حقيقة الاعتقاد بالإمام المهدي المنتظر نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

حقيقة الاعتقاد بالإمام المهدي المنتظر - نسخه متنی

محامی احمد حسین یعقوب

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید
حقيقة الاعتقاد بالإمام المهدي المنتظر
تأليف: المحامي أحمد حسين يعقوب
سلسلة الرحلة إلى الثقلين (10)
إعداد: مركز الأبحاث العقائدية
تالموضوعات
1المقدمة
2الباب الأول: نقض عرى الإسلام وغربته والتهيئة لظهور المهدي المنتظر
3الفصل الأول: نقض عرى الإسلام وناقضوها الأسباب والنتائج
4نجاح لا مثيل له في التاريخ البشري
5بيان ما هو كائن وما سيكون
6نقض عرى الإسلام كلها والناقضون
7أخطر التحذيرات النبوية
81 ـ بطون قريش
92 ـ المنافقون
103 ـ الذين في قلوبهم مرض
114 ـ الذين في قلوبهم زيغ
125 ـ أصحاب التخشع الكاذب
13البيان اليقيني وإقامة الحجة على الجميع
14المفاجأة الكبرى
15حلقة من مخطط وخطوة على طريق
16الفصل الثاني: بطون قريش وأنصارها يستولون عمليا على مقاليد الدولة الإسلامية
17المعايير الجديدة لتعبئة الوظائف العامة
18الاستعانة بالمنافقين والفاسقين والمرتزقة
19طواقم جديدة من الولاة
20الفصل الثالث: مظاهر نقض عرى الإسلام ووسائله
211 ـ استبعاد النبي!!
222 ـ استبعاد آل محمد وأهل البيت والهاشميين ومن والاهم!!!
233 ـ غربة الإسلام والإيمان
244 ـ أئمة الضلالة وأعوانهم
25التناقض الصارخ بين الدين والواقع وبين المظاهر والحقائق
26أمثلة حية على هذا الانقلاب
27الفصل الرابع: المهمة الكبرى للمهدي المنتظر
28الباب الثاني: الاعتقاد بالمهدي المنتظر
29الفصل الأول: الاعتقاد بالمهدي المنتظر
30شيوع هذا الاعتقاد وانتشاره
31حقيقة هذا الاعتقاد
32تعدد أشكال ونماذج هذا الاعتقاد
33أشكال هذا الاعتقاد
341 ـ عند اتباع الملل الأخرى (غير السماوية)
352 ـ عند اليهود والنصارى
363 ـ عند بعض فلاسفة اليهود والنصارى في العصر الحديث
37الفصل الثاني: المهدي المنتظر في الإسلام
38الاعتقاد بالمهدي المنتظر عند المسلمين
39مصادر ومنابع الاعتقاد بالمهدي المنتظر
40الفصل الثالث: المهدي المنتظر في القرآن الكريم
41لكي نجد المهدي في القرآن
42الآن يمكننا أن نتعرف على المهدي في القرآن الكريم
43أمثلة من القرآن الكريم
44لم يتم الإظهار
45الآية دالة على ظهور المهدي المنتظر
46الفصل الرابع: المهدي المنتظر في البيان النبوي أو السنة المطهرة
47التكامل وعمق الارتباط بين القرآن الكريم والسنة النبوية
48الانقلاب والتنكر التام للرسول ولبيانه ولأهل بيته الكرام
49مرض النبي واتهامه بالهجر وإعلان النوايا بوضوح
50منع رواية وكتابة أحاديث رسول الله
51الانطلاقة الكبرى في رواية وكتابة الحديث
52أ ـ على صعيد علماء دولة الخلافة
53ب ـ رواية وكتابة الحديث عند أهل البيت وأوليائهم
54الفصل الخامس: الآن يمكننا أن نتبين موقع المهدي في السنة النبوية
55مدرستا الأمة
56إجماع المدرستين واستحالة إجماعهما على كذب
57رواة الأحاديث المتعلقة بالمهدي المنتظر
58من هم رواة الأحاديث المتعلقة بالمهدي المنتظر
591 ـ أهل بيت النبوة وآل محمد
602 ـ من بني هاشم أيضا
613 ـ الصحابة الأبرار
624 ـ خلفاء ومرشحون للخلافة
635 ـ من زوجات النبي
646 ـ طائفة من الصحابة الكرام
657 ـ مثلما روتها طائفة أخرى من الصحابة
66الفصل السادس: علماء المسلمين الأعلام الذين أخرجوا أحاديث المهدي
671 ـ علماء المسلمين الأعلام الذين تخرجوا من مدرسة أهل البيت
682 ـ علماء المسلمين الأعلام الذين تخرجوا من مدرسة دولة الخلافة
69ممن أخرج الأحاديث المتعلقة بالمهدي
70عدد الأحاديث المتعلقة بالمهدي المنتظر
71أحاديث المهدي المنتظر بموازين علماء الحديث
721 ـ صحة أحاديث المهدي المنتظر
732 ـ تواتر الأحاديث المتعلقة بالمهدي المنتظر
74الفصل السابع: التشكك بأحاديث المهدي بعد التيقن منها
75حصول اليقين فيها
762 ـ أوهام الشك بعد حصول اليقين
77الأسباب المعلنة للشك بعد اليقين والرد عليها
78جرأة ابن خلدون وتطاوله ومبلغه من العلم
79السبب الحقيقي الذي يدفع المتشككين للتشكيك بالمهدي المنتظر وبالأحاديث الواردة فيه
80الباب الثالث: البنى الشرعية الأساسية لنظرية المهدي المنتظر في الإسلام
81الفصل الأول: حتمية ظهور المهدي المنتظر
82أ ـ عند أهل بيت النبوة وأوليائهم (الشيعة)
83ب ـ عند الخلفاء التاريخيين وأوليائهم (أهل السنة)
84إجماع الأمة الإسلامية على حتمية ظهور المهدي
85نماذج من الأحاديث النبوية التي رواها علماء أهل السنة والتي تؤكد حتمية ظهور المهدي
86تحليل موجز للأحاديث التي رواها علماء أهل السنة الأعلام حول حتمية ظهور المهدي
87الفصل الثاني: المهدي المنتظر من آل محمد ومن عترته أهل بيته وبالتحديد من ولده
88الفصل الثالث: الخلط وتمييع النصوص ومحاولات صرف هذا الشرف عن أهل البيت
89محاولات صرف شرف المهدية عن أهل البيت
90الفصل الرابع: الجذور التاريخية لهذا المخطط (الخلط والتمييع ومحاولة صرف هذا الشرف عن أهل بيت النبوة)
91الفصل الخامس: المهدي المنتظر يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما
92نماذج من الأحاديث النبوية التي تؤكد بأن المهدي سيملأ الأرض عدلا وقسطا
93الفصل السادس: المهدي المنتظر سيملك العالم كله ويكون دولة عالمية
94الفصل السابع: عهد الإمام المهدي المنتظر عهد الكفاية والرخاء المطلق
95الفصل الثامن: سكان الأرض والسماء يحبون المهدي ويرضون منه
96عمى القلوب والخلل المزمن بالذوق البشري العام
97محبة الإمام المهدي موالاته
98فيض من تأكيدات الرسول
99حتمية حب العالم للمهدي وقبوله بخلافته ورضوانه عنها
100الفصل التاسع: الله تعالى يظهر بالإمام المهدي دين الإسلام على جميع الأديان
101المهدي المنتظر يظهر في آخر الزمان
102الباب الرابع: هوية المهدي الذي بشر به الرسول وعلامات ظهوره
103الفصل الأول: اسم المهدي المنتظر واسم أبيه وجده ورهطه وكنيته عند أهل بيت النبوة ومن والاهم
104اسم المهدي واسم أبيه وجده وبطنه وكنيته عند شيعة الخلفاء أهل السنة
105التمييع ومحاولة تفريغ النصوص من مضامينها
106الفصل الثاني: علماء أهل السنة يكتشفون أن المهدي المنتظر من أهل البيت ومن ذرية النبي وأن اسمه محمد!!!
107المهدي المنتظر خاتم الخلفاء أو الأئمة الشرعيين
108إجماع الأمة على عدد الأئمة أو الخلفاء
109شيعة الخلفاء أمام مشكلة كبرى
110محاولة الخروج من المأزق وإيجاد حل للمشكلة
111هل المهدي في نظر شيعة الخلفاء خليفة؟
112مكانة المهدي المنتظر ومقامه
113الفصل الثالث: آيات ومعجزات خاصة بالمهدي المنتظر
114الأهداف الكبرى والمهام العظمى
115مهمة الإمام المهدي المنتظر مختلفة اختلافا جوهريا
116آيات ومعجزات كافية لتحقيق الغايات وإنجاز المهمات
117نماذج من الآيات والمعجزات التي سيظهرها الله على يد المهدي المنتظر
118نماذج من أحاديث رواها شيعة الخلفاء أو أهل السنة عن بعض معجزات الإمام المهدي
119لماذا وصف بالمهدي؟
120الفصل الرابع: غيبة الإمام المهدي المنتظر
121أحاديث عن رسول الله
122إجماع آل محمد وأهل بيت النبوة
123نماذج من أحاديث الأئمة
124الغايات المعلنة من الغيبة
125أوصاف الإمام المهدي المنتظر
126الفصل الخامس: دولة أهل بيت النبوة ومدة حكم الإمام المهدي المنتظر
127مدة حكم المهدي المنتظر
128أحاديث رواها شيعة أهل بيت النبوة وشيعة الخلفاء معا
129والخلاصة في مدة حكم الإمام المهدي
130الفصل السادس: العلامات التي تسبق مباشرة ظهور الإمام المهدي
131الداء والدواء
1321 ـ انكساف الشمس والقمر قبل خروج المهدي
1332 ـ مناد من السماء ينادي
134أحاديث النداء
135البلاء الشامل وامتلاء الأرض بالظلم والجور
136من مظاهر البلاء والظلم
1371 ـ الفتن
1382 ـ امتلاء الأرض بالظلم والجور والعدوان
1393 ـ الحرب والطاعون
140علامات أخرى لظهور المهدي المنتظر
141الفصل السابع: علامات تتزامن مع ظهور المهدي المنتظر
142السفياني، وابن آكلة الأكباد
143حملة الرايات السود
144أحداث الحجاز وظهور الإمام المهدي
145الباب الخامس: أنصار المهدي وأعوانه ونمط حكومته
146الفصل الأول: أنصار المهدي وأعوانه
147مؤمنون من نوع خاص
148نوعيات ونماذج من أعوان المهدي وأنصاره
149من صفات أصحاب المهدي وأنصاره
150جموع المؤيدين للإمام المهدي
151الفصل الثاني: الملائكة من أعوان المهدي وأنصاره أيضا
152رسل وأنبياء وأولياء ووثائق أعوان للمهدي وأنصار له
153الواقع السائد في العالم عند ظهور الإمام المهدي
154الفصل الثالث: الإمام المهدي يفكك الواقع العالمي ويثبت فساده بنفس الأدوات التي تؤمن بها المجتمعات
155الفصل الرابع: العقيدة القتالية للمهدي المنتظر وأنصاره
156لكي نفهم هذه العقيدة
157الإمام المهدي وجها لوجه مع أئمة الضلالة أو الحكام الظالمين
158المشكلة العظمى تتمثل بأئمة الضلالة أو الحكام الظالمين
159اللغة التي يفهمها أئمة الضلالة
160جوهر مشكلة الإمام المهدي مع أئمة الضلالة في الأرض
161مواجهة المهدي لأئمة الضلالة قدر محتوم لا مفر منه
162طبيعة ومصادر العقيدة القتالية للمهدي وأعوانه
163نماذج من أساليب الإمام المهدي وأصحابه في تعاملهم مع الظالمين
164ولكن لماذا قريش بالذات؟
165تعامل الإمام المهدي مع الظالمين بعهد من رسول الله
166الفصل الخامس: معارك الإمام المهدي وحروبه
167الطريقة المثلى للوقوف على معارك الإمام المهدي وحروبه
168الرسول الأعظم يلخص معارك الإمام المهدي وحروبه
169الترتيب الزمني وتسلسل أحداث معارك الإمام المهدي وحروبه
170الفصل السادس: تسلسل أحداث ظهور الإمام المهدي ومعاركه وحروبه (السيناريو)
171ظهور نظرية الإمام المهدي المنتظر وتغيبها كفكرة
172تغييب نظرية الإمام المهدي وإخفائها
173كيف غيبت دولة الخلافة نظرية الإمام المهدي المنتظر وأحفتها؟
174نظرية الإمام المهدي تعود للظهور في عهد معاوية!!
