(ابتلاءات الأمم) تأملات في الطريق إلى المسيح الدجال والمهدي المنتظر في اليهودية والمسيحية والإسلام نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

(ابتلاءات الأمم) تأملات في الطريق إلى المسيح الدجال والمهدي المنتظر في اليهودية والمسيحية والإسلام - نسخه متنی

سعید ایوب؛ گرداورنده: مركز الأبحاث العقائدية

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید
(ابتلاءات الأمم)
تأملات في الطريق إلى المسيح الدجال والمهدي المنتظر في اليهودية والمسيحية والإسلام
تأليف: سعيد أيوب
سلسلة الرحلة إلى الثقلين (31)
إعداد: مركز الأبحاث العقائدية
تالموضوعات
1دعاء
2المدخل
3المقدمات والنتائج الحقيقية
4حجة الفطرة
5الهداية وأصول الإختلاف
6أضواء على الإلقاءات الشيطانية
7تأملات في الإمتحان والإبتلاء
8الدين الخاتم
9خاتمة المطاف
10حكمة الإخبار بالغيب
11الحجة والأروقة المتصدعة (اليهود والطريق إلى الدجال)
12(أولاً) نقض العهد
13القاعدة والذروة
14التحذيرات
15الإنقلاب على التعاليم
16عهد الهيكل
17(ثانياً) القتال على الملك
18مملكة اسرائيل
19مملكة يهوذا
20نظرات على المسيرة
21(ثالثاً) فتن البحث عن هوية
22فتنة العجل
23فتنة الدماء النقية
24فتنة التأويل
25سقوط في الفتنة
26المسيح عليه السلام وأعمدة الأروقة المتصدعة
27(أولاً) على طريق آل هارون
28الطريق إلى المسيح عليه السلام
29على أبواب المسيح عليه السلام
30(ثانياً) دعوة المسيح عليه السلام
31أصول الدعوة
32الدعوة والمفاصلة
33الدعوة والتحريف
34التبشير بالانتقال
35(ثالثاً) الشك والتقدم إلى الخلف
36أضواء على أقوال المسيح
37الوصايا الأخيرة
38الشك المريب
39التقدم إلى الخلف
40وجاء الحق
41(أولاً) الدعوة الخاتمة وأهل الكتاب
42الدعوة إلى التوحيد
43الدعوة إلى اتباع قبلة الرسالة الخاتمة
44إتباع ملة إبراهيم عليه السلام
45البيان والإنذار
46العنكبوت والدعوة
47(ثانياً) من وصايا الدعوة الخاتمة
48ظل المنزلة الممدود
49أضواء على المنزلة العالية
50الترغيب والترهيب
51رحيل النبي الخاتم
52الطريق إلى المهدي عليه السلام
53(أولاً) نور الظلام
54موكب الحجة
55الإخبار بالغيب
56التحذيرات الذهبية
57(ثانياً) أضواء على المسيرة
58المسيرة بعد وفاة النبي (ص)
59حركة الإجتهاد والرأي
60المقدمات العمرية والنتائج الأموية
61من معالم المسيرة
62(ثالثاً) فجر الضمير
63الظلم والجور
64مسيرات وثنية
65مسيرات عنكبوتية
66مستقر المسيرات الإنحرافية
67القسط والعدل
68فجر الضمير
******************
بسم الله الرحمن الرحيم
دعاء
اللهم لا تعذب عينا تنظر إلى علوم تدل عليك
ولا يدا تكتب في سبيلك
ولا لسانا يخبر عنك
ولا قدما تمشي في خدمتك
سيدي. بعزتك وجلالك لا تدخلني النار
سيدي. لا تدخلني النار. وجميع من قال آمين
المدخل
المقدمات والنتائج الحقيقية
إن للتاريخ حركة. ولمعرفة الحاضر معرفة حقيقية يجب التنقيب في أوراق الماضي. ثم ترتب المعلومات على امتداد الرحلة لاستنتاج المجهولات، والذي فطرت العقول عليه هو أن تستعمل مقدمات حقيقية يقينية لاستنتاج المعلومات التصديقية الواقعية، فالحاضر لا يمكنه الوقوف على حقيقة إلا بالرجوع القهقرى. وبتحليل الحوادث التاريخية للحصول على أصول القضايا وأعراقها. فعند الأصول ترى النتيجة على مرآة المقدمة، ولأن حركة التاريخ على صفحتها الصالح والطالح ويصنع أحداثها المحسن والمسئ. فلا بد من تحديد الدوائر والخطوط بدقة ليظهر أصحاب كل طريق، وظهور هؤلاء على صفحة الحاضر لا يتحقق إلا بعرض حركتهم في أحداث الماضي على قاعدة العلم، ولأن التشريع الديني والتقنين الإلهي هو الذي بني على علم فقط دون غيره، فلا بد من عرض الحركة البشرية على هذا التشريع والتقنين، فعلى قاعدة العلم تظهر حقيقة العمل، والقرآن الكريم قارن العلم بالعمل لتظهر الحقيقة عند المقدمة. ولا يحدث الالتباس أمام الباحث عند النتيجة.
ولكي تحصل على الحقيقة فلا بد من النظر في المقدمة الأزلية التي عندها بدأ الخلق، فعند هذه المقدمة نرى العلم الذي عليه حددت الحركة، وبعد النظر في المقدمة الأزلية نتدفق على المسيرة البشرية، لنبحث عن استقامة الفكر والحركة. وخلوصهما من شوائب الأوهام الحيوانية والإلقاءات الشيطانية.
1 - (حجة الفطرة)
للإنسان مهمة. ومهمته عبادة الله تعالى. قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)(1) والمعنى: أي إنما خلقتهم لأمرهم بعبادتي لا لاحتياجي إليهم(2). وحقيقة العبادة نصب العبد نفسه في مقام الذلة والعبودية وتوجيه وجهه إلى مقام ربه.(3) ولأن العبادة هي الغرض الأقصى من الخلقة. جهز الله تعالى الإنسان بالفطرة وجعل ينبوع دينه سبحانه فطرة الإنسان نفسه، وقضى تعالى بأن تكون الفطرة ضمن النسيج الإنساني لا تتبدل ولا تتغير أبدا، لتكون حجة بذاتها على الإنسان يوم القيامة، وينبوع الدين في الفطرة يشهد به قوله تعالى: (وإذ أخذ الله من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا. أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين).(4) قال المفسرون: إجتمعوا هناك جميعا وهم فرادى، فأراهم الله ذواتهم المتعلقة بربهم، وأشهدهم على أنفسهم (ألست بربكم).
وهو خطاب حقيقي لهم وتكليم إلهي لهم. وهم يفهمون مما يشاهدون أن الله سبحانه يريد منهم الاعتراف وإعطاء الموثق (قالوا بلى شهدنا).
وأعطوه الاقرار بالربوبية. فتمت له سبحانه الحجة عليهم يوم القيامة.
وإن كانوا في نشأة الدنيا على غفلة إلا أنهم إذا كان يوم البعث عادوا إلى مشاهدتهم ومعاينتهم وذكروا ما جرى بينهم وبين ربهم، ولو لم يفعل الله تعالى هذا ولم يشهد كل فرد على نفسه. لأقاموا جميعا الحجة عليه يوم القيامة. بأنهم كانوا غافلين في الدنيا عن ربوبيته. ولا تكليف على غافل ولا مؤاخذة.(5)
فعلى هذه الفطرة يولد الإنسان. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " كل مولود يولد على الفطرة " يعني على المعرفة بأن الله عز وجل خالقه(6) ولما كانت المعرفة قد ثبتت عند المقدمة ونسي الإنسان الموقف في الدنيا وسيذكره في الآخرة، فإن الله سبحانه قد أقام على الإنسان الحجج في الدنيا لقوله على ما ثبت عند المقدمة. وتكون زادا له في سلوكه نحو الآخرة. ومن هذه الحجج ما هو ضمن النسيج الإنساني. قال تعالى:
(ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين)(7) قال في الميزان: أي جهزنا الإنسان في بدنه بما يبصر به فيحصل له العلم بالمرئيات على سعة نطاقها، وجعلنا له لسانا وشفتين يستعين بهما على التكلم والدلالة على ما في ضميره من العلم، وعلمناه طريق الخير وطريق الشر بإلهام منا فهو يعرف الخير ويميزه من الشر. قال تعالى:
(ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها).(8) قال في الميزان: أي إنه تعالى عرف الإنسان صفة فعله من تقوى أو فجور، وميز له ما هو تقوى مما هو فجور.(9)
ومن هذه الحجج أيضا ما هو تحت سقف الكون الواسع.
وجميعها تدعو الإنسان للتقوى في التفكر والتذكر والتعقل للحصول على استقامة الفكر وإصابة العلم. قال تعالى: (هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه).(10)
إن للإنسان هدف وغاية. وكليات دين الله موجودة في فطرة الإنسان. ولا تبدل الفطرة أبدا لأنها حجة بذاتها وإنما يخطئ الإنسان في استعمالها، وعدم الانتباه إلى نداءات الفطرة يؤدي إلى فساد دين الإنسان الفطري. وعندما يفسد الدين لا تتعادل القوى الحسية الداخلية للإنسان. وينتج عن هذا أنه يتبع في عقيدته ما يزينه له الشيطان في الخارج.
2 - (الهداية وأصول الاختلاف)
ركب الله تعالى في الإنسان السمع والبصر والفؤاد، ومن هذا التركيب نشأ فيه قوة الادراك والفكر وبهما يستحضر الإنسان ما هو ظاهر عنده من الحوادث. ويستقرئ ما كان لينطلق إلى ما سيكون. ولأن الإنسان ذو شعور وإرادة. فإن الله تعالى هيا له وجود يقبل الارتباط معه ويستطيع الانتفاع به، قال تعالى: (خلق لكم ما في الأرض جميعا).(11)
وقال: (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض).(12) إلى غير ذلك من الآيات الناطقة بكون الأشياء مسخرة للإنسان.
وبعد قيام الإنسان بواجب الخلافة عند الله في الأرض. واجهت الفطرة أول اختلاف لها على الأرض. ومنشأ هذا الخلاف أن الإنسان موجود اجتماعي. وجد ليساير الأفراد من نوعه يريدون منه ما يريده منهم. ولما كان في الإنسان القوي والضيف والمريض إلى غير ذلك.
ونظرا لتعارض المصالح بين هذا وذاك. ظهر الاختلاف في الأغراض والمقاصد والآمال. وجاء الاختلاف في المعاش وهو الذي يرجع إلى الدعاوى وينقسم به الناس إلى مدع ومدعى عليه. وظالم ومظلوم ومتعد ومتعدى عليه وآخذ بحقه وضائع حقه.
ولأن الإنسان بحسب طبعه وفطرته سائر نحو الاختلاف في المعاش على أرضية الاجتماع المدني. ولأن الفطرة هي الهادية إلى الاختلاف نظرا لتعدد الأغراض وتعدد الأشياء التي سخرها الله للإنسان.
فإنها لم تتمكن من رفع الاختلاف. وكيف تدفع شئ ما تجذبه إليه نفسها. ولأن الفطرة لا تستطيع أن تقدم تشريع يكون على عاتق الناس.
وتأمرهم بإتيان أمور هي الواجبات وما في حكمها وتنهاهم عن أمور هي المحرمات وما في حكمها. استدعى ذلك وضع قوانين إلهية ترفع الاختلافات والمشاجرات في لوازم الحياة. فرفع الله سبحانه هذا الاختلاف بالنبوة والتشريع.
فالاختلاف الأول في أمر الدنيا فطري. وكان سببا لتشريع الدين.
ليكون الدين الإلهي هو السبب الوحيد لسعادة هذا النوع الإنساني والمصلح لأمر حياته. يصلح الفطرة بالفطرة ويعدل قواها المختلفة عند طغيانها. وينظم للإنسان مسلك حياته، ووضع الله سبحانه ما شرع من الشرائع والقوانين على أساس التوحيد. لأن التوحيد هو الحصن الحصين الذي يحفظ الإنسان من الخطأ والزلة، ومن أساس التوحيد بنى الدين أسلوبه الاجتماعي وقوانينه الجارية على أعمدة الأخلاق. ومن هذا الحصن يعرف الناس ما هو حقيقة أمرهم من مبدئهم إلى معادهم ليسلكوا في هذه الدنيا حياة تنفعهم في غد، ويعملون في العاجل ما يعيشون به في الآجل، وليعلموا أن التشريع الديني والتقنين الإلهي هو الذي بنى على علم فقط دون غيره، قال تعالى: (إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون).(13)
وإصلاح الفطرة بالفطرة وتعديل قواها المختلفة عند طغيانها، إصلاح وتعديل داخل في الصنع والإيجاد. قال تعالى: (الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى)(14) قال في الميزان: بين أن من شأنه وأمره تعالى أن يهدي كل شئ إلى ما يتم به خلقه، ومن تمام خلقة الإنسان أن يهتدي إلى كمال وجوده في الدنيا والآخرة. وقال تعالى: (كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك، وما كان عطاء ربك محظورا)(15) وهذه الآية تفيد أن شأنه تعالى هو الامداد بالعطاء يمد كل من يحتاج إلى إمداده في طريق حياته ووجوده ويعطيه ما يستحقه. وإن عطائه غير محذور ولا ممنوع من قبله تعالى. ومن المعلوم أن الإنسان غير متمكن من تتميم هذه النقيصة من قبل نفسه. فإن فطرته هي المؤدية إلى هذه النقيصة. فكيف يقدر على تتميمها وتسوية طريق السعادة والكمال في حياته الاجتماعية. وإذا كانت الطبيعة الإنسانية هي المؤدية إلى هذا الاختلاف العائق للإنسان عن الوصول إلى كماله. وهي قاصرة عن تدارك ما أدت إليه وإصلاح ما أفسدته فالإصلاح - لو كان - يجب أن يكون من جهة غير جهة الطبيعة. وهي الجهة الإلهية التي تأتي عن طريق النبوة بالوحي. والخلاصة: إن نوع الإنسان مستخدم بالطبع. وهذا الاستخدام الفطري يؤديه إلى الاجتماع المدني وإلى الاختلاف في جميع شؤون حياته. ويقضي التكوين والإيجاد رفع هذا الاختلاف وما يترتب عليه. ولا يرتفع إلا بقوانين تصلح الحياة الاجتماعية برفع الاختلاف عنها، وهداية الإنسان إلى كماله وسعادته يتحقق بأحد أمرين: إما بفطرته وإما بأمر ورائه، لكن الفطرة غير كافية فإنها هي المؤدية إلى الاختلاف في المعاش، فوجب أن تكون الهداية من غير طريق الفطرة والطبيعة. وهو التفهيم الإلهي المسمى بالنبوة والوحي.(16)
وبعد نزول التشريع الإلهي. جاء الاختلاف الثاني. وهو الاختلاف في الدين. فعندما أصلحت الأمور ببعث النبيين وإرسال المرسلين. وظهر الانذار والتبشير والثواب والعقاب، جاء الاختلاف في معارف الدين أو أمور يوم القيامة، وترتب على هذا الاختلاف اختلال أمر الوحدة الدينية. وظهرت الفرق والأحزاب وتبع ذلك الاختلاف غيره، ولم يكن هذا الاختلاف الثاني إلا بغيا من الذين جاءهم النبيين بالكتاب ظلما وعتوا منهم. بعد ما تبين لهم أصول الدين ومعارفه وتمت عليهم الحجة.
وعلى هذا فإن المسيرة البشرية عصف بها اختلافان: اختلاف فطري في المعاش وأمور الحياة. ورفع هذا الاختلاف بالدين. ثم اختلاف في نفس الدين. وهذا الاختلاف أوجده العلماء ويستند إلى البغي. وفي هذين الاختلافين يقول تعالى: (كان الناس أمة واحدة. فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس في ما إختلفوا فيه. وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه)(17) قال في الميزان:
ذكر البعض أن المراد بالآية أن الناس كانوا أمة واحدة على الهداية. لأن الاختلاف أنما ظهر بعد نزول الكتاب بغيا بينهم، وقد غفل هذا القائل عن أن الآية تثبت اختلافين اثنين لا اختلافا واحدا. وعن أن الناس لو كانوا على الهداية فإنها واحدة من غير اختلاف. فما هو الموجب بل ما هو المجوز لبعث الأنبياء وإنزال الكتاب. وحملهم على البغي بالاختلاف وإشاعة الفساد؟ وذكر آخرون: أن المراد بالآية: أن الناس كانوا أمة واحدة على الضلالة. إذ لولاها لم يكن وجه لترتيب قوله تعالى: (فبعث الله النبيين.. الآية). وقد غفل هذا القائل عن أن الله سبحانه يذكر أن هذا الضلال الذي ذكره. وهو الذي أشار إليه بقوله سبحانه: (فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه.. الآية). إنما نشأ عن سوء سريرة علماء الدين بعد نزول الكتاب وبيان آياته للناس، فلو كانوا على الضلالة قبل البعث والإنزال وهي ضلالة الكفر والنفاق والفجور والمعاصي، فما المصحح لنسبة ذلك إلى علماء الدين؟.(18)
ويقول صاحب الميزان: قوله تعالى: (وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه) هو اختلاف سابق على الكتاب والمختلفون بهذا الاختلاف هم الناس، وقوله تعالى (وما اختلف فيه) أي في الكتاب (إلا الذين أوتوه) أي الذين حملوه، وهذا الاختلاف لاحق بالكتاب متأخر عن نزوله. والمختلفون بهذا الاختلاف حملته دون جميع الناس، فأحد الاختلافين غير الآخر أحدهما اختلاف عن بغي وعلم والآخر بخلافه.(19)
فالأنبياء والرسل عليهم السلام بعد نزول الكتاب. أقاموا الحجة وشيدوا بناء الوحدة الدينية. ولأن دين الله واحد لا غير ولا تدعو النبوة إلا إليه. فإن الناس إذا كذبوا أحد الأنبياء فقد كذبوا كل الأنبياء في الحقيقة، ولما كان التشريع الديني والتقنين الإلهي يحتاج إلى بيان من الأنبياء والرسل عليهم السلام. فإن الله أيدهم بالعصمة وصانهم من الخطأ والغفلة في تلقي الوحي من الله وحفظه وتبليغه، وقد دل القرآن الكريم على عصمتهم عليهم السلام في قوله تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله)(20) وكما قطع الله تعالى عذر الناس بميثاق الفطرة قطعه أيضا بإرسال الرسل. فقال تعالى: (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل)(21) وفي الآية إشارة إلى عصمتهم عليهم السلام. لأن من المعلوم أن قطع الرسل عذر الناس ورفعهم لحاجتهم. إنما يصح إذا لم يتحقق في ناحيتهم ما لا يوافق إرادة الله ورضاه. من قول أو فعل وخطأ أو معصية. وإلا كان للناس أن يتمسكوا به. ويحتجوا على ربهم سبحانه.
. وبعد إقامة الحجة بواسطة الأنبياء والرسل. جاء الاختلاف في الدين من الذين أوتوه بغيا بينهم. والاختلاف في الدين يخالف الفطرة الإنسانية. ولقد أمر الله تعالى العلماء أن يبينوا الحق وينشروا علمهم بين الناس. وتوعد سبحانه الذين يكتمون ما أنزل الله. قال تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا).(22)
قال في الميزان: أفاد أن كتمانهم إنما هو بعد البيان والتبيين للناس لا لهم فقط. وذلك أن التبيين لكل شخص. إنما يكون باتصال الخبر إلى بعض الناس من غير واسطة وإلى بعض آخرين بواسطتهم بتبليغ الحاضر الغائب والعالم الجاهل، فالعالم يعد من وسائط البلاغ وأدواته كاللسان والكلام، وكتمان العالم علمه هو كتمان للعلم عن الناس بعد أن بينه الله لهم، ولقد عد الله تعالى هذا سببا لاختلاف الناس في الدين وتفرقهم.. وأفاد القرآن أن الاختلاف فيما يشتمل عليه الكتاب، إنما هو ناشئ عن بغي العلماء الحاملين له. فالاختلافات الدينية والانحراف عن جادة الصواب. معلول ببغي العلماء بالإخفاء والتأويل والتحريف وظلمهم. حتى أن الله عرف الظلم بذلك يوم القيامة. فقال: (وأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا)(23) وقد تبين أن الآية التي يقول فيها تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب)(24) مبتنية على قوله تعالى: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه بغيا بينهم)(25) وجزاء هذا البغي بذيل الآية السابقة وهو قوله تعالى: (أولئك يلعنهم الله).(26)
وبالجملة: إن اختلاف الناس في الدين الذي يكون سببا للطغيان والعناد، يختلف عن اختلافهم في أمور الدنيا الذي هو فطري. وجميع الاختلافات والتفرعات التي ظهرت في الأديان. كلها صنيعة الهوى والنفس البشرية. وتعلق بها شوائب الأوهام الحيوانية والإلقاءات الشيطانية.
3 - ( أضواء على الإلقاءات الشيطانية )
كان الاختلاف في الدين مقدمة لظهور الأحزاب والفرق التي أخلت بأمر الوحدة الدينية، والاختلاف في الدين سعى إليه الشيطان منذ اللحظة الأولى بعد أن شملته لعنة الله عندما رفض السجود لآدم، والشيطان قام ببناء منهجه ليعارض به مهمة الإنسان التي خلق من أجلها. وهو قوله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)(27) والمنهج الشيطاني يقوم على عرقلة طريق العبادة. وقد بينه الله تعالى في كتابه فقال: (قال رب بما أغويتني لأزين لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين).(28)
فالزينة التي أودعها الله في الكون لتكون مدخلا للإيمان كما في قوله تعالى: (أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج. والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيب)(29) وقوله: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق)(30) فهذه الزينة وغيرها. قام الشيطان بتزيينها ليكون هذا التزيين مادة للإغواء ثم للاحتناك على طريق عبادة النجوم والكواكب وكافة الأرباب الأرضية.
والزينة والإغواء يخاطبان في الإنسان غرائزه. وعن طريقهما يتم إمداد الفرد بالطاقة العصبية المذمومة للتعبير عن هذه الغرائز، وتتوقف قوة الدفع حسب طبيعة الشئ الذي استمال الغريزة، ومع عملية الدفع تبدأ الاتجاهات. والاتجاهات هي تنظيم مستمر لعمليات الدوافع والانفعالات والإدراك والمعرفة فيما يتعلق بناحية معينة من عالم الفرد، وإذا كان الاتجاه الفطري قد غرست فيه معرفة الله عز وجل ومعرفة الخير والشر، فإن تغيير هذا الاتجاه يكون نتيجة لمعلومات جديدة أفرزتها دائرة التزيين والإغواء. فعلى هذه المعلومات يتغذى الإنسان الضعيف فينقلب مزاجه، ويقصد بالمزاج مجموعة الخصائص الانفعالية. أو بعبارة أخرى مجموعة الصفات التي يتسم بها سلوك الفرد وانفعالاته ودوافعه، ومع هذه الانقلابات تنشأ العواطف التي يقوم عليها صروح الحب في غير الله والعبادة لغير الله. وفوق هذه الصروح تنقسم الحياة الفعلية وفوق هذا الانقسام يكون الاحتناك الشيطاني. وهو قوله تعالى: (قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي، لئن أخرتن إلى يوم القيامة لاحتنكن ذريته إلا قليلا، قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا)(31) قال في الميزان: والاحتناك في الآية: الالجام. وهو من قولهم: حنك الدابة بحبلها أي جعل في حنكها الأسفل حبلا يقودها به.(32) فعلى طريق الاحتناك وهو طريق اللاعبادة واللادعوة واللاشعور.
تبرز القوافل التي على عاتقها يكون تنفيذ البرنامج الشيطاني الذي يعارض به مهمة الإنسان في الأرض. وهو قوله تعالى: (قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم)(33) قال في الميزان: أي لأجلسن لأجلهم على صراطك المستقيم وسبيلك السوي الذي يوصلهم إليك وينتهي بهم إلى سعادتهم.. فالقعود على الصراط المستقيم كناية عن التزامه والترصد لعابريه ليخرجهم منه.(34)
والشيطان لا يتمكن من إكراه الناس على المعصية. وإنما يدعو الناس إلى الضلال فقط. وهو قوله تعالى: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من أتبعك من الغاوين)(35) والشيطان نفسه سيعترف بعدم إكراه الناس على المعصية يوم القيامة. وهو قوله تعالى: (وقال الشيطان لما قضي الأمر أن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم. وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم)(36) وكما ذكرنا أن مجال دعوة وعمل الشيطان هو أحاسيس الناس وعواطفهم ومشاعرهم، لإيجاد الدافع الذي يغير الاتجاه بعيدا عن إتجاه الفطرة.
وجحافل الشيطان تكون أشد عنفا عند الذين آمنوا في حياة الأنبياء. قال تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا)(37) قال في الميزان: ومعنى جعل العدو من المجرمين أن الله جزاهم على معاصيهم بالختم على قلوبهم. فعاندوا الحق وأبغضوا الداعي إليه وهو النبي(38) وقال تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي. إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم آياته والله عليم حكيم. ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد).(39)
قال في الميزان: ومعنى الآية. وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى وقدر بعض ما يتمناه من توافق الأسباب على تقدم دينه وإقبال الناس عليه وإيمانهم به، ألقى الشيطان في أمنيته ووسوس للناس وهيج الظالمين وأغرى المفسدين ليفسدوا الأمر على ذلك الرسول أو النبي ويبطلوا سعيه، ولكن الله يزيل ما يلقي الشيطان ثم يحكم آياته بإنجاح سعي الرسول أو النبي وإظهار الحق. وقيل: والتمني ربما جاء بمعنى القراءة والتلاوة. فيكون معنى الآية على هذا المعنى:
وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تلا وقرأ آيات الله ألقى الشيطان شبها مضللة على الناس بالوسوسة ليجادلوه بها ويفسدوا على المؤمنين إيمانهم، فيبطل الله ما يلقيه الشيطان من الشبه.
4 - ( تأملات في الامتحان والابتلاء)
غرس الله تعالى في أعماق الفطرة معرفته تعالى، وحمل النسيج الفطري إلهاما يميز به الإنسان ما هو تقوى مما هو فجور، ويعرف به طريق الخير وطريق الشر، وخلاصة القول أن الإنسان خلقه الله في أحسن تقويم. وهو قوله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون)(40) قال في الميزان: ومعنى كونه في أحسن تقويم. صلوحه بحسب الخلقة للعروج إلى الأهداف الرفيعة العليا، والفوز بحياة خالدة عند ربه. سعيدة لا شقاوة معها، وذلك بما جهزه الله به من العلم النافع ومكنه من العمل الصالح.
فالإنسان إذا آمن بما عمل وزاول صالح العمل. رفع الله عمله.
كما قال تعالى: (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه)(41) أما إذا وقف الإنسان تحت ولاية الشيطان. فإنه يندرج في أسفل سافلين أي في مقام منحط، والمراد بالسفالة على أي حال. الشقاء والعذاب.
والإنسان ينطلق إلى العلم النافع والعمل الصالح من مخزونه الفطري ومن الدين الذي بعث به الله الأنبياء والرسل عليهم السلام، فالفطرة تربط الإنسان بغاية وجوده. والدين هو الطريقة الخاصة في الحياة التي تؤمن صلاح الدنيا بما يوافق الكمال الأخروي، وشجرة الفطرة والدين تنبت في التوحيد. وأسلوب دين الله وقوانينه الجارية قامت على أساس الأخلاق التي تحفظ الإنسان من الخطأ والزلة، وعلى هذا الأساس الأخلاقي يكون العلم النافع. لأن المعارف الحقة والعلوم المفيدة لا تكون في متناول البشر إلا عندما تصلح أخلاقه.
ولما كان الإنسان قد خلقه الله في أحسن تقويم. وذلك بتآلف العناصر التي يتكون منها. بحيث تتجه اتجاها موحدا نحو غرض معين، ولما كان الإنسان قد أنشأه الله مختارا في فعله. بمعنى أنه يعرف ما هو تقوى مما هو فجور. وله أن يميل في كل عمل إلى كل من جانبي الفعل والترك، فإن تعالى أجرى عليه الامتحان والحكمة في إسكان الله تعالى في الأرض بعد أن زينها سبحانه بجميع اللذائذ المادية، هي امتحان النوع الإنساني فردا فردا لإظهار صلاحية الإنسان الباطنية لاستحقاق الثواب والعقاب، والامتحان ناموس إلهي ولا يستثنى منه المؤمن والكافر والمحسن والمسئ، وكل جزء من أجزاء العالم وكل حالة من حالاته التي لها صلة بالإنسان هي من الوسائل والعوامل التي يمتحن الله البشر بها، وتحت سقف الامتحان يوجد إلقاءات شيطانية نفذت من أودية التزيين والإغواء. وتوجد أعلام الأنبياء والرسل عليهم السلام التي تسوق أتباعها نحو صراط الله العزيز الحكيم، وبين هذا وذاك لا يخفى الحق. لأن الحق لا يخفى بأي وجه وعلى أي تقدير. لأن الحق في النسيج الفطري. ولا يمنع الناس من قبوله والخضوع الباطني أمامه. إلا البغي والظلم والجحود والعناد والاستكبار.
فالإنسان يمتحن فردا فردا ليتلبس السعيد بسعادته والشقي بشقائه والله غني عن العالمين، قال تعالى: (فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها).(42) وقال: (فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها).(43) وقال: (من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها).(44) وقال: (ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين).(45) وقال: (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا)(46) وقال: (ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا).(47)
وإذا كان الإنسان يمتحن داخل وعائه الفردي. فإنه يمتحن أيضا داخل وعائه الاجتماعي، يمتحن شعوبا وقبائل وأمم، قال تعالى: (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات)(48) قال في الميزان: والامتحان يكون فيما أعطى الله وأنعم.
وليست التكاليف الإلهية والأحكام المشرعة إلا امتحانا إلهيا للإنسان في مختلف مواقف الحياة، وفي قوله: (فاستبقوا الخيرات) فتح لأبواب الرحمة، أي فاستبقوا الخيرات وهي الأحكام والتكاليف. ولا تشتغلوا بأمر الاختلافات التي بينكم وبين غيركم.(49)
فلما كان على الفرد حجج من الله. كذلك على المجتمعات حجج من الله. لأن لكل أمة حياة اجتماعية وراء الحياة الفردية التي لكل واحد من أفرادها، ولما كان لكل فرد أجل محدد ومحتوم وله نهاية، فكذلك هناك أجل آخر وميقات أخر للوجود الاجتماعي لهؤلاء الأفراد. للأمة بوصفها مجتمعا ينشئ ما بين أفراده العلاقات والصلات القائمة على أساس من الأفكار والمبادئ، فهذا المجتمع الذي يسمى بالأمة. له أجل وله موت له حياة وله حركة، ولما كان الفرد يتحرك فيكون حيا ثم يموت. فكذلك الأمة تكون حية ثم تموت، وكما أن موت الفرد يخضع لأجل ولقانون ولناموس. كذلك الأمم أيضا لها آجالها المضبوطة، قال تعالى: (لكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون).(50)
وحركة المجتمع تحت سقف الامتحان. حركة تحكمها سنة الاستخلاف وهي السنة التي يمتحن بها الله الحاكم والمحكوم قال تعالى: (ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون)(51) وحركة المجتمعات على امتداد التاريخ الإنساني حركة ناطقة. بمعنى أن الله تعالى جعل الماضي ينطق في الكون ليتدبر الحاضر وهو منطلق نحو المستقبل، قال تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم)(52) فالحاضر إذا تدبر الماضي وجد أن الله تعالى يحيي الذين آمنوا وعملوا الصالحات حياة طيبة غير التي يعطيها للآخرين، وأن الحياة الدنيا التي يعتقد الموجود الحي إنها سعادة لنفسه وراحة لذاته.
إنما تكون سعادة فيها الراحة والبهجة إذا جرت على حقيقة مجراها.
ويجد الحاضر أن العذاب الذي رآه الناس هو نتيجة طبيعية لأعمالهم.
وأن الله لم يهلك أمة إلا بعد الانذار والحجة. وما هلكت أمة إلا بشركها بالله والإعراض عن آياته واستكبارهم في مقابل الحق وتكذيبهم الأنبياء والرسل. فإذا علم الحاضر هذا. استقام تحت مظلة الامتحان.
واستخدم جميع الموجودات واعتبرها وسيلته في الدنيا لبلوغ سعادة الآخرة.
وفي الوقت الذي يدعو فيه القرآن الكريم بتدبر الماضي، فإنه في الوقت نفسه يكشف عن المستقبل عندما يقف كل فرد للحساب أمام ربه. يوم ترى كل أمة جاثية وخشعت الأصوات للرحمن. ففي هذا اليوم يظهر التابع والمتبوع في كل مجتمع على حقيقته. يقول تعالى: (يوم نقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا)(53) وفي مشهد آخر يقول تعالى: (قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون قال اخسئوا فيها ولا تكلمون).(54)
وبالجملة: إن للإنسان هدف واضح ومحدد وهو عبادة الله تعالى. وهذا الهدف الواضح المحدد يملك إمكانية تسمح بتحقيقه. وإن الشيطان لا يملك السلطان الذي يغير هذا الهدف. وإنما يحمل لافتات الزينة والزخرف التي تدعو إلى الضلال. ويوم القيامة يتبرأ الشيطان من الذين اتبعوه.
والخلاصة: قال تعالى: (أفحسبتم إنما خلقناكم عبثا وإنكم إلينا لا ترجعون. فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم)(55) قال في الميزان: " هل تظنون إنما خلقناكم عبثا تحيون وتموتون من غير غاية باقية في خلقكم وإنكم إلينا لا ترجعون " (فتعالى الله...) الآية.
ووصف سبحانه نفسه بأنه ملك وأنه حق وأنه لا إله إلا هو وأنه رب العرش الكريم، فله سبحانه أن يحكم بما شاء من بدء. وعود وحياة وموت ورزق، نافذ حكمه ماضيا أمره لملكه، وما يصدر عنه من حكم فإنه لا يكون إلا حقا فإنه حق ولا يصدر عن الحق بما هو حق إلا حق، ولا يفعل سبحانه إلا حقا. فللأشياء رجوع إليه وبقاء به وإلا كانت عبثا باطلة ولا عبث في الخلق ولا باطل في الصنع.(56)
5 - (الدين الخاتم)
أوجب الله تعالى على نفسه فتح الطريق لعباده وهدايتهم إليه.
فبعث سبحانه الأنبياء والمرسلين حتى لا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، ولأن مجال بحثنا هنا يبدأ من المسيرة الإسرائيلية لنقف على مشروع المسيح الدجال وينتهي إلى الأمة الخاتمة لنقف على مشروع المهدي المنتظر، فإننا سنلقي هنا بعض الضوء على المسيرة الإسرائيلية باعتبار إنها المسيرة السابقة على الدين الخاتم.
وبنظرة سريعة على المسيرة الإسرائيلية، نجد أن الدين الإلهي الذي بعث به موسى عليه السلام. نزل في وقت بدت فيه أعمال الكفار كالحجب المتراكمة والظلمات التي بعضها فوق بعض تخنق نور المعرفة في القلوب. وقامت فيه الحاجة الإنسانية للأمن والطعام بالهبوط بالإنسانية إلى درك أسفل سافلين، ويعود ذلك إلى العقائد التي رفع الشيطان أعلامها حول الأرباب المتعددة من كواكب ونجوم وأصنام وأوثان، ففي الوقت الذي كانت الإنسانية قد اكتسبت شعورا وجدانيا من الواقع يؤثر في سلوكها وشعورها. ويفرغ عليها طابعا خاصا. نزل الدين الإلهي على موسى عليه السلام. ليقود بني إسرائيل إلى صراط الله الحميد ويكونوا هم بدورهم حجة على غيرهم. ولقد أنعم الله تعالى على بني إسرائيل نعما عديدة. تبدأ ببعثة موسى وهدايتهم إلى دين الله.
وتمر بنجاتهم من آل فرعون وتنتهي بإنزال التوراة وتشريع الشريعة التي تزهو بسنة اجتماعية هي أحسن السنن وهي سنة التوحيد. تأمرهم بطاعة الله ورسوله والعدل التام في مجتمعهم وعدم الاعتداء على غيرهم من الأمم.
وفي خيمة الاجتماع بين لهم موسى أن الأخلاق الفاضلة. تحتاج إلى عامل يحرسها ويحفظها في ثباتها ودوامها وهذا العامل هو التوحيد، وبين أن أركان المجتمع الصالح لا تثبت إلا برجال تحددهم الدعوة من صفاتهم الرسوخ في العلم، وأخبرهم أن تفسير أحكام الشريعة موقوفة على هارون وبنيه(57) وفي الوقت الذي كان موسى عليه السلام يبين فيه طريق الخير. أخبرهم بالغيب عن ربه بأنهم سيختلفون من بعده،(58) وسينحرفون(59) وسيفعلون ما يوجب لعنة الله عليهم.(60)
الهوامش
(1) سورة الذاريات آية 56.
(2) تفسير ابن كثير 238 / 4.
(3) تفسير الميزان 388 / 18.
(4) سورة الأعراف آية 172.
(5) الميزان 325 / 8.
(6) المصدر السابق 330 / 8.
(7) سورة البلد آية 7 - 10.
(8) سورة الشمس آية 6.
(9) الميزان 296 / 20.
(10) سورة لقمان آية 11.
(11) سورة البقرة آية 29.
(12) سورة الجاثية آية 13.
(13) سورة يوسف آية 40.
(14) سورة طه آية 55.
(15) سورة الإسراء آية 20.
(16) تفسير الميزان 131 / 2.
(17) سورة البقرة آية 213.
(18) الميزان 125 / 2.
(19) المصدر السابق 127 / 2.
(20) سورة النساء آية 64.
(21) سورة النساء آية 165.
(22) سورة البقرة آية 159.
(23) سورة الأعراف آية 44.
(24) سورة البقرة آية 159.
(25) سورة البقرة آية 213.
(26) الميزان 389 / 1.
(27) سورة الذاريات آية 56.
(28) سورة الحجر آية 39.
(29) سورة ق آية 6.
(30) سورة الأعراف آية 32.
(31) سورة الإسراء آية 63.
(32) الميزان 144 / 13.
(33) سورة الأعراف آية 16.
(34) الميزان 31 / 8.
(35) سورة الحجر آية 42.
(36) سورة إبراهيم آية 22.
(37) سورة الفرقان آية 31.
(38) الميزان 205 / 15.
(39) سورة الحج آية 52 - 53.
(40) سورة التين 5.
(41) سورة فاطر آية 15.
(42) سورة يونس آية 108.
(43) سورة الأنعام آية 104.
(44) سورة فصلت آية 46.
(45) سورة العنكبوت آية 6.
(46) سورة الإسراء آية 72.
(47) سورة الإسراء آية 19.
(48) سورة المائدة آية 48.
(49) الميزان 352 / 5.
(50) سورة الأعراف آية 34.
(51) سورة الأعراف آية 129.
(52) سورة يوسف آية 109.
(53) سورة الأحزاب آية 68.
(54) سورة المؤمنون آية 106.
(55) سورة المؤمنون 115.
(56) الميزان 73 / 15.
(57) أنظر: سفر اللاويين 1 / 9، 8 / 1 - 14.
(58) المصدر السابق 26 / 3 - 8.
(59) التثنية 31 / 4 2 - 29.
(60) المصدر السابق 38 / 15 - 36.
******************
ووقع ما أخبر به موسى عليه السلام، وبرزت قيادات هدفها التصارع على الملك، وكان اختيار هذه القيادات يتم نتيجة لصفات القائد الشخصية وأحيانا الجسمانية، ولم يتطرق الاختيار إلى عامل الأصالة أو المركز الديني، وتحت قيادة هذه الزعامات تسللت ثقافات عبادة العجول وغيرها من الأمم إلى بني إسرائيل، وعندما بعث فيهم داود عليه السلام ساقهم بعيدا عن عبادة المادة ووحد الدولة، ولكن هذا الاصلاح لم يدم طويلا. فبعد سليمان بن داود عليهما السلام انقسمت الدولة إلى مملكتين لا قوة لهما ولا مهابة، كانت مملكة يهوذا في الجنوب وعاصمتها أورشاليم، بينما كانت مملكة إسرائيل في الشمال وعاصمتها (شكيم) ثم (السامرة)، وبين المملكتين اشتعلت الحروب والصراعات، وقامت في كل مملكة العديد من الانقلابات طمعا في الحكم، وكانت هذه الانقلابات تنتهي بمجازر دموية. وفي بعضها كان الطرف المنتصر يقوم بقتل الأسرة المالكة ليقضي على النسل الملكي في المملكة المهزومة، وفي وسط هذا الظلام المتراكم قامت المسيرة الإسرائيلية تحت أعلام المملكتين. بعبادة البعل وبناء المشارف لتقديم الذبائح وصنعوا الشر وحادوا عن طريق الفطرة.
وبينما كانت المسيرة الإسرائيلية تتخبط في دروب الانحراف. جاء ملك آشور على مملكة إسرائيل وقام بسبيهم (عام 721 ق). وجاء ملك بابل على مملكة يهوذا وقام بسبيهم (عام 586 - ق م). وفي أرض السبي تغذت المسيرة الإسرائيلية من الثقافات العنصرية. ومن عقائد لا تؤمن بما وراء الحس. ولا ينقاد أتباعها إلا إلى اللذة والكمال المادي. وفي الحي اليهودي تلبست هذه الثقافات بلباس الدين. وظهرت مقولات الأخبار التي تصف اليهود بأنهم المخصوصون بالكرامة الإلهية لا تعدوهم إلى غيرهم. وبرروا ذلك بأن الله جعل فيهم نبوة وكتابا وملكا.
فلهم بذلك السيادة والتقدم على غيرهم. وأخذوا من أفواه أحبارهم أن الدين الموسوي لا يعدوا بني إسرائيل إلى غيرهم، وعلى هذا فهو جنسية بينهم، ولما كانت هذه الكرامة والسؤدد أمر جنسي خص بني إسرائيل، فالانتساب الإسرائيلي هو مادة الشرف وعنصر السؤدد والمنتسب إلى إسرائيل له التقدم المطلق على غيره. وتحت قيادة الحس والمادة أصبح القوم لا يقبلون قولا إلا إذا دل عليه الحس. وأن يقبلوا كل ما يريده أو يستحسنه لهم كبرائهم من جمال المادة وزخرف الحياة، وعلى امتداد هذا الفقه تناقضت الملكات الإنسانية قولا وفعلا بعد أن كفر أصحابها بنعمة الله، وأنتج هذا التناقض العديد من الفتن المهلكة.
ولأن هذه الفتن تقود أصحابها إلى المسيح الدجال. وقعت المسيرة إلا من رحم الله في شراك الدجال. يقول النبي في صلى الله عليه وآله وسلم " وما صنعت فتنة منذ كانت الدنيا صغيرة ولا كبيرة إلا لفتنة الدجال ".(1)
ومن لطف الله تعالى بعباده بعث فيهم المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام، ولكن بنو إسرائيل كذبوه وطالبوه بأن يعيد لهم الملك إن كان هو المسيح حقا، وهذه الروح الباغية التي دبت في قلوبهم جعلتهم يفسدون في الأرض ويميتوا الروح الإنسانية وآثارها الحاكمة في الجامعة البشرية، وكانت مقولة شعب الله المختار وأرض الميعاد أصل أصيل في الصد عن سبيل الله. لأن الفطرة تقول بأن الأرض لله يورثها الله من يشاء من عباده، والله تعالى لا يصطفي أحدا بالاستخلاف اصطفاءا جزافا ولا يكرم أحدا إكراما مطلقا من غير شرط ولا قيد، لأن الكرامة الإلهية ليست بذاك المبتذل السهل التناول حتى ينالها كل ناعق.
أو يحسبها كل محتال أو مختال كرامة جنسية أو قومية، بل يشترط في نيلها الوفاء بعهد الله وميثاقه والتقوى في الدين، فإذا تمت الشرائط حصلت الكرامة وهي المحبة والولاية الإلهية التي لا تعدوا عباده المتقين. وأثرها النصرة الإلهية والحياة السعيدة التي تعمر الدنيا وتصلح بال أهلها وترفع درجات الآخرة.
وفي الوقت الذي كانت الظلمات فيه بعضها فوق بعض، بعث الله تعالى رسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة الخاتمة إلى الإنسانية جمعاء، ولأن الإنسان كائن حي يرغب ويحس ويدرك وينفعل ويتذكر. ويتعلم ويتخيل ويفكر ويعبر ويريد ويفعل، ولأن العلاقة بين الإنسان وبيئته علاقة أخذ وعطاء وفعل وانفعال وتأثير متبادل وصراع موصول. وهو في تعامله معها يتأثر وينفعل بشتى الانفعالات. ويعبر عن أفكاره ومشاعره باللفظ تارة وبالحركة والإشارة تارة أخرى. ويكد ويسعى ويضرب في الأرض ويندمج في حلقات اجتماعية، فلأجل ذلك وغيره. قامت الرسالة الخاتمة بتوجيه الغرائز والانفعالات الإنسانية، ليتم التآلف بين العناصر المختلفة للشخصية وتتحد ويقوى ما بينها من ارتباطات. لتسلك مسلكا واحدا نحو هدف واحد.
وعلى امتداد عهد البعثة الخاتمة، خاطب القرآن والسنة المطهرة عقل الإنسان ووجدانه. وتم إرشاده إلى معرفة الله والإيمان به، وبينت له العبادات التي تدعم صلة الإنسان بربه وتزكي نفسه وتسمو بروحه، وانطلق الخطاب إلى المجتمع فبينت الأحكام والمبادئ التشريعية الأمور التي تنظم أمر المجتمع تنظيما عادلا متوازنا. وتخلصه من كل أسباب الصراع والانحراف وتتكافأ فيه الفرص لجميع الناس في حدود قدراتهم المختلفة، وأمر الشرع الحنيف برد أي اختلاف إلى الله ورسوله. قال تعالى: (وما اختلفتم في شئ فحكمه إلى الله).(2)
وقال: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا).(3) وأمر الله الذين آمنوا بأن لا يكون لهم اختيار أمام اختيار الله ورسوله. قال تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعصي الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا).(4) وعلى هذا فمن حكم بغير حكم الله ورسوله يكون قد وقف في دائرة من دوائر ثلاث: دائرة الكفر لقوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون).(5) أو دائرة الظلم. لقوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون)(6) أو دائرة الفسق لقوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون).(7) وتحديد كل دائرة يخضع لفقه دقيق عال. فمن أراد الوقوف عليه فليراجع كتب العلماء.
والقرآن الكريم كتاب البعثة الخاتمة. يهدي العقول إلى استعمال ما فطرت على استعماله. وسلوك ما تألفه وتعرفه بحسب طبعها. ويحث حثا بالغا على تعاطي العلم ورفض الجهل. في جميع ما يتعلق بالسماويات والأرضيات والنبات والحيوان والإنسان من أجزاء عالمنا وما وراءه من الملائكة والشياطين وغير ذلك. ليكون ذريعة إلى معرفة الله سبحانه وتعالى، واشترط القرآن التقوى في التفكر والتذكر والتعقل وربط العلم بالعمل. للحصول على استقامة الفكر وإصابة العلم وخلوصه من الأوهام الحيوانية والإلقاءات الشيطانية. والقرآن الكريم يتعرض بمنطقه لجميع شؤون الحياة الإنسانية. ويحكم على الإنسان منفردا أو مجتمعا صغيرا أو كبيرا ذكرا أو أنثى. ويحكم على الحاضر والبادي والعالم والجاهل والشاهد والغائب، في أي زمان كان وفي أي مكان كان، وجميع المعارف الإلهية والحقائق الموجودة في القرآن تستند إلى حقيقة واحدة هي التوحيد.
والدعوة الخاتمة لا تفرق بين أحد من رسل الله، لأن الدعوة الإلهية للبشرية دعوة واحدة، قال تعالى: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله).(8) فأمرت الدعوة بالإيمان بجميع الأنبياء والرسل. لأن من كذب نبي من الأنبياء يكون في الحقيقة قد كذب جميع الأنبياء وفرق بين الله ورسله. قال تعالى: (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا).(9)
وبالجملة:
إن البعثة الخاتمة تقضي بوقوف الاستكمال الإنساني. فعدم نسخ الدين وثبات الشريعة. يستوجب أن الاستكمال الفردي والاجتماعي للإنسان هو هذا المقدار الذي اعتبره القرآن في بيانه وتشريعه، والقرآن كتاب لا يقبل الإبطال والتهذيب والتغيير والنسخ، وثبات الشريعة يفيد بأن الحجة الدامغة قد أحاطت بالناس وهم يسيرون تحت سنة الامتحان لينظر الله إليهم كيف يعملون، وتحت هذه السنة نفى الله الدين الإجباري بعد أن تبين للناس الرشد من الغي. قال تعالى: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها).(10)
6 - (خاتمة المطاف)
قامت الرسالة الخاتمة بإرشاد بني إسرائيل إلى طريق الحق، وقامت بتصحيح ما لديهم من معلومات وما يحتفظون من ذكريات تتعلق بأحداث لم يشهدوها في الماضي، ابتداءا من هجرة إبراهيم عليه السلام إلى الأرض المباركة. ومرورا بخلافة داود عليه السلام وقيام مملكته وبناء سليمان عليه السلام للهيكل. وانتهاء ببعثة المسيح عليه السلام وما انتهت إليه، ولكن الذين كفروا من بني إسرائيل لم ينصتوا إلى الحق الذي أخبرتهم به الرسالة الخاتمة، وركنوا إلى مقولة الأخبار في عهودهم القديمة والتي تقول: إن داود إختاره الله وعينه ملكا. ومملكة داوود هي عنوان ووعاء عهد الله لإبراهيم. وأورشاليم اختارها الله عاصمة لهذا الملك. ولأن داوود هو مؤسس المملكة فهو المسيح المصطفى وعلى الجميع أن يخضعوا لسلطان مملكته الأزلية ولعاصمتها أورشاليم. لأن التعجد لله لا ينفصل عن الولاية للأرض وعاصمتها، ولما كانت المملكة قد زالت على أيدي الغزاة في الماضي. فإن على المؤمنين بها أن يعملوا من أجل عودتها. وأن يظل هذا العمل دائما حتى يأتي المسيح ابن داوود في المستقبل. ليعيد المملكة إلى الوجود ويعيد المجد والرفعة إلى اليهود.
وعندما ركن اليهود إلى هذه المقولة ولم يؤمنوا بالرسالة الخاتمة.
وقالوا يوما: ليس علينا في الأميين سبيل. ويوما آخر: نحن أولياء الله من دون الناس ونحن أبناء الله وأحبائه، ثم راحوا يسعون في الأرض فسادا. وينسبوا إلى الله تعالى ما لا يناسب ساحة قدسه وكبرياء ذاته جلت عظمته، فعندما فعلوا هذا وغيره. لعنهم الله. وألقى سبحانه بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة. وقوله تعالى: (وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة)(11) فيه ما لا يخفى من الدلالة على بقاء أمتهم إلى آخر الدنيا. وحذر الله تعالى المسلمين أن يردوا موردهم فيصيبهم ما أصابهم.
ولما كان الله تعالى قد توعد الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق بصرفهم عن آياته. وهو قوله تعالى: (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنون بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا).(12) ولما كانت في بطن الغيب آيات عندما تأتي لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل. وهو قوله تعالى: (يوم يأت بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا قل انتظروا إنا منتظرون).(13)
ولما كان خروج المسيح الدجال أحد هذه الآيات كما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإن الذين كفروا من بني إسرائيل قد وقعوا في شباك الدجال ولحق بهم الذين اتبعوا سنتهم وأمسكوا بذيولهم.
وإذا كانت النتيجة هي وقوعهم في شباك المسيح الدجال. فإن ذلك يستقيم مع ما قدموه لأنفسهم عند المقدمة. حيث لم ينقادوا إلا إلى اللذة والكمال المادي وما يستحسنه لهم كبرائهم. وعلى هذا الطريق نسجوا للبشرية شباكا من الفتن المتعددة. ومن صنع فتنة وقع فيها. قال تعالى: (لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون. وحسبوا أن لا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما يعملون)(14) قال في الميزان: والفتنة هي المحنة التي تغر الإنسان. أو هي أعم من شر وبلية. والعمى هو عدم إبصار الحق وعدم تمييز الخير من الشر. والصمم عدم سماع العظة وعدم الأعباء بالنصيحة. وهذا العمى والصمم معلولا حسبانهم أن لا تكون فتنة.
والظاهر أن حسبانهم ذلك معلول ما قدروا لأنفسهم من الكرامة بكونهم من شعب إسرائيل. وأنهم أبناء الله وأحباؤه فلا يمسهم السوء وإن فعلوا وارتكبوا ما ارتكبوا. ومعنى الآية: أنهم لمكان ما اعتقدوا لأنفسهم من كرامة التهود. ظنوا أن لا يصيبهم سوء أو لا يفتنون بما فعلوا. فأعمى ذلك الظن والحسبان أبصارهم عن إبصار الحق. وأصم ذلك آذانهم عن سماع ما ينفعهم من دعوة أنبيائهم.. على أن الله تعالى فتح لهم أبواب التوبة فرفع هذا الحسبان عن قلوبهم والعمى والصم عن أبصارهم وآذانهم.. ونجا بالتوبة بعضهم، وعلى امتداد المسيرة اعتقدوا ما اعتقدوه لأنفسهم من قبل كرامة التهود. وظنوا أن لا يصيبهم سوء أو لا يفتنون. فعموا وصموا كثيرا منهم.(15)
فعند بداية الطريق جهر الأنبياء بما ينفع المسيرة، وحذروا من الفتن التي تلقي بأصحابها تحت أقدام المسيح الدجال آخر الزمان، يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " إن الله لم يبعث نبيا إلا إمته الدجال(16) " وقال: "... وما صنعت فتنة منذ كانت الدنيا صغيرة ولا كبيرة إلا لفتنة الدجال "(17) وقال:
" إنه لم تكن فتنة في الأرض منذ ذرأ الله ذرية آدم أعظم من فتنة الدجال ".(18) ولكن المسيرة الإسرائيلية لم تنصت في نهاية المطاف إلى تحذيرات الأنبياء، ومع تحريفهم المستمر للأصول التقطوا تحذير الدجال ووضعوا عليه لباس التبشير، وذلك عندما وجدوا أن ما معه يلتقي مع فقه الحسن والزينة الذي تشربوا أصوله من أفواه الأخبار، ولقد صرحوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنهم ينتظرون أميرا يملكون به الأرض.(19) وما هذا الأمير إلا المسيح الدجال. وسنبين ذلك في موضعه إن شاء الله.
لقد عموا وصموا ولم ينفعهم ما قدروا لأنفسهم من الكرامة بل أعماهم وأوردهم مورد الهلكة والفتنة، لأن ما قدروه لأنفسهم لم تنطق به الفطرة ولا شرائع الأنبياء ولا حركة التاريخ.
وإذا كنا قد ألقينا شعاعا من الضوء على مسيرة الدجال. فإننا في هذا المدخل نلقي شعاعا آخر على مسيرة المهدي المنتظر التي حددها الدين الخاتم. وفي البداية نقول: لما كان الدجال شر مخبوء في بطن الغيب يلتقط الانحراف وأصحابه آخر الزمان، فإن المهدي المنتظر هو الخير المخبوء في بطن الغيب ومعسكره هو الذي سيواجه معسكر الدجال آخر الزمان، وبين المعسكرين ستدور معارك الفطرة والقدس، ومن عدل الله أن جعل أمام الشر المخبوء خير مخبوء آخر الزمان.
ليكون في ذلك حجة على جبين المستقبل. وهذا من سنن الوجود قال تعالى: (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق).(20)
ولما كان الخير المخبوء والشر المخبوء يقرأ الحاضر أحداثهما كما رواها الأنبياء والرسل عليهم السلام وذلك لينظم الحاضر خطواته في إتجاه الطريق الصحيح. وهو يسير تحت سقف الامتحان والابتلاء لينظر الله إلى عباده كيف يعملون. فإن الحاضر إذ لم يصحح خطواته في يومه فلن ينفعه أن يصحح خطواته عند ظهور الأحداث واشتعال الملاحم في المستقبل، وذلك لأنه سيكون قد ارتبط ارتباطا وثيقا بما يعتقد من انحرافات سياسية واقتصادية واجتماعية، وهذا الارتباط يدعمه المسيح الدجال. الذي قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في فتنته " ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة أمر أكبر من الدجال ".(21)
والقرآن الكريم أشار إلى آيات وفتن وملاحم وأحداث مستقبلية، وأخبر بأن الذين كفروا لن ينفعهم إيمانهم يومئذ. قال تعالى: (ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين. قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون).(22) قال المفسرون: معنى الفتح إزالة الإغلاق والإشكال.
وذكر ابن كثير. أن هذا الفتح لم يكن هو فتح مكة على زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما هو فتح ما زال في بطن الغيب. وقال تعالى:
(يوم يأت بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا قل انتظروا إنا منتظرون).(23) قال في الميزان: إن الآية تتضمن تهديدا جديا لا تخويفا صوريا فالإيمان لا ينفع نفسا لم تؤمن قبل ذلك اليوم إيمان طوع واختيار، أو آمنت قبله ولم تكن كسبت في إيمانها خيرا ولم تعمل صالحا. بل انهمكت في السيئات والمعاصي. إذ لا توبة لمثل هذا الإنسان، قال تعالى: (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن).(24) فالنفس التي لم تؤمن من قبل إيمان طوع ورضى. أو آمنت بالله وكذبت بآيات الله ولم تعتن بشئ من شرائع الله واسترسلت في المعاصي الموبقة. ولم تكتسب شيئا من صالح العمل فيما كان عليها ذلك. ثم شاهدت البأس الإلهي فحملها الاضطرار إلى الإيمان لترد به بأس الله تعالى لم ينفعها ذلك. ولم يرد عنها بأسا ولا يرد بأس الله عن القوم المجرمين.. وفي الآية دلالة على أن هذه الأمة سيشملهم القضاء بينهم بالقسط والحكم الفصل مما لا سترة عليها. كقوله: (ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون. ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل - إلى أن قال - ويستنبئونك أحق هو. قل أي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين)(25) إلى آخر الآية.
ولما كان الطريق إلى المسيح الدجال هو طريق التزيين والإغواء والاحتناك. ورموزه هم أئمة الضلال على امتداد التاريخ الإنساني، فإن طريق المهدي المنتظر هو طريق الفطرة الذي يحمل أعلام التوحيد والأخلاق، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم حدد طريق المهدي تحديد دقيق، فبين أنه يحمل أعلام القسط والعدل آخر الزمان، يقول عليه الصلاة والسلام "لا تقوم الساعة حتى تملأ الأرض ظلما وجورا وعدوانا، ثم يخرج من أهل بيتي من يملأها قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا "(26) وبين أن المهدي من ولد فاطمة عليها السلام، فقال " المهدي من عترتي من ولد فاطمة ".(27) وأخبر بأن طريق المهدي هو الطريق المنصور. لا يضر أتباعه من عاداهم أو من خذلهم، قال عليه الصلاة والسلام " لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله ".(28)
وطريق المهدي رموزه هم أئمة الهدى. فعن جابر بن سمرة قال. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " يكون من بعدي اثنا عشر أميرا " قال: ثم تكلم بشئ لم أفهمه. فسألت الذي يليني فقال: " كلهم من قريش "(29) ولما كان النبي قد ذم قريش وغلمانها في بعض الأحاديث. فلا يمكن فهم هذا الحديث إلا في ضوء الذين لم يذمهم النبي من قريش. وأيضا في النظر في أصول الدعوة الإلهية، وقد علمنا من هذه الأصول أن العلم بالله هو أشرف العلوم. لأن الله هو أشرف معلوم على الاطلاق، وهذا العلم لا يبوح بأسراره إلا لأهله، ولهذا وضعت النبوة أهل هذا العلم على ذروة المسيرة من بعدهم، لكي يحفظوا الدين من شطحات المنافقين وأحبار وعلماء السوء، ووجدنا في التوراة الحاضرة أن موسى عليه السلام أوقف هذا العلم على هارون وبنيه لا يتعداهم إلى غيرهم، فهم وحدهم الذين يفسرون الشريعة للشعب.(30) وعندما بغى بني إسرائيل على الراسخين في العلم. ضلوا وأضلوا كما بينا.
ولم يشذ الدين الخاتم عن هذه القاعدة لأن الدعوة الإلهية دعوة واحدة، وفي أحاديث كثيرة ربط النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين أهله بالكتاب ومن هذه الأحاديث قوله: " إني تارك فيكم خليفتين. كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض. أو ما بين السماء إلى الأرض. وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يتفرقا حتى يردوا على الحوض ".(31) وفي أحاديث أخرى ربط النبي في صلى الله عليه وآله وسلم بينه وبين علي بن أبي طالب. كما ربط موسى عليه السلام بين نفسه وبين هارون أخيه، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي " أنت مني بمنزلة هارون من موسى. إلا أنك لست نبيا. إنه لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي في كل مؤمن من بعدي ".(32)
ولما كانت منزلة علي بن أبي طالب من النبي صلى لله عليه وآله وسلم كمنزلة هارون من موسى، ولما كان أهل موسى من ذرية هارون هم وحدهم أهل الاختصاص بتفسير الشريعة، وأهل محمد صلى الله عليه وآله وسلم . هم وحدهم مع القرآن الكريم في حبل واحد ولن يفترقا حتى يردوا على الحوض، فعلى هذا يمكن فهم حديث الاثني عشر أميرا السابق ذكره والذي روي بألفاظ متعددة. ومنها قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم " إن عدة الخلفاء بعدي عدة نقباء موسى "(33) وفي رواية " اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل ".(34)
والأمة الخاتمة امتحنها الله تعالى بأهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما امتحن سبحانه بني إسرائيل بأهل بيت موسى من بعده، وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " أذكركم الله في أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي "(35) وقال " يا أيها الناس إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي ".(36) وانطلقت المسيرة تحت مظلة الامتحان. لينظر الله تعالى إلى عباده كيف يعملون. بعد أن استخلفهم كما إستخلف الذين من قبلهم، ومن معجزات النبوة قوله صلى الله عليه وآله وسلم " لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر. وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لاتبعتموهم " قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى.
قال " فمن "(37) المراد بالشبر والذراع وجحر الضب التمثيل بشدة الموافقة لهم، وسيأتي تفصيل ذلك كله في موضعه من هذا الكتاب.
وكل مقدمة أول الزمان ستلحق بها نتيجتها آخر الزمان، والناس في بداية الطريق. يعرفون طريق الخير وطريق الشر. ولكن للأهواء زخرف وزينة. ومع الأهواء يسيرون في طريق لا يرون إلا بدايته أو وسطه ولا يرون في نهاية الطريق، لأن نهاية الطريق لا ترى إلا بعد أن تجئ.
7 - (حكمة الإخبار بالغيب)
الإخبار بالغيب من الأمور التي يمتحن الله تعالى بها عباده. قال تعالى: (وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز)(38) قال في الميزان: المراد بنصره ورسله. الجهاد في سبيله دفاعا عن مجتمع الدين وبسطا لكلمة الحق، والمراد بعلمه بمن ينصره ورسله تميزهم ممن لا ينصر، وقوله تعالى: (إن الله قوي عزيز) إشارة إلى إن أمره بالجهاد إنما هو ليميز الممتثل منهم من غيره، لا حاجة منه تعالى إلى ناصر ينصره. إنه تعالى قوي لا سبيل للضعف إليه. عزيز لا سبيل للذلة إليه.(39)
وعلى طريق الإخبار بالغيب يكون الثواب والعقاب في الحياة الدنيا والآخرة. ومن الذين يدخلون إلى دائرة الأمان كل من تحرك الحركة الصحيحة نحو الأحداث التي تستقبل الناس والتي أخبر بها الأنبياء والرسل. قبل أن تأتي آيات الله لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا، فدائرة الأمان يدخلها من تعامل مع الإخبار بالغيب تعامل المتفكر المتذكر لتكون حركته في الدنيا مرتبطة بالله تعالى. وفي الآخرة يدخل الذين يخشون ربهم بالغيب. والذين أخذوا بأسباب الحياة الكريمة في مغفرة الله جل وعلا. قال تعالى: (إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير)(40) قال في الميزان: وعد سبحانه خشيتهم بالغيب. لكون ما آمنوا به محجوبا عنهم تحت حجب الغيب.
والله تعالى يعلم الغيب لذاته قال سبحانه (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو)(41) فالآية أفادت معنى الأصالة، فعلم الغيب في الأصل يختص بالله تعالى وغيره يعلمه منه سبحانه، وهو سبحانه يظهر لرسله ما شاء من الغيب. قال تعالى: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول).(42)
وإخبار الأنبياء والرسل بالغيب عند ربهم. فيه لطف من الله لعبادة وهم تحت سقف الامتحان والابتلاء، فالله يعلم أن عباده يجهلون أكثر مصالحهم وطرقها في الحياة، ولذا سن سبحانه الشرايع وما فيه خيرهم.
ليدلهم على الصراط المستقيم والسعادة الدائمة ويزجرهم عما فيه الفساد، ولعلمه سبحانه أن أكثر عباده لا يطيعونه فيما شرع لهم، أظهر لرسله بعض ما يستقبل الناس من أحداث في الدنيا والآخرة، ليكون هذا الإخبار بالغيب حجة وسراج يهدي إلى الطريق المستقيم. ليهلك من هلك عن بينة، والإخبار بالغيب في خطوطه العريضة لطف ورحمة. ولا يرفع هذا اللطف وهذه الرحمة أن يكون العباد متمرسين على طاعته سبحانه غير منقادين إلى أوامره ونواهيه، لأنه سبحانه اللطيف بعباده الجواد الكريم. يلطف ويأمر بالطاعة لأنه مريد لها وينهى عن المعصية لأنه كاره لها.
ومنهج البحث في هذا الكتاب يتخذ من الإخبار بالغيب عمودا فقريا للوصول إلى الحقيقة التي يجلس على قمتها آخر الزمان " المهدي المنتظر " رمزا لطائفة الحق. و " المسيح الدجال " رمزا للانحراف والشذوذ، ومعنى تتبع الإخبار بالغيب للوصول إلى الحقيقة، هو إيماني بأن النبوءة هي التي تفسر التاريخ وليس العكس، فالأنبياء يخبرون بالغيب عن ربهم فيما يستقبل الناس، وهذا الإخبار إما في دائرة التحذير وإما في دائرة التبشير، وكل دائرة لا بد أن يكون لها أصحاب وأتباع، والله تعالى له في كل موضع في هذا الكون شاهد وهذا الشاهد حجة، وبالنظر إلى هذه الدوائر بضوء الإخبار بالغيب يمكن أن نرى حقيقة الحركة الإنسانية. حركة التاريخ تحت سقف الامتحان والابتلاء. ومن هذه الحركة يمكن أن نخرج بمضمون وبقضية وبهدف. ويمكن أن نضع أيدينا بكل يسر على العروة الوثقى التي نحكم بها على المسيرة التاريخية. تلك المسيرة التي ظهر على ساحتها العديد من أعلام الزينة والإغواء والأهواء ودخل أصحابها في دائرة التحذير. وعندما أصبحوا أعمدة في هذه الدائرة، حذرت النبوءة منهم ومن دوائرهم. ثم سلطت أضواءها على دائرة التبشير ليتحرك الناس الحركة التي يحبون أن ينظر الله إليهم وهم يتحركونها. لأن سنة استخلاف الإنسان في الأرض تقوم على حكمة " لينظر الله كيف تعملون ".
وبالجملة: لقد حذر الوحي من الشيطان. وحذرت النبوءة من المنافقين والمترفين الذين اتخذوا من الصد عن سبيل الله هدفا لهم، وفي دائرة التحذير وقف الشيطان وبرنامجه وأتباعه من أهل الأهواء تحت ضوء الإخبار بالغيب، ليتبين الناس الوقود الذي أمد المسيرة.
ويعلموا أن التاريخ وإن ظهر كوحدة واحدة، إلا أنه في الحقيقة وحدة إنسانية واحدة ذات حركتين، حركة حق وحركة باطل، ولأن الحاضر ابنا للماضي فإنه يرث هذه التركة وينطلق بها إلى المستقبل. وعلى الإنسان في هذه الحالة أن ينقب ويبحث وينظر فيما حوله من حجج عليه. لأنه مستخلف في الأرض. والاستخلاف يقتضي حركة. والحركة منظورة من الله.
ولما كنا نهدف من هذه الدراسة أن نمسك بخيوط المسيح الدجال والمهدي المنتظر، فإننا لا يمكن أن ننحي مصادر أهل الكتاب جانبا، ومصادر أهل الكتاب وأقصد " الكتاب المقدس ". وأن كان قد ذهب منه الكثير من الوحي، ودخل فيه الشئ الكثير من الأوهام حتى أصبح الكتاب به الكثير من المتناقضات، وبهذا شهد علماء مقارنة الأديان والحضارة من أهل الكتاب أنفسهم، وشهد القرآن الكريم أن أيدي أهل الكتاب امتدت إلى النصوص بالحذف والإضافة. وبأنهم استبدلوا نصوص تحمل التوجيه الإلهي بغيرها تعبر عن المصلحة والهوى عند الأحبار والرهبان. إلا أن الكتاب المقدس لا يخلو من وحي إلهي ومعالم سماوية باهتة. وهذا الوحي الظاهر حجة على أهل الكتاب لأنه يرشدهم إلى دعوة النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم، أما المعالم الباهتة والمتناقضات فهي دعوة لقبول البينة التي حملها رسول من الله يتلو صحفا مطهرة.
وفي دراستنا هذه سنسلط الأضواء على المسيرة التاريخية لبني إسرائيل. من واقع إخبار أنبيائهم بالغيب عن ربهم، وذلك لنقف على الانحراف وحجمه وإلى أين قاد أتباعه، وعلى امتداد عملية الرصد هذه سنسلط الأضواء القرآنية على هذه الأحداث والانحرافات، ليظهر طريق الخير وطريق الشر ونميز ما هو تقوى في هذه الأحداث مما هو فجور، وعند البحث عن الخلل في سيرة الأمة الخاتمة. سننطلق من الأصول وننظر في المسيرة من خلال إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالغيب عن ربه، ثم ننظر عليها وهي تشق طريقها نحو المستقبل، وعلى هذا التصور أقدم قراءتي لحركة التاريخ.
الحجة والأروقة المتصدعة (الطريق إلى المسيح الدجال)
(نقض العهد)
1 ـ (القاعدة والذروة)
تذكر التوراة الحاضرة. أن الله أمر موسى عليه السلام ببناء خيمة الاجتماع لتكون مركزا للعبادة، وذكر سفر الخروج كيف تم تحديد المكان وكيف تم البناء.(43) فقال " وكلم الرب موسى قائلا: في الشهر الأول في اليوم الأول من الشهر تقيم مسكن خيمة الاجتماع "(44) " وأخذ موسى الخيمة ونصبها ".(45)
ولأن العلم بالله هو أشرف العلوم وهو ذروة كل العلوم. فإن الله تعالى زكى من عباده طائفة ليحملوا هذا العلم الرفيع ويبينوا مراده وأسراره للناس. بعد أن أخذ الشيطان على عاتقه القعود على الصراط المستقيم يزخرف العلوم ويصد عن العبادة الحق. وفي عهد خيمة الاجتماع كان آل عمران وعلى رأسهم هارون وبنيه هم وحدهم الذين لهم الحق في تفسير الشريعة التي جاء بها موسى عليه السلام. وتروي التوراة أن الله تعالى طهرهم وأعطاهم فقه هذا العلم الرفيع. وفي اختيار الله تعالى لهم تذكر التوراة أن الله قال لموسى " تقدم هارون وبنيه إلى باب خيمة الاجتماع، وتغسلهم بماء وتلبس هارون الثياب المقدسة وتمسحه وتقدسه ليكهن لي، وتقدم بنيه وتلبسهم أقمصة وتمسحهم كما مسحت أباهم ليكهنوا لي، ويكون ذلك لتصير لهم مسحتهم كهنوتا أبديا في أجيالهم ".(46) وتذكر التوراة أن موسى فعل ما أمر به الله " فقدم موسى هارون وبنيه وغسلهم بماء، وجعل عليه القميص.. وألبسه الجبة وجعل عليه الرداء... ووضع العمامة على رأسه... ومسحه لتقديسه. ثم قدم موسى بني هارون وألبسهم أقمصة... كما أمر الرب موسى ".(47)
وفي مرتبة هارون وبنيه الفقهية. تذكر التوراة أن الله كلم هارون وأمره بحفظ الشعائر التي علمها له. لتعليم بني إسرائيل الفرائض التي فرضها الله. " وكلم الرب هارون قائلا: خمرا ومسكرا لا تشرب أنت وبنوك معك.. للتمييز بين المقدس والمحلل وبين النجس والطاهر. ولتعليم بني إسرائيل جميع الفرائض التي كلم الرب بها بيد موسى "(48) وكان الله تعالى يبين الشريعة لموسى وهارون تارة.
ويوصي موسى بأن يبين لهارون وبنيه أمور من الشريعة تارة أخرى " وكلم الرب موسى وهارون قائلا لهما: كلما بني إسرائيل قائلين هذه هي الحيوانات التي تأكلونها من جميع البهائم التي على الأرض "(49) " وكلم الرب موسى قائلا: كلم هارون وبنيه قائلا: هذه شريعة ذبيحة الخطية.. "(50) وبعد أن تم التطهير والتعليم وعلمت الجموع منزلة هارون وبنيه من موسى. تقول التوراة (ثم رفع هارون يده نحو الشعب وباركهم.. ودخل موسى وهارون إلى خيمة الاجتماع. ثم خرجا وباركا الشعب ".(51)
وتذكر التوراة أسماء بني هارون الذين اختارهم الله ليعلموا الشعب(52) وذكرت أن هؤلاء وحدهم لهم حق تفسير الشريعة. " وتوكل هارون وبنيه فيحرسون كهنوتهم والأجنبي الذي يقترب يقتل "(53) وأخبرت التوراة بأن سبط لاوي - ولاوي هو جد موسى وهارون - مهمته خدمة خيمة الاجتماع وحفظ أمتعته، وأن الله وهب هؤلاء لهارون وبنيه.(54)
ومما يذكر أن موسى وهارون هما ابنا عمران، وفي ذرية هارون أودع الله فقه الشريعة التي جاء بها موسى، وهذه الذرية من الذين اصطفاهم الله على العالمين، ومنها مريم ابنة عمران وابنها المسيح عليهما السلام.
واختتم الله بهما الشجرة الإسرائيلية، بعد أن حملت الخاتمة بعض أسماء المقدمة لتتذكر المسيرة البداية من عند النهاية، وسنبين ذلك في موضعه. فسبط لاوي جد موسى وهارون. يقول فيهم الله كما ذكرت التوراة " يخدمون خدمة المسكن. فيحرسون كل أمتعة خيمة الاجتماع.. وتعطي اللاويين لهارون وبنيه إنهم موهوبون له هبة من عند بني إسرائيل "(55) أما هارون بن عمران وبنوه. فيقول فيهم " وتوكل هارون وبنيه فيحرسون كهنوتهم والأجنبي الذي يقترب يقتل "(56) وهكذا تم تحديد القاعدة وذروتها.
وبالجملة: كان الكاهن الأعلى يقوم بمهمته بعد اختيار الله له، وهذه قاعدة أصيلة في الدعوة الإلهية للناس، والله يزكي من يشاء ويختار من يشاء، والعهد الجديد يقر بذلك فيقول " ولم يكن أحد يتخذ لنفسه هذه الوظيفة الشريفة متى أراد بل كان يتخذها من دعاه الله إليها كما دعا هارون "(57) والرسالة الخاتمة أقرت بهذه الحقيقة، وذلك في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي بن أبي طالب " أنت مني بمنزلة هارون من موسى. إلا أنك لست نبيا إنه لا ينبني أن أذهب إلا وأنت خليفتي في كل مؤمن بعدي "(58) وسيأتي الحديث عن هذه المنزلة في موضعه.
ولقد ألقى القرآن الكريم بأضوائه على منزلة هارون، وذلك لما سأل موسى عليه السلام ربه تعالى (اجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا)(59) قال في لسان العرب: الوزير الذي يحمل ثقل الملك ويعينه برأيه، والوزير في اللغة: اشتقاقه من الوزر. والوزر الجبل الذي يعتصم به لينجي من الهلاك.(60) وقال في الميزان في تفسير الآية: وإنما سأل موسى ذلك. لأن الأمر كثير الجوانب متباعد الأطراف، ويحتاج فيه موسى إلى وزير يشاركه في ذلك. فيقوم ببعض الأمر فيخفف عنه.
ويكون مؤيدا لموسى فيما يقوم به موسى، وهذا معنى أقوله (اشدد به أزرى وأشركه في أمري) أي في أمر كان يخص موسى وهو تبليغ ما بلغه من ربه. فهذا هو الأمر الذي يخصه ولا يشاركه فيه أحد سوى هارون.(61)
الهوامش
(1) رواه أحمد والبزار ورجاله رجال الصحيح (الفتح الرباني 69 / 24).
(2) سورة الثوري آية 10.
(3) سورة الحشر آية 7.
(4) سورة الأحزاب آية 36.
(5) سورة المائدة 44.
(6) سورة المائدة 45.
(7) سورة المائدة 47.
(8) سورة البقرة آية 285.
(9) سورة النساء آية 151.
(10) سورة البقرة آية 256.
(11) سورة المائدة آية 64.
(12) سورة الأعراف آية 146.
(13) سورة الأنعام آية 158.
(14) سورة المائدة آية 71.
(15) الميزان 68، 69 / 6.
(16) رواه الإمام أحمد (الفتح الرباني 69 / 24) وابن ماجة حديث رقم 4077.
(17) رواه الإمام أحمد والبزار ورجاله رجال الصحيح (الفتح الرباني 69 / 24).
(18) رواه أحمد (الفتح الرباني 69 / 24) وابن ماجة.
(19) تفسير ابن كثير 84 / 4.
(20) سورة الأنبياء آية 18.
(21) رواه الامام مسلم (الصحيح 267 / 4).
(22) سورة السجدة آية 28.
(23) سورة الأنعام آية 158.
(24) سورة النساء آية 18.
(25) سورة يونس آية 47 - 53.
(26) رواه الحاكم وقال حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه (المستدرك 557 / 4).
(27) قال في التاج الجامع للأصول رواه أبو داوود والحاكم بسندين صحيحين (التاج 343 / 5) وأنظر سنن أبو داوود 107 / 4، عون المعبود 371 / 11، كنز العمال 264 / 14، سنن ابن ماجة حديث 4086، مستدرك الحاكم 557 / 4.
(28) رواه الترمذي وقال في تحفة الأحوازي رواه مسلم وابن ماجة (التحفة 483 / 6).
(29) رواه الترمذي وقال في تحفة الأحوازي وأخرجه الشيخان وأبو داوود وغيرهم (التحفة 474 / 6).
(30) أنظر سفر اللاويين 1 / 9 - 11، 1 - 14.
(31) رواه الإمام أحمد وقال الهيثمي إسناده جيد (مجمع الزوائد 193 / 9) (الفتح الرباني 105 / 22) (كنز العمال 172 / 1).
(32) رواه أحمد (الفتح الرباني 204 / 21) والحاكم وأقره الذهبي (المستدرك 133 / 3) وابن أبي عاصم وصححه الألباني (كتاب السنة 565 / 2).
(33) رواه ابن عدي وابن عساكر (كنز العمال 89 / 1) وأبو نعيم (كنز العمال 33 / 12).
(34) رواه أحمد (الفتح الرباني 12 / 23) وأبو يعلى والبزار (مجمع الزوائد 190 / 5) والحاكم (المستدرك 501 / 4).
(35) رواه الإمام مسلم (الصحيح 179 / 15).
(36) رواه الترمذي وحسنه (الجامع 662 / 5) والنسائي (كنز العمال 172 / 1).
(37) رواه البخاري (الصحيح 264 / 4) ومسلم (الصحيح 219 / 16) وأحمد (الفتح الرباني 197 / 1).
(38) سورة الحديد آية 25.
(39) الميزان 172 / 19.
(40) سورة الملك آية 12.
(41) سورة الأنعام آية 59.
(42) سورة الجن آية 26.
(43) الخروج إصحاح 25، 26 وما بعده.
(44) المصدر السابق 40 / 1.
(45) المصدر السابق 33 / 7.
(46) المصدر السابق 40 / 11 - 15.
(47) اللاويين 8 / 1 - 12.
(48) المصدر السابق، 8 / 10 - 11.
(49) المصدر السابق 11 / 1.
(50) المصدر السابق 6 / 24.
(51) المصدر السابق 9 / 22.
(52) سفر العدد 3 / 22.
(53) المصدر السابق 3 / 10.
(54) المصدر السابق 3 / 5.
(55) المصدر السابق 3 / 5.
(56) المصدر السابق 3 / 10.
(57) العبرانيين 5 / 1 - 4.
(58) رواه الإمام أحمد (الفتح الرباني 204 / 21) والحاكم وأقره الذهبي (المستدرك 33 1 / 3) وابن أبي عاصم وقال الألباني رجاله ثقات (كتاب السنة 565 / 2).
(59) سورة طه آية 29 - 32.
(60) لسان العرب ص 4824.
(61) الميزان تفسير سورة طه.
******************
2 ـ (التحذيرات)
تذكر التوراة أن موسى عليه السلام بعد أن أقام حجته أشهد الله تعالى على بني إسرائيل، وأخبر بالغيب عن ربه أن المسيرة من بعده ستختلف وستفترق وسترتكب جرائم تستحق عليها لعنة الله، تقول التوراة " أمر موسى اللاويين حاملي عهد الرب قائلا: خذوا كتاب التوراة هذا وضعوه بجانب تابوت عهد الرب هناك شاهد عليكم، لأني أنا عارف تمردكم ورقابكم الصلبة. هوذا وأنا معكم اليوم قد صرتم تقاومون الرب. فكم بالحري بعد موتي. اجمعوا إلى كل شيوخ أسباطكم وعرفاءكم. لأنطق في مسامعهم بهذه الكلمات وأشهد عليهم السماء والأرض. لأني عارف إنكم بعد موتي تفسدون وتزيغون عن الطريق الذي أوصيتكم به. ويصيبكم الشر في آخر الأيام لأنكم تعملون الشر أمام الرب ".(1)
وفي هذا البيان إشارة إلى انقلاب القوم على الخط الرسالي الذي يقوده أبناء هارون، فبعد موت موسى عليه السلام يبدأ الفساد ويزيغون عن الطريق الذي أوصاهم به، وهذا يستوجب أن يصيبهم الشر في آخر الأيام، لأن الوتد الذي تم دقه عند البداية لم يبليه الزمان وأصبح له جذور عند النهاية..
وتذكر التوراة أن موسى عليه السلام ذكرهم في هذا اليوم بالله الذي خلقهم واستخلفهم. وذكرهم بأيام الله وكيف يأخذ الله الأمم الظالمة.(2) وتذكر التوراة تحذيرات نطق بها موسى عليه السلام على مسامع القوم. منها " لا تصنعوا لكم أوثانا ولا تقيموا لكم تمثالا منحوتا أو نصبا ولا تجعلوا في أرضكم مصورا لتسجدوا له ".(3) " إن لم تسمع لصوت الرب إلهك لتحرص أن تعمل بجميع وصاياه وفرائضه التي أنا أوصيك بها اليوم، تأتي عليك جميع هذه اللعنات وتدركك، ملعونا تكون في المدينة. ملعونا تكون في الحقل.. ملعونا تكون في دخولك ملعونا تكون في خروجك، ويرسل الرب عليك اللعنة والاضطراب والزجر في كل ها تمتد إليه يدك لتعمله.. يضربك الرب بجنون وعمى وحيرة قلب فتتلمس في الظهر كما يتلمس الأعمى في الظلام.. تأتي عليك جميع هذه اللعنات وتتبعك وتدركك حتى تهلك.. فتكون فيك آية وأعجوبة وفي نسلك إلى الأبد "(4). "إن لم تسمعوا لي ولم تعملوا كل هذه الوصايا وإن رفضتم فرائضي. وكرهت أنفسكم أحكامي فما عملتم كل وصاياي بل نكثتم ميثاقي. فإني أعمل هذه بكم: أسلط عليكم رعيا وسلا وحمى تفني العين وتتلف النفس وتزرعون باطلا زرعكم فيأكله أعداؤكم واجعل وجهي ضدكم فتنهزمون أمام أعدائكم ويتسلط عليكم مبغضوكم وتهربون وليس من يطردكم".(5)
وبالجملة: انطلقت المسيرة الإسرائيلية تحت مظلة الامتحان لينظر الله إليهم كيف يعملون، بعد أن أخذ عليهم سبحانه العهود بأن يسمعوا ويطيعوا. وحذرهم من عواقب الكفر والانحراف، ومما ذكرته التوراة قوله لهم " أنظر. أنا واضع أمامكم اليوم بركة ولعنة. البركة إذا سمعتم لوصايا الرب إلهكم التي أنا أوصيكم بها اليوم، واللعنة إذا لم تسمعوا لوصايا إلهكم وزغتم عن الطريق التي أنا أوصيكم بها اليوم لتذهبوا وراء آلهة أخرى لم تعرفوها ".(6)
والقرآن الكريم أشار إلى الحكمة التي من وراء استخلاف بني إسرائيل في الأرض. فقال له (عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون)(7) وأشار إلى العهود التي أخذها الله عليهم ومنها أن لا يقولوا على الله إلا الحق(8) وأن يذكروا ما في الكتاب لعلهم يتقون(9) وأن يوفوا بعهده(10) وأن يذكروا نعمته عليهم وتفضيله لهم في قيادة المسيرة(11) وحذرهم من الكفر بآيات الله ومن قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وقال تعالى: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذوي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة)،(12) وقد بدأت الآية بقوله (لا تعبدون إلا الله) وختمت بقوله (وقولوا للناس حسنا) الآية.
