقوق الإنسان بين شريه الإسلام و الفكر القانوني الغربي 2 (2) سورة الإسراء الآية: 70 3) سورة البقرة آية 30 4) سورة الرحمن الآيتان 3-4 5) سورة البقرة الآية 30 6) سورة الرعد الآية 17 7) سورة هود الآيتان 118-119 8) سورة آل عمران الآية 140 9) سورة الملك الآية 15 10) سورة الحجرات الآية 13 11) سورة المائدة الآية 2 12) سورة الأنفال الآية 25 13) سورة الحديد الآية 25 14) سورة الأنفال الآية 157 15) سورة النساء الآيتان 75-76 16)سورة الحجرات الآية 9 17) سورة الأنبياء الآية 23 18) سورة الروم الآية 30 19) سورة الزخرف الآية 23 20) سورة الزخرف الآية 22 21) سورة البقرة الآية 107 22) سورة الشعراء الآيات 69-74 23) سورة الأنبياء الآيات 68 -69 24) كاتب من أصل هندي ولد 1947 م في بمبي من عائلة مسلمة ولكنه ارتد عن الإسلام حينما درس في المدارس الغربية 25) سورة النحل الآية 125 26) سورة هود الآيات 25-28 27) سورة هود الآية 88 28) سورة البقرة الآية 256 29) سورة الإنسان الآية 3 30) سورة البلد الآية 10 31) سورة يونس الآية 99 32) سورة الغاشية الآيتان 21-22 33) سورة الكهف الآية 29 34) سورة ق الآية 45 35) سورة الكافرون الآية 6 36) سورة البقرة الآية 208 37) سورة الأنفال الآية 61 38) سورة الإنسان الآية 3 39) سورة الكهف الآية 29 40) سورة الكافرون الآية 6 41) سورة الممتحنة الآية 8 42) سورة العنكبوت الآية 46 43) سورة الأنعام الآية 108 44) سورة يونس الآية 32 45) سورة يونس الآية 35 46) سورة الزمر الآية 18 47) سورة الحج الآية 46 48) سورة الأعراف الآية 184 49) سورة النمل الآية 64 50) سورة النحل الآية 125 51) سورة العنكبوت الآية 46 52) سورة الطور الآيات 29-46 53) سورة الصف الآية: 4 54) سورة البقرة الآية 213 55) سورة الشورى الآية: 8 56)سورة يونس الآية: 19 57)سورة هود الآيتان 118 -119 58) سورة الزخرف، الآية: 32. 59) تعليقاً على ما ذكره لشاعر عن الخلاف حول الحسن والقبح تجدر الإشارة إلى أنه يطلق الحسن والقبح على معاني ثلاثة: اثنان منها موضع إتفاق الكلاميين والفلاسفة من المسلمين في إمكان إدراك العقل لها، وواحد منها موضع الخلاف. أما موضع الإنفاق منهما فهما: ا- الحسن بمعنى الملاءمة للطبع والقبح بمعنى عدمها، فيقال مثلاً: هذا المنظر حسن جميل، وذلك المنظر قبيح، أو هذا الصوت حسن وذلك قبيح، ويريدون بذلك أنها ملائمة للطبع أو غير ملائمة. 2- الحسن بمعنى الكمال والقبح بمعنى عدمه، فيقال بأن العلم حسن وان الجهل قبيح، يعني ان العلم فيه كماد للنفس بخلاف الجهل. 60) سورة إبراهيم الآية: 10 61) سورة آل عمران ا\لآية: 163 62) سورة التوبة، الآية 102 63) سورة يوسف، الآية 76 64) سورة الكهف، الآية 65 65) سورة الكهف، الآية 60 66) سورة الكهف، الآية 61 67) سورة الكهف الآيتان 62 - 63 4) سورة الكهف، الآية 64 1) سورة الكهف، الآيتان 65 - 66 2) سورة الكهف الآيتان 66-68 3) سورة الكهف الآية 69 4) سورة الكهف الآية 70 5) سورة الكهف الآية 71 6) سورة الكهف الآية 71 7) سورة الكهف الآية 72 8) سورة الكهف الآية 74 9) سورة الكهف الآية 75 1) سورة الكهف الآية 76 2) سورة الكهف الآية 77 3) سورة الكهف الآية 78 4) سورة الكهف الآية 79 5) سورة الكهف الآيتان 80 - 81 6) سورة الكهف الآية 82 7) سورة الكهف الآية 82 1) الآيات الكريمة من سورة الكهف من آية 60 إلى آية 82 ونقلنا القصة بتصرف من (الميزان في تفسير القرآن) 2) سورة ص الآية 26. 3) سورة الأنبياء الآيتان 78-79 88) سورة النجم الآيتان 3-4. 89) سورة الأنبياء الآية 79. 90) سورة الأنبياء الآية 79. 91) سورة الأنبياء الآية 78. 92) سورة الأنبياء الآية 79. 93) سورة الأنبياء الآية 79. 94) سورة الأنبياء الآية 79. 95) سورة الأنبياء الآية 79. 96) سورة الأنبياء الآيتان 26-27. 97) سورة النجم الآيتان 3-4. 98) سورة الروم الآية 30. 99) سورة البقرة الآية 213 100) سورة يونس الآية 19 101) سورة الأنبياء الآية 92 102) سورة المؤمنون الآية 52 103) سورة المائدة الآية: 2 104) سورة آل عمران الآيتان 102 - 103 105) سورة الحجرات الآية: 10 106) سورة المائدة الآية: 14 107) سورة المائدة الآية 64 108) سورة آل عمران، الآية 103 109) سورة آل عمران، الآية 105 110) سورة الشورى، الآية 13 111) سورة المائدة، الآية 2 112) سورة الأنفال الآية 46 113) سورة المائدة، الآية 91 114) سورة الصف، الآية 4 115) سورة الأنفال، الآية 46 116) سورة الحشر، الآية 10 117) سورة الأعراف الآية:157 118) سورة الغاشية الآيتان: 21 -22 119) سورة ق الآية: 45 120) سورة يونس الآية: 99 121) سورة البقرة الآية: 256 122) سورة الإسراء، الآية 85 123) سورة الكهف، الآية 22 124) سورة محمد، الآية 24 125) سورة ص، الآية 29 126) سورة النساء، الآية 82 127) سورة النحل، الآية 43 وسورة الأنبياء، الآية 7 128) سورة إبراهيم، الآية 36 129) سورة المائدة، الآية 118 130) سورة الزمر، الآيتان 17-18 131) سورة الفاتحة، الآية 5 132) سورة التوبة الآية 80. 133) سورة البقرة الآية: 256 134 ) سورة لقمان الآية: 15 135) سورة الحجر، الآية 9 1) سورة النساء الآية 94 1) سورة النساء الآية 94 2) سورة الحجرات الآية 14 1) سورة التوبة الآية 6 140) سورة آل عمران، الآيات 103 - 105 141) سورة الزمر، الآية 18 142) سورة النحل، الآية 116 143) سورة الإسراء الآية: 36 144) سورة البقرة الآية: 170