175الظهور العام والشامل لنظرية الإمام المهدي المنتظر
176علماء دولة الخلافة يعثرون على نظرية الإمام المهدي
177الفصل السابع: ترتيب أحداث ووقائع ظهور الإمام المهدي المنتظر
178المرحلة الأولى: انتشار الاعتقاد بالإمام المهدي وإيمان المسلمين بهذا الاعتقاد
179المرحلة الثانية: إفلاس كافة العقائد الوضعية وأنماط حكمها واعتراف البشرية بعجز تلك العقائد وعدم أهليتها
180المرحلة الثالثة: بروز علامات الظهور وتواليها
181المرحلة الرابعة: وجود فئة مميزة تؤمن بالإمام المهدي وتضع نفسها تحت تصرفه عندما تبدأ علامات الظهور بالبروز واحدة بعد الأخرى، وعندما تعصف.
182الفئة المؤمنة المؤسسة تضع نفسها تحت تصرف الإمام المهدي الذي يتأهب للظهور
183المرحلة الخامسة: ظهور السفياني ومسابقته للزمن
184المرحلة السادسة: مبايعة الإمام المهدي وظهوره
185آية الخسف أوضح علامات ظهور الإمام المهدي وأدلها عليه
186المرحلة السابعة: الذهاب إلى العراق، وإنشاء قاعدة للعمليات، واتخاذ الكوفة عاصمة له
187لماذا اختار الإمام المهدي العراق قاعدة للعمليات والكوفة عاصمة له؟
188المرحلة الثامنة: قاعدة الإمام المهدي وقيادة عملياته العسكرية
189القضاء على السفياني وحركته
190سعي الإمام المهدي لتجنب المواجهة مع الغرب
191المواجهة المسلحة مع الغرب
192الملحمة العظمى بين الإمام المهدي وجنده وبين الروم والترك واليهود
193ولا تتوقف معارك الإمام المهدي حتى يملك مشارق الأرض ومغاربها
194نزول المسيح إلى الأرض
195الفصل الثامن: دولة الإمام المهدي هي دولة آل محمد، وستكون آخر الدول
196نشوء دول التاريخ السياسي الإسلامي وحرمان آل محمد من تكوين دولة خاصة بهم
197الإمام الحسن العسكري يعلل ذلك
198العلم الإلهي المسبق لحركة الأحداث والوعد الإلهي القاطع بإقامة دولة آل محمد
199الله يطلع رسوله على كل ما يجري والرسول يعلن ذلك ويكشف أهل الفتن
200كشف حقيقة ما يجري
201الجهد النبوي المكثف
202نتائج الجهد النبوي
203الوعد الإلهي بدولة آل محمد
204المعالم الأساسية لدولة آل محمد
2051 ـ مقومات الدولة
2062 ـ شعب دولة آل محمد
2073 ـ السلطة
208القانون النافذ في دولة آل محمد
2094 ـ الدين الرسمي لدولة الإمام المهدي أو دولة آل محمد
2105 ـ طبيعة دولة الإمام المهدي أو دولة آل محمد دولة دينية ولكن
2116 ـ الإصرار على تحقيق غاية دولة آل محمد
2127 ـ حالة الانسجام العام في دولة الإمام المهدي أو دولة آل محمد
213موت الإمام المهدي وغياب القمر المنير
214من الذي يرث هذا الملك العريض الذي بناه الإمام المهدي؟
******************
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسول الله وخاتم النبيين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، الذين اصطفاهم وميزهم على علم من عباده المسلمين أما بعد:
فبعد أن طبعت كتابي الحادي عشر (الهاشميون في الشريعة والتاريخ) صممت على الشروع بتأليف كتاب خاص عن (القضاء والافتاء عند أهل بيت النبوة) وجمعت وهيأت المصادر والمراجع المتعلقة بهذا الموضوع ورتبتها على طاولتي، ولم يبق علي سوى المباشرة فعلا بالكتابة، بعد ذلك اجتمعت مع أخ كريم، وصديق بارز، فسألني عن مشاريعي الجديدة بعد طباعة كتابي الأخير، فأخبرته بما عزمت عليه، فقال أبو علي: لقد أثبت بالدليل القاطع في كتابيك (المواجهة) و(الهاشميون في الشريعة والتاريخ) أن عدد الأئمة الشرعيين من بعد النبي اثنا عشر إماما، فما رأيكم لو كان كتابك الثاني عشر عن الإمام الثاني عشر من أئمة أهل بيت النبوة وهو الإمام المهدي المنتظر؟ ثم إنك قد غطيت بالبحث والدراسة الفكر السياسي لأهل بيت النبوة خاصة، والنظام السياسي الإسلامي عامة من خلال مؤلفاتك فلماذا تترك هذه الثغرة، لأن نظرية الإمام المهدي المنتظر مقطع بارز بالفكر والنظام السياسي الإسلامي، وأن الإمام المهدي هو المؤسس الفعلي لدولة آل محمد التي ستكون آخر الدول، وبالتالي فلا يمكنك تجاهل هذه الحقائق، أو القفز عنها، والاهم أن تناول الإمام المهدي بالبحث والدراسة يشكل إغلاقا مناسبا لدائرة بحوثك عن الفكر السياسي العالمي عامة، ولفكر أهل بيت النبوة خاصة، وبعد ذلك فلا تثريب عليك لو طرقت أي موضوع شئت. فاقتنعت.
بصواب الاقتراح، وتفاءلت خيرا، ولكني أوجست في نفسي خيفة وتهيبت كثيرا، لأن: كافة المعلومات المتعلقة بالإمام المهدي من أنباء الغيب التي لم تقع بعد، ولا مجال فيها للاجتهاد ولا للتحليل، بل آلت إلى الأمة من الأحاديث النبوية الشريفة، ثم إن الحديث النبوي نفسه قد تعرض لمحنة قاسية حيث منعت دولة الخلافة التاريخية كتابة ورواية الأحاديث النبوية منعا باتا قرابة مائة عام تحت شعار (حسبنا كتاب الله) وزاد المشكلة تعقيدا أن دولة الخلافة قد عزلت أئمة أهل بيت النبوة، وهم ورثة علمي النبوة والكتاب، وفرضت عليهم نوعا من الإقامة الجبرية، وهكذا حوصرت أنباء الغيب محاصرة تامة، وبعد المائة عام حدث الانفراج عن مصادر تلك الأنباء، وبدأ المسلمون يروون ويكتبون الأحاديث النبوية علنا!! هذه الظروف تجعل الوصول إلى الحقائق الشرعية الصادرة بالفعل عن رسول الله أمرا ليس سهلا.
ويكمن الخوف والتهيب في منهجية عرض وتقديم نظرية الإمام المهدي المنتظر، فالعشرات من العلماء الأجلاء قد بحثوا هذه النظرية، وعرضوها بأشكال متشابهة، وما ينبغي أن يكتب يجب أن يكون مختلفا تماما.
ثم إن شعور النخبة المستنيرة من المسلمين ولا شعور الخاصة والعامة من أبناء الجنس البشري قد انفض تماما من حول العقائد والأنظمة الوضعية، ويئس من قدرتها على إنقاذ البشرية، وقد حمت عندهم وتواترت بينهم، واقتنعوا بأن العالم الإنساني لن ينقذه، ولن يخلصه من مستنقعات واقعه إلا المهدي المنتظر!!
فعشقوه عشقا، وعشقوا حكومته العالمية التي سيخضع لسلطانها كافة سكان الكرة الأرضية، والملتزمة بتطهير الأرض من الظلمة، ونشر العدالة المطلقة في أرجائها، وتحقيق الكفاية التامة والرخاء المطلق لكل بني البشر، وإتمام المصالحة التامة بينهم بعد أن تقتلع جذور الخلاف والاختلاف فيسود الانسجام التام، هؤلاء بحاجة إلى دعم معنوي من الباحث، وتنسيق خاص لأنباء الغيب المتعلق بمثل هذه الأمور، والاهم كيف يرتقي الواقع العالمي إلى مستوى فهم الإمام المهدي وأهدافه وغاياته المعلنة؟ وبتعبير أدق كيف تتسلسل الحادثات وحلقات الوقائع تسلسلا منطقيا بحيث تؤدي أو تفضي مباشرة إلى دولة آل محمد، أو إلى عهد الإمام.
المهدي المنتظر؟ وكيف نخلص هذا الكم من الآمال من بين مخالب واقع عالمي يبعث على اليأس والقنوط؟ كل هذا يحتاج إلى قدرة هائلة على الاستقراء والاستنباط والمقارنة وتحليل الثوابت من النصوص تحليلا يبقيك دائما ضمن دائرتها.