وبين البداية والخاتمة كان للمسيرة وجوه، فعبدوا غير الله وأضاعوا حقوق القربى وعلى رأسهم قربى موسى عليه السلام، وأضاعوا حقوق اليتامى والمساكين وأفسدوا في الأرض، وأضاعوا الصلاة والزكاة واتبعوا الشهوات، وكل هذا شهد به الكتاب المقدس والقرآن الكريم وحركة التاريخ.
3 ـ (الانقلاب على تعاليم خيمة الاجتماع)
ذكرت التوراة تحذير الله لبني إسرائيل " واللعنة إذا لم تسمعوا لوصايا إلهكم وزغتم عن الطريق " وأخبر القرآن الكريم أنهم لم يسمعوا وزاغوا عن الطريق. وقال تعالى: (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين)(13) والزيغ: الميل عن الاستقامة. ولازمه الانحراف عن الحق إلى الباطل. فهم زاغوا أولا. فأزاغ الله قلوبهم لسوء اختيارهم. وإزاغته تعالى إمساك رحمته وقطع هدايته عنهم كما يفيد التعليل بقوله (إن الله لا يهدي القوم الفاسقين) حيث علل الإزاغة بعدم الهداية.(14)
والذين تلبسوا بالزيغ وفتحوا طريق الضلال. ظل منهجهم يعمل على طريق الصد عن سبيل الله على امتداد الرحلة الإسرائيلية. وانطلق تحت ظلاله الذين أخذوا بذيول آبائهم وخرجوا عن سبيل موسى وهارون عليهما السلام. وسنبين في موضعه أن الخط الذي خرج عن طريق هارون وبنيه. هو الذي صد عن سبيل المسيح عيسى عليه السلام وهو الذي مهد للمسيح الدجال بعد ذلك.
ويبين العهد القديم أن الانحراف فتحت أبوابه مع الفتوحات العسكرية من بعد موسى عليه السلام فمع القتال على الملك اتسعت رقعة الأرض ودخل السبي ومعهم آلهتهم الغريبة وثقافاتهم التي تفسد الفطرة، وسجل العهد القديم قول يوشع بن نون لبني إسرائيل " أنتم شهود على أنفسكم إنكم قد اخترتم لأنفسكم الرب لتعبدوه. فقالوا:
نحن شهود. فالآن انزعوا الآلهة الغريبة التي في وسطكم وأميلوا قلوبكم إلى الرب إله إسرائيل ".(15)
وتعليمات يوشع بن نون بنزع الآلهة الغريبة لم تلبث طويلا. لأنها ذابت في غبار المسيرة بعد وقت قصير، ويذكر سفر القضاة أن الشعب الإسرائيلي اختار لنفسه مجموعة من الزعماء تولوا قيادته، وكان هؤلاء الزعماء يتم اختيارهم وفقا لصفاتهم الجسمانية أو الشخصية، وكان معظمهم من العسكريين، وعلى أكتاف هذه الزعامة بدأت المسيرة تتجرد من المعنى الديني الذي وضعت أصوله في خيمة الاجتماع، ولبست المسيرة رداء الغزو والاحتلال، ولم يكن الشعب على امتداد هذه المدة يحكمه قائد واحد. فمع تمزيق الوحدة الدينية تمزقت الأرض من تحتهم وتحولت إلى رفع للأسباط والجنود، يقول سفر القضاء " وفي تلك الأيام لم يكن ملك في إسرائيل، كان كل واحد يعمل ما يحسن في عينيه ".(16)
ومن القيادات التي ذكرها السفر، امرأة تدعى (ديورة) وكانت من العسكريين، يقول السفر " وديورة.. زوجة لفيدوت. هي قاضية إسرائيل في ذلك الوقت.. وكان بنو إسرائيل يصعدون إليها للقضاء "(17) ومنهم (جدعون) الذي قاد معارك ضد الجوالة، (والجلعاوي) الذي حارب بني عموت، و (شمشون) الذي حارب أهل فلسطين.
ويذكر السفر ما ترتب هذه الفتوحات وهذا القتال على الملك، فيقول " فسكن بنو إسرائيل في وسط الكنعانيين والحيثيين والآموريين والفرزيين والحويين واليبوسيين، واتخذوا لأنفسهم نساء. وأعطوا بناتهم لبنيهم. وعبدوا آلهتهم. فعمل بنو إسرائيل الشر في عيني الرب. ونسوا الرب إلههم. وعبدوا البعليم والسوارى "(18) " وعبدوا البعليم.
والعشتاروت. وآلهة آرام وآلهة صيدون. وآلهة مو آب وآلهة بني عمون وآلهة الفلسطينيين. وتركوا الرب ولم يعبدوه "(19)" وزنوا وراء البعليم وجعلوا لهم بعل يرث إلها ".(20)
وهكذا جاءت النتيجة وفقا لمقدمة انقلبوا فيها على أعقابهم بعد وفاة موسى عليه السلام بزمن يسير. لقد ساروا بلا رأس وراء الزخرف والأهواء.
فانتهت بهم أقدامهم وهم تحت سقف الامتحان إلى التيه والضياع.
4 ـ (عهد الهيكل)
1 ـ الطريق إلى الهيكل:
بعد أن تمزقت الوحدة الدينية واختلف الذين أوتوا الكتاب بعد أن جاءهم العلم، وبعد أن جرت الروح العسكرية حاملة للعدوان في جسد المسيرة، لم تجف الساحة من الأنبياء والمصلحين الذين حملوا مشاعل الفطرة على امتداد الطريق، ومن هؤلاء (طالوت) ويسميه العهد القديم (شاول). اصطفى الله طالوت وزاده بسطة في العلم والجسم، فكان علمه منارا في ساحة ليس فيها علم يرى، وكانت قوته معجزة في ساحة يختار أهلها الزعيم وفقا لصفاته الجسمية ومقدرته العسكرية، ويضاف إلى هذا وذاك أن طالوتا جاء إليهم بما ضيعوه على طريق الاختلاف والافتراق، لقد جاء ومعه تابوت موسى فيه سكينة من الله وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون، لعل المسيرة إن تتذكر وتتدبر وتؤمن.
قال تعالى: (وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال. قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم. وقال لهم نبيهم إن آية ملكة أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين).(21)
فعندما أخبرهم نبيهم بملك طالوت حكموا الحس في الأمر، واعترضوا بأنهم أحق بالملك منه وأنه لم يؤت سعة من المال، فحمل الرد إليهم: أن الملك وهو استقرار السلطة على مجتمع من الناس، الغرض منه أن يدبر صاحبه المجتمع تدبيرا يوصل كل فرد من أفراده إلى كماله اللائق به، ويجمع الناس تحت إرادة واحدة فلا يزاحم فرد فردا.
ولا يتقدم فرد من غير حق ولا يتأخر فرد من غير حق، والذي يحقق هذا المطلب أمران: (أحدهما): العلم بجميع مصالح الناس ومفاسدها (وثانيهما) القدرة الجسمية على إجراء ما يراه من مصالح المملكة، وهما اللذان يشير إليهما قوله تعالى: (وزاده بسطة في العلم والجسم).
ثم حاصرهم الرد بحجة دافعة وهي قوله تعالى: (والله يؤتي ملكه من يشاء) أي له تعالى التصرف في ملكه كيف شاء وأراد. وليس لأحد أن يقول: لماذا أو بماذا. أي ليس لأحد أن يسأل عن علة التصرف لأن الله هو السبب المطلق.
ويذكر أبو الفتح السامري في تاريخه. أن طالوتا قاتل بني إسرائيل. وجعل ساحات البعل خالية وأبطل طرقها وإنه داهم بني إسرائيل في مرج البهاء وقتل كل من وجده في ساحة البعل. وحفظ الشريعة اثنين وعشرين عام)22) ولم يقف طالوت أمام الشذوذ الداخلي في المسيرة فقط وإنما جهز جيشا لقتال عدوه الخارجي المتمثل في (جالوت) ويسميه العهد القديم (جليات)(23) وأثناء تقدم الجيش في إتجاه المعركة. أجرى طالوت على الجنود اختبارا على قاعدته يميز الصادق من المنافق، لتتعرى المسيرة العسكرية التي تاجر بها بني إسرائيل من بعد موسى عليه السلام، قال تعالى: (فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده. فشربوا إلا قليلا منهم. فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه. قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده. قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين).(24)
ذكر في الميزان أن الجنود كانوا في الظاهر مع طالوت، ولكن لم يتميز بعد الطيب من الخبيث، ولم يتحقق بعد من هم الذين مع طالوت، فكان النهر الذي ابتلاهم به الله. ليتعين به من ليس منه وهو من شرب من النهر، ويتعين به من هو منه وهو من لم يطعمه، وبعد جواز النهر تمت المفاصلة وبقي معه الذين هم منه. والذين لم يخرجهم من المغترفين، والتدبر في الآيات يعطي أن يكون القائلون: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده. هم المغترفون، والذين قالوا " كم من فئة قليلة " هم الذين لم يطعموا الماء أصلا.(25)
وبدأت المعركة لتظهر اسم داوود من خلالها، قال تعالى: (ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. فهزموهم بإذن الله وقتل داوود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء).(26) وعلى هذا تكون مملكة طالوت مهدت الطريق لمملكة داوود. وبالجملة: لقد سجلت مملكة طالوت على المسيرة الإسرائيلية. أنها مسيرة ليس فيها علم يرى لاتجاهها نحو البعل والأصنام، وسجلت عليهم تولي أكثرهم عند إنجاز القتال قبل مجئ طالوت. وهو قوله تعالى: (فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين. وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا) الآية، وسجل عليهم الاعتراض على ملكه، والشرب من النهر، وقولهم: لا طاقة لنا بجالوت وجنوده.
ونظرا لأن طالوتا بعث عليهم بالحجة والقبضة الحديدية، فإن سيرته لم تجد لها حظا وافرا ضمن أمجاد بني إسرائيل، والذي يقرأ سفر صموئيل يجد أن كاتب السفر قد وقع في تناقضات عديدة، وهدم قيادة طالوت لحساب قيادة داوود، وأكد معنى يقول أن خلاص الشعب من طالوت كان على أيدي داوود، ويستلزم ذلك أن مملكة داوود هي المتنفس الذي ينبغي أن تتوجه إليه المسيرة وهي تجتر ذكرياتها، ولم ينسى كاتب السفر أن يجعل طالوت عدوا لدودا لداوود، فذكر أن طالوتا (شاول) قال لابنه " ما دام ابن عيسى (داوود) حيا على الأرض. لا تثبت أنت ومملكتك. والآن أرسل وأت به إلي لأنه ابن الموت هو "(27) وذكر أن طالوت أمر عبيده وجنوده بقتل داوود.(28) وإن داوود هرب خوفا منه.(29) وقال أن طالوت قتل كهنة الرب.(30) وكانت نهايته نهاية المهزوم المكسور نتيجة لغضب الله عليه.(31) لأنه حول الحرب اليهودية من حرب قومية مع الجيران. إلى حرب جانبية لتصفية الصراعات الشخصية.
وذكر كاتب السفر أن الله زاد (شاول) بسطة في الجسم، ولم يشر الكاتب إلى بسطة العلم، وأدى ذلك إلى الخلط بين الحقيقة وبين الأوهام التي دثرها الخيال على امتداد طريق تداول الذكريات.
وجاء داوود عليه السلام على أرضية فيها " التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون ". وشد الله تعالى ملكه بالهيبة وحسن التدبير والمعارف الحقة. وكانت مملكة داوود عليه السلام دعوة من أجل العودة إلى الينبوع الفطري. وكان تسبيح داوود عين معجزته. فالجبال في تسبيحها توافق تسبيحه والطير يسبح معه وتقرع تسبيحها أسماع الناس. قال تعالى: (واذكر عبدنا داوود ذا الأيدي إنه أواب. إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق. والطير محشورة كل له أواب. وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب)(32) لقد كان التسبيح حجة على أصحاب القلوب التي قدت من حديد. وكان حجة من شأنها إنها ترفع الصدأ الذي على القلوب لمن أراد أن يتخذ إلى ربه سبيلا. ولم تفطن المسيرة إلى حكمة التسبيح في مملكة داوود.
وتصفحت أمام الأرض والطين وحدود مملكة داوود.
ومن بعد داوود جاء سليمان عليهما السلام، وأعطاه الله المعجزات التي يخضع لها أصحاب العقول والأفهام والذين أفنوا حياتهم في غيبوبة بناء المقابر والأهرامات ومعابد العجول، جاء سليمان عليه السلام بالمعجزة التي تذيب النحاس، وأسال الله له النحاس فكان كالعين الجارية. وسخر له الجن يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وصحائف الطعام وما يجمع فيه الماء. والقدور الراسيات التي يطبخ فيها الطعام وغير ذلك، ولم يكن هذا من أجل الأبهة، وإنما كان من أجل إقامة الحجة على مسيرة بشرية. تسير تحت سقف الامتحان لينظر الله إليهم كيف يعملون.
وذكر العهد القديم أن داوود لم يأمر ببناء المحراب في أورشاليم. وإنما أمر ببناء مذبحا في (بيدر أرونة) اليبوسي. وعندما أراد صاحب الأرض أن يتبرع مكان المذبح. رفض داوود عليه السلام أن يكون المكان مجانا واستشراه. وأقام عليه المذبح(33) وأتى بالتابوت وأمر آل هارون واللاويين فحملوا التابوت " كما أمر موسى حسب كلام الرب بالعصي على أكتافهم "(34) وعندما بعث سليمان عليه السلام. أمر الله تعالى ببناء البيت في أورشاليم. يقول العهد القديم أن الله قال لداوود " إنك أنت لا تبني البيت. بل ابنك الخارج من حلبك هو الذي يبني البيت الأسمي "(35) وذكر العهد القديم أن سليمان قال " وهان ذا قائل على بناء بيت لاسم الرب إلهي. كما كلم الرب داوود أبي ".(36)
2 - (تحذيرات سليمان عليه السلام)
عندما فرغ سليمان من بناء البيت. ذكر العهد القديم أنه قال " ليعلم كل شعوب الأرض. أن الرب هو الله وليس آخر. فليكن قلبكم كاملا لدى الرب إلهنا إذ تسيرون في فرائضه وتحفظون وصاياه "(37) وأخبر بني إسرائيل أن الله يحذرهم من ترك فرائضه. فقال: " إن كنتم تنقلبون أنتم أو أبناؤكم من ورائي. ولا تحفظون وصاياي وفرائضي التي جعلتها أمامكم بل تذهبون وتعبدون آلهة أخرى وتسجدون لها. فإني أقطع إسرائيل عن وجه الأرض التي أعطيتهم إياها. والبيت الذي قدسته لاسمي أنفيه من أمامي. ويكون إسرائيل مثلا وهزأة في جميع الشعوب.
وهذا البيت يكون عبرة ".(38)
3 - (الانقلاب على تعاليم الهيكل)
بعد وفاة سليمان عليه السلام انقسمت الدولة الواحدة التي وضع داوود عليه السلام أساسها، ويمكن القول أنه بعد سليمان أصبح لدينا تاريخين لليهود الذين لم يتحدوا في مملكة واحدة بعد سليمان، تاريخ مملكة إسرائيل في الشمال. وتاريخ مملكة يهوذا في الجنوب، ويمكننا القول أيضا أنه بعد سليمان أصبح لليهود قبلتين لا قبلة واحدة. وتحديد القبلة في التوراة جاء كما يلي " وإذا جاء بك الرب إلهك إلى الأرض التي أنت داخل إليها. فاجعل البركة على جبل جرزيم. واللعنة على جبل عيبال "(39) وعلى أرضية الخلاف والاختلاف والافتراق، قال السامريون إنها جبل " جزريم " وعلى ذلك دونوا توراتهم، وقال العبرانيون إنها جبل " عيبال " وعلى ذلك دونوا توراتهم، وهذه الكلمة هي التي ميزت بين التوراتين. وفي عهد المسيح ابن مريم عليه السلام سألته امرأة سامرية عن هذا الاختلاف قالت له " يا سيد أرى إنك نبي.
آباؤنا عبدوا الله في هذا الجبل. وأنتم اليهود تصرون على أن أورشاليم يجب أن تكون المركز الوحيد للعبادة. فأجابها يسوع: صدقيني يا امرأة ستأتي الساعة التي فيها تعبدون الله لا في هذا الجبل ولا في أورشاليم "(40) وكان عليه السلام يشير بذلك إلى بيت الله الحرام في مكة المكرمة كما سنبين في موضعه.
وجماعة اليهود مختلفون في الصحيح بين النصين حتى الآن. فكل جماعة من اليهود تدعي أن الآخرين حرفوا هذا الموضع في التوراة. وما زال الخلاف بين العلماء. فآدم كلارك في تفسيره 1 / 817 ينقل عن المحقق " كنيكات " إنه يدعي صحة السامرية. والمحققان (باري) و (درشيور) يدعيان صحة العبرانية.(41)
ويمكننا القول أيضا أنه بعد سليمان عليه السلام صدرت قرارات رسمية من القيادة بعبادة العجول، وأول من سن هذه السنة (يربعام) مؤسس مملكة إسرائيل الشمالية، فعندما وجد شعبه يذهب إلى أورشاليم عاصمة خصمه ملك يهوذا ليقربوا ذبانحهم في بيت الله هناك قال: " إن صعد هذا الشعب ليقربوا ذبائح في بيت الرب في أورشاليم. يرجع قلب هذا الشعب إلى سيدهم ملك يهوذا ويقتلوني "(42) ولهذا السبب أقدم على عمل واتخذ قرارا. يقول العهد القديم: " وعمل عجلين من ذهب. وقال لهم.(43) كثير عليكم أن تصعدوا إلى أورشاليم، هوذا آلهتك يا إسرائيل الذين أصعدوك من أرض مصر. ووضع واحد في بيت إيل وجعل الآخر في دان(44).. وبنى المرتفعات وصير كهنة من أطراف الشعب لم يكونوا من أبناء لاوي "(45) (والكهانة. في سبط لاوي موقوفة على أبناء هارون) وما لبثت هذه السنة أن انتشرت. وصدرت قرارات عليا على امتداد المسيرة تنظم هذه العبادة، وعلى امتداد المسيرة الإسرائيلية بعث الله تعالى الأنبياء إليهم في المملكتين. ليسوقوهم إلى سبيل الفطرة وليكونوا عليهم حجة وهم يتحركون تحت سقف الامتحان والابتلاء لينظر الله إليهم كيف يعملون، ويذكر الكتاب المقدس أن الأنبياء الذين بعثوا في مملكة إسرائيل الشمالية هم: إيليا، اليشع، عاموس، هوشع، أما الذين بعثوا في مملكة يهوذا الجنوبية فهم: يوئيل، أشعيا، ميخا، صفنيا حبقوق، أرميا، وكذب الشعب منهم من كذب وقتل منهم من قتل.
وسجل سفر الملوك انحرافات بني إسرائيل بعد سليمان في أكثر من موضع. منه " إن بني إسرائيل أخطأوا إلى الرب إلههم الذي أصعدهم من أرض مصر من تحت يد فرعون مصر. واتقوا آلهة أخرى وسلكوا حسب فرائض الأمم الذين طردهم الرب من أمام بني إسرائيل وملوك إسرائيل الذين أقاموهم. وعمل بنو إسرائيل سرا ضد الرب إلههم أمور ليست بمستقيمة وبنوا لأنفسهم مرتفعات في جميع مدنهم... وأقاموا لأنفسهم أنصابا وسوارى على كل تل عال وتحت كل شجرة خضراء. وأوقدوا هناك على جميع المرتفعات مثل الأمم الذين ساقهم الرب من أمامهم. وعملوا أمورا قبيحة.. وعبدوا الأصنام التي قال الرب لهم عنها لا تعملوا هذا الأمر. وأشهد الرب على إسرائيل وعلى يهوذا عن يد جميع الأنبياء وكل راء قائلا: إرجعوا عن طرقكم الردية واحفظوا وصاياي فرائضي حسب كل الشريعة التي أوصيت بها آباءكم والتي أرسلتها إليكم عن يد عبيدي الأنبياء. فلم يسمعوا بل صلبوا أقفيتهم كأقفية آبائهم الذين لم يؤمنوا بالرب إلههم. ورفضوا فرائضه وعهده الذي قطعه مع آبائهم وشهاداته التي شهد بها عليهم.
وساروا وراء الباطل وصاروا باطلا وراء الأمم الذين حولهم الذين أمرهم الرب أن لا يعملوا مثلهم. وتركوا جميع وصايا الرب إلههم وعملوا لأنفسهم مسبوكات عجلين. وعملوا سوارى وسجدوا لجميع جند السماء وعبدوا البعل ".(46)
وسجل أشعيا في سفره هذه الانحرافات، ومما قال كما ذكر العهد القديم: " أسمعي أيتها السماوات. واصغي أيتها الأرض، الآن الرب يتكلم، ربيت بنين ونشأتهم. أما هم فعصوا علي، الثور يعرف قانيه والحمار معلف صاحبه، أما إسرائيل فلا يعرف، شعبي لا يفهم، ويل للأمة الخاطئة، الشعب الثقيل الإثم. نسل فاعلي الشر. أولاد مفسدين، تركوا الرب. استهانوا بقدوس إسرائيل. ارتدوا إلى الوراء، على من تضربون بعد. تزدادون زيغانا، كل الرأس مريض وكل القلب سقيم. من أسفل القدم إلى الرأس ليس فيه صحة. بل جرح وإحباط وضربة طرية لم تعصر ولم تعصب ولم تلين بالزيت "(47) وقال: " وقد ارتد الحق إلى الوراء والعدل يقف بعيدا. لأن الصدق سقط في الشارع والاستقامة لا تستطيع الدخول. وصار الصدق معدوما. والحائد عن الشر يسلب ".(48)
والخلاصة لقد أقام الله الحجة على بني إسرائيل ببعث الأنبياء فيهم، وأمرهم سبحانه أن يوفوا بعهده وأن يذكروا نعمته التي أنعمها عليهم وأن لا يعبدوا إلا إياه، وحذرهم سبحانه من عواقب العصيان والكفر، ولكن قست قلوبهم واندفعت قافلتهم في طريق الانحراف، رافعة لأعلام والاستكبار في الأرض بغير حق تصد بها عن سبيل الله، وعلى طريق الانحراف وضعوا مقدمات الفتن التي تنتهي نتائجها في سلة المسيح الدجال.
ولما كان اليهود قد رفعوا على امتداد مسيرتهم بعد ذلك لافتة تقول بأنهم شعب الله المختار، فإننا سنلقي بعض الضوء على مملكة إسرائيل في الشمال ومملكة يهوذا في الجنوب. لتظهر رموز المسيرة ويقف الباحث على الحركة الحقيقية للقافلة. ليقرر ماذا قدمت الصفوة والقدوة في مملكة إسرائيل الشمالية ومملكة يهوذا الجنوبية. وهل ما قدموه يستقيم مع صراط الفطرة. وهل تحليل حوادث هذه المرحلة التاريخية يقود إلى دوائر الأمان الغيبية التي بينها الأنبياء والرسل.
ثانيا (القتال على الملك)
بعد وفاة سليمان عليه السلام خلفه ابنه (رحبعام) فخرج عليه (يربعام بن نياط) وكان قد هرب إلى مصر من وجه سليمان. وعندما مات سليمان عاد وقاتل (رحبعام بن سليمان) لم انتهى النزاع بتقسم الدولة إلى مملكتين.(49)
1 - (مملكة إسرائيل) (931 - 722 ق. م)
قامت هذه المملكة بزعامة (يربعام) يتبعه الأسباط العشر، واتخذت المملكة شكيم عاصمة لها ثم (نابلس) فيما بعد، وهؤلاء يقيمون التوراة السامرية. فيعترفون بأسفار موسى الخمسة وسفري يوشع والقضاء ويرفضون باقي أسفار العهد القديم.(50) وحكم هذه المملكة ثمانية عشر ملكا من تسع عائلات مختلفة(51) وكانت كل عائلة تتقلد الحكم تقوم بمجازر تقتل فيها عظماء ومعارف وكهنة البيت الحاكم السابق.
ويعود تأسيس هذه المملكة إلى (يربعام بن نياط) ويذكر العهد القديم " أن الكهنة واللاويين تركوا مسارحهم في إسرائيل وانطلقوا إلى يهوذا وأورشاليم. لان (يربعام) وبنيه رفضوهم من أن يكهنوا للرب، وأقام (يربعام) لنفسه كهنة للمرتفعات وللتيوس وللعجول التي عمل ".(52)
وعلى طريق (يربعام) سار جميع ملوك إسرائيل.
ملك (يربعام) على إسرائيل 22 سنة. وخلفه إبنه (ناداب) الذي استمر حكمه عامين.(53) وانتهى بتمرد عليه قاده (بعشا). وعندما ملك. يذكر العهد القديم (إنه ضرب كل بيت يربعام. لم يبق نسمة ليربعام حتى أفناهم "(54) واستمر ملك بعشا 24 سنة.(55) وملك بعده ابنه (إيلة) ولم يدم له الملك سوى عامين.(56) ثم خرج عليه (زمري) الذي يقول عنه العهد القديم " عند تملكه وجلوسه على كرسيه ضرب كل بيت بعشا لم يبق له بائلا بحائط مع أوليائه وأصحابه وأفنى زمرى كل بيت بعشا ".(57) ولم يدم الحكم لزمرى إلا سبعة أيام فقط(58) فقد خرج عليه (عمري) قائد الجيش. واستولى على المدينة. وعندما علم (زمرى) أن المدينة سقطت دخل إلى القصر وأشعل النار في نفسه.(59) وملك (عمرى) على إسرائيل 12 سنة.(60) وأسس مدينة السامرة. وذكر العهد القديم بأنه أساء أكثر من جميع الذين قبله.(61)
الهوامش
(1) التثنية 31 / 24 - 28.
(2) المصدر السابق إصحاح 32.
(3) اللاويين 26 / 1.
(4) التثنية 28 / 15، 28، 46.
(5) اللاويين 26 / 17.
(6) التثنية 11 / 26 - 29.
(7) سورة الأعراف آية 129.
(8) سورة الأعراف آية 169.
(9) سورة البقرة آية 63.
(10) سورة البقرة آية 40.
(11) سورة البقر ة آية 47.
(12) سورة البقرة آية 83.
(13) سورة الصف آية 5.
(14) الميزان 259 / 19.
(15) يوشع 24 / 21 - 23.
(16) القضا ة 17 / 6.
(17) المصدر السابق 4 / 4 - 6.
(18) المصدر السابق 3 / 5 - 7.
(19) المصدر السابق 10 / 6 - 7.
(20) المصدر السابق 7 / 33.
(21) سورة البقرة آية 248.
(22) نقد التوراة / حجازي لا السقا ص 92.
(23) صموئيل أول 17 / 23.
(24) سورة البقرة آية 249.
(25) الميزان 285 / 2.
(26) سورة البقرة آية 251.
(27) صموئيل أول 20 / 30.
(28) المصدر السابق 19 / 1.
(29) المصدر السابق 27 / 1.
(30) المصدر السابق 23 / 17.
(31) المصدر السابق 28 / 15.
(32) سورة ص آية 18 - 19.
(33) صمونيل الثاني 24 / 23 - 25.
(34) أخبار الأيام الأول 15 / 15.
(35) الملوك الأول 18 / 18 - 20.
(36) المصدر السابق 8 / 60.
(37) المصدر السابق 8 / 61.
(38) المصدر السابق 9 / 6 - 9.
(39) التثنية 26 / 11.
)40) إنجيل يوحنا 4 / 20 - 22.
(41) المقارنات / د. محمد الصادقي ص 99.
(42) الملوك الأول 12 / 25.
(43) أي قال للشعب.
(44) الملوك الأول 12 / 28 - 29.
(45) المصدر السابق 12 / 21 - 22.
(46) الملوك الثاني 17 / 7، 10، 11، 12، 13، 17.
(47) أشعيا 1 / 3 - 7.
(48) المصدر السابق 59 / 14.
(49) الملوك الأول 12 / 2 وما بعدها.
(50) مقارنة الأديان / إبراهيم خليل ص 86.
(51) مفاتيح الأسفار الإلهية ص 53.
(52) أخبار الأيام الثاني 11 / 14 - 15.
(53) ملوك أول 26 / 15.
(54) المصدر السابق 15 / 28.
(55) المصدر السابق 15 / 34.
(56) المصدر السابق 16 / 8.
(57) المصدر السابق 16 / 11 - 12.
(58) المصدر السابق 16 / 15.
(59) المصدر السابق 16 / 19.
(60) المصدر السابق 16 / 22.
(61) المصدر السابق 16 / 25.
******************
بعد (عمرى) ملك إبنه (أخاب) وقام بإيعاز من امرأته إيزابيل بقتل أنبياء الرب،(1) وكانت أيام حكمه على إسرائيل 22 سنة، وخلفه ابنه (أخزيا) لمدة عامين.(2) ومن بعده تولى الحكم أخوه (يهورام)، وكانت أيام حكمه 12 سنة.(3) ثم خرج عليه قائد جيشه (ياهو) ويذكر العهد القديم أن (باهو) بعث برسائله إلى الرؤساء والشيوخ، وفيها " إن كنتم سمعتم لقولي فخذوا رؤوس رجال بني سيدكم وتعالوا إلي "،(4) وعندما وصلت الرسائل إلى الرؤساء والشيوخ، يقول العهد القديم " أخذوا بني الملك وقتلوا سبعين رجلا، ووضعوا رؤوسهم في سلال وأرسلوها إليه "(5)" وقتل ياهو كل الذين بقوا لبيت أخاب وكل عظمائه ومعارفه وكهنته حتى لم يبق له شارد "،(6) وفي أثناء تقدمه إلى السامرة. صادف جماعة من مملكة يهوذا تربطهم مصاهرة ببيت أخاب. فقال " أمسكوهم أحياء. فأمسكوهم. ثم أمر بقتلهم عند بئر عقد، اثنين وأربعين رجلا.
ولم يبق منهم أحدا ".(7) وكانت الأيام التي ملك فيها ياهو على إسرائيل 28 عاما، وخلفه ابنه (يهوأحاز) ملك على إسرائيل 17 عاما.(8) وتولى الحكم من بعده ابنه (يهواش) لمدة 16 سنة(9) ثم ملك من بعده ابنه (يربعام الثاني) لمدة 41 سنة.(10) ثم جاء من بعده ابنه (زكريا) وكانت مدة حكمه 6 أشهز.(11) خرج عليه (شلوم بن يابيش) وضربه أمام الشعب فقتله وملك عوضا عنة.(12) ولم يدم حكمه إلا شهرا واحدا.(13) خرج عليه (مخيم بن جادي) وضربه في السامرة فقتله. وملك عوضا عنه لمدة 10 سنوات.(14) وخلفه ابنه (فقحيا) وكانت مدة حكمه سنتين.(15) خرج عليه (فتح بن رمليا) وضربه فقتله وملك عوضا عنه، وكانت مدة حكمه 20 سنة،(16) خرج عليه (هوشع بن أيله) وضربه فقتله وملك عوضا عنه 9 سنوات.(17)
في عهد (منحيم بن جادي) بدأت نجم آشور في الظهور، ولقوة ساعدها بعث (منحيم) إلى (فول) ملك آشور. ألف وزنة من الفضة لتكون يداه معه ليثبت المملكة في يده، وفرض (منحيم) على إسرائيل الضرائب ليدفع بملك آشور خمسين شاقل فضة على كل رجل،(18) وفي عهد (فقح بن رمليا) جاء ملك آشور (تفلت فلاسر) إلى إسرائيل. واستولى على بعض الحصون والجبال وكل أرض نفتالي، وسبى أهلها إلى آشور(19) ثم طور الملك الآشوري (شلمنأسر) هجومه على إسرائيل على عهد (هوشع بن إبلة) يقول العهد القديم " صعد عليه شلمناسر ملك آشور، فصار له هوشع عبدا ودفع له جزية، ووجد ملك آشور في هوشع خيانة، لانه أرسل رسلا إلى سوا ملك مصر. ولم يؤد جزية إلى ملك آشور حسب كل سنة. فقبض عليه ملك آشور وأوثقه في السجن. وصعد ملك آشور على كل الأرض. وصعد إلى السامرة..
وأخذ ملك آشور السامرة وبني إسرائيل إلى آشور ".(20)
وهكذا نزل الستار على مملكة قطعت شوطا كبيرا في عالم الانحراف الذي انطلقت فيه بوقود " فقه البقر "، نزل الستار بعد مسيرة استمرت 200 سنة تقريبا (931 - 722 ق. م). لم تقدم فيها قدوة عسكرية أو سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، ولم تفتح فيها طريقا للفطرة. لأن طريق الفطرة لا ترفعه سواعد تحمل أعلام المثل الأعلى المتدني المنحط. حيث العجول والتيوس والسوارى والأصاب وغير ذلك.
أن الحركة الإسرائيلية التي قدمتها مملكة إسرائيل الشمالية. لم تكن من أجل أرض الميعاد أو هيكل سليمان أو المحافظة على نقاء الدم اليهودي، أو غير ذلك من العناوين البراقة التي تاجرت بها مؤسسات الصد عن سبيل الله فيما بعد، وإنما كانت الحركة من أجل الملك والأهواء التي خرجت من دوائر الزينة والإغواء والاحتنكاك، وإذا كنا قد القينا الضوء على الجناح الشمالي للتاريخ الإسرائيلي، فإننا نلقي فيما بعد الضوء على الجناح الجنوبي لهذا التاريخ وأقصد به مملكة يهوذا الجنوبية، لنقف على المقدمات الحقيقية في الماضي البعيد. ونستنتج منها معلومات واقعية في حاضرنا الذي نحياه. ومن هذا الاستنتاج نمد البصر إلى المستقبل لنرى الدوائر الغيبية التي تحدث بها الأنبياء والرسل. وهم يخبرون بالغيب عن ربهم جل وعلا..
2 - ( مملكة يهوذا ) (931 - 586 ق. م)
قامت هذه المملكة بزعامة (رحبعام بن سليمان) يتبعه قبيلتين واتخذت المملكة (أورشاليم) عاصمة لها. وهؤلاء يقيمون العهد القديم بأقسامه الثلاثة: التوراة والكتب والأنبياء.
دخل (رحبعام) في معارك طاحنة مع (يربعام) ملك إسرائيل، ولأن يربعام كان مدفوعا من مصر، ويحمل في قلبه عقيدة العجل التي كانت تدين بها الأسرة الفرعونية الثانية والعشرين (945 - 712 ق. م). لم يتركه فرعون مصر شاشنق وحده في أرض المعركة، وتقدم بقواته نحو أورشاليم ليأخذ منها الخزائن. ويرعى عقيدة العجل التي بدأت تنمو في المملكة، يقول العهد القديم " وعمل يهوذا الشر.. وبنوا هم أيضا لأنفسهم مرتفعات وأنصابا وسوارى على كل تل مرتفع وتحت كل شجرة خضراء.. وفي السنة الخامسة للملك رحبعام صعد شيشق ملك مصر إلى أورشاليم وأخذ خزائن بيت الرب وخزائن بيت الملك، وأخذ كل شئ وأخذ جميع أتراس الذهب التي عملها سليمان، فعمل الملك رحبعام عوضا عنها أتراس نحاس ".(21)
وملك رحبعام 17 سنة،(22) وبعد وفاته ملك أبنه (إبيام) ثلاث سنين.(23) وبعد وفاته ملك إبنه (أسا) 41 سنة. نزع خلالها جميع الأصنام إلا أنه لم ينزع المرتفعات(24) ثم ملك إبنه (يهوشافاط) 25 سنة(25) وصاهر بيت الملك آخاب ملك إسرائيل، وكانت هذه المصاهرة بابا دخلت منه الأوثان بصورة أكبر وأشمل في عهد إبنه (يهورام). الذي ملك يهوذا ثماني سنوات. قال فيها العهد القديم " سار في طريق ملوك إسرائيل كما فعل بيت أخاب لأن بنت أخاب كانت له امرأة "(26)، " وتشدد وقتل جميع أخوته بالسيف "(27)، " وعمل مرتفعات في جبال يهوذا وجعل سكان أورشاليم يزنون "(28)، وملك من بعده ابنه (أخزيا) لمدة سنة واحدة.(29) وقتل بيد (ياهو) ملك إسرائيل الذي خرج في إسرائيل على بيت آخاب وقتلهم جميعا.(30)
وعندما قتل (أخزيا) قامت أمه بإعتلاء العرش في أورشاليم لمدة 6 سنوات، ثم انتهت حياتها بالقتل.(31) وتولى الحكم (يهواش). وكان ابن سبع سنين حين ملك، وملك 40 سنة،(32) وسمح لرؤساء يهوذا بعبادة الأصنام، يقول العهد القديم " جاء رؤساء يهوذا وسجدوا للملك، حينئذ سمع الملك لهم، وتركوا بيت الرب إله آبائهم وعبدوا السوارى والأصنام، فكان غضب على يهوذا وأورشاليم لأجل إثمهم هذا، وأرسل إليهم أنبياء لإرجاعهم إلى الرب واشهدوا عليهم فلم يصغوا ".(33) وانتهت حياة يهواش بالقتل. قتله عبيده في بيت القلعة،(34) وملك عوضا عنه ابنه (أمصيا). وكان ابن خمس وعشرين سنة حين ملك. وملك 29 سنة،(35) يقول العهد القديم " أتى (أمصيا) بآلهة بني ساعير وأقامهم له آلهة. وسجد أمامها وأوقد لها "،(36) وملك من بعده ابنه (عزريا) وكان ابن ست عشرة سنة حين ملك. وملك 52 سنة.(37) وملك من بعده ابنه (يوثام) وكان ابن خمس وعشرين سنة حين ملك وملك 16 سنة.(38)
وملك بعد يوثام ابنه (آخاز) وكان ابن عشرين سنة حين ملك. وملك 16 سنة. يقول العهد القديم: " سار في طريق ملوك إسرائيل. وعمل أيضا تماثيل مسبوكة للبعليم.. وأحرق بنيه بالنار حسب رجاسات الأمم.. وذبح وأوقد على المرتفعات وعلى التلال. وتحت كل شجرة خضراء ".(39) وعندما أغار ملك آرام على مملكة يهوذا بعد الملك (أحاز) برسالة إلى ملك آشور (تغلث فلاسر) يقول له فيها: (أنا عبدك وابنك. اصعد وخلصني من يد ملك أرام ومن يد ملك إسرائيل(40) القائمين علي، وأخذ آحاز الفضة والذهب الموجودة في بيت الرب. وأرسلها إلى ملك آشور هدية. فسمع له ملك آشور ".(41)
وبعد آحاز. ملك ابنه (حزقيا) وكان ابن خمس وعشرين سنة. وملك 29 سنة.(42) وعاصر حزقيا سقوط مملكة إسرائيل وسبي أهلها إلى آشور، وكانت هذه إشارة تحمل عبرة، ولأنهم لم يسمعوا ولم يطيعوا، جاء إليهم ملك آشور (سنحاريب) واستولى على مدن يهوذا الحصينة، يقول العهد القديم: " صعد سنحاريب ملك آشور على جميع مدن يهوذا الحصينة وأخذها، وأرسل حزقيا ملك يهوذا إلى ملك آشور.. يقول:
قد أخطأت! ارجع عني! ومهما جعلت علي حملته! فوضع ملك آشور على حزقيا ملك يهوذا. ثلاث مئة وزنة من الفضة. وثلاثين وزنة من الذهب فدفع حزقيا جميع الفضة الموجودة في بيت الرب وفي خزائن بيت الملك، وفي ذلك الزمان. قشر حزقيا الذهب عن أبواب هيكل الرب والدعائم التي كان قد غشاها حزقيا، ودفعه لملك آشور ".(43)
وبعد وفاة حزقيا. ملك ابنه (متي) وكان ابن اثنتي عشرة سنة.
وملك 55 سنة.(44) يقول العهد القديم عنه: " عمل سواري وسجد لكل جند السماء وعبدها، وبنى مذابح في بيت الرب... وبنى مذابح لكل جند السماء في دارى بيت الرب، وعبر بنيه في النار.. وعاف وتفاءل وسحر واستخدم جانا.. ووضع تمثال الشكل الذي عمله في بيت الله " (45) " وسفك منى دما بريئا جدا. حتى ملا أورشاليم من الجانب إلى الجانب "(46)، وبعد موت منى ملك ابنه (آمون)، وكان ابن اثنين وعشرين سنة، وملك سنتين، وسار على طريق أبيه وعبد الأصنام التي عبدها وسجد لها، وتمرد عليه عبيده وقتلوه في بيته،(47) ثم ملك عوضا عنه ابنه (يوشيا) وكان ابن ثمان سنين حين ملك، وملك 31 سنة،(48) وكان يوشيا مرتبط بمعاهدة مع ملك آشور، وفي خضم الأحداث بين فرعون مصر وملك آشور، قتل فرعون مصر يوشيا،(49) وقام بتعيين ابنه (يهواحاز) عوضا عنه، ثم قام بعزله وأخذه أسيرا، وعين أخوه (الياقيم) عوضا عنه ملكا على يهوذا، بعد أن غير اسمه إلى (يهوياقيم) وكان ابن خمس وعشرين سنة حين ملك. وملك 21 سنة.(50) يقول العهد القديم:
ودفع يهوياقيم الفضة والذهب لفرعون. إلا أنه قوم الأرض لدفع الفضة بأمر فرعون. كل واحد حسب تقويمه. وطالب الشعب بالفضة والذهب.(51)
ولم يدم الحال لفرعون مصر في بسط سلطانه على مملكة يهوذا، ففي أيام يهوياقيم. ظهر نجم ملك بابل (نبوخذ ناصر) يقول العهد القديم: " في أيامه صعد نبوخذ ناصر ملك بابل، فكان له يهوياقم (ملك يهوذا) عبدا ثلاث سنين ".(52) " ولم يعد ملك مصر يخرج من أرضه، لأن ملك بابل أخذ من نهر مصر إلى نهر الفرات. كل ما كان لملك مصر "،(53) وبعد يهوياقيم الذي قيده نبوخذ ناصر بسلاسل نحاس(54) ملك ابنه (يهوياكين) عوضا عنه. وكان ابن ثمان عشر سنة حين ملك، وملك ثلاثة أشهر.(55) يقول العهد القديم: " في ذلك الزمان... جاء نبوخذ ناصر ملك بابل على المدينة وكان عبيده يحاصرونها، فخرج يهوياكين ملك يهوذا إلى ملك بابل، هو وأمه وعبيده ورؤساؤه وخصيانه. وأخذه ملك بابل.. وأخرج من هناك جميع خزائن بيت الرب وخزائن بيت الملك.. وسبى كل أورشاليم وكل الرؤساء وجميع جبابرة البأس عشرة آلاف مسبي، وجميع الصناع والأقيان.. لم يبق أحد إلا مساكين شعب الأرض، وسبى يهوياكين إلى بابل وأم الملك ونساء الملك وخصيانه.. سباهم من أورشاليم إلى بابل "،(56) وقام ملك بابل بتعيين (متينا) عوضا عنه، وغير اسمه إلى (صدقيا) وكان ابن إحدى وعشرين سنة حين ملك.(57) ثم عاد نبوخذ ناصر مرة أخرى إلى أورشاليم، وأخذ (صدقيا) وقتل أولاده أمام عينيه.
وقلعوا عينه. وقيدوه بسلاسل من نحاس. وجاؤوا به إلى بابل(58) وأحرقوا بيت الرب وبيت الملك وكل بيوت أورشاليم. وأعمدة النحاس التي في بيت الرب. والقواعد كسروها وحملوا نحاسها إلى بابل.(59)
3 ـ (نظرات على المسيرة)
لقد انطلقت المسيرة تحت سقف الامتحان والابتلاء، تحيط بهم حجة موسى عليه السلام في عهد خيمة الاجتماع وحجة داوود وسليمان في عهد الهيكل، ولقد أخبر الله تعالى في كتابه أن موسى عليه السلام قد أحاطهم علما. بأن استخلافهم في الأرض من أنواع الامتحان بالملك، قال تعالى: (قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا. قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون)(60) وشهد العهد القديم بأن مسيرة الشعب لم تسير على هدى الأنبياء. ولم تفتح للفطرة الإنسانية بابا وصدت عن سبيل الله. وانطلقت بزاد ووقود مرابط العجول والتيوس التي انتشرت عبادتها في مصر على امتداد العصور الفرعونية، ولقد ذكر القرآن الكريم أنهم بعد خروجهم من مصر عبدوا العجل في زمن موسى عليه السلام، وتوعد الله تعالى الذين أشربوا في قلوبهم حب العجل بغضب الله والذلة في الدنيا، ومن لطفه تعالى بالمسيرة وهي في مهدها أمرهم سبحانه بأن يذبحوا بقرة. ليعلموا أن الله هو الذي يحيي ويميت، فذبحوها وما كادوا يفعلون، وظل فقه كهنة البقر يدفع مسيرة الانحراف حتى صارت عبادة البقر والتيوس عبادة رسمية. الخارج عنها خارج عن الشرعية في مملكة إسرائيل ومملكة يهوذا، وتحت هذا الفقه جرى القتال على الملك. وذكر العهد القديم: أن ملك إسرائيل قتل من يهوذا مائة وعشرين ألفا في يوم واحد، وسبى بنو إسرائيل من إخوتهم مئتي ألف من نساء وبنين وبنات، ونهبوا أيضا من غنيمة وافرة وأتوا بالغنيمة إلى السامرة. وذكر القرآن الكريم أن الله تعالى أخذ عليهم الميثاق بأن لا يفعلوا ذلك. قال تعالى: (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان. وإن يأتوكم أساري تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم..).
وذكر العهد القديم أن فقه كهنة البعل والقتال على الملك. أنتج في نهاية المطاف أنماطا بشرية لا يمكن بحال أن تقود مسيرة في إتجاه الفطرة، وفي هذا يقول أشعيا " ألان أيديكم تنجست بالدم، وأصابعكم بالإثم، وشفاهكم تكلمت بالكذب، ولسانكم يلهج بالشر، ليس من يدعو بالعدل وليس من يحاكم بالحق " (61) وقال " رؤساؤك متمردون ولقضاء اللصوص، كل واحد منهم يحب الرشوة ويتبع العطايا، لا يقضون لليتيم. ودعوى الأرملة لا تصل إليهم "(62) وقال " تكلمنا بالظلم والمعصية، حبلنا ولهجنا من القلب بكلام الكذب، وقد ارتد الحق إلى الوراء والعدل يقف بعيدا. لأن الصدق سقط في الشارع والاستقامة لا تستطيع الدخول "(63) وقال " قد حبلوا بتعب وولدوا أثما، فقسوا بيض أفعى ونسجوا خيوط العنكبوت الأكل من بيضهم يموت. والتي تكسر تخرج أفعى، خيوطهم لا تصير ثوبا، ولا يكتسبون بأعمالهم، أعمالهم أعمال إثم، وفعل الظلم في أيديهم، أرجلهم إلى الشر تجري وتسرع إلى سفك الدم الزكي، أفكارهم أفكار إثم، في طرقهم اغتصاب وسحق وطريق السلام لم يعرفوه، وليس في مسالكهم عدل، جعلوا لأنفسهم سبلا معوجة وكل من يسير فيها لا يعرف سلاما ".(64)
لقد قال أشعيا أن رؤساء الشعب فيهم لصوص يحبون الرشوة ويتبعون العطايا. وقال تعالى في كتابه (إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل)(65) وقال أشعيا أن الشعب تكلم بالظلم والمعصية والكذب. وبأن أيديهم تنجست بالدماء وأصابعهم بالإثم.
وقال الله تعالى في كتابه: (وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان)(66) وقال أشعيا أن بيضهم بيض أفعى الأكل منه يموت والتي تكسر تخرج أفعى. وقال تعالى في كتابه: (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا)(67) وقال أشعيا إن أرجلهم إلى الشر تجري وتسرع إلى سفك الدم الزكي. وقال تعالى في كتابه: (يسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين)(68) وقال أشعيا أن في طرقهم اغتصاب وسحق وطريق السلام لم يعرفوه. وقال تعالى في كتابه:
(ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا)(69) وقال أشعيا إنهم جعلوا لأنفسهم سبلا معوجة وكل من يسير فيها لا يعرف سلاما. وذكر تعالى في كتابه حركة الذين كفروا من أهل الكتاب. فقال: (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم)(70) وقال (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا)(71) وقال (ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم)(72) إلى آخر هذه الآيات التي تكشف مناهج سبلهم في الصد عن سبيل الله.
فالمسيرة لم تنتج هدى وإنما ظلاما. ولم تنتج خبزا وإنما دما.
لهذا قال أشعيا " نلتمس الحائط كعمي. وكالذي بلا أعين نتجسس. قد عثرنا في الظهر كما في العتمة "(73) وقال " كيف صارت القرية الآمنة زانية.. كان العدل يبيت فيها. وأما الآن فالقاتلون "(74) لهذا وقعوا تحت العقاب الإلهي، بما قدمت أيديهم. قال تعالى: (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا، إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا)(75) فالعقاب كان نتيجة لمقدمة. سلكوا فيها سبل الضلال بعد أن بين لهم الأنبياء والرسل والهدف الذي من أجله خلقهم الله. وبينوا الإمكانيات الإنسانية والإمكانيات التي في الكون التي تسمح لتحقيق هذا الهدف، ودعم الأنبياء والرسل أقوالهم بالحجة والمعجزة ليكون لكلامهم مشروعية القبول من أقوامهم ومن العصر، ثم بينوا لهم أصلح وأنضج العناصر التي ينبغي أن تكون في ذروة المسيرة لقيادة الناس نحو الهدف، ولكن المسيرة الإسرائيلية ضلت الطريق. لأن سلوكها كان استجابة لحاجة معينة صرخت بها بعض الغرائز التي تصنمت أمام لافتات التزيين والإغواء والإلقاءات الشيطانية، وتحت إلحاح هذه الحاجة نظمت المسيرة عمليات الدوافع والانفعالات والإدراك والمعرفة، فكان تغيير الاتجاه من النور إلى الظلام، وتغيير الاتجاه يبدأ حين يبدأ إما بالانقلاب على معالم اتجاه النور وإما بإضافة معلومات تحط من شأنه وتجعل الناس ينفضون من حوله، ولقد ترتب على تغيير الاتجاه الفطري أن المسيرة لم تنتج إلا ظلاما ودما كما ذكر أشعيا، ولهذا ضربها عذاب الذلة والمسكنة والاستدراج لتركيب طريق جهنم كما ذكر القرآن، ويخطئ من يظن أن المسيرة من بعد الأنبياء قد قدمت زادا فطريا، أو قاتلت وفقا لتعاليم الأنبياء، ولقد تبينا من خلال سردنا لحركة المملكتين إسرائيل ويهوذا أن القتال لم يكن إلا على الملك، وأن ما تاجر به الخلف فيما بعد بأن القتال كان من أجل أرض الميعاد أو لإقامة مملكة داوود، أو للمحافظة على نقاء الدم اليهودي.
فكل هذا وغيره. لا وجود له إلا على موائد التبرير والترقيع والتماس الأعذار وتغليب الأهواء.
فالمسيرة خرجت على تعاليم داوود ومزقت دولة سليمان، وقدمت كنوز الهيكل إما هدية وإما جزية للحفاظ على الملك، وأقامت داخل الهيكل أصنام الأمم. وفي نهاية المطاف أغلقوه، يقول العهد القديم " وجمع أحاز آنية بيت الله، وقطع آنية بيت الله، وأغلق أبواب بيت الله، وعمل لنفسه مذابح في كل زاوية في أورشاليم وفي كل مدينة من يهوذا. وعمل مرتفعات للايقاد للآلهة الأخرى ".(76)
وبتدبر انطلاقة المسيرة تحت سقف الامتحان والابتلاء، وبالوقوف أمام انحرافهم في اتجاه العجول، وما ترتب عليه من دق أوتاد الضلال في طريق التقدم البشري لتتعثر القافلة في طريق الاختيار، نجد أن الشباك التي صنعها الذين كفروا من بني إسرائيل ليقع فيها الناس، قد وقع فيها الذين كفروا وهم لا يشعرون قبل أن يقع الناس، فالقوم صنعوا الفتن أولا فقادتهم الفتن إلى فتنة الدجال، والطريق إلى الدجال لا يحمل إلا معالم الذلة والمسكنة وغضب الله، فتحت هذا السقف يسير الذين صنعوا الفتن وصدوا عن سبيل الله. بعد أن ضلوا ضلالا بعيدا وكفروا وظلموا، لأن الله تعالى أوجب على نفسه أن لا يهديهم طريقا إلا طريق جهنم خالدين فيها.
وطريق الذلة والمسكنة له معالم في العهد القديم وبينة القرآن الكريم، وما كانت آشور وبابل أول الزمان إلا بداية لهذا الطريق، بعد أن تعمقت المسيرة في الضلال ولم يكن تقدمها إلا إلى الخلف، يقول العهد القديم بعد سقوط مملكة إسرائيل في يد آشور " لم يبق إلا سبط يهوذا وحده. ويهوذا أيضا لم يحفظوا وصايا الرب إلههم. بل سلكوا في فرائض إسرائيل التي عملوها. فرذل الله كل نسل إسرائيل وأذلهم "(77) فالمسيرة تحت سقف الذلة، وبداية هذا السقف تبدأ من عند الذين عبدوا العجل أيام موسى وهارون عليهما السلام، وقال فيهم تعالى: (إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين).(78) فالجزاء يقف تحت سقفه الذين اتخذوا العجل عند المقدمة، ثم المفترين الذين ساروا على طريقهم، ويقف تحته قتلة الأنبياء. وقال تعالى في الذين كفروا من بني إسرائيل (وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون)(79).
قال في الميزان: الذلة مضروبة عليهم كضرب السكة على الفلز، أو كضرب الخيمة على الإنسان، فهم مكتوب عليهم أو مسلط عليهم الذلة، قال تعالى في آية أخرى (ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباؤا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة)(80) وقد كرر الله تعالى لفظ الحبل بالإضافة إلى الله وإلى الناس لاختلاف المعنى بالإضافة، فإنه من الله القضاء والحكم تكوينا أو تشريعا، ومن الناس البناء والعمل. والمراد بضرب الذلة عليهم القضاء التشريعي بذلتهم، والدليل على ذلك فوله تعالى: (أينما ثقفوا).
وظاهر المعنى: أينما وجدهم الناس تسلطوا عليهم، والذلة التشريعية من آثارها الجزية إذا تسلط عليهم المؤمنون، ومعنى قوله تعالى: (وباؤا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة) باؤا: أي اتخذوا مباة ومكانا والمسكنة: أشد الفقر. والظاهر أن المسكنة: أن لا يجد الإنسان سبيلا (2) (3) إلى النجاة والخلاص مما يهدده من فقر وغيره.(81) ومن معالم الذلة بعث البعوث عليهم ويشهد بذلك قوله تعالى: (وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يومهم سوء العذاب. إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم).(82) قال في الميزان: والمعنى: ليبعثن على هؤلاء الظالمين بعثا يدوم عليهم ما دامت الدنيا من يذيقهم ويوليهم سوء العذاب، وهو تعالى غفور رحيم بعباده، لكنه إذا قضى لبعض عباده بالعقاب لاستيجابهم ذلك بطغيان وعتو ونحو ذلك، فسرعان ما يتبعهم إذ لا مانع يمنع عنه ولا عائق يعوقه.(83) وآشور وبابل أول الزمان صورة تحمل معالم هذا العقاب وهذا الغضب.
لقد وقعوا تحت العقاب نتيجة لمقدمات قدموها وسار عليها الذين من خلفهم، وهذا العقاب له محطة في آخر الزمان يرفع أعلامها المسيح الدجال. وهو الفتنة الكبرى التي من أجلها صنعت جميع الفتن صغيرة أو كبيرة منذ كانت الدنيا، فالذين سقطوا أول الزمان يحمل بصماتهم الذين سيسقطون آخر الزمان، والله تعالى أعز وأمنع من أنه يظلم أو أن ينسب إلى نفسه الظلم.
الهوامش
(1) الملوك الأول 21 / 15 - 16.
(2) المصدر السابق 22 / 53.
(3) الملوك الثاني 3 / 3.
(4) المصدر السابق 10 / 6.
(5) المصدر السابق 10 / 7.
(6) المصدر السابق 10 / 12.
(7) المصدر السابق 10 / 14.
(8) المصدر السابق 13 / 3.
(9) المصدر السابق 13 / 11.
(10) المصدر السابق 14 / 24.
(11) المصدر السابق 15 / 9.
(12) المصدر السابق 15 / 12.
(13) المصدر السابق 15 / 14.
(14) المصدر السابق 15 / 18.
(15) المصدر السابق 15 / 22.
(16) المصدر السابق 27 / 15.
(17) المصدر السابق 17 / 2.
(18) المصدر السابق 15 / 19.
(19) المصدر السابق 15 / 29.
(20) المصدر السابق 17 / 3 - 5.
(21) مقارنة الأديان / إبراهيم خليل ص 87.
(22) الملوك الأول 14 / 27.
(23) المصدر السابق 14 / 21.
(24) أخبار الأيام الأول 13 / 2.
(25) الملوك الأول 15 / 9.
(26) المصدر السابق 22 / 41.
(27) الملوك الثاني 8 / 17.
(28) أخبار الأيام الثاني 21 / 4.
(29) المصدر السابق 21 / 11.
(30) المصدر السابق 22 / 2.
(31) المصدر السابق 22 / 9.
(32) أخبار الأيام الثاني 23 / 15.
(33) المصدر السابق 24 / 1.
(34) المصدر السابق 24 / 17 - 19.
(35) الملوك الثاني 12 / 20.
(36) المصدر السابق 14 / 1.
(37) أخبار الأيام الثاني 25 / 14.
(38) الملوك الثاني 15 / 2.
(39) المصدر السابق 15 / 34.
(40) أخبار الأيام الثاني 28 / 3 - 4.
(41) كانت هذه الأحداث قبل سقوط مملكة إسرائيل الشمالية.
(42) الملوك الثاني 16 / 7 - 9.
(43) أخبار الأيام الثاني 29 / 1.
(44) الملوك الثاني 18 / 13 - 16.
(45) المصدر السابق 21 / 1.
(46) أخبار الأيام الثاني 33 / 4 - 7.
(47) الملوك الثاني 21 / 15 - 16.
(48) المصدر السابق 21 / 21 - 24.
(49) المصدر السابق 22 / 1.
(50) المصدر السابق 23 / 29.
(51) الملوك الثاني 23 / 26.
(52) المصدر السابق 23 / 35.
(53) المصدر السابق 24 / 1.
(54) المصدر السابق 24 / 6.
(55) أخبار الأيام الثاني 36 / 7.
(56) الملوك الثاني 24 / 8.
(57) المصدر السابق 24 / 10 - 16.
(58) المصدر السابق 24 / 18.
(59) المصدر السابق 25 / 6.
(60) المصدر السابق 25 / 9 وما بعدها.
(61) سورة البقرة آية 84.
(62) أشعيا 59 / 3 - 4.
(63) المصدر السابق 1 / 22.
(64) المصدر السابق 59 / 14.
(65) المصدر السابق 59 / 5 - 8.
(66) سورة التوبة آية 34.
(67) سورة المائدة آية 62.
(68) سورة المائدة آية 82.
(69) سورة المائدة آية 64.
(70) سورة آل عمران آية 186.
(71) سورة البقرة آية 105.
(72) سورة البقرة آية 109.
(73) سورة آل عمران آية 69.
(74) أشعيا 1 / 21.
(75) المصدر السابق 59 / 10.
(76) سورة النساء 167 - 168.
(77) أخبار الأيام الثاني 28 / 6 - 9.
(78) الملوك الثاني 17 / 19.
(79) سورة الأعراف آية 152.
(80) سورة البقرة آية 61.
(81) سورة آل عمران آية 112.
(82) الميزان 384 / 3.
(83) سورة الأعراف آية 167.
******************
ثالثا (فتن البحث عن هوية)
مما لا شك فيه أن وجود الفرد في بيئة معينة واتصاله المستمر بالعالم الخارجي يجعله يكتسب خبرات جديدة تعدل من استعداداته وميوله الفطرية، فالعالم الخارجي له أثرا بالغا على تنظيم الانفعال الذي يمد الفرد بالطاقة العصبية اللازمة. للتعبير عن الغريزة حتى تتجمع حول شخص معين أو حول شئ معين، والمسيرة الإسرائيلية لم تنقطع يوما عن العالم الخارجي. ولهذا اكتسبت مجموعة من الخصائص الانفعالية المميزة للفرد، أو بعبارة أخرى مجموعة الصفات التي يتسم بها سلوك الفرد وانفعالاته ودوافعه، وعلى امتداد المسيرة وفي كل مرة يحدث الاتصال بالعالم الخارجي. تتأثر مجموعة من الغرائز والانفعالات المختلفة. فإن كانت في مجموعها تلتقي مع الأهواء أدت إلى عاطفة حب. وإن كانت في مجموعها مؤلمة أدت إلى عاطفة كره.
والدين الإلهي لم يترك الإنسان للعالم الذي من حوله، وإنما قدم البناء اللازم الذي تتكامل به الشخصية وتتآلف عناصرها بحيث تتجه اتجاها موحدا نحو غرض معين، ولكن المسيرة الإسرائيلية إختلفت عناصر شخصيتها عندما ابتعدت عن خط الأنبياء، مما أدى إلى حدوث الانقسامات المختلفة بين العناصر وتعارضت اتجاهاتها، فكان من نتيجة ذلك ضعف الشخصية أمام الزينة والزخرف في العالم الخارجي، فراحت تأكل من ثماره وتجتر ذكرياتها على سبيله، وأنتج زاد الثمار والذكريات العقد النفسية التي هي في مجملها استعداد وجداني مكتسب دائم. يؤثر في سلوك المرء وشعوره ويفرغ عليهما طابعا خاصا، ومما لا شك فيه أن العقدة النفسية قد تنشأ من صدمة انفعالية عنيفة، أو قد تنشأ من صراع نفسي غير محسوم، أو قد تنشأ من تربية غير رشيدة، هذا كله له معالم على امتداد المسيرة الإسرائيلية التي أرغمتها العقد النفسية في نهاية المطاف على الخوف. حتى ولو لم يكن هناك داعيا إلى الخوف، وهذا كله نتيجة حقيقية. لمقدمة حقيقية. غيروا فيها اتجاههم الفطري.
وأصبحوا عالة على حركة وإنتاج الأمم من حولهم.
والباحث في المسيرة الإسرائيلية يجد أن المسيرة قد تأثرت بعقائد العالم الخارجي، ومن ثياب هذه العقائد اتخذت المسيرة ثوبا واحدا أضافت إليه معالم سماوية باهتة، تتفق مع أهوائهم وتنسجم مع العقد النفسية التي أفرزتها الأحداث على امتداد المسيرة، وفي نهاية المطاف رشحت ثقافات هذه العقائد على المدنية المعاصرة وهددت الإنسانية بالانهدام. ومهدت الطريق إلى المسيح الدجال. وفي إفرازات المسيرة الإسرائيلية يقول صاحب تفسير الميزان: إذا تأملت قصص بني إسرائيل المذكورة في القرآن، وأمعنت فيها. وما فيها من أسرار أخلاقهم وجدت أنهم كانوا قوما غائرين في المادة مكبين على ما يعطيه الحس من لذائذ الحياة الصورية، فقد كانت هذه الأمة لا تؤمن بما وراء الحس ولا تنقاد إلا إلى اللذة والكمال المادي، وهم اليوم كذلك، وهذا الشأن هو الذي صبر عقولهم وإرادتهم تحت انقياد الحس والمادة. لا يعقلون إلا ما يجوزانه، ولا يريدون إلا ما يرخصان لهم ذلك، فانقياد الحس يوجب لهم أن لا يقبلوا قولا إلا إذا دل عليه الحس، وانقياد المادة اقتضى فيهم أن يقبلوا كل ما يريده أو يستحسنه لهم كبرائهم من جمال المادة وزخرف الحياة، فأنتج ذلك فيهم التناقض قولا وفعلا، فهم يذمون كل اتباع باسم أنه تقليد وإن كان مما ينبغي إذا كان بعيدا من حسهم، ويمدحون كل اتباع باسم أنه حظ الحياة وإن كان مما لا ينبغي إذا كان ملائما لهوساتهم المادية، وقد ساعدهم على ذلك وأعانهم عليه مكثهم الممتد وقطونهم الطويل بمصر تحت استذلال المصريين، واسترقاقهم وتعذيبهم، وبالجملة: فكانوا لذلك صعبة الانقياد لما يأمرهم به أنبيائهم والربانيون من علمائهم مما فيه صلاح معاشهم ومعادهم، وسريعة اللحوق إلى ما يدعوهم المغرضون والمستكبرون منهم، وقد ابتليت الحقيقة والحق اليوم بمثل هذه البلية بالمدنية المادية، فهي مبنية القاعدة على الحس والمادة. فلا يقبل دليل فيما بعد عن الحس، ولا يسأل عن دليل فيما تضمن لذة مادية حسية، فأوجب ذلك إبطال الغريزة الإنسانية في أحكامها، وارتحال المعارف العالية والأخلاق الفاضلة من بيننا. فصار يهدد الإنسانية بالانهدام، وجامعة البشر بأشد الفساد وليعلمن نبأه بعد حين.(1)
. فالمسيرة اكتسبت من العالم الوثني الشئ الكثير، وكان لهذا أثرا بالغا على سلوك الفرد وانفعالاته ودوافعه، ودفعت المسيرة في صراع نفسي غير محسوم أدى إلى تناقض حركتها قولا وفعلا، وهذا الاهتزاز النفسي رشح فيما بعد على الجامعة البشرية وهددها بالفساد، ولبيان المكتسبات الإسرائيلية من الأمم الوثنية الاستكبارية، نلقي بعض الضوء على أهم المحطات التي تزودت منها المسيرة الإسرائيلية.
1 - ( فتنة العجل )
لا شك أن أبرز ظاهرة في خصائص الديانة المصرية القديمة هي كثرة الآلهة، ولو ذرعنا المنطقة من منف إلى أسوان وبحثنا في كل مركز من مراكز العبادة، لوجدنا كائنات إلهية تتخذ صور الأبقار والتماسيح والكباش والكلاب الوحشية واللبؤات والعجول، وكثيرا من المخلوقات الأخرى ويطلق عليها عادة أسماء شتى في مختلف المدن، ورغم أن الآلهة تبعا لبلادها كانت تختلف في الشكل وفي الاسم. إلا أنه توجد عدة دلائل على أن المعتقدات الدينية كانت موحدة في أذهان المصريين أكثر مما نظن من واقع اختلاف أشكال الآلهة وأسمائهم(2) ويجل جميع قدماء المصريين البقرة لأنها معطية اللبن ولأنها الأم السماوية للشمس كما يعتقدون، وأطلقوا على البقرة اسم (صخور) وكثيرا ما كانوا يبنون لها المعابد ويكرسون لها قطعانا كاملة من أخواتها، وكذلك للآلهة التي تتخذ صورة الثور (مثل: مونتو، ومين، وآمون) وللثيران التي تتجسد فيها الآلهة (مثل: منفيس، أبيس، هليوبوليس).(3)
والعجل أبيس له بصمات واضحة على العقيدة المصرية القديمة، فهو رمز الاخصاب. واعتقد المصريون أن العجل أبيس اقترن بإله منف (بتاح) واندمج في (أوزيريس) فتكون منهما إله جنائزي. ومنذ ذلك الوقت اتخذ موت العجل أبيس أهمية بالغة، فيدفن بجنازة رسمية وسط جمع من الكهنة وغيرهم الذين كانوا يحضرون له الهدايا من كافة أرجاء المملكة، وكانوا يعتقدون أن أبيس عندما يموت يعود فيولد من جديد، ولهذا كان الكهنة يبحثون عنه بمجرد أن يموت، ويتوجهون إلى الحقول ويفحصون القطعان للعثور على ذلك الإله الذي يمكن التعرف عليه بعلامات خاصة فوق جلده، وعندما يعثرون عليه يحل الفرح محل الحزن ويتوج العجل الإلهي في الحظيرة المقدسة بمنف. حيث يعيش مع أمه يحيط به حريم الأبقار.(4)
فالبقرة ترمز إلى الاخصاب. وعقيدتها تقول أنها في (أبيس) بمجرد أن تموت تبعث من جديد. وهي في (صخور) حاكمة السماء وجسمها الحقيقي، والروح الحية للأشجار، ومربية ملك مصر، وأم حورس، وربة الذهب، وشخصية متعددة الألوان بوسعها أن تأخذ صورة لبؤة، وهي ربة للسعادة والرقص والموسيقى.(5)
فس هذه العقائد شربت قلوب الذين كفروا من بني إسرائيل حب العجول. وقبل أن تجف أقدامهم من عبور البحر مع موسى عليه السلام اتخذوا العجل إلها. قال تعالى: (ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون. وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم).(6)
وعلى عقيدة بعث العجل بمجرد أن يموت، إنطلقوا في آشور وفي بابل تحت سقف السبي، يبحثون عن هوية جديدة تبعث عليها دولتهم، لتضاهي (حخور) حاكمة السماء وجسمها الحقيقي. وتكون كالروح الحية للأشجار كما تقول عقيدة الأبقار، وتحت سقف البحث عن هوية.
كانت يد الله تعمل في الخفاء وهم لا يشعرون، قال تعالى: (إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين)(7) وذلك لأن نظام العالم هو نظام الأسباب والمسببات، والمسيرة لم تأخذ بأسباب التوبة والرجوع إلى الله، وإنما أخذت بأسباب لا تحقق النجاة ولا تهدي طريقا إلا طريق الفتنة التي تقود أتباعها إلى جهنم.
2 - ( فتنة الدماء النقية )
لا شك في أن الشيطان صد عن العبادة الحق التي تصل الإنسان بربه. وتحقق له السعادة في الدنيا بما يوافق الكمال الأخروي، وبرنامج الشيطان الذي صد به عن العبادة. هو نفس البرنامج الذي شوه به رموز هذه العبادة لينفق الناس من حولهم، فالله تعالى اصطفى من خلقه آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران وآل محمد. كما أخبر القرآن والسنة.
فهؤلاء من دون الناس الذين أخلصهم الله تعالى لعبادته، وباختصار:
اصطفى الله الأنبياء والرسل واختار سبحانه من عباده من يقوم بيان شريعته للناس. فهؤلاء أصحاب الدماء النقية، بمعنى أن الشيطان ليس له فيهم نصيب، والشيطان صد عن هذا السبيل بإلقاءاته. ومن معالم هذه الإلقاءات ظهور ثقافة تبناها الجبابرة والطواغيت على امتداد المسيرة البشرية. والعمود الفقري لهذه الثقافة. أن في عروق هؤلاء وأسرهم تجري دماء الآلهة، ووفقا لهذا الاعتقاد الذي فرضوه على شعوبهم. حكموا بالحديد وبالنار، وظل الحكم في هذه الأسر قرونا طويلة نتيجة لهذا الاعتقاد، وما أن تسقط أسرة حتى تقوم مكانها أسرة جديدة. تنطلق من هذا المستنقع الذي ابتليت به المسيرة البشرية.
وعلى هذا الاعتقاد كان الفراعنة وملوك آشور وملوك بابل والإغريق والبطالمة، وجميع هؤلاء احتكت بهم المسيرة الإسرائيلية.
وتأثرت ببرامجهم المادية والحسية، ولقد رشحت ثقافة تزكية الفرد والأسرة والقبيلة التي تحتويها هذه البرامج على المسيرة البشرية فيما بعد، ورد عليها القرآن الكريم. قال تعالى: (ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم. بل الله يزكي من يشاء ولا تظلمون فتيلا. أنظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا)(8) وقال جل شأنه (فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى).(9)
وفي آشور وبابل لم يضع بني إسرائيل أعمدة الأسرة المختارة وإنما وضعوا أعمدة الشعب المختار الذي يدخر له الغيب أميرا مختارا يمتلكون به الأرض، وكانت الأرضية التي وضعوا عليها هذه الأعمدة قولهم: سيغفر لنا، ولكي يتفق هذا المدخل مع ما ارتكبوه من جرائم، نسبوا إلى الأنبياء ما لا يتفق مع عصمتهم ومكانتهم، بمعنى أن الخطأ إذا وقع فيه الأنبياء. فإن من دونهم يلتمس له الأعذار، وبعد أن أدخلوا أنفسهم في دائرة المغفرة، أدخلوا أنفسهم في دوائر التبشير التي أخبر بها الأنبياء عن ربهم، بمعنى إذا كان في بطن الغيب أمه اختارها الله لقيادة البشرية ادعوا أن الأمة أمتهم، وأن الأوصاف التي بينها الأنبياء تنطبق عليهم في بطن الغيب لكونهم شعب الله المختار. الذين ينفردون عن الناس ولهم أفضليتهم على جميع المخلوقات في نظر الخالق، وبهذا وبغيره جعلوا الكتاب المقدس ينطق. بعد أن حرفوا النصوص وتأولوها. وبعد أن وضعوها في غير مواضعها.
وقولهم سيغفر لنا. أشار إليه قوله تعالى: (وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك. وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون. فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق..)(10) قال ابن كثير: يذكر تعالى أنه فرقهم في الأرض طوائف وفرقا، فيهم الصالح وغير ذلك، واختبرهم بالرخاء والشدة والرغبة والرهبة والعافية والبلاء لعلهم يرجعون، فخلف من بعدهم خلف لا خير فيهم وقد ورثوا دراسة التوراة، لا يشرف لهم شئ من الدنيا إلا أخذوه حلالا كان أو حراما ويقولون سيغفر لنا.(11)
وقال في الميزان: قولهم " سيغفر لنا " قول جزافي لهم قالوه، ولا معول لهم فيه إلا الاغترار بشعبهم الذي سموه شعب الله. كما سموا أنفسهم أبناء الله وأحباءه، ولم يقولوا ذلك لوعد النفس بالتوبة، ولا أنهم قالوا ذلك رجاء للمغفرة الإلهية، فليس ما تظاهروا به رجاءا صادقا بل أمنية نفسانية كاذبة، وتسويل شيطاني موبق، فمن كان يرجو لقاء ربه، فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا.(12)
ومن باب قولهم سيغفر لنا فتحوا أبوابا قالوا عندها يوما: نحن أولياء الله من دون الناس، ويوما: نحن أبناء الله وأحبائه، ووضعوا هذه الأقوال داخل عقيدة تقول خطوطها العريضة: ليس علينا في الأميين سبيل، ومن هذا النسيج قاموا ببناء نظرية تفوقهم على البشر وانفراديتهم عن الناس وأفضليتهم على جميع المخلوقات في نظر الخالق، وانطلقوا وراء الأحبار يرددون القول بأنهم أمة فريدة تقف من الأمم موقف المختار الذي يتمتع بحقوق ليس لغيره، ولأنهم أمة فريدة فإن أمتهم عندما تموت تبعث من جديد، لأنها كالروح الحية للأشجار، وكالأم السماوية معطية اللبن لجميع المواليد ليؤمنوا بالعهد الألفي السعيد.
ومن الترديد وراء الأحبار انطلقوا إلى دائرة العمل، وخطوطها العريضة تقول: إن داوود إختاره الإله وعينه ملكا، ومملكة داوود هي عنوان ودعاء عهد الإله لإبراهيم، وأورشاليم اختارها الله عاصمة لهذا الملك، وعلى الجميع أن يخضعوا لهذه المملكة ولعاصمتها، لأن التعبد لله لا ينفصل عن الدولة وعاصمتها، وإذا كانت الدولة قد اندثرت على أيدي الغزاة، فإنها عندما اندثرت من على الأرض ولدت من جديد داخل صدور بني إسرائيل، وعليهم أن يعملوا لبسط نفوذ الدولة وفقا لنظرية تفوقهم على البشر وانفراديتهم عن الناس، حتى يأتي ابن داوود أمير السلام آخر الزمان. فهو وحده المسيح الذي سيعيد المجد لإسرائيل على أرض الواقع، وعلى الجميع أن يخضع من اليوم لمملكته الأزلية ولعاصمتها أورشاليم.
وهكذا جعلوا الكرامة الإلهية سهلة التناول، وزعموا أن هذه الكرامة وضعت على عاتق العنصر العبري. أكرمهم الله بها إكراما مطلقا من غير شرط ولا قيد، ولما كانت هذه الكرامة والسؤدد أمر جنسي خص بني إسرائيل، جعلوا الانتساب الإسرائيلي مادة الشرف وعنصر السؤدد. والمنتسب إلى إسرائيل له التقدم المطلق على غيره، لأن هذه الروح الباغية إذا دبت في قالب قوم. بعثتهم إلى إفساد الأرض وإماتة روح الإنسانية وآثارها الحاكمة في الجامعة البشرية، بينت الرسالة الخاتمة على نبيها الصلاة والسلام. أن الكرامة الإلهية ليست بذاك المبتذل السهل التناول. يحسبها كل محتال أو مختال كرامة جنسية أو قومية. بل يشترط في نيلها الوفاء بعهد الله وميثاقه والتقوى في الدين، فإذا تمت الشرائط حصلت الكرامة. وهي المحبة والولاية الإلهية التي لا تعدوا عباده المتقين، وأثرها النصرة الإلهية والحياة السعيدة التي تعمر الدنيا وتصلح بال أهلها وترفع درجات الآخرة، وبالجملة: إن الله تعالى لا يصطفي أحدا بالاستخلاف اصطفاءا جزافا. ولا يكرم أحدا إكراما مطلقا من غير شرط ولا قيد، والاستخلاف تحت سقف الامتحان والابتلاء يخضع لسنة الله الحاكمة. ومنها النقل والإقالة، ولا يخص الله بحسن العاقبة إلا من يتقيه من عباده أينما وجدوا. ولقد رد القرآن الكريم على بني إسرائيل ومن حذى حذوهم من النصارى قولهم بأفضليتهم على البشر، فقال تعالى: (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه. قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء).(13) ورد على بني إسرائيل قولهم بأنهم مغفور لهم. وأن مسيرتهم نحو أهدافهم مسيرة يتعبدون فيها لله، فقال جل شأنه (قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين. ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين. ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة. وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعملون).(14)
والخلاصة: لقد أخذت المسيرة الإسرائيلية بسنن الأولين، فأخذوا من عقائد البقر وعقائد الدماء النقية الأعمدة التي أقاموا عليها ديمومة الكرامة والحكم، والكتاب المقدس ينفي في أكثر من موضع مقولتهم بالدماء النقية. ويسجل أنهم سكنوا بين الأمم الوثنية واتخذوا بناتهم لأنفسهم نساء وأعطوا بناتهم لبنيهم. وعبدوا آلهتهم(15) وقال نحميا في سفره " رأيت اليهود الذين ساكنوا نساء أشدوديات وعمونيات وموآبيات، ونصف كلام بينهم باللسان الأشدودي، ولم يكونوا يحسنون التكلم باللسان اليهودي، بل بلسان شعب وشعب "(16) فكيف يكون نقاء الدم تحت سقف هذه الأصول وغيرها:؟.
3 - ( فتنة التأويل والتحريف )
لا شك في أن تحريف الأصول السماوية عمود أساسي يقوم عليه فساد الدين الفطري، وهذا الفساد يهدد الإنسانية بالانهدام، لأن الفرد الذي يفسد دينه الفطري لا تتعادل قواه الحسية الداخلية. فيتبع القوى الخارجية التي تنسجم مع هواه وباتباعه لها يقوى جانبها في الصد عن سبيل الله، وتحريف المسيرة الإسرائيلية للكتاب ونسيانهم حظا من الدين وكذبهم على الله بواسطة القصص التي قصوها على الشعب، كل ذلك لا شك فيه واعترف به العهد القديم وعلماء الكتاب المقدس وأخبر به القرآن الكريم.
والتحريف كان لهدف. وهدفه ما استقر عليه القوم فيما يتعلق بشعب الله المختار، ففي اتجاه هذا الهدف أولوا ما ورد في النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم من بشارات. ومن قبل أولوا ما ورد في المسيح ابن مريم عليه السلام. وقالوا: إن المسيح الموعود لم يجئ بعد وهم ينتظرون قدومه إلى اليوم، ليحكموا به الشعوب ويعود به ملك داوود عنوان ووعاء عهد الله لإبراهيم، ونظرا لأن الجرائم والآثام تحيط بالمسيرة الإسرائيلية. فإن التحريف رفع عن المسيرة هذا الحرج فنسبوا إلى الأنبياء ما لا يجوز في حقهم، فالأنبياء عندهم أول من سن عبادة العجول وأول من سن إقامة التماثيل وعبادة آلهة الأمم! وعلى هذه القاعدة فبما أنه لا يمكن أن تخرج نبيا من الأنبياء من تحت سقف الأنبياء. لارتكابه معصية بهذا الحجم. فكذلك لا يمكن أن تخرج الشعب من تحت سقف شعب الله المختار. لاتباعه ما سنه الأنبياء ولارتكابه الجرائم والمعاصي، وبالجملة: كان التحريف من أجل رفع حرج وقعت فيه المسيرة على امتداد تاريخها، وكان من أجل هدف التقطته المسيرة من ديار العالم الخارجي. ثم أضفت عليه بعض المعالم السماوية الباهتة ليكون له مشروعية القبول.
وشهادة العهد القديم في نسيان بني إسرائيل حظا مما ذكروا به، جاء على لسان أرميا. قال: " أما وحي الرب فلا تذكروه بعد. لأن كلمة كل إنسان وحيه إذ قد حرفتم كلام الإله الحي ".(17) وقال في تحريفهم وكذبهم على الله: " كيف تقولون نحن حكماء وشريعة الرب معنا حقا إنه إلى الكذب حولها قلم الكتبة الكاذب ".(18) وقال في ثقافة القص التي كذبوا على الله ليكون للشذوذ قاعدة: " الذين يأخذون لسانهم ويقولون قال - ها أنذا على الذين يتنبأون بأحلام كاذبة، يقول الرب: الذين يقصونها ويضلون شعبي بأكاذيبهم ومفاخراتهم. وأنا لم أرسلهم ولا أمرتهم. فلم يفيدوا هذا الشعب فائدة ".(19)
أما شهادة علماء الكتاب المقدس. ومنهم المفسر (هارسلي) يقول: لا شك في تحريف الكتاب المقدس. في متنه وأصله. يدلنا على ذلك اختلاف النسخ حيث الاختلاف آية الاختلاق. فقد أدخلت كلمات وقحة في المتون المطبوعة مما لا يناسب ساحة الوحي.(20) ويقول الدكتور (همفري): إن تدخل الأوهام في العهد العتيق بين لحد يتضح للقارئ بأدنى تأمل. إنهم قضوا على البشارات المسيحية في العهد القديم). ويقول (كريزاستم): لقد انمحق الكثير من كتب الأنبياء.
حيث حرفتها اليهود على غفلة وعلى عمد. فمزقوا البعض منها.
وحرفوا ما تبقى.(21)
أما شهادة القرآن الكريم بأن أهل الكتاب حرفوا أو نسوا حظا مما ذكروا به. فلقد جاءت في أكثر من آية. منها قوله تعالى: (من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه).(22) ففي هذه الآية وصف تعالى هذه الطائفة بتحريف الكلم عن مواضعه. وذلك إما بتغيير مواضع الألفاظ بالتقديم والتأخير والإسقاط والزيادة. وإما بتفسير ما ورد عن موسى عليه السلام وعن سائر الأنبياء بغير ما قصد منه من المعنى الحق، وقوله تعالى: (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظأ مما ذكروا به)(23) قال في الميزان: إن أهل الكتاب إنما ابتلوا بما ابتلوا له لنسيانهم ميثاق الله سبحانه، ولم يكن إلا ميثاقا بالإسلام لله، وكان لازم ذلك أن يتقوا مخالفة ربهم ويتخذوه وكيلا في أمور دينهم يختارون ما يختاره لهم، ويتركون متابعة غير الله ورسله، لكنهم نبذوا الميثاق وراء ظهورهم فأبعدوا من رحمة الله، وحرفوا الكلم عن مواضعه وفسروها بغير ما أريد بها، فأوجب ذلك أن نسوا حظا من الدين ولم يكن إلا حظا وسهما يرتحل بارتحاله عنهم كل خير وسعادة، وأفسد ذلك ما بقي بأيديهم من الدين، فإن الدين مجموع من معارف وأحكام مرتبط بعضها ببعض يفسد بعضه بفساد بعض آخر، سيما الأركان والأصول.(24)
وإفسادهم للدين الفطري يتضح للقارئ بمجرد أن يتأمل عقيدتهم في الله ورسله عليهم السلام، فالتحريف جعل التوراة تشتمل على أمور في التوحيد لا يصح إسنادها إلى الله تعالى. كالتجسيم والحلول في المكان ونحو ذلك، ونسب ما لا يجوز العقل نسبته إلى الأنبياء الكرام من أنواع الكفر والفجور والزلات، وهذا المنهج إذا إختلط بعقيدة سماوية أفسد ما بقي منها، ويقول د. جوستاف لوبون عن عقيدة اليهود: في وادي الفرات وفي مصر نشأت ديانة بني إسرائيل. أو على الأصح مختلف العبادات التي مارسها بنو إسرائيل، وذلك بين إقامتهم بفلسطين وعودتهم من السبي، حتى أن أسماء آلهتهم تدل على أصلها، وليست الآلهة الكبرى الشهوانية عشتروت التي كان العبريون يعبدونها. إلا زهراء فينوس بابل عشتار.. وحتى في دور السبي كان شعب إسرائيل قد بلغ من الغرق في الاشراك. ما كان يتعذر معه عزيمة ملك أو خطب نبي تخليصه منه.. ودام دين اليهود القائل بتعدد الآلهة بعباداته الكثيرة وطقوسه المتنوعة وأساطيره المتكاتفة.(25) وقال د.