واجتزت حواجز التهيب والخوف، وصممت على الكتابة، وجمعت مجموعة كبيرة من المراجع أهمها وأعظمها على الإطلاق (معجم أحاديث الإمام المهدي) الذي ألفته الهيئة العلمية في مؤسسة المعارف الإسلامية تحت إشراف سماحة الأخ والصديق الشيخ علي الكوراني، وهو يقع على خمسة مجلدات اشتملت على كافة الأحاديث النبوية وأحاديث أئمة أهل بيت النبوة، وشرعت بالكتابة، ولم أجد بحمد الله ومنته عسرا، ولا حرجا، لأن مولانا الإمام المهدي يسر وفرج.
وبعد أن أتممت الكتاب أيقنت أن قوانيننا، ومناهجنا وأساليبنا بالتغيير، تعكس حجم قدراتنا وقوانا المحدودة، وأن لله نواميس وأساليب بالتغيير تعكس حجم قدرته التي استطال بها على كل شيء، لا إله إلا هو شديد المحال، الكبير المتعال.
وقد اشتمل فهرس الموضوعات على الأبواب والفصول ويمكنني القول وبغير ادعاء أن الكتاب مختلف تماما عن الكتب التي سبقته والتي عالجت نفس الموضوع، لقد قدمت نظرية الإمام المهدي المنتظر، بروح العصر ولغته بعد أن أصلتها وجذرتها دينيا وتاريخيا.
اللهم اجعل عملي خالصا لوجهك الكريم، وتقبل منا إنك أنت السميع العليم وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين.
المحامي أحمد حسين يعقوب
الباب الأول
نقض عرى الإسلام وغربته والتهيئة لظهور المهدي المنتظر
الفصل الأول
نقض عرى الإسلام وناقضوها الأسباب والنتائج
نجاح لا مثيل له في التاريخ البشري:
لقد نجح محمد رسول الله نجاحا لا نظير له في تاريخ البشرية كلها، فقد نقل العرب من دين إلى دين، وكون لهم دولة شملت كل بلادهم، ووحدهم وحدة حقيقية لأول مرة في التاريخ كله بمدة لا تتجاوز 23 سنة وبكلفة بشرية لم تتجاوز 389 قتيلا من طرفي الصراع، ووضع تحت تصرفهم نظاما سياسيا لو أخذوا به لدخل العالم كله في طاعتهم من غير إكراه، ولتغير مجرى التاريخ العالمي تماما، ولما اختلف اثنان قط.
وبكل الحياد والتجرد والموضوعية، فإن نجاح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هذا نجاح لا يضاهيه نجاح في الدنيا قط، خاصة وأنه والهاشميون من خلفه قد شقوا طريقهم بموضوعية وبحدود قدرة العقل البشري على الاستيعاب، وتخطوا قبل النجاح عوائق عظمي لا طاقة لقدرة في الأرض على مواجهتها وتخطيها. واكتمل كل شيء. بلغ الرسالة على خير ما تبلغ الرسالات، وأدى الأمانة على خير ما تؤدى الأمانات، وانتهت مرحلة الإبداع والتأسيس، وخير النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين النبوة والملك والبقاء، وبين ما عند الله، فاختار ما عند الله، وأعلن للأمة أنه سيمرض بعد عودته من حجة الوداع وسيموت في مرضه، وحذرها من فتن وعواصف ومحن تتربص بها، وتنتظر موته بفارغ الصبر لتنقض كالصاعقة. فتلغي عمليا كافة الترتيبات.
الإلهية لعصر ما بعد النبوة وتضع ترتيبات بديلة تؤدي لتفريغ الإسلام من مضامينه ومحتواه مع الإبقاء على القشرة أو الاسم ليكون الغطاء الشرعي للملك وضرورات توسعه وتوسيعه.
بيان ما هو كائن وما سيكون:
رحمة من النبي بالأمة، ورغبة منه بتبصيرها معالم الطريق، وإقامة للحجة بين الرسول للأمة كل ما كان في الأمم السابقة، وما كان أثناء مرحلة بناء الدعوة والدولة، وماذا سيكون بعد موته، وأن ما سيكون يمكن تجنبه تماما إذا التزمت الأمة بتوجيهات نبيها، لأن النبي لا ينطق عن الهوى، بل يتبع ما يوحى إليه ويتكلم بالعلم الإلهي اليقيني، وبيان ما كان وما سيكون هو جزء من رسالته، وهو فيض الرحمتين الإلهية والنبوية، وأكد لهم النبي أن الفتن ستزحف عليهم بعد موته وهي مشتبهة كوجوه البقر لا تدرون أيا من أي. قال حذيفة: قلت: (يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاء الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم!
قال حذيفة: ما هو؟ قال النبي: فتن كقطع الليل المظلم، يتبع بعضها بعضا، تأتيكم مشتبهة). (راجع صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق، باب علامات النبوة، ورواه أحمد. راجع الفتح الرباني ج 23، ص 38)، وروى مسلم في صحيحه كتاب الفتن ج 16 ص 18 وأحمد في الفتح الرباني ج 1 ص ـ 274) عن أبي زيد أنه قال: (صلى بنا رسول الله الفجر وصعد المنبر، فخطبنا حتى حضرت الظهر، فنزل فصلى ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس، فأخبرنا بما كان، وبما هو كائن فأعلمنا أحفظنا). قال أسامة: أشرف النبي على أطم من آطام المدينة، ثم قال: هل ترون ما أرى؟ إني لأرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر). (رواه البخاري في كتاب الحج من صحيحه ج 1 ص 322، ورواه مسلم في صحيحه ج 7 ص 8).
نقض عرى الإسلام كلها والناقضون:
لقد حذر رسول الله المؤمنين بأنهم إن لم يتبعوا ما أمرهم به فإن عرى الإسلام كلها ستنقض عروة بعد عروة، فطالما أعلن أمام أصحابه قائلا: (لينقض الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضا الحكم، وآخرهن الصلاة). (رواه أحمد وابن حبان والحاكم، راجع كنز العمال ج 1 ص 238). وعملية نقض العرى لن تتم من تلقاء نفسها بل سيتولاها وينفذها فريق من المسلمين المحسوبين على الأمة، لذلك كشف رسول الله حقيقة هذا الفريق ليحذر الناس من شرورهم قبل وقوعها. قال حذيفة: (والله ما أدري أنسي أصحابي أم تناسوا، والله ما ترك رسول الله من قائد فتنة إلى أن تنقضي الدنيا بلغ من معه ثلاثمائة فأكثر، إلا قد سماه لنا باسمه واسم أبيه واسم قبيلته). (رواه أبو داود في عون المعبود حديث 4243 و 4222)، ووضع رسول الله النقاط على الحروف، قال حذيفة: قال رسول الله: (إن في أصحابي اثني عشر منافقا منهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط، (رواه الإمام أحمد والإمام مسلم، راجع كنز العمال ج 1 ص 169 ومعالم الفتن ج 1 ص 67)، وقال حذيفة: أشهد أن الاثني عشر حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد (راجع صحيح مسلم ج 17 ص 125)، وروي عن عمار بن ياسر مثل ذلك. (رواه الإمام أحمد، راجع الفتح الرباني ج 21 ص 202.) إن اثني عشر مجموعة تخريبية كذبت بآيات الله واستكبرت عنها كما يستفاد ذلك من الآية 40 من سورة الأعراف. واقترب الرسول من نقطة الخطر فأعلن أمام أصحابه قائلا:
(إن هلاك أمتي على يد غلمة من قريش). (رواه البخاري في صحيحه كتاب بدء الخلق، باب علامات النبوة من صحيحه ج 2 ص 280) ثم قال: (يهلك أمتي هذا الحي من قريش) (رواه البخاري أيضا في كتاب بدء الخلق، باب علامات النبوة من صحيحه ج 2، ص 280 ومسلم في صحيحه كتاب الفتن ج 18 ص 41)، وعن ابن عباس أنه قال: قال رسول: (ولتحملنكم قريش على سنة فارس والروم ولتؤمنن عليكم اليهود والنصارى والمجوس). (رواه الطبراني، راجع مجمع الزوائد ج 7 ص 236)، وقال الرسول مرة لأصحابه: (إن هذا الحي من مضر لا تدع لله في الأرض عبدا صالحا إلا فتنته وأهلكته). (رواه الإمام أحمد، وقال الهيثمي: رواه أحمد والبزار ورجاله رجال الصحيح الفتح الرباني ج 23 ص 240)..
وعندما ذكر رسول الله الغلمة من قريش، والحي من قريش طالب الناس باعتزالهم قائلا: (لو أن الناس اعتزلوهم). (راجع صحيح البخاري ج 2 ص 280 وصحيح مسلم ج 18 ص 41 والفتح الرباني ج 23 ص 39 ومعالم الفتن ج 1 ص 303). ثم وقف النبي طويلا عند بني أمية، وحذر الأمة منهم، فبين أن أكثر بطون قريش بغضا لمحمد ولآل محمد هم بنو أمية، وبنو مخزوم... (راجع المستدرك على الصحيحين للحاكم وحلية الأولياء لأبي نعيم، وكنز العمال ج 11 ص 169 حديث 31074)، وتحدث عن الشجرة الملعونة وعن رؤى نزو الأمويين على منبره نزو القردة، وتيقن المسلمون من استياء النبي البالغ من تلك الرؤيا، (رواه الحاكم في المستدرك ج 3 ص 171، وأقره الذهبي وقال ابن كثير في البداية والنهاية ج 6 ص 243، ورواه الترمذي وابن جرير والحاكم والبيهقي) وتحدث النبي عن أصحاب الخطر من بني أمية، وركز عليهم واحدا واحدا، وحذر الأمة منهم. ثم وقف النبي وقفة طويلة وخاصة عند الحكم بن العاص والد وجد الخلفاء الأمويين، فقال أمام أصحابه: (ويل لأمتي مما في صلب هذا) (رواه ابن عساكر راجع الكنز ج 11 ص 167)، وقال أيضا: (ويل لأمتي من هذا وولد هذا)، (الكنز ج 11 ص 167 والإصابة لابن حجر ج 2 ص 29)، وقال النبي لأصحابه عن الحكم: (إن هذا سيخالف كتاب الله وسنة نبيه، وسيخرج من صلبه فتن يبلغ دخانها السماء، وبعضكم يومئذ شيعته، (رواه الدارقطني الكنز ج 11 ص 166 وابن عساكر ج 11 ص 360 والطبراني ج 11 ص 667).
وبعد أن كشف الرسول حقيقة هذا الخطر لعنه رسول الله، ولعن ولده. (قال عبد الرحمن بن أبي بكر لمروان بن الحكم: (إن رسول الله لعن أباك) (رواه البزار ومجمع الزوائد ج 5 ص 21)، وقال الحسن بن علي لمروان: لقد لعنك الله على لسان رسوله، وأنت في صلب أبيك (رواه أبو يعلى مجمع الزوائد ج 5 ص 240، وابن سعد وابن عساكر ج 11 ص 357 وابن كثير في البداية ج 8 ص 280).
وحتى يكون الأمر معلوما للجميع، والخطر واضحا أمام الجميع أمر رسول الله.
بنفي الحكم بن العاص، فنفاه الرسول من المدينة وأعلن أن الحكم بن العاص عدو لله ولرسوله، وبقي الحكم منفيا طوال عهد النبي المبارك، وبعد وفاة النبي راجع عثمان أبا بكر لإعادة الحكم فرفض ذلك أبو بكر، وبعد وفاة أبي بكر راجع عثمان عمر فرفض عمر ذلك، ولما آلت الخلافة لعثمان أدخله معززا مكرما، واتخذ ابنه مروان رئيسا لوزرائه، ولما مات الحكم أقام عثمان على قبره فسطاطا تعبيرا عن حزنه وعميق مصابه بموت الحكم (راجع الإصابة ج 2 ص 29).
استمع المسلمون إلى كافة تحذيرات الرسول مما سيكون!! وتعجبوا كيف يكون ذلك!! وهل يعقل أن تنقض عرى الإسلام كلها!! فأراد الرسول أن يحذر أصحابه أنفسهم، وأن يضعهم أما مسؤولياتهم فذكرهم أنه سينتظرهم على الحوض وفاجأهم قائلا: (... وليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم. (راجع صحيح بخاري ج 4 ص 141 كتاب الدعوات وصحيح مسلم ج 5 ص 153 كتاب الفضائل والفتح الرباني ج 1 ص 192)، وفي رواية عن عبد الله: (فأقول يا رب أصحابي!! فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك). (صحيح البخاري كتاب الدعوات ج 1 ص 141 وصحيح مسلم كتاب الفضائل ج 15 ص 159، ورواه أحمد والبيهقي، راجع كنز العمال ج 14 ص 418)، وفي رواية عن أبي هريرة: (فيقال إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى). (راجع صحيح البخاري ج 4 ص 142 باب الصراط)، وفي رواية عن ابن عباس: (فيقال إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم). (راجع صحيح البخاري تفسير سورة الأنبياء ج 3 ص 160، وصحيح مسلم ج 17 ص 194)، ونادى مناد فقال هلم، قلت: أين؟ قال: إلى النار والله! قلت: ما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى، فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم) (راجع صحيح البخاري ج 4 ص 142 كتاب الدعوات باب الصراط). هذه التحذيرات التي أطلقها الرسول بمواجهة أصحابه كانت إغلاقا للدائرة فقد بين كل شيء على الإطلاق، فمن وعى بيانه تيقن أن الوقائع التي جرت بعد وفاته، ما كانت إلا ترجمة حرفية، لكل ما حذر منه، وباختصار شديد قال رسول الله: (وأيم الله لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء). (رواه ابن ماجة راجع الكنز ج 11 ص 370).
أخطر التحذيرات النبوية:
لغايات إكمال الحلقة، وحتى لا يضل الناس بعد هدى، وتبيانا يقينيا لما سيكون قال النبي لأصحابه ومنهم أصحاب الخطر: (أكثر ما أتخوف على أمتي من بعدي رجل يتأول القرآن، يضعه على غير مواضعه، ورجل يرى أنه أحق بهذا الأمر من غيره)، (رواه الطبراني في الأوسط، راجع معالم الفتن ج 1 ص 91)، لأن الله تعالى قد خصص فئة معينة لفهم القرآن فهما يقينيا، وهم أهل البيت والمتأول يقف بما ليس له به علم، ويتولى مهمة مخصصة لغيره، ولأن هذا المتأول محكوم بهواه فسيضطر، لترك النصوص الشرعية التي لا تتفق حتما مع هواه، واتباع آرائه الشخصية، مما يعني إهمال مضامين النصوص الشرعية وإحلال التحليلات والآراء الشخصية محلها تحت شعار أن هذا المتأول مشفق وناصح لله ولرسوله، وأنه يرى ما لا يرون!!! وبين الرسول أن القرآن سيقرأه في زمن الأزمان ثلاثة (مؤمن ومنافق وفاجر). (رواه الحاكم وأقره الذهبي في ذيل المستدرك ج 4 ص 507)، ولكن لا يمسه ولا يفهم المقصود الشرعي منه إلا المطهرون، وليقنع الرسول أصحابه، بأن ما يقوله يقينا ومن عند الله، فقد ذكر أصحابه قائلا: (لم يزل أمر بني إسرائيل معتدلا حتى نشأ فيهم المولودون وأبناء سبايا الأمم التي كانت بنو إسرائيل تسبيها، فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا). (رواه الطبراني في الكبير، راجع كنز العمال ج 11 ص 181).
أما الشق الآخر من الخطر المحدق الذي حذر منه رسول الله فهو رجل يرى أنه أحق بهذا الأمر من غيره!! لقد أعلن رسول الله بأمر من ربه حديث الثقلين، وبين بأمر من ربه بأنه قد ترك هذين الثقلين، خليفتين من بعده، وبين أيضا بأن القرآن لا يمسه إلا المطهرون، والمطهرون الذين أذهب الله عنهم الرجس هم أهل البيت أحد الثقلين، بمعنى أن النقاط موضوعة على الحروف وأن كل شيء مرتب ترتيبا إلهيا محكما، وأخطر ما حذر الرسول من الوقوع فيه بعد موته هو ادعاء عمرو أو زيد من الناس أنه أحق بالأمر أي (بقيادة الأمة) ومس القرآن من أهل بيت النبوة وأن (مصلحة المسلمين) تقتضي تقديم المفضول على الأفضل، وهكذا وبجرة قلم ينقضوا أعظم عروة من عرى الإسلام، وهي نظام الحكم ويلغوا كافة الترتيبات الإلهية المتعلقة بها، وكافة النصوص الشرعية التي تعالجها مستندين إلى الرأي الشخصي والتأويلات الخاطئة، وهكذا يضلون ويضلون الأمة، ويدخلوها...
والعالم معهم في ليل طويل، لا آخر له. وقد حذرهم الرسول إن فعلوا ذلك قائلا:
(إنه سيلي أمركم بعدي رجال يطفئون السنة، ويحدثون البدعة، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها. وعندما سأله ابن مسعود: كيف بي إذا أدركتهم؟ أجابه النبي قائلا:
(يا بن أم عبد، لا طاعة لمن عصى الله)، قالها ثلاث مرات. (رواه أحمد، الفتح الرباني ج 29 ص 23 وقال: حديث صحيح).
الله ورسوله يكشفان العقول والجموع التي ستنقض عرى الإسلام إن نقض عرى الإسلام لم يتم آليا أو بصورة عفوية إنما كان وراء عملية النقض، تخطيط محكم، وعقول كبيرة كانت تعرف ما تريد وتسعى، بلا كلل ولا ملل، لتحقيق ما تريد، وتقف وراءها جموع إلهها هواها، ولا هم لها إلا هدم دين الإسلام وتفريغه نهائيا من مضامينه، والابقاء على قشوره ليستقيم لها الملك الذي جاءت به النبوة. وقد أشرنا إلى قيادات النقض، بالقدر الذي تحتمله عقول العامة، ونشير الآن إلى الجموع التي وقفت خلف تلك القيادات التي تولت كبر عملية نقض عرى الإسلام وهذه الجموع هي:
1 ـ بطون قريش:
منذ اليوم الأول الذي أعلن فيه الرسول أنباء النبوة والكتاب، وطوال مدة ال‍ 15 سنة التي سبقت الهجرة النبوية، وبطون قريش ال‍ 23 تقف وقفة رجل واحد ضد محمد، وضد بني هاشم، وقد استعملت بطون قريش كافة سهام كيدها، وفنون مكرها، وتآمرت على قتل النبي مرات متعددة، لأنها ببساطة تحسد الهاشميين، وتكره ما أنزل الله، ولا تريد أن يكون النبي من بني هاشم، ولما هاجر النبي جيشت بطون قريش الجيوش، واستعدت العرب على.
النبي وحاربته حربا لا هوادة فيها، وبعد حروب طاحنة، ولما هزمها النبي اضطرت مكرهة أن تدخل، أو أن تتظاهر بالدخول في الإسلام، وبنفس الوقت أخفت تركة صراع طويل، وحسدا متمكنا من النفوس، وحقدا دفينا ألقى أجرانه في القلوب. ولما رأت بطون قريش أن النبوة قد أسفرت عن ملك رأت من مصلحتها أن تعترف بهذه النبوة طمعا بالانقضاض على الملك ذات يوم، وعندما تيقنت البطون، بأن الرسول قد رتب مرحلة ما بعد النبوة، وأنه قد عين خليفتين من بعده (كتاب الله وعترة النبي أهل بيته)، صممت بطون قريش أن تستولي على الملك من بعد النبي، وأن تحارب الإسلام بأسلحته فروجت، بإن الإسلام قد جاء بالعدل والمساواة والانصاف، وليس من العدل ولا من الإنصاف أن ينال الهاشميون الملك والنبوة معا، وأن تحرم بطون قريش من هذين الشرفين معا، والأفضل أن يختص الهاشميون بالنبوة، وأن تختص بطون قريش بالملك تتداوله فيما بينها، لذلك صممت بطون قريش على فرض هذه القسمة بالقوة الغاشمة بعد وفاة النبي، وهكذا نقضت بطون قريش عمليا العروة الأولى من عرى الإسلام، وهي الحكم. واتحدت ضد آل محمد بعد وفاة النبي تماما، كما اتحدت ضد النبي، وحاربت آل محمد بكل وسائل الحرب وفنونه، تماما كما حاربت النبي من قبل، واستعدت عليهم العرب، تماما كما استعدت العرب على النبي من قبل!!
وكانت بطون قريش على استعداد أن تمد يدها للشيطان إن ساعدها على تحقيق ذلك كله. وقد وثقنا ذلك في كتابنا (المواجهة) وسقت 394 دليلا على ذلك من عيون المراجع المعتمدة عند أهل السنة، فليرجع إليه من يشاء.
2 ـ المنافقون:
وهم العمود الفقري للجموع التي دعمت نقض عرى الإسلام، وكانت لهم قواعد في المدينة، وما حولها وفي مكة وما حولها، وقد حمل عليهم القرآن حملات متكررة، حتى كشفهم وعراهم على حقيقتهم، ووضع الله ورسوله معيارا لمعرفة المؤمن من المنافق، فمن والى عليا بن أبي طالب وأحبه، فهو مؤمن، ومن عاداه وأبغضه فهو منافق. (راجع على سبيل المثال صحيح الترمذي ج 2 ص 299 ومسند أحمد بن حنبل ج 6 ص 292 وصحيح النسائي ص 27 وصحيح ابن ماجة ص 2)..