جوستاف لوبون عن عقيدة اليهود بعد دور السبي: لم يعبد بنو إسرائيل إلها يمكن أن يكون رب الأمم الأخرى، ثم يصل د. لوبون إلى نتيجة مفادها: لم تكن الديانة اليهودية في كل زمن. مطابقة لما نسميه اليوم باليهودية. ولا شبه بين إله اليهود الراهن وإله سيناء يهوه. فبنو إسرائيل كانوا يعبدون ألوهيمات في أثناء حياتهم البدوية التي قضتها أجيالهم الأولى. ولذلك لا ينبغي أن يطلب من هذا الشعب البسيط تعريف وثيق لموضوع عبادته.(26)
أما ما نسبوه إلى الأنبياء الكرام من أنواع الكفر والفجور، فكان الهدف منه تبرير أخطاء المسيرة، بمعنى أنهم إذا أجازوا على الأنبياء الوقوع في الزلات، تلتمس الأعذار لمن دونهم إذا وقعوا فيها أو في أشد منها، وإذا كان التحريف قد قطع شوطا كبيرا في نسبة الزلات إلى الأنبياء، إلا أن القارئ للعهد القديم يقع في حيرة عندما يجد نصوص أخرى تمتدحهم، وتزول الحيرة إذا علمنا أن القوم اعتمدوا في حركتهم على أشد الأمور فتكا وإثارة للفتنة، وهو تلبيس الحق بالباطل، ليكون عندهم لكل سؤال جواب.
فهارون عليه السلام. أشارت التوراة إلى تطهيره من المعاصي.
واختيار الله له ليكون مفسرا للشريعة، وغير ذلك من الأمور التي تبين وقع أقدامه على الطريق المستقيم،(27) وفي مقابل هذا ذكرت التوراة أن هارون هو الذي أقام العجل لبني إسرائيل وبني مذبحه، يقول العهد القديم " فقال لهم هارون: انزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وأتوني بها، فنزع كل الشعب أقراط الذهب التي في آذانهم وأتوا بها هارون، فأخذ ذلك من أيديهم. وصوره بالأزميل.
وصنعه عجلا مسبوكا. فقالوا هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر، فلما نظر هارون بنى مذبحا أمامه "!(28) لم يشيروا إلى السامري الذي أضلهم وجاء ذكره في القرآن الكريم. لأن موقع السامري لا يرفع عن المسيرة حرج.
وفي موضع آخر من العهد القديم. افتروا على موسى وهارون عليهما السلام بفرية العصيان، ومن هذا: " فقال الرب لموسى وهارون من أجل أنكما لم تؤمنا بي حتى تقدساني أمام أعين بني إسرائيل. لذلك لا تدخلان هذه الجماعة إلى الأرض التي إعطيتهم إياها ".(29) وفي موضع آخر نرى نصا يقول بأن الله كان يأمر وموسى يطيع، وكان الله معه في كل خطواته، لقد قالوا ليوشع بن نون عندما قاتلوا معه " كل ما أمرتنا به نعمله وحيثما ترسلنا نذهب. حسب كل ما سمعنا لموسى نسمع لك.
إنما الرب إلهك يكون معك كما كان مع موسى ".(30)
وتناول العهد القديم سيرة سليمان عليه السلام، وبينما نجد نصوصا تمتدحه، نجد نصوصا أخرى تنسب إليه الزلات، فالنصوص التي امتدحته بينت كيف كان يحذرهم من مخالفة أوامر الله، وعندما قدم العهد القديم أمثال سليمان صدرها بقوله: أمثال سليمان بن داوود ملك إسرائيل. لمعرفة حكمة وأدب. لإدراك أقوال الفهم. لقبول تأديب المعرفة والعدل والحق والاستقامة. لتعطي الجهال ذكاء والشاب معرفة وتدبرا. يسمعها الحكيم فيزداد علما. والفهم يكتسب تدبيرا. لفهم المثل واللغز. أقوال الحكماء وغوامضهم. مخافة الرب رأس المعرفة "(31) وتقابل هذه النصوص نصوص أخرى منها قولهم: " وأحب سليمان نساء غريبة كثيرة مع بنت فرعون. موآبيات وعمونياث وأدوميات وصيدونيات وحيثيات. من الأمم الذين قال عنهم الرب لبني إسرائيل لا تدخلوا إليهم وهم لا يدخلون إليكم. لأنهم يميلون قلوبكم وراء آلهة أخرى. فالتصق سليمان بهؤلاء بالمحبة ".(32) وقال العهد القديم " إن نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخرى " )33) وقال " فذهب سليمان وراء عشتروت آلهة الصيدونيين "(34) وقال " بنى سليمان مرتفعة لكموش رجس الموآبيين "(35) وقال " وهكذا فعل لجميع نسائه الغريبات اللواتي كن يوقدن ويذبحن لآلهتهن ".(36) فمن هذه النصوص أخذوا تبريرا لاتجاه مسيرتهم نحو الآلهة المتعددة، ومن نص آخر أخذوا تبريرا للأسباب التي أدت إلى تمزيق مملكة سليمان إلى مملكتين، يقول " فقال الرب لسليمان من أجل أن ذلك عندك، ولم تحفظ عهدي وفرائضي التي أوصيتك بها. فإني أمزق المملكة عندك تمزيقا ".(37)
وبوقود التحريف ظهرت التربية الغير رشيدة. التي أثرت على سلوك المسيرة وشعورها وأفرغت عليها طابعا خاصا فيما بعد.
4 ـ (السقوط في الفتنة)
حذر الأنبياء والرسل على امتداد المسيرة البشرية من إلقاءات الشيطان. وبينوا أن ما يلقيه الشيطان ما هو إلا فتنة تصيب الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم. ليكونوا علامة سوء على امتداد الطريق كي يحذر الناس برامجهم وأطروحاتهم، والقرآن الكريم بشر الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ولم يتوبوا بعذاب جهنم، وفي عالم الفتن انطلقت المسيرة الإسرائيلية بعد عهد السبي تبشر بالمسيح المنتظر الذي يعيد مجد المملكة الداوودية، وتولى التلمود عملية التبشير، ولليهود تلمودان، الأول: التلمود الاورشاليمي. وقد وضعه أحبار اليهود في أورشاليم، والثاني: التلمود البابلي وقد وضعه أحبار اليهود في بابل، ويزعم كثير من اليهود أن موسى تسلم القانون المكتوب على ألواح الحجر، كما تسلم من الله تفسيرات وشروحا لهذا القانون. وهو ما يدعى بالقانون الشفهي،(38) وذكرت مصادر أخرى أن فرقة الفريسيين اليهودية التي ظهرت قبل ميلاد المسيح ابن مريم عليه السلام بمائتي عام، هم الذين ابتدعوا القانون الشفهي. وهم الذين وضعوا التلمود.(39)
ونظرا لما أنتجه التحريف من تناقض وما أنتجه التلمود من اختلافات. ارتقى الأحبار منزلة كبيرة بين الشعب، وكانت مهمتهم النزول على الشعب بتفسيراتهم للتلمود، وهي تفسيرات لا ينبغي أن يناقشها غيرهم، ومن أجل هذه المهمة رفعهم التفسير التلمودي إلى مكانة عالية، قال " إن تعاليم الحاخامات لا يمكن نقضها ولا تغييرها "،(40) وقال " من احتقر أقوال الحاخامات استحق الموت. وليس كذلك من احتقر أقوال التوراة. ولا خلاص لمن ترك تعاليم التلمود واشتغل بالتوراة فقط "(41)، وقال الحاخام روسكي: التفت يا بني إلى أقوال الحاخامات أكثر من التفاتك إلى شريعة موسى،(42) وجاء في كتاب كرافت المطبوع سنة 1590: إعلم أن أقوال الحاخامات أفضل من أقوال الأنبياء،(43) وقال الحاخام في أقوال الحاخامات المناقض بعضها بعضا " إنها كلام الله مهما وجد فيها من تناقض، فمن لم يؤمن بها أو قال إنها ليست أقوال الله. فقد أخطأ في حق الله ".(44)
ومن أقوال الحاخامات في شعب الله المختار: " تتميز أرواح اليهود عن باقي الأرواح بأنها جزء من الله كما أن الابن جزء من والده،(45) ولهذا اختار الله الجنس العبري ليكون منه شعب الله المختار، وأعطى الله ميثاقه لهذا العنصر، وهو ليس عقدا بل عهدا لأنه جاء من جانب واحد، وهو عهد أزلي لا ينقض، وأنه تنفيذا لهذا الميثاق أخرج الله العنصر العبري من مصر وأنقذه من فرعون، وأهلك أهل فلسطين من أجله وأسكنهم أرضهم وملكها لهم، وإذا كان هذا الملك قد أفلت في عصر من العصور وآل للأمم، إلا أن هذا الملك لله أولا وأخيرا، ولقد قضى الله منذ الأزل أنه من نصيب شعبه، ومن ثم فلا خوف من ضياعه، وهذا العنصر العبري المختار سيظل لذلك يتطلع إلى أن يعيد الله هذا الملك لهذا الشعب كما قضى في كتابه، وسيكون تطلع هذا الشعب لإعادة هذا الملك بكل عقله وقلبه، وإنه لا يشك للحظة إنه سيستعيده.
الهوامش
(1) الميزان 296 / 8.
(2) الميزان 210 / 1.
(3) معجم الحضارة المصرية القديمة ص 32.
(4) المصدر السابق ص 3.
(5) المصدر السابق ص 96.
(6) سورة البقرة آية 92.
(7) سورة الأعراف آية 152.
(8) سورة النساء آية 49.
(9) سورة النجم آية 32.
(10) سورة الأعراف آية 168.
(11) تفسير ابن كثير 2 / 265.
(12) الميزان 298 / 8.
(13) سورة المائدة آية 18.
(14) سورة البقرة آية 94.
(15) القضاه 3 / 5 - 7.
(16) نحميا 13 / 22 - 5 2.
(17) أرميا 23 / 36.
(18) المصدر السابق 8 / 8.
(19) المصدر السابق 23 / 31.
(20) تفسيره في مقدمة كتاب يوشع 282 / 3 نقلا من كتاب المقارنات / د. الصادقي ص 89.
(21) تفسيره التاسع على إنجيل متي نقلا من كتاب المقارنات ص 91.
(22) سورة النساء آية 46.
(23) سورة المائدة آية 13.
(24) الميزان 239 / 5.
(25) اليهود في الحضارات الأولى / جوستاف لويون ص 58 وما بعدها.
(26) المصدر السابق ص 62 وما بعدها.
(27) أنظر سفر العدد 18 / 1، 19 / 1 والخروج 29 / 1 - 30.
(28) الخروج 32 / 2 - 6.
(29) عدد 12 / 20.
(30) يوشع 16 / 1.
(31) أمثال 1 / 1 - 7.
(32) ملوك أول 11 / 1.
(33) المصدر السابق 11 / 5.
(34) المصدر السابق 11 / 6.
(35) المصدر السابق 11 / 7.
(36) المصدر السابق 11 / 8.
(37) المصدر السابق 11 / 12.
(38) الكنز المرصود في فضائح التلمود / د. محمد الشرقاوي ط مكتبة الوعي مصر ص 32.
(39) المصدر السابق ص 32.
(40) التراث الإسرائيلي / صابر طعيمة ص 401.
(41) الكنز المرصود ص 14.
(42) المصدر السابق 169.
(43) المصدر السابق ص 170.
(44) المصدر السابق 171.
(45) الكنز المرصود ص 190.
******************
وهو لا بد مسترجعه.(1)
واختلفوا في المسيح المنتظر الذي سيستعيد مملكة داوود وعاء عهد الله لإبراهيم، فزعم يهود السامرة أن المسيح سيكون من سبط يوسف عليه السلام، وزعم يهود أورشاليم أنه سيكون من سبط يهوذا من نسل داوود.(2) واتفقوا في أحداث مجئ المسيح. وقالوا " تطرح الأرض فطيرا وملابس من الصوف. وقمحا حبه بقدر كلاوي الثيران الكبيرة، وفي ذلك الزمان ترجع السلطة لليهود. وكل الأمم تخدم ذلك المسيح وتخضع له، وفي ذلك الوقت يكون لكل يهودي ألفان وثمانمائة عبد يخدمونه. وثلثمائة وعشرة أكوان تحت سلطته، ولكن لا يأتي المسيح إلا بعد القضاء على حكم الأشرار. ولذلك يجب على كل يهودي أن يبذل جهده لمنع امتلاك باقي الأمم في الأرض، كي تظل السلطة لليهود وحدهم، لأنه من الضروري أن تكون لهم السلطة أينما حلوا، فإن لم يتيسر لهم ذلك اعتبروا منفيين وأسارى، وإذا تسلط غير اليهود على وطن اليهود. حق لهؤلاء أن يندبوا عليه ويقولون: يا للعار ويا للخراب ويستمر ضرب الذل والمسكنة على بني إسرائيل حتى ينتهي حكم الأجانب، وقبل أن يحكم اليهود نهائيا باقي الأمم يجب أن تقوم الحرب على قدم وساق، ويهلك ثلثا العالم ويبقى اليهود سبع سنوات متواليات يحرقون الأسلحة التي كسبوها بعد النصر... ويعيش اليهود في حرب طاحنة مع باقي الشعوب في انتظار ذلك اليوم، وسيأتي المسيح الحقيقي ويحقق النصر المنتظر ويقبل المسيح إذ ذاك هدايا جميع الشعوب... وتكون الأمة اليهودية يومئذ في غاية الثراء.. وإن هذه الكنوز ستملأ بيوتا كثيرة لا يمكن حمل مفاتيحها وأقفالها إلا على ثلاثمائة حمار، وترى الناس كلهم حينئذ يدخلون في دين اليهود أفواجا.. ويتحقق أمل الأمة اليهودية بمجئ المسيح. وتكون هي الأمة المتسلطة على باقي الأمم عند مجئ المسيح ".(3)
وعلى امتداد المسيرة الإسرائيلية، اكتسب التلمود في نفوس الجماعات الإسرائيلية قداسة وأهمية تفوقان كل مقدس وكل تصور. يقول د. طعيمة: والتلمود من بين جملة المصادر الدينية الإسرائيلية قد أصبح التوراة المهمة في عواطف القوم ومعتقداتهم، وهو جملة من القواعد والوصايا والشرائع والتعاليم الدينية والأدبية. والشروح والتفاسير والروايات المتعلقة بدين وتاريخ وجنس إسرائيل على مدى التاريخ، وكانت هذه التعاليم والقواعد والشرائع تتناقل وتدرس مشافهة من حين إلى آخر، ولما تعاظم شأن هذه التعاليم في نفوس الجماعات الإسرائيلية. وكثرة هذه التعاليم. قرر كبار الحاخامات أن يسجلوا هذه التعاليم حتى تضاف إلى ما لديهم من نصوص أو مستندات، وبدأت عملية التسجيل والتدوين على مراحل متعددة. وفي مواقع مختلفة.(4)
والخلاصة: لقد ركبت المسيرة طريق الانحراف الذي سلكته الأمم الوثنية، ومن هذا الطريق اكتسبت المسيرة مجموعة من النصائح الانفعالية. طرحتها ثقافات لا تصيب أصحابها إلا بصدمات نفسية، أو تجعلهم دائما وأبدا في صراع نفسي غير محسوم، وكان بين يدي المسيرة دوائر تبشير ودوائر تحذير. بينها الأنبياء والرسل وهم يخبرون بالغيب عن ربهم، ومن دائرة التبشير بشروا بمسيح تلده عذراء الزهد علامة من علاماته، ومن دائرة التحذير حذروا من مسيح يخرج آخر الزمان فتنة للناس. معه ماء وطعام. وذهب وأهواء، ولكن دوائر التحذير اختلطت بدوائر التبشير. عندما بدأ القوم يحرفون النصوص. وعندما أنستهم مناهج المادة والحس حظا مما ذكروا به، فالتقطوا من بين الخليط ما يتفق مع القاسية قلوبهم. وعندما بعث النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم، أقام الحجة على المسيرة البشرية، وأخبر أهل الكتاب بما كانوا يختلفون فيه، ولكن الذين كفروا منهم تكبروا وجادلوا في آيات الله، قال تعالى:
(إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير).(5) قال ابن كثير:
نزلت الآية في اليهود، وذلك أنهم ادعوا أن المسيح منهم وأنهم يملكون به الأرض، فأمر الله نبيه. أن يستعذ من فتنة الدجال(6) وقال في الميزان:
أخبر سبحانه أن هؤلاء المجادلين لا ينالوا بغيتهم ولن ينالوا، وقال لرسوله. فلا يحزنك جدالهم، وحصر سبحانه السبب الموجب لمجادلتهم في الكبر، يريدون به إدحاض الحق الصريح، وأمره الله أن يستعذ منهم بما لهم من كبر. كما استعاذ موسى من كل متكبر مجادل.
المسيح عليه السلام وأعمدة الأروقة المتصدعة
أولا (على طريق آل هارون)
1 ـ (الطريق إلى المسيح عليه السلام)
ذكر العديد من المحققين أن اليهود في عهد السبي. انخرطوا في المجتمع. وبالذات أن بابل كانت من أغنى المناطق في بلاد ما بين البحرين، وهذا أتاح لهم العمل في الزراعة والتجارة والأعمال الخاصة، وفي النهاية أصبحوا مواطنين عاديين داخل الدولة يتمتعون بكافة الحقوق السياسية والاجتماعية، وعندما زالت دولة بابل وظهرت الدولة الفارسية التي خضعت لسيطرتها دول المنطقة، استفاد اليهود من سياسة الملك الفارسي (قورش). وكانت المبادئ العامة لهذه السياسة إعادة السكان المبعثرين حول نهر دجلة والفرات إلى أوطانهم، فهذه السياسة أحيت الأمل لدى اليهود في بابل في العودة مرة أخرى إلى فلسطين، وبدأت الزعامة الدينية في الظهور تصنع الأحداث وتقود المسيرة، وذكر العديد من المحققين أن اليهود كانوا في قديم الزمان يسمون فقهاءهم بالحكماء، نظير تعليمهم الشعب القانون الشفهي وإشرافهم عليه، وكان لهؤلاء الحكماء من المدارس في بابل والمدائن والشام. ما لم يكن لأحد من الأمم مثله، وكان لهم في العصر الواحد كثير من الحكماء. في زمان دولة النبط البابليين والفرس ودولة اليونان ودولة الروم.
وبعد أن أحيت سياسة الملك الفارسي قورش الأمل في نفوس اليهود، اتفق السامريون والعبرانيون على إعادة كتابة التوراة في بابل، وشكل العلماء لجنة لهذا الغرض برآسة (عزرا)، وقد جمعت هذه اللجنة معلومات من التاريخ القديم للمسيرة الإسرائيلية. ومعلومات أرادوا إدخالها على النصوص الأصلية،(7) وقبل أن تكمل هذه اللجنة عملها.
صدر الأمر الفارسي لليهود بالرجوع إلى أرض كنعان، ويقول أبو الحسن السامري في تاريخه: إن الفارسيين لما سمحوا لليهود بالعودة. طلبوا منهم أن يتحدوا تحت رآسة واحدة. وتكون لهم عاصمة واحدة ليسهل التعامل معهم، فانقسم اليهود. وأصر يهود السامرة أن تكون الرآسة فيهم. وأن يكون هيكلهم في نابلس، وأصر يهود أورشاليم أن تكون الرآسة فيهم. وبكون هيكلهم مكان الهيكل القديم، واشتد العداء بين الفريقين وسجل العهد القديم هذا العداء. عندما شرعوا في بناء الهيكل في أورشاليم.(8)
وبدأت خطوات المسيرة للقافلة الإسرائيلية بإعادة بناء الهيكل تحت حكم زربابل(9) (538 ق. م) ثم بدأ ما سمي بعصر الاصلاح تحت حكم عزر)10) (458 ق. م) ثم قام نحميا ببناء السور(11) (445 ق. م) وانتهت مسيرة العهد القديم بسفر النبي ملاخى،(12) وكانت هناك فترة صمت لا يوجد فيها عهود جديدة. وقررت هذه الفترة بأربعمائة عام. ثم جاء العهد الجديد.(13) والشواهد الكتابية للمسيرة الإسرائيلية (من 538 - ق. م) تنحصر في أسفار: عزرا، نحميا، استير، حبقون، زكريا، ملاخى، بالإضافة إلى رؤيا دنيال وما أخبر به حزقيال، وبالنظر في حركة المسيرة من خلال هذه الشواهد الكتابية، يجد الباحث أن المسيرة بدأت حركتها بالاختلاف. وعلى هذا الاختلاف ظهرت توراة سامرية تقول أن القبلة في جبل (جزريم)، وأخرى عبرانية تقول بأنها في جبل (عيبال)، وقال يهود السامرة أن المسيح المنتظر من سبط يوسف بن يعقوب، بينما قال أورشاليم أنه من سبط داوود.
وإذا أردنا أن نحكم على المسيرة من خلال الشواهد الكتابية، نجد (نحميا) يقول عند المقدمة: " في تلك الأيام رأيت في يهوذا قوما يدوسون معاصر في السبت... فخاصمت عظماء يهوذا وقلت لهم: ما هذا الأمر القبيح الذي تعملونه وتدنسون يوم السبت. ألم يفعل آباؤكم هكذا فجلب إلهنا علينا كل هذا الشر وعلى هذه المدينة، وأنتم تريدون غضبا على إسرائيل إذ تدنسون السبت ".(14) ويقول " في تلك الأيام أيضا رأيت اليهود الذين ساكنوا نساء أشدوديات وعمونيات وموآبيات، ونصف كلام بنيهم باللسان الأشدودي، ولم يكونوا يحسنون التكلم باللسان اليهودي، بل بلسان شعب وشعب، فخاصمتهم ولعنتهم ".(15)
أما عند النهاية. نجد في (ملاخى) الذي بسفره ينتهي العهد القديم، نجد إدانة واضحة للمسيرة ولقيادتها، قال: " قال لكم رب الجنود: أيها الكهنة المحتقرون اسمي. وتقولون: بم احتقرنا اسمك؟
تقربون خبزا نجسا على مذبحي وتقولون بم نجسناك ".(16) ويقول " والآن إليكم هذه الوصية أيها الكهنة. إن كنتم لا تسمعون ولا تجعلون في القلب لتعطوا مجدا لإسمي، قال رب الجنود: فإني أرسل عليكم اللعنة وألعن بركاتكم، بل قد لعنتها لأنكم لستم جاعلين في القلب ".(17) وقال لهم: " قال رب الجنود: من فيكم يغلق الباب بل لا توقدون على مذبحي مجانا، ليست لي مسرة بكم. قال رب الجنود: ولا أقبل تقدمة من أيديكم ".(18)
وهكذا رأينا عند المقدمة كيف انحرفت المسيرة، ثم رأينا عند النتيجة كيف ضربها اللعن، وفي سفر (ملاخى) وهو آخر أسفار العهد القديم، نجد أن السفر بين للمسيرة قيادة الهدى التي يختتم بها الله المسيرة الإسرائيلية، وبشر بقيادة الهدى التي يختتم بها الله المسيرة البشرية، وفي تحديد قيادة الهدى للمسيرة الإسرائيلية، بين أن الباب الذي فتحه الله في سبط (لاوي). وجاء منه موسى وهارون وبنوه، هو نفس الباب الذي يأتي منه آخر قيادة هدى للمسيرة الإسرائيلية، لتنتقل القيادة بعد ذلك في اتجاه شعب آخر وأرض جديدة. قال (ملاخى) في قيادة الهدى التي ينبني على المسيرة انتظارها: " إني أرسلت إليكم هذه الوصية ليكون عهدي مع لاوي قال رب الجنود: كان عهدي معه للحياة والسلام، وأعطيته إياهما للتقوى فاتقاني، ومن اسمي ارتاع هو، شريعة الحق كانت في فيه، والإثم لم يوجد في شفتيه، سلك معي في السلام والاستقامة وأرجع كثيرين عن الإثم، لأن شفتي الكاهن تحفظان معرفة ومن فمه يطلبون الشريعة، لأنه رسول رب الجنود، أما أنتم فحدتم عن الطريق وأعثرتم كثيرين بالشريعة، أفسدتم عهد لاوي، فأنا أيضا صيرتكم محتقرين ودنيئين عند كل شعب. كما إنكم لم تحفظوا طرقي بل حابيتم في الشريعة ".(19)
من هذه النصوص نجد أن (ملاخى) ذكرهم بالبداية التي عندها نصب الله هارون كاهنا للشريعة وجعلها من بعده في بنيه، وهؤلاء هم ذروة سبط لاوي، ثم بين لهم أن عهد الله مع هؤلاء وليس مع غيرهم، فغيرهم حاد عن الطريق وأفسد في الأرض، ثم أخبرهم بأن الله سيرسل إليهم واحد من هذا السبط ليسوق قاعدة السبط ومن ورائها بقية الأسباط، " ها أنذا أرسل ملاكي فيهئ الطريق أمامي. ويأتي بغتة إلى هيكله السيد الذي تطلبونه وملاك العهد الذي تسرون به، وهو ذا يأتي، قال رب الجنود: ومن يحتمل يوم مجيئه. ومن يثبت عند ظهوره. لأنه مثل نار المحص ومثل أشنان القصار، فيجلس ممحصا ومنقيا للفضة، فينقي بني لاوي ويصفيهم كالذهب والفضة. ليكونوا مقربين للرب تقدمة بالبر، فتكون تقدمة يهوذا وأورشاليم مرضية للرب. كما في أيام القدم وكما في السنين القديم ".(20)
وبعد أن أشار السفر إلى بعثة آخر الأنبياء في سبط لاوي، وهو المسيح عيسى بن مريم كما سنبين في موضعه، تحدث عن اليوم المخوف الذي ينهي المسيرة البشرية، وأخبرهم بأن الله قبل هذا اليوم.
سيبعث إلى البشرية النبي (إيليا) ومهمته هي فتح أبواب الرحمة. قبل أن يضرب الله المستكبرين وكل فاعلي الشر ويحرقهم، قال: " فهوذا يأتي اليوم المتقد كالتنور، وكل المستكبرين وكل فاعلي الشر يكونون قشا، ويحرقهم اليوم الآتي. قال رب الجنود: فلا يبقى، لهم أصلا ولا فرعا، ولكم أيها المتقون اسمي تشرق شمس البر والشفاء في أجنحتها ". ثم قال " هأنذا أرسل إليكم إيليا النبي قبل مجئ يوم الرب اليوم العظيم والمخوف، فيرد قلب الآباء على الأبناء وقلب الأبناء على آبائهم، لئلا آتي وأضرب الأرض بلعن ".(21)
وإيليا النبي. وضعه اليهود وفقا لعلم حساب الحروف، ومجموع هذا الاسم يشير إلى اسم النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم. الذي يختتم به الله المسيرة البشرية.(22)
وبهذه الخاتمة انتهى العهد القديم ليبدأ العهد الجديد، الذي يتحدث عن المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام.
2 ـ (على أبواب المسيح عليه السلام)
1 - " آل عمران ":
انقسم اليهود حول المسيح المنتظر، ففريق قال إنه يأتي من نسل يوسف. وقال آخرون إنه يأتي من نسل داوود، وذكر (ملاخى) أن الله جعل عهده في سبط (لاوي بن يعقوب). وذكر العهد القديم أن من أبناء لاوي (نحشوم) وولد له (عمرام) وولد لعمرام موسى وهارون ومريم(23) ومن هذا النسل اختار الله تعالى الهداة الذين يسوقون المسيرة الإسرائيلية إلى الصراط المستقيم.
ولقد كشف يهود أورشاليم برامجهم وثقافاتهم التي تدعو إلى انتظار ابن داوود الذي يعيد مملكة داوود التي تعتبر عنوانا لعهد الله لإبراهيم، وهذه البرامج والثقافات تخالف نصوص قطعية في العهد القديم حدد فيها من أي سبط يأتي المسيح المنتظر، وإذا نظر الباحث في نسل داوود كما جاء في العهد القديم، يجد أن فاتحة النسل جاءت من الزنا كما ذكر العهد القديم، فيهوذا بن يعقوب زنى بامرأة ابنه المسماة (ثامارا) وأنجب منها فارص، وفارص أنجب حصرون، وحصرون أنجب أرام، وأرام أنجب عميناداب، وعميناداب أنجب نحشون، ونحشون أنجب سلمون، وسلمون أنجب بوعز، وبوعز أنجب عوبيد، وعبيد أنجب يس، ويس أنجب داوود، ولما كانت المقدمة بها زنا كما ذكر العهد القديم، فإن هذه المقدمة لا تؤهل النسل في الدخول في جماعة الرب كما ذكر العهد القديم أيضا، وهو قوله " لا يدخل ابن زنى في جماعة الرب حتى الجيل العاشر. لا يدخل منه أحد في جماعة الرب ".(24)
وعندما بعث المسيح بن مريم عليهما السلام. وهو من نسل (عجرام) كما سنبين في موضعه. كانت ثقافة التفسير الشفهي للتوراة تغمر الساحة وتمد أتباعها بوقود انتظار بن داوود، وعندما لم يأت المسيح لليهود بما تشتهي أنفسهم رفضوه وتآمروا عليه، وبعد عصر المسيح عليه السلام أراد النصارى إثبات دعوة المسيح أمام اليهود، فألحقوا المسيح بنسل داوود، ليجعلوا اليهود بهذا الالحاق من الخارجين على المسيح عليه السلام، وترتب على هذا الالحاق إشكال، هو أنهم جعلوا للمسيح عليه السلام أربعة أجداد من الزنا، ومن كان كذلك فقد خرج من حزب الله كما صرح العهد القديم، والأجداد الأربعة هم: مؤاب. فارص. بن عمي. سليمان، (أما مؤاب وبن عمى) فهما ابنا لوط. ذكر العهد القديم. أن لوطا زنا سكرانا بابنتيه فولدت له الكبرى مؤاب وولدت الصغرى بن عمى،(25) ومن الأول جاء الموابيون ومن الثاني جاء العمونيون، والعهد القديم يقول (لا يدخل عموني ولا موآبي في جماعة الرب حتى الجيل العاشر، لا يدخل منهم أحد في جماعة الرب إلى الأبد "(26) (وأما فارص) فولد من ثامارا بعد أن زنى بها يهوذ)27) (وأما سليمان) فولد من بت شبع امرأة أوريا حيث زنا بها داوود(28) - وحاشاه! والعهد القديم يقول " لا يدخل ابن زنى في جماعة الرب حتى الجيل العاشر ".(29)
فوقها لهذه النصوص يكون الذين ألحقوا المسيح عليه السلام بنسل داوود، قد أخرجوه في الحقيقة من جماعة الرب إلا الأبد، لأنه لا يدخل جماعة الرب كل ولد زنا ولا سيما المؤابيين وبني عمي وهو منهما، ومما يزيد الإشكال إشكالا أنهم على الرغم من هذا النسب اعتبروا المسيح عليه السلام ابنا لله أو إلها متجسدا في الناسوت وتلك مصيبة كبرى.
وفي إشكال نسب المسيح يقول موريس بوكاي: تطرح شجرتا النسب اللتان يحتوي عليهما إنجيلا متي ولوقا، مشاكل تتعلق بالمعقولية وبالاتفاق مع المعطيات العلمية، ومن هنا فهي مشاكل تتعلق بالصحة، وهي مشاكل تحرج جدا المعلقين المسيحيين.. وبادئ ذي بدء يجب ملاحظة أن هذين النسبين من جهة الرجال كما ذكر إنجيلا متي ولوقا، معدوم المعنى فيما يتعلق بالمسيح، ولو كان من الضروري إعطاء المسيح نسبا وهو وحيد مريم أمه وليس له أب بيولوجي، فيجب أن يكون ذلك النسب من جهة مريم فقط.(30)
ولقد تضارب إنجيل متي مع إنجيل لوقا في نسب المسيح إلى داوود، فبينما يذكر متي أن من داوود إلى المسيح 26 جيلا، يذكر لوقا إنه 41 جيلا، وبينما يذكر متي أن يوسف النجار ابن يعقوب، يذكر لوقا إنه ابن هالي، وبينما يذكر متي أن المسيح من ولد سليمان بن داوود، يذكر لوقا إنه من ولد ناثان بن داوود، وبينما يذكر متي أن شلتائيل ابن يكنيا، يذكر لوقا إنه ابن نيري، وبينما يذكر متي أن ابن زور بابل يدعى أبيهود، يذكر لوقا إنه يدعى ريسا.(31) وبالجملة: النسب في العهد القديم به ولد زنا، والنصوص القاطعة تفيد أن من جاء من هذا الطريق لا يدخل جماعة الرب، وبعد بعثة المسيح انطلق متي ولوقا في إنجيل كل منهما. من دائرة المسيح إلى دائرة نسب داوود التي ذكرها العهد القديم، لإثبات أن المسيح بن مريم عليه السلام. هو ابن داوود المذكور عند اليهود. فجاء الانطلاق من دائرة إلى دائرة محرجا أمام النصوص.
والقرآن الكريم ينسب المسيح إلى أمه نسبة الولادة، وينسبه إلى الله نسبة الخلقة، ولقد طهر الله تعالى المسيح عن العهر عبر الأصلاب والأرحام وعما ينافي الطهارة إطلاقا بكلمة واحدة، وهي قوله عند ولادته (وجعلني مباركا أينما كنت)(32) أي أينما كنت قبل الولادة في رحم أمي وجداتي حتى أمي الأولى حواء، وفي صلب أبيها والآباء حتى آدم الأول، فقد كنت نورا في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة، لم تنجسني الجاهلية بأنجاسها ولم تلبسني من مدلهمات ثيابها، فقد كنت مباركا أينما كنت وحيثما كنت، لم أر صلب زان ولا رحم زانية، أو صلب مشرك جهول ورحم مشركة.
وجميع الأنبياء والرسل خرجوا من شجرة واحدة أصلها ثابت وفرعها في السماء، ولقد اصطفى الله الأنبياء وآلهم على العالمين كما في قوله تعالى: (إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين، ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم)(33) اصطفى سبحانه آدم عليه السلام لأنه أول خليفة له في الأرض، واصطفى نوح عليه السلام لأنه أول الخمسة أولي العزم من الرسل، وهو أيضا الأب الثاني للنوع الإنساني بعد الطوفان، لقوله تعالى: (وجعلنا ذريته هم الباقين)(34) واصطفى سبحانه آل إبراهيم. وهم إسحاق وإسرائيل والأنبياء من بني إسرائيل عليهم السلام. وإسماعيل والطاهر من ذريته وسيدهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقد جاء ذكره في دعاء إبراهيم وإسماعيل عند رفعهما قواعد بيت الله الحرام بمكة. (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك) إلى قوله تعالى (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم)(35) واصطفى الله آل عمران. وآل عمران من ذرية إبراهيم عليه السلام، ولكن الله أفردهم في آية الاصطفاء ليكون في هذا إشارة بأن الله تعالى قدمهم على الناس في أمر أو أمور لا يشاركهم فيه أو فيها غيرهم.
وآية الاصطفاء في خطوطها العريضة إعلان للبشر بأن هؤلاء الطيبين الذين خصهم الله والحق بهم من اختارهم، هم في الحقيقة خير أمة أخرجت للجنس البشري. ليقودوه على فترات إلى صراط الله العزيز الحميد، وعلى امتداد المسيرة الإسرائيلية كان عهد الله في سبط (لاوي) وذروة هذا السبط هو عمرام، وولد لعمرام موسى وهارون ومريم كما ذكر العهد القديم، وأمر الله بني إسرائيل بالطاعة لكهانة هارون ومن بعده لكهانة بنيه، وعلى امتداد المسيرة امتحن الله تعالى بني إسرائيل بهذه الذرية وبجملة عهوده ووصاياه تعالى، وشاء الله أن تختتم المسيرة بآل عمران، فجاءت الخاتمة يحمل عمودها الفقري نفس الأسماء التي وردت في المقدمة، لعل القافلة أن تتذكر وتنصت إلى أقوال ملاخى وغيره، ولا تلتفت لأقوال الفرق العديدة التي أفرزها التفسير الشفهي للتوراة.
إن المقدمة جاء ذكرها في العهد القديم. بقوله " إن امرأة عمرام يوكابد. ولدت لعمرام هارون وموسى ومريم "(36) أما الخاتمة فقد جاء ذكرها في القرآن في آيات كثيرة منها قوله تعالى: (إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا)(37) وقال تعالى: (ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها)(38) فالخاتمة أمام اليهود تحمل عناوين المقدمة، واليهود كانوا يعلمون أن مريم بنت عمران في حاضرهم تنتسب إلى عمران في ماضيهم. لكنهم ركبوا مراكب الاستكبار، ومن الدليل على ذلك. أن التشريع الوارد في سفر العدد.
يحتم أن تتزوج كل بنت من أسراتها إن أرادت الزواج من يهودي، لقوله " وكل بنت ورثت نصيبا من أسباط بني إسرائيل، تكون امرأة لواحد من عشرة سبط أبيها، لكي يرث بنو إسرائيل كل واحد نصيب آبائه "(39) أي إن من هو من سبط روابين مثلا. يتزوج من سبطه ولا يتزوج من سبط شمعون. وهكذا، والنبي زكريا طبقا للشريعة تزوج من امرأة من بنات هارون فقد جاء في الإنجيل " كان في أيام هيرودوس ملك اليهودية. كاهن اسمه زكريا من فرقة إبيا، وامرأته من بنات هارون واسمها اليصابات "(40) والعذراء مريم أم المسيح عليهما السلام. يحكي لوقا إنها كانت قريبة لأليصابات، ومعنى ذلك إنها تكون من نفس السبط الذي منه اليصابات، ولما ثبت أن اليصابات من بنات هارون. فإنه يثبت بالضرورة أن مريم عليها السلام من بنات هارون.
ومن الدليل أيضا على أن اليهود كانوا يعرفون حقيقة النسب، أنهم أفسحوا للمسيح الطريق ليلقي بمواعظه داخل الهيكل. ذكر يوحنا: أن المسيح حضر إلى الهيكل. وجاء إليه جميع الشعب فجلس يعلمهم.(41)
وذكر لوقا: دخل المسيح المجمع حسب عادته يوم السبت وقام ليقر)42) وما كان اليهود ليسمحوا بذلك إلا لعلمهم أن المسيح الذي تربت أمه في الهيكل بعد أن كفلها زكريا الذي ينسب لهارون. يحمل العلم الذي علموا موضعه على امتداد المسيرة والقرآن الكريم أخبر في آياته أن اليهود كانوا يعرفون هذا. وأن الحجة قامت عليهم بما علموا وبما قدمه المسيح وحمله إليهم، وقال تعالى بعد أن وضعت العذراء ولدها (فأتت به قومها تحمله. قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا)(43) قال صاحب الكشاف: قوله " يا أخت هارون " إنما عنى هارون النبي، وكانت من أعقابه في طبقة الأخوة، وعن أبي طلحة والسدي في قوله " يا أخت هارون " أي أخي موسى. وكانت من نسله.(44)
لقد كانت شرافة النسب تقتضي القول: أنها أخت موسى لا هارون، لأفضلية موسى على هارون، ولكن جاء انتسابها لهارون دون أبيها عمران ودون موسى. لتكون الحجة عليهم دافعة وهم يتلون الكتاب ويفسرونه التفسير الذي لا يقره أبناء هارون.
والخلاصة: لقد وضع اليهود النسب الذي يتفق مع أهوائهم، ثم شيدوا على هذا النسب فتن لا تقود إلا إلى الدجال، ولقد بينت الرسالة الخاتمة أن للدجال كنى وأسماء تستقيم مع فتنته. منها: ابن داوود، أبو يوسف(45) والنصارى الذين دونوا نسب المسيح لم يلتفتوا إلى أن المسيح ليس له أب بيولوجي، وأن نسبته إلى يوسف النجار لا جدوى من ورائها، لأن النسب يجب أن يكون من جهة العذراء فقط، لكنهم عملوا خلاف ذلك، واتبعوا النسب الذي وضعه اليهود، اعتقادا منهم أن متابعة اليهود في هذا، فيه إدانة لليهود الذين لم يؤمنوا بدعوة المسيح عليه السلام، ولكن هذا النسب الذي تجاهل سبط لاوي الذي على ذروته آل عمران، قاد الذين ينتظرون المسيح ابن داوود أو المسيح ابن يوسف، إلى فتنة وصفتها الرسالة الخاتمة بأنها أعظم فتنة منذ ذرأ الله ذرية آدم.
2 - " الأعمدة المتصدعة وآل هارون ":
وقبل بعثة المسيح عليه السلام كانت المسيرة قد ارتوت من مياه الأمم الذين تعاقبوا على حكم فلسطين، وكان لهذا الارتواء أثرا بالغا في بناء الشخصية الإسرائيلية بعد عهد السبي، والدول التي تعاقبت على حكم فلسطين بعد السبي هي: فارس (538 - 333 ق. م)، اليونان (333 - 343 ق. م) مصر (323 - 204 ق. م)، سور يا (204 - 167 ق. م)، المكابين (167 - 63 ق. م) وفيها كان اليهود مستقلين من الناحية العملية، روما (63 ق. م) وامتد حكم الرومان حتى (633 م).(46) وعلى امتداد هذه الفترة كان لليهود تجهيزاتهم التي أقاموها للحفاظ على تعاليمهم التي تقود إلى أهدافهم، وكان الحي اليهودي يذخر بالفرق المتعددة ومن أهم هذه الفرق: (الفريسيين) وهؤلاء أهم فرق اليهود وأكثرهم خطرا، ويتمسكون بالتفسير الشفهي (التلمود) وتقليد الشيوخ السابقين.(47) ولقد حذر المسيح عليه السلام من هذه الفرقة.(48) ومنهم جاء القديس بولس الذي قاد المسيرة المسيحية فيما بعد. وسنبين ذلك في موضعه، (الصدوقيين) وهؤلاء يتمسكون بالناموس المكتوب،(49) (والأسنيين) وهؤلاء يمارسون حياة رهبانية وهم يمثلون اليهودية السرية،(50) (الهيروديين) وهم حزب سياسي يريد إرجاع السلطة إلى عائلة هيرودس،(51) (الغيورين) وهؤلاء حزب قومي مستقل يؤيد استعمال العنف والقسوة،(52) وكان يوجد داخل الحي اليهودي العديد من المؤسسات أهمها: (المجمع اليهودي) وهو مبنى يجتمع فيه اليهود لقراءة الأسفار، وهو كان للتعليم،(53) (السنهدرين) وهم السلطة القضائية والدستورية العليا عند اليهود،(54) (العشارين) وهم يهود يجمعون الضرائب للرومان(55)، (الكتبة) وهم طبقة من الشعب مهمتهم شرح الناموس، ولقد أكثروا من التقاليد الشفاهية. وحددوا قواعد تشمل النواحي العملية للحياة اليومية، وهم يسمون بالمحامين والمعلمين والربيين،(56) (الناموس الشفاهي) وهو مجموعة التعليقات والتفاسير التي تدور حول ناموس موسى(57) ويشرف عليه كبار الحاخامات.
فتحت حكم الأمم تشكلت الشخصية الإسرائيلية بعد السبي، وهذا التشكيل حمل معالم الشخصية الإسرائيلية قبل وأثناء السبي، وقبل بعثة المسيح عليه السلام كانت الفرق الإسرائيلية المتعددة تتصارع على رقعة الاختلاف والجميع يتجه نحو هدف واحد، وهذا الهدف نسجته الفتن المتعددة. وفي النهاية ارتدى ثياب أمير السلام. الذي يعيد مجد مملكة داوود الوعد الإلهي لإبراهيم. وهذه الثياب يشرف على صيانتها العديد من المؤسسات التي تتمركز حول التفسير الشفهي للناموس (التلمود). وفي هذه الأجواء المشحونة بالرفض لكل منهج لا يخلص اليهود من حكم الأجانب، لطف الله تعالى بعباده وبعث إليهم من يقيم عليهم الحجة ويسوقهم إلى صراط الله العزيز الحميد، لينظر سبحانه إلى عباده كيف يعملون تحت سقف الامتحان والابتلاء.
وعند خاتمة المسيرة الإسرائيلية، بعث الله تعالى النبي يحيى والنبي عيسى، وكل منهما يحمل معالم جفاف المسيرة، ليتدبر فيها أصحاب العقول والأفهام، وليعلموا أن القيادة ستنزع من أيديهم وتكون لشعب آخر من أبناء إبراهيم، ومعالم الجفاف أن النبي يحيى ولد لأب اشتعل رأسه شيبا ولأم عاقر، أما المسيح عليه السلام فولد لعذراء لم يمسسها بشر، لقد جاء يحيى من طريق أبوين الذرية لهما أمر غير معهود. ليكون مصدقا بعيسى عليه السلام الذي جاء من جهة كلمة الايجاد (كن)، وذلك لأن سائر الأفراد من الإنسان يجري ولادتهم على مجرى الأسباب العادية المألوفة، ولكن ولادة المسيح عليه السلام لم تجر هذا المجرى. لأنه فقد بعض الأسباب العادية. لهذا كان وجوده بمجرد كلمة التكوين (كن) ولم يتخلل هذا الوجود الأسباب العادية.
لهذا كان الباب الذي دخل منه آخر أنبياء بني إسرائيل، باب يدعو المسيرة إلى التدبر والإيمان. وليحذروا المخالفة لأنها ستنتج على آخر الطريق فتنة، ومعنى أن يغلقوا على أنفسهم باب الفتنة. أن قيادة المسيرة البشرية لن تكون من داخل الأبواب المغلقة، إنما ستنتقل إلى مكان أوسع وأرحب، والله تعالى يورث الأرض لمن يشاء من عباده.
الهوامش
(1) المصدر السابق ص 84.
(2) نقد التوراة / حجازي السقا ص 168.
(3) الكنز المرصود ص 197.
(4) التراث الإسرائيلي ص 395.
(5) سورة غافر آية 56.
(6) تفسير ابن كثير 84 / 4.
(7) نقد التوراة / د. حجازي السقا ص 74.
(8) أنظر عزرا إصحاح 4، 5.
(9) المصدر السابق 2 / 2.
(10) المصدر السابق 7 / 13.
(11) نحميا 2 / 1 - 9.
(12) مفاتيح الأسفار الإلهية ص 45.
(13) المصدر السابق ص 45.
(14) نحميا 13 / 15 - 18.
(15) المصدر السابق 13 / 22 - 5 2.
(16) ملاخي 1 / 6.
(17) المصدر السابق 2 / 1 - 3.
(18) المصدر السابق 1 / 9 - 11.
(19) ملاخي 2 / 4 - 9.
(20) المصدر السابق 3 / 1 - 5.
(21) المصدر السابق 4 / 1 - 6.
(22) أنظر كتاب بشارة نبي الإسلام / د. حجازي السقا.
(23) العدد 26 / 60.
(24) تثنية 23 / 1 - 2.
(25) تكوين 19 / 30 - 38.
(26) تثنية 23 / 2 - 3.
(27) تكوين 38 / 6 - 0 3.
(28) صموئيل 12 / 7 - 23.
(29) تثنية 23 / 1 - 2.
(30) دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة / موريس بوكاي ص 105.
(31) أنظر متي الإصحاح الأول، لوقا الإصحاح الثالث.
(32) سورة مريم آية 31.
(33) سورة آل عمران آية 33.
(34) سورة الصافات آية 77.
(35) سورة البقرة آية 129.
(36) العدد 26 / 60.
(37) سورة آل عمران آية 35.
(38) سورة التحريم آية 12.
(39) العدد 36 / 8.
(40) لوقا 1 / 5.
(41) يوحنا 8 / 1 - 6.
(42) لوقا 4 / 16.
(43) سورة مريم آية 27.
(44) تفسير ابن كثير 118 / 3.
(45) بيان الأئمة ص 104. الفتن والملاحم / ابن كثير ص 133 بيان الأئمة ص 104
(46) مفاتيح الأسفار ص 55، 56.
(47) مفاتيح الأسفار ص 56.
(48) متي 24 / 10.
(49) مفاتيح الأسفار الإلهية ص 56.
(50) المصدر السابق 56.
(51) المصدر السابق 57.
(52) المصدر السابق 57.
(53) المصدر السابق ص 58.
(54) المصدر السابق ص 58.
(55) المصدر السابق 58.
(56) المصدر السابق 58.
(57) المصدر السابق 58.
******************
في نهاية المسيرة جاءت دعوة زكريا عليه السلام، وكان متزوجا من اليصابات من بنات هارون(1) ويقول إنجيل لوقا فيهما إنهما بارين أمام الله سالكين في جميع وصايا الرب وأحكامه ".(2) وقال " لم يكن لهما ولد. إذ كانت اليصابات عاقرا وكلاهما قد تقدم في السن كثيرا ".(3) وذكر لوقا: بينما كان زكريا يؤدي خدمته الكهنوتية أمام الله سأله الولد. فظهر له ملاك وقال له: لا تخف يا زكريا لأن طلبتك قد سمعت. وزوجتك ستلد لك ابنا تسميه يوحنا. وسوف يكون عظيما أمام الرب، والقرآن الكريم ذكر هذه المعجزة في قوله تعالى: (قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا. وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا. فهب لي من لدنك وليا يرثني وبرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا. يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا).(4)
وجاء يحيى وريث زكريا وآل يعقوب، ليكون حجة على مسيرة خرج معظمها عن سبيل آل يعقوب، وبدأ يحيى دعوته، جاء في إنجيل متي " في تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان (يحيى) يكرز في برية اليهودية قائلا: توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات. فإن هذا هو الذي قيل عنه بأشعيا النبي القائل: صوت صارخ في البرية. أعدوا طريق الرب.
اصنعوا سبله مستقيمة "،(5) ويقول متي هنري في تفسيره: كانت مهمة يوحنا دعوة الناس للتوبة عن خطاياهم، فقوله " توبوا " هي في الأصل اليوناني " تأملوا أو فكروا مليا " أي: ليكن لكم فكرا آخر لتصلحوا أخطاء الماضي، تأملوا طرقكم. جددوا أذهانكم، لقد أخطأتم التفكير فأعيدوا التفكير وأحسنوا التفكير.(6)
ولكن القوم لم يتأملوا ولم يفكروا وعكفوا على أطروحة أرض الميعاد التي كتبها الله لإبراهيم دون قيد وشرط. ورفعت فرقة (الفريسيين) أعلام الصد عن سبيل الله. يقول إنجيل متي " ولما رأى يوحنا كثيرين من الفريسيين والصدوقيين يأتون اليه ليتعمدوا قال لهم: يا أولاد الأفاعي. من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي. فأثمروا ثمرا يليق بالتوبة ولا تغللوا أنفسكم قائلين: لنا إبراهيم أبا. فإني أقول لكم:
إن الله قادر أن يطلع من هذه الحجارة أولاد إبراهيم، وها إن الفأس قد ألقيت على أصل الشجرة. فكل شجرة لا تثمر ثمرا جيدا تقطع وتطرح في النار "(7)، ويقول متي هنري في تفسيره: نرى يوحنا يوجه حديثه إلى هؤلاء القوم بمنتهى الصراحة والأمانة، وما قاله يوجهه في نفس الوقت إلى كل الجموع.. فاللقب الذي ناداهم به هو " يا أولاد الأفاعي ". ولقد أعطاهم المسيح نفس هذا اللقب، لقد كانوا كالأفاعي إذ كانت لهم صورة التقوى والمظهر الخلاب. إلا أنهم مملوئين سما مشحونين خبثا وعداوة لكل ما هو حسن، وكانوا أولاد الأفاعي نسل وذرية الأفاعي، فكان السم يسري في دمهم وعظامهم. وكانوا يفتخرون بأنهم ولدوا من إبراهيم، ولكن يوحنا بين لهم أنهم من نسل الحية وإن إبليس هو أبوهم.(8) وقال لهم يوحنا (يحيى): " إن كنتم أولاد إبراهيم. فلا تفتكروا إنكم لا تحتاجون إلى التوبة وإنه لا شئ هنالك تتوبون عنه وإن علاقتكم بإبراهيم لص اهتمامكم بالعهد الذي قطع معه يجعلانكم مقدسين.
ولا يوجد هنالك داع لتجديد أذهانكم وإصلاح طرقكم، ولا تفتكروا بأنكم ستنجحون حتى وإن كنتم لا تتوبون... أو وأن الله سيتغاضى عن عدم توبتكم لأنكم أولاد إبراهيم "(9) ويقول متي هنري " يقولون لنا إبراهيم أبا. ولذلك لنا الحق في امتيازات العهد الذي قطعه الله معهم..
يا لغباوتهم في هذا الادعاء الذي لا أساس له، لقد توهموا بأنهم وقد صاروا أولاد إبراهيم. فإنهم هم شعب الله الوحيد في هذا العالم، ولقد بين لهم يوحنا جهلهم الفاضح في هذا الادعاء الباطل والغرور الكاذب.
فقال " مهما افتكرتم أن تقولوا في أنفسكم. أن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولاد إبراهيم، إن امتحانكم دقيق جدا وقريب جدا، الآن قد وضعت الفأس وقد رفعت أمام أنظاركم ووضعت على أصل الشجرة، الآن ستوضعون في كفة الميزان لحظة واحدة، الآن قد تحددت نهايتكم للهلاك الذي لا يمكن أن تفلتوا منه إلا بالتوبة العاجلة الصادقة، الآن قد منحكم الله آخر فرصة للاختبار، إما أن تنتهزوا الفرصة الآن. أو تضيع من أيديكم إلى الأبد، وبين كيف أن القصاص منهم سيكون صارما إن لم ينتهزوا الفرصة، الحقيقة يوضحها يوحنا بوضع الفأس على أصل الشجرة، ليبين لهم أن الله قضى أن كل شجرة مهما ارتفعت بمواهبها وأمجادها. ومهما بدت خضراء بمظهرها الخارجي، أن لم تصنع أثمارا صالحة تليق بالتوبة فإنها تقطع، لا يعترف بها كشجرة في كرم الله، تصبح غير جديرة بأن تحتل مكانا هناك وتلقى في النار، وهي أليق مكانا للأشجار الجافة لأنها لا تصلح لشئ آخر، إن لم تصلح للأثمار تصلح للنار.(10)
ويقول متي هنري: لقد كانوا عصابة الأفاعي كلهم متساوون في الشر، ورغم أنهم كانوا أعداء بعضهم لبعض. إلا إنهم كانوا متحالفين في الشر، إن نسل الشرير هو نسل الأفاعي، ولقد كان الانذار الذي وجهه لهم يوحنا " من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي " يتضمن أنهم كانوا في خطر الوقوع تحت طائلة الغضب الآتي. وأنه لا أمل لهم في النجاة منه، لأن قلوبهم قد قست، الفريسيين بسبب تمسكهم بمظهر الديانة. والصدوقيون بسبب كثرة مناقشتهم عن الديانة، حتى كان يصبح كل مجهود لمحاولة التأثير عليهم مقضيا عليه بالفشل، لقد كان هناك غضبا آتيا. ومن واجب كل واحد أن يهرب من هذا الغضب. ومن رحمة الله أنه يحذر للهروب من هذا الغضب.
لقد كان يحيى (يوحنا) يتحدث بالحق الذي تحدث به آل يعقوب، وكان عليه السلام يقف على أرضية آل عمران (آل هارون)، قال متي هنري: وكان يوحنا كاهنا على طقوس هارون(11) وبينما كان يدعو الشعب للتوبة والإيمان بالله وسلوك سبيل آل هارون، كان يعلن أمامهم أنه يمهد الطريق للمسيح عيسى ابن مريم. ويقول " لست المسيح. بل أنا رسول يمهد له الطريق ".(12) وكان الشعب قد علم من قديم. على لسان الأنبياء والرسل ببشارة تقول " ها العذراء تحبل وتلد ابنا ".(13)
وعندما ولدت العذراء وشب ولدها عليه السلام، يقول إنجيل متي " جاء يسوع من الجليل إلى الأردن إلى يوحنا ليتعمد منه "(14) ولأن حبل النبوة حبل واحد. وحلقات الأنبياء يكمل بعضها بعضا، قال يوحنا للمسيح: " هكذا يليق بنا أن نكمل كل بر ".(15) وكان المسيح عليه السلام آخر أنبياء الشجرة الإسرائيلية التي جعلها الله حجة على المسيرة الإسرائيلية، وانتهت حياة نبي الله زكريا ونبي الله يحيى نهاية دموية، روى أن القوم عندما عقدوا العزم على قتل زكريا. هرب منهم فانفرجت له شجرة فدخل جوفها ثم التأمت عليه، وعندما علم القوم نشروا الشجرة فقطعوها وقطعوه نصفين، أما يحيى عليه السلام. فسجنوه. ثم قتلوه. ثم قطعوا رأسه. وحملت إلى ملك بني إسرائيل ليقدمها هدية لامرأة كان قد افتتن به)16)
ثانيا ( دعوة المسيح عليه السلام )
1 - ( أصول الدعوة )
تجري دعوة المسيح عليه السلام في اتجاهين يصبان في هدف واحد، الاتجاه الأول: دعوة بني إسرائيل وتصحيح عقائدهم واتجاهاتهم وسوقهم إلى صراط الله العزيز الحميد، وهذا الاتجاه ينطلق من التوراة التي أنزلها الله على موسى عليه السلام، والاتجاه الثاني: هو التبشير بنبي الإسلام خاتم الأنبياء والمرسلين، وهذا الاتجاه ينطلق من بشارات الأنبياء السابقين، ويبشر به المسيح عليه السلام وفقا لسنة الإخبار بالغيب عن الله، وهي سنة جارية. فكل نبي يخبر بالذي يليه، ويمكن القول بأن دعوة المسيح عليه السلام دعوة تربط بين الدعوة الإلهية التي حملها بنو إسرائيل. وبين الدعوة الإلهية التي يبعث بها النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم، والدعوة الإلهية منذ ذرأ الله ذرية آدم هي دعوة واحدة. ولا تدعو النبوة إلا إلى دين واحد وهو التوحيد، وعلى هذا فإذا كذب الناس أحد الأنبياء فقد كذبوا كل الأنبياء في الحقيقة.
وأصول دعوة المسيح عليه السلام في قوله تعالى: (وإذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد).(17)
فالذي حكاه تعالى عن عيسى عليه السلام ملخص دعوته، وقد أعلن أصل دعوته بقوله " أني رسول الله إليكم " فأشار إلى أنه لا شأن له إنه حامل رسالة من الله إليهم، ثم بين متن ما أرسل إليهم لأجل تبليغه في رسالته بقوله " مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول " الخ.
فقوله " مصدقا لما بين يدي من التوراة " بيان أن دعوته لا تغاير دين التوراة. ولا تناقض شريعتها بل تصدقها ولم تنسخ من أحكامها إلا يسيرا، والنسخ بيان انتهاء أمد الحكم وليس بإبطال. ولذا جمع عليه السلام بين تصديق التوراة ونسخ بعض أحكامها فيما حكاه الله تعالى من قوله (مصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم)،(18) ولم يبين لهم إلا بعض ما يختلفون فيه، كما في قوله (قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون).(19)
وبالجملة: فالمسيح يحمل رسالة من الله إلى بني إسرائيل، وهذه الرسالة لا تناقض التوراة التي أنزلها الله تعالى على موسى عليه السلام، بل هو مصدقا لما علمه الله من التوراة النازلة على موسى، وأنه عليه السلام جاء لنسخ بعض الأحكام المحرمة المكتوبة عليهم، كما في قوله تعالى: (ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم).(20) وما حرم عليهم أشار إليه قوله تعالى: (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم).(21)
والأناجيل الحاضرة أشارت إلى أن دعوة المسيح موجهة إلى بني إسرائيل دون غيرهم. جاء في إنجيل متي قول المسيح " لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة "(22) وأشارت إلى أن الدعوة لا تغاير دين التوراة ولا تناقض شريعتها بل تصدقها. وإنها تنسخ بعض الأحكام التي انتهى أمد حكمها. جاء في إنجيل متي قول المسيح " لا تظنوا أني جئت لألغي الشريعة أو الأنبياء. ما جنت لألغي بل لأكمل "(23) ويقول متي هنري في تفسيره: إن المسيح في كل النواحي خضع للناموس وأكمله.
أكرم والديه وقدس السبت وصلى وأعطى صدقه. وأطاع طاعة كاملة.(24)
وكان المسيح عليه السلام يحمل المعجزات التي تؤيد صدق دعوته. ومنها النفخ في الطين فيكون طيرا بإذن الله. وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله. وينبأهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم. وكان عليه السلام يحمل معجزة العلم بالكتاب والحكمة. وهو قوله تعالى: (ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل)(25) وما جاء به المسيح عليه السلام. أصاب علماء بني إسرائيل بالدهشة. وعلى الرغم من هذا حاولوا قتله. جاء في إنجيل يوحنا " صعد يسوع إلى الهيكل وبدأ يعلم الناس. فدهش اليهود وتساءلوا: كيف يعرف هذا الكتاب وهو لم يتعلم. فأجابهم يسوع: ليس تعليمي من عندي بل من عند الذي أرسلني. ومن أراد أن يعمل بمشيئة الله يعرف ما إذا كان تعليمي من عند الله أو أنني أتكلم من عندي. من يتكلم من عنده يطلب المجد لنفسه.
أما الذي يطلب المجد لمن أرسله فهو صادق لا إثم فيه. أما أعطاكم موسى الشريعة ولكن ما أحد منكم يعمل بالشريعة. لماذا تسعون إلى قتلي؟ ".(26) وجاء في إنجيل متي " بهت الجميع من تعاليمه لأنه يعلمهم كمن له سلطان ".(27)
كان هذا هو الشطر الأول من دعوته عليه السلام، أما الشطر الثاني فهو قوله " ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد " ومن المعلوم أن البشرى هي الخبر الذي يسر المبشر ويفرحه. ولا يكون إلا بشئ من الخير يوافيه ويعود إليه، والخير المترقب من بعثة النبي أحمد ودعوته. هو انفتاح باب من الرحمة الإلهية على الناس فيه سعادة دنياهم وعقباهم، من عقيدة حقة أو عمل صالح أو كليهما.
وقال صاحب الميزان: ويعود معنى كلامه " إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا.. " الآية. إلى: أني رسول الله إليكم أدعو إلى شريعة التوراة ومنهاجها - ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم - وهي شريعة سيكملها الله ببعث نبي يأتي من بعدي اسمه أحمد، وهو كذلك. فإمعان التأمل في المعارف الإلهية التي يدعو إليها الإسلام، يعطي أنها أدق مما في غيره من الشرائع السماوية السابقة، وخاصة ما يندب إليه من التوحيد. الذي هو أصل الأصول الذي يبتني عليه كل حكم ويعود إليه كل من المعارف الحقيقية، وكذا الشرائع والقوانين العملية التي لم تدع شيئا مما دق وجل من أعمال الإنسان الفردية والاجتماعية. إلا عدلته وحدت حدوده وقررته على أساس التوحيد ووجهته إلى غرض السعادة، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: (الذين يتبعون النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم).(28)
وقوله " اسمه أحمد " دلالة السياق على تعبير عيسى عليه السلام عنه صلى الله عليه وآله وسلم بأحمد، وعلى كونه اسما له يعرف به عند الناس، كما كان يسمى بمحمد ظاهرة لا سترة عليها، ويدل عليه قوله حسان:
صلى الإله ومن يحفف بعرشه * * والطيبون على المبارك أحمد
ومن أشعار أبي طالب قوله:
وقولوا لأحمد أنت أمرء * * خلوف اللسان ضعيف السبب
ألا إن أحمد قد جاءهم * * بحق ولم يأتهم بالكذب
وقوله مخاطبا للعباس وحمزة وجعفر وعلي بنصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
كونوا فدى لكم أمي وما ولدت * * في نصر أحمد دون الناس أتراسا
ومن شعره فيه صلى الله عليه وآله وسلم وقد سماه باسمه الآخر محمد:
ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا * * نبيا كموسى خط في أول الكتب
ويستفاد من البيت أنهم عثروا على وجود البشارة به صلى الله عليه وآله وسلم. في الكتب السماوية التي كانت عند أهل الكتاب يومئذ ذاك، ويؤيده أيضا إيمان جماعة من أهل الكتاب من اليهود والنصارى وفيهم قوم من علمائهم كعبد الله بن سلام وغيره، وقد كانوا يسمعون هذه الآيات القرآنية التي تذكر البشارة به صلى الله عليه وآله وسلم، وذكره في التوراة والإنجيل. فتلقوه بالقبول ولم يكذبوه. ولا أظهروا فيه شيئا من الشك والترديد(29) وخلو الأناجيل الدائرة اليوم من بشارات عيسى عليه السلام بما فيها من الصراحة. فالقرآن الكريم في غنى عن تصديقها. لأنه الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وهو المعجزة الباقية، والبشارات بنبي الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم لا يخلو الكتاب المقدس منها، وبعض هذه البشارات حرفت وغيرت إما بتغيير لفظ أو محل. وإما بزيادة أو نقصان. أو غير ذلك.
ولقد ذكر العهد القديم بشارات إذا تدبرها الباحث وجد أنها لا تستقيم إلا مع البعثة الخاتمة، وسنلقي ضوءا على هذه البشارات في موضعها، أما العهد الجديد فلقد بشر بالنبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم في مواضع، وبشر بشريعته تحت عنوان " اقترب ملكوت السماوات "، وكان المسيح عليه السلام يقول لتلاميذه " أكرزوا قائلين: إنه اقترب ملكوت السماوات "،(30) ومعنى الملكوت الذي أشار إليه المسيح:
السلطنة والحكم، ويشير إليه قول الله تعالى لرسوله الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم (قل من بيده ملكوت كل شئ وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون. سيقولون لله. قل فأنى تسحرون. بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون. ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون) (31)، وقال المفسرون: الملكوت هو الملك. بمعنى: السلطنة والحكم، وقد فسر تعالى ملكوته بقوله: (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون. فسبحانه الذي بيده ملكوت كل شيء) (32)، فكون ملكوت كل شئ بيده أن ملكه تعالى محيط بكل شئ ونفوذ أمره ومضي حكمه ثابت على كل شئ، والنظر في ملكوت الأشياء يهدي الإنسان إلى التوحيد هداية قطعية، قال تعالى: (أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شئ وإن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعد. يؤمنون).(33)
فالمسيح عليه السلام بشر بالنبي الخاتم الذي تحقق شريعته الاستكمال الإنساني، ويقوم دينه على التوحيد الذي لا يرى غير الله من يملك أي شئ، وينطلق في دعوته من ينبوع دين الله في فطرة الإنسان نفسه. إلى صفحة الكون الواسع العريض التي تعليه على الوجود. إن الإيمان بالله أمر فطري ولا يحتاج إلى معجزة لتثبته، فدعوته من الفطرة وإلى الفطرة، ويؤكد هذا المعنى أن المسيح عليه السلام أشار إلى الفطرة وهو يتحدث عن ملكوت الله، جاء في إنجيل متي " في تلك الساعة تقدم التلاميذ إلى يسوع يسألونه: من هو الأعظم إذن في ملكوت السماوات؟ فدعا إليه بولد صغير وأوقفه وسطهم وقال: الحق أقول لكم إن كنتم لا تتحولون وتصيرون مثل الأولاد الصغار. فلن تدخلوا ملكوت السماوات أبدا "(34) ويقول متي هنري في تفسيره: قوله " إن لم ترجعوا " وحسب الترجمة الإنجليزية " يجب أن تتجددوا " أو " تتغيروا، أي: يجب تجديد ذهنكم. يجب أن يكون لكم شكل آخر وطبع آخر وأفكار أخرى، سواء عن أنفسكم أو عن ملكوت السماوات، يجب أن ترجعوا إلى أنفسكم، يجب أن تصيروا مثل الأولاد.(35)
لقد دعا المسيح عليه السلام إلى طرح الاعتقادات الباطلة التي أنتجتها المسيرة وعليها شبت الأجيال، وعلى ثقافتها سارعوا في الأرض فسادا طمعا في نشر شباك التهويد والتوثين على الفطرة، وبين أن هناك الشباك ستكون عائقا أمام صاحبها عندما يبعث نبي شريعة الملكوت، ولأجل هذا فلا بد من طرح الشباك لكي تستقبل الفطرة زادها، وشباك الاعتقادات الباطلة هذه، أشار إليها النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم. بقوله " ما من مولود إلا يولد على الفطرة. فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ".(36)
والمسيح عليه السلام كان يمهد الطريق أمام نبي الدعوة الخاتمة.
وأقام الحجة على أصحاب شباك التعتيم في المسيرة الإسرائيلية. لكي يستقبلوا وتستقبل أجيالهم الدعوة التي ما زالت في بطن الغيب. على أرضية ذات شكل آخر وطبع آخر وأفكار أخرى، ولكي يزيل المسيح عليه السلام شباك التعتيم، كان يكلم الشعب بطريقة ضرب الأمثال لهم لعلهم يفقهون، جاء في إنجيل متي " فتقدم إليه التلاميذ وسألوه: لماذا تكلمهم بالأمثال؟ فأجاب: لأنه قد أعطى لكم أن تعرفوا أسرار ملكوت السماوات، أما أولئك فلم يعط لهم ذلك، فإن من عنده يعطي المزيد فيفيض. وأما من ليس عنده ينتزع منه، لهذا السبب أكلمهم بأمثال، فهم ينظرون دون أن يبصروا ويسمعوا دون أن يسمعوا أو يفهموا، ففيهم قد تمت نبوءة أشعيا حيث يقول: سمعا تسمعون ولا تفهمون، ونظرا تنظرون ولا تبصرون، لأن قلب هذا الشعب قد صار غليظا. وصارت آذانهم ثقيلة السمع. وأغمضوا عيونهم. لئلا يبصروا بعيونهم. ويسمعوا بآذانهم. ويفهموا بقلوبهم. ويرجعوا إلي فأشفيهم "(37) يقول متي هنري:
أجابهم المسيح أنه علم بالأمثال، لأن بها تصبح الأمور أكثر وضوحا وسهولة، للذين يريدون أن يتعلموا. وفي نفس الوقت تصبح أكثر صعوبة وغموضا للجهلاء بإرادتهم، إن للتلاميذ معرفة وأما الشعب فليس لهم معرفة، لأن قلب هذا الشعب قد ثقل، ولا غرابة لمن كان قلبه هكذا إذا صارت الآذان ثقيلة السمع، ولأنهم مصرين على أن لا يروا النور آتيا إلى العالم حينما أشرق شمس البر، بل أغلقوا نوافذهم.
لأنهم أحبوا الظلمة أكثر من النور. إن النظر والسمع والفهم لازمه للرجوع والتجديد.(38)
وفي أوامر المسيح للتلاميذ " أكرزوا قائلين إنه اقترب ملكوت السماوات "(39) يقول متي هنري: هذا هو رأس الموضوع، ويجب أن يتوسعوا في شرحه، ليعرف الناس أن ملكوت المسي)40) يجب أن يؤسس الآن حسبما جاء في الكتب، الأمر الذي يتطلب أنهم يجب أن يتوبوا عن خطاياهم. ويتركوها لكي يؤهلوا لامتيازات هذا الملكوت، والتوبة تتفق مع تطبيق هذا التعليم الخاص باقتراب الملكوت، لذلك يجب أن ينتظروا وأن يسمعوا عن هذا المسيا الذي طال انتظاره. أكثر مما سمعوا. يجب أن يكونوا مستعدين لقبول تعاليمه والإيمان به والخضوع له، لقد كانت المناداة بهذا كنور الصباح الذي يبشر بقرب شروق الشمس.(41)
كانت هذه إشارات إلى رسالة النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم، يتبينها كل باحث عن الحقيقة. عند تدبره لأحداث المسيرة الإسرائيلية وما أنتجته من فتن واختلافات، وعند تدبره لمنهج البعثة الخاتمة. وما قدمه للبشرية من زاد ودواء يشفى من كل داء. وسنقدم المزيد من هذه البشارات في موضعها.
والخلاصة: كان الشطر الأول من دعوة المسيح عليه السلام، يتعلق الحجة التي تهدي إلى صراط الله، وكان الشطر الثاني من الدعوة هو تجهيز الماضي وحاضر الدعوة، لاستقبال دعوة جديدة في أرض جديدة، وعلى هذا فدعوة المسيح دعوة رابطة، تهدي مسيرة إلى مسيرة، لينطلق الجنس البشري تحت سقف الامتحان والابتلاء. لينظر الله كيف يعملون.
2 ـ (الدعوة والمفاصلة)
بدأ المسيح عليه السلام في بث دعوته داخل بني إسرائيل. واختار عليه السلام اثني عشر رجلا ليلازموه ويرسلهم ليبشروا بملكوت السماوات، ولم تكن مهمة المسيح مهمة سهلة داخل الحي اليهودي.
لأن هذا الحي عج بالعديد من الفرق والمؤسسات التي تتجه نحو هدف واحد. حددته الأطروحات والثقافات التي تقول بشعب الله المختار.
وتنتظر المسيح بن داود ليعيد الميراث الذي أعطاه الله لإبراهيم، ولم تكن مهمة المسيح أن يأتي لهؤلاء بما تهوى أنفسهم، وإنما كانت مهمته أن يدعوهم إلى عبادة الله عبادة خالصة، وأن يعيدهم إلى الطريق الذي يخلو من جميع بصمات الأمم، ذكر إنجيل مرقص أن المسيح سئل " أية وصية هي أول الكل؟ وأجاب يسوع: إن أول كل الوصايا هي: إسمع يا إسرائيل الرب إلهنا رب واحد، وتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك ومن كل قدرتك، هذه هي الوصية الأولى "(42) وهذه الوصية أشار إليها القرآن الكريم. في قوله تعالى: (ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب. يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون. أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا: نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون).(43) وفي الآية إشارة إلى أن الدين هو الإسلام كما قال تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام).(44)
لم تكن المهمة سهلة في الحي اليهودي الذي أغلق الأبواب حتى لا تدخل الاستقامة. كما قال أشعيا: " قد ارتد الحق إلى الوراء والعدل يقف بعيدا. لأن الصدق سقط في الشارع والاستقامة لا تستطيع الدخول وصار الصدق معدوما "(45) وعلى الرغم من هذا العسر وهذا الصد عن السبيل، حددت الدعوة للمسيح دائرة عمله، وهي قوله: " لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة ".(46) ولهذا قال لتلاميذه " إلى طريق أمم لا تمضوا وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا. بل اذهبوا بالحرى إلى خراف بيت إسرائيل الضالة ".(47)
ولأن الحي اليهودي يزخر بالثقافات التي أنتجتها العقائد الوثنية، ويزخر بالانحرافات التي أنتجها التحريف والتأويل لنصوص الكتاب، كان لا بد من المفاصلة بين الحق وبين الباطل داخل الحي اليهودي، ليعرف الشعب أين تكون القدوة الصالحة وتقام عليه الحجة، فالساحة شربت من قديم ثقافة يشير إليها قول أشعيا " صارت القرية الآمنة زانية.. كان العدل يبيت فيها وأما الآن فالقاتلون " وقوله " رؤسائك متمردون ولغفاء اللصوص. كل واحد منهم يحب الرشوة ويتبع العطايا "(48) وعندما بعث المسيح تم الفصل بين ثقافة والتمرد والرشوة وقدوتها. وبين العقيدة التي تتميز بالزهد ويسهر عليها قدوة صالحة، ذكر الإنجيل أن المسيح قال لتلاميذه " مجانا أخذتم مجانا أعطوا. لا تقتنوا ذهبا ولا فضة ولا نحاسا في مناطقكم. ولا مزودا للطريق ولا ثوبين ولا أحذية ولا عصا ".(49)
ونظرا لتعدد الفرق والمؤسسات داخل الحي اليهودي، ونظرا لوجود تعاليم تلبست بالدين وأصبحت خطرا على الفطرة. وتهدد المسيرة البشرية بالفتن المهلكة، فإن حركة المسيح لتصحيح المسار.
تميزت من بدايتها بالمفاصلة بين الحق وبين الباطل حتى داخل البيت الواحد، ليهلك من هلك عن بينة، ذكر متي أن المسيح قال " لا تظنوا أني جئت لألقي سلاما على الأرض. ما جئت لألقي سلاما بل سيفا، فإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه والابنة ضد أمها. والكنة ضد حماتها، وأعداء الإنسان أهل بيته، من أحب أبا وأما أكثر مني فلا يستحقني. ومن أحب ابنا أو ابنة أكثر مني فلا يستحقني "،(50) ولأن الدعوة الإلهية دعوة واحدة. ولأن المفاصلة بين الحق وبين الباطل من الأمور الفطرية. فلقد روى أن النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم قال " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ".(51)
ولما كانت المفاصلة تقتضي أن يكون القول موافق للعمل، أمر المسيح تلاميذه بأن لا يقتفوا أثر الكتبة الفريسيين وغيرهم من علماء الشعب، وقال " لا تعملوا مثل ما يعملون. لأنهم يقولون ولا يفعلون.
بل يحزمون أحمالا ثقيلة لا تطاق ويضعونها على أكتاف الناس، ولكنهم هم لا يريدون أن يحركوها بطرف الإصبع، وكل ما يعملونه فإنما يعملونه لكي يلفتوا نظر الناس اليهم، فهم يعرضون عصائبهم ويطيلون أطراف أثوابهم. ويحبون أماكن الصدارة في الولائم وصدور المجالس في المجامع، وأن تلقى عليهم التحيات في الساحات. وأن يدعوهم الناس: يا معلم يا معلم، أما أنتم فلا تقبلوا أن يدعوكم أحد: يا معلم لأن معلمكم واحد وأنتم جميعا أخوة "(52) فالطريق الأول إتبع الأهواء وفصل بها بين القول والعمل، وأنتج برامج وثقافات لا تتفق بصورة مع كرسي موسى وهارون عليهما السلام، فجاء الطريق الثاني بالمفاصلة التي عليها يسير كل طريق نحو هدفه.
3 ـ (الدعوة وبرامج التحريف)
بدأ المسيح عليه السلام في بث دعوته داخل الحي اليهودي، وعندما أظهر المعجزات التي أيد الله تعالى بها دعوته كانوا يقولون:
" فمن أين له هذه كلها "(53) وآمن بيسوع كثيرون من اليهود عندما شاهدوا المعجزات(54) ولكن فرقة الفريسيين أصحاب التفسير الشفهي. الذي يهدف إلى انتظار المسيح ابن داوود ليعيد مملكة داوود، وقفوا من الدعوة ومعجزاتها في موقف الصد عن سبيل الله، يذكر متي أن الفريسيين قالوا: إن المسيح لا يطرد الشياطين إلا ببلعز بول رئيس الشياطين(55) وأمام حركات الصد عن سبيل الله. يذكر متي: أن المسيح بدأ يوبخ المدن التي جرت فيها أكثر معجزاته. لكون أهلها لم يتوبو)56) وبدأ اليهود يتحدثون بالعقائد التي دونوها على امتداد مسيرتهم وأظهروا تقاليد شيوخهم. فقال لهم المسيح: " أنتم بهذا تلغون ما أوصى به الله محافظة على تقاليدكم. أيها المراؤون. أحسن أشعيا إذ تنبأ عنكم فقال: هذا شعب يكرمني بشفتيه أما قلبه فبعيد عني جدا، إنما باطلا يعبدونني وهم يعلمون تعاليم ليست إلا وصايا الناس "(57) وبدأ علماء الشريعة يدلون بدلوهم للصد عن دعوة المسيح عليه السلام، فقال لهم:
" الويل أيضا لكم يا علماء الشريعة. فإنكم تحملون الناس أحمالا مرهقة وأنتم لا تمسونها بإصبع من أصابعكم، الويل لكم. فإنكم تبنون قبور الأنبياء وآباؤكم قتلوهم. فأنتم إذن تشهدون موافقين على أعمال آبائكم، فهم قتلوا الأنبياء. وأنتم تبنون قبورهم، لهذا السبب أيضا قالت حكمة الله. سأرسل إليهم أنبياء ورسلا فيقتلون منهم ويضطهدون، حتى أن دماء جميع الأنبياء المكفولة منذ تأسيس العالم. يطالب بها هذا الجيل.
من دم هابيل إلى دم زكريا الذي قتل بين المذبح والمحراب، أقول لكم. نعم إن تلك الدماء يطالب بها هذا الجيل، الويل لكم يا علماء الشريعة، فإنكم خطفتم مفتاح المعرفة، فلا أنتم دخلتم ولا تركتم الداخلين يدخلون "(58) وإذا كان المسيح قد الحق الجيل الذي لم يشاهد الأحداث. بالجيل الذي شارك في الأحداث وسفك فيها دماء الأنبياء.
فإن النبي الخاتم قي قال " إذا عملت الخطيئة في الأرض. كان من شهدها فكرهها كمن غاب عنها. ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها ".(59) وقال " لا تقتل نفسا ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل "(60) وقال تعالى في كتابه الكريم: (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فسادا في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا).(61)
كما بدأوا في طرح ثقافة أنهم الأحق بميراث إبراهيم. لأنهم أولاد إبراهيم، وكان يوحنا المعمدان قد رد قولهم من قبل وقال " يا أولاد الأفاعي من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي، فأثمروا ثمرا يليق بالتوبة ولا تغللوا أنفسكم قائلين: لنا إبراهيم أبا. فإني أقول لكم: إن الله قادر أن يطلع من هذه الحجارة أولاد إبراهيم ".(62) ومن قبل يوحنا رد حزقيال عليهم قولهم وقال " قال الرب: إن الساكنين في هذه الخرب في أرض إسرائيل يتكلمون قائلين: إن إبراهيم كان واحدا وقد ورث الأرض. ونحن كثيرون لنا أعطيت الأرض ميراثا، لذلك قل لهم: هكذا قال السيد الرب. تأكلون بالدم وترفعون أعينكم إلى أصنامكم وتسفكون الدم. أفترثون الأرض؟ "(63) وفي عهد المسيح بدؤا بالصد عن سبيل الله بهذه الثقافة، يذكر يوحنا أن المسيح قال لمن آمن به من اليهود " إن ثبتم في كلمتي كنتم حقا تلاميذي. وتعرفون الحق والحق يحرركم، فرد اليهود: نحن أحفاد إبراهيم ولم نكن عبيدا لأحد. كيف تقول لنا إنكم ستصيرون أحرارا "(64) فالقوم ليسوا في حاجة إلى الثبات على الإيمان الذي يعرفهم الحق ويحررهم من صدأ المادة وبريق الأهواء، واكتفوا بالوقوف في أروقة آبائهم الذين تاجروا بثياب إبراهيم، وذكر يوحنا أن المسيح قال لهم " (أنا أعرف إنكم أحفاد إبراهيم. ولكنكم تسعون إلى قتلي. لأن كلمتي لا تجد لها مكانا في قلوبكم " وقال " لو كنتم أولاد إبراهيم لعملتم أعمال إبراهيم " وقال لهم " لماذا لا تفهمون كلامي؟
لأنكم لا تطيقون سماع كلمتي. أنتم أولاد أبيكم إبليس وشهوات أبيكم ترغبون في أن تعملوا، فهو من البدء كان قاتلا للناس، ولم يثبت في الحق لأنه خال من الحق. لأنه كذاب وأبو الكذاب ".(65)
الهوامش
(1) لوقا 1 / 5.
(2) المصدر السابق 1 / 6.
(3) المصدر السابق 1 / 8 - 16.
(4) سورة مريم آية 4 - 7.
(5) إنجيل متي 3 / 1 - 4.
(6) متي هنري 58 / 1.
(7) إنجيل متي 7 / 3 - 11.
(8) متي هنري في تفسيره 66 / 1.
(9) المصدر السابق ص 69 / 1.
(10) تفسير متي هنري 68، 69، 70 / 1.
(11) متي هنري 57 / 1.
(12) إنجيل يوحنا 3 / 28.
(13) أشعيا 7 / 14.
(14) متي 3 / 13.
(15) متي 3 / 16.
(16) متي هنري 466 / 1.
(17) سورة الصف آية 6.
(18) سورة آل عمران آية 50.
(19) سورة الزخرف آية 63.
(20) سورة آل عمران آية 50.
(21) سورة النساء آية 160.
(22) متي إصحاح 15 / 25.
(23) المصدر السابق 5 / 17.
(24) تفسير متي هنري ص 142 / 1.
(25) سورة آل عمران آية 48.
(26) يوحنا 7 / 14 - 20.
(27) متي 7 / 29.
(28) سورة الأعراف آية 157.
(29) الميزان 253 / 19.
(30) متي 10 / 7.
(31) سورة المؤمنون آية 88 - 91.
(32) سورة يس آية 83.
(33) سورة الأعراف آية 185.
(34) متي 18 / 1 - 3.
(35) متي هنري 106 / 2.
(36) رواه الإمام مسلم ك القدر بكل مولود يولد على الفطرة (الصحيح 52 / 8).
(37) متي 13 / 10 - 15.
(38) متي هنري 433 / 1 وما بعدها.
(39) متي 10 / 7.
(40) المسيا / إشارة إلى نبي الإسلام. راجع كتاب: المسيا المنتظر نبي الإسلام / د. أحمد حجازي السقا.
(41) متي هنري 323 / 1.
(42) مرقص 12 / 28 - 34.
(43) سورة البقرة آية 133.
(44) سورة آل عمران آية 19.
(45) أشعيا 59 / 11.
(46) متي 15 / 25.
(47) متي 10 / 6.
(48) أنظر أشعيا 1 / 2 - 23.
(49) متي 1 / 9 - 11.
(50) متي 10 / 34 - 38.
(51) رواه مسلم ك الإيمان (الصحيح 49 / 1).
(52) متي 23 / 4 - 9.
(53) المصدر السابق 13 / 57.
(54) يوحنا 11 / 45.
(55) متي 12 / 24.
(56) المصدر السابق 11 / 20.
(57) متي 14 / 6 - 9.
(58) لوقا 11 / 46 - 52.
(59) رواه أبو داوود حديث رقم 4345.
(60) رواه مسلم ك القسامة ب إثم من سن القتل (الصحيح 107 / 5).
(61) سورة المائدة آية 32.
(62) متي 3 / 7 - 11.
(63) حزقيال 33 / 23 - 25.
(64) يوحنا 8 / 30 - 34.
(65) يوحنا 8 / 37 - 40.