وكتابنا (الهاشميون في الشريعة والتاريخ) ص 225 يشتمل على عشرات المراجع والمثير للدهشة أنه لم يرو راو قط أن أحدا من المنافقين على الإطلاق قد عارض أي خليفة، أو امتنع عن بيعة أي خليفة، أو تلكأ عن نصرة أي خليفة من الخلفاء الذين حكموا الأمة عبر التاريخ، والوحيد الذي عارضه المنافقون وامتنعوا عن بيعته هو علي بن أبي طالب، وهكذا فعلوا مع ابنه السبط الإمام الحسن!! أتحدى أي عالم على وجه الأرض أن ينقض هذه الحقيقة!! بل الأعظم من ذلك أنه بعد موت النبي اختفت المخاوف من ظاهرة النفاق، واندمج المنافقون في المجتمع اندماجا تاما!! ووقفوا بكل قواهم مع دولة الخلافة، ومارسوا حياتهم بحرية، وأصبح الولاء للدولة هو المعيار لتمييز الحق من الباطل، فمن يوالي دولة الخلافة فهو على الحق، أو مستور الحال بغض النظر عن إيمانه أو نفاقه! ومن يعارضها فهو على الباطل، وشاق لعصا الطاعة، ومفرق للجماعة، ودمه حلال للخليفة!!
3 ـ الذين في قلوبهم مرض:
وهم غير الفئة المنافقة، ويمكن أن نسميهم بأصحاب المصالح، أو ضعاف الإيمان، وقد وصفهم القرآن الكريم وصفا دقيقا، وقد ساهمت هذه الفئة في نقض عرى الإسلام.
4 ـ الذين في قلوبهم زيغ:
وهم فئة رابعة متميزة عن غيرها من الفئات، وهؤلاء يفرون من الوضوح إلى الغموض، ومن الحق إلى الباطل، وهم التاركون للنص الآخذون بالرأي حرصا على مصلحة الإسلام والمسلمين!!!
5 ـ أصحاب التخشع الكاذب:
فئة يتظاهر أفرادها بالورع، والتقى والدين، وهم كاذبون ولهم القدرة على خداع كل الناس، وأبرز مثال على هذه الفئة ابن ذي الثدية، فقد خدع أبا بكر، وخدع عمر رضي الله عنهما، وتصورا أنه خاشع تقي فكلف رسول الله أبا بكر ليقتله فلم يفعل تقديرا لخشوعه، ثم كلف الرسول عمر بقتله فلم يفعل، لأنه قد اغتر بخشوعه، فأمر الرسول عليا بقتله فلم يجده، وأخبر الرسول. أن هذا المتخشع الكاذب مارق، وأن عليا سيقتله ذات يوم وقتله علي بالنهروان بالفعل، (راجع البداية والنهاية لابن كثير ج 7 ص 299، ومجمع الزوائد ج 6 ص 227). وقد ساهمت هذه الفئة بنقض عرى الإسلام، وقد كشف.
الله ورسوله حقيقة هذه الفئة، كما كشف حقيقة غيرها من الفئات التي ستقود، وتتبنى عمليا عملية نقض عرى الإسلام.
البيان اليقيني وإقامة الحجة على الجميع:
من خلال الترابط والتكامل بين القرآن وبيان النبي لهذا القرآن، وبمتابعة من الوحي الإلهي الذي لم يتوقف، بين الترتيبات الإلهية لمرحلة ما بعد موت النبي، وأثبت بالدليل القاطع، بأن هذه الترتيبات محكمة، وأنها صنع الله، وهي الهدى بعينه، وهي الصراط المستقيم نفسه.
ونجح النبي نجاحا منقطع النظير في وصف الطريق التي سيسلكها المسلمون بعد وفاته، وكشف مخاطرها ومنعطفاتها، وتحديد الأعداء تحديدا دقيقا، وبيان طريق النجاة من كل خطر، والمنهج الفرد لهزيمة الشيطان وأوليائه. وهكذا وضع الله ورسوله تحت تصرف طلاب الهدى التصور اليقيني، لما هو كائن ولما ينبغي أن يكون، فقامت الحجة على الجميع، فمن يترك الطريق القويم لا يتركها بشبهة، أو بعذر لأنه لا شبهة مع اليقين، إنما يتركها منحرفا متعمدا مع سبق الإصرار.
المفاجأة الكبرى:
بعد أن وضع النبي تحت تصرف المسلمين التصور اليقيني لما هو كائن، ولما ينبغي أن يكون، وبعد أن رسم لهم مخططا للطريق التي سيسلكونها بعد وفاته، مرض كما أخبرهم من قبل، وأعلن أنه سيموت في مرضه، وأنه سيلخص لهم الموقف خطيا، فيؤمنهم ضد الضلالة والانحراف تأمينا شاملا، وضرب موعدا لكتابة توجيهاته النهائية للأمة، ودعا لهذا الموعد الخلص من أصحابه، ليأمنهم على عهده، وليشهدوا كتابة توجيهاته النهائية، وما أن جلس النبي مع خلص أصحابه، وفي الوقت الذي هم بكتابة توجيهاته النهائية فوجئ النبي والخلص من أصحابه بجمع كبير من بطون قريش يدخل حجرة النبي دون استئذان، ويجلسون دون دعوة متجاهلين بالكامل وجود النبي، ولم يثن هذا التصرف النبي عما أراد، فقال النبي لخلص أصحابه: (قربوا أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا)، فتجاهل.
جمع بطون قريش وجود النبي، وتجاهلوا ما قاله، ووجهوا كلامهم للخلص من أصحابه قائلين: إن النبي قد غلبه الوجع، حسبنا كتاب الله) أن النبي يهجر حسبنا كتاب الله استفهموه! إنه يهجر!!! القرآن وحده يكفينا ولا حاجة لوصية الرسول!!!
احتج الخلص من أصحاب النبي على هذا التصرف المستغرب، واصطدموا مع جمع البطون، وعلت الأصوات بين أصحاب النبي الخلص القلة، وبين الكثرة من بطون قريش، وتنازعوا، فأطلت النسوة من وراء الستر، وقلن: ألا تسمعون رسول الله يقول: قربوا يكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده؟ فنهرهن أحد الصحابة قائلا لهن: (إنكن صويحبات يوسف) هنا تكلم النبي فقال: (إنهن خير منكم) ما أنا فيه خير مما تدعونني إليه، قوموا فلا ينبغي عندي تنازع!! وهكذا صرف النبي النظر عن كتابة توجيهاته الخطية، إذ لو أصر النبي على الكتابة لأصرت بطون قريش في ما بعد على أن الكتابة قد صدرت عن النبي وهو يهجر حاشاه، مع ما يستتبع ذلك من خطر ماحق على الدين نفسه، وهكذا نجحت بطون قريش ومن لف لفها بإخراج النبي من التأثير على سير الأحداث بلحظات حاسمة، وحرمت الأمة والعالم من الاستفادة من توجيهات النبي النهائية الخطية. وما ذكرناه حقائق رواها البخاري في صحيحه في ست روايات، ورواها مسلم في صحيحه، والنووي في شرحه على صحيح مسلم وابن القيم الجوزي في تذكرة الخواص، وأبو حامد الغزالي في سر العالمين، وكشف ما في الدارين، ولا خلاف إطلاقا بين المسلمين على صحة وحقيقة هذه الوقائع، وهكذا صدمت بطون قريش خاطر النبي الشريف، وقصموا ظهر الإسلام بالفعل. وتلك حادثة فريدة من نوعها في التاريخ السياسي الإسلامي، فما من خليفة على الإطلاق إلا وقد مرض قبل موته، واشتد به الوجع أكثر مما اشتد الوجع برسول الله. وما من خليفة على الإطلاق إلا وقد كتب توجيهاته النهائية أثناء مرضه، وقبل موته، ولم يصدف على الإطلاق أن قال أحد لأي خليفة من الخلفاء أنت تهجر، أو أن الوجع قد اشتد بك، وأنه لا حاجة لنا بوصيتك، ولا بتوجيهاتك لأن القرآن عندنا وهو يكفينا ويغنينا عنك!!. بل على العكس فقد كانت وصايا الخلفاء وهم على هذه الحالة تنفذ كأنها وحي إلهي.
تنزلت به الملائكة علنا، وعلى رؤوس الأشهاد!! وبعض الخلفاء وهو مشرف على الموت أوحى بقتل كل من لا يلتزم حرفيا بتوجيهاته النهائية التي أصدرها، وهو مريض على فراش الموت، ومع هذا نفذت تلك التوجيهات بدقة متناهية.
حلقة من مخطط وخطوة على طريق:
لم تكن مواجهة بطون قريش للنبي في الحجرة المقدسة وقولهم له (أنت تهجر، والقرآن يغنينا عنك، ولا حاجة لنا بوصيتك) وليدة لحظتها إنما كانت الحلقة قبل الأخيرة من مخطط أعد له بدقة، ونفذ خطوة بعد خطوة. كانت بطون قريش ومن لف لفها تريد أن تبقي من الدين والنبوة فقط، ما هو ضروري لبقاء الملك الذي تمخضت عنه النبوة وما لا يتعارض مع هذا الملك، وتريد في النهاية الاستيلاء على هذا الملك بالقوة والقهر والتغلب، وأن تنسف كافة تعاليم الدين وترتيباته التي تتعارض مع أهدافها تلك. لقد أدركت هذه الجبهة خطورة البيان النبوي، وقدرة النبي على إيصال ما يريد إلى قلوب سامعيه، وأدركت إحكام الترتيبات الإلهية لذلك، وأثناء حياة النبي وصحته كانت بطون قريش تشكك بكل ما قاله النبي، وتصد عن كتابة أحاديث النبي. قال عبد الله بن عمرو بن العاص:
(كنت أكتب كل شيء سمعته من رسول الله... فنهتني قريش وقالت: الرسول بشر يتكلم في الغضب والرضى... (راجع سنن أبي داود ج 2 ص 126، وسنن الدارمي ج 1 ص 125 ومسند أحمد بن حنبل ج 2 ص 162 و 207 و 216 والمستدرك للحاكم ج 1 ص 105 و 106 وجامع بيان العلم لابن عبد البر)، وكانت بطون قريش تشيع بأن الرسول يفقد السيطرة على أعصابه، فيسب ويشتم ويلعن من لا يستحق ذلك، (راجع صحيح البخاري، كتاب الدعوات باب قول النبي (من آذيته)، وصحيح مسلم، كتاب البر والصلة، باب من لعنه النبي)، وأن النبي قد سحر وأنه يخيل إليه أنه قد فعل الشيء وما فعله.. (راجع صحيح البخاري، بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، وصحيح مسلم باب السحر)..