******************
وواجه المسيح فرقة الكتبة وفرقة الفريسيين الذين يسهرون على ثقافة شعب الله المختار الذي يرث إبراهيم من دون خلق الله، وفيهم يقول متي هنري في تفسيره: كان الكتبة والفريسيين قساة.. لم يصروا على دقائق الناموس ولم يكتفوا بالتشديد في مراعاتها، بل أضافوا إليه بعض الإضافات وفرضوا اختراعاتهم وتقاليدهم تحت أشد العقوبات، وتظاهروا كثيرا بالعظمة والرآسة وافتخروا بذلك أيما افتخار، وكانوا يحتلون المراكز الرئيسية التي تقدم إليهم على أساس أنهم أعظم الناس وأفضلهم، وأحبوا أن يحييهم الناس عند التقائهم بهم في الشوارع، ولقد سرهم جدا أن يشار إليهم بالبنان ويقال: قفوا بعيدا هذا فريسي قادم. وأن يحيوا بهذا اللقب الرفيع " سيدي. سيدي "(1) وجاء في إنجيل متي أن المسيح قال للكتبة والفريسيين " الويل لكم أيها الكتبة والفريسيين المراؤون، فإنكم تنظفون الكاس والصفحة من الخارج، ولكنهما من الداخل ممتلئتان. مما كسبتم بالنهب والطمع " " الويل لكم.. فإنكم كالقبور المطلية بالكلس تبدو جميلة من الخارج. ولكنها من الداخل ممتلئة بعظام الموتى وكل نجاسة، كذلك أنتم أيضا تبدون للناس أبرار ولكنكم من الداخل ممتلؤون بالرياء والفسق "(2) الويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون، فإنكم تبنون قبور الأنبياء وتزينون مدافن الأبرار وتقولون: لو عشنا زمن آبائنا لما شاركناهم في سفك دماء الأنبياء، فبهذا تشهدون على أنفسكم بأنكم أبناء قاتلي الأنبياء. أيها الحيات أولاد الأفاعي كيف تفلتون من عقاب جهنم "(3) " الويل لكم أيها الكتبة والفريسيين المراؤون، فإنكم تغلقون ملكوت السماوات في وجوه الناس فلا أنتم تدخلون ولا تدعون الداخلين يدخلون "(4) " الويل لكم.. فإنكم تطوفون البحر لتكسبوا متهودا واحدا. فإذا تهود جعلتموه أهلا لجهنم ضعف ما أنتم عليه " (3))5) فمن هذه النصوص نتبين أن القوم شهدوا على أنفسهم بأنهم أبناء قتلة الأنبياء. وعلى الرغم من ذلك فأنهم يقفون تحت مظلة الميراث الذي كتبه الله للأنبياء! ومن تحت هذه المظلة صدوا عن سبيل الله زمن المسيح عليه السلام، ووضعوا العراقيل في وجه الدعوة الخاتمة التي تحمل شريعة ملكوت الله، ويقول متي هنري في تفسيره: أغلقوا ملكوت السماوات. بتمسكهم بالناموس الطقسي وطمسهم النبوات.. وبتأثيرهم على عقول الشعب لرفض تعاليم المسيح. لقد كانوا ألد الأعداء لتجديد النفوس وكانوا في غاية النشاط لتضليل النفوس. وانضمامها إلى زمرتهم. وكانوا يستخدمون كل حيلة.
ويكتبون ويتكلمون ويعملون بلا كلل أو ملل. ويجعلون الدخيل تلميذا لهم يتشبع بآرائهم، وهكذا يصنعونه ابنا لجهنم.(6)
وكانت فرقة الفريسيين أنشط الفرق في الدعوة إلى ثقافة شعب الله المختار. وقد خصهم المسيح بقوله كما ذكر إنجيل لوقا " الويل لكم أيها الفريسيين. فأنكم تحبون تصدر المقاعد الأولى في المجامع وتلقي التحيات في الساحات العامة، الويل لكم، فإنكم تشبهون القبور المخفية يمشي الناس عليها وهم لا يعلمون ".(7)
بالجملة: قال المسيح عليه السلام لليهود " يا أولاد الأفاعي.
كيف تقدرون وأنتم أشرار أن تتكلموا كلاما صالحا، لأن الفم يتكلم بما يفيض به القلب، فالإنسان الصالح من الكنز الصالح في قلبه يطلع ما هو صالح، والإنسان الشرير يطلع ما هو شرير "(8) ولقد سجل القرآن الكريم قسوة قلوبهم في مواضع عديدة. منها قوله تعالى: (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية).(9) كما وصف المسيح رؤوس الفرق وأتباعهم بقوله " فهم عميان يقودون عميانا وإذا كان الأعمى يقود أعمى يسقطان معا في حفرة "(10) وحذر تلاميذه من هذه الفرق ومن تعاليمهم التي وصفها بالخميرة، وذلك عندما كانوا يسيرون معه ونسوا أن يتزودوا بالخبز، يقول متي في إنجيله " ولما وصل تلاميذه إلى الشاطئ الآخر كانوا قد نسوا أن يتزودوا خبزا فقال لهم المسيح:
انتبهوا خذوا حذركم من خمير الفريسيين والصدوقيين، فبدأوا يحاجون بعضهم بعضا قائلين: هذا لأننا لم نتزود خبزا " " فقال لهم المسيح:
كيف لا تفهمون أني لم أكن أعني الخبز حين قلت لكم خذوا حذركم من خمير الفريسيين والصدوقيين، عندئذ أدرك التلاميذ أنه لم يكن يحذرهم من خمير الخبز بل من تعاليم الفريسيين والصدوقيين "(11) يقول متي هنري في تفسيره: أدرك التلاميذ أن المقصود بالخمير تعاليم وطرق الفريسيين والصدوقين الفاسدة والسيئة. التي دبروا أن تكون قابلة للانتشار في عقول البشر كالخمير، لقد كان أصحاب هذه الفرقة قادة للشعب. وقد ذاع صيتهم جدا بين الناس. الامر الذي جعل خطر عدواهم بأخطائهم أشد هولا، ونحن نستطيع القول: أننا في عصرنا الحاضر يمكننا تشبيه موجة الكفر والإلحاد وتسلط روح المادية بخمير الصدوقيين، والبدع والهرطقات بخمير الفريسيين.(12)
ورغم هذه التحذيرات، انطلقت قافلة النصارى بعد ذلك وراء القديس بولس. الذي يعود إليه تأسيس المسيحية الحاضرة التي تنادي بحق اليهود في ميراث إبراهيم بصفتهم شعب الله المختار، وبولس في رسائله كان يقول " إنني كنت فريسيا. أي تابعا للمذهب الأكثر تشددا في ديانتنا "(13) وسيأتي الحديث عن ذلك في موضعه.
4 ـ (التبشير بالانتقال)
على امتداد المسيرة تاجرت القافلة الإسرائيلية بهيكل أورشاليم وميراث إبراهيم، ولم يأتيهم نبي من الأنبياء إلا وتصدى لهذه المتاجرات، وبين لهم أن الله تعالى لا يصطفي أحدا بالاستخلاف اصطفاءا جزافا ولا يكرم أحدا إكراما مطلقا من غير شرط وقيد، ومن هؤلاء (أرميا) فلقد قال لهم كما ورد في العهد القديم (قال الرب...
أصلحوا طرقكم وأعمالكم فأسكنكم في هذا الموضع. لا تتكلوا على كلام الكذب قائلين: هيكل الرب هيكل الرب هو. لأنكم إن أصلحتم إصلاحا طرقكم وأعمالكم. إن أجريتم عدلا بين الإنسان وصاحبه. إن لم تظلموا الغريب واليتيم والأرملة ولم تسفكوا دما زكيا في هذا الموضع، ولم تسيروا وراء آلهة أخرى لاذائكم. فإني أسكنكم في هذا الموضع في الأرض " وبعد أن بين أرميا شرط الاستخلاف بين أن مسيرتهم لم تكن في اتجاه شرط الله " أتسرقون وتقتلون وتزنون وتحلفون كذبا. وتنجزون للبعل وتسيرون وراء آلهة أخرى لم تعرفوها. ثم تأتون وتقفون أمامي في هذا البيت الذي دعي باسمي عليه. وتقولون قد أنقذنا. حتى تعلموا كل هذه الرجاسات، هل صار هذا البيت الذي دعى باسمي عليه مغارة لصوص في أعينكم ".(14)
وعندما بعث فيهم المسيح عليه السلام. منذ ادعاءاتهم وطردهم من الهيكل. يقول متي في إنجيله " ثم دخل يسوع الهيكل وطرد من ساحته جميع الذين كانوا يبيعون ويشترون. وقلب موائد الصارفة.
ومقاعد باعة الحمام. وقال لهم: قد كتب أن بيتي بيتا للصلاة يدعى، أما أنتم فقد جعلتموه مغارة لصوص ".(15)
فالقوم تاجروا بالهيكل على امتداد المسيرة. في الوقت الذي جعلوا فيه البيت مغارة لصوص. كما جاء على لسان أرميا في العهد القديم وعلى لسان المسيح في العهد الجديد، والقوم كانوا يعلمون أن سلوكهم في اتجاه عبادة المادة. يعني انتقال القيادة إلى غيرهم. وأن أعلام الاستخلاف سيرفعها قوم آخرين. لينظر الله كيف يعملون تحت سقف الامتحان والابتلاء. ونصوص سلب أعلام الاستخلاف من أيديهم كثيرة. منها قول أرميا: قال الرب " ها أنذا أنساكم نسيانا وأرفضكم من أمام وجهي أنتم والمدينة التي أعطيتكم وآباءكم إياها. وأجعل عليكم عارا أبديا وخزيا أبديا لا ينسى ".(16)
فهذا النص يفيد رفض الله لهم وأبدية العار والخزي عليهم. فافهم ذلك. ثم يقول أرميا " وأجعلك تخدم أعداءك في أرض لم تعرفها.
لأنكم أضرمتم نارا بغضبي تتقد إلى الأبد ".(17) وهذا النص يفيد غضب الله على القاسية قلوبهم إلى الأبد، وقبل أرميا قال أشعيا. قال الرب " هو ذا من أجل آثامكم بعتم. ومن أجل ذنوبكم طلقت أمكم ".(18)
والقوم كانوا يعرفون إلى أين ستنتقل أعلام الاستخلاف، لكنهم عتموا على هذه البشارات بالتحريف أو بالتغيير. ولقد ذكر أشعيا وغيره هذه البشارات. وفيها رمز إلى المكان الجديد بأسماء عديدة منها: العاقر التي لم تلد. وهذا الاسم يعود وفقا للأوصاف التي ذكرت في أشعيا على بيت الله الحرام بمكة شرفها الله، يقول " ترنمي أيتها العاقر التي لم تلد. أشيدي بالترنم أيتها التي لم تمخض لأن بني المستوحشة أكثر من بني ذات البعل، قال الرب: أوسعي مكان خيمتك ولتبسط شقق مساكنك. لا تمسكي. أطيلي أطنابك وشددي أوتارك لأنك تمدين إلى اليمين وإلى اليسار. ويرث نسلك أمما ويعمر مدنا خربة. لا تخافي لأنك لا تحزنين ".(19) " قال وليك الرب: لأنه كمياه نوح هذه لي. كما حلفت أن لا تعبر بعد مياه نوح على الأرض. هكذا حلفت أن لا أغضب عليك ولا أزجرك. فإن الجبال تزول والآكام تتزعزع. أما إحساني فلا يزول عنك. وعهد سلامي لا يتزعزع،.(20)
فالنصوص تحدثت عن خراب أبدي داخل الحي اليهودي، وأخبرت عن سلام أبدي لأبناء العاقر التي لم يبدأ أنبيائها بعد في إقامة حجة الله على المسيرة البشرية، ثم يقول أشعيا في ندائه الذي يدعو فيه المسيرة البشرية للتوجه إلى البناء الجديد، الذي بنى الله بالأثمد حجارته. وأسسه بالياقوت الأزرق. وجعل كل تخومه حجارة كريمة )21) فيقول: " أيها العطاشى جميعا هلموا إلى الحياة. وبالذي ليس له فضة تعالوا اشتروا وكلوا. هلموا اشتروا بلا فضة وبلا ثمن "(22) ويقول أشعيا موجها حديثه إلى مسيرة الحي الإسرائيلي " أما أنتم الذين تركوا الرب ونسوا جبل قدسي(23) فإني أعينكم للسيف وتجثون كلكم للذبح. لأني دعوت فلم تجيبوا. تكلمت فلم تسمعوا. بل عملتم الشر في عيني الرب واخترتم ما لم أسر به. لذلك هكذا قال السيد الرب: هوذا عبيدي يأكلون وأنتم تجوعون. هوذا عبيدي يشربون وأنتم تعطشون. هوذا عبيدي يفرحون وأنتم تحزنون. هوذا عبيدي يترنمون من طيبة القلب وأنتم تصرخون من كآبة القلب. ومن انكسار الروح تولولون. وتخلفون اسمكم لعنة لمختاري فيميتك السيد الرب. ويسمي عبيده اسما آخر.
فالذي يتبرك في الأرض. يتبرك بإله الحق. والذي يحلف في الأرض يحلف بإله الحق ".(24)
وبالجملة: لقد أخبرهم أشعيا بأن القيادة ستنتقل إلى أمة لا يزول إحسان الله عنها، وأخبرهم بأن قبلة هذه الأمة ليست في جبل من جبال الحي اليهودي. وإنما ستكون على أرض جديدة وتحت سماء جديدة ولها اسم جديد، قال " ها أنذا خالق سماوات جديدة وأرضا جديدة. فلا تذكر الأولى ولا تخطر على بال "(25) وهذه النصوص التي ذكرها أشعيا في العهد القديم. فسرتها رؤيا يوحنا في العهد الجديد.
ففي وصفه للبيت الجديد يقول يوحنا " لم أجد في المدينة هيكلا ".(26)
وقال عن البناء الجديد " رأيت سماء جديدة وأرضا جديدة لا بحر فيها، لأن السماء والأرض القديمتين قد زالتا، وأنا رأيت المدينة المقدسة أورشاليم الجديدة.(27) نازلة من عند الله مجهزة كأنها عروس مزينة لعريسها. وسمعت صوتا هاتفا من العرش " الآن صار بيت الله وسط الناس "،(28) ثم يقول يوحنا في رؤياه " وكانت أرض المدينة مربعة طولها يساوي عرضها "،(29) قال مفسرو الكتاب المقدس: أي مكعبة(30) ثم أخبر يوحنا أن أعلام الدعوة الجديدة بيد " الأمين الصادق "(31) وهذا الاسم يشير إلى النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم. وهو أيضا مختصر لسيرته الشريفة قبل البعثة وبعدها، وجاء ذكر الأمين الصادق في رؤيا يوحنا مرتين. المرة الأولى يشير فيها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإلى دعوته التي يقول فيها لأهل الكتاب وغيرهم. " نصيحتي إليك أن تشتري مني ذهبا نقيا صنفته النار فنفتني حقا. وثياب بيضاء ترتديها فتستر عريك المعيب. وكحلا لشفاء عينيك فيعود إليك البصر. إني أوبخ وأؤدب من أحبه. لذا كنا حارا وتب "،(32) أما المرة الثانية التي ورد فيها اسم " الأمين الصادق " فقد جاءت عندما تحدث يوحنا عن معارك آخر الزمان، وورود الاسم في هذا الموضع يشير إلى المهدي المنتظر، ولقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال " المهدي من عترتي من ولد فاطمة "(33) وقال " لا تقوم الساعة حتى يلي رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي "(34) وفي ذكر أحداث آخر الزمان يقول يوحنا في رؤياه " وإذا حصان أبيض يسمى راكبه " الأمين الصادق " الذي يقضي ويحارب بالعدل "(35) وفي الحديث الشريف قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم " لا تقوم الساعة حتى تملأ الأرض ظلما وجورا وعدوانا. ثم يخرج من أهل بيتي من يملأها قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا "(36) وسيأتي الحديث عن المهدي في موضعه.
فالقوم على امتداد مسيرتهم كانوا على علم بأن الله سينزع الملك من أيديهم ويسلمه إلى أمة أخرى لينظر الله إلى قافلتها ماذا تفعل تحت سقف الامتحان والابتلاء، وعندما بعث الله تعالى المسيح عيسى بن مريم عليه السلام. كانت بعثته آخر ورقة أخرجها الله من الشجرة الإسرائيلية على أنبيائها ورسلها الصلاة والسلام، ولقد أخبرهم المسيح بهذا الانتقال وبشرهم بالنبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم. وأخبرهم أن دعوة البعثة الخاتمة تقضي بوقوف الاستكمال الإنساني. فعدم نسخ الدين وثبات الشريعة. يستوجب أن الاستكمال الفردي والاجتماعي للإنسان هو هذا المقدار الذي اعتبره الدين الخاتم في بيانه وتشريعه.
وباختصار شديد أخبرهم أن شريعة الرسالة الخاتمة هي حكم الله الذي له ملك السماوات والأرض وإليه مصير الأمور، فمن آمن بها وخضع لها استظل بأمن صاحب الملكوت سبحانه وتعالى.
وإخبار المسيح عليه السلام بانتقال القيادة من أمة إلى أمة، جاء في أكثر من موضع في الأناجيل الحاضرة، ومن ذلك. عندما سألته امرأة عن الاتجاه الحقيقي للقبلة بعد أن اختلف اليهود في تحديدها، فبينما تصرح التوراة العبرانية أن القبلة في جبل (عيبال) تصرح التوراة السامرية أن القبلة في جبل (جرزيم)، وكان لهذا الاختلاف أثرا عميقا في المنازعات التي دارت بين يهود السامرة وبين يهود أورشاليم. على امتداد المسيرة الإسرائيلية..
جاء في كتاب سيرة المسيح(37): أن المسيح مر بالسامرة. فأرسل خبرا إلى قرية السامرة قصد أن يبيت فيها مع تلاميذه، فهاج التعصب السامري لما سمعوا بقدومه ومعه جماعة من اليهود متجهين إلى أورشاليم ليؤدوا فيها فروض الدين، لأن السامريين يتمسكون بوجوب تأديتها في جبلهم المقدس،(38) وهياج التعصب سجله لوقا في إنجيله فقال " وأرسل (المسيح) أمام وجهه رسلا. فذهبوا ودخلوا قرية للسامريين حتى يعدوا له، فلم يقبلوه لأن وجهه كان متجها نحو أورشاليم "(39) ويقول يوحنا في إنجيله أن امرأة سامرية قالت يومئذ للمسيح يا سيدي. أرى إنك نبي. آباؤنا سجدوا في هذا الجبل. وأنتم تقولون إن في أورشاليم الموضع الذي ينبغي أن يسجد فيه، فأجابها يسوع: صدقيني يا امرأة. ستأتي الساعة التي فيها تعبدون الأب لا في هذا الجبل ولا في أورشاليم "(40)..
إن الخطوط العريضة لهذا النص تفيد انتقال القبلة من مكان إلى مكان آخر. فوق أرض جديدة. وتحت سماء جديدة. تتحرك أعلامها لفتح الطريق أمام الفطرة. فيشتري الناس بلا فضة وبلا ثمن. ذهبا نقيا.
وثياب بيضاء تستر العري المعيب. وكحلا يشفي العين فيعود البصر من جديد.
وبعد ذكر خبر انتقال القبلة بشرهم المسيح عليه السلام بشريعة الله الذي له ملكوت كل شئ، وهي الشريعة التي كان يوحنا المعمدان يبشرهم بها من قبل، كما بشرهم المسيح عليه السلام بالنبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم، جاء في إنجيل متي. أن المسيح دخل هيكل أورشاليم " وفيما هو يمشي في الهيكل. أقبل إليه رؤساء الكهنة والكتبة والشيوخ وقالوا له: بأي سلطان تفعل ما تفعله؟ ومن منحك هذه السلطة؟ فأجابهم يسوع قائلا: وأنا أيضا أسألكم أمرا واحدا. فإن أجبتموني أقول لكم أنا كذلك بأي سلطة أفعل ما أفعله، من أين كانت معمودية يوحنا من السماء أم من الناس؟ فتشاوروا فيما بينهم قائلين: إن قلنا له أنها من السماء. يقول لنا فلماذا لم تصدقوه، وإن قلنا من الناس نخشى أن يثور علينا جمهور الشعب لأنهم كانوا يعتبرون يوحنا نبيا فأجابوه: لا ندري. فرد قائلا: ولا أنا أقول لكم بأي سلطة أفعل ما أفعل ".(41) يقول متي هنري في تفسيره: عندما عجزوا عن الاعتراف بالمعرفة. اعترفوا بالجهل. ثم يلاحظ أيضا أنهم كانوا كاذبين عندما قالوا: لا نعلم لأنهم كانوا يعرفون أن معمودية يوحنا (يحيى) كانت من الله. لقد برهنوا على أنهم ليسوا جديرين بالتحدث معهم. لأن أناسا هذه حالتهم لا يمكن اقتناعهم بالحق(42) ثم أخبرهم المسيح عليه السلام بنبوءة فيما بين أيديهم من الكتاب فقال لهم كما جاء في إنجيل متي " ألم تقرؤا في الكتاب: الحجر الذي رفضه البناة هو نفسه صار حجر الزاوية الأساسي. من الرب كان هذا وهو عجيب في أنظارنا. لذلك أقول لكم: إن ملكوت الله سينزع من أيديكم ويسلم إلى شعب يؤدي ثمره. فأي من يقع على هذا الحجر يتكسر، ومن يقع الحجر عليه يسحقه سحقا ".(43)
والمسيح عليه السلام كان يشير بموضع الحجر الذي رفضه البناة إلى النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم. فلقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله. فجعل الناس يطيفون به يقولون: ما رأينا بنيانا أحسن من هذا ألا هذه اللبنة. فكنت أنا تلك اللبنة "(44) وعنه أنه قال " مثلي ومثل الأنبياء من قبلي. كمثل رجل ابتنى بيوتا فأحسنها وأجملها وأكملها. إلا موضع لبنة من زاوية من زواياها. فجعل الناس يطوفون ويعجبهم البنيان فيقولون: ألا وضعت ههنا لبنة فيتم بنيانك. فكنت أنا اللبنة "(45) وفي رواية " فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين "(46) وفي رواية " فأنا موضع اللبنة. جئت فختمت الأنبياء ".(47)
وموضع الحجر الذي ورد على لسان المسيح ولسان محمد عليهما الصلاة والسلام وهما يضربان الأمثال للناس. جاء ذكره أيضا على لسان داوود عليه السلام في تسبيحة من تسبيحاته، جاء في العهد القديم أن داوود قال " (أحمدك لأنك استجبت لي وصرت لي خلاصا. الحجر الذي رفضه البناؤون قد صار رأس الزاوية... آه يا رب خلص! آه يا رب انقذ.. مبارك الآتي باسم الرب.. الرب هو الله. وقد أنار لنا... إلهي أنت. فأحمدك إلهي.. احمدوا الرب لأنه صالح. لأن إلى الأبد رحمته ".(48)
لقد علم القوم بما في بطون الأيام. وذلك عندما بشرهم الأنبياء وهم يخبرون بالغيب عن ربهم جل وعلا، عرفوا ذلك من داوود بعد أن أقام مملكته. وعرفوه من أشعيا قبل سبي الأسباط العشرة.(49)
وعرفوه من دنيال وحزقيال أثناء سبي مملكة يهوذا،(50) وعرفوه من زكري)51) ويوحنا (يحيى) الذي ورث زكريا وورث آل يعقوب. وعندما بعث فيهم المسيح آخر أبناء آل عمران وآخر وريث لآل يعقوب، قال لهم كما أخبر الله في كتابه (وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد..)(52) فبين لهم ما اختلفوا فيه وأقام عليهم الحجة بالكتاب، ثم بشرهم بخاتم الأنبياء والمرسلين فأقام عليهم الحجة بالبلاغ وبما هو مسطور عندهم في الكتاب وشهد به الله تعالى في قوله (الذين يتبعون النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل).(53)
وبعد أن أتم المسيح عليه السلام دعوته بشطريها. شطر دعوة بني إسرائيل إلى التوراة التي أنزلها الله تعالى على موسى. وتبيينه لهم بعض ما يختلفون فيه، وشطر التبشير بالنبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم، وإخبارهم بأن ملكوت الله سينزع من أيديهم ويسلم إلى شعب يؤدي ثمره، ورد في إنجيل مرقس أن أحد التلاميذ قال للمسيح وهو يغادر الهيكل الأورشاليمي " يا معلم أنظر. ما أجمل هذه الحجارة وهذه المباني العظيمة. فأجاب يسوع: لن يترك منها حجر فوق حجر إلا ويهدم "(54) وتحققت نبوءة المسيح عليه السلام. فلقد حاصر تيطسى الروماني أورشاليم سنة (70 م) حتى سقطت في يده وهدم الهيكل وأشعل فيه النار فلم يبق فيه حجر على حجر لم ينقض. وفي عام (125 م) طرد الإمبراطور (هادريا) اليهود من أورشاليم. وفي عام (435 ميلادية) ألغى الإمبراطور (تيودوسيوس) الحاخامية اليهودية، وفي عام (614 م) تخلت فلسطين نهائيا عن زعامة اليهود. وفتحت الابواب لشعب آخر ليقود المسيرة تحت سقف الامتحان والابتلاء لينظر الله كيف يعملون. وسيأتي ذلك في موضعه.
(ثالثا) (الشك والتقدم إلى الخلف)
في زمن المسيح عليه السلام بلغت الأحداث ذروتها، عندما عزم اليهود على قتل المسيح لأنه لم يأت لهم بما تهوى أنفسهم. وفضح علمائهم الذين عكفوا على تقاليد آبائهم. وكشف مخططاتهم التي تسعى لتهويد الفطرة بما لم ينزل به الله سلطانا، ولقد سجلت الأناجيل محاولات اليهود العديدة للفتك بالمسيح وكيف كان اليهود يخافون من تنفيذ محاولاتهم. نظرا لأن الجموع كانوا يعتبرون المسيح عليه السلام رسولا نبيا مبعوثا من الله تعالى، يقول متي في إنجيله " ولما سمع رؤساء الكهنة والفريسيين المثلين الذين ضربهما المسيح. أدركوا أنه كان يعنيهم هم ومع أنهم كانوا يسعون إلى القبض عليه. فقد كانوا خائفين من الجموع لأنهم كانوا يعتبرونه نبيا ".(55) وسجلت الأناجيل أن المسيح عليه السلام كان يتخفى من اليهود. ولا يظهر لهم عندما يصل إلى علمه أنهم يبحثون عنه. ذكر يوحنا في إنجيله أن المسيح عليه السلام أمر تلاميذه بأن يشاركوا اليهود عيد الخيام " وبعدما ذهب أخوته إلى العيد.
ذهب هو أيضا كما لو كان متخفيا لا ظاهرا، وأخذ اليهود يبحثون عنه في العيد. ويسألون: أين ذاك الرجل. وثارت بين الجموع مناقشات كثيرة حوله فقال بعضهم: إنه صالح. وقال آخرون: لا بل إنه يضلل الشعب. ولكن لم يجرؤ أحد أن يتكلم عنه علنا خوفا من اليهود ".(56)
وبالجملة: جاء في إنجيل يوحنا " بدأ يسوع ينتقل في منطقة الجليل متجنبا التجول في منطقة اليهود، لأن اليهود كانوا يسعون إلى قتله ".(57)
فالنصوص تفيد أن المسيح عليه السلام كان يتحرك بين الجموع. يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويأمر تلاميذه بمشاركة اليهود الأعياد التي سنها أنبياء بني إسرائيل، وكان الجموع يعلمون أن المسيح نبيا ليس له من الأمر شيئا إلا أنه يحمل رسالة الله إلى بني إسرائيل.
وإنه عليه السلام كان يأخذ بالأسباب لدفع الضرر عنه، فكان يتخفى من اليهود ولا يدخل منطقتهم. إلا بعد أن يأخذ بالأسباب لتحقيق أمنه وأمن تلاميذه، وذكر الإنجيل كيف كان المسيح يضج من استكبار القوم وصدهم عن سبيل الله، رغم ما يقدمه إليهم من علم ومعجزة، وكان يقول " أيها الجيل غير المؤمن إلى متى أبقى معكم. إلى 0000 أحتملكم ".(58) وشأنه في هذا كشأن جميع إخوته الأنبياء. كانوا يشعرون بالحزن عندما لا يأخذ الناس بأسباب الحياة الكريمة التي تحقق لهم السعادة في الدنيا بما يوافق الكمال الأخروي، وكانوا يشكون حزنهم إلى الله تعالى.
ورغم حركة المسيح عليه السلام الواضحة كل الوضوح. إلا أن القوم أحاطوه بعد عهد البعثة بهالات تخرجه من دائرة البشرية إلى الألوهية، ووضعوا في الأناجيل نصوصا رشحت بهذا المعنى، وعندما جاء بولس وقاد المسيرة أصبحت ألوهية المسيح عمودا لدعوته، وبين النصوص التي تقول بنبوة المسيح وبين التي تقول بألوهيته تعددت الفرق والمذاهب، وكان هذا على حساب الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ولما كان للدين الفطري شهود وأمناء على امتداد المسيرة البشرية، ولما كانت النبوءة هي التي تفسر التاريخ وليس العكس، فإننا لكي نمسك بخيط الأحداث. لا بد أن نتتبع الأحداث وفقا لنصوص أصول النبوة، فننظر إلى الأحداث وحركتها في الأناجيل. ثم نضع ذلك تحت الضوء القرآني، فبهذا وحده نصل إلى الحقيقة في مدونات أهل الكتاب، واضعين في الاعتبار أن الحق لا يخص بوجه وعلى أي تقدير، فهو بين السطور حجة على كل من قرأ وإن عتمت على السطور سحب التحريف والتأويل، وهو ظاهر في الكون الواسع وإن حاصرته أدوات الزينة والإغواء، وهو داخل النفس الإنسانية لأن الإنسان مجبول على قبول الحق والخضوع الباطني أمامه. وإن طوقت الأهواء النفس، فالحق واضح المعالم في كل مكان وزمان لأنه حجة بذاته، والحق ينتصر في الدنيا ظاهرا أو باطنا. لأن الله تعالى أوجب على نفسه أن يفنى الباطل بالحق.
ولما كان النصارى يؤمنون بألوهية المسيح. وأن أحد تلاميذه قد خانه وسلمه إلى أعدائه. فجردوه من ثيابه. وبصقوا في وجهه. وضربوه على رأسه بعد أن أوسعوه سخرية، ثم ساقوه إلى الصلب. وصلبوا معه لصين. وكان اللصان يسخران منه(59) ولما كان القرآن الكريم قد نفى ما ادعاه النصارى في حق المسيح، وقال تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم)(60) وقال (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة)(61) وقال في قصة الصلب (وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم)(62) فإننا سنلقي ضوءا على الأحداث كما ذكرت في الأصول.
لتظهر الحقيقة من تحت السحب وتكون واضحة وضوح الشمس في كبد السماء، وأول ضوء نلقيه سيكون على التلاميذ. لقولهم أن أحدهم قد خان المسيح. فإذا لم يظهر الخائن تحت الضوء. تصبح الدعوى منهدمة من أساسها ولا يبقى إلا الحق.
1 - ( أضواء على أقوال المسيح في تلاميذه )
قال تعالى في كتابه الكريم: (وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي. قالوا آمنا وإشهد بأننا مسلمون)(63) قال المفسرون: المراد بهذا الوحي وحي إلهام. كقوله تعالى: (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه).(64) وقوله: (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا...)(65) فالحواريين ألهموا الإيمان فامتثلوا ما ألهموا. وقيل:
ويحتمل أن يكون المراد. وإذ أوحيت إليهم بواسطتك فدعوتهم إلى الإيمان بالله وبرسوله. واستجابوا لك وانقادوا وتابعوك فقالوا: (آمنا بالله وأشهد بأننا مسلمون).
وعلى هذا فالحواريين ألهموا الإيمان أولا واستجابوا. فوهبهم الله تعالى للمسيح ليبشروا بين يديه، والمسيح عليه السلام أخبر بهذه الهبة الإلهية له. فقال في آخر أيامه على الأرض وهو يدعو ربه " أظهرت اسمك للناس الذي وهبتهم لي من العالم. كانوا لك فوهبتهم لي، وقد عملوا بكلمتك وعرفوا الآن أن كل ما وهبته لي فهو منك، لأني نقلت إليهم الوصايا التي أوصيتني بها فقبلوها.. وآمنوا أنك أرسلتني، من أجل هؤلاء أصلي إليك، لست أصلي الآن من أجل العالم. بل من أجل الذين وهبتهم لي لأنهم لك ".(66) وفي آخر أيامه عليه السلام دعا ربه قائلا: " أريد لهؤلاء الذين وهبتهم لي أن يكونوا معي حيث أكون أنا فليشهدوا مجدي الذي أعطيتني ".(67)
من النصوص السابقة علمنا أن القاعدة التي وقف عليها التلاميذ. هي قاعدة الإيمان بالله ورسوله. ولما كنا نبحث عن التلميذ الذي خان المسيح، فلا بد من الوقوف على عدد التلاميذ الذين وقفوا على قاعدة الإيمان من يومهم الأول وحتى يومهم الأخير، بمعنى أنهم إذا كانوا عند البداية اثنا عشر تلميذا. فيجب أن يكونوا عند الخاتمة إحدى عشر تلميذا. على اعتبار أن منهم خائن واحد.
جاء في إنجيل مرقس أن المسيح " عين اثني عشر ليلازموه ويرسلهم ليبشروا. وتكون لهم سلطة على طرد الشياطين "(68) فعلى هذا يكون عند المقدمة اثني عشر تلميذا، فإذا نظرنا عند الخاتمة يوم القيامة. نجد أنهم لم ينقصوا تلميذا واحدا، جاء في إنجيل متي أن المسيح قال للتلاميذ " الحق أقول لكم. إنكم أنتم الذين تبعتموني في التجديد. متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده. تجلسون أنتم أيضا على اثني عشر كرسيا. تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر ".(69) قال صاحب سيرة المسيح في تفسيره: أجاب المسيح بما يفيد أنهم ينالون التفاتا خصوصيا من العناية الإلهية في هذه الدنيا، ثم في الدهر الآتي يرثون الحياة الأبدية.(70)
فوفقا لهذه الأصول لا يوجد خائن بين التلاميذ الذين آمنوا بالله ورسوله. وأشهدوا الله ورسوله بأنهم مسلمين كما جاء في القرآن، والذين عملوا بكلمات الله. وقبلوا ما أوصى الله به المسيح كما ذكرت الأناجيل، وبشهادة الإنجيل إنهم عند البداية كانوا اثنا عشر تلميذا.
وعند الخاتمة يدين الاثني عشر تلميذا أسباط إسرائيل الاثني عشر.
ويرثون مع المسيح الحياة الأبدية. فأين الخائن الذي وضعوا على عاتقه قصة الصلب وعلى الصلب نشأت المذاهب والفرق، هناك نص في إنجيل لوقا يقول: " ودخل الشيطان في يهوذا الملقب بالإسخريوطي وهو في عداد الاثني عشر ".(71) ولكن هذا يعارضه ما جاء في إنجيل مرقس أن المسيح " عين اثني عشر ليلازموه ويرسلهم ليبشروا، وتكون لهم سلطة على طرد الشياطين ".(72) فكيف تكون ليهوذا الإسخريوطي سلطة على طرد الشياطين أعطاها له المسيح، وبهذه السلطة مارس الدعوة والتبشير تحت رعاية المسيح، ثم يخترقه الشيطان بعد ذلك فيقوم بتسليم المسيح لأعدائه، فيجردوه من ثيابه ويسخرون منه ويبصقون عليه كما ذكر في الإنجيل، ورغم المقدمة التي فتحها يهوذا وما ترتب عليها من نتائج صدت عن سبيل الله. ومزقت أمة النصارى إلى فرق وأحزاب، تحدثنا نصوصا أخرى بأن يهوذا (وهو ضمن الاثني عشر تلميذا) دعا له المسيح دعاء ينال به التفاتة خصوصية من العناية الإلهية في هذه الدنيا، ويرث به الحياة الأبدية بعد أن يدين التلاميذ الاثني عشر أسباط إسرائيل الاثني عشر.
من هذه النصوص نرى أن المقدمة لا تنسجم مع النتيجة، ونرى أن اختيار المسيح ليهوذا وإعطائه السلطة على طرد الشياطين منذ البداية. ثم اختراق الشيطان ليهوذا بعد ذلك، نرى أن هذا في حد ذاته يهدم قولهم بألوهية المسيح. لأن العلم ووضع الشئ في محله قد اهتز اهتزازا كبيرا في دائرة يهوذا الإسخريوطي في حياته الدنيا، وأن العدل قد اهتز اهتزازا كبيرا في دائرته في الحياة الأبدية، ولا ندري كيف يجلس يهوذا ضمن الاثني عشر تلميذا ليدين أسباط إسرائيل الاثني عشر على اختلافهم وتفرقهم من بعد ما جاءهم العلم، في الوقت الذي فيه يهوذا عمودا فقريا لاختلاف النصارى وتفرقهم بعد أن جاءهم العلم.
الهوامش
(1) تفسير متي هنري 279 / 2 بتصرف.
(2) متي 23 / 25 - 28.
(3) المصدر السابق 23 / 29 - 23.
(4) المصدر السابق 23 / 13 - 14.
(5) المصدر السابق 23 / 15.
(6) متي هنري 287 / 2 بتصرف.
(7) لوقا 11 / 43.
(8) متي 12 / 33 - 36.
(9) سورة المائدة آية 13.
(10) متي 15 / 6.
(11) المصدر السابق 16 / 5 - 12.
(12) متي هنري 49 / 2.
(13) أعمال الرسل 26 / 5 - 7.
(14) أرميا 7 / 4 - 11.
(15) متي 21 / 12 - 14.
(16) أرميا 23 / 40.
(17) المصدر السابق 17 / 2 - 4.
(18) أشعيا 50 / 1.
(19) أشعيا 54 / 1 - 4.
(20) المصدر السابق 54 / 7 - 10.
(21) أشعيا 54 / 11 - 13.
(22) المصدر السابق 55 / 1 - 2.
(23) يشير إلى اختلافهم في تحديد الجبل الذي توضع عليه البركة. أي الجبل الذي يحدد القبلة.
(24) أشعيا 65 / 11 - 15.
(25) المصدر السابق 65 / 17.
(26) رؤيا يوحنا 21 / 22.
(27) إشارة إلى بيت الله الحرام بمكة المكرمة.
(28) رؤيا 21 / 1 - 4.
(29) المصدر السابق 21 / 16.
(30) أنظر كتابنا المسيح الدجال ط دار الهادي بيروت، ط دار الفتح للإعلام العربي القاهرة.
(31) الرؤيا 3 / 14.
(32) المصدر السابق 3 / 18 - 20.
(33) رواه أبو داوود والحاكم بسندين صحيحين (التاج الجامع للأصول 343 / 5) (أبو داوود 107 / 4) (كنز العمال 264 / 14).
(34) قال في الفتح الرباني. رواه الإمام أحمد وأبو داوود والترمذي بمعناه ونحوه وقال حديث حسن صحيح وأورده الحاكم وصححه (الفتح 49 / 24).
(35) رؤيا يوحنا 19 / 11.
(36) رواه الحاكم وقال حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه (المستدرك 557 / 4).
(37) سيرة المسيح ط كنيسة قصر الدوبارة القاهرة.
(38) المصدر السابق ص 327.
(39) لوقا 9 / 51.
(40) يوحنا 4 / 22.
(41) متي 21 / 23 - 28.
(42) متي هنري 221 / 2.
(43) متي 21 / 42 - 45.
(44) رواه مسلم (الصحيح 64 / 7).
(45) رواه مسلم (الصحيح 64 / 7).
(46) رواه مسلم (الصحيح 65 / 7).
(47) رواه مسلم (الصحيح 65 / 7).
(48) مزامير 118 / 22.
(49) أشعيا 28 / 16.
(50) دانيال 2 / 35.
(51) زكريا 4 / 7.
(52) سورة الصف آية 6.
(53) سورة الأعراف آية 157.
(54) مرقس 13 / 2.
(55) متي 21 / 45.
(56) يوحنا 7 / 10 - 13.
(57) يوحنا 7 / 1.
(58) يوحنا 8 / 41.
(59) أنظر: متي 27 / 28 - 44.
(60) سورة المائدة آية 17.
(61) سورة المائدة آية 73.
(62) سورة النساء آية 157.
(63) سورة المائدة آية 111.
(64) سورة القصص آية 7.
(65) سورة النحل آية 68.
(66) إنجيل يوحنا 17 / 6 - 10.
(67) يوحنا 17 / 24.
(68) مرقس 13 / 3 - 15.
(69) متي 19 / 27 - 0 3.
(70) سيرة المسيح / ط كنيسة قصر الدوبارة القاهرة ص 402.
(71) لوقا 22 / 4.
(72) مرقس 3 / 15.
******************
وإذا نظرنا في القرآن الكريم وتدبرنا آياته الكريمة، نجد أن الله تعالى امتدح الحواريون في أكثر من موضع، واعتبر شهادتهم حجة على المسيرة الإسرائيلية. وحاذى سبحانه بين قاعدة الحواريين وبين قاعدة الذين آمنوا في الدعوة الخاتمة على نبيها الصلاة والسلام، وفي آيات أخرى، ربط الحواريين والذين آمنوا في الدعوة الخاتمة برباط واحد هو رباط الشهادة لله.
أما المحاذاة بين الحواريين وبين الذين آمنوا. ففي قوله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى بن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله. قال الحواريون نحن أنصار الله).(1) والمراد بنصرتهم لله. أن ينصر الذين آمنوا النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم. في سلوك السبيل الذي يسلكه إلى الله على بصيرة، ثم جاءت محاذاة الحاضر بالماضي في الدعوة الإلهية. فقال تعالى: (كما قال عيسى بن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله. قال الحواريون نحن أنصار الله) ومعنى أن الحواريين أنصار الله. أي أنهم أنصارا لعيسى عليه السلام في سلوك سبيل الله وتوجهه إلى الله، وهو التوحيد وإخلاص العبادة لله.
وأما ربط الحواريين والذين آمنوا برباط واحد هو رباط الشهادة لله، ففي قوله تعالى: (قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله وأشهد بأنا مسلمون. ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين)(2) ابن كثير في تفسيره: أن الشاهدين هم أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.(3) والشاهدين ذكروا في أكثر من موضع بالأناجيل.
وأفاض سفر الرؤيا في أوصافهم، وتفسيرات علماء أهل الكتاب كلها تشير إلى أنهم الأمة الخاتمة. ومنهج هذه الأمة بينه (الأمين الصادق) كما جاء في سفر الرؤيا. بأنه يقدم الذهب النقي الذي صفته النار، ويقدم الثياب البيضاء التي تستر العري المعيب. والكحل الذي يشفي العينين فيعود إليهما البصر من جديد.
وبهذا تنسجم المقدمة مع النتيجة. تنسجم خاتمة دعوة إلهية إلى بني إسرائيل مع مقدمة دعوة إلهية للبشرية جمعاء، وعلى هذا يمكن القول أن مقدمة التلميذ الخائن الذي وهبه الله للمسيح. ثم صد عن سبيل الله بعد ذلك. لا تنسجم مع النتيجة التي جاءت في النصوص الكتابية، وعلى هذا الضوء يسقط الاتهام الذي تم توجيهه إلى قاعدة الحواريين.
2 - ( الوصايا الأخيرة )
سارت دعوة المسيح عليه السلام بين الصخور وبين القلوب القاسية لتقيم حجتها، وعلى امتداد الطريق تعددت الأعداء، وتحالف اليهود مع خصومهم من الهيرودسيين أنصار الملك هيرودس. لكي يمسكوا المسيح بكلمة تدينه أمام السلطة الرومانية، يقول إنجيل مرقص " أرسلوا إليه بعضا من الفريسيين ومحازبي هيرودس لكي يوقعوه بكلمة يقولها. فجاؤوا وقالوا له: يا معلم نحن نعلم أنك صادق ولا تبالي بأحد لأنك لا تراعي مقامات الناس. بل تعلم طريق الله بالحق. أيحل أن تدفع الجزية للقيصر أم لا؟ أندفعها أم لا ندفع؟ ولكنه إذ علم ريائهم قال لهم: لماذا تجربونني؟ احضروا إلى دينارا لأراه، فأحضروا إليه دينارا، فسألهم: لمن هذه الصورة وهذا النقش؟ فقالوا له: للقيصر. فرد عليهم قائلا: اعطوا ما للقيصر للقيصر وما لله لله. فذهلوا منه ".(4)
فلقد تظاهر جنود الملك بالتدين ودخلوا مع الفريسيين أشد فرق اليهود تعصبا في دائرة واحدة، وانطلقوا إلى المسيح عليه السلام يحملون إليه سؤالا يقوم عليه اقتصاد الدولة الرومانية، وكانوا بهذا السؤال يريدون أن يوقعوا بالمسيح عليه السلام في شباكهم ليسلموه إلى الحاكم. بحجة أنه يناهض النظام ويضرب اقتصاده في مقتل، ولكن المسيح تفادى الصدام مع أصحاب القلوب القاسية بالإجابة التي أذهلتهم.
وعلى هذا المنوال بدأت التحالفات بين اليهود وبين خصومهم لاصطياد المسيح عليه السلام، وعندما ضاقت الحلقات، بدأ المسيح عليه السلام يخبر بالغيب عن ربه جلا وعلا. فحدث اليهود بما سيفعلوه للفتك به وكيف سينجيه الله من أيديهم، وحدث التلاميذ بأنه سيبقى معهم وقتا قليلا وإنهم لن يقدروا أن يذهبوا معه إلى حيث يذهب، وقال لهم إن عنده أمور كثيرة يريد أن يتحدث معهم فيها.
ولكن الوقت لن يسعفه لإتمام ذلك. وسوف يرسل الله إليهم. المحمد أو المحمود. روح الحق الذي يرشد إلى الحق كله. لأنه لا يقول شيئا من عنده. بل يخبر بما يسمعه. وتفصيل أقوال المسيح لليهود وللتلاميذ بين دفتي الأناجيل.
فعندما اشتد صد اليهود عن سبيل الله. وبدأوا يعدون العدة للفتك بالمسيح. قال لهم المسيح " أنا باق معكم وقتا قليلا. ثم أعود إلى الذي أرسلني. عندئذ تسعون في طلبي ولا تجدونني. ولا تقدرون أن تذهبوا إلى حيث أكون ".(5) ومن الطبيعي أن اليهود لا يستطيعون الصعود إلى السماء. وبعد أن أخبر المسيح عليه السلام اليهود بأمور مستقبلية. قال لتلاميذه " يا أولادي الصغار. سأبقى عندكم وقتا قصيرا بعد. ثم تطلبونني. ولكني أقول لكم ما سبق أن قلته لليهود. إنكم لا تقدرون أن تأتوا حيث أنا ذاهب. وصية جديدة أنا أعطيكم. أحبوا بعضكم بعضا كما أحببتكم أنا. تحبون بعضكم بعضا. بهذا يعرف الجميع إنكم تلاميذي إن كنتم تحبون بعضكم بعضا. فسأله سمعان بطرس: يا سيد أين تذهب؟ أجابه يسوع: لا تقدر أن تتبعني الآن حيث أذهب ولكنك ستتبعني فيما بعد "(6) أي أنه لن يقدر أن يتبعه فيما ستسفر عنه الأحداث. حيث ينتهي الأمر بكف الله أيدي اليهود عن المسيح.
ورفعه إليه، وهذا معنى قوله " لا تقدر أن تتبعني الآن " ثم أخبره بأنه سيتبعه فيما بعد في الحياة الأبدية يوم القيامة. ولا يخلو النص من الإشادة بالاثني عشر. ومعنى أن المسيح يحبهم ويأمرهم بحب بعضهم بعضا. أن طريق الخيانة مغلق على هذا الدرب.
ويذكر القرآن الكريم. أن الله تعالى أخبر المسيح عليه السلام بعملية الرفع التي تحدث بها مع اليهود ومع التلاميذ فيما بعد، قال تعالى: (إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة).(7) قال المفسرون: المراد بالتوفي هنا النوم. كما قال تعالى (وهو الذي يتوفاكم بالليل).(8) وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول إذا قام من النوم " الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا ".(9) والمراد بالرفع إلى الله: أي رفعه إلى السماء. إذ لا مكان لله من سنخ الأمكنة الجسمانية، والآية من قبيل قوله تعالى في ذيل الآية (ثم إلي مرجعكم)، فالمراد برفعه إليه: رفعه بروحه وجسده حيا إلى السماء لأنها محل نزول البركات وسكن الملائكة المكرمين، ومعنى قوله (ومطهرك من الذين كفروا) أي: إبعاده من الكفار وصونه عن مخالطتهم والوقوع في مجتمعهم المتقذر بقذارة الكفر والجحود، ومعنى قوله (وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة) فالمراد باتباعه: هو الاتباع على الحق. الاتباع المرضي لله سبحانه، وعلى ذلك يكون الذين اتبعوه هم الحواريين والمستقيمين من النصارى قبل ظهور الإسلام، كما أن المسلمين بعد ظهور الإسلام أتباعه على الحق. قال في الميزان: ومحصل الآية. أن متبعيك من النصارى والمسلمين ستفوق حجتهم على حجة الكافرين بك من اليهود إلى يوم القيامة".(10)
فبعد هذا البيان الوافي الشافي. بدأ المسيح عليه السلام يحدث الجميع بما ستنتهي إليه الأحداث. وأخبرهم بأنهم لن يقدروا أن يتبعوه حيث يذهب. وقال لتلاميذه أنهم سيتبعوه فيما بعد. سيتبعوه بالحجة الدامغة التي تفوق حجة الذين كفروا إلى يوم القيامة، ثم يتبعوه في الحياة الأبدية بعد أن يفصل الله بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون.
ولأن معجزة الرفع إلى السماء سيكفر بها البعض وسيتأولها البعض الآخر ويضعها في غير موضعها. ولأنه على طريق هذه المعجزة فتن عديدة صنعها اليهود وتنتهي جميعا إلى الدجال. فإن من عدل الله ورحمته أنه أقام الحجة داخل الحي اليهودي. فجاءهم المسيح بالعلم الذي يبين بداية ونهاية المعجزة، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيي عن بينة، والله تعالى أوجب على نفسه فتح الطريق لعباده وهدايتهم إليه. وهو قوله تعالى: (وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شئ عليم).(11) ولما كان الحواريون في الصدارة من بعد المسيح. فلقد أخبرهم المسيح بأنهم سيشاهدون معجزة الرفع ليحدثوا الذين آمنوا بالحقيقة عندما يرى الناس الشبيه على الصليب، وجاء في إنجيل يوحنا أن المسيح قال للتلاميذ وهو يعدهم للقيام بالدعوة " الحق الحق أقول لكم: إنكم سترون السماء مفتوحة.
وملائكة الله يصعدون وينزلون على ابن الإنسان "(12) فهذا النص يفيد أنهم كانوا في بعض الأوقات يشاهدون نزول الملائكة بالوحي على امتداد البعثة، ثم شاهدوا معجزة الرفع التي تنسجم مع طريق نزول الوحي على المسيح، ليردوا الوحي والرفع إلى قدرة الله تعالى وهم يبينون للناس حقيقة الأحداث التي تجري حولهم، فلا يسقط في فتنتها إلا الذين صنعوا الفتن من القاسية قلوبهم ومن شابههم.
وذكر الإنجيل أن المسيح بشر قبل رفعه (بالمعزي) الذي سيرسله الله ليشهد الشهادة الحق. التي يشهدها التلاميذ للمسيح. لتفوق حجتهم على حجة الكافرين به إلى يوم القيامة، ذكر يوحنا أن المسيح قال: " وعندما يأتي المعزي.... روح الحق "(13) " فهو يؤدي إلي الشهادة وتؤدونها لي أنتم أيضا. لأنكم معي من البداية، قلت لكم هذا لكي لا تتزعزعوا، ستطردون خارج المجامع. بل سيأتي وقت يظن فيه من يقتلكم أنه يؤدي خدمة لله ".(14) " قلت لكم هذا حتى متي جاء وقت حدوثه تذكرون أنه سبق أن أخبرتكم به. ولم أقل لكم هذا منذ البداية لأني كنت معكم. أما الآن فإني عائد إلى الذي أرسلني ولا أحد منكم يسألني: أين تذهب؟ عندما أخبرتكم بهذا ملأ الحزن قلوبكم. ولكني أقول لكم الحق: من الأفضل لكم أن أذهب. لأني إن كنت لا أذهب.
لا يأتيكم المعزي... وعندما يجئ يقدم للعالم البرهان على الخطيئة وعلى البر وعلى الدينونة "(15) " ما زال عندي أمور كثيرة أقولها لكم.
ولكنكم الآن تعجزون عن احتمالها. ولكن عندما يأتيكم روح الحق.
يرشدكم إلى الحق كله. لأنه لا يقول شيئا من عنده. بل يخبركم بما يسمعه. ويطلعكم على ما سوف يحدث ".(16)
و (المعزي) الذي بشر به المسيح قبل رفعه إلى السماء، ترجمة للكلمة الإغريقية " البارقليط " ومعناها في قاموس اللغة اليونانية:
" المعزي. المحامي. الشفيع. المحمد. المحمود " وورد اسم " بار قليط. فارقليط. باراكليت. والمعزي. والمحامي. والمؤيد، في تراجم إنجيل يوحنا. ويقول الدكتور / حجازي السقا: والحق أن المسيح نطق لفظ " بيرقليط " وهو يترجم: أحمد. ويقول النصارى أن المسيح نطق " باراقليط " وعلى ذلك فليس هو أحمد. أي أن الخلاف في الكسرة والفتحة. فعلى الكسرة يكون اسم أحمد. وعلى الفتحة لا يكون اسم أحمد. بل صفته هي المعزي. وهم يعتمدون رواية الفتحة. ثم قدم الدكتور حجازي السقا الدليل على أن بيريكليت اسم والاسم هو أحمد.
فمن أراد الوقوف على هذا البحث فعليه بمصدره.(17)
لقد بشرهم عيسى عليه السلام بالمعزي. أو بالمحامي الذي يدافع عن الفطرة ويشهد الشهادة الحق في أحداث يعجزون عن احتمالها. وعندما بعث النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم قال " أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الأولى والآخرة "(18) وقال " أنا أولى الناس بابن مريم. الأنبياء أولاد علات. وليس بيني وبينه نبي "(19) وفي لسان العرب في معنى " أولاد علات " أي إنهم لأمهات مختلفة ودينهم واحد.
وبنو العلات: بنو رجل واحد من أمهات شتى.(20)
وبشرهم المسيح بالمعزي أو بأحمد أو بالمحمود أو بالشفيع روح الحق. الذي يرشدهم إلى الحق كله. لأنه لا يقول شيئا من عنده. فما من شفيع إلا بعد إذن الله تعالى. قال تعالى: (ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه).(21) وقال: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه).(22) وقال: (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له).(23) و قال:
(لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا. وقالوا اتخذ الله ولدا. لقد جئتم شيئا إدا. تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا. إن دعوا للرحمن ولدا. وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا. إن كل من في السماوات والأرض إلا أتى الرحمن عبدا. لقد أحصاهم وعدهم عدا. وكلهم آتيه يوم القيامة فردا. إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا. فإنما يسرنا ه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا. وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا).(24)
وبعد أن بشرهم المسيح عليه السلام. رفع عينيه نحو السماء وقال " أنا مجدتك على الأرض وأنجزت العمل الذي كلفتني " )25) " أظهرت اسمك للناس الذين وهبتهم لي من العالم. كانوا لك فوهبتهم لي، وقد عملوا بكلمتك وعرفوا الآن أن كل ما وهبته لي فهو منك. لأني نقلت إليهم الوصايا التي أوصيتني بها فقبلوها.. وآمنوا إنك أرسلتني من أجل هؤلاء أصلي إليك ".(26)
وبتحذير المسيح من الذين يدعون النبوة. وبتبشيره بروح الحق الذي يرسله الله إلى العالم قبل يوم القيامة. تنتهي دعوة المسيح عليه السلام في بني إسرائيل. وإذا كان العهد القديم قد انتهى بتبشير ملاخى " هانذا أرسل إليكم إيليا النبي قيل يوم الرب اليوم العظيم المخوف.
فيرد قلب الآباء على الأبناء وقلب الأبناء على آبائهم لئلا آتي وأخرب الأرض بلعن "(27) فإن العهد الجديد انتهت آخر بشاراته بالمعزي فأخبرهم المسيح عليه السلام بأن المعزي سيطلعهم على ما سوف يحدث.
وعندما بعث النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم قال له تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون)(28) وقال: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا. أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا).(29) إلى آخر هذه الآيات التي ضرب الله فيها الكافرين والظالمين بلعن. بعد أن كفروا وكذبوا واستكبروا ولم يؤمنوا بالبعثة الخاتمة. التي جعلها الله تعالى رحمة للعالمين، وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم " والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة. يهودي أو نصراني. ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به.
إلا كان من أصحاب النار ".(30)
3 ـ ( الشك المريب )
بعد أن تكاتفت مؤسسات الباطل من أجل الصد عن سبيل الله، بلغت الأحداث ذروتها برفع المسيح عليه السلام، ليكون رفعه آية للذين يؤمنون بأن القوة جميعا لله، ويكون في الرفع عقوبة للذين ختم الله على قلوبهم وعلى أسماعهم وعلى أبصارهم جزاءا بما قدموا. لتلقى بهم العقوبة في طريق الضنك حتى ينتهي بهم المقر. تحت أعلام المسيح الدجال آخر الزمان، ورفع المسيح عليه السلام جاء ذكره في مزامير داوود وهو يخبر بالغيب عن ربه. قال " لأنك قلت أنت يا رب ملجئي.
لا يلاقيك الشر ولا تدنو ضربة من خيمتك. لأنه يوصي ملائكته بك ليحفظوك في كل طرقك. على الأيدي يحملونك لئلا تصدم بحجر رجلك ".(31) وذكر تعالى في القرآن الكريم أنه حفظ المسيح عليه السلام على امتداد دعوته. وذلك في قوله تعالى: (إذ قال الله يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس) - إلى قوله تعالى - (وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين).(32)
وقال تعالى في رفع المسيح عليه السلام (فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا. وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما. وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله. وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا. بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما).(33)
ومن هذه الآيات نعلم (أولا): أن المسيح عليه السلام لم يتوف بأيديهم لا صلبا ولا غير مصلوب، بل شبه لهم، أي أخذوا غير المسيح عليه السلام فقتلوه أو صلبوه (ثانيا) إن الذين اختلفوا في عيسى أو في قتله لفي شك منه. والشك نقيض اليقين (ثالثا) إن ما قالوه ترجع أصوله إلى الظن. أي إلى التخمين.
وقوله تعالى: (وما قتلوه يقينا) أي ما قتلوه قتل يقين. أو. ما قتلوه أخبرك خبر يقين " بل رفعه الله إليه " أي إلى السماء " وكان الله عزيزا حكيما " ومعنى العزيز. أي الممتنع فلا يغلبه شئ. وقيل: هو القوي الغالب كل شئ. ومعنى حكيما: أي الذي يحكم الأشياء ويتقنها. فهو تعالى حكيم في جميع ما يقدره ويقضيه من الأمور وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة والسلطان العظيم.
ولما كان الله تعالى لا يظلم مثقال ذرة. فإنه أقام الحجة على الذين شاهدوا شبيه المسيح على الصليب حتى لا يلتبس عليهم الأمر.
ويعتقدوا بأن الشبيه هو المسيح، فلقد أوجب تعالى على تفسير أن يبين لعباده ما يتقون. قال تعالى: (وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون).(34) والمسيح عليه السلام وتلاميذه من بعده أقاموا الحجة على المسيرة أثناء الدعوة وعند ذروة الأحداث وبعدها. ثم بعث النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم وبين للناس الذي هم فيه مختلفون.
ومن بين فرق النصارى يوجد من يعتقد بأن المسيح عليه السلام لم يصلب وإنما صلب رجل آخر شبه به. يقول بتراند راسل " كانت طائفة الدوسيين قد ذهبوا إلى أن المسيح لم يكن هو الذي صلب. بل بديل أشبه به. وقد ظهر رأي مماثل لذلك في الإسلام ".(35)
وعند البحث عن القاعدة التي ينتسب إليها الشبيه الذي ألقي عليه شبه المسيح عليه السلام، لا نجد إلا قاعدتين لا ثالث لهما. إما أن يكون من الفريق الذي صد عن سبيل الله، وأما أن يكون من التلاميذ الذين أقروا بنصرتهم للمسيح وسلكوا السبيل الذي يسلكه إلى الله، فإذا افترضنا أن الشبيه ينتمي إلى الفريق الكافر بالدعوة. نجد أن هذا الافتراض يؤدي إلى هدم الدعوة من رأس، وذلك لأن الشبيه في هذه الحالة سيعلن على الذين أشرفوا على محاكمته وعلى الجموع بعد ذلك.
أنه ليس المسيح حتى يحاكموه ثم يصلبوه، وقد يستغل شيوخ اليهود هذا الاقرار. فيدمرون دعوة المسيح ويغرسون أعمدة دعوتهم على لسان الشبيه، ويترتب على ذلك فتنة الذين آمنوا بالمسيح وانتصار الباطل على الحق وهذا محال. لأن الرفع كان بقدرة العزيز الحكيم الذي له الحكمة البالغة والحجة الرافعة. الحكيم في جميع ما يقدره ويقضيه من الأمور.
وبالجملة: لم يعلن الشبيه عن اسمه ولم يذكر في أي موطن من المواطن أنه ليس المسيح. كما جاء في الأناجيل. وعلى هذا فلا بد أن يكون الشبيه من القاعدة الثانية. قاعدة التلاميذ. الذين قالوا " نحن أنصار الله " وقالوا (ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين)(36) ويؤكد ذلك الأحاديث التي وردت في كتب التفسير. ومنها ما روي أن المسيح عليه السلام قال لتلاميذه " يا معشر الحواريين. أيكم يحب أن يكون رفيقي في الجنة حتى يشبه للقوم في صورتي فيقتلوه. فقام شاب من أحدثهم سنا فقال: أنا. فقال له المسيح: هو أنت ذاك. فألقى عليه شبه عيسى. ورفع عيسى من روزنة البيت إلى السماء، وفي رواية " وألقى عليه شبه عيسى حتى كأنه هو. وفتحت روزنة من سقف البيت.
وأخذت عيسى عليه السلام سنة من النوم فرفع إلى السماء ".(37)
فإلقاء الشبه على واحد من التلاميذ فيه حفظ للدعوة. لأن حركته على امتداد المحنة هي حركة التلميذ الذي امتحن الله قلبه بالإيمان. فلن يتكلم ولن يتحرك إلا وفقا لتعاليم المسيح. ووفقا لتوصياته التي تخص هذه المحنة بالذات. لينجو الذين آمنوا ويسقط الذين كفروا في الفتنة.
ويمكن أن يصل الباحث إلى أن الذي صلب لم يكن المسيح عليه السلام. إذا تدبر في الأحداث ودقق النظر في أقوال الشبيه. ونحن سنلقي الضوء على حركة الرجل الذي صلب كما جاءت في الأناجيل.
وإذا كانت الأناجيل قد قدمتها على أساس أنها حركة المسيح. فإن على الباحث أن يقرأها ويتدبرها على أساس أنها صادرة من الشبيه. وفي خاتمة المطاف سيقف الباحث على حقيقة مفادها أن الحركة كانت للشبيه ولم تكن للمسيح. ومن العجيب أن الأحداث على امتداد المحنة. حملت سؤالا واحدا. توجه به مجلس الشيوخ المؤلف من رؤساء الكهنة والكتبة وتوجه به الحاكم بيلاطس إلى الرجل الذي صلب. وكان هذا السؤال يحمل صيغة واحدة هي: هل أنت المسيح؟
ومن الأعجب أن رؤساء الكهنة والكتبة. كانوا يعرفون المسيح. فلقد شاهدوه في الهيكل وهو يلقي بمواعظه. وتحدث إليهم وتحدثوا إليه في أكثر من مكان. كما ذكرت الأناجيل.(38) كما أن جنود الدولة كانوا يعرفونه أيضا. وقد ذهبوا إليه وسهم بعض اليهود يسألونه عن الجزية.
هل يعطونها للدولة أم لا. وكانوا يريدون من وراء ذلك أن يوقعوه تحت عقوبة مناهضة السلطة الرومانية، ولقد أجابهم المسيح يومئذ بقوله " ما لقيصر لقيصر وما لله لله " كما ذكرت الأناجيل.(39)
وتبدأ الأحداث أن رؤساء الكهنة والفريسيون بعد أن عقدوا العزم على القبض على المسيح عليه السلام، بعثوا إليه بمجموعة وأوكلوا إليها هذا العمل. وذكرت الأناجيل أن يهوذا الخائن كان معهم، ويذكر إنجيل يوحنا أنهم عندما اقتربوا من المسيح " تقدم نحوهم وقال:
من تريدون؟ أجابوه: يسوع الناصري. فقال لهم: أنا هو " " فلما قال أنا هو. تراجعوا وسقطوا على الأرض "(40) من هذا النص نعلم أن رؤساء الكهنة بعثوا بمجموعة للقبض على المسيح لم يكن فيها أحدا يعرف المسيح وهو الذي ذاع صيته في الآفاق، وشاهده الخاص والعام وهو يحاضر في الهيكل أو وهو يقدم معجزاته، ولم يكن بين المجموعة من يعرف المسيح سوى تلميذه الخائن يهوذا، ولكن النص لم يكشف السبب الذي أدى إلى تراجعهم وسقوطهم على الأرض، وإذا تدبرنا ما حدث لهم نجد إما أن يكون المسيح عليه السلام قد رفع في هذه اللحظة فأصابتهم الدهشة وتراجعوا وسقطوا على الأرض. وإما أن يكون شبيه المسيح هو الذي تقدم نحوهم وقال لهم: من تريدون؟ وبين قولهم: يسوع الناصري. وقوله: أنا هو. بدأت تتغير ملامحه لتشبه ملامح المسيح، فتراجعوا وسقطوا على الأرض من هول المفاجأة. في الوقت الذي كان المسيح عليه السلام قد رفع فعلا. وبالجملة: إما أنهم شاهدوا عملية الرفع وأعقبها مباشرة وجدوا أنفسهم أمام الشبيه. وعلى هذا ظل الشك رداءا لهم على امتداد الأحداث، وإما أن شاهدوا التلميذ أولا ثم شاهدوا تغيير ملامحه بعد ذلك، فلبسهم الشك على امتداد الأحداث، وفي كل من الصورتين تقام الحجة عليهم وعلى من خلفهم ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة.
عقب القبض على شبيه المسيح. كان الشك عنوانا رئيسيا في كل محاكمة وقف أمامها الشبيه. جاء في إنجيل متي " وانعقد المجلس اليهودي الأعلى بحضور رؤساء الكهنة والشيوخ كلهم. وبحثوا عن شهادة زور على المسيح ليحكموا عليه بالموت. ولكنهم لم يجدوا..
أخيرا تقدم اثنان وقالا: هذا قال: إني أقدر أن أهدم هيكل الله وأبنيه في ثلاثة أيام. فوقف رئيس الكهنة وسأله: أما تجيب بشئ على ما يشهد به هذان عليك؟ ولكن يسوع ظل صامتا فعاد رئيس الكهنة يسأله قال:
أستحلفك بالله الحي أن تقول لنا: هل أنت المسيح؟! فأجابه يسوع:
أنت قلت. وأقول لكم أيضا إنكم منذ الآن سوف ترون ابن الإنسان جالسا عن يمين القدرة. ثم آتيا على سحب السماء،.(41) وقوله جالسا عن يمين القدرة فيه إشارة إلى رفع المسيح بقدرة الله إلى السماء. وقوله " ثم آتيا على سحب السماء " فيه إشارة إلى نزول عيسى عليه السلام آخر الزمان. وروي أن النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم قال وهو يبين قتال آخر الزمان بين جند الحق وبين جند الباطل "... فيقول بعض المؤمنين لبعض: ما تنتظرون أن تلحقوا بإخوانكم في مرضاة ربكم. من كان عنده فضل طعام فليعد به على أخيه. وصلوا حتى ينفجر الفجر وعجلوا الصلاة ثم أقبلوا على عدوكم. ثم تأخذهم ظلمة لا يبصر أحدهم كفه. فينزل ابن مريم. فيحسر عن أبصارهم وبين أظهرهم رجل عليه لأمة.(42) فيقولون من أنت؟ فيقول: أنا عبد الله وكلمته عيسى... "(43) وروي أن المسيح سينزل واضعا كفيه على أجنحة ملكين.(44)
ومن الدليل أن الشبيه كان يتنبأ بنزول عيسى عليه السلام أنه عندما أخبرهم بمجئ المسيح على سحب السماء. يذكر إنجيل متي. أنهم ضربوه ولطمه بعضهم قائلين " تنبأ لنا أيها المسيح من ضربك ".(45)
وظل الشك رداءا للقوم على امتداد الليل. ويقول لوقا في إنجيله " ولما طلع النهار. اجتمع مجلس شيوخ الشعب المؤلف من رؤساء الكهنة والكتبة وقالوا: إن كنت أنت المسيح فقل لنا!! فقال لهم: إن قلت لكم لا تصدقون. وإن سألتكم لا تجيبوني. ألا إن ابن الإنسان من الآن سيكون جالسا عن يمين قدرة الله "(46)..
وفي هذا النص سألوه: إن كنت أنت المسيح فقل لنا. فكان رده " إن قلت لكم لا تصدقون " والشبيه على امتداد محاكمته لم يقل أنه المسيح. فكانوا إذا سألوه هل أنت المسيح؟ قال لمن سأله " أنت قلت " لكنه هنا يقول لهم: إن قلت لكم لا تصدقون.
ثم انتقلوا به من الحي اليهودي إلى مقر الحاكم بيلاطس.
الهوامش
(1) سورة الصف آية 14.
(2) سورة آل عمران آية 52.
(3) تفسير ابن كثير 365 / 1.
(4) مرقص 12 / 13 - 17.
(5) إنجيل يوحنا 7 / 34.
(6) إنجيل يوحنا 13 / 34 - 36.
(7) سورة آل عمران آية 55.
(8) سورة الأنعام آية 60.
(9) تفسير ابن كثير 366 / 1.
(10) الميزان 208 / 3.
(11) سورة التوبة آية 115.
(12) إنجيل يوحنا 1 / 51.
(13) المصدر السابق 15 / 26.
(14) المصدر السابق 16 / 1 - 3.
(15) المصدر السابق 16 / 4 - 9.
(16) المصدر السابق 16 / 12.
(17) أنظر كتاب نقد التوراة / د. حجازي السقا ص 207 وما بعدها.
(18) رواه مسلم (الصحيح 96 / 7).
(19) رواه مسلم (الصحيح 96 / 7).
(20) لسان العرب مادة علل ص 3080.
(21) سورة يونس آية 3.
(22) سورة البقرة آية 255.
(23) سورة سبأ آية 23.
(24) سورة مريم آية 87.
(25) يوحنا 17 / 5.
(26) استثنى النص يهوذا. ولقد بينا أن الخائن لا وجود له في نصوص أخرى.
(27) ملاخى 4 / 5 - 6.
(28) سورة البقرة آية 159.
(29) سورة النساء آية 51.
(30) رواه مسلم (الصحيح 93 / 1).
(31) مزامير 91 / 9 - 10.
(32) سورة المائدة آية 110.
(33) سورة النساء آية 155 - 158.
(34) سورة التوبة آية 115.
(35) حكمة الغرب / بتراندراسل ص 242.
(36) سورة آل عمران آية 52.
(37) أنظر: تفسير ابن جرير وتفسير البغوي وتفسير ابن كثير في قوله تعالى: (وما قتلوه وما صلبوه).
(38) أنظر: دخول المسيح إلى أورشاليم (متي 21 / 1 - 17)، وتوبيخه للفريسيين وعلماء الشريعة (لوقا 11 / 37 - 54) ومحاولة اليهود رجم المسيح (يوحنا 10 / 21 - 39)، طرد الباعة من الهيكل (متي 21 / 12 - 17، مرقس 11 / 15 - 18، لوقا 19 / 45).
(39) أنظر (متي 22 / 15 - 12، مرقس 12 / 13 - 17، لوقا 20 / 20 - 26).
(40) يوحنا 18 / 4 - 7.
(41) متي 26 / 60 - 64.
(42) لأمة / أي درع. ويقال سلاح.
(43) رواه الطبراني وابن عساكر (تواتر أحاديث نزول المسيح ص 253).
(44) رواه الطبراني وابن عساكر (التواتر ص 164) (تفسير ابن كثير 583 / 1).
(45) متي 26 / 68.
(46) لوقا 22 / 66 - 70.
******************
يقول إنجيل متي " ووقف يسوع أمام الحاكم فسأله الحاكم: أأنت ملك اليهود؟ أجابه: أنت قلت. وكان رؤساء الكهنة والشيوخ يوجهون ضده الاتهامات وهو صامت لا يرد. فقال له بيلاطس: أما تسمع ما يشهدون به عليك. لكن يسوع لم يجب الحاكم ولو بكلمة حتى تعجب الحاكم كثيرا ".(1)
وعندما علم بيلاطس أن المسيح تابع وفقا لتقسيم الدولة لسلطة هيرودس. أحاله اليه. وكان هيرودس في أورشاليم وقتئذ. وذكر إنجيل لوقا بأنه كان في اشتياق لرؤية المسيح ليشاهد معجزاته. وقال " من هو هذا الذي أسمع عنه مثل هذه الأمور. وكان يرغب في أن يراه " )2) وعندما وقف الشبيه في حضرة هيرودس طلب منه أن يرى آية ما تجري على يديه. ولكن الشبيه لا يستطيع أن يقدم معجزة لأنه تلميذا للمسيح عليه السلام. والمسيح وحده هو الذي يحيي الموتى بإذن الله ويشفي المرضى بإذن الله. يذكر إنجيل لوقا " ولما رأى هيرودس يسوع فرح جدا لأنه كان يتمنى من زمان طويل أن يراه بسبب سماعه الكثير عنه. ويرجو أن يرى آية ما تجري على يديه. فسأله في قضايا كثيرة. أما هو فلم يجبه عن شئ. ووقف رؤساء الكهنة والكتبة يتهمونه بعنف. فاحتقره هيرودس وجنوده وسخر منه ".(3)
وفي هذا النص كفاية على أن الذي تحدث معه هيرودس لم يكن المسيح عليه السلام، وإنما كان شبيهه، فهيرودس كان يتمنى أن يرى المسيح. ويرجو أن يرى آية، والله تعالى أيد المسيح عليه السلام بأكثر من آية، وكان عليه السلام تجري معجزاته في المدن ويوبخ الذين شاهدوها ولم يتوبوا. يقول متي في إنجيله " ثم بدأ يسوع يوبخ المدن التي جرت فيها أكثر معجزاته لكون أهلها لم يتوبوا "(4) وهيرودس سأل آية. ومن تعاليم المسيح قوله كما جاء في إنجيل مرقس " ليس الأصحاء هم المحتاجين إلى طبيب بل المرضى. ما جئت لأدعو أبرارا بل خاطئين "(5) وكان يقول كما جاء في إنجيل متي " ما رأيكم في إنسان قد جاء لكي يخلص الهالكين. ما رأيكم في إنسان كان عنده مئة خروف فضل واحد منها. أفلا يترك التسعة والتسعين في الجبال. ويذهب يبحث عن الضال. الحق أقول لكم: إنه إذا وجده فإنه يفرح به أكثر من فرحه بالتسعة والتسعين التي لم تضل "(6) فوفقا لهذه النصوص لا يوجد مانع يحول بين هيرودس وبين ما يرجو أن يراه على أيدي المسيح عليه السلام. والدعوة الإلهية في عصر النبوة تفتح للآيات طرقا عديدة ليؤمن الناس بما وراء المعجزة. ولكن ما حدث في وجود هيرودس وجليسه يدعو إلى العجب. فهيرودس الذي قال عن المسيح يوما " من هو هذا الذي أسمع عنه هذه الأمور. وكان يرغب في أن يراه ".(7)
وعندما رآه فرح جدا لأنه كان يرجو أن يرى آية ما تجري على يديه، وقد علم أن المسيح لن يحول بينه وبين طلبه، لأنه جاء ليدعو الخطائين ويبحث عن الضالين ويقدم المعجزات ويوبخ الذين لم يؤمنوا مهما كان شأنهم، لأنه صادق ولا يبالي بأحد لأنه لا يراعي مقامات الناس. لأنه يعلم طريق الله بالحق، ولكن النصوص أوردت نتيجة اجتماع هيرودس بالمسيح بما لا تستقيم مع المقدمة، فهيرودس سأله في قضايا كثيرة. أما هو فلم يجبه عن شئ، ووقف رؤساء الكهنة والكتبة يتهمونه بعنف. واحتقره هيرودس وجنوده وسخر منه، وهذا الموقف الذي دثره الصمت. لا يمكن أن يفهم إلا على أرضية شبيه المسيح، لأن الشبيه لا يملك أن يقدم آية. فالآيات لله يؤيد بها رسله وهم يقيمون الحجة على الناس، والمسيح عليه السلام أقام حجته ورفعه الله إلى السماء، وبعد المسيح عليه السلام اختبر الله تعالى القافلة الإسرائيلية الاختبار الذي يليق بخاتمة المسيرة، بعد أن ابتلعت العديد من الفتن على امتداد الطريق.
لقد جلس شبيه المسيح في دائرة الصمت الذي لا يضر، دائرة الصمت فيها والكلام محسوبان بدقة بالغة، حتى لا تنهار الدعوة من رأس. ولكن تفوق حجة الذين آمنوا على حجة الكافرين إلى يوم القيامة، وكان عزاء الشبيه وهو يتلقى من الناس الأذى والسخرية، أنه ينصر دين الله، ومن حوله صدى صوت المسيح عليه السلام عندما قال وهو يخاطب التلاميذ " طوبى لكم متى أهانكم الناس واضطهدوكم وقالوا فيكم من أجلي كل سوء كاذبين. افرحوا وتهللوا فإن مكافأتكم في السماوات عظيمة. فإنهم هكذا اضطهدوا الأنبياء من قبلكم ".(8) والشبيه كان تحت جميع الضربات التي تم توجيهها إليه. متعلقا بالثواب الذي سيناله في الآخرة، فقد قال أمام الحاكم بيلاطس " ليست مملكتي من هذا العالم ".(9) وهو بهذا يشير إلى قول المسيح عليه السلام لتلاميذه " متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده تجلسون أنتم أيضا على اثني عشر كرسيا تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر ".(10)
فالشبيه في دائرة الصمت هو في حقيقة الأمر في دائرة المنتصر.
وهو في هذه الدائرة يؤدي فريضة الصوم في أسمى معانيها. وقد سئل المسيح عليه السلام يوما " لماذا يصوم تلاميذ يوحنا وتلاميذ الفريسيين وأما تلاميذك فلا يصومون؟ فأجابهم: هل يقدر أهل العرس أن يصوموا والعريس بينهم. ما دام العريس بينهم لا يقدرون أن يصوموا. ولكن ستأتي أيام يكون العريس فيها قد رفع من بينهم. فيومذاك يصومون ".(11)
إن للصوم معاني وللصوم مراتب بعد رفع المسيح. والشبيه في دائرة الصمت كان يؤدي فريضة. تحفظ للدعوة مكانها في عالم تقذر بقذارة الكفر والطغيان، وفي مصادر الإسلام كان الشبيه يعلم أنه سيقتل لا محالة حين يشبه للقوم في صورة عيسى عليه السلام.(12) وفي مصادر النصارى كان التلاميذ يعلمون أن في اتباع المسيح مشقة لا يتحملها إلا مؤمن، ومن هذه المشاق عقوبة الصلب لكل من يلعنه المجتمع، ورغم قسوة هذه العقوبة. إلا أن المسيح عليه السلام قال " إن أراد أحد أن يسير ورائي فلينكر نفسه. ويحمل صليبه كل يوم ويتبعني ".(13) وحمل الشبيه صليبه. وفي نهاية المطاف نكس رأسه وأسلم الروح.
وأصابت الفتنة المهلكة الذين يسارعون في الأرض الفساد. ففي البداية لم يتدبروا الأحداث وسخروا من المصلوب " وسخر منه أيضا رؤساء الكهنة والكتبة والشيوخ قائلين: خلص غيره أما نفسه فلا يقدر أن يخلص. أهو ملك إسرائيل. فلينزل الآن عن الصليب فنؤمن به "(14)، " وعلق بيلاطس لافتة على الصليب مكتوب عليها: يسوع الناصري ملك اليهود، فقرأ اللافتة كثيرون من اليهود.. فقال رؤساء كهنة اليهود لبيلاطس: لا تكتب ملك اليهود. بل إن هذا الإنسان قال أنا ملك اليهود.. "(15) وفي النهاية انطلق اليهود نحو طريق طويل. يعملون فيه من أجل ملك اليهود الذي يأتي آخر الزمان وتطرح له الأرض فطيرا وملابس من الصوف وقمحا حبه بقدر كلاوي الثيران الكبيرة. كما ذكر التلمود، وعندما بعث النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم، تلى على أسماع الجميع حقيقة الأحداث. ومنه قوله تعالى: (وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله. وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم. وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا. بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما. وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمن به قبل موته. ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا).(16) قال المفسرون في قوله تعالى: (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمن به قبل موته) قيل: أي قبل موت عيسى عليه السلام إذا نزل لقتل المسيح الدجال. وقيل: كل كتابي لا يموت إلا وعند احتضاره يتجلى له ما كان جاهلا به فيؤمن به. لكن لا يكون ذلك إيمانا نافعا له. لقوله تعالى في أول السورة: (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن).(17)
فقبل ساعة الموت لا بد من الأخذ بأسباب البحث عن الحقيقة، ولا بد أن تكون فاتحة هذا البحث مستندة على مساند الفطرة. لأنه كما تكون البداية تكون النهاية. والله تعالى ينظر إلى عباده كيف يعملون.
4 ـ (التقدم إلى الخلف)
أخبر المسيح عليه السلام تلاميذه بأنهم سيضطهدون وسيطردون خارج المجامع. وإنه سيأتي وقت يظن فيه من يقتلهم أنه يؤدي خدمة لله(18) وفي آخر الدعوة قال المسيح لتلاميذه " حين أرسلتكم بلا صرة مال ولا كيس زاد ولا حذاء. هل احتجتم إلى شئ. فقالوا: لا فقال لهم: أما الآن فمن عنده صرة مال فليأخذها وكذلك من عنده حقيبة زاد. ومن ليس عنده فليبيع رداءه ويشتر سيفا "(19) لقد كان عليه السلام يعدهم للدفاع عن أنفسهم. وكما نزل الستار على أبناء هارون من بعد موسى وهارون. وهم الذين عينتهم الدعوة الإلهية لتفسير الشريعة، وكما ضاعت أصواتهم في ساحات الضوضاء والغوغاء فلم ترى معالمهم في السطور التي احتوتها الأصول، كذلك نزل الستار على تلاميذ المسيح عليه السلام من بعد رفع المسيح، وضاعت أصواتهم على موائد المجامع. ولم تكن لهم معالم في سطور القرارات التي أصدرتها المجامع عبر تاريخها. ولم يعرف من سيرة تلاميذ المسيح عليه السلام إلا ما أخبرت به الدعوة الإلهية الخاتمة. روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " كونوا كأصحاب عيسى. نصبوا على الخشب ونشروا بالمناشير. موت في طاعة خير من حياة في معصية "(20) وبعد اضطهاد الأصحاب جاء العصر الذي اضطهد فيه الأتباع والذين على أثر المسيح. قال تعالى: (قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود. إذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد...).(21) قال المفسرون:
قيل: كان الأخدود بنجران. وكان بها بقايا قوم على دين عيسى بن مريم، وأراد ملك من ملوك حمير كان قد تهود أن يحملهم على اليهودية ويدخلهم فيها، فجمع من كان بنجران على دين المسيح ثم عرض عليهم دين اليهودية، فأبوا عليه واختاروا القتل. فاتخذ لهم أخدودا وجمع فيه الحطب وأشعل فيه النيران. فمنهم من أحرق بالنار ومنهم من قتل بالسيف، وقوله تعالى: (وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله..) أي ما كرهوا من أولئك المؤمنين إلا إيمانهم بالله. فأحرقوهم لأجل إيمانهم. وقيل: أن لأصحاب الأخدود وقائع متعددة وقعت بالحبشة واليمن والعجم والإشارة في الآية إلى جميعها. وذكر ابن كثير أنه في زمن قسطنطين. ألقى النصارى الذين كانوا على دين المسيح عليه السلام في أخدود وقتلوا جميعا بالنار.(22) ومن الثابت أن قسطنطين هو الذي دعا إلى مؤتمر نيقية عام 325 م. وهو الذي اعتمد قانون الإيمان النصراني الذي يقول بألوهية المسيح. كما سنبين في موضعه.
وبالجملة: تم اضطهاد وقتل الذين سلكوا سبيل عيسى عليه السلام. ونزل عليهم الستار كما نزل من قبل على أبناء هارون في صدر المسيرة الإسرائيلية. ورغم نزول الستار إلا أن آثار أقدامهم واضحة على امتداد الطريق. لأنها أصل من أصول الدعوة يقام به الحجة على كل من يتدبر في الأصول. وهذا الأصل يقود إلى الدعوة الخاتمة التي جعلها الله حجة على البشرية جمعاء.
بعد حرق الذين آمنوا بالله العزيز الحميد. ظهرت أول رسائل في اللاهوت المسيحي. جاء في تاريخ الكنيسة " إن أقدم رسالة في اللاهوت المسيحي مصدرها بولس "(23) وهذا يعني أن العمود الفقري للنصرانية التي تقول بلاهوت المسيح يعود وضع خميرته ورعاية أعمدته إلى بولس، ويعني أيضا أن المسيرة النصرانية انطلقت منذ ذلك الحين بوقود بولس. بعد أن أقيمت عليهم الحجة على امتداد المسيرة الإسرائيلية وحتى زمن المسيح عليه السلام. بأنه لا إله إلا الله، وإنه سبحانه الأول والآخر والظاهر والباطن، وله وحده ميراث السماوات والأرض وجميع موجودات العالم تنتهي في وجودها وآثارها إليه جل شأنه.