إلى آخره من تلك الأراجيف والأكاذيب التي لا أساس لها من الصحة، ولما أدركت البطون الطامعة بالملك فشل إشاعاتها، واستبطأت أجل النبي صممت على.
قتله، وشرعت في جريمتها في غزوة تبوك، ولكن الله حمى نبيه، كل ذلك يجري تحت خيمة الإسلام التي استظلت بها الفئة الطامعة بالملك، فجاء يوم الرزية كما يسميه ابن عباس، وهو يوم المواجهة في الحجرة المقدسة ليكشف الأسرار، وليظهر حقيقة توجهات البطون الحاقدة على بني هاشم.
كانت جبهة الصد عن سبيل الله تشكل فريقا حقيقيا، وحزبا منظما، رتب كل شيء، واقتسم الملك والغنائم، حتى قبل موت النبي، وجاءت المواجهة في الحجرة المقدسة بمثابة استعراض للقوة، ولإقناع أولياء النبي بأنه لا فائدة ترجى من المعارضة، فإما أن يقبلوا بترتيبات البطون وما قبلته من الإسلام، أو يواجهوا الموت، ويتوقعوا عودة الشرك بعد التوحيد، وهذا يفسر اضطرار بعض الصحابة الكرام لمجاراة هذا التيار الساحق. وكانت هذه الجبهة تضم بطون قريش التي قاومت النبي قبل الهجرة، وحاربته بعد الهجرة، ثم اضطرت مكرهة للدخول في الإسلام، وتضم المنافقين من أهل المدينة، ومن حولها، منافقون من أهل مكة، وممن حولها من الأعراب بالإضافة إلى المرتزقة من الأعراب الذين لا هم لهم إلا الكسب، الذين ينتظرون من تدور عليه الدوائر ليأكلوه، والقاسم المشترك بين هذه الفئات هي كراهيتهم لآل محمد، وعدم قبولهم بأن يجمع الهاشميون النبوة والملك معا!!! لأن في ذلك إجحاف بحق البطون!! فهل من العدل ـ برأي البطون ـ أن يجمع الهاشميون النبوة والملك، وأن ينالوا الشرفين، ويحوزوا الفخرين معا، وتحرم بقية البطون!! أليس محمد من قريش!! لماذا يرث سلطانه الهاشميون وحدهم!! ومن الذي يضمن للبطون أن الهاشميين لن يجحفوا عندما يؤول الملك إليهم بعد وفاة النبي!! ثم إن الهاشميين قد وتروا بطون قريش أثناء حروبها مع النبي، فما من بطن من بطون قريش إلا وقتل منه الهاشميون، فهل تقبل بطون قريش رئاسة الذين قتلوا أبناءها، ويتموا أطفالها ورملوا نساءها!! إن من مصلحة الإسلام أن تتوحد بطون قريش خلفه، ولن تتحقق هذه الوحدة إلا إذا استبعد الهاشميون عن الملك، وسلمت قيادة المسلمين لبطون قريش، ومن والاها من العرب خاصة وأن الجميع يتلفظون بالشهادتين والبواطن لله. أما الاحتجاج بالترتيبات التي أعلنها النبي في غدير خم، فالنبي بشر والناس أعلم بشؤون دنياهم!!! وهكذا صارت الفتنة كوجوه البقر، لا تدري أيا من أي، وأصبح أولياء النبي أقلية يخافون مرة ثانية أن يتخطفهم الناس من حولهم. وقد وثقنا كل ذلك بكتابنا، المواجهة.
وهكذا افترق الإسلام عن السلطان (مع أنهما توأمان لا يصلح واحد منهما إلا بصاحبه، فالاسلام أس والسلطان حارس، وما لا أس له يهدم، وما لا حارس له ضائع). (رواه الديلمي، راجع كنز العمال ج 6 ص 1). ومع الأيام آلت الخلافة لمن لا مؤهل له، إلا الغلبة وكثرة الأتباع ولمن لا يعرف من الدين إلا اسمه!!!.
الفصل الثاني
بطون قريش وأنصارها يستولون عمليا على مقاليد الدولة الإسلامية
قبل فتح مكة كانت الفئة المؤمنة الصادقة أقلية وسط أغلبية ساحقة من المشركين والمنافقين والمرتزقة من الأعراب. وبعد فتح مكة ودخول العرب بالإسلام بقيت الفئة المؤمنة الصادقة أقلية أيضا وسط أكثرية ساحقة من المنافقين والمرتزقة من الأعراب وحديثي الدخول بالإسلام الذين يجهلون تاريخه ورجاله.
وفي الحالتين كان وجود النبي كقيادة إسلامية، والتفاف الفئة المؤمنة الصادقة حوله الضمانة الوحيدة لنقاء الحكم الإسلامي وبقائه. وهنا يكمن سر تركيز النبي المكثف على من يخلفه. لقد أدركت بطون قريش هذه الناحية، ورأت أن استغلالها هي الطريق الوحيد للوصول إلى الملك، وفصل السلطان عن الإسلام، لذلك استغلت هذه البطون سماحة الإسلام وعدالته، وجمعت حولها كافة العناصر التي اشتركت بمقاومة النبي ومحاربته سابقا، وانصب هدفها على عزل الفئة المؤمنة عن المجتمع، وتهميشها تماما ودس الوقيعة بين رموزها، واستعمال الكثرة الساحقة، كطريق فرد للاستيلاء على الدولة الإسلامية. والتفرد بالملك الذي تمخضت عنه النبوة!! وكمرحلة أولى رأت البطون أن تسند رئاسة الدولة لرموز إسلامية مقبولة ومعروفة (الخليفة الرمز) على أن تكون بطانته، وقادة جنده وعمال ولايته وأهل الحل والعقد عنده، وبعد أن تضرب جذور البطون في الأرض تلغي فكرة الخليفة الرمز وتستولي علنا ورسميا على كافة مقاليد الدولة الإسلامية، وتفرض على الناس مناهجها التربوية والتعليمية، وخلال هذه المدة تمنع رواية الحديث النبوي وكتابته، حتى تطمس كل ما يذكر الناس بالحقيقة وبالشرعية السياسية الإلهية. وسواء في عهد الخليفة الرمز، أو عندما استولت البطون على مقاليد الدولة، كانت الفئة المؤمنة مهمشة تماما. وراجت قناعة بأن أفرادها لا يصلحون للقيادة، وغير موالين لدولة البطون ومتحفزين لشق عصا الطاعة، ومفارقة الجماعة!! ومن مصلحة الإسلام والمسلمين، ومن دواعي استقرار الدولة أن تبقى هذه الفئة تحت الرقابة المباشرة للخليفة الرمز وبطانته، وأن لا يتولى أفرادها أي مصلحة من المصالح العامة، بمعنى أن الفئة المؤمنة عمليا تحت الإقامة الجبرية، فنادرا ما يأذن الخليفة لأحد من أفرادها بمغادرة العاصمة إلى الأقاليم البعيدة عن إشرافه المباشر. ولأن الخليفة عادل فقد كان يغدق على الشخصيات البارزة من أفراد هذه الفئة المؤمنة الأموال الطائلة من بيت مال المسلمين تأليفا لقلوبها، واتقاء لخطرها وطمعا باستقرار الدولة، حتى صارت تلك الشخصيات من أصحاب الملايين في مجتمع أكثريته الساحقة جائعة ومحتاجة!!.
المعايير الجديدة لتعبئة الوظائف العامة:
عندما نجح التحالف الذي قادته بطون قريش، بالاستيلاء على مقاليد الدولة اختفت المعايير التي كانت سائدة في زمن الرسول، فلم يعد منها البلاء في سبيل الله، ولا السابقة في الإسلام، ولا العلم، ولا الإخلاص لله ولرسوله، وحلت محلها معايير جديدة أهمها، موالاة دولة البطون، وإرضاء رموزها والأكثرية الساحقة، والقدرة على تنفيذ سياسة الدولة وبرامجها التربوية والتعليمية، ومعاداة أعداء الدولة، والحط من قيمتهم، بحيث لا يبقى لهم شأن ولا ذكر، وإرغام أنوفهم لتبقى دوما في التراب!
الاستعانة بالمنافقين والفاسقين والمرتزقة:
قال ابن حجر في فتح الباري (والذي يظهر من سيرة عمر رضي الله عنه في أمرائه الذين كان يؤمرهم في البلاد أنه كان لا يراعي الأفضل في الدين فقط، بل كان يضم إليه الذي عنده مزيد من المعرفة السياسية، فلأجل ذلك استخلف معاوية والمغيرة بن شعبة، وعمرو بن العاص مع وجود من هو أفضل منهم في أمر الدين والعلم، (راجع فتح الباري، كتاب الأحكام ج 13 ص 198).
قال حذيفة: (أمين سر رسول الله) لعمر بن الخطاب يوما: (يا عمر إنك تستعين بالرجل الفاجر)، (راجع كنز العمال ج 5 ص 77) (والله يا عمر إنك تستعمل من يخون وتقول ليس عليك شيء وعاملك يفعل كذا وكذا)، (راجع تاريخ الطبري ج 5 ص 31)، وكان عمر يعلم أن الذين يستعين بهم ويستعملهم فجار، أو منافقون أو خونة لله ولرسوله ولكنه كان يبرر استعماله لهم بالقول: (نستعين بقوة المنافق، وإثمه عليه). (رواه ابن أبي شيبة والبيهقي، راجع كنز العمال ج 4 ص 614). وهكذا صارت الاستعانة وتأمير الفاسقين والمنافقين والفجار طمعا بقوتهم سنة ونظرية تتبناها دولة البطون وتنفذها بوفاء، فأينما وجدت القوة، استعانت بصاحبها بغض النظر عن دينه، أو علمه أو سابقته أو جهاده أو ماضيه، والقوة تعني الالتزام بسياسة الدولة العامة، والولاء لها، وكراهية أعدائها، وحرمان أولئك الأعداء وأوليائهم من كافة الوظائف العامة، والكارثة حقا أن (أعداء) الدولة ومعارضيها سواء بالعلن أم بالسر هم أولياء النبي وقرابته الأدنون، ومن قام الإسلام كله على أكتافهم!!