ولما كان بولس تعود إليه الخميرة الأولى للمسيرة المسيحية الحاضرة، فإن البحث يقضي بضرورة إلقاء بعض الضوء عليه وعلى اجتهاداته. فيما يتعلق بالعمل بالشريعة الموسوية والتبشير بالنبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، على إعتبار أن دعوة المسيح عليه السلام كانت تقوم على هذين الاتجاهين.
أولا - " من هو بولس "؟:
يقول بولس عن نفسه " إن اليهود جميعا يعرفون نشأتي من البداية. فقد عشت بين شعبي في أورشاليم منذ صغري. وما داموا يعرفونني من البداية فلو أرادوا لشهدوا. ليشهدوا إنني كنت فريسيا أي تابعا للمذهب الأكثر تشددا في ديانتنا "(24) ويقول " كنت متفوقا في الديانة اليهودية على كثيرين من أبناء جيلي في أمتي. لكوني غيورا أكثر منهم جدا على تقاليد آبائي ".(25)
ولقد علمنا فيما سبق أن المسيح عليه السلام حذر من الفريسيين ومن خميرهم. أي من تعاليمهم.(26) ولقد كان الفريسيون من أشد الناس خطرا على دعوة المسيح على امتداد بعثته وبعدها، وبولس نفسه يشهد بذلك. قال " كنت أعتقد أنه يجب أن أبذل غاية جهدي لأقاوم اسم يسوع الناصري، وقد عملت على تنفيذ خطتي في أورشاليم. بتفويض خاص من رؤساء الكهنة، فألقيت من السجن عددا كبيرا من القديسيين، وكنت أعطي صوتي بالموافقة عندما كان المجلس يحكم بإعدامهم، وكم عذبتهم في المجامع كلها لأجبرهم على التجديف. وقد بلغ حقدي عليهم درجة جعلتني أطاردهم في المدن في خارج البلاد "(27) وقال " كنت أضطهد كنيسة الله متطرفا إلى أقصى حد. ساعيا إلى تخريبها ".(28)
ثانيا - " كيفية اعتناق بولس للنصرانية ":
بما أن بولس كان متفوقا في الديانة اليهودية كما ذكر. فإنه كان يعلم بمنزلة هارون وبنيه في الشريعة اليهودية، والراصد لحركة بولس في اتجاه النصرانية. يجد أنه ادعى لنفسه منزلة هارون لتكون مدخله إلى الحي النصراني، وبعد الدخول ادعى لنفسه أن منهجه لم يتسلمه من إنسان بل من الله، وإنه اطلع على السر الذي لم يطلع عليه بنو البشر في الأجيال الماضية، وقال إن النعمة الموهوبة إليه لم تكن عبثا. لأنه عمل جاهدا أكثر من الرسل الآخرين، ومن تحت هذا السقف خرجت عقيدة بولس. لتعمل من أجل ميراث بني إسرائيل الذي لم تفارق ثقافته فرقة الفريسيين أصحاب التفسير الشفهي (التلمود) على امتداد المسيرة، وبولس نفسه يثبت هذا الهدف بعد دخوله إلى الحي النصراني. قال " لي رجاء بأنه يحقق الله ما وعد به آبائنا وما زالت أسباط شعبنا الاثني عشر تواظب على العبادة ليل نهار راجية تحقيقه ".(29)
ومنزلة هارون جاءت على لسان بولس عندما قال " إن الكاهن الأعلى كان يؤخذ من بين الناس، ويعين للقيام بمهمته نيابة عنهم في ما يخص علاقتهم بالله، وذلك لكي يرفع إلى الله التقدمات والذبائح...
ولم يكن أحد يتخذ لنفسه هذه الوظيفة الشريفة متى أراد، بل كان يتخذها من دعاه الله إليها كما دعا هارون "(30) وعلى هذه الخلفية. ذكر بولس أنه كان في طريقه إلى دمشق لإنجاز مهمة كلف بها. وهي القبض على بعض أتباع المسيح وسوقهم مقيدين إلى أورشاليم، وقال " وفيما هو منطلق إلى دمشق وقد اقترب منها. لمع حوله فجأة نور من السماء فوقع على الأرض. وسمع صوتا يقول له: شاول. شاول. لماذا تضطهدني؟ فسأل: من أنت يا سيد؟ فجاءه الجواب: أنا يسوع الذي أنت تضطهده. والآن قم وأدخل المدينة فيقال لك ما يجب أن تفعله ".(31)
وإذا كان بولس قد ذكر هنا أن المسيح أمره بدخول المدينة ليتلقى الأوامر. فإنه ذكر في موضع آخر أن المسيح عينه خادما له وحمله رسالة إلى الأمم. قال " فسألت: من أنت يا سيد؟ فأجاب: أنا يسوع الذي أنت تضطهده، أنهض وقف على قدميك فقد ظهرت لك لأعينك خادما لي، وشاهدا بهذه الرؤيا التي تراني فيها الآن. وبالرؤى التي ستراني فيها بعد اليوم، وسأنقذك من شعبك ومن الأمم التي أرسلك إليها الآن... "(32) وعلى خلفية منزلة هارون ومشاهدته نور من السماء لمع حوله فجأة، كتب بولس رسائله " من بولس. وهو رسول لا من قبل الناس ولا بسلطة إنسان، بل بسلطة يسوع المسيح "(33) وقال * أيها الأخوة. إن الإنجيل الذي بشرتكم به ليس إنجيلا بشريا، فلا أنا تسلمته من إنسان ولا تلقنته تلقينا، بل جائني بإعلان من يسوع المسيح "(34)، وقال " أن المسيح قد أرسلني لا لأعمد. بل لأبشر بالإنجيل ".(35) وقال " ونعمته الموهوبة لي لم تكن عبثا، إذ عملت جاهدا أكثر من الرسل الآخرين جميعا، إلا أني لم أكن أنا العامل بل نعمة الله التي كانت معي ".(36)
ثالثا - " بولس والشريعة ":
على امتداد عهد المسيح عليه السلام. كان يقول " لا تظنوا أني جئت لألغي الشريعة أو الأنبياء. ما جئت لألغي بل لأكمل "(37)، وعندما جاء بولس وقاد المسيرة ألغى الشريعة. قال " كانت الشريعة هي مؤدبنا حتى مجئ المسيح لكي تبرر على أساس الإيمان، ولكن بعد ما جاء الإيمان تحررنا من سلطة المؤدب، فإنكم جميعا أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع، لأنكم جميع الذين تعمدتم في المسيح قد لبستم المسيح "(38)، وقال " أثبت الله لنا محبته. إذ ونحن ما زلنا خاطئين مات المسيح عوضا عنا، وما دمنا الآن قد تبررنا بدمه. فكم بالأحرى نخلص من الغضب الآتي، فإن كنا ونحن أعداء قد تصالحنا مع الله بموت ابنه.
فكم بالأحرى نخلص بحياته ونحن مصلحون ".(39) وقال " يا إخواني.
فإنكم بواسطة جسد المسيح الذي مات. قد صرتم أمواتا بالنسبة للشريعة لكي تصيروا إلى آخر. إلى المسيح نفسه ".(40) وقال " إن المسيح حررنا بالفداء من لعنة الشريعة. إذ صار لعنة عوضا عنا. لأنه قد كتب:
ملعون كل من علق على خشبة ".(41)
وعلى هذا الأساس الذي وضعه بولس. ألغيت الشريعة التي جاء أنبياء بني إسرائيل ليبينوها للناس. وليحذرونهم من المخالفة والانحراف الذي يترتب عليه لعنهم إلى يوم القيامة، وبولس ألغى الشريعة تحت عنوان: أن المسيح مات عن العصاة في الوقت المعين. وما دام قد مات عوضا عن الجميع وصار لعنة لأجلهم. فمعنى ذلك أن الجميع قد ماتوا بالنسبة للشريعة. وعندما قام المسيح من بين الأموات صاروا إليه ولبسوا فيه. وما دام الأمر كذلك فلا فائدة ترجى من الشريعة. لأن الأحياء لا يعيشون بالشريعة وإنما بالذي مات عوضا عنهم ثم قام(42)!! ولم يكتفي بولس بإلغاء الشريعة. بل هدد العاملين بها. ولا ندري أي إيمان يكون بغير الكتب السماوية وتصديق الأنبياء. وهل عرفنا الإيمان إلا بالناموس الذي هو من أوامر الله.
رابعا - " بولس والتبشير بالنبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم ":
بعد أن ألغى بولس الشريعة. ودفع بالقافلة إلى حيث لا ضابط لها فيما تفعل أولا تفعل. وترتب على هذا ظهور الكثير من الأحبار والرهبان ليشرعوا للناس ويأكلوا أموال الناس بالباطل. وظهور الكثير من الفرق التي اتخذت عقيدة أرض الميعاد وثقافتها وقودا لها. وكان الحي النصراني هو الأرض الخصبة لهذه الفرق. نظرا لوجود الحي اليهودي مع الحي النصراني تحت سقف واحد ينتمي إلى بني إسرائيل بالاسم.
وبولس قام بالتعتيم على نبوة الرسالة الخاتمة. من خلال تصوره لعقيدة ميراث بني إسرائيل. بمعنى أنه تتبع الميراث من عند بدايته. ومن عند البداية ضرب الخط الذي يبعث الله منه النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم. والوعد جاء ذكره في التوراة على النحو التالي " في ذلك اليوم قطع الرب مع إبرام ميثاقا قائلا: لتلك أعطى هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات ".(43)
ويقول بولس في هذا الوعد " فإنه قد كتب إن إبراهيم كان له إبنان. أحدهما من الجارية. والآخر من الحرة. أما ابن الجارية فقد ولد حسب الجسد. وأما ابن الحرة فإتماما للوعد "(44) وابن الجارية الذي يقصده بولس. هو إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام وأمه هاجر عليها السلام. ومن ذريته بعث النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم. أما ابن الحرة الذي يقصده بولس. فهو إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام. وأمه سارة عليها السلام، ومن أبنائه يعقوب ومن ذريته بعث الله أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام.
وبولس وهو يصيغ منهجه للتعتيم على النبوة الخاتمة، راعى أن يكون الحي النصراني خادما للحي اليهودي، بمعنى أنه قام بتحويل الدعوة المسيحية من السير إلى الأمام إلى السير نحو الخلف بلا سراج ينير، حتى تقف المسيرة عند الوراء أمام لوحة ميراث بني إسرائيل، ولا تملك المسيرة إلا أن تكون خادمة لهذا العنوان، وعلى امتداد هذه الخدمة يتم صحن كل شئ في خدمة الحي اليهودي بما في ذلك آيات التبشير بالنبوة الخاتمة.
لقد جرد بولس الحي النصراني من الشريعة التي يتمسك بها الحي اليهودي، وعلى هذا يصبح لا معنى وراء اعتناق اليهودي للنصرانية التي حررها بولس من الشريعة، ولأن النصرانية التي أسسها بولس تعمل تحت سقف الحي اليهودي. فإن وجود النصارى تحت هذا السقف يكون له معنى بأي صورة من الصور، وبولس نفسه يقول " لي رجاء بإن يحقق الله ما وعد به آباءنا. وما زالت أسباط شعبنا الاثني عشر تواظب على العبادة ليل نهار راجية تحقيقه ".(45) وقد علمنا من قبل أن الأسباط الاثني عشر تخص الحي اليهودي، وأن التلاميذ الاثني عشر يخصوا دعوة المسيح فإنهم ذلك.
ودفع القافلة النصرانية لخدمة الأهداف اليهودية. نراها في أصول بولس التي تتحدث عن الميراث وتضرب من خلاله آيات التبشير بالنبوة الخاتمة. ومن ذلك قوله " قد سمعتم بتدبير نعمة الله الموهوبة لي لأجلكم. كيف كشف لي السر عن طريق الوحي. كما كتبت قبلا بإيجاز. ويمكنكم حينما تقرأون ما كتبته أن تدركوا اطلاعي العميق على سر المسيح. ذلك السر الذي لم يطلع عليه بنو البشر في الأجيال الماضية مثلما أعلن اللآت بوحي الروح لرسله القديسيين وأنبيائه، وهو: أن الأمم هم شركاء اليهود في الميراث وأعضاء في الجسد معهم. ولهم أيضا حق الاستفادة من الوعد. وذلك في المسيح يسوع. وبفضل الإنجيل الذي صرت أنا خادما له ".(46)
فالسر العميق بإيجاز شديد. هو أن الأمم الذين هم بلا شريعة.
يمكن أن يكون لهم نصيبا في الميراث إذا وقفوا مع النصارى وهم أيضا بلا شريعة. تحت سقف المسيح الذي حرر الناس من لعنة الشريعة إذ صار لعنه عوضا عنهم. لأنه قد كتب: ملعون كل من علق على خشبة.
فلكي تصل بركة إبراهيم إلى الأمم. لا بد أن يكون ذلك عن طريق قبول المسيح.(47) وقبول المسيح من شروطه قبول الإنجيل الذي صار بولس خادما له. ومن المعلوم أن بولس لم يصاحب المسيح عليه السلام ولم يشر في رسائله أنه رآه أو تحدث معه أو شاهد معجزاته على عهد ا لدعوة.
ولما كان اليهود على امتداد مسيرتهم يتمسكون بعقيدة الشعب المختار أي الشعب ذو الدماء النقية الذي يرث الأرض التي كتبها الله لإبراهيم، فإن بولس ألحق النصارى بنسل إبراهيم ولكن عن طريق آخر هو طريق الروح، فقال " وقد وجهت الوعود لإبراهيم ونسله. ولا يقول " وللأنسال " كأنه يشير إلى كثيرين، بل يشير إلى واحد، إذ يقول " ولنسلك " يعني المسيح "(48) ثم يقول لاتباعه وهو يلحقهم بنسل المسيح " وأما أنتم أيها الأخوة، فأولاد الوعد على أمثال إسحاق، ولكن لما كان في الماضي المولود بحسب الجسد يضطهد المولود بحسب الروح، فكذلك أيضا يحدث الآن، إنما ماذا يقول الكتاب؟، اطرد الجارية وابنها. لأن ابن الجارية لا يرث مع ابن الحرة. إذن أيها الأخوة نحن لسنا أولاد الجارية بل أولاد الحرة ".(49)
ولقد خلط بولس بين الأوراق عندما قال: " ولفظة هاجر. تطلق على جبل سيناء في بلاد العرب، وتمثل أورشاليم الحالية فإنها مع بنيها في العبودية، وأما الثاني. فرمزه الحرة التي تمثل أورشاليم السماوية.
التي هي أمنا ".(50)
فمنهج بولس فيما يختص بالميراث، أثبت لليهود الحق فيه، لأنهم أولاد يعقوب بن إسحاق، وهم أصحاب شريعة موسى والأنبياء، والحي النصراني له الحق في الوعد على أمثال إسحاق. لأنه ينتسب إلى المسيح بالروح. كما يقول الإنجيل الذي صار بولس خادما له، والحي اليهودي مع الحي النصراني في عقيدة بولس. لا يمثلان أورشاليم التي يتجول فيها بولس وجميع فرق بني إسرائيل. فأورشاليم التي لعن الله أهلها الذين قتلوا الأنبياء وجعلوا بيته فيها مغارة لصوص، وجاءتها البعوث من كل مكان لتدمر ما فيها وتسبي أهلها. بعد أن عبدوا البعل وأقاموا المرتفعات للآلهة المتعددة، أورشاليم هذه لا تخص إلا هاجر وولدها إسماعيل وذريته العربية كما تقول عقيدة بولس، أما ما يخص بولس وأتباعه فهي أورشاليم السماوية. أورشاليم الجديدة التي جاء ذكرها في أسفار الأنبياء كما ذكرنا. ومن أوصافها " أرضها مربعة طولها يساوي عرضها. وهي متساوية الطول والعرض والارتفاع ".(51) وقال مفسرو العهد الجديد: هي مكعبة، " ولن يدخلها شئ نجس ولا ما يصنع رجاسة أو كذب ".(52) وأرضها أرض جديدة لا بحر فيها ".(53)
" ويطل عليها جبل ضخم عال ".(54) " ولا يوجد بها هيكلا "،.(55) " وبنزول أورشاليم من عند الله يكتب الله عليها اسمه الجديد ".(56) " ويصير بيت الله وسط الناس ".(57) وذكر سفر الرؤيا أن المبعوث إلى أورشاليم الجديدة هو الشاهد " الأمين الصادق ".(58)
الهوامش
(1) متي 27 / 11 - 14.
(2) لوقا 9 / 9.
(3) لوقا 23 / 8 - 12.
(4) متي 11 / 20.
(5) مرقس 2 / 17.
(6) متي 18 / 11 - 14.
(7) لوقا 9 / 9.
(8) متي 5 / 11 - 13.
(9) يوحنا 18 / 36.
(10) متي 19 / 27 - 30.
(11) مرقص 2 / 19.
(12) أنظر تفسير ابن كثير لدى قوله تعالى: (وما قتلوه...).
(13) لوقا 9 / 23.
(14) متي 27 / 43.
(15) يوحنا 19 / 19.
(16) سورة النساء آية 157.
(17) سورة النساء آية 18.
(18) أنظر: يوحنا 16 / 1 - 3.
(19) لوقا 22 / 35 - 37.
(20) رواه ابن عساكر عن ابن مسعود. والطبراني عن معاذ (كنز العمال 216 / 1).
(21) سورة البروج آية 4 - 8.
(22) ابن كثير في تفسيره 495 / 4.
(23) تاريخ الكنيسة / لويرم ص 83.
(24) أعمال الرسل 26 / 5 - 7.
(25) غلاطية 1 / 14.
(26) أنظر: متي 12 / 22 - 37، متى 16 / 5 - 12، مرقس 8 / 14 - 21، لوقا 11 / 37 - 54.
(27) أعمال الرسل 26 / 10 - 12.
(28) غلاطية 1 / 13.
(29) أعمال الرسل 26 / 5 - 7.
(30) عبرانيين 5 / 1 - 5.
(31) أعمال الرسل 9 / 3 - 7.
(32) أعمال الرسل 26 / 15 - 17.
(33) غلاطية 1 / 1.
(34) غلاطية 1 / 11.
(35) كورنثوس 1 / 17.
(36) كور 1 / 10.
(37) متي 5 / 17.
(38) غلا 3 / 23 - 29.
(39) روما 5 / 7 - 11.
(40) روما 7 / 4 - 5.
(41) غلا 3 / 13.
(42) أنظر: كور 5 / 16، غلا 3 / 23 - 29، روما 5 / 7 - 11.
(43) تكوين 15 / 18 - 20.
(44) غلا 4 / 22 - 24.
(45) أعمال الرسل 26 / 6 - 8.
(46) إفسوس 3 / 3 - 7.
(47) غلا 3 / 13 - 14.
(48) غلا 3 / 15 - 17.
(49) غلا 4 / 18 - 31.
(50) غلا 4 / 25 - 26.
(51) رؤيا 21 / 16.
(52) رؤيا 21 / 27.
(53) رؤيا 21 / 1.
(54) رؤيا 21 / 10.
(55) رؤيا 21 / 22.
(56) رؤيا 3 / 3.
(57) رؤيا 21 / 3.
(58) رؤيا 3 / 3 - 20.
******************
ففي عقيدة بولس أن أورشاليم هذه لا تخص هاجر وولدها. وإنما تخص بولس وأتباعه (!!). ونتيجة لخلط الأوراق حدث الضلال على امتداد المسيرة، ولم يجني الحي النصراني إلا السراب الذي لا يروي ظمأ ولا يسمن ولا يغني من جوع، وبتأمل أحداث آخر الزمان نجد أن المسيرة النصرانية التي زودها بولس بوقوده لتكون في خدمة الأهداف اليهودية، ستكون معلقة في الهواء. حيث لا أرض طالت ولا سماء، بينما يكون اليهود في هذا الوقت تحت قيادة أمير السلام ابن داوود ينعمون بما لديهم من مادة وميراث كما يعتقدون، ويقول بولس عن مكان النصارى في أحداث آخر الزمان " إننا نحن الباقين أحياء إلى حين عودة الرب لن نسبق الراقدين. لأن الرب نفسه سينزل من السماء حالما يدوي أمر الجميع. وينادي رئيس ملائكة ويبوق في بوق إلهي، عندئذ يقوم الأموات في المسيح أولا، ثم إننا نحن الباقين أحياء نختطف جميعا في السحب للاجتماع بالرب في الهواء، وهكذا نبقى مع الرب على الدوام. لذلك عزوا بعضكم بعضا بهذا الكلام ".(1) وبهذا الكلام ينتهي الأمر بفوز اليهود بالميراث الذي كان بولس يرجو من الله أن يحققه. بعد أن وعد به آبائه من بني إسرائيل. وظلت أسباط الشعب الاثني عشر تواظب على العبادة ليل نهار. راجية تحقيقه. وينتهي الأمر أيضا بالحي النصراني وسط السحاب في الهواء، ليملأ كفيه بالسحاب أو بالهواء.
وبعد إلقاء بعض الضوء على أطروحة بولس داخل الحي النصراني، نسجل هنا أقوال بعض علماء مقارنة الأديان، يقول يواكيم برنز " لقد كان بولس سباقا إلى قبول فكرة انفصال المسيحية عن اليهودية. ومهد بإنشاء العقيدة المناسبة "،(2) ويقول د. جوستاف لوبون " إن بولس أسس باسم يسوع دينا لا يفقهه يسوع لو كان حيا، ولو قيل للحواريين الاثني عشر إن الله تجسد في يسوع ما أدركوا هذه الفضيحة ولرفعوا أصواتهم محتجين "،(3) ويقول د. شارل جنيبر رئيس قسم الأديان بجامعة باريس " لقد تجاهل بولس فكرة عيسى الناصري ولم يتجه إلا إلى عيسى المصلوب، فتصوره شخصية إلهية تسبق العالم نفسه في الوجود. رجل سماوي احتفظ الله به إلى جانبه، أمدا طويلا، حتى نزل إلى الأرض لينشئ فيها حقا لبشرية جديدة يكون هو دمها، وهذه العقيدة تنتهي إذا سمح لنا باستخدام هذا التعبير. إلى ثمرة تبعث كثيرا على الاستغراب. هي أن عيسى يصور لنا ابنا لله. ولكن فكرة الله بالنسبة لبولس تدخل ضمن ميراثه من العقيدة اليهودية، فكيف إذن يتأتى تصور أن يكون لله ابن. وهذا لا يمت بصلة إلى العقيدة اليهودية "،(4) ويقول الكردنال دانيلو: " إن المسيحيين المخلصين يعتبرون بولس خائنا، وتصفه وثائق مسيحية بالعدو. وتتهمه بالتواطئ التكتيكي ".(5)
خامسا - " فرض العقيدة البوليسية ":
وضع بولس الذي كان ينتمي إلى طائفة الفريسيين خميرته داخل الحي النصراني الذي يقف تحت السقف اليهودي، ولم تكن خميرة بولس ضارة باليهود وإنما كانت في خدمتهم، ثم اتسعت الخميرة بعد ذلك بفضل المراكز الثقافية التي كانت فرقة الفريسيون تشرف عليها، وهذه المراكز قامت أعمدتها على تعاليم الماسونية، وكان بولس يتردد على هذه المراكز،(6) وكان يصدر أوامر صارمة إلى تلاميذه بأن يقتدوا به، وأن يعتزلوا كل من يخالفهم وأن ينتبهوا إلى مثيري الانقسامات حول تعاليمه.
وذكر المحققون أن بولس كان نشيطا دائم الحركة ذا قوى لا تكل وذا نفس لا تمل، وكان شديد الذكاء بارع الحيلة قوي الفكر، يدبر الأمور لما يريد، ويسدد السهام لغاياته ومآربه فيصيبها، استطاع أن يحمل أكثر الناس على نسيان ماضيه وأن يندمجوا في شخصه حتى يصير هو كل شئ. وهم لا يستطيعون رد قوله، ولقد خطى بولس خطواته الواسعة مستفيدا من حداثة عهد الناس بالمسيحية. وبعلاقته بالكهنة والحكام وأصحاب السلطة، وأخذ بولس في التطواف في الأقاليم. يقوم بالدعاية ويلقي الخطب. ويكتب الرسائل. حتى أن رسائله كانت هي الرسائل التعليمية بما اشتملت عليه من مبادئ في الاعتقاد وبعض الشرائع العملية.(7)
وبالنظر في رسائل بولس لمعرفة منهجه في نشر دعوته نجده يقول في رسالة " كونوا جميعا أيها الأخوة مقتدين بي. ولاحظوا الذين يسلكون بحسب القدرة التي ترونها فينا. فإن كثيرين ممن يسلكون بينكم. وقد ذكرتهم بكم مرارا. واذكرهم الآن أيضا، إنما هي أعداء لصليب المسيح "(8) ويقول في رسالة أخرى وقد ضج من الذين تصدوا لتعاليمه " أتوسل إليكم أيها الأخوة. أن تنتبهوا إلى مثيري الانقسامات والعثرات خلافا للتعليم الذي تعلمتم. وأن تبتعدوا عنهم "(9) وفي رسالة يقول " أوصيكم أيها الأخوة باسم ربنا يسوع المسيح. إن تعتزلوا عن كل أخ يسلك سلوكا فوضويا لا يوافق التعليم الذي تلقيتم منا "(10) ويبدو أن المعارضين لتعاليمه قد تصدوا لهذه التعاليم في بداية الأمر. مما أدى إلى أن يلوح لهم بولس بقبضته الحديدية مهددا لهم بالعقاب. يقول في رسالة من رسائله " لي ثقة بكم في الرب. إنكم لن تعتنقوا رأيا آخر.
وكل من يثير البلبلة بينكم سيتلقى عقاب ذلك كائنا من كان ".(11)
واستغل بولس علاقته للملوك وأصحاب السلطة في ضرب المعارضة، فأمر أتباعه بالدخول تحت سقف السلطة وذلك بالدعاء للحكام والخضوع لقانونهم، في الوقت الذي كان اليهود يخضعون فيه لقانونهم المستمد من الشريعة تحت رعاية الكهنة والشيوخ، قال بولس في رسائله " ذكر المؤمنين أن يخضعوا للحكام والسلطات ويطيعوا القانون "(12) وقال " أطلب قبل كل شئ. أن تقيموا الطلبات الحارة والصلوات والتضرعات والتشكرات لأجل جميع الناس، ولأجل الملوك وأصحاب السلطة لكي نعيش حياة مطمئنة هادئة ".(13)
سادسا - " الطريق إلى الأمم ":
وضع بولس منهجه وسط ساحة زمنية تربط بين دعوتين إلهيتين.
الدعوة الإلهية إلى بني إسرائيل والدعوة الإلهية الخاتمة إلى البشرية كافة، وبولس في منهجه أعطى للمسيح صفة الديمومة. أي صفة الألوهية. وربط أتباعه بهذه الصفة... ومعنى هذا أنه أغلق باب التوبة.
بمعنى: إذا كانوا مع المسيح والمسيح فيهم. فما الجدوى من وراء التوبة؟ وترتب على ذلك عدم التفات أتباعه إلى آية تدعو إلى الرجوع إلى الله.
وبولس عندما جرد مسيرته من الشريعة الموسوية. ألقى داخل ساحات الأمم حيث الشرائع المتعددة للعقائد المتعددة. التي يشرف عليها كهنة الوثنية والملوك الذين أقاموا ملكهم على ثقافة تقول: أن في عروقهم تجري دماء الآلهة، ودخول بولس إلى ساحة الأمم كان معولا آخر ضرب به تعاليم المسيح عليه السلام، وكان المسيح قد حدد ساحة بني إسرائيل دون غيرها لدعوته. وجاء في إنجيل متي أن امرأة كنعانية طلبت من المسيح أن يشفي ابنتها المجنونة، لكنه لم يجيبها بكلمة، وعندما قال له التلاميذ " اصرفها لأنها تصيح وراءنا. أجابهم: لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة "(14)، وقال متي هنري في تفسيره أي أنتم تعلمون أني لم أرسل إلا لهذه الغاية. وهذه المرأة ليست من خراف بيت إسرائيل. فهل ترضون بأن أتعدى حدود ارساليتي ".(15)
وترتب على دخول بولس إلى الساحة الأممية. أن الحي النصراني الذي يشرف عليه بولس. امتص كثيرا من العقائد والثقافات الوثنية، ومع هذه الأحمال رتعت الأهواء التي تلبست بالدين وأغلقت باب التوبة، فلم يقف على أبواب التوبة من هضم الوثنية ومن إعتقد بأن المسيح حرره من لعنة الناموس وأن المسيح عندما قام من بين الأموات صار إليه ولبس فيه، وفي امتصاص المسيحية للوثنية يقول ديورانت في قصة الحضارة: " إن المسيحية لم تقض على الوثنية بل تبنته)16) بعد أن هضمت تقاليد العقل الوثني فكرة المسيح الإله(17) وقصارى القول: أن المسيحية كانت آخر شئ ابتدعه العالم الوثني القديم.(18)
وعلى الساحة الوثنية تعددت الآراء لعدم استقرار الفطرة على ما فطرها الله عليه، وانعقدت المجامع المسيحية للبحث عن ثوب يخفي العرى المعيب، فكان مجمع نيقية (325 م) وتصدى المجتمعون فيه إلى عقيدة الوحدانية التي قال بها آريوس، وأقر المجمع عقيدة المسيح الإله، ثم جاء مجمع القسطنطينية (381 م) ليقر ألوهية الروح القدس، ثم مجمع أفسس (431 م) وأقر أن المسيح له طبيعة واحدة ومشيئة واحدة، ثم مجمع خلقيدونية (451 م) وأقر أن المسيح له طبيعتان ومشيئتان، وتوالت المجامع لتزيل الإشكال، فما يلبث الإشكال حتى يصير ألف إشكال.
لقد كانت فتنة. اجتمعت أطرافها عند عنوان: أرض الميعاد، وروي أن النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم قال " وما صنعت فتنة منذ كانت الدنيا صغيرة ولا كبيرة إلا لفتنة الدجال ".(19)
سابعا - " الخاتمة ":
أقام الله حجته على بني إسرائيل بإرساله الأنبياء والرسل إليهم، وقام الأنبياء والرسل بإرشاد القافلة الإسرائيلية إلى ما فيه سعادتهم وأخبروهم بما يستقبلهم من أحداث في بطن الغيب وهم يخبرون بالغيب عن الله تعالى، وحذروهم من مقدمات يترتب عليها فتن تقودهم إلى نتيجة لعن الله أتباعها إلى يوم القيامة، وبشروهم بأبواب يفتحها الله لطف منه تعالى بعباده، وعلى الأبواب هداة عينهم الله وحدد أوصافهم، وأخبروهم أن من أخذ بالأسباب للوقوف على هذه الأبواب واتبع الذين عينهم الله وحددهم وعمل صالحا فقد نجا.
وعلى امتداد المسيرة الإسرائيلية صار الصالح والطالح تحت سقف الامتحان والابتلاء. لينظر الله إلى عباده كيف يعملون، وانقسمت المسيرة على نفسها، وانتهى الاختلاف والافتراق بعد العلم إلى عبادة البعل وأقامت المرتفعات لآلهة الأمم المتعددة، وعلى هذه الرقعة اقتتلوا فيما بينهم على الملك، ونتيجة لظلمهم بعث الله عليهم البعوث، وتم سبي مملكة إسرائيل بواسطة آشور. وسبي مملكة يهوذا بواسطة بابل، وبعد السبي الأول وقع اليهود تحت حكم خمسة دول: فارس (538 - 333 ق. م) اليونان (333 - 323 ق. م) مصر (323 - 204 ق. م) سوريا (204 - 167 ق. م) فترة المكابين - وهي فترة استقل فيها اليهود من الناحية العملية (167؟ 63 ق. م) روما (63 - ق. م - 633 م) وأثناء حكمها جاء الفتح الإسلامي.
وفي خاتمة الدعوة الإلهية إلى بني إسرائيل. بعث الله إليهم المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام، وعلى امتداد دعوته قامت الفرق اليهودية التي وقعت في فتنة الميراث وملحقاتها بالصد عن سبيل الله، وصدع المسيح عليه السلام بالحق فبين لهم ما اختلفوا فيه وبشرهم بالنبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم. وهو يخبرهم بأن ملكوت الله سينزع من أيديهم ويسلم إلى شعب آخر، وتكاتفت المجامع اليهودية من أجل القضاء على المسيح ودعوته، ولكن الله كف أيديهم عنه ورفعه إليه، وبعد رفع المسيح اضطهد اليهود تلاميذه وكان قد أخبرهم بهذا الاضطهاد والقتل، وفي هذه الآونة ظهر بولس على الساحة. وكان من أشد أعداء الدعوة، وبولس ينتمي إلى طائفة الفريسيين وهي طائفة متطرفة حذر المسيح تلاميذه من تعاليمها، وعندما بدأ بولس يمارس الدعوة باسم المسيح " حاول أن ينضم إلى التلاميذ فخافوا منه. إذ لم يصدقوا أنه صار تلميذ "(20)، وبدأ بولس مهمته التي غير فيها دين المسيح، وصارت المسيحية الحاضرة مطبوعة بطابعة منسوبة إليه.
وعلى امتداد المسيرة الإسرائيلية. دمر هيكل سليمان في عهد نبوخذ ناصر (586 ق. م) ثم دمر الهيكل الذي أعاده عزرا ونحميا (135 ق. م) وبعد أن أعيد بناؤه تم تدميره بواسطة الإمبراطور تيطس (70 م) وقام الإمبراطور هادريان بطرد اليهود من أورشاليم (135 م) وألغى الإمبراطور ثيودوسيوس الحاخامية اليهودية (435 م).
وأصبح الطريق مفتوحا أمام الدعوة الخاتمة على نبيها وآله الصلاة وأذكى السلام. (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون. هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون).(21)
وبعد رفع المسيح عليه السلام. لم يعرف إلا النزر اليسير عن تلاميذه، وكان عليه السلام قد أخبرهم بأنهم سيضطهدون ويقتلون، وفي هذه الآونة ظهر بولس على الساحة، وكان من أشد الناس على الدعوة، وكان يعمل بكل ما في وسعه لاعتقال المؤمنين بها، وبولس ينتمي إلى طائفة الفريسيين. وهي طائفة تقوم ثقافتها على التفسير الشفهي للناموس (التلمود). وقد حذر المسيح عليه السلام تلاميذه من تعاليم هذه الطائفة، ودخل بولس إلى النصرانية بحجة أنه رأى المسيح على طريق دمشق، وأن المسيح عينه تلميذا له، وعندما ذهب بولس إلى أورشاليم اتجه نحو التلاميذ لينال منهم شرعية الدعوة أمام الجموع، وجاء في سفر أعمال الرسل " أنه حاول أن ينضم إلى التلاميذ. فخافوا منه. إذ لم يصدقوا أنه صار تلميذ "(22)، ولكن بولس مارس الدعوة بما له من ذكاء.
وما له من جاه. عند شيوخ اليهود وملوك وحكام الأقاليم، وبدأ بولس في تنفيذ برنامجه. فألغى الشريعة داخل الحي النصراني. وشكك في أحقية إسماعيل ابن إبراهيم عليهما السلام في الميراث، وعلى هذا الأصل صد عن سبيل النبي الخاتم وبشاراته في التوراة والإنجيل، ثم توجه بقافلته نحو الأمم، وهو ما لم يفعله المسيح عليه السلام، ودخول بولس بدعوته إلى ساحة الأمم يعطي: كره لتعاليم المسيح أولا، وإنشاء قاعدة تكون في خدمة أهدافه القريبة وأهداف اليهود البعيدة ثانيا، والصد عن سبيل الدعوة الخاتمة ثالثا، وذلك لأن المسيح لم يتقدم إلى الساحة الأممية لأن منهجه يخاطب بني إسرائيل، وكان المسيح يبشر في نفس الوقت بالنبي الأمي وأمته الأمية، وهذا يعطي أن الدعوة الخاتمة دعوة عامة. متوجهة إلى البشرية كافة، وبولس بصفته كان متفوقا في الديانة اليهودية كما قال عن نفسه، كان يعلم أن الرسالة الخاتمة ستخاطب الأمم، لهذا تقدم نحو الأمم ليضع وقوده الذي يسير القافلة نحو أهداف محددة، ويكون عائقا أمام دعوة محددة. وبعد جهد متواصل، أصبح بولس عنوانا للمسيحية، وصارت المسيحية الحاضرة مطبوعة بطابعه منسوبة إليه، ومما يذكر أن الشواهد الكتابية لهذه المسيرة هي: أناجيل:
متي، مرقص، لوقا، يوحنا، أعمال الرسل، الرؤيا.
وبالجملة: بعد سبي اليهود. حكم فلسطين خمسة دول هي:
فارس (538 - 333 ق. م) واليونان (333 - 323 ق. م) ومصر (323 - 204 ق. م) وسوريا (204 - 167 ق. م) ثم فترة المكابين(23) (167 - 63 ق. م) وروما (63 ق. م - 633 ميلادية).
وأهم الأحداث التي وقعت في الحي اليهودي: تدمير هيكل سليمان في عهد نبوخذ ناصر (586 ق. م) وتدمير الهيكل الذي أعاده عزرا ونحميا (135 ق. م) وبعد إعادة بناء الهيكل. دمره الإمبراطور تيطس (75 ميلادية) وقام الإمبراطور هادريان بطرد اليهود من أورشاليم (عام 135 ميلادية) وألغى الإمبراطور ثيودوسيوس الحاخامية اليهودية عام (435 ميلا دية).
وأصبح الطريق مفتوحا أمام الدعوة الخاتمة ليقيم الله بها حجته على العالمين. (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون، هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون)(24)
وجاء الحق
أولا - ( الدعوة الخاتمة وأهل الكتاب )
على أعتاب الدعوة الإلهية الخاتمة كانت الساحة الإنسانية ترتع فيها أعلام المادية. التي لا يريد أصحابها إلا الحياة الدنيا وزينتها. ولا يرجون بعثا ولا نشورا. ولا يعبأون بشئ من الفضائل المعنوية والروحية، وفي مقابل أصحاب المادة. رفع دعاة الروح أعلامهم.
وانطلقوا في مسيرة يرفضون فيها الكمالات الجسمية التي أظهرها الله تعالى في مظاهر النشأة المادية. لتكون ذريعة كاملة إلى نيل ما خلق لأجله الإنسان، وسارت القافلة البشرية تحت هذه الأعلام التي لا تحقق السعادة في الدنيا، لأن حملة الأعلام المادية أبطلوا النتيجة بالوقوف على سببها والجمود عليه، وحملة أعلام الروح أبطلوا النتيجة بإبطال سببها.
كانت المسيرة البشرية في حاجة وسط يقف بين الطرفين.
ويقودهما إلى الهدف الذي من أجله خلق الله الإنسان، وسط لا إلى هذا الطرف ولا إلى ذاك الطرف. وإنما يقف بين الجانبين جانب الجسم وجانب الروح، وبه يقاس ويوزن كل من طرفي الافراط والتفريط، ليكون شهيدا على سائر الناس الواقعة في الأطراف.
ومن لطف الله تعالى ورحمته بالعباد، بعث سبحانه النبي الخاتم، النبي الأمي العربي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ليقود أمة تحمل للبشرية دينا يهدي الناس إلى وسط الطرفين. لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
(دعوة أهل الكتاب)
أولا - (الدعوة إلى التوحيد الحق):
توجهت الدعوة الإلهية الخاتمة إلى البشرية كافة، وأن أهل الكتاب بينهم من يعرفون الحق ومعارف الدين، وفيهم رهبان وزهاد يعرفون عظمة ربهم ولا يستكبرون، وفيهم الباحث عن الحقيقة، توجهت الدعوة إليهم من طرق عديدة لتحيطهم بالحجة من كل مكان.
وبين الله تعالى لهم أن رسوله الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم . هو النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، وقال تعالى: (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير. قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من إتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه وبهديهم إلى صراط مستقيم)(25)، والمعنى: أن الرسول يبين ما بدلوه وحرفوه وأولوه وافتروا على الله فيه، ويسكت عن كثير مما غيروه ولا فائدة في بيانه، وأن دعوته تدعو إلى الصراط المستقيم المهيمن على الطرق كلها.
ونظرا لأن مسيرة اليهود رشحت عليها عقائد الأمم الوثنية، وحمل التوحيد على امتداد مسيرتهم بصمات الآلهة المتعددة، حتى صار الإله في نهاية المطاف إلها خاصا ببني إسرائيل دون غيرهم من الأمم، ونظرا لأن الأحبار والرهبان بدلوا الدين الذي بعث به عيسى عليه السلام، ونسبوا إلى المسيح ما لا يجوز وقالوا بألوهيته، وأطاعتهم القافلة النصرانية من غير قيد وشرط، فإن الدعوة الخاتمة صححت هذه المفاهيم في أكثر من آية، ومنها قوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون)(26)، والمعنى: تعالوا إلى كلمة عدل ونصف نستوي نحن وأنتم فيها، ثم فسر هذه الكلمة بقوله " أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا، لا وثنا ولا صليبا ولا صنما ولا طاغوتا ولا نارا ولا شئ، بل نفرد العبادة لله وحده لا شريك له، وهذه دعوة كل الرسل منذ ذرأ الله ذرية آدم، ثم قال (ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله)، أي لا يسجد بعضنا لبعض، أو يطيع بعضنا بعضا في معصية الله، أو نحرم الحلال ونحل الحرام، فنحن وأنتم ما أمرنا إلا لنعبد الله وحده، الذي إذا حرم شئ فهو الحرام. وما حلله فهو الحلال. وما شرعه إتبع. وما حكم به نفذ.
تعالى الله سبحانه وتقدس وتنزه عن الشركاء. والنظراء. والأعوان.
والأضداد. لا إله إلا هو ولا رب سواه، فإن تولوا عن هذا النصف وهذه الدعوة، فاشهدوا أنتم على استمراركم على الإسلام الذي شرعه الله لكم.
ثانيا - (الدعوة إلى اتباع قبلة الرسالة الخاتمة):
عندما بعث النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم، كان الاختلاف بين اليهود على تحديد القبلة اختلاف ثابتا لا شك فيه، ونسيانهم للجبل المقدس الذي يجب أن يتوجهوا إليه. نسيان مسطور فيما بين أيديهم من كتاب، قال أشعيا وهو يحذرهم بأن الرب قال لهم " أما أنتم الذين تركوا الرب ونسوا جبل قدسي فإني أعينكم للسيف "(27). وهذا النسيان ترى معالمه على التوراتين: السامرية والعبرية، فبينما تقول التوراة السامرية أن القبلة في اتجاه جبل " جرزيم "، تقول التوراة العبرانية إنها في اتجاه جبل " عيبال "، والمسيح عليه السلام شهد بوجود هذا الاختلاف في عهد بعثته، وبشرهم بأن العبادة لن تكون في المستقبل لا في اتجاه هذا الجبل ولا في اتجاه أورشاليم، وذلك لأن الله سينزع من أيديهم القيادة ويسلمها إلى شعب آخر(28). وما ذكره المسيح عليه السلام بخصوص القبلة، جاء عندما كان متوجها إلى أورشاليم، فقالت له امرأة سامرية " يا سيدي أرى إنك نبي، آباؤنا سجدوا في هذا الجبل، وأنتم تقولون أن في أورشاليم الموضع الذي ينبغي أن يسجد فيه، فأجابها يسوع: صدقيني يا امرأة ستأتي الساعة التي فيها تعبدون الآب لا في هذا الجبل ولا في أورشاليم ".(29) وقبل البعثة الخاتمة. لم يكن في أورشاليم هيكلا. بعد أن دمر الإمبراطور تيطس آخر هيكل عام 75 ميلادية، ولم يكن في أورشاليم حاخامية لليهود. بعد أن ألغى الإمبراطور ثيودوسيوس الحاخامية عام 435 ميلادية وترتب على ذلك تفرق اليهود في الأرض.
ولما كانت الدعوة الإلهية المتوجهة إلى بني إسرائيل قد نزل عليها الستار بعد بعثة عيسى عليه السلام، لأنه آخر أنبياء بنو إسرائيل عليهم السلام، ولما كان عيسى عليه السلام يسجد لله في اتجاه أورشاليم، ولما كانت الدعوة الإلهية اللاحقة تبدأ من حيث انتهت الدعوة الإلهية التي سبقتها، باعتبار أن الدعوة الإلهية للناس منذ ذرأ الله ذرية آدم دعوة واحدة، صراطها واحد وغاياتها واحدة، فتبدأ دعوة اللاحق من الرسل من حيث انتهت دعوة السابق من الرسل، ثم يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد، ويكلف عباده بما شاء وينسخ ما يشاء، لأنه تعالى له الحكمة التامة والحجة البالغة في جميع ذلك، ولما كان أهل الكتاب يعلمون من كتب أنبيائهم أن الدعوة الخاتمة لها صفات خاصة بها، وأنها ستبين لهم ولغيرهم الاتجاه الذي يجب أن يسجد نحوه الناس لله، فإن الله تعالى عندما بعث رسوله الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم . أمره بالتوجه إلى قبلة بيت المقدس، والمعنى الذي يستشف من هذا الحدث هو أن الدعوة الإلهية دعوة واحدة. وأن الحلقات فيها ترتبط بعضها ببعض، وتحت هذا السقف تقام الحجة على الذين اختلفوا في الدين والذين جعلوا الدين دينا خاص بهم، وتحت هذا السقف ينظر الله إلى عباده كيف يعملون. ومن يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه.
وعندما كانت القبلة في اتجاه بيت المقدس، تدبر في الأحداث الذين يعرفون الحق ومعارف الدين والزهاد من أهل الكتاب وأصغوا لصوت الحق، وتكاتم البعض ذلك بينهم حسدا وكفرا وعنادا، وانطلقوا يصدون عن سبيل الله، وبعد أن أقامت الدعوة حجتها على بني إسرائيل في هذا الأمر، أمر تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بأن يولي وجهه شطر المسجد الحرام بمكة، وأخبره بأن أهل الكتاب يعلمون أنه الحق من ربهم، قال تعالى: (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها. قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا. وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه) إلى قوله تعالى: (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها. فول وجهك شطر المسجد الحرام. وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره. وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون. ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم)(30) قال المفسرون. والمعنى: إنما شرعنا لك يا محمد أولا التوجه إلى بيت المقدس، ثم صرفناك عنه إلى الكعبة ليظهر حال من يتبعك ويطيعك ويستقبل معك حيثما توجهت. ممن ينقلب على عقبيه، وإن كان صرف التوجه عن بيت المقدس إلى الكعبة لأمرا عظيما في النفوس، إلا على الذين هدى الله قلوبهم. فأيقنوا بتصديق الرسول. وبأن كل ما جاء به هو الحق الذي لا مرية فيه. وبأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. وله تعالى أن يكلف عباده بما شاء وينسخ ما يشاء. وهذا بخلاف ما يقوله الذين في قلوبهم مرض. فإنه كلما حدث أمر أحدث لهم شكا، ثم أخبره تعالى بأن صلاتهم إلى بيت المقدس لن يضيع ثوابها عند الله، وأمره تعالى بأن يولي وجهه شطر المسجد الحرام، وأخبره أن الذين أوتوا الكتاب يعلمون أن الله سيوجهه إلى هذه القبلة: مما في كتبهم عن أنبيائهم من النعت والصفة لرسوله الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم . وما خصه الله تعالى به وشرفه من الشريعة الكاملة العظيمة، ولكن أهل الكتاب يتكاتمون ذلك بينهم حسدا وكفرا وعنادا، وأخبر تعالى أن الرسول لو أقام عليهم كل دليل على صحة ما جاءهم به، لما اتبعوا قبلته كفرا وعنادا، وإنه لن يتبع قبلتهم لأن ذلك عن أمر الله تعالى. له الحكمة التامة والحجة البالغة، ثم أشار تعالى إلى اختلافهم فيما بينهم في تحديد قبلتهم القديمة، وهو قوله " وما بعضهم بتابع قبلة بعض "، وأمره تعالى أن يستمسك بأمر الله ولا يتبع أهواءهم في جميع أحواله، وقال جل شأنه (ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين، الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون)(31)، والمعنى: أن علماء أهل الكتاب يعرفون صحة ما جاء به الرسول، ومن ذلك توجهه شطر المسجد الحرام، كما يعرف أحدهم ولده.
وبالجملة كان التوجه إلى بيت المقدس، ثم صرف التوجه عن بيت المقدس إلى الكعبة، امتحان لأهل الكتاب الذين علموا من أبنائهم أن قيادة الدعوة الإلهية ستنتقل من بني إسرائيل إلى بني إسماعيل. وأن عنوان هذه الدعوة ورسولها هو النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكان امتحان أيضا للذين اتبعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم من العرب وغيرهم، لأن صرف التوجه عن بيت المقدس سيثير شكوك البعض، وسيغذي أهل الكتاب والذين في قلوبهم مرض هذه الشكوك وهم يصدون عن سبيل الله، وتحت سقف هذا الامتحان ينظر الله إلى عباده كيف يعملون.
ثالثا - (اتباع إبراهيم عليه السلام)
بعد عهد السبي تاجر اليهود بالميراث الذي كتبه الله لإبراهيم، وانطلقوا في اتجاه هذا الهدف بالعمل على إقامة مملكة داوود وعاصمتها أورشاليم، بعد أن تبنوا عقيدة تقول أن مملكة داوود هي وعاء للعهد الإبراهيمي، وعلى امتداد مسيرتهم وبخهم الأنبياء على هذا الاعتقاد، فقال لهم حزقيال تقولون " إن إبراهيم كان واحدا وقد ورث الأرض.
ونحن كثيرون لنا أعطيت الأرض ميراثا... تأكلون بالدم وترفعون أعينكم إلى أصنامكم وتسفكون الدم. أفترثون الأرض؟ "(32) وقال لهم يوحنا (يحيى) تقولون " لنا إبراهيم أبا. فإني أقول لكم إن الله قادر أن يطلع من هذه الحجارة أولاد إبراهيم "(33) وقال لهم المسيح عليه السلام " لو كنتم أولاد إبراهيم لعملتم أعمال إبراهيم " وقال " أنتم أولاد أبيكم إبليس. وشهوات أبيكم ترغبون في أن تعملوا. فهو من البدء كان قاتلا للناس ".(34)
وعندما بعث النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم، تحدث أهل الكتاب بعقيدتهم الخاصة بالميراث، وعملوا على نشر الثقافة التي تصب في وعاء هذه العقيدة، واليهود في مصادر الإسلام أعلنوا أنهم في انتظار المسيح الذي يملكون به الأرض، والنصارى تحدثوا بما وضعه بولس في عقولهم.
وهو أن الأمم شركاء لليهود في الميراث، ووفقا لهذا الاعتقاد بدؤوا في التحرك لوقف تحرك الدعوة الخاتمة في اتجاه الأمم، وشيد اليهود والنصارى صروحهم على إبراهيم عليه السلام، فبينما زعم الحي اليهودي أن إبراهيم كان يهوديا، زعم الحي النصراني أن إبراهيم كان نصرانيا، وفي زحمة هذه الثقافات. قالت اليهود ليست النصارى على شئ، وقالت النصارى ليست اليهود على شئ، وهذه الأقوال والاعتقادات شهد بها القرآن الكريم ورد عليها وأقام على هؤلاء وهؤلاء الحجة الدامغة، ومن هذه الآيات قوله تعالى: (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه. قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق. يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء)(35) والمعنى: لو كنتم كما تدعون أبناؤه وأحباؤه. فلم أعددت لكم نار جهنم على كفركم وكذبكم وافترائكم " بل أنتم بشر ممن خلق " أي لكم أسوة بأمثالكم من بني آدم وهو سبحانه الحاكم في جميع عباده. فعال لما يريد لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب.
وقال تعالى: (وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا. قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون. فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا. وإن تولوا فإنما هم في شقاق)(36) وقبل هذه الآيات بين تعالى أن الدين الحق الذي كان عليه أولاد إبراهيم من إسماعيل وإسحاق ويعقوب وأولاده، كان هو الإسلام الذي كان عليه إبراهيم حنيفا، ويستنتج من ذلك أن أهل الكتاب على عهد البعثة الخاتمة، كانوا قد انتهى بهم المطاف إلى أرضية الاختلافات والانشعابات. التي أفرزتها اختراعاتهم وهوساتهم. بعد أن صبغوا دين الله بصبغة الأهواء والأغراض والمطامع، وروي أن اليهودي عبد الله بن صوريا قال للرسول صلى الله عليه وآله وسلم: ما الهدى إلا ما نحن عليه فاتبعنا يا محمد تهتد. وقالت النصارى مثل ذلك.(37) فقال الله لرسوله (قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) أي: قل بل نتبع ملة إبراهيم حنيفا. فإنها الملة الواحدة التي كان عليها جميع أنبيائكم. وما كان صاحب هذه الملة وهو إبراهيم من المشركين.
ثم ذكر لهم أن الدعوة الخاتمة تؤمن بالله وما أنزل إليها وهو القرآن وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، ثم ذكر ما أوتي موسى وعيسى وخصهما بالذكر لأن المخاطبة مع اليهود والنصارى، ثم ذكر ما أوتي النبيون من ربهم لتشمل الشهادة جميع الأنبياء فيستقيم قوله بعد ذلك " لا نفرق بين أحد منهم ". ثم قال تعالى:
(فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا) أي. فإن آمنوا بما آمنتم به من الإيمان بجميع كتب الله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم فقد أصابوا الحق وأرشدوا إليه.
من الآيات السابقة يمكن أن نستشف الثقافة التي كان اليهود والنصارى يبثونها على عهد الرسالة الخاتمة. فلقد ادعوا بأنهم أبناء الله وأحباؤه، وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا، ويبدو أن القرآن عندما ضرب العمود الفقري لثقافتهم هذه، قرروا بأن يعمل كل حي من أحيائهم على إنفراد، ويمكن أن نستشف ذلك من قوله تعالى: (وقالت اليهود ليست النصارى على شئ وقالت النصارى ليست اليهود على شئ وهم يتلون الكتاب)(38) قال المفسرون: هؤلاء أهل الكتاب الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا القول يقتضي أن كلا من الطائفتين صدقت فيما رمت به الطائفة الأخرى، ولكن ظاهر سياق الآية يقتضي ذمهم فيما قالوه مع علمهم بخلاف ذلك، ولهذا قال تعالى: (وهم يتلون الكتاب) أي وهم يعلمون شريعة التوراة والإنجيل، كل منهما قد كانت مشروعة في وقت، ولكنهم تجاحدوا فيما بينهم عنادا وكفرا ومقابلة للفاسد بالفاسد(39)، وبالجملة: قد كان أوائل اليهود والنصارى على شئ، وهذا لا تخلو منهم كتبهم لإقامة الحجة عليهم على امتداد المسيرة، ثم ابتدع الذين من بعدهم وتفرقوا، ثم جاء العلماء الذين وضعوا التفسير الشفهي للتوراة (التلمود) وعنده انقسم اليهود إلى فرق وأحزاب، وانتهى الأمر بأن وقف الحي اليهودي داخل دائرة حددها الأحبار، ووقف الحي النصراني داخل دائرة حددها بولس لخدمة أصحاب الدائرة الأولى، فالثقافة التي تخرج من مدونات خدمة النصارى لليهود تقول بأن اليهود والنصارى أبناء الله وأحباؤه، أما الثقافة التي يقول كل منهم أن الآخر ليس على شئ، فهي نتيجة لحجة البعثة الخاتمة ومواجهتها للأطراف مجتمعين، فالدعوة الخاتمة أرشدتهم إلى الحق ليتفكروا ويتدبروا، وبدلا من أن يرجعوا إلى كتبهم التي لا تخلو من حق ويعرضونها على منهج البعثة الخاتمة، إنطلقوا من التفسير الشفهي وهذا التفسير لا يقيم حقا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، لأنه مقابلة للفاسد بالفاسد.
وفي مجال عمل كل حي منفردا عن الآخر. قام كل منهما بوضع جميع الأنبياء داخل الحي الخاص به، ورد القرآن عليهم قولهم، قال تعالى: (أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله، ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون)(40)، والمعنى: قال كل من الفريقين إن إبراهيم ومن ذكر بعده منهم، فقال تعالى: (قل أأنتم أعلم أم الله)، أي فإن الله أخبرنا وأخبركم في الكتاب أن موسى وعيسى وكتابهما بعد إبراهيم. فإذا كان تشريع اليهودية أو النصرانية بعد إبراهيم ومن ذكر معه، فكيف يكون إبراهيم والذين ذكروا معه هودا أو نصارى؟
وقال تعالى: (يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون، ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون، ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين، إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين، ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم. وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون، با أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون. يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون).(41)
لقد أنكر الله عليهم قولهم ذلك، وأمرهم برد ما لا علم لهم به إلى عالم الغيب والشهادة الذي يعلم الأمور على حقائقها، وشهد سبحانه بأن إبراهيم كان متحنفا عن الشرك قاصدا إلى الإيمان وما كان من المشركين، وأخبر سبحانه بأن أحق الناس بمتابعة إبراهيم. الذين اتبعوه على دينه، وهذا النبي. يعني محمدا صلى الله عليه وآله وسلم والذين آمنوا. لأنهم على الإسلام الذي اصطفى الله به إبراهيم، وكذا كل من اتبعه دون أن يكفر بآيات الله ويلبس الحق بالباطل، ثم أخبر تعالى بأن طائفة من أهل الكتاب تود أن تضل الذين آمنوا بإلقاء الشبهات بينهم، وإنهم يضلون أنفسهم أولا. لأن الإنسان لا يفعل شيئا من خير أو شر إلا لنفسه كما قال تعالى: (من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد)(42)، ثم قال سبحانه (يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون) وأهل الكتاب لا ينكرون أن للعالم إلها، وإنما ينكرون أمورا من الحقائق بينتها لهم الكتب السماوية المنزلة عليهم وعلى غيرهم، كنبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكون عيسى عبدا لله ورسولا منه، وأن إبراهيم ليس بيهودي ولا نصراني، وإن يد الله مبسوطة، وإن الله غني، وإن الدجال فتنة فيه تصب جميع الفتن، إلى غير ذلك. وقوله تعالى: (وأنتم تشهدون) والشهادة هو الحضور والعلم عن حس، دلالة على أن المراد بكفرهم بآيات الله. إنكارهم كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو النبي الموعود الذي بشر به التوراة والإنجيل، مع مشاهدتهم انطباق الآيات والعلائم المذكورة فيهما عليه، وأيضا إنكارهم ما يبنيه لهم النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم من آيات ربهم التي تنطق بها كتبهم. التي بين أيديهم ويشهد القرآن بها، ثم قال تعالى: (يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون) والمعنى لم تظهرون الحق في صورة الباطل؟ وقوله: (وأنتم تعلمون) دلالة أو تلويح على أن المراد باللبس والكتمان ما هو في المعارف الدينية، غير ما يشاهد من الآيات التي حرفوها أو كتموها أو فسروها بغير ما يراد منها.
ولما كان الله تعالى قد أنكر عليهم كفرهم بآيات الله وهم يشهدون، فإنه تعالى بين في آية أخرى من آيات القرآن الكريم، أن جدالهم في آيات الله بغير سلطان أتاهم، رغبة منهم في إدحاض الحق الصريح بهذا الجدال، قد أوقعهم في فتنة المسيح الدجال، ففي قوله تعالى: (إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير)(43)، أخرج ابن أبي حاتم عن كعب. أن هذه الآية نزلت في اليهود فيما ينتظرونه من أمر الدجال، وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: قال اليهود. يكون منا ملك آخر الزمان. البحر إلى ركبتيه. والسحاب دون رأسه. يأخذ الطير بين السماء والأرض. معه جبل خبز ونهر، وقال أبو العالية: نزلت هذه الآية في اليهود. وذلك إنهم ادعوا أن المسيح (الدجال) منهم وإنهم يملكون به الأرض، فقال الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم آمرا له: أن يستعذ من فتنة الدجال.(44)
وبالجملة بينت الدعوة الإلهية الخاتمة. أن الرقعة التي يقف عليها أهل الكتاب ويطالبون من فوقها الميراث الذي كتبه الله لإبراهيم، رقعة لا علاقة لها بإبراهيم ولا بالأنبياء الذين جاؤوا من بعده، لأنها رقعة أوجدها الاختلافات والانشعابات، وهذا لا يستقيم مع الدين الإلهي، لأن الدين واحد كما أن الإله المعبود بالدين واحد وهو دين إبراهيم عليه السلام، وهذا الدين هو الذي تتمسك به الدعوة الإلهية الخاتمة، ولما كان القوم لا علاقة لهم بإبراهيم، وشهد بذلك حزقيال وأشعيا ويوحنا والمسيح عليه السلام، وشهد بذلك القرآن الكريم الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فالنتيجة هي أن القوم لا علاقة لهم بميراث إبراهيم في الدنيا والآخرة، ولما كان القوم ما زالوا يعتقدون بأن القدر يخبئ لهم أمير سيخرج آخر الزمان يمتلكون به الأرض. فإن الدعوة الخاتمة أخبرت بأن المسيح الدجال سيخرج آخر الزمان، وأنه سيرفع شعار أرض الميعاد، وأن أكثر أتباعه من اليهود، ويلحق بهم الذين أخذوا بذيول اليهود، ثم الذين اتبعوا سنن أهل الكتاب شبرا بشبر وذراعا بذراع..
الهوامش
(1) تسالونيكي 4 / 16.
(2) باباوات من الحي اليهودي / يواكيم برنز ص 74.
(3) حياة الحقائق / جوستاف لوبون ص 187.
(4) المسيحية ونشأتها وتطورها / شارل جنيبر ص 105.
(5) حقيقة التبشير / أحمد عبد الوهاب ص 59.
(6) أنظر: كتابنا عقيدة الدجال ط دار الهادي بيروت.
(7) المقارنات / د. محمد الصادقي ص 64.
(8) فليبي 3 / 17 - 18.
(9) روما 16 / 17.
(10) تسالونيكي 3 / 6 - 8.
(11) غلاطية 5 / 10.
(12) تيطس 3 / 1.
(13) ثيموثاوس 2 / 2 - 3.
(14) متي 15 / 25.
(15) متي هنري 27 / 1.
(16) قصة الحضارة / ديورانت مجلد 11، ب 27، ف 2، ص 276.
(17) المصدر السابق مجلد 11، ف 5، ب 28، ص 320.
(18) المصدر السابق مجلد 11، ف 2، ب 27، ص 276.
(19) رواه أحمد والبزار ورجاله رجال الصحيح (الفتح الرباني 69 / 24).
(20) أعمال الرسل 9 / 26.
(21) سورة الصف آية 8 - 9.
(22) أعمال الرسل 9 / 26.
(23) هي فترة استقل اليهود فيها من الناحية العملية.
(24) سورة الصف آية 8 - 9.
(25) سورة المائدة آية 15.
(26) سورة آل عمران آية 64.
(27) أشعيا 65 / 11.
(28) متي 21 / 42 - 45.
(29) يوحنا 4 / 22.
(30) سورة البقرة آية 142 - 145.
(31) سورة البقرة آية 146.
(32) حزقيال 33 / 23 - 25.
(33) متي 3 / 7 - 11.
(34) يوحنا 8 / 37.
(35) سورة المائدة آية 18.
(36) سورة البقرة آية 135.
(37) تفسير ابن كثير 186 / 1.
(38) سورة البقرة آية 113.
(39) ابن كثير 155 / 1.
(40) سورة البقرة آية 140.
(41) سورة آل عمران آية 65 - 71.
(42) السجدة آية 46.
(43) سورة غافر آية 56.
(44) أنظر تفسير ابن كثير 84 / 4، تفسير الميزان 348 / 17.
******************
رابعا - (البيان والإنذار):
أقامت الدعوة الإلهية الخاتمة حجتها على أهل الكتاب، وبينت لهم أن الله تعالى منذ بعث نوح عليه السلام لم يرسل بعده رسولا ولا نبيا إلا من ذريته، وكذلك إبراهيم عليه السلام لم ينزل من السماء كتابا ولا أرسل سبحانه رسولا ولا أوحى إلى بشر من بعده إلا وهو من سلالته، قال تعالى: (ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب)(1) وبينت الدعوة الخاتمة أن جميع الأنبياء يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له، قال تعالى (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه إنه لا إله إلا أنا فاعبدون). وإن إبراهيم عليه السلام لم يدع غيره ولا أشرك به طرفة عين، وتبرأ من كل معبود سواه، ومن ترك طريقة إبراهيم عليه السلام يكون قد ظلم نفسه بسفهه وسوء تدبيره بتركه الحق إلى الضلال، وبينت الدعوة أن إبراهيم عليه السلام وصى بنيه بالإسلام وبنيه وصوا أبناءهم به من بعدهم، قال تعالى: (ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون، أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون).(2)
وبينت الدعوة الخاتمة بأنها تؤمن بكل نبي أرسل، وأخبرت أن كل من سلك طريقا سوى ما شرعه الله فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين، قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم (قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون. ومن يتبع غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)(3)، وأعلنت الدعوة من يومها الأول أنها على ملة إبراهيم عليه السلام قال تعالى: (ثم أوحينا إليك أن إتبع ملة إبراهيم حنيفا)(4)، وقال جل شأنه لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين. قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين).(5)
لقد بينت الدعوة الإلهية الخاتمة للبشرية العقيدة الحقة، وأقامت الحجة على أهل الكتاب ليتفكروا وليتدبروا. ليعلموا أن دين إبراهيم برئ من جميع العقائد التي عليها بصمات العجول وآلهة الأمم المتعددة، وأن دين إبراهيم لا علاقة له بعقائد التثليث وألوهية المسيح، ولم تكن مهمة إبراهيم عليه السلام في يوم من الأيام هي البحث عن الميراث من النيل إلى الفرات، وإنما كان عليه السلام إماما للناس، يقتدون به ويتبعونه في أقواله وأفعاله، وهذه الإمامة لا ينالها ظالم من ولده، لأن الله لا يجعل الظالمين أئمة ولا يعطي الإمامة لعدوه. لأن هؤلاء يأتون كنتيجة لأعمال الظالمين من الناس، والله تعالى رؤوف بالعباد، والناس تحت مظلة الاختبار يمتحنون، فمن سلك طريقا على ذروته إمام للرحمة والعدل. وصل إلى غايته، ومن سلك طريقا على ذروته إمام يدعو إلى النار، دخل فيها.
وعلى امتداد عهد البعثة الخاتمة، بين الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أن شريعته تنهى عن الفحشاء والمنكر وتأمر بالمعروف، وتحذر من البغي والاستكبار والاختلاف، وتنادي بالعدل والإحسان والاستقامة، وتدعو إلى العمل الصالح والتفكر والتدبر والإصلاح والإخلاص، وإن منهج الدعوة عموده الفقري هو التوحيد، وشجرته الأخلاق الفاضلة، إلى غير ذلك من الأوامر والنواهي.
وعلم أهل الكتاب وغيرهم أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده. وقال تعالى: (إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين)(6)، ولقد أختبر الله تعالى الفرع الإسرائيلي من الشجرة الإبراهيمية. وبعث فيهم الأنبياء والرسل لينظر سبحانه كيف تعمل القافلة، وعلم أهل الكتاب كيف سارت القافلة. وبماذا حكم الله عليها.
وهذا الحكم يقرؤه فيما بين أيديهم من التوراة الحاضرة، ومنه قول الرب لهم " ها أنذا أنساكم وأرفضكم من أمام وجهي أنتم والمدينة التي أعطيتكم وآبائكم إياها. وأجعل عليكم عارا أبديا وخزيا أبديا لا ينسى "(7)، وقال: " هوذا من أجل آثامكم بعتم. ومن أجل ذنوبكم طلقت أمكم "(8)، وبين هذا الحكم وبين البعثة الخاتمة. قتلوا الأنبياء الذين بعثهم الله لإقامة الحجة على الأجيال المتعاقبة، وعندما جفت المسيرة من الماء. بعث النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم ليختبر الله تعالى بمنهجه أمة جديدة في مقدمة عالم جديد.
وببعثة النبي الخاتم. حكمت الدعوة الإلهية حكمها الفصل على قصة الميراث. التي سهر عليها بني إسرائيل ليلا طويلا، وذلك ببسط الدعوة يدها على المسجد الحرام والمسجد الأقصى في رحلة واحدة في ليلة واحدة، قال تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله)(9)، فالميراث بدأت حدوده من موضع سجود. وانتهت إلى موضع سجود، وهو ممتد إلى كل موضع سجود، وليس معنى هذا أن الدعوة الخاتمة تبحث عن الأرض والطين، وإنما معناه أنها ترعى التقوى في أي مكان وتعمل من أجل الاصلاح في كل مكان، ترعى التقوى لأن العاقبة للمتقين، وتعمل من أجل الاصلاح حتى يرث الصالحون، قال تعالى: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون).(10)
ولأن الدعوة تقوم على التوحيد، ولأن التوحيد هو الحصن الحصين الذي يحفظ الإنسان من الزلل، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " والذي نفس محمد بيده. لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به. إلا كان من أصحاب النار "(11)، وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم ذهب إلى يهود. وقال لهم " يا معشر يهود أسلموا تسلموا " فقالوا: قد بلغت يا أبا القاسم. فقال " أسلموا تسلموا " فقالوا: قد بلغت يا أبا القاسم فقال " ذلك أريد " (أي: أريد أن تعرفوا أني بلغت) ثم قال لهم " إعلموا إنما الأرض لله ولرسوله، وإني أريد أن أجليكم من هذه الأرض، فمن وجد منكم بماله شيئا فليبعه، وإلا فاعلموا أن الأرض لله ورسوله "(12) فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم بلغ بالإسلام، ولكن القوم كانت عيونهم على الأرض والطين، لأنهم من أجل هذا الميراث يعملون، فوقفوا بما يعتقدون أمام القول الفصل وهو " إعلموا أن الأرض لله ورسوله ". ولم يكن الجلاء من جزيرة العرب عقابا وحيدا للذين يصدون عن سبيل الله، وإنما أنذرهم الله بعقاب أليم في الحياة الدنيا والآخرة، قال تعالى: (يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما أنزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها على أدبارها. أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمرا مفعولا).(13) قال في الميزان: دعاهم الله تعالى إلى الإيمان بالكتاب الذي نزله مصدقا لما معهم، وأوعدهم بالسخط الذي يلحقهم لو تمردوا واستكبروا من طمس أو لعن يتبعانهم اتباعا لا ريب فيه، وطمس الوجوه محو هذه الوجوه التي يتوجه بها البشر نحو مقاصدهم الحيوية مما فيه سعادة الإنسان المرتقبة والمرجوة، وهذا المحو ليس هو المحو الذي يوجب فناء الوجوه وزوالها، بل محو يوجب ارتداد تلك الوجوه على أدبارها، فإذا كانت الوجوه تقصد مقاصدها على الفطرة التي فطر الله الناس عليها، فإن الوجوه المطموسة لا تقصد إلا ما خلفته وراءها ولا تمشي إليه إلا القهقرى، وهذا الإنسان الذي يسير في غير اتجاه الفطرة كلما توجه إلى ما يراه خيرا لنفسه وصلاحا لدينه ودنياه لم ينل إلا شرا وفسادا، وكلما بالغ في التقدم زاد في التأخر وليس بفالح أبدا، وقوله تعالى: (نطمس وجوها) فيه أنه تعالى أتى بالجمع المنكر، ولو كان المراد الجميع لم ينكر، ولتنكير الوجوه وعدم تعيينها هدف من ورائه حكمة، هي أن المقام لما كان مقام الإبعاد والتهديد وهو إبعاد للجماعة بشر لا يلحق إلا ببعضهم، كان إبهام الأفراد الذين يقع عليهم السخط الإلهي أوقع في الانذار والتخويف، لأن وصفهم على إبهامه يقبل الانطباق على كل واحد من القوم، فلا يأمن أحدهم أن يمسه هذا العذاب.(14)
خامسا - ( العنكبوت والدعوة ):
حذرت الدعوة الخاتمة من سلوك سبيل الذين كفروا من أهل الكتاب، لأن الدعوة تقيم وجهها للدين وتتجه بالبشرية إلى الأمام.
وتمدها على امتداد الطريق بالزاد الفطري الذي يحقق السعادة في الدنيا بما يوافق الكمال الأخروي، بينما تتقدم قافلة الذين كفروا إلى الخلف بزاد عذاب الطمس الذي ضربه الله عليهم بما كسبت أيديهم، وعلى امتداد هذا الطريق. كلما بالغ أصحابه في التقدم زادوا في التأخر ولن يحصلوا على السعادة الحقيقية أبدا.
ومن الآيات التي حذر فيها الله من الذين كفروا من أهل الكتاب قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم).(15) قال في الميزان:
نهى عن مودتهم الموجبة إلى تجاذب الأرواح والنفوس، لأن ذلك يقلب حال المجتمع من السيرة الدينية المبنية على سعادة اتباع الحق. إلى سيرة الكفر المبنية على اتباع الهوى وعبادة الشيطان والخروج عن صراط الحياة الفطرية، وقوله تعالى: (بعضهم أولياء بعض) أي لتضارب نفوسهم وتجاذب أرواحهم. المستوجب لاجتماع آرائهم على اتباع الهوى والاستكبار عن الحق وقبوله، واتحادهم على إطفاء نور الله سبحانه، وتناصرهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، كأنهم نفس واحدة ذات ملة واحدة وليسوا على وحدة الملية، لكن يبعث القوم على الاتفاق ويجعلهم يدا واحدة على المسلمين أن الإسلام يدعوهم إلى الحق. ويخالف أعز المقاصد عندهم وهو اتباع الهوى والاسترسال في مشتهيات النفس وملاذ الدنيا، فهذا هو الذي جعل الطائفتين اليهود والنصارى على ما بينهما من الشقاق والعداوة مجتمعا واحدا، يقترب بعضه من بعض ويرتد بعضه إلى بعض، يتولى اليهود النصارى وبالعكس. ويتولى بعض اليهود بعضا وبعض النصارى بعضا، وبالجملة: لا تتخذوهم أولياء لأنهم على تفرقهم وشقاقهم فيما بينهم يدا واحدة عليكم. لا نفع لكم في الاقتراب منهم بالمودة والمحبة، وربما أمكن أن يستفاد من قوله " بعضهم أولياء بعض " معنى آخر وهو:
أن لا تتخذوهم أولياء لأنكم إنما تتخذونهم أولياء لتنتصروا ببعضهم الذين هم أولياؤكم على البعض الآخر، ولا ينفعكم ذلك. فإن بعضهم أولياء بعض فليسوا ينصرونكم على أنفسهم.(16)
ومن آيات التحذير أيضا قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا)(17) قال في الميزان: أي أنك ترى اليهود الذين أوتوا نصيبا من الكتاب. أي حظا منه لا جميعه كما يدعون لأنفسهم، يشترون الضلالة وتختارونها على الهدى ويريدون أن تضلوا السبيل، فإنهم وإن لقوكم ببشر الوجه. وظهروا لكم في زي الصلاح. واتصلوا بكم اتصال الأولياء الناصرين. فذكروا لكم ما ربما استحسنته طباعكم واستصوبته قلوبكم، لكنهم ما يريدون إلا ضلالكم عن السبيل كما اختاروا لأنفسهم الضلالة، والله أعلم منكم بأعدائكم.
وهم أعداؤكم، فلا يغرنكم ظاهر ما تشاهدون من حالهم، فإياكم أن تطيعوا أمرهم أو تصغوا إلى أقوالهم المزوقة وإلقاءاتهم المزخرفة وأنتم تقدرون أنهم أولياءكم وأنصاركم، فأنتم لا تحتاجون إلى ولايتهم الكاذبة ونصرتهم المرجوة، وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا، فأي حاجة مع ولايته ونصرته إلى ولايتهم ونصرتهم.(18)
ومنها قوله تعالى: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم. قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك عن الله من ولي ولا نصير)(19)، قال في الميزان:
أي. إن هؤلاء ليسوا براضين عنك حتى تتبع ملتهم التي ابتدعوها بأهوائهم ونظموها بآرائهم، ثم أمر الله رسوله بالرد عليهم بقوله " قل إن هدى الله هو الهدى " أي إن الاتباع إنما هو لفرض الهدى ولا هدى إلا هدى الله، أما غيره وهو ملتكم ليس بالهدى، فهي أهوائكم ألبستموها لباس الدين وسميتموها باسم الملة(20)، وقال ابن كثير: وقوله تعالى: (ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم... الآية) فيه تهديد ووعيد شديد للأمة عن اتباع طريق اليهود والنصارى، بعد ما علموا من القرآن والسنة، والخطاب مع الرسول والأمر لأمته، وقد استدل كثير من الفقهاء بقوله " حتى تتبع ملتهم " حيث أفرد الملة على أن الكفر كله ملة واحدة.(21)
وبالجملة: حذر الله تعالى الأمة من تنظيمات أهل الكتاب.
التي لها أهداف قريبة وأهداف بعيدة، والتي يحمل أعلامها الفرق المختلفة والطوائف المختلفة، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين)(22) قال المفسرون: يحذر تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن أن يطيعوا فريقا من أهل الكتاب. الذين يحسدون المؤمنين على ما آتاهم الله من فضله، كما قال تعالى: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم)(23)، وهكذا قال ههنا (إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين) وفي آية أخرى قال تعالى:
(ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم).(24)
وباختصار: فالقاعدة العريضة منهم ودوا لو يردون الذين آمنوا من بعد إيمانكم كفارا، وهناك فرق حملت أعلام هذه القاعدة وانطلقت رجاء تنفيذ هذا الهدف، وهناك طائفة من أهل الكتاب مهمتها إطفاء الأنوار رغبة منها في أن تضل قافلة الذين آمنوا عن الطريق، والمعنى:
أن الطائفة في خدمة الفريق والفريق في خدمة القاعدة. وليس معنى هذا إن قاعدة أهل الكتاب خالية من العلماء الذين يبحثون عن الحقيقة.
فهؤلاء أثر أقدامهم على الطريق. والإسلام لم يغلق أبوابه أمام الذين يريدون الاستبصار منهم في الدين، وقد أمر الله تعالى بمجادلتهم بالتي هي أحسن. فقال تعالى في آية محكمة (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظالموا منهم)(25) وقوله: (إلا الذين ظلموا منهم) يعني أهل الحرب، وذكر تعالى في كتابه. إن الذين قالوا أنهم من أتباع عيسى عليه السلام وعلى منهاج إنجيله، فيهم مودة للإسلام وأهله، وما ذاك إلا لما في قلوبهم من الرقة والرحمة، ويوجد فيهم قسيسون وهم خطباؤهم وعلماؤهم ورهبانا، من صفتهم بأن فيهم العلم والعبادة والتواضع والانقياد للحق واتباعه والإنصاف، وإذا سمعوا ما أنزل على الرسول الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم . ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق، قال تعالى: (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وإنهم لا يستكبرون. وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق. يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين. وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين)(26)، فهذا الصنف من النصارى كان أول ظهوره بالحبشة في النجاشي وأصحابه، وهم المذكورين في قوله تعالى: (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله)(27)، وهم الذين قال الله فيهم (الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون. وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين)(28)، ومنذ أيام النجاشي وعلى امتداد المسيرة الإسلامية، لم تغلق الدعوة أبوابها في وجوه الذين يريدون الاستبصار في الدين، لأن الله تعالى أمر رسوله الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم . أن يدعو الخلق إلى الله بالحكمة. والموعظة الحسنة ليحذروا بأس الله تعالى، وأمره تعالى أن من احتاج من الناس إلى مناظرة وجدال، فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب.
فمن هذه النصوص ومن غيرها نعلم أن الدعوة الإلهية الخاتمة حذرت من اتباع أي مشروع تقدمه الطوائف أو الفرق التي تهدف من وراء برامجها الصد عن سبيل الله، وفي نفس الوقت فتحت الدعوة أبوابها للباحثين عن الحقيقة من أهل الكتاب لتقيم الحجة عليهم وعلى غيرهم في كل مكان وزمان..
ثانيا - ( من وصايا الدعوة الخاتمة )
1 - (ظل المنزلة الممدود)
على امتداد المسيرة الإسرائيلية كان لشجرة الأنبياء فيها علامات وبصمات، وفي التوراة الحاضرة يمكن للباحث أن يتبين نبوة هارون ومنزلته هو وبنيه من موسى عليه السلام، فالتوراة تنص على وحي الله تعالى لهارون. وهنا تكون النبوة، ولما كان موسى عليه السلام هو رسول الله إلى بني إسرائيل وعليه أنزلت التوراة، فإن نبوة هارون. أو.
وحي الله تعالى لهارون. كان يتعلق بتفسير الشريعة التي أنزلها الله تعالى على موسى عليه السلام، بمعنى: أن التوراة أنزلها الله تعالى على موسى، وأن تفسير الشريعة أوحى الله تعالى بها إلى هارون عليه السلام، فكان هارون مشاركا لموسى عليه السلام في تفسير الشريعة، وموسى عليه السلام منفردا على هارون بتلقي التوراة من الله سبحانه وتعالى، وهو قول الله تعالى في القرآن حاكيا عن موسى قوله (واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري)(29)، فالنص القرآني يقول أن موسى عليه السلام سأل ربه أن يجعل له وزيرا من أهله، وأن يكون هذا الوزير هارون أخاه، وسأله أن يشركه في أمره، والوزير في لغة العرب: الذي يحمل ثقل الملك، وقيل: هو الذي يلتجئ إليه الملك في آرائه وأحكامه، وقيل: هو الذي يعين الملك ويقويه(30)، وفي التوراة الحاضرة. كان هارون الكاهن الأكبر الذي يفسر الشريعة، والكاهن في لسان العرب: هو من يقوم بأمر الرجل ويسعى في حاجته.
وقال: والعرب تسمى كل من يتعاطى علما دقيقا كاهنا.(31)
وسؤال موسى عليه السلام ربه جل وعلا أن يشرك هارون في أمره، أي في أمر يخص موسى. وهو تبليغ ما بلغه من ربه، فهذا هو الأمر الذي يخصه، وسأل ربه أن لا يشاركه فيه أحد سوى هارون، وقال ابن كثير في تفسيره. في قوله تعالى: (واجعل، لي وزيرا من أهلي... الآية) وهذا أيضا سؤال من موسى عليه السلام في أمر خارجي عنه، وهو مساعدة أخيه هارون له، وقوله " أشدد به أزري " أي ظهري وقوله " وأشركه في أمري " أي في مشاورتي.(32)
هذا ما يتعلق بوزارة هارون ومساعدته موسى في تبليغ الدين أو شئ من أجزائه، وموسى عليه السلام سأل ربه ذلك. لأن الأمر كثير الجوانب متباعد الأطراف، فهو كان يخاف التكذيب مع ما جمعه من ضيق الصدر وعدم انطلاق اللسان، وكان على علم بفرعون وقومه وما هم عليه من الشوكة والقوة، وكان على علم بالانحطاط الفكري وجهل وضعف بني إسرائيل، لهذا سأل ربه بعض الأمور التي كان يحتاجها في رسالته لا في نبوته، ومنها طلب الوزير، أما فيما يتعلق بخلافة هارون لموسى عليه السلام في قومه. فجاء في قوله تعالى:
(وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين)(33) قال ابن كثير: إستخلف موسى على بني إسرائيل أخاه هارون. ووصاه بالإصلاح وعدم الافساد، وهذا تنبيه وتذكير وإلا فهارون عليه السلام نبي شريف كريم على الله له وجاهه وجلاله صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء(34)، والاستخلاف لا يكون إلا في غيبة، وكانت غيبة موسى عن بني إسرائيل حين كان يفارقهم للميقات، وقوله لأخيه " ولا تتبع سبيل المفسدين ". فيه أنه كان في قومه يومئذ جمع من المفسدين يفسدون ويقلبون عليه الأمور، ويتربصون به الدوائر، فنهى موسى أخاه أن يتبع سبيلهم فيشوشوا عليه الأمر. ويكيدوا ويمكروا به. فيتفرق جمع بني إسرائيل ويتشتت شملهم. بعد تلك المحن التي كابد هارون في إحياء كلمة الاتحاد بينهم.
وبالجملة: كان هارون عليه السلام وزيرا لموسى عليه السلام.
وكان يساعده في تبليغ الدين أو شئ من أجزائه، وكان يخلف موسى عليه السلام في غيبته. ويحافظ على سبيل موسى عليه السلام من الذين يتربصون به، ليكون السبيل حجة على بني إسرائيل وهم تحت سقف الامتحان والابتلاء، ويكون شاهدا على المفسدين على امتداد المسيرة كي يتبين الباحث عن الحقيقة خطأهم، وسبيل الأنبياء فقد ذرأ الله ذرية آدم. لا يضره من خالفه أو من خذله أو من عاداه.
أما فيما يتعلق بأبناء هارون عليه السلام، فلقد ذكرت التوراة الحاضرة، أن الله تعالى اصطفى أبناء هارون من بعده ليفسروا الشريعة لبني إسرائيل، وعلى امتداد المسيرة الإسرائيلية بعث منهم الأنبياء والربانيين، وآخر الأنبياء الذين بعثوا من ذرية هارون. كان المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام، ولقد بينا ذلك فيما سبق، ولقد قلب بنو إسرائيل الأمر على أنبيائهم. وقتلوا بعضهم وكذبوا البعض الآخر، عندما جاؤوهم بما لا تهوى أنفسهم.
والدعوة الإلهية الخاتمة على نبيها الصلاة والسلام، امتد ظلها من حيث انتهت ظلال أنبياء بني إسرائيل، بمعنى: في بداية الدعوة جعل الله قياس النبي صلى الله عليه وسلم إلى موسى عليه السلام، وجعل قياس أمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى فرعون وقومه، قال تعالى: (إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا)(35)، فبتدبر الآية. نجد أن دائرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقابلها دائرة موسى عليه السلام، ودائرة الأمة يقابلها دائرة فرعون، والقرآن عبر عن موسى بالرسول، وفي هذا إشارة إلى أن السبب الموجب لأخذ فرعون مخالفته أمر رسالة موسى لا نفس موسى بما أنه موسى، وإذا كان السبب هو مخالفة الرسالة، فيقابله تحذير الأمة من مخالفة رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لأن المخالفة تؤدي إلى عذاب الأخذ الوبيل. قال ابن كثير في تفسيره إحذروا أنتم أن تكذبوا هذا الرسول فيصيبكم ما أصاب فرعون حيث أخذه الله أخذ عزيز مقتدر.(36)
كما جعل الله تعالى قياس أذى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أذى موسى عليه السلام، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا)(37)، قال ابن كثير: وفيه نهي للمؤمنين أن ينالوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم . أو يوصلوا إليه أذى، وقال تعالى مخبرا عن رسوله موسى عليه السلام أنه قال لقومه (لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم. فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين)(38)، ولما كانت عقوبة الذين أذوا موسى عليه السلام وعدلوا عن الحق مع علمهم به. أن الله أزاغ قلوبهم عن الهدى وأسكنها الشك والحيرة والخذلان، فإن الله تعالى توعد الذين يؤذون النبي صلى الله عليه وآله وسلم . باللعن في الدنيا والآخرة. قال تعالى: (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا)(39). قال ابن كثير: والظاهر أن الآية عامة في كل من آذاه بشئ. ومن آذاه فقد آذى الله كما أن من أطاعه فقد أطاع الله.
ولما كان الناس يختبرون على امتداد المسيرة البشرية لينظر الله إلى عباده كيف يعملون، فإننا نجد موسى عليه السلام يبين معالم هذا الاختبار لبني إسرائيل فيما أخبر الله تعالى أنه قال لقومه (عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون)(40)، وهذه المعالم بينها الله تعالى لرسوله الخاتم في قوله (ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات. وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين. ثم جعلناكم في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون).(41)
فالدعوة الإلهية ظلالها ممتدة ودوائر الهدى فيها تشبه بعضها بعضا، والعذاب الذي توعد الله به الظالمين هناك من جنس العذاب الذي ينتظر الظالمين هنا، وعلى امتداد الدعوة الإلهية. أمر الله عباده بأن لا يزكوا أنفسهم لأنه سبحانه أعلم بمن اتقى وله سبحانه أنه يزكي من يشاء، وتحت سقف التزكية يختبر العباد، قال تعالى: (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا)(42) قال في الميزان: أي إنا جعلنا بعض الناس لبعض فتنة يمتحنون بها، فالرسل فتنة لسائر الناس يمتحنون بهم، فيتميز بهم أهل الريب من أهل الإيمان. والمتبعون للأهواء من طلاب الحق، وقوله تعالى: (وكان ربك بصيرا) أي عالما بالصواب في الأمور، فيضع كل أمر في الموضع المناسب له ويجري بذلك أتم النظام، فهدف النظام الإنساني كمال كل فرد بقطعه السعادة أو الشقاوة على حسب ما يستعد له ويستحقه، ولازم ذلك بسط نظام الامتحان بينهم، ولازمه ارتفاع التمايز بين الرسل وغيرهم(43)، وقال ابن كثير في تفسيره في معنى الآية: أي اختبرنا بعضكم ببعض وبلونا بعضكم ببعض لنعلم من يطيع ممن يعصي، ولهذا قال (أتصبرون وكان ربك بصيرا) أي بمن يستحق أن يوحى إليه. كما قال تعالى: (الله أعلم حيث يجعل رسالته). ومن يستحق أن يهديه الله لما أرسلهم به ومن لا يستحق ذلك. وقال ابن إسحاق في قوله " وجعلنا بعضكم لبعض فتنة " أي لو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي فلا يخالفون لفعلت، ولكني قد أردت أن أبتلي العباد بهم وأبتليكم بهم.(44)
الهوامش
(1) سورة الحديد آية 21.
(2) سورة البقرة آية 131.
(3) سورة آل عمران آية 162.
(4) سورة النحل آية 123.
(5) سورة الأنعام آية 162.
(6) سورة الأعراف آية 128.
(7) أرميا 23 / 40.
(8) أرميا 17 / 2 - 4.
(9) سورة الإسراء آية 1.
(10) سورة الأنبياء آية 105.
(11) رواه مسلم (الصحيح 93 / 1).
(12) رواه مسلم (الصحيح 159 / 5).
(13) سورة النساء آية 47.
(14) الميزان 367 / 4.
(15) سورة المائدة آية 51.
(16) تفسير الميزان 373 / 5.
(17) سورة النساء آية 45.
(18) الميزان 363 / 4.
(19) سورة البقرة آية 120.
(20) الميزان 265 / 1.
(21) ابن كثير في التفسير 163 / 1.
(22) سورة آل عمران آية 100.
(23) سورة البقرة آية 109.
(24) سورة آل عمران آية 69.
(25) سورة العنكبوت آية 46.
(26) سورة المائدة آية 82.
(27) سورة آل عمران آية 199.
(28) سورة القصص آية 52.
(29) سورة طه آية 29 - 32.
(30) أنظر: لسان العرب مادة وزر ص 4824.
(31) أنظر: لسان العرب مادة كهن ص 3950.
(32) تفسير ابن كثير 147 / 3.
(33) سورة الأعراف آية 142.
(34) تفسير ابن كثير 243 / 2.
(35) سورة المزمل آية 15.
(36) تفسير ابن كثير 438 / 4.
(37) سورة الأحزاب آية 69.
(38) سورة الصف آية 5.
(39) سورة الأحزاب آية 57.
(40) سورة الأعراف آية 129.
(41) سورة يونس آية 14.
(42) سورة الفرقان آية 20.
(43) الميزان 194 / 15.
(44) ابن كثير في التفسير 313 / 3.
******************
ولما كان الناس يختبرون بالأنبياء والرسل. فإنهم يختبرون أيضا بتلاميذ وحواري وأوصياء الأنبياء والرسل. ولقد تم اختبارهم بأبناء هارون وبتلاميذ المسيح عليه السلام. ويشهد بذلك كتب التراجم والتواريخ والسير والأمة الخاتمة لم تستثنى من ذلك، ولقد قابلت دائرة هارون وبنوه في الشريعة الموسوية. دائرة علي بن أبي طالب وبنوه في الشريعة المحمدية، ففي الحديث الصحيح روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لعلي بن أبي طالب " أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ".(1) وفي رواية " أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا إنك لست نبيا. إنه لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي في كل مؤمن من بعدي "(2)، وروي أنه قيل لسفيان الثوري: حدثني بأحسن فضيلة عندك لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب. فقال: " حدثني سلمة بن كهيل عن حجية عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له " أنت مني بمنزلة هارون من موسى "(3)، وعن سعيد بن المسيب عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي " أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ". قال سعيد بن المسيب. ف أحببت أن أشافه بها سعد بن أبي وقاص. فلقيت سعدا. فحدثته بما حدثني عامر بن سعد. فقال سعد: أنا سمعته. فقلت: أنت سمعته؟ فوضع إصبعيه على أذنيه فقال: نعم وإلا فاسكتا (أي صمتا)(4)، وعن موسى الجهني قال: دخلت على فاطمة بنت علي. فقال لها رفيقي أبو سهل: كم لك؟
قالت: ست وثمانون سنة. قال: ما سمعت من أبيك شيئا؟ قالت:
حدثتني أسماء بنت عميس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لعلي " أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه ليس بعدي نبي ".(5)
وحديث المنزلة حديث صحيح رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي والحاكم وأحمد والطبراني وغيرهم، وقال ابن كثير: تقصى الحافظ ابن عساكر هذا الحديث في ترجمة علي بن أبي طالب في تاريخه فأجاد وأفاد وبرز على النظراء والأشباه والأنداد(6) وقال الحافظ الكتاني:
وحديث أنت مني بمنزلة هارون من موسى. حديث متواتر. جاء عن نيف وعشرين صحابيا.(7) وروى الحديث كل من: أبو سعيد الخدري، وابن عباس، وابن عمر، وجابر بن سمرة، والبراء بن عازب، وزيد بن أرقم، ومالك بن الحويرث، وسعد بن أبي وقاص، وقيس بن جنادة، وعلي بن أبي طالب، وعمر بن الخطاب، وأم سلمة، وأسماء بنت عميس. وغيرهم.(8)
ولما كانت الدعوة الإلهية لبني إسرائيل جعلت هارون وبنيه مع التوراة على خط واحد. فإن الدعوة الإلهية الخاتمة جعلت أهل البيت مع القرآن على خط واحد، فعن زيد بن أرقم قال: قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما فينا خطيبا بماء يدعى خما بين مكة والمدينة. فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر. ثم قال: أما بعد ألا أيها الناس. فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، فحث على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال " وأهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي ".(9)
وعن زيد بن ثابت قال. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إني تارك فيكم خليفتين. كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض وعترتي أهل بيتي وإنهما لا يتفرقا حتى يردوا على الحوض،(10) وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إني تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر.
كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي. وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض(11)، وعن حبيب بن أبي ثابت عن زيد بن أرقم قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض. وعترتي أهل بيتي. ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض. فانظروا كيف تخلفوني فيهما ".(12)
والعترة كما جاء في لسان العرب هي: ولد الرجل وذريته وعقبه من صلبه. وعترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم . ولد فاطمة البتول عليها السلام(13) وفي قوله " إني تارك فيكم الثقلين " قال النووي: سميا ثقلين لعظمهما وكبير شأنهما وقيل: لثقل العمل بهما.(14)
وحديث الثقلين حديث صحيح. رواه أحمد والطبراني عن زيد بن ثابت، والطبراني وأبو نعيم عن حذيفة بن أسيد، وابن أبي عاصم وأحمد والطبراني وأبو يعلى عن أبي سعيد الخدري، والترمذي والنسائي والحاكم عن زيد بن أرقم، وابن أبي شيبة والترمذي والنسائي والخطيب عن جابر. ومسلم عن زيد بن أرقم.(15)
فمنذ ذرأ الله ذرية آدم وهو سبحانه يزكي من يشاء، ويجعل سبحانه بعض الناس لبعض فتنة يمتحنون بها، وعلى امتداد المسيرة الإسرائيلية امتحن الله تعالى بني إسرائيل امتحانات شتى. ومنها امتحانهم بهارون وبنيه. ولم يكن لموسى عليه السلام ولد من صلبه.
وشاء الله أن يجعل امتداده في أخيه هارون وبنيه من بعده. وكان هارون وبنوه ذروة سبط لاوي الذي منه موسى وهارون عليهما السلام. وبهم!
امتحن الله تعالى بقية الأسباط. وعلى امتداد المسيرة سفكت الدماء الزكية عندما جاء الهداة لبني إسرائيل بما لا تهوى أنفسهم.
وعندما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم . امتحن الله أمته بامتحانات شتى بعد أن أقام عليهم الحجة، ومن هذه الامتحان بعترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وشاء الله أن يجعل امتداد النبي في ابنته فاطمة وعلي بن أبي طالب، ولما كانت منزلة علي من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمنزلة هارون من موسى عدا النبوة، فإن الدعوة الخاتمة أقامت الحجة في أكثر من موضع على مكانة علي بن أبي طالب من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، لتعليم القافلة دوائر التحذير فلا تقترب منها على امتداد المسيرة.
ومن الأحاديث التي تبين مكانة علي بن أبي طالب من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، أن الله تعالى جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم خير الناس نفسا، وجعل علي ابن أبي طالب كنفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم " إن الله خلق الخلق.
فجعلني في خيرهم فرقة. ثم جعلهم فرقتين فجعلني في خيرهم فرقة.
ثم جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة. ثم جعلهم بيوتا. فجعلني في خيرهم بيتا وخيرهم نفسا "،(16) وعن جابر بن عبد الله قال في قوله تعالى: (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم. فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم. ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين).(17) قال: قدم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم . العاقب والطيب.
فدعاهما إلى الملاعنة فواعداه على أن يلاعناه الغداة. فغدا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين، ثم أرسل إليهما. فأبيا أن يجيبا وأقرا له بالخراج، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: والذي بعثني بالحق.
لو قالوا لا لأمطر عليهم الوادي نارا، قال جابر وفيهم نزل قوله تعالى:
(فقل تعالوا ندع أبناءنا... الآية) قال جابر: " أنفسنا وأنفسكم.. رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي بن أبي طالب " وأبناءنا " الحسن والحسين، " ونساءنا " فاطمة، قال ابن كثير: رواه الحاكم وقال صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ورواه أبو داوود الطيالسي عن شعبة عن المغيرة.(18)
وجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب على ذروة العشيرة الأقربين. كما وضع موسى هارون على ذروة الأسباط، روي عن علي ابن أبي طالب أنه قال: " لما نزل قوله تعالى: (وأنذر عشيرتك الأقربين)(19) جمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أهل بيته فاجتمع ثلاثون. فأكلوا وشربوا. فقال لهم: من يضمن عني ديني ومواعيدي ويكون معي في الجنة ويكون خليفتي في أهلي، قال رجل: يا رسول الله أنت كنت بحرا من يقوم بهذا، ثم قال الآخر، فعرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا على أهل بيته واحدا واحدا، فقال علي: أنا "(20)، وفي رواية: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم " فأيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي ووارثي، فلم يقم إليه أحد، قال علي: فقمت إليه وكنت من أصغر القوم. فقال: إجلس. ثم قال مرة أخرى، كل ذلك أقوم إليه. فيقول لي: إجلس. حتى كان في الثالثة ضرب بيده على يدي)(21)، وفي رواية: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إني والله ما أعلم شابا في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على أمري هذا، فقال علي: أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه. فأخذ برقبتي.
وقال: إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا وأطيعوا ".(22)
وجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب على ذروة المهاجرين والأنصار، عن عمر بن عبد الله عن أبيه عن جده. أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، آخى بين الناس وترك عليا حتى بقي آخرهم لا يرى له أخا، فقال: يا رسول الله آخيت بين الناس وتركتني، قال: ولم تراني تركتك؟ تركتك لنفسي.
أنت أخي وأنا أخوك. فإن ذكرك أحد فقل: أنا عبد الله وأخو رسول الله لا يدعيها بعد إلا كذاب(23)، وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لعلي " أنت أخي في الدنيا والآخرة ".(24) قال ابن كثير: كان المشايخ يعجبهم هذا الحديث لكونه من رواية أهل الشام.(25)
وجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيت علي بن أبي طالب ذروة البيوت. فعن زيد بن أرقم قال: كان لنفر من أصحاب رسول الله أبواب شارعة في المسجد. فقال النبي يوما: سدوا هذه الأبواب إلا باب علي. فتكلم في ذلك الناس. فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فحمد الله وأثنى عليه. ثم قال: أما بعد. فإني أمرت بسد هذه الأبواب إلا باب علي، وقد قال فيه قائلكم، وإني والله ما سددت شيئا ولا فتحته، ولكن الله أمر بشئ فاتبعته "(26)، وفي رواية: قال صلى الله عليه وآله وسلم " ما أخرجتكم من قبل نفسي، ولا أنا تركته، ولكن الله أخرجكم وتركه، وإنما أنا عبد مأمور، ما أمرت به فعلت، إن أتبع إلا ما يوحى إلي ".(27)
وهذا الحديث رواه جمع من الصحابة منهم: سعد بن أبي وقاص، وزيد بن أرقم، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وجابر بن سمرة، وأنس بن مالك، وبريدة الأسلمي، وعلي بن أبي طالب. وقال السيوطي: ثبت بهذه الأحاديث الصحيحة بل المتواترة، أنه صلى الله عليه وآله وسلم منع فتح باب شارع في المسجد ولم يأذن لأحد ولا لعمه العباس ولا لأبي بكر، إلا لعلي، وقال الحافظ الكتاني: وقد أورد ابن الجوزي في الموضوعات حديث سد الأبواب مختصرا على بعض طرقه، وفي هذا قال الحافظ ابن حجر: وقد أخطأ ابن الجوزي في ذلك خطأ شنيعا لرده الأحاديث الصحيحة.(28)
وجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب على ذروة الجنود. عن أبي هريرة قال. إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال يوم خيبر " لأعطين هذه الراية رجلا يحب الله ورسوله " - وفي رواية عن مسلم: رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله - يفتح الله على يديه. قال عمر بن الخطاب. ما أحببت الإمارة إلا يومئذ فتساورت لها رجاء أن أدعى لها. فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب. فأعطاه إياها.. وقال: إمش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك. فسار علي شيئا ثم وقف ولم يلتفت وصرخ: يا رسول الله على ماذا أقاتل الناس؟ قال: قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله.(29)
ومن أحاديث الذروة أيضا ما روي عن جابر بن عبد الله قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليا يوم الطائف فانتجاه فقال الناس. لقد طال نجواه مع ابن عمه. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما انتجيته ولكن الله انتجاه(30) وفي رواية: قال أبو بكر: يا رسول الله قد طالت مناجاتك عليا. فقال: ما أنا انتجيته ولكن الله انتجاه(31) قال في تحفة الأحوازي: أي أني بلغت عن الله ما أمرني أن أبلغه إياه. فحينئذ انتجاه الله لا انتجيته. وقال الطيبي:
كان ذلك أسرار إلهية وأمور غيبية جعله من خزانها.(32)
ومن أحاديث الذروة. ما روي عن جابر. قال. لما سأل أهل قباء النبي صلى الله عليه وآله وسلم . أن يبني لهم مسجدا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ليقم بعضكم فيركب الناقة. فقام أبو بكر فركبها فلم تنبعث فرجع فقعد، فقام عمر فركبها فحركها فلم تنبعث فرجع فقعد، فقام علي. فلما وضع رجله في غرز الركاب وثبت به، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا علي ارخ زمامها. وابنوا على مدارها فإنها مأمورة.(33)
وعلى ضوء ما ذكرنا من الأحاديث الصحيحة. تشرق منزلة علي بن أبي طالب من رسول الله داخل أحياء قريش، فهو بين العشيرة الأقربين. أخو النبي ووصيه وخليفته، وهو بين المهاجرين والأنصار.
عبد الله وأخو رسول الله لا يدعيها بعد إلا كذاب، وبابه بين الأبواب.
هو الباب المفتوح. وعلم الجميع أن الله أخرجهم وتركه. وأن النبي في هذا مأمور. ما أمر به فعله إن يتبع إلا ما يوحى إليه، وفي ميادين القتال علم الخاص والعام. أن عليا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، وعلموا أن الله انتجاه، ويوم بناء المسجد علموا أن الناقة مأمورة.
وعلموا أن الكتاب والعترة لا يفترقا حتى يردا علي الحوض. وأن العترة في صلب علي وفاطمة عليهما السلام. لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ".. علي أصلي.. ".(34)
وبين إشراق منزلة علي من النبي صلى الله عليه وآله وسلم . وبين منزلة هارون من موسى عليهما السلام، يمتد ظلال الدعوة الإلهية، وتحت هذا الظلال تسير الأمة الخاتمة بمنهجها المهيمن على جميع المناهج، وقد حذرهم الله تعالى من السلوك في طريق الفراعنة. بعد أن جعل قياس النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى موسى. وقياس الأمة إلى فرعون وقومه.(35) وبعد أن حذرهم من أن يكونوا كالذين أذوا موسى.(36) وبعد أن علموا أن الله يزكي من يشاء.
ويجعل بعض الناس لبعض فتنة يمتحنون بها.
وعلى طريق المنزلة رويت أحاديث صحيحة. يرى فيها موقع الذروة الذي يستقيم مع موقع المنزلة. وسنذكر بعض هذه الأحاديث في موضعها.
2 - ( أضواء على المنزلة العالية )
قامت الدعوة الإلهية على امتداد المسيرة البشرية، بمخاطبة الإنسان الذي يسلك طريقها. وإرشاده إلى ما فيه سعادته، وحذرت من التقادر الذي يتلبس بالدين، لأن مهمة النفاق في ديار الذين آمنوا. لا تنفصل عن مهمة الشيطان الذي اعتمد في برنامجه القعود على الصراط المستقيم (قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم) )37)، وتيار الصد عن سبيل الله اعتمد على المنافقين في حفر الحفر العديدة على امتداد مسيرة الذين آمنوا، ومن خلال هذا الحفر رفعت الأعلام العديدة.
التي تقوم برامجها بالتعتيم على الفطرة، والقافلة الإسرائيلية لم تسقط في مستنقع عبادة العجول نتيجة لغزوها من الخارج، وإنما سقطت أولا من الداخل. على أيدي الذين يجلسون تحت خيامها ويتلبسون بالدين.
والدعوة الإلهية الخاتمة. بينت أن المنافقين ينقون الناس بالإيمان الكاذبة والحلفان الآثمة. ليصدقوا فيما يقولون. فيغتر بهم من لا يعرف جلية أمرهم. ويقتدي بهم فيما يفعلون ويصدقهم فيما يقولون، فيحصل بهذا ضرر كبير، وبينت الدعوة أن منهم أصحاب أشكال حسنة والسنة ذو فصاحة، وإذا سمعهم السامع يصغي إلى قولهم لبلاغتهم، ولهذا قال تعالى: (هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون).(38) وقال تعالى: (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا).(39)
ولقد وصفهم القرآن بأوصاف منها أنهم رجس، قال تعالى:
(إنهم رجس ومأواهم جهنم بما كانوا يكسبون)(40) فهم في دائرة الخبث والتنجس نتيجة لما تحتويه بواطنهم واعتقاداتهم، والذين في قلوبهم مرض ويتلبسون بالدين الخاتم ورثوا قلوب وعقول الذين سبقوهم من بني إسرائيل، فإذا كان الذين كفروا من بني إسرائيل لا يقبلون إلا ما يوافق أهواءهم. فإن المنافقين إذا سمعوا آية من كتاب الله زادتهم رجسا إلى رجسهم، قال تعالى: (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا. فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون).(41) قال المفسرون: " زادتهم رجسا إلى رجسهم " أي زادتهم شكا إلى شكهم وريبا إلى ريبهم. وهذا من جملة شقائهم. أن ما يهدي القلوب يكون سببا لضلالهم ودمارهم، كما أن سئ المزاج لو غذى بما غذى به لا يزيده إلا خبالا ونقصا.
ولأن تيار النفاق لا يزداد إلا رجسا، ولأنهم أصحاب السنة وإذا سمعهم السامع أصغى إلى قولهم لبلاغتهم، ولأن برنامج الصد عن سبيل الله إذا تلبس بالدين كان أشد خطرا على الدعوة، فإن الدعوة الخاتمة قامت بعزل هذا التيار عن ساحتها. وأقامت حجتها بطائفة الحق. وتحت سقف الامتحان والابتلاء تسير القافلة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا.
وطائفة الحق من خصائصها أن الله أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وبهذه الصفة كانوا مع كتاب الله ولن ينفصلا حتى يردا على حوض النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومعنى أنهم مع كتاب الله أنهم أعلم الناس بكتاب الله، وهم أمان للأمة من الوقوع في دائرة التأويل الخاطئ لكتاب الله.
وخاصة الآيات المتشابهة، وذلك لأن تيار الذين في قلوبهم زيغ يتخذ من المتشابه حقلا له إبتغاء الفتنة، قال تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه إبتغاء الفتنة وابتناء تأويله. وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب)(42) قال المفسرون: (فأما الذين في قلوبهم زيغ) أي ضلال وخروج عن الحق إلى الباطل " فيتبعون ما تشابه منه " أي إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة.
وينزلوه عليها لاحتمال لفظه لما يصرفونه، فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه. لأنه دافع لهم وحجة عليهم، ولهذا قال تعالى: (إبتغاء الفتنة) أي الاضلال لأتباعهم إيهاما لهم أنهم يحتجون على بدعتهم القرآن. وهو حجة عليهم لا لهم، وقوله تعالى " وابتغاء تأويله " أي تحريفه على ما يريدون.
لأن تيار الذين في قلوبهم زيغ والذين في قلوبهم مرض يتلبس بالدين ويجلس في خيام القافلة، أقام الله الحجة بالكتاب وبالعترة التي لا يضرها من عاداها أو من خذلها أو من خالفها لأنها شعاع يهدي والله تعالى ينظر إلى عباده كيف يعملون، وتطهير أهل البيت والشهادة لهم بالعلم والعمل، والتحذير من مخالفتهم. وغير ذلك. وردت فيه أحاديث صحيحة، سنقدمها ونقابلها بما في منزلة هارون من موسى عليهما السلام.
أولا - " مقام التطهير ":
قال تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا)(43) قال ابن عباس: " يذهب عنكم الرجس " أي عمل الشيطان وما ليس لله فيه رضا، وقال الأزهري: الرجس اسم لكل مستقذر من كل عمل، وقال ابن حجر: والمعنى. التطهير من الأرجاس والأدناس ونجاسة الآثام.(44)
وروى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: " خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله، ثم قال (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) (45)، وروي عن عمر بن أبي سلمة أنه قال: لما نزلت هذه الآية (إنما يريد الله...) دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة وحسنا وحسينا، فجللهم بكساء وعلي خلف ظهره فجلله بكساء، ثم قال " اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، قالت أم سلمة رضي الله عنها: وأنا معهم يا نبي الله. قال: أنت على مكانك وأنت على خير "(46)، وعن شداد بن عمار قال. دخلت على واثلة بن الأسقع وعنده قوم، فذكروا عليا رضي الله عنه فشتموه، فشتمته معهم، فلما قاموا.
قال لي شتمت هذا الرجل؟، قلت: قد شتموه فشتمته معهم، قال: ألا أخبرك بما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قلت: بلى، قال: أتيت فاطمة رضي الله عنها أسألها عن علي رضي الله عنه، فقالت: توجه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجلست أنتظره حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعه علي وحسن وحسين رضي الله عنهم. آخذا كل واحد منهما بيده حتى دخل، فأدنى عليا وفاطمة رضي الله عنهما وأجلسهما بين يديه، وأجلس حسنا وحسينا كل واحد منهما على فخذه، ثم لف عليهم كساءه، ثم تلى صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا). وقال اللهم هؤلاء أهل بيتي وأهل بيتي أحور(47)، وعن أبي الحمراء قال:
رابطت المدينة سبعة أشهر على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا طلع الفجر جاء إلى باب علي وفاطمة رضي الله عنهما. فقال:
" الصلاة الصلاة إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا "(48)، وعن أنس بن مالك قال: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يمر بباب فاطمة رضي الله عنها ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر، يقول " الصلاة يا أهل البيت. إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ".(49)
وحديث الكساء وردت فيه روايات جمة تزيد على سبعين حديثا رواها: أم سلمة، وعائشة، وأبي سعيد الخدري، وسعد بن أبي وقاص، وواثلة، وأبي الحمراء، وابن عباس، وثوبان، وعبد الله بن جعفر، وعلي، والحسين بن علي.
والمتدبر في حديث الكساء يجد أن أحداثه وقعت في أكثر من مكان، وقعت في بيت أم سلمة وفي بيت عائشة وفي بيت فاطمة وأمام أكثر من واحد، ويجد أيضا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان ينادي عند بيت فاطمة وقت صلاة الفجر لمدة ستة أشهر وفي رواية سبعة أشهر، وتكرار المشهد واستمرار النداء طيلة هذه المدة. يعطي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقيم بهذا الحجة على كل من سمع ورأى وصلى في مسجده. بأن هؤلاء هم أهل البيت، وكان عليه الصلاة والسلام إذا أراد أن يثبت أمرا من الأمور في ذاكرة من حوله، يكرر هذا الأمر من ثلاثة إلى عشر مرات، ووضح ذلك في روايات عديدة حملت تحذيرات مما يستقبل الناس من أحداث.
ينتج عنها ما ليس لله فيه رضا.
وإذا كانت دعاء الرسول لمن تحت الكساء وتلاوته صلى الله عليه وآله وسلم لآية التطهير، يعطي للناس مفهوم إذهاب الرجس والتطهير لمن تحت الكساء عليهم السلام، فإن الدعوة الإلهية لبني إسرائيل أعطت لبني إسرائيل نفس المفهوم. ولكن بطريقة تستقيم مع الشريعة في هذا الوقت، جاء في العهد القديم " قال الرب لموسى: وتقدم هارون وبنيه إلى باب خيمة الاجتماع. وتغسلهم بماء. وتلبس هارون الثياب المقدسة. وتمسحه وتقدسه ليكهن لي. وتقدم بنيه وتلبسهم أقمصة. وتمسحهم كما مسحت أباهم ليكهنوا لي ".(50)
ثانيا - " حكام العلم ":
إن العلم بالله هو ذروة كل العلوم وهو أشرف العلوم. لأن الله هو أشرف معلوم على الاطلاق، ولأن العلم بالله من أشق العلوم وأبعدها منالا، لطف الله بعباده وباح سبحانه بالعلم الشريف لأنبيائه ورسله ومن ارتضاه من عباده، ليسوقوا الناس إلى صراط الله العزيز الحميد، ويقيموا الحجة على كل سمع وكل بصر وكل فؤاد، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة.
الهوامش
(1) البخاري (الصحيح 300 / 2) مسلم (الصحيح 174 / 15) الترمذي (الجامع الصحيح 640 / 5).
(2) ابن أبي عاصم وتال الألباني، إسناده حسن ورجاله ثقات (كتاب السنة 565 / 2) وأحمد والحاكم (كنز العمال 606 / 11) (مستدرك الحاكم 133 / 3) (الفتح الرباني شرح مسند الإمام أحمد 204 / 21).
(3) ابن البخار (كنز العمال 151 / 13).
(4) مسلم (الصحيح 174 / 15).
(5) أخرجه الإمام أحمد وقال الهيثمي رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح غير فاطمة بنت علي وهي ثقة (الفتح الرباني 129 / 23).
(6) البداية والنهاية / ابن كثير 342 / 7.
(7) نظم المتناثر في الحديث المتواتر / الكتاني ص 195.
(8) المصدر السابق ص 195.
(9) مسلم (الصحيح 179 / 15) وأحمد والحاكم (الفتح الرباني 104 / 22).
(10) رواه أحمد وقال الهيثمي إسناده جيد (الزوائد 9 / 193) (الفتح الرباني105 / 22) والطبراني (كنز العمال 186 / 1).
(11) رواه أحمد والترمذي وقال حديث حسن والطبراني وقال المناوي رجاله موثقون (الفتح الرباني 186 / 1) (كتاب السنة 644 / 2).
(12) رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب (الجامع 663 / 5) وقال في تحفة الأحوازي رواه مسلم من وجه آخر (التحفة 290 / 10).
(13) لسان العرب ص 2796.
(14) مسلم شرح النووي 179 / 15.
(15) أنظر: كنز العمال ص 172، 173، 186، 187 / 1، 435 / 4، 290 / 5 وكتاب السنة ص 351، 644 / 2 والبداية والنهاية 209 / 5.
(16) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح (الجامع 584 / 5) ورواه أحمد (الفتح الرباني 266 / 21).
(17) سورة آل عمران آية 61.
(18) تفسير ابن كثير 370 / 1.
(19) سورة الشعراء آية 214.
(20) رواه أحمد وقال الهيثمي رجاله ثقات (الفتح الرباني 122 / 23) ورواه ابن جرير وصححه والطحاوي والضياء بسند صحيح (كنز العمال 129 / 13).
(21) رواه أحمد وابن جرير والضياء بسند صحيح (كنز العمال 175 / 13).
(22) رواه ابن إسحاق وابن جرير وابن بي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي (كنز العمال 133 / 13).
(23) رواه أحمد وأبو يعلى (كنز العمال 140 / 13) (تحفة الأحوازي 222 / 10).
(24) رواه الترمذي والحاكم وصححه (كنز العمال 598 / 11).
(25) البداية والنهاية 336 / 7.
(26) رواه أحمد وقال الهيثمي رجاله ثقات (الزوائد 114 / 9) (الفتح الرباني 118 / 23) والحاكم والضياء بسند صحيح (كنز 598 / 11)
(27) رواه البزار وقال الهيثمي رجاله ثقات (الزوائد 115 / 9) والطبراني (كنز العمال 600 / 11).
(28) نظم المتناثر في الحديث المتواتر ص 195.
(29) رواه مسلم (الصحيح 176 / 15) وأحمد (الفتح الرباني 132 / 23) والبخاري عن سلمة بن الأكوع (الصحيح 166 / 2) والحاكم عن جابر (المستدرك 38 / 3).
(30) رواه الترمذي وقال حديث حسن (الجامع 639 / 5) وابن كثير (البداية والنهاية 357 / 7).
(31) رواه الطبراني عن جنوب بن ناجية (كنز العمال 139 / 13).
(32) تحفة الأحوازي 231 / 10.
(33) رواه الطبراني في الكبير (كنز العمال 139 / 13).
(34) رواه الطبراني والضياء بسند صحيح (602 / 13 كنز).
(35) سورة المزمل آية 15.
(36) سورة الأحزاب آية 69.
(37) سورة الأعراف آية 16.
(38) سورة المنافقين آية 4.
(39) سورة النساء آية 145.
(40) سورة التوبة آية 95.
(41) سورة التوبة آية 125.
(42) سورة آل عمران آية 7.
(43) سورة الأحزاب آية 33.
(44) أنظر: الفتح الرباني 238 / 18.
(45) رواه مسلم (الصحيح 194 / 15) والحاكم (المستدرك 147 / 3).
(46) رواه الترمذي (الجامع 351 / 5) وابن جرير والطبراني وابن مردويه (تحفة الأحوازي 97 / 9) وابن كثير في التفسير (485 / 3).
(47) قال ابن كثير رواه الإمام أحمد وابن جرير (التفسير 483 / 3).
(48) قال ابن كثير رواه ابن جرير (التفسير 483 / 3).
(49) قال ابن كثير رواه الإمام أحمد (التفسير 483 / 3).
(50) سفر الخروج 4 / 11 - 16.
******************
روي عن الإمام علي أنه قال " إن أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاؤوا به " ثم تلى قوله تعالى: (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين)(1)، وروي عن مكحول قال لما نزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله تعالى: (وتعيها أذن واعية) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " سألت ربي أن يجعلها أذن علي " فكان علي يقول: ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئا قط فنسيته(2)، وعن ابن مرة الأسلمي قال. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي " إني أمرت أن أدنيك ولا أقصيك وأن أعلمك وأن تعي وحق لك أن تعي " فنزلت هذه الآية (وتعبها أذن واعية)(3) وعن أبي الطفيل قال. قال علي: سلوني عن كتاب الله فإنه ليس من آية إلا وقد عرفت بليل نزلت أم بنهار في سهل أم في جبل "(4)، وعن سليمان الأحمس قال. قال علي: إن ربي وهب لي قلبا عقولا ولسانا ناطقا.(5)
وفي قوله تعالى: (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه. ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به. ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده. فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن كثر الناس لا يؤمنون. ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين).(6)
روي عن علي بن أبي طالب أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " أفمن كان على بينة من ربه. أنا. ويتلوه شاهد منه. علي ".(7) وعن علي أنه قال: ما من رجل من قريش إلا نزلت فيه طائفة من القرآن. فقال له رجل: ما نزل فيك؟ قال: أما تقرأ سورة هود (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه) رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بينة من ربه. وأنا شاهد منه(8)، وقال صاحب الميزان: والظاهر. أن المراد بهذا الشاهد بعض من أيقن بحقية القرآن وكان على بصيرة إلهية من أمره. فآمن به عن بصيرة وشهد بأنه حق منزل من عند الله تعالى. كما يشهد بالتوحيد والرسالة. فإن شهادة الموقن البصير على أمر تدفع عن الإنسان مرية الاستيحاش وريب التفرد، فإن الإنسان إذا أذعن بأمر وتفرد فيه. ربما أوحش التفرد فيه إذا لم يؤيده أحد في القول به. أما إذا قال به غيره من الناس وأيد نظره في ذلك. زالت عنه الوحشة وقوى قلبه وارتبط جأشه.
وقد احتج تعالى بما يماثل هذا المعنى في قوله (قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم).(9) وعلى هذا فقوله (يتلوه) من التلو لا من التلاوة.
والضمير فيه راجع إلى " من " أو إلى " بينة " باعتبار أنه نور أو دليل.
ومآل الوجهين واحد. فإن الشاهد الذي يلي صاحب البينة يلي بينته كما يلي نفسه. والضمير في قوله " منه " راجع إلى " من " دون قوله " ربه " وعدم رجوعه إلى البينة ظاهر. ومحصل المعنى: من كان على بصيرة إلهية من أمر. ولحق به من هو من نفسه. فشهد على صحة أمره واستقامته.
وعلى هذا الوجه ينطبق ما ورد في الروايات أن المراد بالشاهد.
علي بن أبي طالب، إن أريد به أنه المراد بحسب انطباق المورد لا بمعنى الإرادة الاستعمالية. وقوله تعالى: (ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة) راجع. إلى الموصول أو إلى البينة على حد ما ذكرناه في ضمير " يتلوه " والجملة حال بعد حال، أي أفمن كان على بصيرة إلهية ينكشف له بها أن القرآن حق منزل من عند الله، والحال أن معه شاهد منه يشهد بذلك عن بصيرة، والحال أن هذا الذي هو على بينة سبقه كتاب موسى إماما ورحمة. فليس ما عنده من البينة ببدع من الأمر غير مسبوق بمثل ونظير، بل هناك طريق مسلوك من قبل يهدي إليه كتاب موسى، وقد ذكر الله تعالى كتاب موسى بالإمام والرحمة في موضع آخر. وهو قوله تعالى: (ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين).(10)
وإذا كان صدر الآية وهو قوله تعالى: (ويتلوه شاهد منه) قد ورد في تفسيره أن المراد بالشاهد علي بن أبي طالب. فإن قوله تعالى: (ومن قبله كتاب موسى إماما) يرى في ظلاله منزلة هارون من موسى عليه السلام. لأن موسى سأل ربه جل وعلا أن يؤيده بهارون ليشهد له شهادة الموقن البصير على أن الذي جاء به هو من عند الله. وهو قوله تعالى حاكيا عن موسى قوله (وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي رداءا يصدقني أني أخاف أن يكذبون)(11) قال ابن كثير: سأل ربه أن يرسل معه هارون وزيرا ومعينا ومقويا لأمره. يصدقه فيما يقول ويخبر به عن الله تعالى. لأن خبر الاثنين أنجح في النفوس من خبر الواحد ".(12) ويمكن القول أن الآية الكريمة يرى في ظلالها المنزلتين.
منزلة علي بن أبي طالب وهو من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم . ومنزلة هارون وهو من موسى عليهما السلام.
ومن الآيات التي تلقى بظلالها على منزلة علي من رسول الله.
قوله تعالى: (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد)(13) روي عن علي أنه قال:رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المنذر. وأنا الهادي(14) وفي لفظ: والهادي رجل من بني هاشم يعني نفسه، وروي لما نزلت الآية. وضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده على صدر علي وقال: أنا المنذر. وأومأ بيده إلى منكب علي وقال: أنت الهادي يا علي بك يهتدي المهتدون من بعدي "(15). وروي عن الجنيد أنه قال: الهادي هو علي بن أبي طالب.(16)
وبالجملة: روي في حديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لفاطمة رضي الله عنها " إني زوجتك أقدم أمتي سلما وأكثرهم علما وأعظمهم حلما ".(17) وروي عن ابن عباس أنه قال " أقضانا علي "(18) وعن ابن مسعود أنه قال " كنا نتحدث أن أقضى أهل المدينة علي ".(19)
بعد وضوح منزلة علي بن أبي طالب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على امتداد عهد البعثة، بدأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يمهد الساحة لإعلان ولاية علي بن أبي طالب، ومن ذلك قوله لعلي " أنت ولي في كل مؤمن بعدي "(20) وقوله لبريدة الأسلمي عندما جاءه يشكو عليا " فإنه مني وأنا منه. وهو وليكم بعدي. وإنه مني وأنا منه وهو وليكم بعدي "(21)، وراوي هذا الحديث هو ابن بريدة قال في الفتح الرباني: أقسم ابن بريدة أنه تلقى هذا الحديث من والده بريدة مباشرة ليس بينه وبينه واسطة، وهو يفيد أن والده تلقاه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة بغير واسطة، يشير بذلك إلى علو السند.(22)
وعندما جاء العام العاشر الهجري. خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى حجة الوداع. روي عن جابر بن عبد الله أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجته يوم عرفة، وهو على ناقته القصواء يخطب، فسمعته يقول: أيها الناس إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا، كتاب الله وعترتي أهل بيتي "(23)، وروي عن يحيى بن آدم. وكان قد شهد حجة الوداع، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: علي مني وأنا منه، ولا يؤدي عني إلا أنا أو علي ".(24)
وبعد أن أدى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المناسك، وعند عودته إلى المدينة، وقف في غدير خم، وهو مكان يقع على الطريق بين مكة والمدينة. على بعد ثلاثة أميال من الجحفة، وروي عن زيد بن أرقم أنه قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من حجة الوداع، فنزل غدير خم أمر بدوحات فقممن، ثم قام فقال: كأني قد دعيت فأجيب، إني قد تركت فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنهما لن يتفرقا حتى يردا على الحوض، ثم قال: إن الله مولاي وأنا مولى كل مؤمن، ثم أخذ بيد علي فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه. اللهم وال من والاه وعاد من عاداه " قيل لزيد بن أرقم: أأنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟
فقال: ما كان في الدوحات أحد إلا قد رآه بعينه وسمعه بأذنه.(25)
وعن عائشة بنت سعد قالت: سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخذ بيد علي فخطب ثم قال: أيها الناس إني وليكم. قالوا:
صدقت، فرفع يد علي فقال: هذا وليي والمؤدي عني وإن الله مولى من والاه ومعادي من عاداه ".(26)
وعندما نوزع علي بن أبي طالب أيام خلافته، ذكر الناس بهذا الحديث، فعن أبي الطفيل قال: جمع علي الناس في الرحبة ثم قال:
أنشد بالله كل امرئ مسلم سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول يوم غدير خم ما قال لما قام، فقام إليه ثلاثون من الناس، قال أبو نعيم: فقام إليه ناس كثير، فشهدوا حين أخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيده فقال: أتعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم. قالوا: بلى يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: من كنت مولاه فهذا مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه "،(27) وزاد في رواية: وأحب من أحبه وأبغض من أبغضه وانصر من نصره واخذل من خذله ".(28)
وقال في الفتح الرباني. قال السيوطي في الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة: حديث من كنت مولاه، أخرجه الترمذي عن زيد بن أرقم، والإمام أحمد عن علي وأبو أيوب الأنصاري، والبزار عن عمرو ذي مر. وأبي هريرة. وطلحة. وعمار وابن عباس. وبريدة، والطبراني عن ابن عمر. ومالك بن الحويرث. وحبشي بن جنادة.
وجرير. وسعد بن أبي وقاص. وأبي سعيد الخدري، وأبو نعيم عن جندع الأنصاري، وقد خصص له الهيثمي سبع صفحات.(29)
وقال الحافظ الكتاني: حديث من كنت مولاه في رواية لأحمد أنه سمعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثون صحابيا، وشهدوا به لعلي لما نوزع أيام خلافته، وصرح المناوي بتواتره، وقال ابن حجر: حديث من كنت مولاه أخرجه الترمذي والنسائي وهو كثير الطرق. وقد استوعبها ابن عقدة في مؤلف مفرد، وأكثر أسانيدها صحيح أو حسن.(30)
وقال ابن كثير: حديث من كنت مولاه رواه الإمام أحمد عن زيد بن أرقم. وقد رواه عن زيد بن أرقم جماعة، ورواه معروف بن جرموز عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد، ورواه ابن ماجة من حديث حماد بن سلمة عن علي بن زيد. ورواه عن عدي بن ثابت بن البراء.
وعن أبي إسحاق عن البراء. ورواه عن سعد وطلحة بن عبد الله وجابر بن عبد الله. وله طرق عنه.(31)
وقال الألباني: حديث من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، حديث صحيح جاء من طرق جماعة من الصحابة، خرجت أحاديث سبعة منهم، ولبعضهم أكثر من طريق واحد، وقد خرجتها كلها وتكلمت على أسانيدها في سلسلة الأحاديث الصحيحة.(32)
ولما كنا قد قابلنا بعض الأحداث التي جرت في عهد البعثة الخاتمة. بمثيلاتها على عهد أنبياء بني إسرائيل. ونحن نرصد منزلة هارون من موسى. فإننا نجد في مقام التطهير والعلم " وكلم الرب هارون قائلا: خمر ومسكر لا تشرب أنت وبنوك معك.. فرضا دهريا في أجيالكم. وللتمييز بين المقدس والمحلل. وبين النجس والطاهر.
ولتعليم بني إسرائيل جميع الفرائض التي كلم الرب بها بيد موسى ".(33)
ولقد علمنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن أدى المناسك. أعلن ولاية علي بن أبي طالب. وفي مقابل هذا الحدث، نجد العهد القديم يذكر أنه في اليوم الثامن من الشهر الذي تؤدي فيه المناسك، أمر موسى هارون أن يأخذ له عجلا ليذبحه في اليوم الذي يفيض الله برحمته على العباد، وفعل هارون ما أمر به موسى. " ثم رفع هارون يده نحو الشعب وباركهم.. ودخل موسى وهارون خيمة الاجتماع ثم خرجا وباركا الشعب ".(34)
إن الدعوة الإلهية للناس دعوة واحدة. والتوحيد هو عماد هذه الدعوة. والإخلاص في العبادة يجعل شجرة التوحيد داخل النفس الإنسانية شجرة مورقة، لهذا كان الإخلاص في العبادة أفضل الأمور الدينية ومن أوجب الواجبات الشرعية، ولكي يتحقق الإخلاص. فلا بد من حفظ الصلة بالله عز وجل، والمدخل إلى حفظ الصلة بالله. هو حفظ الصلة بالرسول، لأن النور المحمدي هو البرزخ الذي بين الناس وبين النور الإلهي الذي تندك له الجبال، وحفظ الصلة بالرسول له قواعد وله علامات وقديما قالت العرب:.
إذ لم يكن صدر المجالس سيدا * فلا خير فيمن صدرته المجالس
3 ـ (الترغيب والترهيب)
إن حفظ الصلة بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم حثت عليه الدعوة الخاتمة في أكثر من آية، منه قوله تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله)(35)، والمعنى: إن كنتم تريدون أن تخلصوا لله في عبوديتكم، فاتبعوا هذه الشريعة التي هي مبنية على الحب والتي ترفع أعلام الإخلاص والإسلام. وتسير بأتباعها نحو صراط الله المستقيم فإن اتبعتموني في سبيلي أحبكم الله. ومنه قوله تعالى (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين).(36) والآية تشير إلى سبيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفيها يأمره تعالى أن يخبر الناس أن هذه سبيله. أي طريقته ومسلكه وسنته، وأن هذا السبيل هو الذي يصل بمن يسلكه إلى سعادة الدارين، لأن النبي يدعو إلى الله على بصيرة ويقين وبرهان، وكل من اتبعه يدعو إلى ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومنه قوله تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور).(37) في هذه الآية جعل الله تعالى أجر رسالة النبي المودة في القربى، فأي قربى؟
إن مودة الأقرباء على الاطلاق ليست مما يندب إليه في الإسلام قال تعالى: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه)(38)، والذي يندب إليه الإسلام هو الحب في الله، وبما أن لكل شئ ذروة، فإن الحب في الله ذروته حب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولهذا قيل أن المراد بالمودة في القربى. هو مودة قرابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهم عترته من أهل بيته، ومن يتأمل في الروايات المتواترة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم . كحديث الثقلين وغيره، يجد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دفع الناس في اتجاه أهل البيت لفهم كتاب الله بما فيه من أصول معارف الدين وفروعها وبيان حقائقه، وهذا لا يدع ريبا في أن إيجاب مودتهم وجعلها أجرا للرسالة. إنما كان ذريعة إلى إرجاع الناس إلى أهل البيت. على إعتبار أن لهم المرجعية العلمية.
وروي عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى " قالوا: يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت مودتهم؟ قال: علي وفاطمة وولداه)39)، وعن أبي الديلم قال: لما جيئ بعلي بن الحسين أسيرا فأقيم على درج دمشق، قام رجل من أهل الشام فقال: الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم فقال له علي بن الحسين: أقرأت القرآن؟ قال: نعم قال: أقرأت آل حم؟ قال: نعم قال:
أما قرأت " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى "؟ قال: فإنكم لأنتم هم؟ قال: نعم.(40)
ومما يثبت أن المقصود بذي القربى: علي وفاطمة وولداها.
تحذير النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الاقتراب منهم بأذى. لأن من يؤذيهم يكون في الحقيقة قد آذى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويقع تحت عقوبة لا يدفعها دافع، قال تعالى: (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا)(41) ومن المعلوم أنه لا يوجد مخلوق يمكن أن يتقدم بأذى لله تعالى، ولكن الآية تتوعد كل من آذى النبي بشئ، لأن من آذاه فقد آذى الله، كما أن من أطاعه فقد أطاع الله.
وتحذيرات النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الاقتراب بأي أذى لعترته، وردت في أحاديث كثيرة، منه ما روي عن سعد بن أبي وقاص قال: كنت جالسا في المسجد أنا ورجلين معي فنلنا من علي، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غضبان يعرف في وجهه الغضب، فتعوذت بالله من غضبه، فقال: ما لكم وما لي من آذى عليا فقد آذاني "،(42) ومنه ما روي عن عمرو بن شاس الأسلمي. قال. خرجت مع علي إلى اليمن. فجفاني في سفري ذلك. حتى وجدت في نفسي عليه. فلما قدمت أظهرت شكايته في المسجد. حتى بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . فلما رآني أبدى عينيه (أي حدد إلي النظر) حتى إذا جلست قال: يا عمرو والله لقد آذيتني.
قلت أعوذ بالله أن أؤذيك يا رسول الله. قال: بلى من آذى عليا فقد آذاني(43) ومنه ما روي عن المسور بن مخرمة قال. قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنما فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها.(44)
وبالجملة إن الدعوة الإلهية الخاتمة بينت أن الإخلاص في العبادة أفضل الأمور الدينية ومن أوجب الواجبات الشرعية. وبينت إن حفظ الصلة بالرسول هو صراط حفظ الصلة بالله. فمن آذى الرسول فقد آذى الله ومن أطاع الرسول فقد أطاع الله.
ولأن المنافقين في كل عصر يعملون من أجل تدمير الدعوة من داخلها، فإن الدعوة الإلهية الخاتمة فتحت بين حركة النفاق وبين حركة الإيمان، لتصحيح الساحة بعد هذا الفتح من طرفين، لكل طرف أعلامه ومذاقه، لتسير القافلة وهي على بينة من أمرها، لينظر الله إلى عباده كيف يعملون، وهذا الفتح يرى بوضوح إذا تدبر الباحث في الأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومنها ما روي عن علي بن أبي طالب أنه قال: " والذي خلق الحبة وبرأ النسمة. إنه لعهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلي. أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق "(45)، وما روي عن أبي ذر أنه قال. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي: يا علي من فارقني فارق الله. ومن فارقك يا علي فارقني "(46)، وما روي عن عبيد الله بن عباس قال: نظر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى علي فقال: يا علي أنت سيد في الدنيا. سيد في الآخرة. حبيبك حبيبي. وحبيبي حبيب الله. وعدوك عدوي. وعدوي عدو الله. الويل لمن أبغضك بعدي ".(47)
وما روي عن أسرة عمار ابن ياسر. فعن أي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن أبيه عن جده أنه قال. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " أوصي من آمن بي وصدقني بولاية علي بن أبي طالب. فمن تولاه فقد تولاني.
ومن تولاني فقد تولى الله. ومن أحبه فقد أحبني ومن أحبني فقد أحب الله. ومن أبغضه فقد أبغضني ومن أبغضني فقد أبغض الله عز وجل "(48)، وعنه أيضا قال. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم من آمن بي وصدقني فليتولى علي بن أبي طالب. فإن ولايته ولايتي وولايتي ولاية الله(49) وقيل لسلمان الفارسي: ما أشد حبك لعلي. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من أحب عليا فقد أحبني ومن أبغض عليا فقد أبغضني(50). وقيل لعمار بن ياسر. ما أشد حبك لعلي. فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا عمار إن رأيت عليا قد سلك واديا وسلك الناس واديا غيره. فاسلك مع علي ودع الناس.(51)
وما روي عن أسرة أبي رافع. فعن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه عن جده قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا أبا رافع سيكون بعدي قوم يقاتلون عليا. حق على الله جهادهم. فمن لم يستطع جهادهم بيده فبلسانه. ومن لم يستطع بلسانه. فبقلبه ليس وراء ذلك شئ،(52) وعن عمار بن ياسر قال. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا علي ستقاتلك الفئة الباغية وأنت على الحق. فمن لم ينصرك يومئذ فليس مني،(53) وعمار راوي هذا الحديث. قاتل مع الإمام عليا. وقتل في صفين. وكان النبي قد أخبر بقتله وهو يخبر بالغيب عن ربه جل وعلا، روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار.(54)
وبالجملة: عن أبي سعيد الخدري قال. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يبغضنا أهل البيت أحدا إلا أدخله الله النار.(55) وعن أبي هريرة قال: نظر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى علي وابنيه وفاطمة وقال: أنا حرب لمن حاربكم وسلم لس سالمكم.(56)
ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل الكتاب والعترة في حبل واحد. وأخبر بالغيب عن ربه بأنهما لن ينفصلا حتى يردا علي الحوض. ولأنه صلى الله عليه وآله وسلم حث الأمة في أكثر من مكان بأن تمسك بهذا الحبل لأنه واقي لها من الضلال. وقال " فانظروا كيف تخلفوني فيهما " فإنه أخبر بالغيب عن ربه بأن أهل بيته سيلقون بعده من الأمة قتلا وتشريدا، وكما حذر موسى عليه السلام بني إسرائيل من الاختلاف في الوقت الذي خبر فيه بأنهم سيختلفون وهو يخبر بالغيب عن ربه، كذلك فعل النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم، كان يحذر من الاختلاف ويقول " لا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا "،(57) وفي نفس الوقت يخبر بالغيب عن ربه. ويقول " إن بني إسرائيل تفرقت إحدى وسبعين فرقة فهلك سبعون فرقة. وخلصت فرقة واحدة. وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة. تهلك إحدى وسبعون وتخلص فرقة. قيل: يا رسول الله من تلك الفرقة؟ قال:
الهوامش
(1) رواه اللالكائي (كنز العمال 379 / 1).
(2) رواه ابن أبي حاتم وابن جرير (تفسير ابن كثير 413 / 4) ورواه الضياء بسند صحيح وابن مردويه وأبو نعيم (كنز العمال 177 / 13.
(3) رواه ابن أبي حاتم وابن جرير (تفسير ابن كثير 413 / 4).
(4) رواه ابن سعد (الطبقات الكبرى 338 / 2).
(5) رواه ابن سعد (الطبقات الكبرى 338 / 2).
(6) سورة هود آية 17، 18.
(7) رواه ابن مردويه بإسنادين (كنز العمال 439 / 2.
(8) رواه ابن مردويه وابن أبي حاتم وأبو نعيم (كنز العمال 439 / 2).
(9) سورة الأحقاف آية 10.
(10) سورة الأحقاف آية 12.
(11) سورة القصص آية 34.
(12) تفسير ابن كثير 388 / 3.
(13) سورة الرعد 7.
(14) رواه ابن أبي حاتم (كنز العمال 441 / 2).
(15) الفتح الرباني 185 / 18.
(16) الفتح الرباني 185 / 18، تفسير ابن كثير 501 / 2.
(17) رواه الإمام أحمد وقال الهيثمي رجاله ثقات (الزوائد 101 / 9) (الفتح الرباني 133 / 23) وابن جرير وصححه عن علي (كنز العمال 114 / 13) والخطيب عن بريدة) (كنز العمال 135 / 13) والطبراني عن معقل بن يسار (كنز العمال 605 / 11).
(18) رواه البغوي في شرح السنة. والبخاري في التفسير وأبو نعيم (كشف الخفاء 184 / 1).
(19) رواه الحاكم وصححه (كشف الخفاء 184 / 1).
(20) رواه أحمد وقال الهيثمي رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح غير أبي بلج وهو ثقة وفيه لين (الفتح الرباني 116 / 23) وقال ابن كثير رواه أبو داوود الطيالسي (البداية 346 / 7) وصححه الألباني (الصحيحة 263 / 5).
(21) رواه أحمد وقال في الفتح رواه الترمذي باختصار والبزار باختصار وفيه الأجلح الكندي وثقه ابن معين وبقية رجال أحمد رجال الصحيح (الفتح الرباني 214 / 21).
(22) الفتح الرباني 214 / 21.
(23) رواه الترمذي وقال حديث حسن (الجامع 662 / 5) والنسائي (كنز العمال 172 / 1).
(24) رواه أحمد (الفتح الرباني 121 / 23) والترمذي وقال حديث حسن (الجامع 636 / 5) وصححه الألباني (الصحيحة 632 / 5).
(25) رواه ابن جرير من زيد بن أرقم وعن أبي سعيد الخدري (كنز العمال 104 / 13) والنسائي (البداية 209 / 5).
(26) قال ابن كثير: رواه ابن جرير وقال الذهبي هذا حديث حسن. وقال وجدت ذلك في نسخة مكتوبة عن ابن جرير (البداية 213 / 5).
(27) رواه أحمد وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح غير فطر بن خليفة وهو ثقة (الزوائد 104 / 9).
(28) رواه البزار وابن جرير وقال الهيثمي رجاله ثقات (كنز العمال 158 / 13) وصححه الألباني (الصحيحة 343 / 5).
(29) النتح الرباني 128 / 23).
(30) نظم المتناثر في الحديث المتواتر ص 195.
(31) البداية والنهاية 350 / 5.
(32) كتاب السنة / ابن أبي عاصم. تحقيق نصر الدين الألباني ص 566 / 2.
(33) اللاويين 10 / 8 - 11.
(34) المصدر السابق 9 / 22 - 24.
(35) سورة آل عمران آية 31.
(36) سورة يوسف آية 108.
(37) سورة الشورى آية 23.
(38) سورة المجادلة آية 22.
(39) رواه الطبراني وقال الهيثمي فيه جماعة ضعفاء وقد وثقوا (الزوائد 168 / 9) وأخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(40) أخرجه ابن جرير. والبغوي (تفسير البغوي 364 / 7) والمقريزي (فضائل أهل البيت ص 72).
(41) سورة الأحزاب آية 57.
(42) أخرجه الإمام أحمد وقال الهيثمي رجال أحمد ثقات (الزوائد 129 / 9) (الفتح الرباني 120 / 23) ورواه الحاكم وصححه (المستدرك 122 / 3) ورواه البزار (كشف الأستار 200 / 3) ورواه ابن حبان في صحيحه (الزوائد 129 / 9) ورواه ابن أبي شيبة وابن سعد والبخاري في تاريخه والطبراني (كنز العمال 142 / 131) وابن كثير (البداية 347 / 7).
(43) رواه أبو يعلى وقال الهيثمي رجاله ثقات (الزوائد 129 / 9) وابن كثير (البداية 347 / 7).
(44) رواه مسلم (الصحيح 3 / 16) والبخاري بلفظ: فمن أغضبها أغضبني (الصحيح 2 / 302).
(45) رواه مسلم (الصحيح 64 / 2) والترمذي (الجامع 643 / 5) وأحمد (الفتح الرباني 122 / 23).
(46) رواه البزار وقال الهيثمي رجاله ثقات (كشف الأستار 3 / 201) (الزوائد 135 / 9) والحاكم وصححه (المستدرك 121 / 3).
(47) رواه الحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين وأبو الأزهر بإجماعهم ثقة وإذا تفرد الثقة بحديث فهو على أصلهم صحيح والحديث سمعه يحيى بن معين من أبي الأزهر فصدقه (المستدرك 128 / 3) ورواه ابن كثير (البداية 356 / 7).
(48) رواه الطبراني في الكبير وابن عساكر (كنز العمال 610 / 11).
(49) رواه الطبراني في الكبير (كنز 611 / 11).
(50) رواه الحاكم وقال حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه (المستدرك 130 / 3).
(51) رواه الديلمي (كنز العمال 614 / 11).
(52) رواه الطبراني (كنز العمال 613 / 11) وقال الهيثمي رواه الطبراني وفيه محمد بن عبد الله وثقه ابن حبان. ويحيى بن الحسين لم أعرفه وبقية رجاله ثقات (الزوائد 134 / 9).
(53) رواه ابن عساكر (كنز العمال 613 / 11).
(54) رواه البخاري ك الصلاة ب التعاون في بناء المساجد. ورواه أحمد (الفتح الرباني 331 / 22).
(55) رواه الحاكم وقال حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه (المستدرك 150 / 3).
(56) رواه الحاكم وقال حديث صحيح ولم يخرجاه (المستدرك 149 / 3) وأحمد (الفتح الرباني 106 / 22) والترمذي عن زيد بن أرقم (الجامع 699 / 5) وابن ماجة والحاكم عن زيد (كنز 96 / 12) والطبراني وأحمد والحاكم عن أبي هريرة (كنز 97 / 12) وابن أبي شيبة وابن حبان في صحيحه والضياء بسند صحيح عن زيد (كنز 640 / 13).
(57) رواه البخاري (كنز العمال 177 / 1).
******************
الجماعة الجماعة.(1)
لقد كان الإخبار بالغيب فيما يستقبل الناس من أحداث، لطف من الله ليعلم سبحانه من يخافه بالغيب فلا يأخذوا بالأسباب التي عليها التحذير، ويأخذوا بالأسباب التي فيها لله ولرسوله رضا، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر الأمة بأن تأخذ بطرف الحبل الذي عليه الكتاب والعترة، ثم يخبر بالغيب عن ربه فيقول " إن أهل بيتي سيلقون بعدي من أمتي قتلا وتشريدا "،(2) وعن علي بن أبي طالب أنه قال: إن مما عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن الأمة ستغدر بك بعدي.(3) وكل طريق له أسبابه. والله تعالى ينظر إلى عباده كيف يعملون.
ولأن الطريق عليه لاختلاف وافتراق وغدر ونفي وقتل وتشريد.
ظهرت النتيجة عند الحوض في إخبار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالغيب عن ربه، فعن سهل قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: أنا فرطكم على الحوض. من ورد شرب ومن شرب لم يظمأ أبدا. وليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفونني. ثم يحال بيني وبينهم(4)، وعن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنا فرطكم على الحوض. ولأنازعن أقواما. ثم لأغلبن عليهم.
فأقول: يا رب أصحابي أصحابي. فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك(5) وفي رواية عن أبي هريرة بزيادة: إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى(6)، وفي رواية عن ابن عباس:
فيقال: إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم(7)، وفي رواية عن أم سلمة: فناداني مناد من بعدي. فقال: إنهم قد بدلوا من بعدك. فأقول: سحقا سحقا لمن بدل بعدي.(8)
لقد حذر النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم من النتيجة التي لا تستقيم مع المقدمة، ولم تجامل الدعوة الإلهية الخاتمة أحدا بعد أن أقامت حجتها، يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم " ليردن على الحوض رجال ممن صحبني ورآني... "(9) ولم تغن عنهم الصحبة من الله شيئا، وقال " إن من أصحابي من لا يراني بعد أن أموت أبدا "(10) ومعنى أن تعطي النتيجة قطع صلتهم بالنبي في الآخرة، أنهم قطعوا الصلة يوم أن سارت القافلة تحت سقف الامتحان والابتلاء لينظر الله إلى عباده كيف يعملون، قال تعالى:
(أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون. ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين).(11)
وإذا كانت الدعوة الإلهية الخاتمة قد حذرت كل من يقترب من سبيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأي أذى. فإن الدعوة الإلهية إلى بني إسرائيل حذرت كل من يقترب من هارون وبنيه بأذى. جاء في العهد القديم.
بأن الله كلم موسى عليه السلام. وأمره بأن يقدم سبط لاوي أمام هارون ليخدموه ويحفظوا شعائره. ويخدمون خيمة الاجتماع ويحرسون أمتعتها. وقال له " وتوكل هارون وبنيه فيحرسون كهنوتهم والأجنبي الذي يقترب يقتل ".(12)
4 - (رحيل النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم)
لقد جاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالأدلة المقبولة. والمعجزات التي هي بلسان التواتر منقولة، وقد قال المسيح عليه السلام: من قبل ثمارهم تعرفونهم، وقد علم المخالف والموالف. أن محمدا رسول الله لم تثمر شجرته عبادة غير الله ولم يشرك مع الله غيره، ولا جعل له ندا من خلقه ولا ولدا، ولا قال لأمته اعبدوا إلهين اثنين ولا ثالث ثلاثة، ولا عبد رجلا ولا عجلا ولا كوكبا، بل دعا إلى ملة إبراهيم. إله واحد لا إله إلا هو، وأخلص لله وحده، ونزهة عن النقائض والآفات، وجاء بكتاب من عند الله أمر فيه بطاعة الله، ونهى عن معصيته، وزهد في الدنيا ورغب في الآخرة. وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وأمر ببر الوالدين وصلة الرحم وحفظ الجار، وفرض الصدقات، وأمر بالصوم والصلاة، وحث على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، ثم كسر الأصنام وعطل الأوثان. وأخمد النيران وأعلن الآذان. فهذه هي ثمار النبي صلى الله عليه وآله وسلم . الذي بعثه الله والناس في ظلمة الجهل والانحراف. فأنار الطريق وأقام الحجة. وبين منهجه للبشرية الطريق الذي يحقق السعادة في الدنيا بما يوافق الكمال الأخروي، لأنه يمد الإنسان بالوقود الذي يميز به بين الحلال وبين الحرام، وينطلق بالإنسان نحو الأهداف التي من أجلها خلقه الله، بالوسائل التي لله فيها رضا، ومن خلال المنهج الإسلامي يحفظ الإنسان صلته بالله ورسوله، لأن المنهج يقوم على أوامر الله، فهو سبحانه مصدر جميع السلطات وإليه تنتهي جميع القرارات، لأنه تعالى مصدر الخلق والتكوين. وواهب الحياة ومقوماتها، فكما أن له سبحانه الخلق والإبداع. كذلك له الأمر والنهي.
وبعد أن أقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحجة. حانت الساعة التي يدعى فيها فيجيب، وعلى فراش المرض أخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالأسباب حتى لا تختلف الأمة من بعده. وهو يعلم أن الاختلاف واقع لا محالة، ونظام العالم هو نظام الأسباب والمسببات، والإنسان مطالب بأن يكون اعتماده على الله عند أخذه بالأسباب وفي كل حال، وعلى هذا سار الأنبياء والرسل عليهم السلام، كانوا يخبرون بالغيب عن الله بما يستقبل الناس من فتن وأهوال، ثم يأخذون بالأسباب فيحذرون الناس من مخاطر الطريق.
عن ابن عباس قال: لما حضر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: هلم أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده، فقال عمر: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد غلبه الوجع وعندكم القرآن.
حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت فاختصموا منهم من يقول: قربوا يكتب لكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتابا لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قاله عمر، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: قوموا! " فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية، ما حال بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب. من اختلافهم ولغطهم! ".(13) وفي رواية: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم " قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع "،(14) وروي عن جابر بن عبد الله " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعا عند موته بصحيفة ليكتب فيها كتابا لا يضلون بعده، فخالف عليها عمر بن الخطاب حتى رفضها "(15)، وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس إنه قال: يوم الخميس وما يوم الخميس، ثم جعل تسيل دموعه، حتى رأيت على خديه كأنها نظام اللؤلؤ، قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " أئتوني بالكتف والدواة - أو اللوح والدواة - أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا، فقالوا؟ إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يهجر.(16)
قال ابن الأثير: القائل هو عمر بن الخطاب.(17) ومعنى هجر.
قال في لسان العرب: يهجر هجرا. إذا كثر الكلام فيما لا ينبغي. وهجر يهجر هجرا. بالفتح: إذا خلط في كلامه وإذا هذى(18) وقال في المختار الهجر: الهذيان(19) وقال في المعجم. هجر المريض: هذى.(20)
لقد اختلفوا وأكثروا اللغط ولا ينبغي عند رسول الله التنازع، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون).(21) وقال جل شأنه (فليحذر الذين يخالفون من أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم).(22) وقال (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وإنه إليه تحشرون. واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب).(23)
ومن يتدبر في أحداث يوم الصحيفة ويمسك بأطرافها، تجد أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يكتب لهم كتاب يكون سببا في الأمن من الضلال، وهذا السبب كان كافيا لتنفيذ الأمر، ولكن بعض الذين حضروا قالوا " هجر "، فكانت هذه الكلمة كافية ليمسك الرسول عن كتابة الصحيفة، لأنها ربما تكون مدخلا لتشكيك البعض في كل ما كتب من وصايا وعهود ويترتب على ذلك فتن عديدة، ويشهد بذلك ما روي عن ابن عباس أنه قال " قالوا: إن نبي الله ليهجر، فقيل له: ألا نأتيك بما طلبت؟
قال: أو بعد ماذا! "،(24) وأمر الرسول إليهم بأن يأتوه بصحيفة لتكتب لهم الكتاب، هذا الأمر في حد ذاته كافيا لإقامة الحجة عليهم وإن لم يأتوا إليه بالصحيفة، ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أقام الحجة على الأمة بالبلاغ في حجة الوداع وقبلها وبعدها في غدير خم.
وقد احتج البعض أن قولهم " حسبنا كتاب الله " يستند إلى أن الكتاب جامع لكل شئ، وقولهم هذا ينتج إشكالا، لأن الكتاب الجامع لكل شئ أمر بطاعة الرسول، وعلى الرغم من أن الكتاب جامع إلا أنه ليس في استطاعة كل واحد أن يستخرج منه ما يريده على وجه الصواب، لهذا فوض الله رسوله في أن يبين للناس ما أنزل إليهم من ربهم، ولأن الناس في حاجة إلى السنة مع كون الكتاب جامعا، جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عترته مع الكتاب في حبل واحد ولن يفترقا حتى يردا عليه الحوض، وبالجملة: لما كان الكتاب به آيات متشابهات. وهذه الآيات يتتبعها الذين في قلوبهم زيغ لإثارة الفتن ولتأويل الكتاب، حتى ينتهي تأويلهم إلى تعطيل الحكم بالكتاب، ولما كان الكتاب مع كونه جامعا لكل شئ لا يحقق دوام الهداية وعدم الاختلاف. بدليل أن الضلال وقع والتفريق وقع فعلا، فإن الأمن من الضلال لا يكون إلا بالكتاب. ومعه الطاهر الذي يتأوله، ويمكن للباحث أن يستنتج ذلك، إذا ربط بين أمر الرسول وهو على فراش المرض. وبين البلاغ الذي أقام به الحجة قبل ذلك، فيوم الصحيفة قال صلى الله عليه وآله وسلم " آتوني بصحيفة ودواة أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا "(25) وفي بلاغه. قال صلى الله عليه وآله وسلم " إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي. أحدهما أعظم من الآخر. كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض. فانظروا كيف تخلفوني فيهما ".(26)
الطريق إلى المهدي المنتظر
أولا - (نور الظلام)
أولا - ( موكب الحجة )
بعد وفاة النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم، انطلقت المسيرة الخاتمة تحت سقف الامتحان والابتلاء بعد أن أقيمت عليها الحجة في عهد البعثة، قال تعالى: (ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات ما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين. ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون)(27) ومن فضل الله تعالى على بني الإنسان أنه أحاط القافلة البشرية الخاتمة بالحجة الدائمة، بمعنى أن المعجزات التي كان الله تعالى يؤيد بها رسله قبل البعثة الخاتمة كانت تنتهي بوفاة الرسول، ولكن الله عندما إستخلف الأمة الخاتمة أيدها بمعجزات. منها ما انتهى بوفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومنها ما إستمر بعد وفاة النبي وسار مع القافلة على امتداد المسيرة، ومن هذا القرآن الكريم وأحاديث الإخبار بالغيب، فهذه المعجزات مهمتها إرشاد بني الإنسان إلى طريق الهداية. الذي تتحقق عليه السعادة في الدنيا بما يوافق الكمال الأخروي، وهي شاهد صدق على نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بمعنى أن إرشاد النبي وتعاليمه، هي في حقيقة الأمر دعوة إلى الجنس البشري على امتداد المسيرة من الحاضر إلى المستقبل. للإيمان بنبوة النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم، فمن تبين حقيقة إرشاده، ولم يؤمن به في أي زمان، كان كمن كذبه عند بداية البعثة ونزول الوحي، ويقتضي المقام أن نلقي بعض الضوء على هذه المعجزات.
1 - (القرآن الكريم):
القرآن معجزة باقية حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وقد تولى الله حفظه فلا يمكن بحال أن يناله التغيير أو التبديل، قال تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)(28)، وجميع المعارف الإلهية.
والحقائق الموجودة في القرآن تستند إلى حقيقة واحدة هي التوحيد، ولقد وصف الله تعالى القرآن بالحكيم. لأنه كتاب لا يوجد فيه نقطة ضعف أو لهو حديث. ولا انحراف فيه في جميع الأحوال. ولا يوجد في القرآن أي اختلاف. وفي هذا دليل على أنه منزل من الله تعالى، لأنه لا تخلو أقوال الناس في المراحل المختلفة من الاختلاف والانحراف ولهو الحديث ونقاط الضعف، وعجز الناس على الإتيان بمثل القرآن.
دليل على إعجاز القرآن، وعجز المشركين عن معارضة القرآن دليل على التوحيد، وخضوع الأعناق للقرآن. يعني أن إسناد القرآن إلى الله تعالى لا يحتاج إلى دليل سوى القرآن نفسه.
وفي عهد البعثة كان القرآن الملجأ الوحيد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما كان يقيم حجته على الناس، ولقد بين النبي الخاتم للناس ما أنزل إليهم من ربهم على امتداد البعثة، وألزم القرآن الناس بأن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم أسوة حسنة. وجعل اتباع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم شرط في حب الله، ولقد بين القرآن والسنة للمسيرة منذ يومها الأول. أنه يجب أن ينتهي كل رأي ديني إلى القرآن الكريم حتى لا يتمكن الأجانب أن ينشروا الأباطيل بين المسلمين، وبين القرآن والسنة للمسيرة أن كتاب الله لا يقبل النسخ والإبطال والتهذيب والتغيير، وأن أي تعطيل سيفتح الطريق أمام سنن الأولين.
2 - (الإخبار بالغيب عن الله):
من لطف الله تعالى بعباده. أنه تعالى أخبر على لسان الأنبياء والرسل بالغيب، فأخبر بما ينتظر الإنسان في اليوم الآخر حيث أهوال القيامة ولهيب النار ونعيم الجنة، وأخبر ببرنامج الشيطان وإلقاءاته على امتداد الدنيا، وأخبر بمضلات الفتن مقدماتها ونتائجها، وأخبر بالأمور العظيمة التي ما زالت في بطن النيب، والإخبار بالغيب حجة بذاته، وبه يمتحن الله تعالى عباده، قال تعالى: (ليعلم الله من يخافه بالغيب)(29) وقال: (وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب).(30)
وأي حدث منذ ذرأ ذرية آدم لا بد أن تكون له مقدمة يترتب عليها نتيجة، والناس عند صنعهم لمقدمة الحدث كبيرا كان أو صغيرا.
يعلمون جانب الحلال فيه وجانب الحرام. بما أودعه الله في الفطرة.
ولأن الله تعالى وهو العليم المطلق سبحانه. يعلم مصير هذه المقدمة وما يترتب عليها من نتائج ما زالت في بطن الغيب، يخبر سبحانه على لسان الأنبياء والرسل بما يستقبل الناس من نتائج، لكي يأخذ الناس بأسباب لهدى ويتجنبوا أسباب الضلال، فإذا ظهرت الأحداث بعد أن كانت غيبا يسقط في جانب باطلها كل إنسان لم يأخذ بأسباب الهدى.
وكل إنسان لم يتدبر في حركة الأحداث من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل، باختصار: من أخذ بأسباب الدجال سقط في سلته ثم سقط في نار جهنم يوم القيامة، ومن أخذ بأسباب الهدى شرب من حوض النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة.
إن الله تعالى يمتحن الناس بأخذهم الأسباب، والناس تحت مظلة الامتحان والابتلاء يتمتعون بحرية الأخذ بالأسباب، وكل مسيرة على امتداد الزمان يتخللها ماضي وحاضر ومستقبل، والماضي يحمل دائما في أحشائه الزاد. ومهمة الحاضر أن ينضب في هذا الزاد ليؤخذ منه أسباب الهدى وينطلق بها إلى المستقبل، فمن أدركه الموت وهو على سبب الهدى، بعثه الله على نفس السبب، وكل إنسان مهاجر إلى ما هاجر إليه، وأحاديث إخبار الرسول بالغيب تحت أضوائها تظهر المسيرة، ويظهر ما في بطونها من زاد الماضي، وإذا وقف الحاضر أمام هذا الزاد ثم رجع القهقرى بتحليل الحوادث التاريخية، يصل إلى المقدمة في الماضي البعيد، فإذا أمعن النظر فيها وجد أنها تحتوي على أصول القضايا وأعراقها التي يراها في حاضره. فكما تكون المقدمة تكون النتيجة والدعوة الإلهية الخاتمة أمرت باتقاء الفتن وهذا لا يأتي إلا بالبحث في أصول القضايا، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة)(31)، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم بين أن الحاضر إذا رضي بانحراف في الماضي. شارك بالمشاهدة وإن لم يحضر، قال صلى الله عليه وآله وسلم " إذا عملت الخطيئة في الأرض. كان من شهدها فكرهها كمن غاب عنها. ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها ".(32)
والنبي صلى الله عليه وآله وسلم بين لأمته المقدمات والنتائج حتى قيام الساعة، حتى يكونوا على بينة من أمرهم ويأخذوا بأسباب الأهداف التي لله فيها رضا، فعن أبي زيد قال " صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الفجر، وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر فنزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس، فأخبرنا بما كان وبما هو كائن، فأعلمنا أحفظنا "(33)، وعن أنس قال " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من أحب أن يسأل عن شئ فليسأل عنه، فوالله لا تسألوني عن شئ إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا "،(34) وعن حذيفة قال " والله إني لأعلم الناس بكل فتنة هي كائنة فيما بيني وبين الساعة، كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحدث مجلسا أنا فيه عن الفتن، فقال صلى الله عليه وآله وسلم وهو يعد الفتن: منهن ثلاث لا يكدن يذرن شيئا، ومنهن فتن كرياح الصيف منها صغار ومنها كبار، قال حذيفة: فذهب أولئك الرهط كلهم غيري "(35)، وعن حذيفة أنه قال " ما من ثلاثمائة تخرج إلا ولو شئت سميت سائقها وناعقها إلى يوم القيامة "(36)، وقال حذيفة " والله ما أدري أنسي أصحابي أم تناسوا، والله ما ترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قائد فتنة إلى أن تنقضي الدنيا. يبلغ معه ثلاثمائة فصاعدا، إلا قد سماه باسمه واسم أبيه واسم قبيلته ".(37)
لقد أقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحجة عند المقدمة وهو يخبر بالغيب عن ربه، وعندما انطلقت المسيرة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم تحت سقف الامتحان والابتلاء، تخلو المسيرة من الفتن، بدليل أن حذيفة الذي يعرف الفتن وقادتها قال بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأقل من ثلاثين عاما: إنما كان النفاق على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأما اليوم فإنما هو الكفر بعد الإيمان(38)، وقال " إن المنافقين اليوم شر منهم على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كانوا يومئذ يسرون واليوم يجهرون "(39) وقال " إن كان الرجل يتكلم بالكلمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيصير منافقا، وإني لأسمعها من أحدكم في المقعد الواحد أربع مرات ".(40)
والطريق من توضيح النبي للفتن وهي في بطن الغيب إلى ظهور الفتن في عالم المشاهدة، طريق يخضع للبحث. بهدف اتقاء الفتن المهلكة وحصار وقودها في دائرة الذين ظلموا خاصة، وعدم البحث في هذا الطريق. يفتح أبوابا عديدة، منها مشاركة الذين ظلموا إذا رضى عن فعلهم، لأن الراضي بفعل قوم كالداخل فيهم، وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم " المرء مع من أحب "(41)، وكما أن عدم البحث يلقي بالحاضر على الماضي، فكذلك يلقي به على ما يستقبله من فتن مهلكة، عن حذيفة أنه قال " تعرض الفتن على القلوب، فأي قلب أنكرها نكتت في قلبه نكتة بيضاء، وأي قلب لم ينكرها نكتت في قلبه نكتة سوداء، حتى يصير القلب أبيض مثل الصفا. لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسودا مربدا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا. إلا ما أشرب في هواه ".(42) وما زالت في بطن الغيب أحداث وأحداث، لا ينجو منها العالم إلا بعلمه، وفي بطن الغيب أحداث إذا جاءت لا ينفع نفسا إيمانها يومئذ، لأنها لم تبحث على امتداد الطريق، فأنتج ذلك عدم معرفة الحق على امتداد الطريق، ولما كان الحق عند هذه النفس يخضع لتحديد الأهواء، تسقط النفس في سلة الدجال التي تحتوي على جميع الأهواء، وما يستقبل الناس من آيات كبرى جاء في قوله تعالى: (يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا. قل انتظروا إنا منتظرون).(43) فالآية الكريمة بينت أن هناك آيات لا ينفع عند ظهورها إيمان، ومن لم يكن مصلحا يومئذ وأعلن توبته لم تقبل منه توبته، كما أن الله لا يقبل عملا صالحا من صاحبه إذا لم يكن عاملا به قبل ذلك، ومن هذه الآيات: الدخان. والدابة. وخروج يأجوج ومأجوج. ونزول عيسى بن مريم. وخروج الدجال. وطلوع الشمس من مغربها.(44)
وبالجملة: أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالغيب عن ربه جل وعلا، ليأخذ الناس بأسباب الهداية نحو ما يستقبلهم من أحداث ما زالت في بطن الغيب، والأخذ بالأسباب من الوسائل التي يمتحن الله تعالى بها عباده، وإخبار الرسول بالغيب هو في حقيقته دعوة للإيمان بالله، لأنه يأمر بالاستقامة، ويبين أن عدم الاستقامة يؤدي إلى كفران النعمة. ويفتح الطريق أمام الفتن، وكفران النعمة عقوبته سلب نعمة الهداية وعليها يأتي الهلاك، وطريق الفتن يلقي بأتباعه تحت أعلام الدجال، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم " ما صنعت فتنة منذ كانت الدنيا صغيرة أو كبيرة إلا لفتنة الدجال ".(45)
3 - (التحذيرات الذهبية)
أولا - التحذير من الاختلاف:
أمر الله تعالى في كتابه الكريم بعدم الاختلاف في الدين في أكثر من آية، منه قوله تعالى: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات)(46)، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " لا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا "(47) وقال جل شأنه: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا)(48) وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم " إني تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر. كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ".(49)
وحذر تعالى من عاقبة الاختلاف في الدين في أكثر من آية من كتابه الكريم. منه قوله تعالى: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ. إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون)(50)، قال المفسرون: أي أن الذين فرقوا دينهم بالاختلافات والانشعابات المذهبية بعد أن جاءهم العلم، ليسوا على طريقتك التي بنيت على وحدة الكلمة ونفي الفرقة، إنما أمرهم في هذا التفريق إلى ربهم فينبئهم يوم القيامة بما كانوا يفعلون. ويكشف لهم حقيقة أعمالهم، والآية عامة. تعم اليهود والنصارى والمختلفين بالمذاهب والبدع من هذه الأمة.
وفي الوقت الذي أمرت فيه الدعوة الإلهية الخاتمة بعدم الاختلاف، أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالغيب عن ربه العليم المطلق سبحانه، بأن الأمة ستختلف من بعده وسيتبع بعضها سنن اليهود والنصارى، قال صلى الله عليه وآله وسلم " إن بني إسرائيل تفرقت إحدى وسبعين فرقة، فهلك إحدى وسبعون فرقة وخلصت فرقة واحدة، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة تهلك إحدى وسبعون وتخلص فرقة، قيل: يا رسول الله من تلك الفرقة؟ قال: الجماعة الجماعة "(51)، أما اتباع سنن الأولين ففي قوله تعالى: (وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم، كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا، فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا، أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون)(52)، روى ابن جرير أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال في هذه الآية " حذركم الله أن تحدثوا في الإسلام حدثا وقد علم أنه سيفعل ذلك أقوام من هذه الأمة، فقال تعالى:
(فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم... الآية). وإنما حسبوا أن لا يقع بهم من الفتنة ما وقع ببني إسرائيل قبلهم، وإن الفتنة عائدة كما بدأت "(53)، وروى ابن كثير عن ابن عباس قال: ما أشبه الليلة بالبارحة، " كالذين من قبلكم " هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم، والذي نفسي بيده ليتبعنهم حتى لو دخل الرجل جحر ضب لدخلتموه "(54)، وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لاتبعتموهم " قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟(55) وقال المفسرون: إن المنافقين والمنافقات بعضهم من بعض، وإنهم جميعا والكفار ذو طبيعة واحدة في الإعراض عن ذكر الله والإقبال على الاستمتاع. بما أوتوا من أعراض الدنيا من أموال وأولاد، والخوض في آيات الله. ثم في حبط أعمالهم في الدنيا والآخرة والخسران. ومعنى الآيات: أنتم كالذين من قبلكم كانت لهم قوة وأموال وأولاد، بل أشد وأكثر في ذلك منكم، فاستمتعوا بنصيبهم، وقد تفرع على هذه المماثلة أنكم استمتعتم كما استمتعوا وخضتم كما خاضوا. أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون، وأنتم أيضا أمثالهم في الحبط والخسران.