طواقم جديدة من الولاة:
بعد أقل من شهرين على وفاة الرسول الأعظم تم عزل كافة العمال والولاة والأمراء الذين عينهم الرسول، وقتل بعضهم شر قتلة، كمالك بن نويرة، ونجا أسامة بن زيد الذي عينه الرسول أميرا على جيش من العزل بأعجوبة!! وعينت الدولة طواقم جديدة من الولاة والأمراء بدلا من الذين عينهم رسول الله، واقتسمت بطون قريش الوظائف العامة، وحصل البطن الأموي على نصيب الأسد، لأن هذا البطن قد ساهم مساهمة فعالة بإقامة دولة البطون. وهذا البطن مشهور بعداوته للنبي وببغضه لآل النبي، وحقده عليهم، فالعرب كلهم بل العالم بأسره يعلم بأن أبا سفيان وأولاده خاصة، والأمويين عامة هم الذين قادوا جبهة الشرك ضد رسول الله طوال فترة الـ15 سنة التي سبقت الهجرة، وأنهم هم الذين جيشوا الجيوش وألبوا العرب على رسول الله وحاربوه بكل فنون القتال، وعادوه بكل وسائل العداء حتى أحيط بهم عندما فتح الرسول مكة، فاضطروا مكرهين للتلفظ بالشهادتين، وكتموا إحباطهم وحقدهم على آل محمد، لأنهم فئة موتورة، فما من بيت من بيوت البطن الأموي إلا وأصاب الهاشميون منه مقتلا، وقد بين الرسول لأصحابه، بأن الأمويين هم أكثر بطون قريش بغضا لآل محمد، وأنهم طامعون بملك النبوة لأنه رآهم ينزون على منبره نزو القردة، وطلب من الناس أن يعتزلوهم وأن يحذروا منهم، وبعد وفاة النبي بفترة وجيزة ولت الدولة يزيد بن أبي سفيان قائدا عاما لجيش الشام، ولما مات يزيد عينت أخاه معاوية أميرا على الشام خلفا لأخيه، (راجع البداية والنهاية ج 8 ص 118، وتاريخ الطبري ج 5 ص 69، والاستيعاب ج 3 ص 596، وكنز العمال ج 13 ص 606) وأطلق عمر بن الخطاب يد معاوية في بلاد الشام، وأعطاه الحرية الكاملة ليفعل ما يشاء، وليتصرف على الوجه الذي يراه، بلا رقيب ولا حسيب، فقد قال عمر لمعاوية يوما: (... لا آمرك ولا أنهاك)، (راجع البداية والنهاية ج 8 ص 125، وتاريخ الطبري ج 6 ص 184)، وكان عمر يوطد له بين الناس فيقول عن معاوية: (إنه فتى قريش وابن سيدها)، (راجع البداية والنهاية ج 8 ص 125، والاستيعاب ج 8 ص 397)، وكان يقول للناس: (تذكرون كسرى وعندكم معاوية)، (راجع تاريخ الطبري ج 6 ص 184)، وخاطب عمر أصحاب الشورى قائلا: (إذا اختلفتم دخل عليكم معاوية بن أبي سفيان من الشام)، (راجع الطبقات الكبرى لابن سعد ج 5 ص 535). وكان عمر يعرف أن معاوية يعد أهل الشام للخروج، وأنه سيخرج ذات يوم، فقد صرح عمر في يوم من الأيام قائلا: (يا أهل الشام استعدوا لأهل العراق). (راجع الدلائل لابن سعد، وكنز العمال ج 12 ص 354). ومع هذا لم يتعرض له عمر، إنما تركه ليكمل استعداداته وعدته ويخرج في الوقت المناسب!! وكان وراء تأمير عمرو بن العاص، فقد أعلن عمر أمام علية القوم قائلا: (لا ينبغي لأبي عبد الله أن يمشي على الأرض إلا أميرا).
(راجع الإصابة ج 5 ص 3)، واستعان عمر بقوة الوليد بن عقبة، مع أن الوليد فاسق بنص القرآن، وكان يسكر علنا وصلى بالناس وهو سكران. (راجع الإصابة.ج 3 ص 363). واستعان عمر بعبد الله بن أبي سرح، وكان من المقربين إليه، (راجع تاريخ الطبري ج 5 ص 59، والبداية والنهاية ج 8 ص 214). وعبد الله ابن أبي سرح هذا هو الذي افترى على الله الكذب، وأباح الرسول دمه حتى لو تعلق بأستار الكعبة، ثم أتمها عمر على بني أمية، ووضع الأساس المتين لحكمهم يوم عهد عمليا بالخلافة لعثمان.
واستعان عمر بقوة أبي الأعور السلمي الذي شهد حنين مشركا، (راجع الإصابة ج 2 ص 540، وأسد الغابة ج 6 ص 16)، وقد لعنه رسول الله (رواه أبو نعيم، راجع كنز العمال ج 8 ص 82). وكان من أشد المبغضين لعلي بن أبي طالب، وقد أمره عمر، وجعله على مقدمة جيش. (راجع الإصابة ج 2 ص 541).
وأمر عمر يعلى بن منبه على بعض بلاد اليمن، وكان من الحاقدين على علي بن أبي طالب، فقد أعان الزبير بأربعمائة ألف عندما خرج على علي، واشترى لعائشة أم المؤمنين جملا يقال له (عسكر)، وجهز سبعين رجلا من قريش لقتال علي بن أبي طالب. (راجع الاستيعاب ج 3 ص 662 ـ 663).
واستعان عمر ببسر بن أرطأة، وأياس بن صبيح، وهو من أصحاب مسيلمة الكذاب، أسلم وولاه عمر القضاء على البصرة، (راجع الإصابة ج 1 ص 120).
واستعان عمر بطليحة بن خويلد الذي ادعى النبوة بعد النبي، وقد أعجب عمر به ورضي عنه، وكتب إلى أمرائه أن يشاوروه. (راجع البداية والنهاية ج 7 ص 130). وابن عدي الكلبي الرجل النصراني الذي تلفظ بالشهادتين، وفورا دعا له عمر برمح فولاه الإمارة، قال عوف بن خارجة، ما رأيت رجلا لم يصل صلاة أمر على جماعة من المسلمين قبله، (راجع الإصابة ج 1 ص 116). واستعمل عمر أبا زبيد على صدقات قومه وكان نصرانيا، ولأنه قوي استعمله، ولم يستعمل نصرانيا غيره. (راجع الإستيعاب ج 4 ص 80). واستعان عمر بكعب الأحبار اليهودي الذي أسلم فصار من خلص الخليفة وأصفيائه ومرجعه وموضع أسراره، والمجيب الموثوق على كل تساؤلاته، وتولى كعب عملية القص في المساجد وصار القص سنة. (راجع الإصابة ج 3 ص 316)، فكان كعب يقص ما يحلو له.
******************
في مسجد رسول الله، في الوقت الذي منعت فيه دولة الخلافة كتابة ورواية أحاديث رسول الله نفسه!!
ولما مات عمر بن الخطاب رضي الله عنه كانت ولايات الدولة وأعمالها ووظائفها العامة غاصة بأصحاب (القوة) من الفاسقين والمنافقين، وقد استخدمهم الخليفة ليستعين بقوتهم، كما قال ونفاقهم وفسقهم على أنفسهم.
ولما آلت الخلافة إلى عثمان رضي الله عنه، رفع شعار صلة الرحم، بدلا من القوة، فعمر كان يبحث عن الأقوياء ليستعين بقوتهم، أما عثمان فقد كان يبحث عن الأرحام ليصلها، ومن نافذة الأرحام وبابها الواسع دخل الأمويون كلهم، ودخل معهم أولياؤهم إلى ولايات الدولة وأعمالها ووظائفها، فما من مصر من الأمصار، وما من عمل من الأعمال، إلا وواليه أموي، أو موال لبني أمية. وكان أول الداخلين من هذا الباب الحكم بن العاص، طريد رسول الله وعدوه اللدود، لعنه رسول الله وطرده وحرم عليه دخول المدينة، ولما آلت الخلافة لعثمان أعاده للمدينة معززا مكرما، ولما مات بنى على قبره فسطاطا، ومع الحكم دخل ابنه مروان. قالت عائشة أم المؤمنين لمروان: (أما أنت يا مروان فأشهد أن رسول الله لعن أباك وأنت في صلبه). قال الذهبي وابن عبد البر وغيرهما: (مروان أول من شق عصا المسلمين بلا شبهة). (راجع شذرات الذهب ابن العماد ج 1 ص 69).
وكان مروان من أسباب قتل عثمان. (راجع الإصابة ج 6 ص 157). ومع أن مروان ملعون على لسان نبيه، إلا أنه تولى الخلافة، ولقب أمير المؤمنين وتوارث أبناؤه ملك النبوة. وقد وصف مروان بن الحكم وضع دولة الخلافة بآخر أيام عثمان، وصفا دقيقا فقال لجموع الثوار الذين احتشدوا حول دار عثمان: (ما شأنكم قد اجتمعتم كأنكم قد جئتم لنهب، شاهت الوجوه، كل إنسان آخذ بإذن صاحبه إلا من أريد، جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا، اخرجوا عنا، غب رأيكم، ارجعوا إلى منازلكم، فإنا والله ما نحن مغلوبين على ما في أيدينا). (راجع تاريخ الطبري ج 5 ص 110).
والخلاصة أن دولة الخلافة تحولت إلى ملك أموي خالص، وأن الأمويين قد غلبوا على كل شيء، وأن الأكثرية الساحقة مع بني أمية طمعا بما هم غالبون.
عليه، وأنه لم يبق من السلام السياسي إلا لقب الخليفة (أمير المؤمنين)، وأن الولايات والأعمال والوظائف العامة بالكامل مع بني أمية، وأموية من جميع الوجوه، بمعنى أن الدولة بكل مؤسساتها قد أصبحت تحت سيطرة الذين عادوا رسول الله وحاربوه بالأمس، وأن الفئة المؤمنة مهمشة بالكامل، وأقلية، وليس لها من أمر الدولة شيء. ولو تولى الخلافة بعد عثمان أي رجل في الدنيا غير علي بن أبي طالب لما استطاع أن يصمد بمثل هذه الظروف أكثر من ساعة من الزمان، لأن الملك الأموي، وسلطان المنافقين والفاسقين، قد توطد وضربت جذوره في الأرض وفي النفوس والمصالح طوال عهود الخلفاء الثلاثة، ووفقا للمعايير التي عممتها الدولة، فلا فرق بين أي صحابي من السابقين في الإيمان، ومن أهل البلاء وبين أبي سفيان، أو الحكم بن العاص، فهم بدون تفصيلات صحابة، لأنهم شاهدوا النبي، وكلهم عدول والتفاضل بينهم في الآخرة، وليس في الدنيا، والاهم من ذلك هو اعتقاد الأكثرية، بأن أبا سفيان والحكم بن العاص أصلح لإمارة الناس من أصحاب السابقة، ومن أهل البلاء في سبيل الله، ممن قامت الدولة النبوية على أكتافهم وبسواعدهم، أما أهل بيت النبوة، فقد تم التعتيم رسميا على كل فضائلهم، ولا يجرؤ أحد على ذكرهم بخير، وهم في أحسن الظروف صحابة مثلهم مثل أبي سفيان، ومروان بن الحكم، ومعاوية، بل إن هؤلاء وأمثالهم أعظم شانا عند الأكثرية والأولى بالطاعة من أهل بيت النبوة، لأن وسائل إعلام الدولة الرسمية نفخت الثلاثة وأمثالهم، وأعطتهم أحجاما أسطورية ليست لهم في الحق والحقيقة، بينما تجاهلت وسائل إعلام الدولة التاريخية أهل بيت النبوة، وعتمت على صورهم، وسخرت الدولة كافة مواردها لإبراز أهل بيت النبوة بصورة النكرات!!! واستقرت تلك الأوهام التي خلقتها وسائل الإعلام، وإمكانيات دولة الخلافة في قلوب الأكثرية الساحقة من أبناء الأمة، لأن تلك الأوهام كانت بمثابة القناعات الرسمية التي تبنتها دولة البطون، وعلى منوالها سارت عهود الخلافة التاريخية.