لقد حذرت الدعوة الإلهية عند المقدمة من الاختلاف في الدين، وذكرت أن الاختلاف بعد العلم لا يمكن أن يضع أصحابه على طريقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لأنها طريقة بنيت على وحدة الكلمة ونفي الفرقة، وحذرت الدعوة الخاتمة من سلوك سبيل الذين أوتوا الكتاب. وبينت برامجهم وأهدافهم، وأخبرت بأنهم يصدون عن سبيل الله. ويعملون من أجل أن تضل الأمة وتتبع طريقتهم في الحياة، ثم أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالغيب عن ربه بما يستقبل الناس، ومنه: أن الأمة ستفترق وسيتبع بعضها طريقة اليهود والنصارى، والتحذير عند المقدمة فيه أن الصراع قائم بين الحق وبين الباطل، وظهور الذين اتبعوا اليهود والنصارى عند نهاية الطريق، لا يعني سقوط المسيرة، وإنما يعني سقوط الغثاء والزبد الذي لا قيمة له، وأعلام هؤلاء يحملها المنافقين والمنافقات كما ظهر في صدر الآية الكريمة.
ثانيا - التحذير من أمراء السوء:
حذرت الدعوة الخاتمة من الميل إلى الذين ظلموا، لأن على أعتابهم يأتي ضعف العقيدة وفقدان القدوة، وبينت أن قيام الذين ظلموا بتوجيه الحياة العقلية والدينية للأمة. ينتج عنه شيوع المشكلات الزائفة التي تشغل الرأي العام، وتجعله داخل دائرة الصفر حيث الجمود والتخلف، وعلى أرضية الجمود تفتح الأبواب لسنن الأولين، ومعها يختل منهج البحث ومنهج التفكير ومنهج الاستدلال، وبهذا يتم التعتيم على نور الفطرة وتغيب الحقيقة تحت أعلام الترقيع والتلجيم التي تلبست بالدين، قال تعالى: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون)(56) قال المفسرون: نهى الله تعالى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمته عن الركون إلى من اتسم بسمة الظلم. بأن يميلوا إليهم ويعتمدون على ظلمهم في أمر دينهم أو حياتهم الدينية، لأن الاقتراب في أمر الدين أو الحياة الدينية من الذين ظلموا، يخرج الدين أو الحياة الدينية عن الاستقلال في التأثير، ويغيرهما عن الوجهة الخالصة، ولازم ذلك السلوك إلى الحق من طريق الباطل، أو إحياء حق بإحياء باطل، أو إماتة الحق لإحيائه.
والنبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبر بالغيب عن ربه. أن الأمة ستركن إلى هؤلاء، وأمر بأن تأخذ الأمة بالأسباب لأن الله تعالى ينظر إلى عباده كيف يعملون، فعن ثوبان قال. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين "(57)، وعن أبي هريرة قال. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " يهلك أمتي هذا الحي من قريش " قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال " لو أن الناس اعتزلوهم "(58)، وعن خباب بن الإرث قال: إنا لقعود على باب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " ننتظره أن يخرج لصلاة الظهر، إذ خرج علينا فقال:
إسمعوا. فقلنا: سمعنا، ثم قال: إسمعوا، فقلنا: سمعنا، فقال: إنه سيكون عليكم أمراء فلا تعينوهم على ظلمهم، فمن صدقهم بكذبهم فلن يرد علي الحوض(59)، وعن حذيفة قال. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: سيكون عليكم أمراء يظلمون ويكذبون. فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم. فليس مني ولست منه ولا يرد علي الحوض، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعينهم فهو مني وأنا منه وسيرد علي الحوض(60)، ومن هذه الأحاديث يستنتج أن الأمراء ضد خط أهل البيت، بدليل أنهم لن يردوا على الحوض، وفي الحديث أن أهل البيت مع القرآن ولن ينفصلا حتى يردا على الحوض، ويستنتج أيضا أن أهل البيت لن يكونوا في صدر القافلة وأن هناك أحداث ستؤدي إلى إبعادهم عن مركز الصدارة، بدليل وجود الأئمة المضلين وأمراء الظلم، فلو كان أهل البيت في الصدارة، ما اتخذوا هؤلاء بطانة لهم، لأن أهل البيت مع القرآن والقرآن نهى عن ذلك.
وبالجملة: أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بوجود تيار في بطن الغيب سيعمل ضد سياسة أهل البيت، وإن هذا التيار لن يرد على الحوض، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم " لا يبغضنا أحد ولا يحسدنا أحد إلا ذيد يوم القيامة عن الحوض "(61)، وقوله لعلي بن أبي طالب " يا علي. معك يوم القيامة عصا من عصي الجنة تذود بها المنافقين عن حوضي "(62)، وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمواجهة هذا التيار باعتزالهم وعدم إعانتهم وعدم تصديقهم، وروي عن ابن مسعود. قال.
الهوامش
(1) رواه أحمد عن أنس وأبي هريرة (كنز 210 / 1) والترمذي وصححه (الجامع 25 / 4).
(2) رواه الحاكم ونعيم ابن حماد (كنز العمال 169 / 11).
(3) رواه البيهقي وقال ابن كثير سنده صحيح (البداية 218 / 6).
(4) رواه البخاري (الصحيح 141 / 4) ومسلم (الصحيح 53 / 15) وأحمد (الفتح الرباني 195 / 1).
(5) رواه البخاري (الصحيح 141 / 4) ومسلم (الصحيح 29 / 15).
(6) رواه البخاري (الصحيح 142 / 4).
(7) رواه البخاري (الصحيح 160 / 3) مسلم (الصحيح 194 / 17).
(8) رواه أحمد وقال في الفتح سنده جيد (الفتح الرباني 197 / 1).
(9) رواه مسلم (الصحيح 195 / 1).
(10) رواه الحاكم والإمام أحمد (كنز العمال 197 / 11) وابن عساكر (كنز 271 / 11).
(11) سورة العنكبوت آية 3.
(12) سفر العدد 3 / 5 - 10.
(13) رواه البخاري ب قول المريض قوموا (الصحيح 7 / 4) ومسلم ب ترك الوصية (الصحيح 76 / 5) وأحمد (الفتح الرباني 191 / 22.
(14) رواه البخاري ك العلم (الصحيح 31 / 1).
(15) رواه أحمد (الفتح الرباني 225 / 22) وابن سعد (الطبقات 243 / 2).
(16) رواه مسلم ب ترك الوصية (الصحيح 76 / 5).
(17) لسان العرب ص 4618.
(18) المصدر السابق 4618.
(19) مختار الصحاح ص 690.
(20) المعجم الوسيط 972 / 2.
(21) سورة الحجرات آية 2.
(22) سورة النور آية 63.
(23) سورة الأنفال آية 25.
(24) ابن سعد (الطبقات الكبرى 242 / 2).
(25) ابن سعد (الطبقات الكبرى 242 / 2).
(26) رواه الترمذي وقال حديث حسن (الجامع 663 / 5).
(27) سورة يونس آية 14.
(28) سورة الحجر آية 9.
(29) سورة المائدة آية 94.
(30) سورة الحديد آية 25.
(31) سورة الأنفال آية 24.
(32) رواه أبو داوود رقم 4345.
(33) رواه مسلم (الصحيح 16 / 18) وأحمد (الفتح الرباني 272 / 21).
(34) رواه أحمد والبخاري ومسلم (كنز العمال 421 / 11).
(35) مسلم (الصحيح 18 / 15).
(36) رواه نعيم وسنده صحيح (كنز العمال 271 / 11).
(37) رواه أبو داوود حديث رقم 4222.
(38) رواه البخاري (الصحيح 230 / 4).
(39) رواه البخاري (الصحيح 230 / 4).
(40) رواه أحمد وإسناده جيد (الفتح الرباني 173 / 19).
(41) رواه البخاري (الصحيح 77 / 4).
(42) رواه الإمام أحمد والحاكم وصححه (كنز العمال 119 / 11).
(43) سورة الأنعام آية 158.
(44) أنظر: تفسير ابن كثير 195 / 2.
(45) رواه أحمد والبزار ورجاله رجال الصحيح (الزوائد 335 / 7).
(46) سورة آل عمران آية 105.
(47) رواه البخاري (كنز العمال 177 / 1).
(48) سورة آل عمران آية 103.
(49) رواه الإمام أحمد والترمذي وقال حديث حسن. والطبراني. وقال المناوي رجاله موثقون (الفتح الرباني 186 / 1).
(50) سورة الأنعام آية 159.
(51) رواه أحمد (الفتح الرباني 6 / 24) والترمذي وصححه (الجامع 25 / 4).
(52) سورة التوبة آية 69.
(53) تفسير ابن جرير 122 / 10.
(54) تفسير ابن كثير 368 / 2.
(55) رواه أحمد والبخاري ومسلم (الفتح الرباني 197 / 1).
(56) سورة هود آية 113.
(57) رواه أحمد ومسلم والترمذي (الفتح الرباني 31 / 27).
(58) رواه البخاري (الصحيح 280 / 2) ومسلم (الصحيح 41 / 18) وأحمد (الفتح الرباني 39 / 23).
(59) رواه أحمد (الفتح الرباني 30 / 23) وابن حبان في صحيحه وابن أبي عاصم وقال الألباني رجاله ثقات (كتاب السنة 352 / 2).
(60) رواه أحمد والبزار وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح (الزوائد 248 / 5) وابن أبي عاصم وقال الألباني رجاله ثقات (كتاب السنة 353 / 2).
(61) رواه الطبراني (كنز العمال 104 / 12).
(62) رواه الطبراني وقال الهيثمي رجاله ثقات (135 / 9).
******************
قال صلى الله عليه وآله وسلم " إن رحى الإسلام دائرة، وإن الكتاب والسلطان سيفترقان، فدوروا مع الكتاب حيث دار، وستكون عليكم أئمة إن أطعتموهم أضلوكم وإن عصيتموهم قتلوكم، قالوا: فكيف نصنع يا رسول الله؟
قال: كونوا كأصحاب عيسى. نصبوا على الخشب ونشروا بالمناشير، موت في طاعة. خير من حياة في معصية "(1) وروي عن معاذ قال: قلت يا رسول الله أرأيت إن كان علينا أمراء لا يستنون بسنتك. ولا يأخذون بأمرك. فما تأمرني في أمرهم؟ فقال: لا طاعة لمن لم يطع الله عز وجل ".(2)
وروي عن ابن مسعود قال. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل. كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد. فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم تلى قوله تعالى: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى بن مريم) إلى قوله: (فاسقون) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا (أي لتردنه إلى الحق)، ولتقصرنه على الحق قصرا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم كما لعنهم "(3)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم " مثل القائم على حدود الله والمدهن فيها. كمثل قوم استهموا على سفينة في البحر، فأصاب بعضهم أعلاها.
وأصاب بعضهم أسفلها. فكان الذين في أسفلها يصعدون فيستقون الماء فيصبون على الذين في أعلاها، فقال الذين في أعلاها لا ندعكم تصعدون فتؤذوننا، فقال الذين في أسفلها فإننا ننقبها من أسفلها فنستقي، فإن أخذوا على أيديهم فمنعوهم نجوا جميعا، وإن تركوهم غرقوا جميعا "(4) كانت هذه بعض تعاليم النبوة لمواجهة الظلم والجور في وقت ما على امتداد المسيرة، أما بعد استفحال الظلم والجور. نتيجة للثقافات التي سهر عليها المنافقون وأهل الكثاب لإيجاد غثاء مهمته النباح تأييدا للجلادين، والتصفيق للزبانية ومصاصي الدماء، يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم " ما ترون إذا أخرتم إلى زمان. حثالة من الناس. قد مرجت عهودهم ونذورهم فاشتبكوا. وكانوا هكذا، (وشبك بين أصابعه) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: تأخذون ما تعرفون وتدعون ما تنكرون. ويقبل أحدكم على خاصة نفسه. ويذر أمر العامة "(5)، وفي رواية: إتق الله عز وجل، وخذ ما تعرف ودع ما تنكر، وعليك بخاصتك، وإياك وعوامهم.(6)
وبالجملة: بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن صنفا من الناس سيحرص على الإمارة من بعده، قال صلى الله عليه وآله وسلم " إنكم ستحرصون على الإمارة. وستصير حسرة وندامة يوم القيامة. نعمت المرضعة وبئست الفاطمة "(7) نعم المرضعة: لما فيها من حصول الجاه والمال ونفاد الكلمة وتحصيل اللذات الحسية. وبئست الفاطمة: أي بعد الموت لأن صاحبها يصير إلى المحاسبة. قال صلى الله عليه وآله وسلم " ليتمن أقوام ولوا هذا الأمر. أنهم خروا من الثريا وأنهم لم يولوا شيئا "(8)، وليس معنى هذا أن الإسلام لا يعترف بالقيادة والإمارة. فالإسلام يقوم على النظام وفيه لكل شئ ذروة، والحديث يحذر غير أصحاب الحق من أن ينازعوا الأمر أهله، لأنه في المنازعة ضياع للأمانة. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة " قالوا: كيف أضاعتها يا رسول الله؟ قال: إذا أسند الأمر إلى غير أهله.
فانتظروا الساعة ".(9) ويفسر هذا ما روي عن داوود بن أبي صالح. قال؟
أقبل مروان بن الحكم يوما فوجد رجلا واضعا وجهه على قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: أتدري ما تصنع؟ وأقبل عليه وإذا هو أبو أيوب الأنصاري. فقال:
نعم جئت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم آت الحجر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله. ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله.(10)
وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم للأمة أسباب الهدى على امتداد المسيرة. تحت مظلة الامتحان والابتلاء، بين الأسباب في عصر به الصحابة، وبينها في عصر به التابعين، وبينها في عصور جاءت بعد ذلك. والله تعالى ينظر إلى عباده كيف يعملون.
ثالثا - التحذير من ذهاب العلم:
إن كل موجود يحظى بالعلم بقدر ما يحظى بالوجود. والله تعالى يرفع الذين آمنوا على غيرهم في العلم، ويرفع الذين أوتوا العلم منهم درجات، بمعنى أن العلم له مكان في دائرة الذين آمنوا، وهذه الدائرة مراتب ولها ذروة، قال تعالى: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)(11)، وذروة الذين أوتوا العلم. مع الذين ارتبطوا بكتاب الله ولا ينفصلوا حتى يردوا على الحوض، ومن دائرة الذروة تخرج المعارف الحقة والعلوم المفيدة، لأن الذين في الذروة هم العامل الذي يحفظ الأخلاق ويحرسها في ثباتها ودوامها، ولأن من عندهم تتدفق العلوم التي تصلح أخلاق الناس، ليكونوا أهلا لتلقي المزيد من المعارف الحقة. التي لا تكون في متناول البشر إلا عندما تصلح أخلاقه.
وكما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر أمته بأن يمسكوا بحبل الله ليردوا على الحوض، أخبر كذلك بالغيب عن ربه بأن العلم سيرفع، ورفعه هو نتيجة لذهاب أوعيته، عن أبي الدرداء قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم . فشخص ببصره إلى السماء ثم قال: هذا أو أن يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شئ، فقال زياد بن لبيد: كيف يختلس منا. وقد قرأنا القرآن. فوالله لنقرأنه ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا، قال: ثكلتك أمك يا زياد إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة، هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى. فماذا تغني عنهم(12)، وفي رواية عن شداد بن أوس قال " وهل تدري ما رفع العلم؟ ذهاب أوعيته "(13) وفي رواية عن أبي إمامة قال " وهذه اليهود والنصارى بين أظهرهم المصاحف، لم يصبحوا يتعلقوا بحرف واحد مما جاءتهم به أنبياؤهم، وإن من ذهاب العلم أن يذهب حملته، وإن من ذهاب العلم أن يذهب حملته، وإن من ذهاب العلم أن يذهب حملته "(14)، وقال في تحفة الأحوازي: ومعنى هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى. أي أن القراءة دون علم وتدبر محل نظر. وقال القارئ: أي فكما لم تفدهم قراءتهما مع عدم العمل بما فيهما فكذلك أنتم.(15)
وعلى امتداد المسيرة ظهر ما كان في بطن الغيب، ظهر الذين يقرؤون القرآن لا يعدوا تراقيهم. يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، وظهر الذين قرؤا ثم نقروا ثم اختلفوا ثم ضرب بعضهم رقاب بعض، وظهر الذين قرؤا ثم اعتزلوا ثم خرجوا على جيرانهم بالسيوف ورموهم بالشرك. بينما كانوا هم إلى الشرك أقرب، وظهر الذين لا يقرؤن القرآن إلا في حفلات النفاق التي يشرف عليها اليهود والنصارى في كل مكان، وعلى أكتاف هؤلاء وهؤلاء. انطلق البعض في طريق التقدم إلى الخلف. وارتبط مصيرهم بمصير الذين سبقوهم، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم " إن بني إسرائيل إنما هلكت حين كثرت قراؤهم "(16) وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن الذين يقرؤن القرآن لا يجاوز تراقيهم، نطف في أصلاب الرجال وقرارات النساء، كلما نجم منهم قرن قطع حتى يكون آخرهم لصوصا سلابين، وقال " لا يزالوا يخرجون، حتى يخرج آخرهم مع الدجال "(17)، وفي رواية " كلما قطع قرن نشأ قرن، حتى يكون مع بيضتهم الدجال ".(18)
وبالجملة: أقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحجة في أول الطريق وانطلقت الحجة مع المسيرة حتى نهاية الطريق، وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمته أن تأخذ بحبل الله حتى لا يضلوا، وقال: ما من نبي بعثه الله عز وجل في أمة قبلي إلا له من أمته حواريون وأصحاب. يأخذون بسنته ويقتدون بأمره.
ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف. يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن. ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن. ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل "(19)، وقال في الفتح الرباني: الحواريون هم خلصان الأنبياء وأصفيائهم. والخلصان هم الذين نقوا من كل عيب. وقيل: الخلصان هم الذين يصلحون للخلافة بعد الأنبياء.(20)
لقد دافع الإسلام عن العلم، ولم يقاتل يوما من أجل الكرسي، وأمر الإسلام بالجهاد للإبقاء على الذروة التي تفيض بالعلم الإلهي ذروة كل العلوم وأشرف العلوم، لأن هؤلاء وحدهم هم الذين يحملون النور المحمدي، ذلك النور الذي يعتبر برزخا بين الناس وبين النور الإلهي.
الذي تندك له الجبال.
رابعا - العترة بين التحذير والابتلاء:
إن الله تعالى يمتحن الناس بالناس. قال تعالى: (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا)(21) فدائرة الهدى على امتداد المسيرة البشرية، فتنة لسائر الناس يمتحنون بهم، فيميز بهم أهل الريب من أهل الإيمان، والمتبعون للأهواء من طلاب الحق الصابرين في طاعة الله وسلوك سبيله، وكما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر أمته بأن يتمسكوا بحبل العترة حتى لا يضلوا، وقال " أذكركم الله في أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي "(22) وقال " إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا. كتاب الله وعترتي أهل بيتي "(23)، فإنه أخبر أمته بأنهم سيمتحنون بأهل بيته. قال " إنكم ستبتلون في أهل بيتي من بعدي "(24)، وأخبر بالغيب عن ربه بما سيسفر عنه الامتحان، فقال " إن أهل بيتي سيلقون من بعدي من أمتي قتلا وتشريدا ".(25)
وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب. بما سيجري له من بعده، وقال له " إن الأمة ستغدر بك بعدي، وأنت تعيش على ملتي، وتقتل على سنتي، من أحبك أحبني، ومن أبغضك أبغضني، وإن هذه (يعني لحيته) ستخضب من هذا (يعني رأسه)(26)، وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له:
ألا أحدثك بأشقى الناس، رجلين، أحيمر ثمود الذي عقر الناقة، والذي يضربك يا علي على هذه (يعني رأسه) حتى تبتل منه هذه (يعني لحيته).(27)
وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحسين بن علي بما سيجري له من بعده، وروى ابن كثير عن عمرة بنت عبد الرحمن أنها قالت: أشهد لقد سمعت عائشة تقول: أنها سمعت رسول الله نهض يقول: يقتل الحسين بأرض بابل(28) وروى الحاكم عن ابن عباس قال: ما كنا نشك وأهل البيت متوافرون أن الحسين يقتل بالطف(29) وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن ابني هذا يقتل بأرض من أرض العراق يقال لها كربلاء. فمن شهد ذلك فلينصره(30)، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أخبرني جبريل أن ابني الحسين يقتل بعدي بأرض الطف، وجاءني بهذه التربة وأخبرني أن فيها مضجعه.(31)
والخلاصة: إن الله يختبر الناس بالناس، وعلى هذا الاختبار يظهر أهل الريب من أهل الإيمان، قال تعالى: (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة)(32)، وقال سبحانه (وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا. أليس الله أعلم بالشاكرين)(33)، وقال تعالى: (وهو الذي جعلكم خلائف في الأرض. ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم)(34)، والدعوة الخاتمة بينت الدرجات. وأمر تعالى بمودة قربى النبي صلى الله عليه وآله وسلم . قال تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى)(35) وبينت الدعوة أن الذين لا يصلون ما أمر الله به أن يوصل، والذين لم يأخذوا بما أمرهم تعالى به من طاعة وبما نهاهم به من نهي، فهؤلاء خاسرون في الدنيا والآخرة، قال تعالى: (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون)(36)، وقال جل شأنه (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم، أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم).(37)
وبينت الدعوة الإلهية الخاتمة. أن عدم مودة الذين أمر الله بمودتهم، يفتح الطريق أمام مودة أعداء الفطرة وقد أمروا بعدم مودتهم، قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق).(38) فالآية تنهي عن مودة المشركين والكفار وتنهي أن يتخذوا أولياء وأصدقاء وأخلاء. وتفتح الطريق أمام عبادة الأهواء والأوثان. قال تعالى حاكيا عن إبراهيم قوله لقومه (قال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا)(39) قال المفسرون: وبخهم على سوء صنيعهم في عبادة الأوثان. وقال: إنما اتخذتم هذه ليجتمعوا على عبادتها في الدنيا صداقة وألفة منكم بعضكم لبعض في الحياة الدنيا، ثم يوم القيامة ينعكس هذا الحال، فتبقى هذه الصداقة والمودة بغضا وشنآنا، وتتجاحدون ما كان بينكم، ويلعن الأتباع المتبوعين، والمتبوعين الأتباع.
فالطريق يبدأ بأمر الله ونهيه، وعلى امتداد الطريق يمتحن الله الناس ببعض الناس، فمن سلك فيما أمر الله به نجا، ومن لم يؤخذ بوصايا الله ضل، والله تعالى أمر بصلة الأرحام، وذروة الأرحام عترة النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم، قال صلى الله عليه وآله وسلم " إن الله تعالى جعل ذرية كل نبي في صلبه.
وأن الله تعالى جعل ذريتي في صلب علي بن أي طالب "(40)، وقال " أن لكل بني أب عصبة ينتمون إليها إلا ولد فاطمة فأنا وليهم وأنا عصبتهم "،(41) وقال " نحن خير من أبنائنا، وبنونا خير من أبنائهم، وأبناء بنينا خير من أبناء أبنائهم "،(42) وهكذا فكما أن للعلم درجات، فللأرحام درجات، وميزان هذه الدرجات هو التقوى والعلم بالله، فمن التف حول الذين أمر الله بمودتهم شرب من الماء، ومن أبى فتحت عليه مودة أخرى يتهوكون فيها تهوك اليهود في الظلم، ويوم القيامة يعض على يديه، قال تعالى: (يوم يعض الظالم على يديه ويقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا، يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا، لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني. وكان الشيطان للإنسان خذولا، وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا).(43)
وعلى امتداد المسيرة الإسلامية. قامت طائفة الحق بالدفاع عن الفطرة، ولم يضرها من عاداها أو من خذلها، وفي عهد الإمام علي.
خرج عليه أصحاب الأهواء، فقاتلهم الإمام على تأويل القرآن، وعنه أنه قال " أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين "(44)، فالناكثين: أهل الجمل، والقاسطين: أهل الشام، والمارقين: الخوارج، وانطلقت مسيرة الإمام رضي الله عنه بأعلام الحمية، وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له " أنت أخي وأبو ولدي، تقاتل في سنتي وتبرئ ذمتي، من مات في عهدي فهو كنز الله، ومن مات في عهدك فقد قضى نحبه، ومن مات يحبك بعد موتك ختم الله له بالأمن والإيمان ما طلعت شمس أو غربت، ومن مات يبغضك مات ميتة جاهلية. وحوسب بما عمل في الإسلام "(45)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم " من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات فميتته جاهلية، ومن فاتل تحت راية عمية. يغضب لعصبته ويقاتل لعصبته وينصر عصبته، فقتل فقتلته جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها لا يتحاشى لمؤمنها ولا يفي الذي عهدها، فليس مني ولست منه ".(46)
وتحت هذا الضوء انطلقت الأمة الخاتمة تحت سقف الامتحان والابتلاء، والله تعالى ينظر إلى عباده كيف يعملون. لاستحقاق الثواب والعقاب يوم القيامة.
ثانيا - (أضواء على المسيرة)
أولا - (أضواء على الساحة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم)
كان الساحة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بها جميع الأنماط البشرية، بها المؤمن القوي والمؤمن الضعيف، وبها الذين في قلوبهم مرض أو زيغ، وهؤلاء لا يخلو منهم مجتمع على امتداد المسيرة البشرية.
وكان الذين في قلوبهم مرض يختزنون في ذاكرتهم ببعض ما أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما يستقبل الناس، ومنه تفسيره لقوله تعالى: (وجاهدوا في الله حق جهاده)(47) وقوله: (فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون)(48) وقوله تعالى: (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا)(49)، وقول النبي القرشي " يا معشر قريش، ليبعثن الله عليكم رجلا منكم امتحن الله قلبه للإيمان، فيضرب رقابكم على الدين " فقال أبو بكر: أنا هو يا رسول الله؟ قال: لا، قال عمر: أنا هو يا رسول الله؟ قال: لا، ولكنه خاصف النعل، وقد كان ألقى نعله إلى علي بن أبي طالب يخصفها ".(50)
وكان بالساحة أفرادا وقبائل ذمهم أو لعنهم الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يخبر بالغيب عن ربه لما يعلم الله ما في قلوبهم، ومنه أمره صلى الله عليه وآله وسلم بجهاد مخزوم وعبد شمس(51) وقوله " إن أشد قومنا لنا بغضا بنو أمية وبنو المغيرة وبنو مخزوم(52) وفي رواية: بنو أمية وثقيف وبنو حنيفة(53) ولعنه للحكم بن أبي العاص(54) ولعنه أبو الأعور السلمي(55) ولعنه لأحياء: لحيان ورعلا وذكوان وعصية(56) وكان بالساحة مجموعة تخريبية من اثني عشر رجلا، حاولوا قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند عودته من تبوك.
آخر غزواته، وأسر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأسمائهم إلى حذيفة، وكان حذيفة وعمار بن ياسر معه صلى الله عليه وآله وسلم عند محاولة هذه المجموعة اغتياله، وروي أن حذيفة قال: يا رسول الله ألا تبعث إلى كل رجل منهم فتقتله، فقال: أكره أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه "، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لحذيفة " فإن هؤلاء فلانا وفلانا (حتى عدهم) منافقون لا تخبرن أحد "(57)، وعدم إفشاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأسمائهم يستنتج منه. أن هذه المجموعة لم تكن من رعاع القوم وإنما من أشد الناس فتكا، وقتلهم يؤدي إلى طرح ثقافة يتناقلها الناس بأن محمدا في آخر أيامه بدأ يقتل أصحابه، ويستنتج منه أيضا أن الله تعالى شاء أن تنطلق المسيرة تحت مظلة الامتحان والابتلاء، بعد أن تبينت طريق الحق وطريق الباطل، وإخفاء أسماء المجموعة التخريبية هو في حقيقته دعوة للالتفاف حول الذين بينهم وأظهرهم رسول الله للناس. وروى الإمام مسلم عن حذيفة أنه قال " أشهد الله أن اثني عشر منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد "(58)، وروى عن عمار بن ياسر أنه قال " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن في أمتي اثني عشر منافقا لا يدخلون الجنة ولا يجدون ريحها حتى يلج الجمل في سم الخياط "(59)، وكان عمار بن ياسر علامة مميزة في المسيرة لأنه كان يحمل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه " ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار ".(60)
فالساحة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان بها جميع التيارات، وكان بها مجموعة حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا، ويبدو من قراءة الأحداث أن الساحة كان بها مجموعة من أصحابه أخذت في اعتبارها أن ولاية علي بن أبي طالب قد تؤدي إلى أحداث اعتقدوا أنها يمكن أن تعصف بالدعوة، فاختاروا حلا وسطا ويبتعد به علي بن أبي طالب عن مركز الصدارة، وتظل به الدعوة قائمة، ويشهد بذلك قول أبي بكر رضي الله عنه لرافع بن أبي رافع حين عاتبه على توليه الخلافة " إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبض والناس حديثو عهد بكفر فخفت أن يرتدوا وأن يختلفوا فدخلت فيها وأنا كاره "(61) وفي رواية قال " تخوفت أن تكون فتنة يكون بعدها ردة "(62) ويشهد به أيضا قول عمر بن الخطاب أثناء خلافته " إن بيعة أبي بكر كانت فلتة "(63)، قال في لسان العرب: يقال كان ذلك الأمر فلتة. أي فجأة إذا لم يكن عن تدبر ولا ترو، والفلتة: الأمر يقع من غير إحكام، وفي حديث عمر. أراد فجأة وكانت كذلك لأنها لم ينتظر بها العوام، وقال ابن الأثير في حديث عمر: والفلتة كل شئ فعل من غير روية، وإنما بودر بها خوف انتشار الأمر.(64)
ويشهد به قول عمر لابن عباس: يا ابن عباس ما منع قومكم منكم؟ قال: لا أدري، قال: لكني أدري يكرهون ولايتكم لهم. يكرهون أن تجتمع فيكم النبوة والخلافة(65)، وزاد في رواية: فاختارت قريش لنفسها فأصابت ووفقت.(66)
وروي أن عمر بن الخطاب عندما اختلف بعض الأنصار مع بعض المهاجرين في سقيفة بني ساعدة، على من الذي يتولى الخلافة ومن يتولى الوزارة، أمر عمر بقتل مرشح الأنصار سعد بن عبادة، وذلك حينما اشتد الخلاف وتشابكوا بالأيدي، روى الطبري: قال ناس من أصحاب سعد: إتقوا سعد ألا تطؤه، فقال عمر: إقتلوه إقتلوه، ثم قام على رأسه فقال: لقد هممت أن أطأك حتى تندر عضوك(67)، وروى البخاري: قال قائل: قتلتم سعد بن عبادة، فقال عمر: قتله الله(68)، وكتبت النجاة لسعد، وروي أنه قال بعد بيعة أبي بكر " لو أن الجن اجتمعت لكم مع الإنس ما بايعتكم حتى أعرض على ربي "(69)، ولم يبايع سعد حتى خرج في خلافة عمر بن الخطاب إلى الشام، وقتل في الطريق، وروي أن الجن هم الذين قتلوه!
ثانيا - (أضواء على حركة الاجتهاد والرأي)
على امتداد عهد البعثة كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبين للناس ما أنزل إليهم من ربهم، وكان بالساحة من سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئا ولم يحفظه على وجهه، ويرويه ويعمل به ويقول أنا سمعته من رسول الله، فلو علم المسلمون أنه وهم فيه لم يقبلوه منه، ولو علم هو أنه كذلك لرفضه، وكان بالساحة من سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئا يأمر به، ثم نهى عنه وهو لا يعلم. أو سمعه ينهى عن شئ ثم أمر به وهو لا يعلم، فحفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ، فلو علم أنه منسوخ لرفضه، ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنه منسوخ لرفضوه، وكان بالساحة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، لم يكذبوا على الله ولا على رسوله، حفظوا ما سمعوا على وجهه، فلم يزيدوا فيه ولم ينقصوا منه، حفظوا الناسخ فعملوا به، وحفظوا المنسوخ فجنبوا عنه، عرفوا الخاص والعام، والمحكم والمتشابه، فوضعوا كل شئ موضعه، وقد كان يكون من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكلام له وجهين، فكلام خاص وكلام عام، فيسمعه من لا يعرف ما عنى به الله سبحانه به، ولا ما عنى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيحمله السامع ويوجهه على غير معرفة بمعناه وما قصد به وما خرج من أجله، وليس كل أصحاب رسول الله في من كان يسأله يستفهمه، حتى إن كانوا يحبون أن يجيئ الأعرابي والطارئ فيسأله عليه الصلاة والسلام حتى يسمعوا، وقال الإمام علي: وكان لا يمر بي من ذلك شئ إلا سألته عنه وحفظته.(70) ويضاف إلى هذه الأصناف، الذين احترفوا الكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولقد كذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على عهده، حتى قام خطيبا فقال " من كذب علي معتمدا. فليتبوأ مقعده من النار ".
ونظر لاتساع الهوة في رواية الحديث بعد إبعاد أهل البيت عن مكانهم في الذروة، اختلف الناس في الفتوى، حتى قال الإمام علي " ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام، فيحكم فيها برأيه، ثم ترد القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله، ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوب آراءهم جميعا، وإلههم واحد ونبيهم واحد وكتابهم واحد، أفأمرهم الله تعالى بالاختلاف فأطاعوه، أم نهاهم عنه فعصوه، أم أنزل سبحانه دينا تاما فقصر الرسول عن تبليغه وأدائه، والله تعالى يقول (ما فرطنا في الكتاب من شيء).(71) وفيه تبيان كل شئ. وذكر أن الكتاب يصدق بعضه بعضا. وإنه لا اختلاف فيه.
(ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا).(72) إن القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق. لا تفنى عجائبه. ولا تنقضي غرائبه. ولا تكشف الظلمات إلا به ".(73)
ويشهد بعدم معرفة جميع الصحابة بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واختلافهم في الفتوى، ما رواه البخاري عن أبي هريرة أنه قال " إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . يشبع بطنا، ويحضر ما لا يحضرون ويحفظ ما لا يحفظون "(74)، وروى البخاري أن عمر بن الخطاب لم يكن يعلم حكم الاستئذان، وذلك عندما استأذنه أبو موسى، وعندما لم يؤذن له رجع، فقال له عمر: ما منعك؟ قال: استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع، فقال عمر: والله لتقيمن عليه بينة، فانطلق أبو موسى إلى مجلس من الأنصار، وقال: أمنكم أحد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ فقال أبي بن كعب: لا يقوم معك إلا أصغر القوم. وفي رواية: لا يشهد إلا أصاغرنا.(75) قال أبو سعيد الخدري. وكنت أصغر القوم. فقمت معه فأخبرت عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ذلك(76)، وفي رواية: قال عمر: خفي علي هذا من أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . ألهاني الصفق بالأسواق ".(77)
ويشهد بأنهم لم يكونوا على علم بجميع ما روي عن رسول الله، ما روي في حديث صحيح، عن سالم بن عبد الله عن أبيه " أن أبا بكر وعمر وناس، جلسوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فذكروا أعظم الكبائر فلم يكن عندهم فيها علم، فأرسلوني إلى عبد الله بن عمرو أسأله، فأخبرني أن أعظم الكبائر شرب الخمر، فأتيتهم فأخبرتهم فأنكروا ذلك. ووثبوا إليه شيعا حتى أتوه في داره، فأخبرهم بحديث رسول الله... ".(78)
الهوامش
(1) رواه الطبراني عن ابن مسعود (كنز العمال 216 / 1) ورواه عن معاذ (كنز العمال 211 / 1).
(2) رواه عبد الله بن أحمد وإسناده جيد (الفتح الرباني 44 / 23).
(3) رواه أبو داوود حديث 4337، وقال الهيثمي رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح (الزوائد 269 / 7).
(4) رواه أحمد والبخاري (الفتح الرباني 177 / 19) والترمذي وصححه (الجامع 470 / 4).
(5) رواه الطبراني وفال الهيثمي رجاله ثقات (الزوائد 279 / 7).
(6) رواه أحمد وإسناده صحيح (الفتح الرباني 12 / 23).
(7) رواه أحمد (الفتح الرباني 22 / 23) والبخاري (الصحيح 235 / 4).
(8) رواه أحمد وقال الهيثمي رجاله ثقات (الفتح الرباني 23 / 23).
(9) رواه البخاري (الصحيح 128 / 4).
(10) رواه أحمد ورجاله ثقات (الفتح الرباني 132 / 23) (الزوائد 245 / 5) والحاكم وصححه وأقره الذهبي (المستدرك 515 / 4).
(11) سورة المجادلة آية 11.
(12) رواه الترمذي وقال حديث صحيح (تحفة الأحوازي 412 / 7).
(13) رواه أحمد والترمذي وحسنه والحاكم وصححه (النتح الرباني 183 / 1).
(14) رواه أحمد والطبراني بسند صحيح (الزوائد 200 / 1).
(15) تحفة الأحوازي 413 / 7.
(16) رواه الطبراني (كنز العمال 268 / 10) (الزوائد 189 / 1).
(17) رواه أحمد ورجاله ثقات (الزوائد 299 / 6).
(18) رواه الطبراني. وإسناده، حسن (الزوائد 230 / 6).
(19) رواه مسلم وأحمد (الفتح الرباني 190 / 1) وابن عساكر (كنز العمال 73 / 6).
(20) الفتح الرباني 190 / 1.
(21) سورة الفرقان آية 20.
(22) رواه مسلم (الصحيح 123 / 7).
(23) رواه الترمذي وحسنه (الجامع 662 / 5) والنسائي (كنز العمال 172 / 1).
(24) رواه الطبراني (كنز العمال 124 / 11).
(25) رواه الحاكم ونعيم بن حماد (كنز العمال 169 / 11).
(26) رواه أحمد والحاكم وصححه (المستدرك 142 / 3) والدارقطني والخطيب (كنز العمال 617 / 11) والبيهقي (البداية 218 / 6).
(27) قال الهيثمي رواه أحمد والبزار ورجاله ثقات (الزوائد 136 / 9) و الحاكم والبيهقي بسند صحيح (المستدرك 141 / 3، البداية والنهاية 218 / 6، كنز العمال 136 / 13).
(28) البداية والنهاية 177 / 8.
(29) رواه الحاكم وقال السيوطي سنده صحيح (الخصائص / السيوطي 213 / 2).
(30) رواه البغوي وابن السكن والبارودي وابن منده وابن عساكر وأبو نعيم (البداية والنهاية 199 / 8) (كنز العمال 126 / 12) (الخصائص الكبرى 213 / 2) (أسد الغابة 349 / 1) (الإصابة 68 / 1).
(31) أخرجه الطبراني في الكبير والأوسط باختصار (الزوائد 188 / 9) والماوردي في أعلام النبوة بسند صحيح ص 83.
(32) سورة الفرقان آية 20.
(33) سورة الأنعام آية 53.
(34) سورة الأنعام آية 165.
(35) سورة الشورى آية 23.
(36) سورة البقرة آية 27.
(37) سورة محمد آية 23.
(38) سورة الممتحنة آية 1.
(39) سورة العنكبوت آية 25.
(40) رواه الطبراني عن جابر، والخطيب عن ابن عباس (كنز 600 / 11).
(41) رواه الحاكم وابن عساكر (كنز 98 / 12).
(42) رواه الطبراني (كنز 104 / 12).
(43) سورة الفرقان آية 27.
(44) رواه ابن عدي والطبراني وقال ابن كثير روي عن طرق عديدة (البداية والنهاية 334 / 7) (كنز العمال 292 / 11).
(45) رواه أبو يعلى وقال البوصيري رجاله ثقات (كنز العمال 159 / 13).
(46) رواه مسلم (كنز العمال 509 / 3) وأحمد (الفتح الرباني 52 / 23).
(47) سورة الحج آية 78.
(48) سورة الزخرف آية 41.
(49) سورة إبراهيم آية 28.
(50) رواه الحاكم وأقره الذهبي (المستدرك 138 / 2) وابن جرير والضياء بسند صحيح (كنز 173 / 13) والترمذي وصححه (الجامع 634 / 5).
(51) رواه أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه (كنز 480 / 2).
(52) رواه نعيم بن حماد والحاكم (كنز 169 / 11).
(53) رواه نعيم بن حماد وقال ابن كثير رواه البيهقي ورجاله ثقات (كنز العمال 274 / 11) (البداية 268 / 6).
(54) أنظر: مجمع الزوائد 112 / 1، المستدرك 481 / 4، البداية والنهاية 50 / 10، الإصابة 29 / 2.
(55) كنز العمال 82 / 8.
(56) مسلم (الصحيح 135 / 2).
(57) محاولة الاغتيال رواها الإمام أحمد والطبراني وابن سعد وغيرهم (أنظر الزوائد 110 / 11).
(58) رواه مسلم (الصحيح 125 / 7).
(59) رواه مسلم (الصحيح 124 / 7) وأحمد (الفتح الرباني 140 / 23).
(60) رواه البخاري ك لصلاة ب التعاون في بناء المساجد، ورواه أحمد (الفتح الرباني 331 / 22).
(61) رواه ابن خزيمة في صحيحه والبغوي وابن راهويه (كنز العمال 586 / 5).
(62) رواه أحمد بسند صحيح (الفتح الرباني 61 / 23).
(63) رواه الإمام أحمد (الفتح الرباني 60 / 1) والطبري (تاريخ الأمم والملوك 200 / 3).
(64) لسان العرب مادة فلت ص 3455.
(65) تاريخ الأمم والملوك 30 / 5.
(66) المصدر السابق 31 / 5.
(67) المصدر السابق 210 / 3.
(68) البخاري (الصحيح 291 / 2).
(69) تاريخ الأمم 210 / 3.
(70) أنظر شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد ص 591 / 3.
(71) سورة الأنعام آية 38.
(72) سورة النساء آية 82.
(73) شرح النهج / ابن أبي الحديد 233 / 1.
(74) البخاري (الصحيح 214 / 1).
(75) البخاري ك الإعتصام (الصحيح 269 / 4).
(76) البخاري ك الإستئذان (الصحيح 88 / 4).
(77) البخاري ك الإعتصام (269 / 4).
(78) قال المنذري: رواه الطبراني بإسناد صحيح والحاكم وصححه وقال صحيح على شرط مسلم (الترغيب والترهيب 184 / 3).
******************
ويشهد باختلافهم في الفتوى، أن عمر بن الخطاب لم يكن يعلم حكم دية الأصابع. فكان يقضي بتفاوت ديتها على حسب اختلاف منافعها، حتى وجد كتابا عند آل عمرو بن حزم، يذكر فيه سنة النبي في في ذلك،(1) ولم يعلم عمر حكم الجنين إذا أسقط قبل ولادته، حتى جاء المغيرة بقضاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك(2)، واختلفوا في ميراث الجدة.(3)
وبالجملة: اجتهد الصحابة تحت سقف الامتحان والابتلاء، وكان الاجتهاد قابلا للخطأ وللصواب، فعن موسى بن إبراهيم قال " إن أبا بكر حين استخلف، قعد في بيته حزينا، فدخل عليه عمر بن الخطاب، فأقبل أبو بكر عليه يلومه. وقال: أنت كلفتني هذا الأمر. وشكا إليه الحكم بين الناس، فقال عمر: أو ما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . قال " إن الوالي إذا اجتهد فأصاب الحق فله أجران. وإن اجتهد فأخطأ فله أجرا واحدا،. فكأنه سهل على أبي بكر ".(4)
ثالثا - (المقدمات العمرية والنتائج الأموية)
أولا - (الأمر برواية الحديث)
أمرت الدعوة الإلهية الخاتمة بتدوين ما بين الناس حفظا للحقوق، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه)، إلى قوله تعالى: (ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا)(5)، قال الخطيب البغدادي: أدب الله تعالى عباده. بقيد ما بينهم من معاملات في بداية التعامل حفظا للدين وإشفاقا من دخول الريب فيه، فلما أمر الله تعالى بكتابة الدين حفظا له، كان العلم الذي حفظه أصعب من حفظ الدين. أحرى أن تباح كتابته خوفا من دخول الريب والشك فيه(6)، والكتابة أوكد الحجج، ببطلان ما يدعيه أهل الريب والضلال، فالمشركين لما ادعوا بهتانا اتخاذ الله سبحانه بنات من الملائكة، أمر الله تعالى رسوله أن يقول لهم (فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين).(7)
والنبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بكتابة العلم وقال " قيدوا العلم بالكتاب "(8) وعن رافع قال " خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: تحدثوا. وليتبوأ من كذب علي مقعده من النار، قلت: يا رسول الله إنا لنسمع منك أشياء فنكتبها؟
قال: إكتبوا ولا حرج "(9)، وعن أبي هريرة قال: ليس أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكثر مني حديثا عن رسول الله إلا ابن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب ".(10)
وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه "(11)، وكان يقول " نضر الله امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه "(12)، وقال " تسمعون ويسمع منكم ويسمع ممن سمع منكم ".(13)
ولقد وقف البعض من قريش في طريق الرواية والكتابة، ومن المحفوظ أن الله تعالى لعن على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بعض الأفراد والقبائل، وأن الرسول ذكر أسماء رؤوس الفتن وهو يخبر بالغيب عن ربه، حتى أن حذيفة قال " والله ما ترك رسول صلى الله عليه وآله وسلم من قائد فتنة. إلى أن تنقضي الدنيا بلغ معه ثلثمائة فصاعدا، إلا قد سماه لنا باسمه واسم أبيه واسم قبيلته "(14) ويشهد بصد قريش عن الرواية، ما روي عن عبد الله بن عمرو قال: قلت يا رسول الله أقيد العلم؟ قال: نعم، قلت؟ وما تقييده؟ قال:
الكتابة(15)، وروي عنه أنه قال: كنت أكتب كل شئ أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش فقالوا: إنك تكتب كل شئ تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ورسول الله بشر يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: أكتب والذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق - وأشار إلى فيه(16)، وما حدث مع عبد الله، حدث مع ابن شعيب، فعن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده قال " قلت يا رسول الله - أكتب كل ما أسمع منك؟ قال: نعم قلت: في الرضا والغضب؟ قال: نعم فإني لا أقول في ذلك كله إلا حقا.(17)
وبينما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحث على الرواية والكتابة على امتداد عهد البعثة، كان يخبر بالغيب عن ربه بأنه يوشك أن يكذبه أحدهم، وأن الرواية سيتم تعطيلها إلى أن يشاء الله، فعن معد يكرب قال " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يوشك أحدكم أن يكذبني وهو متكئ على أريكته.
يحدث بحديث من حديثي فيقول. بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله ".(18) وقال صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه " لألفين أحدهم متكئا على أريكته، يأتيه الأمر من أمري بما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري ما وجدناه في كتاب الله اتبعناه "،(19) وقوله يوشك إشارة إلى أن الأمر قريب، وقوله متكئ على أريكته، المتكئ. كل من استوى قاعدا على وطاء متمكنا.
(إجتهادات الصحابة في رواية الحديث وتدوينه):
إجتهد أبو بكر رضي الله عنه في رواية الحديث وتدوينه، روى الحافظ عماد الدين بن كثير عن أم المؤمنين عائشة أنها قالت: جمع أبي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكانت خمسمائة حديث، فبات ليلة يتقلب كثيرا، فغمتني، فقلت: تتقلب بشكوى أو بشئ بلغك؟ فلما أصبح قال: أي بنية هلمي الأحاديث التي عندك، فجئت لها، فدعا بنار فأحرقها، وقال: خشيت أن أموت وهي عندك. فيكون فيها أحاديث عن رجل إئتمنه ووثقت به ولم يكن كما حدثني، فأكون قد تقلدت ذلك " (20)، وذكر الذهبي في تذكرته. عن أبي بكر أنه قال " إنكم تحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشد اختلافا، فلا تحدثوا عن رسول الله شيئا، فمن سألكم فقولوا، بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه ".(21)
وروي أن عمر بن الخطاب في خلافته قال: إني كنت أريد أن أكتب السنن، وإني ذكرت قوما كانوا قبلكم، كتبوا كتبا فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله، وإني والله لا أشوب كتاب الله بشئ أبدا "(22) وروي عن مالك أن عمر قال " لا كتاب مع كتاب الله "(23)، وعن يحمى بن جعدة قال: أراد عمر أن يكتب السنة ثم بدا له أن لا يكتبها، ثم كتب في الأمصار: من كان عنده شئ من ذلك فليمحه "(24)، وعن القاسم بن محمد أن عمر قال: لا يبقى أحد عنده كتاب إلا آتاني به فأرى فيه رأيي، فظن الناس أنه يريد أن ينظر فيها ويقومها على أمر لا يكون فيه اختلاف، فأتوه بكتبهم، فأحرقها بالنار.(25)
وعن سعد بن إبراهيم عن أبيه. أن عمر بن الخطاب قال لابن مسعود ولأبي ذر ولأبي الدرداء، ما هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأحسبه حبسهم بالمدينة حتى أصيب(26)، وعن السائب بن يزيد قال:
سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبي هريرة: لتتركن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . أو لألحقنك بأرض دوس(27)، وعن الزهري عن أبي سلمة قال:
سمعت أبو هريرة يقول: ما كنا نستطيع أن نقول. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
حتى قبض عمر بن الخطاب.(28) وبعد عمر بن الخطاب بدأ بعض الصحابة يروون بعض ما عندهم، فأخذ عثمان بن عفان بسنة عمر في عدم الرواية، فعن محمود بن لبيب قال: سمعت عثمان بن عفان يقول، لا يحل لأحد يروي حديثا لم يسمع في عهد أبي بكر ولا عهد عمر "(29)، ثم أخذ معاوية بن أبي سفيان بهذه السنة، فقال " أيها الناس، أقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإن كنتم تتحدثون فتحدثوا بما كان يتحدث به في عهد عمر ".(30)
وعندما جاء عهد الإمام علي بن أبي طالب، لم يكن السواد الأعظم من الأمة يعرفون عنه إلا القليل، وذلك لأن عهده جاء بعد وفاة النبي في بربع قرن تقريبا، عتم فيها عدم الرواية على منزلته ومناقبه، وفي عهد علي بن أبي طالب بدأ الصحابة يروون الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان علي يقول " خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: اللهم إرحم خلفائي، اللهم إرحم خلفائي، اللهم إرحم خلفائي، قالوا: يا رسول الله ومن خلفائك؟ قال: الذين يأتون من بعدي ويروون أحاديثي ويعلمونها للناس "(31)، وعن الحسن بن علي قال " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، رحمة الله على خلفائي، قالوا: ومن خلفاؤك يا رسول الله يا رسول الله؟ قال:
الذين يحيون سنتي ويعلمونها للناس "(32)، وعن سعيد بن المسيب قال " ما كان أحد من الناس يقول سلوني، غير علي بن أبي طالب "، وكان علي يحض الناس على السؤال ويقول " ألا رجل يسأل فينتفع. وينتفع جلساءه "(33)، وكان يقول " تزاوروا وتدارسوا الحديث، ولا تتركوه يدرس (أي تعهدوه لئلا تنسوه)(34) وقال " تعلموا العلم. فإذا علمتموه فاكظموا عليه ولا تخالطوه بضحك وباطل فتمحه القلوب ".(35)
وبالجملة: بينت الدعوة الإلهية الخاتمة، أن الحديث عن النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم، لا غنى للمسيرة عنه، لأنه مكمل للتشريع ومبين لمجملات القرآن، ومخصص لعموماته ومطلقاته، كما أن الحديث تكفل بكثير من النواحي الأخلاقية والاجتماعية والتربوية، وأخبر فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالغيب عن ربه جل وعلا، فبين للناس ما يستقبلهم من أحداث ليأخذوا بأسباب النجاة من مضلات الفتن، وبعد رحيل النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم أجتهد بعض الصحابة في أمر الرواية والتدوين، ولقد تواترت الأخبار في منع عمر بن الخطاب الصحابة وهم الثقات العدول، وردعهم عن رواية العلم وتدوينه، وفي هذا يقول ابن كثير: هذا معروف عن عمر(36)، ثم سار على سنة عمر خلفاء وملوك بني أمية، ولم ترو الأحاديث الجامعة للعلم والمبينة للناس ما يستقبلهم من أحداث، إلا في عهد الإمام علي بن أبي طالب.(37)
(من آثار عدم الرواية والتدوين):
كانت أهم آثار عدم الرواية، ظهور القص في المساجد، ومن خلال القص دخلت الأحاديث الإسرائيلية، ورفع القص من شأنه أفراد وقبائل ذمهم الله على لسان رسوله، وفي نفس الوقت عتم القص على أفراد أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وفي عهد الإمام علي عندما أظهر الإمام أحاديث رسول الله، قابله أهل الشام وغيرهم بأحاديث يجري القص في عروقها، وترتب على ذلك اختلاط الأمور على السواد الأعظم من الأمة ولم يكونوا من الصحابة حتى يميزوا بين الصالح وبين الطالح، وجرت المعارك، ثم إختلفت الأمة وتفرقت. وكل فرقة كان في حوزتها أحاديث تتفق مع أهواء شيوخهم.
1 - أضواء على القص:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إن بني إسرائيل لما هلكوا قصوا ".(38) وقال " سيكون بعدي قصاص لا ينظر الله إليهم "(39)، وأول من أمر بالقص، عمر بن الخطاب، روى الإمام أحمد عن السائب بن يزيد قال: " إنه لم يكن يقص على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا أبي بكر. كان أول من قص تميم الداري. إستأذن عمر أن يقص على الناس قائما فأذن له ".(40)
واستلم بني أمية أعلام القص بعد ذلك، روي أن عبد الملك بن مروان قال: إنا جمعنا الناس على أمرين. رفع الأيدي على المنابر يوم الجمعة، والقصص بعد الصبح والعصر "(41)، ولبس القص الزي الديني في عهد بني أمية، وذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يبدأ بالصلاة في العيدين ثم يخطب بعد ذلك، ففعل بني أمية العكس. وبدؤوا بالخطبة لينشروا بذلك مذهبهم السياسي بين الناس، روى الإمام مسلم عن أبي سعيد الخدري. أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . كان يخرج يوم الأضحى ويوم الفطر. فيبدأ بالصلاة.
فإذا صلى صلاته وسلم. قام فأقبل على الناس وهم جلوس في مصلاهم. فإن كان له حاجة ببعث ذكره للناس. أو كانت له حاجة بغير ذلك أمرهم بها.(42)
أما التغيير ففي ما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري " أن مروان خطب قبل الصلاة. فقال له أبو سعيد: غيرتم والله. قال مروان: يا أبا سعيد قد ذهب ما تعلم، فقال: ما أعلم والله خير مما لا أعلم، قال مروان: إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة، فجعلتها قبل الصلاة " وقد اختلف في أول من سن هذه السنة، قال في تحفة الأحوازي: اختلف في أول من غير ذلك، فرواية الإمام مسلم صريحة في أن مروان أول من بدأ الخطبة قبل الصلاة، وقيل. سبقه إلى ذلك عثمان بن عفان، روى ابن المنذر بإسناد صحيح إلى الحسن البصري قال: أول من خطب قبل الصلاة عثمان، وروى أن مروان فعل ذلك تبعا لمعاوية، ومعاوية عندما قدم المدينة قدم الخطبة(43)..
وكان الإمام علي يتصدى للقصاصين وينهاهم عن القص، فعن أبي البحتري قال: دخل علي بن أبي طالب المسجد، فإذا رجل يخوف، فقال: ما هذا؟ قالوا: رجل يذكر الناس، فقال: ليس برجل يذكر الناس. ولكنه يقول أنا فلان بن فلان. اعرفوني، فأرسل إليه فقال:
أتعرف الناسخ من المنسوخ، قال: لا، فقال: أخرج من مسجدنا ولا تذكر فيه.(44)
وبالجملة: قال في الفتح الرباني: القص هو إخبار الناس بقص الماضين، وعمل ذلك مذموم شرعا، لأنه يصرف الناس عن الاشتغال بالعلوم الدينية، ولم يعهد ذلك في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم . وقال ابن حبان. قال أبو حاتم: كان القصاصون يضعون الحديث في قصصهم، وكانوا إذا دخلوا بمساجد الجماعات ومحافل القبائل من العوام والرعاع أكثر جسارة على وضع الحديث(45)، كما وضعوا أحاديث تنافي عصمة الأنبياء. فجعلتهم يخطؤن، ونسبوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يسب ويلعن ويجلد بغير سبب، ونسبوا إليه أنه كان يسهو في الصلاة وأنه كان ينسى آيات القرآن الكريم، وأرادوا من وراء تجريد النبي من العصمة أن يبرروا أخطاء الأمراء الذين جلدوا الشعوب وضيعوا الصلاة، وأن يعطوا للذين لعنهم الله على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم . جواز المرور لتولي المراكز القيادية.
ووضع القصاصون أحاديث تحمل بصمة أهل الكتاب، والصق بالتفسير روايات وقصص لا يتصورها عقل ولا يجوز أن يفسر بها كتاب الله، ووضعوا في هذه الأحاديث. أن الله يشغل حيزا من المكان، ويضحك وينتقل من مكان إلى آخر، وأنه يتألف من أعضاء، وهو عبارة عن هيكل مادي، وعين ويد وأصابع وساق وقدم.
وبالجملة: كان القص وراء تغييب العقل ووطئه بالأقدام، وتحت سقفه إختل منهج البحث ومنهج التفكير ومنهج الاستدلال، وعلى موائده لا تظهر القراءة النقدية المتفحصة التقيمية إلا بعد عناء شديد، وكان القص وراء إهمال الواجبات والتسامح في المحرمات والتهاون بالسنن والمستحبات، وكان البذرة الأولى لظهور المبادئ والمنظمات الباطلة التي وضعت القوانين على طبق أهوائهم وآرائهم، وعلى هذه المبادئ انقسمت الأمة إلى قوافل. وكل قافلة تتولى حزبا وتحبه. لأنها تميل إلى قوانينه وتحب القائمين عليه، وعلى رؤوس الجميع الحجة قائمة. والله تعالى ينظر إلى عباده كيف يعملون.
2 - الخفوت والظهور:
وكان من آثار عدم الرواية. التعتيم على أهل البيت، وذلك لأن الأمر بحرق الكتب. أطاح بالعديد من الأحاديث التي تبين منزلة أهل البيت ومناقبهم، ويشهد ذلك ما رواه الخطيب البغدادي عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه قال: جاء علقمة بكتاب من مكة أو اليمن.
صحيفة فيها أحاديث في أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فاستأذنا على عبد الله، فدخلنا عليه فدفعنا إليه الصحيفة، فدعا الجارية ثم دعا بطست فيها ماء، فقلنا له: يا أبا عبد الرحمن انظر فيها. فإن فيها أحاديث حسانا، فجعل يميثها في الماء، ويقول (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن) القلوب أوعية فاشغلوها بالقرآن. ولا تشغلوها بما سواه.(46)
ويشهد بذلك أن عليا عندما تولى الخلافة لم يكن السواد الأعظم يعلم عن منزلته ومناقبه شيئا، حتى أنشد بالله كل امرئ مسلم سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول " من كنت مولاه فعلي مولاه " أن يقوم. وكان قد جمعهم في الرحبة. ولم يعرف العوام مناقبه إلا من خلال ما رواه الصحابة بعد ذلك وكان العديد من الصحابة يتحدثون في مجالسهم الخاصة عن مناقبه، ولكن هذا الحديث لم يكن يخرج إلى الساحات العامة، وفي مقابل هذا التعتيم، كان لعدم الرواية الأثر الكبير في ظهور الذين حذر منهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يخبر بالغيب عن ربه، ويشهد بذلك ما روي عن حذيفة أنه قال: " والله ما أدري أنسي أصحابي أم تناسوا، والله ما ترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قائد فتنة إلى أن تنقضي الدنيا بلغ من معه ثلثمائة فصاعدا، إلا وقد سماه لنا باسمه واسم أبيه واسم قبيلته "(47) ومعنى " أم تناسوا " أي أظهروا النسيان لمصلحة، ومعنى " باسمه واسم أبيه " يعني وصفا واضحا مفصلا لا مبهما، مجملا فالاستقصاء متصل.
وروي عن حذيفة أنه قال: إن المنافقين اليوم شر منهم على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كانوا يومئذ يسرون واليوم يجهرون(48)، وقال: إنما كان النفاق على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأما اليوم فإنما هو الكفر بعد الإيمان(49)، وحذيفة مات بعد مقتل عثمان بأقل من شهر، وكان مريضا، وعندما علم بأن الناس بايعوا علي بن أبي طالب، بايع وهو على فراش المرض، وحث الناس على الالتفاف حول علي بن أبي طالب وعمار بن ياسر، وأمر ولداه بالقتال مع علي، فقاتلا تحت أعلام الإمام علي، حتى قتلا.(50)
وبعد ظهور النفاق في ظل سياسة اللارواية، خاف الصحابة فلم يحدثوا بالأحاديث الكاشفة، ويشهد بذلك، ما رواه البخاري عن أبي هريرة قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعاءين. فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم،(51) وعنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " هلاك أمتي على يدي غلمة من قريش " إن شئت أن أسميهم بني فلان وبني فلان(52) وعنه أنه قال: إني لأحدث أحاديث. لو تكلمت بها في زمان عمر، أو عند عمر، لشج رأسي.(53)
ويشهد به أيضا، ما روي عن بجالة قال. قلت لعمران بن حصين:
حدثني عن أبغض الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: تكتم علي حتى أموت؟ قلت: نعم، قال: بنو أمية وثقيف وبنو حنيفة(54). ومن الثابت والمعروف أن بني أمية شقوا طريقهم نحو السلطة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
بتأمير أبي بكر رضي الله عنه ليزيد بن أبي سفيان على الشام(55). وبعد وفاة يزيد. قام عمر بتأمير معاوية(56). وروي أن عمر كان يقول للناس:
أتذكرون كسرى وعندكم معاوية(57)، وقال لهم عندما ذكروا معاوية: دعوا فتى قريش وابن سيدها. إنه لمن يضحك في الغضب. ولا ينال منه إلا على الرضا ".(58)
وأحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي يحذر فيها من بني أمية، أحاديث كثيرة، منها: ما روي عن أبي ذر أنه قال. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إذا بلغ بنو أمية أربعين رجلا، اتخذوا مال الله دولا، وعباد الله خولا، ودين الله دغلا "(59). ومعنى (مال الله دولا) أي يكون لقوم دون قوم (وعباد الله خولا) أي خدما وعبيدا (ودين الله دغلا) أي يدخلوا في الدين أمور لم ترد بها السنة.
والحديث روي عن أبي سعيد الخدري وابن عباس وأبي ذر، ورواه الإمام أحمد والحاكم وأبو يعلى والطبراني والبيهقي، وروي بلفظ " إذا بلغ بنو أبي العاص " وبلفظ " إذا بلغ بنو فلان "، وقال الحاكم بعد روايته للحديث: ليعلم طالب العلم، أن هذا باب لم أذكر فيه ثلث ما روي، وأن أول الفتن في هذه الأمة فتنتهم، ولم يسعني فيما بيني وبين الله تعالى. أن أخلي الكتاب من ذكرهم.(60)
والخلاصة: كان لسياسة اللارواية والتدوين آثار جانبية، منها: اكتفاء الناس بتلاوة القرآن دون الوقوف على معانيه وأهدافه، وأدى ذلك إلى ظهور الذين يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، وفي عهد الإمام علي ظهرت حقيقتهم أمام الناس، وحاربهم الإمام في موقعة النهروان، وما زالت بقيتهم في أصلاب الرجال وأرحام النساء لأن منهجهم وثقافتهم لن تموت حتى يخرج الدجال، ومنها: ظهور الذين لعنهم الله على لسان نبيه بعد أن ضاع التحذير منهم في عالم اللارواية، ومنها التعتيم على الهداة. واقتصر ذكرهم في المجالس الخاصة، ومنها ظهور القص وعلى مائدته صنعت مناقب وتواريخ لقوافل لا تحمل من العلم إلا قشوره، وعلى القص ظهرت ثقافات التحمت مع ثقافة أهل الكتاب، وتشهد بذلك عقيدة الجبرية يقول الشيخ محمد أبو زهرة: أول من دعا إلى هذه النحلة من المسلمين " الجعد بن درهم "، وقد تلقى ذلك عن يهودي بالشام، لأن اليهود أول من فعل ذلك وعلموه بعض المسلمين وهؤلاء أخذوا ينشرونه(61)، ولقد استغل بنو أمية هذه العقيدة في إخضاع المسلمين، بحجة أن قيادتهم مفروضة عليهم بقضاء الله وقدره، وأن أي تمرد عليهم هو تمرد على قضاء الله، ولقد قامت هذه العقيدة على أحاديث وضعها القصاص، كان الهدف من ورائها تزييف النشاط الإنساني منذ بدء الخلق إلى قيام الساعة والتطوع بالوحي كله، وتحت أعلام عقيدة الجبر انطلقت جحافل بني أمية إلى ديار المسلمين، بعد أن مهد القص والأحاديث الموضوعة طريقهم نحو اتخاذ دين الله دغلا، ليتخذوا مال الله دولا وعباد الله خولا، وقتلوا الذين يأمرون بالقسط من الناس، من أمثال حجر بن عدي والحسين بن علي وغيرهما.
ولم تكن عقيدة المرجئة بعيدة عن نسيج القصاص. لأن الأحاديث الموضوعة هي التي غذتها، وعلى ذروة عقيدة المرجئة يجلس يوحنا الدمشقي، وهو آخر كبار علماء النصرانية على مذهب الكنيسة الإغريقية، وكان أبوه صاحب عبد الملك بن مروان، وصنف يوحنا كتاب في فضائل النصرانية على منهج محادثة بين مسلم ونصراني(62) وقال الشيخ أبو زهرة " كان يوحنا يبث بين علماء النصارى في البلاد الإسلامية طرق المناظرات التي تشكك المسلمين في دينهم، وظهرت آراء يوحنا بالشام "، بعد أن وجدت لها حصنا صنعه القص والأحاديث الموضوعة، ومن خلال هذا الالتقاء. تطرق البحث حول مرتكب الكبيرة، هل هو مؤمن أم غير مؤمن؟ وهل يضر مع الإيمان ذنب؟ وعلى مائدة البحث خرجت العقيدة التي تعتذر عن بني أمية فيما ارتكبوه من جرائم، بمعنى: لقد ضربوا بعقيدة الجبرية. واعتذروا بعقيدة المرجئة، التي تقول بأنه لا ينبغي المفاضلة بين المسلمين ولا الحكم على أحد بتقوى وغير تقوى، فالمسلم يكفي أن يكون مسلما، وبهذه العقيدة تم الافتراء على الله ورسوله بتغيير الأحكام الشرعية. وإظهار البدع والباطل، وقولهم أن الأمة مرحومة والله رفع العذاب عنها، وإنهم في أمن من عذاب الله وإن انهمكوا في كل إثم وخطيئة وهتكوا كل حجاب، والأمة مغفور لها محسنهم ومسيئهم. وإن لهم الكرامة في الدنيا. ولهم أن يفعلوا ما شاؤا بعد أن استظلوا بمظلة حجاب الأمن. ولهم في الآخرة مغفرة توجب فتح أبواب الجنة أمامهم. وبعقيدة المرجئة اشتد الساعد بعد أن ارتدى قفازا من حرير في الوقت الذي يحتفظ فيه بقبضته الحديدية. وملئت الأرض ظلما وجورا.
الهوامش
(1) أخرجه الشافعي في الأم بسند حسن. والنسائي.
(2) رواه البخاري ك الديات (الصحيح 193 / 4).
(3) رواه أحمد (الفتح الرباني 198 / 15) والترمذي (الجامع 419 / 4).
(4) رواه البيهقي وابن راهويه وخثيمة (كنز العمال 630 / 5).
(5) سورة البقرة آية 282.
(6) تقييد العلم / الخطيب البغدادي ص 34.
(7) سورة الصافات آية 157.
(8) رواه الطبراني وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح (الزوائد 152 / 1) وابن عبد البر (جامع العلم 86 / 11).
(9) رواه الطبراني (الزوائد 151 / 1) والخطيب وسمويه (كنز العمال 232 / 10).
(10) رواه الترمذي وصححه (الجامع 40 / 5).
(11) رواه أحمد (الفتح الرباني 191 / 1) والحاكم (المستدرك 109 / 1).
(12) رواه أحمد (كنز العمال 220 / 10) والترمذي وابن حبان في صحيحه (كنز 221 / 10).
(13) رواه أحمد وأبو داوود والحاكم (كنز 223 / 10).
(14) رواه أبو داوود حديث رقم 4243.
(15) رواه الطبراني (الزوائد 152 / 1).
(16) رواه أحمد (الفتح الرباني 173 / 1) والحاكم وأقره الذهبي (المستدرك 106 / 1) وأبو داوود (حديث رقم 3646) والدرامي في سننه 125 / 1.
(17) رواه ابن عبد البر (جامع العلم 85 / 1) والخطيب (تقييد العلم ص 74).
(18) رواه أحمد (الفتح الرباني 191 / 1) والحاكم وصححه (المستدرك 109 / 1) والترمذي وصححه (الجامع 38 / 5).
(19) رواه أحمد وأبو داوود وابن ماجة والحاكم وصححه (كنز 174 / 1) والترمذي وصححه (الجامع 37 / 5).
(20) رواه ابن كثير (كنز العمال 285، 286 / 10).
(21) تذكرة الحفاظ 2، 3 / 1.
(22) رواه ابن عبد البر (كنز 292 / 10) وابن سعد (كنز 293 / 10) والخطيب (تقييد العلم ص 49).
(23) رواه ابن عبد البر (كنز 292 / 10).
(24) رواه خيثمة وابن عبد البر (كنز 292 / 10) والخطيب (تقييد العلم 53).
(25) رواه الخطيب (تقييد العلم 52).
(26) رواه ابن عبد البر (كنز العمال 292 / 10) وابن سعد (كنز 293 / 0 1) والخطيب (العلم 49).
(27) رواه ابن عساكر (291 / 10).
(28) رواه ابن كثير (البداية والنهاية 107 / 8).
(29) رواه ابن سعد (الطبقات 336 / 2) وابن عساكر (كنز 295 / 10).
(30) رواه ابن عساكر (كنز 291 / 10).
(31) رواه الطبراني والرامهرمزي والخطيب والديلمي وابن النجار والدينوري والقشيري ونصر (كنز العمال 294 / 10).
(32) رواه ابن عساكر وأبو نصر السجزي (كنز 229 / 10).
(33) المصدر السابق 137 / 1.
(34) رواه الخطيب (كنز العمال 304 / 10).
(35) رواه عبد الله بن أحمد والخطيب (كنز 304 / 10).
(36) البداية والنهاية 107 / 8.
(37) أنظر / معالم الفتن / سعيد أيوب ط دار الكرام بيروت.
(38) رواه الطبراني ورجاله موثقون وفيه الأجلح الكندي والأكثر على توثيقه (الزوائد 189 / 1).
(39) رواه ابن فضالة في أماليه (كنز العمال 282 / 10).
(40) رواه أحمد والطبراني (الزوائد 190 / 1) والعسكري عن بشر بن عاصم (كنز 281 / 10) والمروزي عن أبي نضرة (كنز 281 / 10).
(41) رواه أحمد والبزار وقال ابن حجر إسناده جيد (الفتح الرباني 194 / 1).
(42) رواه مسلم (الصحيح 20 / 3).
(43) تحفة الأحوازي 74 / 3.
(44) رواه العسكري والمرزوي (كنز العمال 281 / 10) وانظر: كنز العمال 282 / 10.
(45) المجروحين / ابن حبان ص، 88 / 1.
(46) تقييد العلم / الخطيب ص 54.
(47) رواه أبو داوود 4243.
(48) رواه البخاري (الصحيح 230 / 4).
(49) رواه البخاري (الصحيح 230 / 4).
(50) أنظر: معالم الفتن / سعيد أيوب.
(51) البخاري (الصحيح 34 / 1).
(52) البخاري (الصحيح 280 / 2).
(53) رواه ابن عبد البر (جامع العلم 148 / 1) وابن كثير (البداية والنهاية 107 / 8).
(54) نعيم بن حماد (كنز العمال 274 / 11).
(55) تاريخ الأمم والملوك 28 / 4.
(56) ابن سعد (كنز العمال 606 / 13) البداية والنهاية 118 / 8، تاريخ الأمم 69 / 5، الإستيعاب 596 / 3.
(57) تاريخ الأمم 184 / 6، الإستيعاب 596 / 3.
(58) الديلمي (كنز 587 / 13) البداية والنهاية 125 / 8، الإستيعاب 597 / 3.
(59) الحاكم وصححه (المستدرك 479 / 3).
(60) المستدرك 482 / 4.
(61) تاريخ المذاهب الإسلامية / أبو زهرة 102 / 2.
(62) تاريخ الأدب العربي / بروكلمان 256 / 1.
******************
ثانيا - (الأمر النبوي في الأموال):
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم " إن لكل أمة فتنة. وفتنة أمتي المال "(1)، ولما كان فتنة الأمة في المال، بينت الشريعة الخاتمة موضع الرحاب الآمن، وشاء الله أن يكون الأمن في فعل الرسول، بمعنى أن النجاة لن تكون في منع الرواية عن الرسول، لأن الله تعالى بين موضع كل مال. وقسمه بين عباده تقسيما حقا بوضع قوانين عادلة تعدل الملك تعديلا حقا يقطع منابت الفساد، وهذه القسمة وهذه القوانين نفذها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يبين للناس ما أنزل إليهم من ربهم، وفي الوقت الذي كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقيم الحجة. كان يخبر بالغيب عن ربه ويقول " إن هذا الدينار والدرهم أهلكا من قبلكم وهما مهلكاكم "(2)، وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأوامر تدفع هذا الهلاك، ومنها التقدم بالصدقة، لأن من خاصتها أنها تنمي المال. لأنها تنشر الرحمة وتورث المحبة. وتآلف القلوب وتبسط الأمن. وتصرف القلوب عن أن تهم بالغضب والاختلاس والفساد والسرقة. وتدعو إلى الاتحاد والمساعدة والمعونة. وبذلك يفسد أغلب طرق الفساد، وحذر عليه الصلاة والسلام من التعامل بالربا، لأن الربا من خاصته أنه يمحور المال ويفنيه تدريجيا، من حيث أنه ينشر القسوة والخسارة ويورث البغض والعداوة وسوء الظن، ويفسد الأمن والحفظ. ويهيج النفوس على الانتقام بأي وسيلة أمكنت، ويدعو إلى التفرق والاختلاف، وبذلك يفتح أغلب طرق الفساد وأبواب الزوال على المال.
ولأن المجتمع في نظر الشريعة ذو شخصية واحدة، له كل المال الذي أقام به صلبه وجعله له معاشا، فإن الشريعة الزمت المجتمع بأن يدير المال ويصلحه ويعرضه معرض النماء، ويرتزق به ارتزاقا معتدلا مقتصدا. ويحفظه من الضيعة والفساد، ومن مجملات القرآن التي تتعلق بالأموال وبينها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليستقيم حال المجتمع، قوله تعالى: (يسألونك عن الأنفال. قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين)(3)، والمعنى:
يسألك أصحابك يا محمد عن هذه الغنائم التي غنمتها. فقل: هي لله والرسول. يحكم فيها الله بحكمه ويقسمها الرسول. وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " إنما أنا قاسم وخازن. والله يعطي "(4)، وقال " ما أعطيكم ولا أمنعكم أنا قاسم أضع حيث أمرت "(5)، وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم حكم الله في الغنيمة، وقال تعالى: (واعلموا إنما غنمتم من شئ فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله...)(6)، وبين الرسول حكم الخمس وحكم الأربعة أخماس، وعلموا حق الذين حرمت عليهم الصدقة من ذي القربى، وحق الجنود.
وقال تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب وفي سبيل الله. فريضة من الله والله عليم حكيم)(7)، قال المفسرون: بين الله تعالى أنه هو الذي قسم الصدقات وبين حكمها وتولى أمرها بنفسه، ولم يكل قسمتها إلى أحد غيره، فقوله " فريضة من الله " إشارة إلى أن تقسيمها إلى الأصناف الثمانية أمر مفروض منه تعالى، وإشارة إلى أن الزكاة فريضة واجبة، وقوله تعالى:
(والله عليم حكيم) إشارة إلى أن فريضة الزكاة مشرعة على العلم والحكمة، لا تقبل تغيير المغير.
وروى أبو داوود عن زياد بن الحارث قال " أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فبايعته. فأتاه رجل. فقال: اعطني من الصدقة، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها. فجزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك ".
وأقامت الشريعة الخاتمة الحجة على المسيرة، فأخبر النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم . إن فتنة أمته في المال، وبين كيف تدخل الأمة في حجاب الأمن. وفي الوقت الذي بين فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم حكم الغنيمة أخبر بالغيب عن ربه، بأن فتنة المال ستصيب البعض، وقال " كأني براكب قد أتاكم فنزل. فقال. الأرض أرضنا والفيئ فيئنا وإنما أنتم عبيدنا. فحال بين الأرامل واليتامى وما أفاء الله عليهم "(8)، أخبر النبي بهذا حتى يأخذوا بالأسباب وهم تحت سقف الامتحان والابتلاء. لأن الله تعالى ينظر إلى عباده كيف يعملون.
(إجتهاد الصحابة في الأموال)
ذكرنا أن الساحة بعد رسول الله كان بها صحابة سمعوا من النبي شيئا ولم يحفظوه على وجهه. وكان بها من سمع منه شيئا يأمر به ثم نهى عنه وهو لا يعلم. فحفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ، وأدى هذا في نهاية المطاف إلى تضارب القرارات ثم ضياع مال الله في عهد بني أمية. بعد أن بسطوا أيديهم على بيوت المال، وبالجملة نقدم هنا الأحاديث التي تشهد بالمقدمات الأولى.
روى البخاري ومسلم. عن عائشة أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
سألت أبا بكر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقسم لها ميراثها مما ترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال لها أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا نورث ما تركناه صدقة، فغضبت فاطمة فهجرت أبا بكر، فلم تزل مهاجرة له حتى توفيت، وعاشت بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ستة أشهر، فكانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها مما ترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من خيبر وفدك وصدقته بالمدينة، فأبى أبو بكر ذلك.. ".(9)
وروى الإمام أحمد " لما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أرسلت فاطمة إلى أبي بكر: فقال: أأنت ورثت رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أهله؟ فقال:
بل أهله. قالت: فأين سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إن الله عز وجل إذا أطعم نبيا طعمة ثم قبضه جعله للذي يقوم من بعده، فرأيت أن أرده على المسلمين ".(10)
ولقد ثبت بالأحاديث الصحيحة أن أبا بكر أبى أن يعطي فاطمة رضي الله عنها ما ترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من خيبر وفدك وصدقته بالمدينة، وذلك لما عنده من حديث لم يرويه غيره. وفي عهد عمر روى البخاري ومسلم. أن صدقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة. دفعها عمر إلى علي بن أبي طالب والعباس. وأمسك خيبر وفدك(11)، وذلك أيضا لما عنده من حديث، وروي أن أهل البيت ردوا إلى عمر ما دفعه إليهم لأنهم وجدوه دون حقهم الذي بينه رسول الله لهم، فعن يزيد بن هرمز. أن نجدة الحروري أرسل إلى ابن عباس يسأله عن سهم ذي القربى. ويقول لمن تراه؟ فقال ابن عباس: لقربى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قسمه لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد كان عمر عرض علينا من ذلك عرضا رأيناه دون حقنا فرددناه عليه، وأبينا أن نقبله ".(12)
وكان لقرار منع ميراث الرسول وصدقته آثار جانبية منها:
التعتيم على أهل البيت، لأن خروجهم من تحت سقف ما كتبه الله لهم وهم الذين حرمت عليهم الصدقة، يجعلهم كغيرهم من الناس، ولم يفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا في حياته. وإنما كان يضع الناس في مواضعهم التي حددها الله تعالى، فعن جبير بن مطعم قال " مشيت أنا وعثمان بن عفان إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . فقلنا: يا رسول الله أعطيت بني المطلب وتركتنا ونحن وهم منك بمنزلة واحدة، فقال: إنما بنو المطلب وبنو هاشم شئ واحد "(13) وفي رواية " إنا وبنو المطلب لا نفترق في جاهلية ولا إسلام. وإنما نحن وهم شئ واحد. وشبك بين أصابعه "(14).
أما فيما يختص بحقوق الجنود. فقد بينه النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين سئل:
ما تقول في الغنيمة؟ قال: لله خمس. وأربعة أخماس للجيش "(15). لكن عمر بن الخطاب اجتهد في هذا، وأمر بوضع جميع الغنائم في بيت المال ثم قام بتقسيم هذه الغنائم وفقا لما يراه، ودون على ذلك الدواوين، وعدم قسمة عمر للغنائم يشهد به ما روي عن إبراهيم إنه قال: لما افتتح المسلمون السواد قالوا لعمر: إقسمها بيننا فإنا فتحنا، فأبى عمر وقال: فما لمن جاء بعدكم من المسلمين "(16) وقال عمر " لولا آخر المسلمين ما فتحت قرية إلا قسمتها سهمانا كما قسم رسول الله خيبر سهمانا، ولكني أردت أن يكون جزية تجري على المسلمين، وكرهت أن يترك آخر المسلمين لا شئ لهم "(17) وفي رواية قال: ولكني أتركها خزانة لهم.(18)
ويشهد التاريخ أن هذه الخزانة أضرت أكثر مما نفعت، فبعد أن بسطت بنو أمية أيديهم على بيوت المال التي تركها عمر بن الخطاب، اتخذوا دين الله دغلا، ومال الله دولا، وعباد الله خولا، واستمرت بيوت المال على امتداد المسيرة يشترى بها الحكام الذمم ويسفكون بها الدم الحرام.
وكان هناك العديد من الصحابة الذين عارضوا سياسة عدم قسمة الغنائم على سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، منهم الزبير بن العوام، فعن سفيان بن وهب قال: لما فتحنا مصر بغير عهد، قام الزبير فقال: إقسمها يا عمرو بن العاص فقال: لا أقسمها، فقال الزبير: والله لتقسمنها كما قسم رسول الله خيبر، فقال: والله لا أقسمها حتى أكتب إلى أمير المؤمنين، فكتب عمر إليه: أقرها حتى تغزوا منها حبل الحبلة(19)، قال المفسرون في رد عمر،. يريد حتى يغزو أولاد الأولاد ويكون عاما في الناس.
وقيل: أو يكون أراد المنع من القسمة حيث علقه على أمر مجهول.
ويشهد التاريخ أن عمرو بن العاص بسط يده على مصر كلها وكان خراجها له طيلة حياته في عهد معاوية بن أبي سفيان، وذلك عندما تكاتف عمرو مع معاوية على علي بن أبي طالب، فكافأه معاوية بأن تكون مصر له طعمة، ومن الذين اعترضوا على قرار عمر. بلال بن رباح، قال له عندما افتتحوا أرضا: إقسمها بيننا وخذ خمسها، فقال عمر: لا هنا عين المال، ولكني أحبسه فيئا يجري عليهم وعلى المسلمين، فقال بلال وأصحابه: إقسمها بيننا، فقال عمر: اللهم اكفني بلالا وذويه. قال راوي الحديث: فما حال الحول ومنهم عين تطرف(20) أي: ماتوا بفضل دعاء عمر.
وكان بلال كثير الاعتراض على سياسة عمر. عن ابن أبي حازم قال: جاء بلال إلى عمر حين قدم الشام. وعنده أمراء الأجناد. فقال. يا عمر. يا عمر. إنك بين هؤلاء وبين الله، وليس بينك وبين الله أحد، فأنظر من بين يديك ومن عن يمينك ومن شمالك، فإن هؤلاء الذين جاؤوك (أي أتباع بلال) والله لم يأكلوا إلا لحوم الطير (أي لم يصل إليهم من الأمراء شيئا)، فقال عمر للأمراء: لا أقوم من مجلسي هذا حتى تكفلوا لي لكل رجل من المسلمين بمديت(21) بر وحظهما من الخل والزيت، قالوا: تكفلنا لك يا أمير المؤمنين(22).
أما قسمة عمر بن الخطاب بين الناس، فلقد فضل عمر المهاجرين من قريش على غيرهم من المهاجرين، وفضل المهاجرين كافة على الأنصار كافة، وفضل العرب على العجم، وروي أنه قال " من أراد أن يسأل عن المال فليأتني، فإن الله جعلني له خازنا وقاسما، ألا وإني بادئ بالمهاجرين الأولين أنا وأصحابي فمعطيهم، ثم بادئ بالأنصار الذين تبوؤا الدار والإيمان فمعطيهم، ثم بادئ بأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فمعطيهن، - وفي رواية " ففرق لأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا جويرية وصفية وميمونة. فقالت عائشة: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يعدل بيننا. فعدل بينهن عمر ".(23) ثم قال عمر: من أسرعت به الهجرة أسرع به العطاء، ومن أبطأ عن الهجرة أبطأ به عن العطاء فلا يلومن أحدكم إلا مناخ راحلته ".(24)
وبالجملة: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيما قرية افتتحها الله ورسوله فهى لله ورسوله، وأيما قرية افتتحها المسلمون عنوة، فخمسها لله ولرسوله وبقيتها لمن قاتل عليها "(25)، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يسوي بين الجنود في القسمة، ولم يخص أحدا بشئ دون الآخر(26)، ولقد أخبر بالغيب عن ربه بما سيحدث من بعده، وقال لأبي ذر " كيف أنت وأئمة من بعدي يستأثرون بهذا الفيئ. إصبر حتى تلقاني،(27) وقال " خذوا العطاء ما دام عطاء، فإذا كان إنما هو رشا فاتركوه، ولا أراكم تفعلون، يحملكم على ذلك الفقر والحاجة، ألا وإن رحى بني مرج قد دارت، وإن رحى الإسلام دائرة، وإن الكتاب والسلطان سيفترقان، فدوروا مع الكتاب حيث دار.. ".(28)
وإذا كان الاجتهاد قد أخرج أهل البيت والجنود الذين شاركوا في المعارك من تحت سقف قسمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . فإن الاجتهاد. قد أخرج المؤلفة قلوبهم من تحت سقف القسمة التي قسمها الله تعالى.
ولقد ذكرنا من قبل أن الله تعالى هو الذي قسم الصدقات، وبين حكمها وتولى أمرها بنفسه، ولم يكل قسمتها إلى أحد غيره، وجزءها سبحانه ثمانية أجزاء. لا تقبل تغيير المغير، قال تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب وفي سبيل الله فريضة من الله)(29) وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعطى المؤلفة قلوبهم، وكانوا صنفان: صنف كفار وصنف أسلموا على ضعف، وذلك ليأمن شرهم وفتنتهم، لأن من شأن الصدقة أنها تؤلف القلوب وتبسط الأمن، وظل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعطي هذا السهم للمؤلفة قلوبهم ليعاونوا المسلمين أو ليتقوى إسلامهم. حتى وفاته صلى الله عليه وآله وسلم .
وكان أبو سفيان(30) وابنه معاوية(31) من الذين أعطاهم النبي من سهم المؤلفة قلوبهم، وروي أن عمرو بن العاص حين جزع عن موته فقيل له: قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدينك ويستعملك.
فقال: أما والله ما أدرى أحبا كان ذلك أم تألفا يتألفني "(32)، وعلى الرغم من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يعطي أبا سفيان من سهم المؤلفة، إلا أن الصحابة كانوا يختلفون في تحديد موقعه، روي أن أبي سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال في نفر، فقالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها، فقال أبو بكر: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم، فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا أبا بكر لعلك أغضبتهم، لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك، فأتاهم أبو بكر. فقال: يا إخوتاه أغضبتكم، قالوا: يغفر الله لك يا أخي(33)، قال النووي: هذه فضيلة ظاهرة لسلمان ورفقته هؤلاء.(34) وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعطى قريشا حين أفاء الله عليه أموال هوازن، فقال الناس من الأنصار: يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم، فعندما سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمقالتهم، أرسل إلى الأنصار فجمعهم ولم يدع أحد غيرهم، فقال: " إني لأعطي رجالا حدثاء عهد بكفر أتألفهم. أفلا ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعون برسول الله إلى رحابكم، فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به، قالوا:
أجل يا رسول الله قد رضينا. فقال لهم " إنكم ستجدون بعدي أثرة شديدة، فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله فإني فرطكم على الحوض ".(35)
لقد كان في سهم المؤلفة امتحان وابتلاء. ولكن الصحابة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اجتهدوا فيه..
روي أن الأقرع بن حابس وعيينة بن حصين وكانا من المؤلفة قلوبهم، جاءا يطلبان أرضا من أبي بكر، فكتب بذلك خطأ، فمزقه عمر بن الخطاب، وقال: هذا شئ كان يعطيكموه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تأليفا لكم، فأما اليوم فقد أعز الله الإسلام وأغنى عنكم، فإن ثبتم على الإسلام وإلا فبيننا وبينكم السيف، فرجعوا إلى أبي بكر. فقالوا: أنت الخليفة أم عمر؟ بذلت لنا الخط ومزقه عمر، فقال أبو بكر: هو إن شاء الله.
ووافق عمر ".(36)
وعن الشعبي أنه قال: كانت المؤلفة على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما ولي أبو بكر انقطعت(37)، واعترض ابن قدامة على انقطاع سهم المؤلفة وقال: إن الله تعالى سمى المؤلفة في الأصناف الذين سمى الصدقة لهم، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " إن الله حكم فيها فجزأها ثمانية أجزاءا " وكان عليه الصلاة والسلام يعطي المؤلفة كثيرا في أخبار مشهورة، ولم يزل كذلك حتى مات، ولا يجوز ترك كتاب الله وسنة رسوله إلا بنسخ، والنسخ لا يثبت بالاحتمال، ثم إن النسخ إنما يكون في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لأن النسخ إنما يكون بنص ولا يكون النص بعد موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وانقراض زمن الوحي، ثم إن القرآن لا ينسخ إلا بقرآن وليس في القرآن نسخ لذلك ولا في السنة، فكيف يترك الكتاب والسنة بمجرد الآراء والتحكم أو بقول صحابي أو غيره.(38)
والخلاصة: ختم الله تعالى آية الأنفال بقوله (وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين)(39)، وفي هذا تحذير من الاختلاف، وإخبار بأن طاعة الرسول طاعة لله، وختم سبحانه آية الخمس بقوله (إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان)(40)، قال ابن كثير: أي امتثلوا ما شرعنا لكم من الخمس في الغنائم إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وما أنزلنا على الرسول في القسمة(41) وختم سبحانه آية الزكاة بقوله (فريضة من الله والله عليم حكيم)(42) قال ابن كثير: أي حكما مقدرا بتقدير الله وفرضه وقسمه، فهو تعالى عليم بظواهر الأمور وبواطنها وبمصالح عباده فيما يقوله ويفعله ويشرعه ويحكم به.(43)
والمسيرة قد اجتهدت تحت سقف الامتحان والابتلاء، ولكن أحاديث الإخبار بالغيب، وحركة التاريخ، تثبت أن بعض هذه الاجتهادات انتهت في نهاية المطاف إلى دائرة لا تحقق الأمان بصورة من الصور، قد تكون بيوت المال قد امتلأت بالذهب والفضة عند المقدمة، ولكن عند النتيجة نرى أن تفضيل هذا عن ذاك في القسمة، أدى إلى الصراع القبلي بين ربيعة ومضر، وبين الأوس وبين الخزرج(44) وأشعل الصراع العنصري بين العرب والعجم. والصريح والموالي(45) كما أدى الاجتهاد في الخمس إلى اختلاف الأمة في من هم عشيرة النبي الأقربين؟ ومن هم أهل بيته وعترته؟، وأدى الاجتهاد في الأربعة أخماس الخاصة بالجنود، إلى احتواء الأمراء في الأمصار على معظم هذه الأموال، وكان لهذا أثرا سيئا على امتداد المسيرة، وأدى الاجتهاد في سهم المؤلفة، إلى استواء ضعيف الإيمان مع قوى الإيمان، وأدى إلى تهييج النفوس على الانتقام بأي وسيلة، لأن الصدقة من خصائصها أنها تنشر الرحمة وتورث المحبة. وتألف القلوب. وتبسط الأمن، فإذا أمسكت، وكان تحت سقف الأمة منافقين، منهم اثني عشر رجلا أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ولن يدخلوا الجنة حتى يلج الجمل سم الخياط. كان إمساكها سببا في فتح طرق الفساد.
رابعا ـ (من معالم المسيرة)
في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كانت الأحكام والفرائض والحدود وسائر السياسات الإسلامية قائمة ومقامة، ثم لم تزل بعد ارتحاله صلى الله عليه وآله وسلم تنقص وتسقط حكما فحكما يوما فيوما بيد الحكومات الإسلامية، وعلى امتداد المسيرة كان هناك شبه انفصال بين الشعوب الإسلامية وحكامهم، فكثير من الحكومات لم تكن تعبر عن شعوبها، وبينما كان الأمراء وأصحاب المقاعد الأولى في الدولة يضيعون الصلاة ويتبعون الشهوات. كانت الشعوب تختزن بداخلها الفطرة النقية ببركة وجود القرآن الكريم، ونحن في بحثنا هذا في المسيرة الإسلامية. لم نرصد إلا حركة أصحاب المقاعد الأولى ومن دار في فلكهم، أما حركة الأمة الإسلامية ورفضها للانحراف فإن لهذا موضع آخر.
وحركة الدعوة الخاتمة في اتجاه الشعوب هي حركة المنقذ للفطرة من الانحراف والضلال، ولقد أعطى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الفكرة الصحيحة الداعية للفتح الإسلامي، وبين أن الفتح ليس للقتل أو الانتقام وإنما هو رحمة وشفقة على البلاد المفتوحة وتخليصها من نير العبودية وتطبيق النظام الإسلامي الفطري عليها، ولم تكن الغنائم هي غاية الفتح، فالغنائم ليس لها أهمية تذكر بجانب هدف الفتح الأسمى، فرفع الظلم عن البلد المفتوح هو المقصد سواء غنم الجيش أو لم يغنم، والإسلام ينظر إلى الغنيمة على أساس أنها من قبيل جوائز التشجيع للقتال في سبيل الله، لأن المقصود بالحرب الظفر على الأعداء، فإن غلبوا فقد حصل المطلوب وتكون الأموال التي غنمها المقاتلون زيادة على أصل الغرض، ولما كانت الغنيمة على طريق القتال في سبيل الله، وبما أن الله تعالى وضع أحكاما خاصة بالقتال في سبيله، فإنه تعالى قسم الغنيمة على الجيش المنتصر لرفع معنوياته وترغيبا له على التكرار. وبالجملة:
الغنيمة زيادة على أصل الغرض الذي من أجله يقاتل الجيش. وهي ملك لله ورسوله وتوضع حيثما أراد الله ورسوله.
واجتهد الصحابة في غنائم الحرب، فصب هذا الاجتهاد في نهاية المطاف في دوائر التنافس والتحاسد وغير ذلك، ويشهد ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يخبر بالغيب عن ربه في ما رواه مسلم عن عبد الله قال " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا فتحت عليكم فارس والروم أي قوم أنتم؟ قال عبد الرحمن بن عوف: كما أمرنا الله، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أو غير ذلك.
تتنافسون. ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون، ثم تتباغضون. أو نحو ذلك.
ثم تنطلقون في مساكن المهاجرين فتجعلون بعضهم على رقاب بعض ".(46)
فالفتح أنتج ثقافة لم تكن في يوم من أهداف الفتح، وأيقظ الفتح غريزة العرب الجاهلية من الغرور والنخوة بعدما كانت في سكن بالتربية النبوية، والطريق الذي انتهى بالتباغض كما مر في الحديث السابق، امتد لينتهي بالبغي في حديث آخر يخبر فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالغيب عن ربه ويقول " سيصيب أمتي داء الأمم. الأشر والبطر. والتكاثر. والتشاحن.
والتباغض. والتحاسد، حتى يكون البغي ".(47)
والطريق إلى البغي كان عليه أمراء لا يمتازون إلا بالسواعد القوية، وروي أن حذيفة قال لعمر بن الخطاب: إنك تستعين بالرجل الفاجر، فقال له عمر: إني لأستعمله لأستعين بقوته. ثم أكون على قفائه "(48)، وقال في فتح الباري: والذي يظهر من سيرة عمر في أمراؤه الذين كان يؤمرهم في البلاد. أنه كان لا يراعي الأفضل في الدين فقط، بل يضم إليه الذي عنده مزيد من المعرفة بالسياسة، فلأجل هذا استخلف معاوية والمغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص، مع وجود من هو أفضل منهم في أمر الدين والعلم.(49)
وذكر ابن حجر أن عمر ولى إياس بن صبيح القضاء في البصرة، وكان إياس من أصحاب مسيلمة الكذاب(50)، وكتب عمر إلى الأمراء أن يشاوروا طليحة بن خويلد، وكان طليحة قد أسلم ثم ارتد ثم أسلم.
وكان قد ادعى النبوة(51) وروي أن ابن عدي الكلبي قال لعمر: أنا امرؤ نصراني، فقال عمر: فما تريد؟، قال: أريد الإسلام، فعرضه عمر عليه، ثم دعا له برمح، فعقد له على من أسلم، وقال عوف بن خارجة:
ما رأيت رجلا لم يصل صلاة أمر على جماعة من المسلمين قبله.(52)
وإذا كان طريق البغي من علاماته التنافس والتحاسد والتدابر والتباغض، فإنه يختزن في أحشائه معالم الضلال، عن عبد الله قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " لم يزل أمر بني إسرائيل معتدلا، حتى نشأ فيهم المولدون. وأبناء سبايا الأمم التي كانت بنو إسرائيل تسبيها، فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا "(53)، فأبناء الأمم إذ لم يجدوا الرعاية والتربية الصحيحة، يصبحوا من العوامل التي تساعد على الهدم، وهؤلاء في المسيرة الإسلامية ترعرعوا تحت سقف الدولة الأموية، ثم امتدوا بامتداد المسيرة، وذكر الطبري: إن أول سبي قدم المدينة من العجم كان في عهد أبي بكر(54)، وذكر البلاذري: أن معاوية حاصر قيسارية حتى فتحها فوجد من المرتزقة سبعمائة ألف. ومن السامرة ثلاثين ألفا. ومن اليهود مائتي ألف.(55) فبعث إلى عمر عشرين ألفا من السبي.(56)
فالطريق كان عليه ضعيف الإيمان، وكان عليه أبناء الأمم، وكان عليه أمراء التنافس والتحاسد والتدابر والتباغض، والبغي، وكان عليه المنافقين ومنهم اثني عشر رجلا حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا، وعلى طريق مثل هذا لا نستبعد أن تضيع الصلاة، وقد سجل حذيفة البادرة الأولى قبل وفاته، فقال " ابتلينا، حتى جعل الرجل منا لا يصلي إلا سرا "(57)، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أخبر بالغيب عن ربه، أن الصلاة في طريقها إلى الضياع، فعن أبي ذر قال " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا أبا ذر أمراء يكونون بعدي يميتون الصلاة فصل الصلاة لوقتها... "(58) قال النووي: أي يجعلونها كالميت الذي خرجت روحه.(59)
وروي أن الوليد بن عقبة - وكان أخو عثمان لأمه - حين كان واليا لعثمان بن عفان على الكوفة أخر الصلاة، فقام عبد الله بن مسعود فصلى بالناس، فأرسل إليه الوليد وقال له: ما حملك على ما صنعت أجاءك من أمير المؤمنين أمرا أم ابتدعت؟ فقال: لم يأتني من أمير المؤمنين أمرا ولم أبتدع. ولكن أبى الله عز وجل علينا ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن ننتظرك بصلاتنا وأنت في حاجتك.(60)
وبينما كان الأمراء يميتون الصلاة، كانت الصلاة تؤدى بروحها خلف علي بن أبي طالب، روى مسلم عن مطرف قال " صليت أنا وعمران بن حصين خلف علي بن أبي طالب، فكان إذا سجد كبر وإذا رفع رأسه كبر، وإذا نهض من الركعتين كبر، فلما انصرفنا من الصلاة.
أخذ عمران بيدي ثم قال: قال صلى بنا هذا صلاة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفي رواية قال عمران: قد ذكرني هذا صلاة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وروى أن عمران بن حصين مات سنة اثنتين وخمسين هجرية.(61)
ولما كان حذيفة قد صلى سرا، ولما كان ابن مسعود قد شهد تأخير الصلاة، فإن أبي الدرداء قد شهد شيئا آخر، فعن أم الدرداء قالت. دخل علي أبو الدرداء وهو مغضب، فقلت: من أغضبك؟ قال:
والله لا أعرف فيهم من أمر محمد صلى الله عليه وآله وسلم شيئا إلا أنهم يصلون جميعا(62)، ومات أبو الدرداء في خلافة عثمان.
ثم جاء عام ستين، وهو العام الذي حمل الصبيان أعلامه، وفيه قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم " تعوذوا بالله من رأس الستين ومن إمارة الصبيان "(63)، وقال " ويل للعرب من شر قد اقترب. على رأس الستين تصير الأمانة غنيمة، والصدقة غرامة، والشهادة بالمعرفة، والحكم بالهوى "(64)، فرأس الستين تطوير للعربة التي تنطلق بوقود الرأي، ورأس الستين هو الوعاء الذي يصب فيه إماتة الصلاة من العهود التي سبقته، وينطلق منها وقود إضاعة الصلاة وقراءة القرآن بلا تدبر، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يخبر بالغيب عن ربه. " يكون خلف بعد ستين سنة، أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا، ثم يكون خلف يقرؤون القرآن لا يعدو تراقيهم، ويقرأ القرآن ثلاثة: مؤمن. ومنافق. وفاجر "(65) وعن أبي سعيد قال:
المنافق كافر به، والفاجر يتكل منه، والمؤمن يؤمن به.(66)
الهوامش
(1) رواه الترمذي وصححه (الجامع 569 / 4).
(2) رواه أبو داوود عن أبي موسى (كنز 191 / 3) والطبراني والبيهقي عن ابن مسعود (كنز 191 / 3).
(3) سورة الأنفال آية 1.
(4) رواه البخاري (الصحيح 190 / 2).
(5) رواه البخاري (الصحيح 192 / 2).
(6) سورة الأنفال آية 41.
(7) سورة التوبة آية 60.
(8) رواه ابن النجار (كنز 195 / 11).
(9) رواه البخاري (الصحيح 186 / 2) وأحمد ومسلم والبيهقي (كنز 242 / 7).
(10) رواه أحمد بإسناد صحيح (الفتح الرباني 63 / 23).
(11) رواه البخاري ومسلم وأحمد والبيهقي (كنز 242 / 7).
(12) رواه مسلم وأحمد وأبو داوود والنسائي (الفتح الرباني 77 / 14).
(13) رواه البخاري (الصحيح 196 / 2).
(14) رواه أحمد (الفتح الرباني 76 / 14) وأبو داوود حديث 2980.
(15) رواه البغوي (كنز العمال 375 / 4).
(16) رواه أبو عبيد وابن زنجويه (كنز 574 / 4).
(17) رواه أحمد والبخاري وابن خزيمة في صحيحه وابن الجارود والطحاوي وأبو يعلى وابن أبي شيبه وأبو عبيد (كنز 555 / 4).
(18) رواه البخاري وأبو داوود (كنز 514 / 4).
(19) رواه الشيخان وابن عساكر وابن زنجويه وأبو عبيد (كنز 557 / 4).
(20) المغني / لابن قدامة 716 / 2.
(21) مكيال معروف بالشام.
(22) رواه أبو عبيد (كنز العمال 575 / 4).
(23) رواه البيهقي (كنز العمال 578 / 4).
(24) رواه أبو عبيد وابن أبي شيبة والبيهقي وابن عساكر (كنز 556 / 4).
(25) رواه البخاري ومسلم (كنز العمال 378 / 4).
(26) أنظر: الفتح الرباني 72 / 13، كنز العمال 375 / 4.
(27) رواه أحمد وأبو داوود وابن سعد (كنز العمال 373، 374 / 4).
(28) رواه الطبراني عن معاذ. وابن عساكر عن ابن مسعود وأبو داوود عن أبي مطير باختصار (كنز 216 / 1) أبو داوود حديث 2958.
(29) سورة التوبة آية 60.
(30) أنظر: صحيح مسلم 156 / 7. البداية والنهاية 359 / 4، كنز العمال 176 / 9.
(31) أنظر: البداية والنهاية 359 / 4.
(32) رواه أحمد وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح (الفتح الرباني 310 / 22) الزوائد 353 / 9) وابن سعد (الطبقات 263 / 1).
(33) رواه مسلم (الصحيح 16 / 16).
(34) مسلم شرح النووي 16 / 16.
(35) رواه البخاري ومسلم وأحمد (الفتح الرباني 89 / 14).
(36) الفتح الرباني 62 / 9، الدر المنثور 252 / 2، تفسير المنار 496 / 10، فقه السنة / سيد سابق 425 / 1.
(37) رواه ابن أبي شيبة والطبراني (تحفة الأحوازي 335 / 3).
(38) المغني / ابن قدامة 666 / 2.
(39) سورة الأنفال آية 1.
(40) سورة الأنفال آية 41.
(41) تفسير ابن كثير 313 / 2.
(42) سورة التوبة آية 60.
(43) تفسير ابن كثير 366 / 2.
(44) تاريخ اليعقوبي 106 / 2.
(45) ابن أبي الحديد 111 / 8.
(46) رواه مسلم (الصحيح 97 / 18).
(47) رواه الحاكم وصححه (كنز العمال 526 / 3).
(48) رواه أبو عبيد (كنز العمال 771 / 5).
(49) فتح الباري 116 / 1.
(50) الإصابة 120 / 1.
(51) البداية والنهاية 130 / 7.
(52) الإصابة 116 / 1.
(53) رواه الطبراني (كنز العمال 181 / 1).
(54) تاريخ الأمم 27 / 4.
(55) فتوح البلدان ص 147.
(56) البداية والنهاية 54 / 7.
(57) البداية والنهاية 54 / 7.
(58) رواه مسلم والترمذي وصححه (تحفة الأحوازي 524 / 1).
(59) تحفة الأحوازي 524 / 1.
(60) رواه أحمد وقال الهيثمي رجاله ثقات (الزوائد 324 / 1).
(61) الإصابة 26 / 5.
(62) رواه أحمد وإسناده جيد (الفتح الرباني 200 / 1).
(63) رواه أحمد وأبو يعلى (كنز العمال 119 / 11).
(64) رواه الحاكم وصححه (المستدرك 483 / 4).
(65) رواه أحمد وقال الهيثمي رجاله ثقات (الزوائد 231 / 6) وقال ابن كثير رواه أحمد وإسناده على شرط السنن (البداية 228 / 6، التفسير 128 / 3) ورواه ابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه والبيهقي (كنز 195 / 11) (المستدرك 507 / 4).
(66) رواه الحاكم وصححه وأقره الذهبي (المستدرك 507 / 4).
******************
ومن الدليل على أن جيل الستين أخذ وقوده مما سبقوه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبر في حديث آخر بأن كثرة المال هي الخلفية الأساسية التي عليها يتم تفريخ هؤلاء، قال صلى الله عليه وآله وسلم " مما أتخوف على أمتي أن يكثر فيهم المال حتى يتنافسوا فيقتلون عليه، وإن مما أتخوف على أمتي أن يفتح لهم القرآن. حتى يقرأه المؤمن والكافر والمنافق ".(1)
فالمال أنتج التنافس. والتحاسد والتدابر والتباغض. والبغي، وفتح القرآن أمام العامة مع عدم وجود العالم به، أدى إلى ترتيله في زحام الأسواق، حيث لا مستمع ولا منصت، ومن الأصاغر أخذ العلم الذي أدى إلى ضياع الصلاة، ولقد سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أشراط الساعة، فقال " أن من أشراطها أن يلتمس العلم عند الأصاغر " قال ابن المبارك:
الأصاغر الذين يقولون برأيهم(2)، وعن ابن مسعود قال: لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم، فإن أخذوه من أصاغرهم وشرارهم هلكوا(3)، وعن أنس قال. قيل: يا رسول الله متى ندع الائتمار بالمعروف والنهي عن المنكر، قال: إذا ظهر فيكم ما ظهر في بني إسرائيل، إذا كانت الفاحشة في كباركم. والملك في صغاركم، والعلم في رذالكم.(4)
وإذا كان أبو الدرداء قد شهد وفاته أنه لا يعرف في الناس من أمر محمد صلى الله عليه وآله وسلم شيئا إلا أنهم يصلون جميعا، فإن أنس بن مالك شهد عام ستين، حيث مقدمة الخلف الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، روى البخاري عن الزهري قال " دخلت على أنس فوجدته يبكي، فقلت:
ما يبكيك؟ قال: ما أعرف شيئا مما أدركت، إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضيعت "(5)، ومات أنس سنة ثلاث وتسعين، وكان يقول: لم يبق أحد صلى القبلتين غيري.(6)
وفي الخلف الذين يضيعون الصلاة بعد أنبياء الله، يقول تعالى:
(أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذربة آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل. وممن هدينا واجتبينا. إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا، فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا).(7) قال المفسرون: ذكر الله حزب السعداء. وهم الأنبياء ومن اتبعهم من القائمين بحدود الله وأوامره المؤدين فرائض الله، ثم ذكر سبحانه الخلف: أي البدل السئ. وقوله تعالى: (فخلف من بعدهم) أي قام مقام أولئك الذين أنعم الله عليهم.
وكانت طريقتهم الخضوع والخشوع لله بالتقدم إليه بالعبادة، قوم سوء أضاعوا الصلاة، وضياع الشئ: فساده أو افتقاده، ومعنى أنهم أضاعوا الصلاة: أي أفسدوها بالتهاون فيها والاستهانة بها، حتى تنتهي إلى أمثال اللعب بها والتغيير فيها والترك لها، فإذا كانوا قد فعلوا هذا بالصلاة فإنهم لما سواها من الواجبات أضيع. لأنها عماد الدين وقوامه، ثم أخبر سبحانه. بأن القوم السوء الذين أضاعوا الصلاة وهي الركن الأصيل في العبودية. واتبعوا الشهوات، هؤلاء سيلقون غيا: أي خسارة، وهذه العقوبة سنة ثابتة لا تتبدل ولا تتغير، يعاقب الله بها كل خلف طالح، وذكر ابن كثير في تفسير هذه الآية، أن هذا الخلف في هذه الأمة أيضا.(8)
والخسارة التي توعد الله بها الخلف الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، يحمل أسبابها أمراء السوء وسبايا السوء الذين تربوا على القصص وتسربت إليهم روح الأمم المستعلية الجبارة، فهؤلاء وغيرهم فتحوا أبواب القتال من أجل الملك، وعند نهاية القتال، وفي نهاية المسيرة كانت الخسارة عنوانا رئيسيا لكل شئ في عالم الاستدراج.
أما القتال على الملك. فيشهد به أبو برزة الأسلمي. روى البخاري عن أبي المنهال قال " لما كان ابن زياد ومروان بالشام، ووثب ابن الزبير بمكة، ووثب القراء بالبصرة، انطلقت مع أبي إلى أبي برزة الأسلمي. فقال أبي: يا أبا برزة. ألا ترى ما وقع فيه الناس؟ فقال: إني احتسبت عند الله أني أصبحت ساخطا على أحياء قريش، إنكم يا معشر العرب كنتم على الحال الذي علمتم من الذلة والقلة والضلالة، وإن الله أنقذكم بالإسلام وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، حتى بلغ ما ترون، وهذه الدنيا أفسدت بينكم، إن ذاك الذي بالشام والله إن يقاتل إلا على الدنيا، وإن هؤلاء الذين بين أظهركم والله إن يقاتلون إلا على الدنيا، وإن ذاك الذي بمكة والله إن يقاتل إلا على الدنيا ".(9)
ونتيجة القتال على الملك، لم تستطع الدولة البقاء تحت حكم إدارة مركزية واحدة، فعند بداية المسيرة. اتسعت الدولة من شواطئ المحيط الأطلسي في المغرب إلى نهر السند في الشرق، ومن بحر مازندران في الشمال إلى منابع النيل في الجنوب، وكما توسعت الدولة بسرعة. تجزأت بسرعة أيضا، فإذا نظرنا على امتداد المسيرة لنرصد معالم الاختلاف والتفرق على الأرض، نجد أن عبد الرحمن الداخل وهو أحد أفراد الأسرة الأموية، قد أسس دولة مستقلة في إسبانيا سنة 138 ه‍، ورفع يد الحاكم العباسي عن ذلك الجزء من الدولة العباسية، ثم ظهر الأدارسة وأسسوا دولتهم. ثم جاء الأغالبة واستولوا على بقية مناطق إفريقيا عام 184 ه‍، ثم ظهر ابن طولون في مصر والشام وفصلهما عن الدولة، وعند حلول سنة 323 ه‍ أسس الأخشيد حكمه في مصر، ولم يبق تحت نفوذ الدولة العباسية السياسي من بلاد المغرب سوى رمزها.
أما في المشرق، فتم تأسيس الدولة الطاهرية. بخراسان عام 204 ه‍، وتتابع ظهور الدويلات الصغيرة بعد ذلك شرق إيران، كالصغاريين والسامانين والغزنويين، ثم قامت الدولة البويهية في الجزء المتبقي لهم في إيران، ثم جاء المغول عام 334 ه‍ ونزل الستار على الدولة العباسية، وكان للدولة فرع يحكم رمزيا في مصر، قضى عليه سليم الأول من سلاطين آل عثمان. بعد استيلائه على مصر عام 922 ه‍.
وعلى امتداد المسيرة كانت الأصابع اليهودية تعمل في الخفاء، كان تثقب في الجدار بواسطة أبناء الأمة، وتحطم الأقفال بواسطة الحروب الصليبية المتعددة الإشكال، حتى جاء اليوم الذي طبقت فيه اتفاقية سايكس بيكو على الشام، وفرض الانتداب الفرنسي على شمال هذه البلاد وقسم إلى كيانين هما: سوريا ولبنان، وفرض الانتداب البريطاني على جنوبها وقسم إلى كيانين هما: الأردن وفلسطين، وفي عام 1917 ميلادية صدر وعد بلفور، الذي يقضي بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وفي عام 1967 ميلادية. بسط اليهود أيديهم على ما حلموا به طيلة حياتهم، بسطوا أيديهم على الأرض الواسعة. التي يحيط بها غثاء من كل مكان.
لقد بدأ الطريق من عند البحث عن الدرهم والدينار، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبر عن ربه جل وعلا، فقال " كيف أنتم إذا لم تجبوا دينارا ولا درهما، قالوا: ولم ذاك؟ قال: تنتهك ذمة الله وذمة رسوله. فيشد الله قلوب أهل الذمة فيمنعون ما بأيديهم "(10)، وقال " يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الآكلة إلى قصعتها، قالوا: يا رسول الله. فمن قلة بنا يومئذ؟ قال: لا. ولكنكم غثاء كغثاء السيل، يجعل الوهن في قلوبكم وينزع الرعب من قلوب عدوكم، لحبكم الدنيا وكراهيتكم الموت "(11) وقال صاحب عون المعبود: أي يدعوا بعضهم بعضا لمقاتلتكم وسلب ما ملكتموه من الديار والأموال، ولقد وصفهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بغثاء السيل، لقلة شجاعتهم ودناءة قدرهم، وغثاء السيل: أي كالذي يحمله السيل من زبد ووسخ.(12)
لقد أخبر النبي في أن فتنة أمته في المال. وأن الدرهم والدينار سيهلكهم كما أهلك الذين من قبلهم، وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم موضع كل مال في الإسلام، وأمر الأمة بأن تتمسك بالكتاب والعترة، وأن تأخذ بأسباب الحياة التي تحقق السعادة في الدنيا بما يوافق الكمال الأخروي، فيأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، ولكن القافلة تركت الأمراء الصبيان يعبثون بكل شئ عند المقدمة، خوفا من الجوع والفقر، وفي نهاية المطاف وقف الحاضر أمام الماضي على رقعة واحدة، يدوي فيها صوت النبي الأعظم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، النبي العربي القرشي الهاشمي المكي المدني صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يقول " منعت العراق درهمها وقفيزها، ومنعت الشام مديها ودينارها، ومنعت مصر إردبها ودينارها، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم ".(13)
ثالثا - ( فجر الضمير )
أولا: ( الظلم والجور )
الظلم هو: وضع الشئ في غير موضعه، وقال في لسان العرب.
ومن أمثال العرب في الشبه: من استرعى الذئب فقد ظلم، وأصل الظلم الجور ومجاوزة الحد، ومنه حديث الوضوء " فمن زاد أو نقص. فقد أساء وظلم ": أي أساء الأدب بتركه السنة والتأدب بأدب الشرع، وظلم نفسه بما نقصها من الثواب من ترداد المرات في الوضوء، وفي التنزيل (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم لهم الأمن)(14) قال ابن عباس: أي لم يخلطوا إيمانهم بشرك، والظلم: الميل عن القصد. والعرب تقول.
إلزم هذا الصوب ولا تظلم عنه. أي لا تجر عنه، وقوله تعالى: (إن الشرك لظلم عظيم)(15) يعني أن الله تعالى هو المحي المميت. الرازق المنعم وحده لا شريك له. فإذا أشرك به غيره. فذلك أعظم الظلم.
لأنه جعل النعمة لغير ربها.(16)
وبينت الدعوة الخاتمة أن الافتراء على الله كذبا. والتكذيب بآياته أو الإعراض عنها. والصد عن سبيله سبحانه. من أعظم الظلم. لأن الظلم يعظم بعظمة من يتعلق به، وإذا اختص بجنب الله كان أشد الظلم. وأخبر سبحانه في كتابه. بأنه أهلك القرون الأولى لما ظلموا، ووعد سبحانه رسله بهلاك الظالمين. قال تعالى: (فأوحى إليهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم).(17)
وبالنظر إلى المسيرة البشرية، تجد أن الظلم في نهاية المطاف، تدثر بأكثر من دثار من حرير وزخرف، وأصبح له عقائد وثقافات وقوانين، يشرف عليها حكومات وهيئات وجمعيات، والخارج عن هذه العقائد والقوانين هو في نظر هذه الدول والمؤسسات، خارج عن الحق، يستحق التأديب بواسطة الأساطيل أو السجون. أو بالتجويع تارة وبالتخويف تارة أخرى.
وبالنظر إلى مسيرة الشعوب في عصرنا هذا. نجد للوثنية أعلاما، وهذه الوثنية استترت وراء التقدم العلمي والاختراعات الحديثة، وقد يكون التقدم مفيدا في عالم المادة، ولكن إذا كان للدنيا عمل. فلا بد أن يستقيم هذا العمل مع الزاد الفطري، ولقد ذم القرآن الكريم الذين لا يذعنون بيوم الحساب ويعملون للدنيا بسلوكهم الطريق الذي يغذي التمتع بالدنيا المادية فحسب، قال تعالى: (ألا لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون).(18)
فالآية فسرت من هم الظالمين، وبينت أنهم الذين يصدون عن الدين الحق ولا يتبعون ملة الفطرة. وبالآخرة هم كافرون وهذه الوثنية لها جماعاتها ومؤسساتها وبنوكها التي تمول مخططاتها.
وبالنظر إلى مسيرة بني إسرائيل. نجد أنها أنتجت في عصرنا الحاضر عنكبوتا ضخما تختفي وراء خيوطه العديد من مؤسسات الظلم والجور، التي تعمل على امتداد التاريخ من أجل تغذية الأمل. الذي حلم به بنو إسرائيل ليلا طويلا، وهو مملكة داوود وعاء العهد الإبراهيمي، وراء هذه الخيوط تختفي جمعيات مسيحية تعمل من أجل ذات الهدف. نظرا لأن المسيحية الحاضرة خرجت من تحت عباءة بولس. الذي ادعى أنه أوحي إليه وهو لم ير المسيح ولم يكن من تلاميذه. ولقد وضعه القرآن وأمثاله تحت سقف الظلم. في قوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شئ. ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله).(19) وهذه الجمعيات التي تعمل ظاهرة أو من وراء ستار. لها مؤسساتها وبنوكها وأساطيلها التي تمول وتحمي مخططاتها وأهدافها.
وبالنظر إلى المسيرة الخاتمة. نجد أن الظالمين فيها قد أخذوا بذيول الذين من قبلهم واتبعوهم شبرا بشبر، وذراع بذراع، ومن إتبع أحد يصل معه إلى حيث يصل، وما الله بظلام للعبيد.
وفيما يلي نلقي ضوءا على جذور وفروع بعض الحركات التي عليها بصمة الظلم والجور. لتظهر جذورها الفكرية والعقائدية. ومواقع انتشارها ونفوذها. ويرى الحاضر كيف يتقدم الظلم إلى الخلف من أجل تنفيذ أهداف ما أنزل الله بها من سلطان.
1 - (مسيرات وثنية)
(البوذية)
أسسها " سدهار تاجوتاما " الملقب " ببوذا " (560 - 480 ق. م) ونشأ بوذا في بلدة على حدود نيبال، ويعتقد البوذيون. أن بوذا هو ابن الله. وهو المخلص للبشرية من مآسيها وآلامها وإنه يتحمل عنهم جميع خطاياهم، ويعتقدون أن تجسد بوذا كان بواسطة حلول روح القدس على العذراء " مايا "، ويعتقدون أن بوذا سيدخلهم الجنة، وأنه صعد إلى السماء بجسده بعد أن أكمل مهمته على الأرض، ويؤمنون برجعة بوذا ثانية إلى الأرض ليعيد السلام والبركة إليها، ويعتقدون أن بوذا ترك فرائض ملزمة للبشر إلى يوم القيامة. والصلاة عندهم تؤدي إلى اجتماعات يحضرها عدد كبير من الأتباع، والديانة البوذية منتشرة بين عدد كبير من الشعوب الآسيوية، وهي مذهبان كبيران: المذهب الشمالي. وقد غالى أهله في بوذا حتى الهوه، والمذهب الجنوبي.
وهؤلاء معتقداتهم أقل غلوا في بوذا، وكتبهم منسوبة إلى بوذا أو حكايات لأفعاله سجلها بعض أتباعه.(20)
(الهندوسية)
الهندوسية ديانة وثنية يعتنقها معظم أهل الهند، لا يوجد لها مؤسس معين، ولا يعرف لمعظم كتبها مؤلفون معينون، فقد تم تشكيل الديانة وكذلك الكتب عبر مراحل طويلة من الزمن، وقيل: أن الآريون الغزاة الذين قدموا إلى الهند في القرن الخامس عشر قبل الميلاد هم المؤسسون الأوائل للديانة الهندوسية، وللديانة عدة آلهة. ولكل منطقة إله، ولكل عمل أو ظاهرة إله، ولا يوجد عندهم توحيد بالمعنى الدقيق، لكنهم إذا أقبلوا على إله من الآلهة أقبلوا عليه بكل جوارحهم حتى تختفي عن أعينهم كل الآلهة الأخرى، ويقولون بأن لكل طبيعة نافعة أو ضارة إلها يعبد، كالماء والهواء والأنهار والجبال..، ويلتقي الهندوس على تقديس البقرة، ويعتقد الهندوس بأن آلهتهم قد حلت في إنسان اسمه " كرشنا "، وقد التقى فيه الإله بالانسان، أو حل اللاهوت في الناسوت، وهم يتحدثون عن كرشنا كما يتحدث النصارى عن المسيح.
وكانت الديانة الهندوسية تحكم شبه القارة الهندية، ولكن المسافة الشاسعة بين المسلمين والهندوس. في نظريتهما إلى الكون والحياة وإلى البقرة التي يعبدها الهندوس ويذبحها المسلمون ويأكلون لحمها، كان ذلك سببا في حدوث التقسيم، حيث أعلن عن قيام دولة الباكستان بجزأيها الشرقي والغربي والذي معظمه من المسلمين، وبقاء دولة هندية معظم سكانها هندوس، والمسلمون فيها أقلية كبيرة.(21)
(السيخية)
السيخ مجموعة دينية من الهنود الذين ظهروا في نهاية القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر الميلادي داعين إلى دين جديد، فيه شئ من الديانتين الإسلامية والهندوسية، تحت شعار (لا هندوس ولا مسلمون) ولقد عادوا المسلمين خلال تاريخهم بشكل عنيف، كما عادوا الهندوس بهدف الحصول على وطن خاص بهم، وذلك مع الاحتفاظ بالولاء الشديد للبريطانيين خلال فترة استعمار الهند.
ومؤسس السيخية الأول (ناناك) ولد سنة 1469 م في قرية بالقرب من لاهور، وكان محبا للإسلام من ناحية مشدودا إلى تربيته وجذوره الهندوسية من ناحية أخرى، مما دفعه لأن يعمل على التقريب بين الديانتين، ويقال أن (ناناك) لم يكن الأول في مذهبه السيخي هذا، وإنما سبقه إليه شخص آخر اسمه (كبير) (1440 - 1518 م) درس الدين الإسلامي والهندوكي، وكان حركة اتصال بين الدينين، وكان (كبير) يتساهل في قبول كثير من العقائد الهندوكية ويضمها إلى الإسلام شريطة بقاء التوحيد، لكنه لم يفلح إذ انقرض مذهبه بموته مخلفا مجموعة أشعار تظهر تمازج العقيدتين المختلفتين الهندوسية والإسلامية، مرتبطتين برباط صوفي يجمع بينهما.
للسيخ بلد مقدس يعقدون فيه اجتماعاتهم المهمة. وهي مدينة (أمرتيسار) من أعمال البنجاب وقد دخلت عند التقسيم في أرض الهند وأكثرية السيخ تقطن البنجاب إذ يعيش فيها 85 / منهم. ولهم لجنة تجتمع كل عام منذ سنة 1908 م تنشئ المدارس وتعمل على إنشاء كراسي في الجامعات لتدريس ديانة السيخ ونشر تاريخها. ويقدر عدد السيخ حاليا بحوالي 15 مليون نسمة داخل الهند وخارجها.(22)
(الكونفوشيوسية)
الكونفوشيوسية ديانة أهل الصين، يعتبر (الكونفوشيوس) (551 ق. م) المؤسس الحقيقي لهذه العقيدة، ويعتقدون بالإله الأعظم، أو إله السماء ويتوجهون إليه بالعبادة، وتقديم القرابين إليه مخصوصة بالملك أو بأمراء المقاطعات، ويعتقدون أن للأرض إله ويعبده عامة الصينيين، ويعتقدون أن للشمس والقمر والكواكب والسحاب والجبال. لكل منها إله، وعبادتها وتقديم القرابين إليها مخصوصة بالأمراء، كما أنهم يقدسون الملائكة ويقدمون إليها القرابين، ويقدسون أرواح أجدادهم الأقدمين ويعتقدون ببقاء الأرواح، والقرابين عبارة عن موائد يدخلون بها السرور على تلك الأرواح بأنواع الموسيقى، ويوجد في كل بيت معبد لأرواح الأموات ولآلهة المنزل، وتنتشر الكونفوشية في الصين، وزالت هذه الديانة عام 1949 م عن المسرحين السياسي والديني، لكنها ما تزال كامنة في روح الشعب الصيني الأمر الذي يؤدي إلى تغيير ملامح الشيوعية الماركسية في الصين، وما تزال الكونفوشية ماثلة في النظم الاجتماعية في فرموزا (الصين الوطنية) وانتشرت كذلك في كوريا واليابان، وهي من الأسس الرئيسية التي تشكل الأخلاق. في معظم دول شرق آسيا وجنوبها الشرقي في العصرين الوسيط والحديث.(23)
2 - مسيرات عنكبوتية:
خلفت المسيرة الإسرائيلية من ورائها، أبشع بيوت الظلم والجور، وهذه البيوت خرج منها الوقود الذي أشعل وغذى معظم الصراعات التي دارت على امتداد عصرنا الحديث، وتذكر من هذه البيوت:
(الماسونية):
والماسونية لغة معناها. البناؤون الأحرار، وهي في الاصطلاح.
منظمة يهودية سرية إرهابية غامضة، محكمة التنظيم، تهدف إلى ضمان سيطرة اليهود على العالم، وتدعو إلى الالحاد والإباحية والفساد، جل أعضائها من الشخصيات المرموقة في العالم، يوثقهم عهد بحفظ الأسرار، ويقومون بما يسمى بالمحافل للتجمع والتخطيط والتكليف بالمهام.(24)
واختلف في تاريخ ظهور الماسونية. لتكتيمها الشديد، والراجح أنها ظهرت سنة 43 م، وسميت (القوة الخفية) وهدفها التنكيل بالنصارى واغتيالهم وتشريدهم ومنع دين المسيح من الانتشار(25)، وكانت تسمى في عهد التأسيس (القوة الخفية)، ومنذ بضعة قرون تسمت بالماسونية، لتتخذ من نقابة البنائين الأحرار لافتة تعمل من خلالها، وأهم أفكارهم ومعتقداتهم: أنهم يكفرون بالله ورسله وكتبه وبكل الغيبيات، ويعملون على تقويض الأديان وإسقاط الحكومات الشرعية وإلغاء أنظمة الحكم الوطنية في البلاد المختلفة والسيطرة عليها، وإباحة الجنس واستعمال المرأة كوسيلة للسيطرة، والعمل على تقسيم غير اليهود إلى أمم متنابذة تتصارع بشكل دائم، وبث سموم النزاع داخل البلد الواحد، وإحياء روح الأقليات الطائفية العنصرية، والعمل على السيطرة على رؤساء الدول لضمان تنفيذ أهدافهم التدميرية، والسيطرة على الشخصيات البارزة في مختلف الاختصاصات لتكون أعمالهم متكاملة، والسيطرة على أجهزة الدعاية والصحافة والنشر والإعلام واستخدامها كسلاح فتاك شديد الفاعلية، والسيطرة على المنظمات الدولية. كمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة، ومنظمات الإرصاد الدولية. ومنظمات الطلبة والشباب والشابات في العالم.
والماسونية لها محافل في كل العالم تقريبا، وبيدها أكثر موارد الاقتصاد ووسائل الانتاج في العالم، ولهم عصابات إرهابية لتنفيذ العمليات الإجرامية للتخلص من كل من يقف في طريقهم عن قصد أو عن غير قصد(26) ويتبع الماسونية مجموعة نوادي ذات طابع خيري اجتماعي في الظاهر، لكنها لا تعدو أن تكون واحدة من المنظمات العالمية التابعة للماسونية التي تديرها أصابع يهودية، بغية إفساد العالم والسيطرة عليه، ومن هذه النوادي (الليونز) وله نواد في أمريكا وأوروبا وكثير من بلدان العالم، ومركزه الرئيسي في (أوك بروك) بولاية الينوي في الولايات المتحدة الأمريكية، ويتجلى النشاط الظاهري لليونز في:
الدعوة إلى الإخاء والحرية والمساواة، وتنمية روح الصداقة بين الأفراد بعيدا عن الروابط العقيدية، ودعم المشروعات الخيرية. ودعم مشروعات الأمم المتحدة، وتقديم الخدمات إلى البيئة المحلية، والاهتمام بالرفاهية الاجتماعية، ونشر المعارف بكل الوسائل الممكنة، ولا يستطيع أي شخص أن يقدم طلب انتساب إليهم. وإنما هم الذين يرشحونه ويعرضون عليه ذلك.(27)
ومن ذلك أيضا " نادي الروتاري " وهو منظمة ماسونية تسيطر عليه اليهودية العالمية، ومن أفكار الروتاري ومعتقداته: عدم اعتبار الدين مسألة ذات قيمة لا في اختيار العضو ولا في العلاقة بين الأعضاء، ولا يوجد أي اعتبار لمسألة الوطن، وإسقاط الدين يوفر الحماية لليهود ويسهل تغلغلهم في الأنشطة الحياتية كافة، وهذا يتضح من ضرورة وجود يهودي واحد أو اثنين على الأقل في كل ناد، وباب العضوية غير مفتوح لكل الناس، ولكن على الشخص أن ينتظر دعوة النادي للانضمام إليه على حسب مبدأ الاختيار، والعمال محرومون من عضوية النادي، ولا يختار إلا من يكون ذا مكانة عالية، وبدأت أندية الروتاري في أمريكا سنة 1955 م، وانتقلت بعدها إلى بريطانيا وإلى عدد من الدول الأوربية، ومن ثم صار لها فروع في معظم دول العالم، ولها نواد في عدد من الدول العربية كمصر والأردن وتونس والجزائر وليبيا والمغرب ولبنان، وتعد بيروت مركز جمعيات الشرق الأوسط(28)، ويختلف الماسونية عن الروتاري. في أن قيادة الماسونية ورأسها مجهولان، على عكس الروتاري الذي يمكن معرفة أصوله ومؤسسيه، والروتاري وما يماثله من النوادي مثل: الليونز، الكيواني، أبناء العهد، تعمل في نطاق المخططات اليهودية من خلال سيطرة الماسون عليها والذين هم بدورهم مرتبطون باليهودية العالمية نظريا وعمليا.(29)
(الصهيونية)
الصهيونية حركة سياسية عنصرية متطرفة، ترمي إلى إقامة دولة اليهود التي تحكم من خلالها العالم كله. وتكون عاصمتها أورشاليم، وارتبطت الحركة الصهيونية باليهودي النمساوي (هرتزل)، الذي يعد الداعية الأول للفكر الصهيوني الذي تقوم على آرائه الحركة الصهيونية في العالم، وتعتبر الصهيونية جميع يهود العالم أعضاء في جنسية واحدة هي الجنسية الإسرائيلية، ويعتقدون أن اليهود هم العنصر الممتاز الذي يجب أن يسود وكل الشعوب الأخرى خدم لهم، ويقولون: لا بد من إغراق الأمميين في الرذائل بتدبيرنا من طريق من نهيئهم لذلك من أساتذة وخدم وحاضنات ونساء ملاهي، ويرون: أن السياسة نقيض للأخلاق. ولا بد فيها من المكر والرياء أما الفضائل والصدق فهي رذائل في عرف السياسة، ويقولون: يجب أن نستخدم الرشوة والخديعة والخيانة دون تردد. ما دامت تحقق مآربنا. ويقولون: ننادي بشعارات (الحرية. والمساواة والإخاء) لينخدع بها الناس ويهتفوا بها وينساقوا وراء ما نريد لهم، ويقولون: سنعمل على دفع الزعماء إلى قبضتنا وسيكون تعينهم في أيدينا واختيارهم حسب وفرة أنصبتهم من الأخلاق الدنيئة وحب الزعامة وقلة الخبرة. ويقولون: سنسيطر على الصحافة تلك القوى الفعالة التي توجه العالم نحو ما نريد، ويقولون: لا بد أن نفتعل الأزمات الاقتصادية لكي يخضع لنا الجميع بفضل الذهب الذي احتكرناه، ويقولون: إن كلمة الحرية تدفع الجماهير إلى الصراع مع الله. ومقاومة سنته فلنشعها هي وأمثالها إلى أن تصبح السلطة في أيدينا، ويقولون: لنا قوة خفية لا يستطيع أحد تدميرها. تعمل في صمت وخفاء وجبروت. ويتغير أعضاؤها على الدوام، وهي كفيلة بتوجيه حكام الأمميين كما نريد.(30)
ومن المنظمات التي خرجت من عباءة الصهيونية: (منظمة شهود يهوه) وهي منظمة تقوم على سرية التنظيم وعلنية الفكرة دينية وسياسية، ظهرت في أمريكا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهي تدعى أنها مسيحية، والواقع أنها واقعة تحت سيطرة اليهود وتعمل لحسابهم، وهي تعرف باسم (جمعية العالم الجديد) إلى جانب (شهود يهوه) الذي عرفت به ابتداء من سنة 1931 م. وتؤمن هذه المنظمة بعيسى رئيسا لمملكة الله، ويعملون من أجل إقامة دولة دينية دنيوية للسيطرة على العالم، ويقتطفون من الكتاب المقدس الأجزاء التي تحبب في إسرائيل واليهود ويقومون بنشرها، ويعادون النظم الوضعية ويدعون إلى التمرد، ويعادون الأديان إلا اليهودية. وجميع رؤسائهم يهود، ويعترفون بقداسة الكتب التي يعترف بها اليهود ويقدسونها، ولهذه المنظمة علاقة مع المنظمات التبشيرية، والمنظمات الشيوعية والاشتراكية الدولية، ولهم علاقة كبيرة مع أهل النفوذ من اليونانيين والأرمن.(31) وخرجت من تحت عباءة اليهودية بعض التيارات الفكرية منها:
(العلمانية): وهي دعوة إلى إقامة الحياة على غير الدين، وتعني في جانبها السياسي، بالذات اللادينية في الحكم. وهي اصطلاح لا صلة له بكلمة العلم. والمذهب العلمي، ومن أفكار ومعتقدات هذا التيار، أن بعضهم ينكر وجود الله أصلا، والبعض الآخر يؤمن بوجود الله، لكنهم يعتقدون بعدم وجود أي علاقة بين الله وبين حياة الإنسان، ويعتقدون: أن الحياة تقوم على أساس العلم المطلق. وتحت سلطان العقل والتجريب، ويقولون: بفصل الدين عن السياسة وإقامة الحياة على أساس مادي، وينادون: بتطبيق مبدأ النفعية على كل شئ في الحياة. واعتماد مبدأ (الميكيافيلية) في الفلسفة والحكم والسياسة والأخلاق، ولقد رشح هذا التيار على العالم الإسلامي. وانتشر بفضل الاستعمار والتبشير، وقام دعاته في العالم العربي والإسلامي. بالطعن في حقيقة الإسلام والقرآن والنبوة، وزعموا بأن الإسلام استنفذ أغراضه، وهو عبارة عن طقوس وشعائر روحية، وزعموا بأن الإسلام لا يتلاءم مع الحضارة ويدعو إلى التخلف.(32)
(التغريب): وخرج دعاته من تحت العباءة اليهودية، والتغريب تيار كبير ذو أبعاد سياسية واجتماعية وثقافية وفنية، ويرمي إلى صبغ حياة الأمم والمسلمين بخاصة بالأسلوب الغربي، وذلك بهدف إلغاء شخصيتهم المستقلة وخصائصهم المتفردة، وجعلهم أسرى التبعية الكاملة للحضارة الغربية، ولقد استطاعت حركة التغريب أن تتغلغل إلى كل بلاد العالم الإسلامي، وإلى كل البلاد المشرقية على أمل بسط بصمات الحضارة الغربية المادية الحديثة على هذه البلاد وربطها بالعجلة الغربية، ولم يخل بلد إسلامي أو مشرقي من هذا التيار.(33) ويضاف إلى هذه التيارات. تيار (الوجودية) وهو تيار فلسفي، يكفر أتباعه بالله ورسله وكتبه وبكل الغيبيات وكل ما جاءت به الأديان، ويعتبرونها عوائق أمام الإنسان نحو المستقبل، وقد اتخذوا الالحاد مبدأ ووصلوا إلى ما يتبع ذلك من نتائج مدمرة، ومن أشهر زعماء هذا التيار " جان بول سارتر " الفرنسي المولود سنة 1955 م، وهو ملحد ويناصر الصهيونية، وانتشرت أفكار هذا التيار بين المراهقين والمراهقات في فرنسا وألمانيا والسويد والنمسا وإنجلترا وأمريكا وغيرها، حيث أدت إلى الفوضى الخلقية والإباحية الجنسية واللامبالاة بالأعراف الاجتماعية والأديان.(34)
ويضاف إلى ذلك (الفرويدية) وهي مدرسة في التحليل النفسي.
أسسها اليهودي (سيجموند فرويد) وهي تفسر السلوك الإنساني تفسيرا جنسيا، وتجعل الجنس هو الدافع وراء كل شئ، كما أنها تعتبر القيم والعقائد حواجز وعوائق تقف أمام الاشباع الجنسي. مما يورث الإنسان عقدا وأمراضا نفسية، ولم ترد في كتب وتحليلات فرويد أية دعوى صريحة للانحلال كما يتبادر إلى الذهن، وإنما كانت هناك إيماءات تحليلية كثيرة تتخلل المفاهيم الفرويدية. تدعو إلى ذلك، وقد استفاد الإعلام الصهيوني من هذه المفاهيم لتقديمها على نحو يغري الناس بالتحلل من القيم وييسر لهم سبله بعيدا عن تعذيب الضمير.(35)
واستغل اليهود المذهب (الرأسمالي) والرأسمالية نظام اقتصادي ذو فلسفة اجتماعية وسياسية. يقوم على أساس تنمية الملكية الفردية والمحافظة عليها، متوسعا في مفهوم الحرية، ولقد ذاق العلم بسببه ويلات كثيرة، وما تزال الرأسمالية تمارس ضغوطها وتدخلها السياسي والاجتماعي والثقافي، وترمي بثقلها على مختلف شعوب الأرض، وتقوم الرأسمالية في جذورها على شئ من فلسفة الرومان القديمة، يظهر ذلك في رغبتها في امتلاك القوة وبسط النفوذ والسيطرة، ولقد تطورت متنقلة من الاقطاع إلى البرجوازية إلى الرأسمالية. وخلال ذلك اكتسبت أفكارا ومبادئ مختلفة. تصب في تيار التوجه نحو تعزيز الملكية الفردية والدعوة إلى الحرية، ولا يهم الرأسمالية من القوانين الأخلاقية إلا ما يحقق لها المنفعة ولا سيما الاقتصادية منها على وجه الخصوص، وتدعو الرأسمالية إلى الحرية وتتبنى الدفاع عنها. لكن الحرية السياسية تحولت إلى حرية أخلاقية واجتماعية. ثم تحولت بدورها إلى إباحية، وازدهرت الرأسمالية في إنجلترا وفرنسا وألمانيا واليابان وأمريكا، وفي معظم العالم الغربي، وكثير من دول العالم يعيش في جو من التبعية لها، ووقف النظام الرأسمالي إلى جانب إسرائيل دعما وتأييدا بشكل مباشر أو غير مباشر.(36)
ووضع اليهود بصماتهم على المذهب (الشيوعي) وهو مذهب فكري يقوم على الالحاد. وأن المادة هي أساس كل شئ، ويفسر التاريخ بصراع الطبقات وبالعامل الاقتصادي، وظهر المذهب على يد (ماركس) اليهودي الألماني (1818 - 1883 م) وتجسد في الثورة البلشفية التي ظهرت في روسيا سنة 1917 م بتخطيط من اليهود، وتوسعت الثورة على حساب غيرها بالحديد والنار، وقد تضرر المسلمون منها كثيرا، وأفكار ومعتقدات هذا المذهب تقوم على: إنكار وجود الله وكل الغيبيات، وقالوا: بأن المادة هي أساس كل شئ، وفسروا تاريخ البشرية بالصراع بين البرجوازية والبروليتاريا، وقالوا أن الصراع سينتهي بدكتاتورية البروليتاريا، وحاربوا الأديان واعتبروها وسيلة لتخدير الشعوب. مستثنين من ذلك اليهودية. لأن اليهودية شعب مظلوم! وحاربوا الملكية الفردية وقالوا بشيوعية الأموال وإلغاء الوراثة، ولم تستطع الشيوعية إخفاء تواطئها مع اليهود. وعملها لتحقيق أهدافهم، فقد صدر منذ الأسبوع الأول للثورة قرار. ذو شقين بحق اليهود:
أ - يعتبر عداء اليهود عداء للجنس السامي يعاقب عليه القانون.
ب - الاعتراف بحق اليهود في إنشاء وطن قومي في فلسطين(37) وهكذا وضع اليهود المسيرة البشرية بين مذهبين اقتصاديين، يعارض كل منهما الآخر، ليشتد الصراع على امتداد المسيرة، مع احتفاظ اليهود بثمرات كل مذهب، وثمرات الصراع القائم بينهما.
(التبشير)
وأدلى النصارى بدلوهم على المسيرة البشرية. وخرجت قوافل التبشير المختلفة الأسماء المتحدة الهدف، ومن أفكار ومعتقدات هذه القوافل: محاربة الوحدة الإسلامية، وتشويه التعاليم الإسلامية، ونشر النصرانية بين الأمم المختلفة في دول العالم الثالث بعامة وبين المسلمين بخاصة، بهدف إحكام السيطرة على هذه الشعوب، وتتلقى قوافل التنصير الدعم الدولي الهائل من أوروبا وأمريكا. ومن مختلف الكنائس والهيئات والجامعات والمؤسسات العالمية، وألقى التنصير بثقله حول العالم الإسلامي. ويتمركز في أندونسيا وماليزيا وبنجلاديش والباكستان وفي إفريقيا بعامة، من التيارات التبشيرية التي يتبناها اليهود، طائفة (المورمون) وتلبس لباس الدعوة إلى دين المسيح، وتنادي بالعودة إلى الأصل. أي إلى كتاب اليهود، ويعتقدون بأن الله أعطى وعده لإبراهيم، ومن ثم لابنه يعقوب، بأن من ذريته سيكون شعب الله المختار، وكتابهم يشبه التلمود في كل شئ وكأنه نسخة طبق الأصل عنه(38)، ومؤسس هذه الجماعة (يوسف سميث) ولد عام 1805 م بمدينة شارون بمقاطعة وندسور التابعة لولاية فرمنت، ولقد جندت إسرائيل كل إمكاناتها لخدمة هذه الطائفة، وآمن بفكر هذه الطائفة كثير من النصارى، وكان دعاتها من الشباب المتحمس، وقد بلغ عدد أفرادها أكثر من خمسة ملايين نسمة، ثمانون بالمئة منهم في أمريكا، ويتمركزون في ولاية (أوتاه) حيث أن 68 % من سكان هذه الولاية منهم، 62 / من سكان مقاطعة البحيرات المالحة مسجلون كأعضاء في هذه الكنيسة، ومركزهم الرئيسي في ولاية (يوتا) الأمريكية، وهذا التيار انتشر في الولايات المتحدة. وأمريكا الجنوبية. وكندا وأوروبا، كما أن لهم في معظم أنحاء العالم فروعا ومكاتب ومراكز لنشر أفكارهم ومعتقداتهم، ويوزعون كتبهم مجانا، ولهم (175) إرسالية تنصيرية كما أنهم يملكون: شبكة تلفزيونية، وإحدى عشرة محطة إذاعية، ويملكون مجلة شهرية بالإسبانية. وصحيفة يومية واحدة.(39)
الهوامش
(1) رواه الحاكم وصححه (كنز 200 / 10).
(2) رواه ابن عبد البر (جامع العلم 190 / 1).
(3) رواه ابن عبد البر (جامع العلم 192 / 1).
(4) قالع البوصيري: رواه ابن ماجة وإسناده صحيح. ورواه أحمد (الفتح الرباني 177 / 19).
(5) رواه البخاري (الفتح الرباني 200 / 1).
(6) الإصابة 171 / 1.
(7) سورة مريم آية 59.
(8) تفسير ابن كثير 128 / 3.
(9) رواه البخاري (الصحيح 230 / 4).
(10) رواه البخاري ومسلم وأحمد (الفتح الرباني 36 / 23).
(11) رواه أحمد بسند جيد (الفتح الرباني 32 / 24) وأبو داوود.
(12) عون المعبود 405 / 11.
(13) رواه مسلم (الصحيح 20 / 18) وأحمد (الفتح الرباني 37 / 24).
(14) سورة الأنعام آية 82.
(15) سورة لقمان آية 13.
(16) لسان العرب مادة ظلم ص 2757.
(17) سورة إبراهيم آية 13.
(18) سورة هود آية 19.
(19) سورة الأنعام آية 93.
(20) أنظر: الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة / الندوة العالمية للشباب ط الرياض ص 110.
(21) المصدر السابق 537.
(22) المصدر السابق 289.
(23) المصدر السابق 425.
(24) المصدر السابق 449.
(25) المصدر السابق 451.
(26) المصدر السابق 452.
(27) المصدر السابق 431.
(28) المصدر السابق 242.
(29) المصدر السابق 243.
(30) للمزيد. أنظر المصدر السابق ص 332.
(31) المصدر السابق 294.
(32) المصدر السابق 365.
(33) المصدر السابق 154.
(34) المصدر السابق 544.
(35) المصدر السابق 381.
(36) المصدر السابق 237.
(37) للمزيد: أنظر المرجع السابق 310 وما بعدها.
(38) المصدر السابق 486.
(39) المصدر السابق 487.
******************
والخلاصة:
يجب أن نعترف بأن المسيرة البشرية حملت ضمن أحمالها البصمة الوثنية. التي زين الشيطان برنامجها وأغوى به قطاع عريض على امتداد المسيرة، ونحن في عصرنا نرى أعلام هذا القطيع ويجب أن نعترف أن الماسونية شجرة عتيقة فروعها هي الصهيونية وملحقاتها، وهذه الشجرة في بستان يملكه اليهود، والخدم في هذا البستان هم علماء التغريب والعلمانية وغيرهم، ومهمة الخدم هي تذويب الاحساس القومي لدى الشعوب بنشر الأفكار العالمية، ونتيجة لذلك يكون اليهود هم الشعب الوحيد الذي يظل محتفظا بقوميته. ويكون له المجد في النهاية وله السيطرة على جميع شعوب الأرض باعتباره شعب الله المختار.
فالشعب اليهودي داخل دائرته. ظل على امتداد تاريخه بعد السبي يؤمن بضرورة العمل من أجل إحياء مملكة داوود. التي يكون لها المجد على شعوب الأرض. ويسبح معها الجبال والطير. وظل أتباع هذا الاعتقاد على امتداد تاريخهم وفي أحلك الأوقات يقيمون حياتهم على أساس هذا الدين الذي يحقق هذه النتيجة، وعندما عاشوا في بقاع الأرض المختلفة متباعدين. كانوا في نفس الوقت متقاربين نتيجة لوحدة الفكر والأمل، ولم يذوبوا في المجتمعات وإنما اجتمعوا في أحياء خاصة بهم داخل المجتمعات الكبيرة، وعملوا من أجل أن تكون المجتمعات الكبيرة في قبضتهم. وذلك عن طريق سيطرتهم على الاقتصاد ورجال الحكم.
وبعد عودة اليهود إلى فلسطين. وبعد انتصارهم عام 1967، يخطئ من يظن أن الحرب بين الفطرة وبين اليهود قد انتهت، ومخدوع كل من يظن أن كل ما هو معلق بين المسلمين وبين اليهود قد تحله العقود أو المواثيق أو اتفاقيات الصلح والاعتراف المتبادل، لأن المهمة الإسرائيلية لن تنتهي إلا بظهور أمير السلام الذي ينتظره اليهود، وقد يأخذ السلام بين العرب وبين اليهود أشكالا متعددة، ولكن تبقى الحقيقة الأكيدة: أن هذا السلام في نظر اليهود سيكون ورقة تكتيكية من أوراق الحرب المستمرة، حتى يأتي أمير السلام (الدجال) فينصب فسطاطه في المنطقة. ويتبعه جميع الذين تعاموا عن هذه الحقيقة.
ويجب أن نعترف أن قطاع عريض داخل المسيرة الإسلامية لا يعرف ذاته ولا يعرف القوى المعادية له، أو بمعنى آخر. يجب أن نعترف بأن هؤلاء يبدوا وكأنهم لا يريدون أن يعرفوا ذاتهم أو كأنهم لا يقدرون على محاولة المعرفة، وأنهم لا يعرفوا عدوهم معرفة حقيقية أو لعلهم لم يحاولوا أن يعرفوا، وفي جميع الحالات يجب أن نعترف بأننا لا نعرف أنفسنا ولا نعرف عدونا.
ويجب أن نعترف بأن الفطرة يحيط بها الظلم من كل مكان، وأين الوسائل المحيطة بها يمسك بزمامها الجبان، وكلمة الجبان لا تعني الرجل الخائف الرعديد فقط، وإنما تعني ذلك الرجل الذي إذا تمكن من عدوه كان أكثر جبنا، بمعنى أنه لا يعرف في التعامل معه معنى من معاني النبالة أو الكرم أو الشهامة، إنما يستعمل معه أدنأ الوسائل وأدناها إلى الحطة، والفطرة الإنسانية تحيط بها أكثر الناس جبنا، بمعنى أكثر الناس ميلا للانتقام..
وإذا كان البحث العلمي قد قدم للمسيرة البشرية مجهودات عظيمة، من عصر الطاقة اليدوية إلى عصر الفحم. إلى عصر البخار..
إلى عصر البترول. إلى عصر الكهرباء، ومن عصر الذرة إلى عصر الإلكترونيات. إلى عصر الكومبيوتر إلى عصر الفضاء إلى عصر الهندسة الوراثية، فيجب أن نعترف أن الأعظم من هذا المجهود الضخم استعمل في كل عصر من أجل خدمة مخططات الأهواء وأهداف المادية، وعن طريقة استطاع أصحابه أن يتغلغلوا داخل النفس لإغوائها لتكون عضوا على طريق أهدافهم.
إن العلوم المفيدة تكون في متناول الإنسان عندما تصلح أخلاقه، أما إذا وقف الجبان على أبواب المجهودات العلمية، فسيكون للظلم والجور وللفساد أعلاما متعددة الألوان والأشكال، وفي عصرنا نرى المخطط اليهودي والوثني تحميه الترسنات النووية والكيمائية والمكروبية. والترسانة التقليدية، وأساطيل الطائرات والغواصات والدبابات وقاذفات الصواريخ والباتريوت، ونجد الفطرة في أماكن كثيرة. مقيدة بالديون وفوائد القروض ومحاذير السلاح وضغوط صندوق النقد الدولي وقرارات الأمم المتحدة، ونجدها مهددة من كل مكان.
بعد أن فسد كل شئ. ولوثت البحار والأنهار بالنفط والمبيدات ومخلفات المصانع وسموم المعادن الثقيلة، ولوث الجو بغازات الكبريت والأزون والكربون والرصاص، واتخذ الجبان من قلب الأرض والبحر مخازن للموت النووي والرعب الذري يدفن فيه النفايات القاتلة لصناعاته المهلكة، ونجد الفطرة محاصرة بقوافل خرقت الشرائع وطلبت اللذة من وجوهها الشاذة باللواط والسحاق، ولقد رأينا كيف خرجت قوافل الشواذ تطالب بشرعية الفسق وتقنين زواج الرجال بالرجال وزواج النساء بالنساء، وتسير في مظاهرات علنية تطالب بحقوقها الشاذة، ولم يقتصر الأمر على خروج قبائل العهر والفسق في مظاهرات، وإنما تفننت قبائل أخرى في جعل الحرية الجنسية شريعة لمملكتها، وأقامت للزنا نواد ومؤسسات وأقمار فضائية تنشره، وأبدعت هذه القبائل في إخراج العهر والفجور والفسق والشذوذ. بجميع أوضاعه في أبهة من الألوان ومواكب من الزينة والزخرف. واستأجرت لهذا الفتيات الساقطات من كل جنس لعرضهن عرايا. ثم ثبت هذا العهر ليستقبله كل من وجه هوائي استقبال إلى الفضاء.
لقد ملأت الأرض ظلما. والتطور ينطلق كل دقيقة بل كل ثانية.
وما كان يحدث من إنجاز علمي في ألوف السنين. أصبح يحدث الآن في سنوات قليلة، ومعنى هذا أن المستقبل سيشهد تطورا مضغوطا في حيز تاريخي قصير، فإذا كان الجبان ساهرا ومشرفا على هذا التطور، فإن معنى هذا أننا نهرول بالفعل إلى النهاية. وقبل هذا اليوم يجب أن نعرف من نحن؟ ومن هو عدونا؟ وما هي أهدافنا وما هي أهداف عدونا؟ ومن أين نبدأ وكيف نخرج من الدائرة المغلقة؟ إننا إذا لم نعرف كل هذا وغيره. فستدفع أجيالنا في المستقبل ثمنا باهظا ويشهدوا جنازتهم على أقل تقدير وهم وراء أمير السلام، وسنعتمد نحن هذه الجنازة لأن المستقبل ابن للماضي ولا ينفصل عنه. أجيبوا. أجيبوا يرحمكم الله. قبل أن يأتي يوم لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل.
2 - (مستقر المسيرات الانحرافية)
يبعث الله تعالى الأنبياء والرسل ليذكروا الناس بالمخزون الفطري الذي وضعه الله في النفس البشرية عند بدأ الخلق، وهذا المخزون هو توحيده تعالى، ويقوم الأنبياء والرسل على امتداد عهد البعثة بسوق الناس إلى طريق الهدى ببيانهم للناس ما أنزل إليهم من ربهم، وبعد أن يقيم رسل الله الحجة على الناس. ينسى بعض الناس ما ذكروا به، ويقومون بأعمال تعارض الفطرة ووصايا الله، وأخبرت الدعوة الخاتمة أن الله تعالى يستدرج هذه المسيرات الانحرافية على امتداد المسيرة البشرية، وعلى امتداد الاستدراج ينال الذين ظلموا عذاب الخزي في الحياة الدنيا، قال تعالى: (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شئ حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين).(1)
وعذاب الاستدراج في الحياة الدنيا أبوابه مفتوحة، يدخل فيها الحاضر إذا أخذ بأسباب الانحراف من الماضي، وإذا انطلق الحاضر إلى المستقبل ولم تحدثه نفسه بتوبة، انتهت أقدامه إلى المسيح الدجال، وفي دائرة الدجال تنال جميع رايات الانحراف والشذوذ عذاب الخزي ويقطع الله دابرهم بعذاب الاستئصال. والنبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم أخبر بأن جميع الأنبياء حذروا أممهم من الدجال، وقال " إن الله لم يبعث نبيا إلا حذر أمته الدجال "(2)، وحذر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الدجال ومن كل عمل ينتهي إليه.
ومن ذلك قوله " وما صنعت فتنة منذ كانت الدنيا صغيرة ولا كبيرة إلا لفتنة الدجال ".(3)
وطريق الدجال يبدأ بانحراف دقيق عند المقدمة. ثم يتسع شيئا فشيئا على امتداد المسيرة. وفي مناطق الاتساع ترفع للشذوذ رايات بعد أن ألفه الناس. وهذه الرايات بينها النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم وهو يخبر بأشراط الساعة، ومن ذلك قوله " من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويثبت الجهل ويشرب الخمر ويظهر الزنا ".(4) وقال " إن بين يدي الساعة أياما يرفع فيها العلم وينزل فيها الجهل ويكثر فيها الهرج والهرج القتل "(5)، فهذه العلامات تظهر على طريق الفتن والانحراف. وبينها النبي الخاتم ليراجع الناس أنفسهم على امتداد المسيرة، ويشهدوا له بالنبوة بعد أن رأوا أحداثا أخبر بها يوم أن كانت غيبا، فالأحداث في عالم المشاهدة المنظور دعوة للتوبة وتحذيرا من العقاب الذي يحمله طريق الاستدراج.
وآخر الزمان يقف تحت أعلام الدجال جميع المسيرات التي انحرفت عن ميثاق الفطرة وأشركت بالله، ويقف تحتها صناع الفتن وأصحاب الأهواء وتجار الشذوذ وجلادي الشعوب، وجميع الذين ظلموا وصدوا عن سبيل الله العزيز الحكيم، فهؤلاء وغيرهم سينتظمون وراء قيادة الدجال آخر الزمان ويطيعون أوامره، وسيدخلون معه لقتال المهدي المنتظر والمسيح عيسى بن مريم عليهما السلام (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون).(6)
ثانيا - (القسط والعدل)
كما أن لطريق الشذوذ علامات، فإن لطائفة الحق علامات. وكما أن الله تعالى حذر من شر مخبوء في بطن الغيب. ومنه الدجال، فإنه تعالى بشر بخير مخبوء في بطن الغيب ومنه المهدي المنتظر ونزول عيسى بن مريم آخر الزمان.
1 - (أقوال العلماء في ظهور المهدي ونزول عيسى آخر الزمان)
قال الشوكاني: إن الأحاديث الواردة في المهدي متواترة.
والأحاديث الواردة في الدجال متواترة. والأحاديث الواردة في نزول عيسى متواترة.(7) وقال صاحب عون المعبود شرح سنن أبو داوود:
إعلم أن المشهود بين الكافة من أهل الإسلام على ممر الأعصار. أنه لا بد في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت. يؤيد الدين ويظهر العدل ويتبعه المسلمون ويستولي على الممالك الإسلامية، ويسمى بالمهدي، ويكون خروج الدجال بعده وإن عيسى عليه السلام ينزل بعد المهدي أو ينزل معه فيساعده على قتل الدجال، ويأتم بالمهدي في صلاته، وخرج أحاديث المهدي جماعة من الأئمة منهم: أبو داوود والترمذي وابن ماجة والبراز والحاكم والطبراني وأبو يعلى، وإسناد أحاديث هؤلاء بين الصحيح والحسن والضعيف. وقد بالغ المؤرخ عبد الرحمن بن خلدون في تاريخه في تضعيف أحاديث المهدي كلها. فلم يصب بل أخطأ(8) وقال صاحب التاج الجامع للأصول: إشتهر بين العلماء سلفا وخلفا أنه في آخر الزمان لا بد من ظهور رجل من أهل البيت يسمى بالمهدي، يستولي على الممالك الإسلامية ويتبعه المسلمون ويعدل بينهم ويؤيد الدين، ولقد أخطأ من ضعف أحاديث المهدي كلها، وما روي من حديث لا مهدي إلا عيسى. فضعيف كما قال البيهقي والحاكم وغيرهما.(9)
وقال ابن كثير في البداية والنهاية: لا شك أن المهدي الذي هو ابن المنصور ثالث خلفاء بني العباس ليس هو المهدي الذي وردت الأحاديث المستفيضة بذكره. وإنه يكون في آخر الزمان يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما، وقد أفردنا للأحاديث الواردة فيه جزءا على حدة، كما أفرد له أبو داوود كتابا في سننه.(10)
وقال الحافظ الكتاني: الأحاديث الواردة في المهدي على اختلاف رواياتها كثيرة جدا، تبلغ حد التواتر، وهي عند الإمام أحمد والترمذي وأبي داوود وابن ماجة والحاكم والطبراني وأبو يعلى والبزار وغيرهم.
من دواوين الإسلام من السفن والمعاجم والمسانيد، وأسندوها إلى جماعة من الصحابة، وبعضها صحيح وبعضها حسن وبعضها ضعيف، والأحاديث تشد بعضها بعضا، وأمر المهدي مشهور بين الكافة من أهل الإسلام على ممر الأعصار، وأنه لا بد في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت النبوي يؤيد الدين ويظهر العدل ويتبعه المسلمون، ويسمى بالمهدي(11) وقال الكتاني: وفي شرح عقيدة السفاريني الحنبلي ما نصه: وقد كثرت بخروج المهدي الروايات حتى بلغت حد التواتر، وشاع ذلك بين علماء السنة حتى عد من معتقداتهم، وقد رويت أحاديث المهدي عن الصحابة بروايات متعددة، وعن التابعين من بعدهم، مما يفيد مجموعه العلم القطعي، فالإيمان بخروج المهدي واجب كما هو مقرر عند أهل العلم ومدون في عقائد أهل السنة والجماعة.(12)
2 ـ (فجر الضمير)
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن أقام الحجة على المسيرة " وأيم الله. لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها كنهارها "(13) وزاد في رواية: لا يزيغ عنها إلا هالك "(14) فالطريق واضح وضوح النهار، والله تعالى ينظر إلى عباده كيف يعملون، وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن المسيرة ستشهد أنماطا بشرية يترتب على حركتها غربة الدين، وهذه النتيجة ترى في قوله صلى الله عليه وآله وسلم " إن الإسلام بدأ غريبا. وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء "(15) قال النووي: ظاهر الحديث، أن الإسلام بدأ في أحاد من الناس وقلة. ثم انتشر وظهر. ثم سيلحقه النقص والإخلال حتى لا يبقى إلا في آحاد وقلة أيضا كما بدأ "(16). وغربة الدين ترى في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم " الإسلام والسلطان أخوان توأمان. لا يصلح واحد منهما إلا بصاحبه. فالإسلام أسس (أي: أصل البناء) والسلطان حارث، وما لا حارث له يهدم. وما لا حارث له ضائع "(17)، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول " إن رحى الإسلام دائرة. وإن الكتاب والسلطان سيفترقان. فدوروا مع الكتاب حيث دار ".(18)
والنجاة في عالم الغربة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم دائرتها، عن أبي هريرة قال. قالوا: يا رسول الله أي الناس خير؟ قال: أنا ومن معي، قالوا: ثم من؟ قال: الذي على الأثر، قالوا: ثم من؟، فرفضهم رسول الله.(19)
وطائفة الحق على امتداد المسيرة لها أعلامها، ولا يضرها من خذلها أو عاداها، لأنها حجة بمنهجها وحركتها على الناس، وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم . بأن هذه الطائفة تستقر أعلامها آخر الزمان. تحت قيادة المهدي المنتظر وعيسى بن مريم عليهما السلام، يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك "(20)، وقال " لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله. لا يضرهم من خذلهم. أو خالفهم. حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس "(21) وقال " لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم، حتى يقاتل آخرهم الدجال "(22). وقال " لا تزال طائفة من أمتي تقاتل على الحق حتى ينزل عيسى بن مريم عند طلوع الفجر ببيت المقدس ينزل على المهدي "(23)، وفي رواية " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على من ناوأهم حتى يأتي أمر الله. وينزل عيسى عليه السلام ".(24)
فمن هذه الأحاديث نرى أن طائفة الحق على امتداد المسيرة. تأخذ بأسباب الهدى. وتنطلق من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل.
لا يضرها من عاداها أو من خذلها. حتى تستقر نهاية المطاف أمام فسطاط المهدي المنتظر.
والمهدي من أهل البيت. من أولاد علي وفاطمة رضي الله عنهما، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم " المهدي منا أهل البيت "(25)، وقال " المهدي من عترتي من ولد فاطمة "(26) واسمه يواطئ اسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم .(27)
والمهدي يخوض معارك آخر الزمان، وسيفتح الصين(28) والهند(29) وجبل الديلم(30) وسيقصم ظهر الروم ويفتح القسطنطينية(31) ويقاتل اليهود وأميرهم الدجال حتى ينتهي أمرهم بالاستئصال، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم " يظهر على كل جبار وابن جبار ويظهر العدل ".(32)
وفي منهج المهدي يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم " هو رجل من عترتي يقاتل على سنتي كما قاتلت أنا على الوحي "(33)، وقال " يعمل بسنتي "(34) وقال صلى الله عليه وآله وسلم " يبعث على اختلاف من الناس وزلازل، فيملأ الأرض قسطا وعدلا، كما ملئت جورا وظلما "(35) وقال " لو لم يبق من الدنيا إلا يوم، لبعث الله عز وجل. رجل منا يملأها عدلا كما ملئت جورا "(36). وعن حذيفة قال.
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ويح هذه الأمة من ملوك جبابرة، يقتلون ويخيفون المطيعين إلا من أظهر طاعتهم، فالمؤمن التقي يصانعهم بلسانه ويفر منهم بقلبه، فإذا أراد الله عز وجل أن يعيد الإسلام عزيزا، فصم كل جبار وهو القادر على ما يشاء. أن يصلح أمة بعد فسادها، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا حذيفة. لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم، حتى يملك رجل من أهل بيتي تجري الملاحم على يديه، ويظهر الإسلام. لا يخلف الله وعده وهو سريع الحساب.(37)
وعن ابن مسعود قال. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن أهل بيتي سيلقون بعدي بلاءا وتشريدا وتطريدا، حتى يأتي قوم من قبل المشرق معهم رايات سود، فيسألون الخير فلا يعطونه، فيقاتلون فينصرون، فيعطون ما سألوا فلا يقبلونه، حتى يدفعوها إلى رجل من أهل بيتي، فيملؤها قسطا كما ملؤوها جورا، فمن أدرك ذلك منكم، فليأتهم ولو حبوا على الثلج.(38)
وآخر الزمان يلتقي ابن علي بن أبي طالب. مع ابن مريم أخت هارون، يلتقي آخر أهل البيت في المسيرة الإسلامية، مع المسيح عيسى بن مريم آخر نبي في المسيرة الإسرائيلية، وكلاهما ظلمته مسيرة قومه، ولكن للعدل رداء على الوجود كله، ومن حكمة الله تعالى أن لا تنهدم الدنيا قبل أن يهيمن العدل على المسيرة البشرية، ليعلم الناس وهم تحت سقف الامتحان والابتلاء. أن الحق يقف في النهاية، لأنه أصيل في الوجود، أما الباطل فطارئ لا أصالة فيه، الباطل زبد لا يمكث في الأرض، والباطل يطارده الله على امتداد المسيرة ولا بقاء لشئ يطارده الله. قال تعالى: (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون)(39) (ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين. قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون. فأعرض عنهم وانتظر. إنهم منتظرون).(40)
صدق الله العلي العظيم
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وسلام على المرسلين
الهوامش
(1) سورة الأنعام آية 44.
(2) رواه الإمام أحمد (الفتح الرباني 69 / 24).
(3) رواه أحمد والبزار ورجاله رجال الصحيح (الفتح الرباني 69 / 24).
(4) رواه مسلم (الصحيح 58 / 8).
(5) رواه مسلم (الصحيح 58 / 8.
(6) سورة يوسف آية 21.
(7) عون المعبود ص 458 / 11.
(8) عون المعبود ص 362 / 11.
(9) التاج الجامع للأصول ص 341 / 5.
(10) البداية والنهاية 281 / 6.
(11) نظم المتناثر في الحديث المتواتر ص 226.
(12) نظم المتناثر ص 226.
(13) رواه ابن ماجة (كنز العمال 370 / 11).
(14) رواه ابن أبي عاصم (كتاب السنة 27 / 1).
(15) رواه مسلم (الصحيح 177 / 2).
(16) مسلم شرح النووي 177 / 2).
(17) رواه الديلمي (كنز العمال 10 / 6).
(18) رواه الطبراني وابن عساكر (كنز العمال 216 / 1).
(19) رواه أحمد وقال في الفتح رواه مسلم (الفتح الرباني 219 / 23).
(20) رواه مسلم (الصحيح 65 / 13).
(21) رواه مسلم (الصحيح 97 / 13).
(22) رواه الحاكم وصححه (المستدرك 450 / 4).
(23) رواه أبو عمر الداني (عقد الدرر ص 220).
(24) رواه أحمد والحاكم وصححه وأبو داوود (الفتح الرباني 210 / 23).
(25) رواه أبو نعيم والحاكم وصححه (عقد الدرر ص 21) (المستدرك 557 / 4 (عون المعبود 375 / 11).
(26) رواه أبو داوود (السنن 422 / 2) والحاكم وابن ماجة (المستدرك 557 / 4) (التاج الجامع للأصول 343 / 5) (كنز العمال 264 / 14) (الحاوي للسيوطي 224 / 2).
(27) رواه أحمد والترمذي وأبو داوود والحاكم (الفتح الرباني 49 / 24) (جامع الترمذي 505 / 4).
(28) أنظر: عقد الدرر ص 224.
(29) أنظر: التاج الجامع للأصول 325 / 5، عقد الدرر 219.
(30) أنظر: عقد الدرر ص 224.
(31) أنظر: عقد الدرر ص 211.
(32) رواه الطبراني (الزوائد 315 / 7) (الحاوي 218 / 2).
(33) رواه نعيم بن حماد (الحاوي 233 / 2) (عقد الدرر ص 17).
(34) رواه أبو نعيم (عقد الدرر 156).
(35) قال الهيثمي رواه الترمذي وغيره وأحمد وأبو يعلى ورجالهما ثقات (الزوائد 314 / 7) (الفتح الرباني 50 / 24).
(36) رواه أحمد وأبو داوود (الفتح الرباني 49 / 24) (عون المعبود 373 / 11).
(37) رواه نعيم بن حماد وأبو نعيم (عقد الدرر ص 63) (الحاوي 221 / 2).
(38) رواه ابن ماجة حديث 4082، والحاكم (المستدرك 464 / 4) (كنز العمال 268 / 14).
(39) سورة يوسف آية 21.
(40) سورة السجدة آية 28.
/ 1