وباختصار شديد فإن أهل بيت النبوة، وأولياء النبي وهم علماء الإسلام وأساتذته الذين قامت دعوة الإسلام ودولة النبوة على أكتافهم، قد أخروا بالقوة، وصاروا رعايا ومحكومين، لا تقدم مواقفهم ولا تؤخر مع إجماع أغلبية ساحقة، أما الذين قاوموا النبي والنبوة قبل الهجرة وحاربوا النبي بعد الهجرة، وجهلوا أحكام الدين فقد غلبوا بعد وفاة النبي، وتسلموا بالقوة أو بالعهد والتسلل مقاليد الدولة، فصاروا هم السادة والحكام والأساتذة وأصحاب الكلمة المسموعة، لأن بيدهم النفوذ والجاه والمال والسلطة، ومؤهلهم الوحيد هو القوة. تلك حقيقة لا يماري فيها إلا جاهل، أو متجاهل أو عابد هواه.
وتحقق ما حذر منه النبي وتفكك الإسلام وحلت كافة عراه!!!
بينا بأن رسول الله وقبل أن ينتقل إلى جوار ربه، حذر المسلمين وبأنهم إن لم يلتزموا بما أمرهم به، فإن الإسلام سيتفكك، وستحل عراه عروة بعد عروة، فكلما انتقضت عروة تثبت الناس بالتي تليها، وأن أول عرى الإسلام نقضا الحكم، وآخرها نقضا الصلاة. (رواه أحمد وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، راجع كنز العمال ج 1 ص 238).
وكرر النبي التحذير في مناسبات متعددة، وأطلعهم على ما هو كائن وبالتصوير الحي البطئ، وأحيط الجميع علما بما حذر منه الرسول، وقامت الحجة على الجميع. ولخص الرسول الموقف للجميع، وأكد هذا التلخيص بكل وسائل التأكيد، وبينه وبكل طرق البيان، وحذر المسلمين بأنهم لن ينجحوا ولن يهتدوا، ولن يتجنبوا الضلالة من بعده، إلا إذا تمسكوا بالثقلين كتاب الله، وعترة النبي أهل بيته.
ثم بعد ذلك مرض النبي، وكان ما كان، فما أن مرض النبي حتى تنكرت له الأكثرية الساحقة رغبة أو رهبة، وقالوا له وجها لوجه: (أنت تهجر!! والقرآن وحده يكفينا، ولسنا بحاجة لوصيتك)!! بل والأعظم من ذلك أن هذه الأكثرية بعد أن استولت على مقاليد الحكم منعت رواية وكتابة أحاديث رسول الله منعا باتا، ورفعت شعار (حسبنا كتاب الله)!! وصارت رواية أحاديث الرسول من الجرائم الكبرى التي يستحق مرتكبها القتل، فكان حذيفة يقول: (لو كنت على شاطئ نهر، وقد مددت يدي لاغترف فحدثتكم بكل ما أعلم ما وصلت يدي إلى فمي حتى أقتل). (راجع كنز العمال ج 3 ص 345 نقلا عن ابن عساكر) وروى البخاري في صحيحه (كتاب العلم ج 1 ص 34) عن أبي هريرة أنه قد قال:
(حفظت من رسول الله وعائين، فأما أحدهما فبثثته وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم)!! وقال: (إني لأحدث أحاديثا لو تكلمت بها في زمن عمر أو عند عمر لشج رأسي). (راجع البداية لابن كثير ج 8 ص 107) وفي عهد عمر بن الخطاب عزم أبي بن كعب أن يتكلم في الذي لم يتكلم به بعد وفاة الرسول فقال: (لأقولن قولا لا أبالي أستحييتموني عليه أو قتلتموني). (راجع ابن سعد، الطبقات الكبرى ج 3 ص 501 والحاكم باختصار ج 2 ص 329 و ج 3 ص 303). ووعد أن يكشف الحقائق أمام الناس يوم الجمعة، وترقب الناس ذلك اليوم الذي يكشف فيه أبي بن كعب حقائق ما سمعه من رسول الله، ولكن في يوم الأربعاء مات الصحابي العظيم الذي وعد بكشف الحقائق. قال قيس بن عباد: رأيت الناس يموجون، فقلت: ما الخبر؟ فقالوا: مات سيد المسلمين أبي بن كعب، فقلت: ستر الله على المسلمين حيث لم يقم الشيخ ذلك المقام). (راجع المسترشد لابن جرير الطبري ص 28، ومعالم الفتن لسعيد أيوب ج 1 ص 257).
والخلاصة أن منع رواية وكتابة أحاديث الرسول قد تحول إلى قانون أساسي، نافذ المفعول في كل أرجاء دولة الخلافة، ولكن لا بأس برواية الأحاديث التي تمدح القائمين على الحكم، وتضفي طابع الشرعية والمشروعية على تصرفاتها، فرواية مثل هذه الأحاديث مباحة حتى وإن كانت مختلقة، ورواة هذه الأحاديث من المقربين، حتى وإن كانوا أعداء لله ولرسوله!! وبمدة وجيزة، حلت عرى الإسلام كلها عروة بعد عروة، ولم يبق غير الصلاة، وحشر المؤمنون الذين كانوا يصلون على طريقة رسول الله، وضيق الخناق عليهم على اعتبار (أنهم شواذ) يخالفون جماعة المسلمين وإمامهم، ويتفردون بصلاة تختلف عن صلاة الأمة!! قال حذيفة أمين سر رسول الله: (لقد ابتلينا حتى أن الرجل ليصلي وحده وهو خائف). (راجع صحيح البخاري ج 1 ص 180 كتاب الجهاد والسير). وقال حذيفة أيضا: (فابتلينا حتى جعل الرجل منا لا يصلي إلا سرا). (راجع صحيح مسلم ج 2 ص 179، ورواه أحمد في الفتح الرباني ج 23 ص 40، و ج 2 ص 462 من معالم الفتن). وروى البخاري أن الزهري قد دخل على أنس بن مالك فوجده يبكي، فقال له ما يبكيك؟ فقال أنس: لا أعرف شيئا مما أدركت إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضيعت. (راجع الفتح الرباني ج 1 ص 200). وقال أنس بن مالك مرة أخرى: (لا أعرف شيئا اليوم مما كنا عليه على عهد رسول الله!! فقلنا: فأين الصلاة؟ فقال أو لم تضعوا بالصلاة ما قد علمتم؟)! (رواه أحمد والترمذي، وحسنه وقال في الفتح الرباني ج 1 ص 199 روي عن أنس من غير وجه).
هذه شهادة حذيفة أمين سر رسول الله، وتكتسب شهادته أهمية خاصة لأنه أمين سر رسول الله بإجماع المسلمين، ولأنه بقي على عهد رسول الله لم يبدل ولم يتبدل، ولم يرجع القهقرى على عقبيه، تدعمها شهادة أنس بن مالك الذي وعى عمليا الصلاة بحكم خدمته للنبي، وكان أنس إلى جانب السلطة دائما عايشها وتعايش معها، ولم يثنه عن الولاء لهذه السلطة تبدلها ولا تغيرها، وكان يسمع مسبته من رجالها بصبر بالغ.
فإذا ثبت بأن المخلصين من الصحابة كانوا يصلون سرا، وهم في حالة خوف، من غضب السلطة، أو من غضب الجماهير الموالية لها، وإذا كان أحد الذين خدموا الرسول فترة طويلة، وشاهد رسول الله مئات المرات وهو يصلي عمليا يشهد ويقر ويعترف بأن الصلاة قد ضيعت بالفعل ونقضت من أصولها، ففي هذا دليل قاطع على أن آخر عروة من عرى الإسلام، وهي الصلاة قد حلت تماما بشهادة شهود عيان عاصروا حكومة الرسول، وحكومة الخلفاء الثلاثة، وحكومة بني أمية، ولا خلاف بين اثنين من المسلمين على أن رسول الله قد أخبر الأمة بما هو كائن، مثلما أخبر الأمة بأن عرى الإسلام ستنقض عروة بعد عروة، وأن نقض نظام الحكم هو أول عرى الإسلام نقضا، وأن نقض الصلاة هو آخر عرى الإسلام نقضا، ولا خلاف بين اثنين من المسلمين على أن رسول الله صادق فيما أخبر، وأنه لم ينطق عن الهوى ـ على الأقل في هذه الأخبار ـ حتى نتجنب معارضة أولئك الذين يزعمون بأن محمدا بشر يتكلم في الغضب والرضى!! ثم إنه من المحال.
عقلا أن يخبر الرسول الأمة بهذه الأخبار الخطيرة على مسؤوليته، وباجتهاد منه، وبدون تفويض إلهي!! ومن الناحية الواقعية فقد تحقق ما أخبر به الرسول وحذر منه، فلا أحد من أولياء الخلفاء، ومن شيعة الخلافة التاريخية يمكنه أن يزعم بأن الإسلام كله قد بقي على حاله. أو ينكر بأن عرى الإسلام كلها لم تنقض. لقد بين الرسول ما هو كائن وما سيكون إشفاقا ورحمة بالأمة، وقياما بواجب البيان، ولقد حذر وأنذر إقامة للحجة على المكذبين والمكابرين، وإرشادا للصادقين ليبقوا دائما على الصراط المستقيم. وكان الرسول صادقا في بيانه ورحمته، وتحذيره وإنذاره، وأنه لم يخبر بتلك الأخبار المستقبلية اجتهادا منه كما كانوا يتصورون، أو تحليلا شخصيا، إنما كانت تلك الأخبار الموثوقة ثمرة وحي إلهي، صدقه ما وقع في المستقبل، لأن الله ورسوله لا يقولان إلا الحق والحقيقة..
الفصل الثالث
مظاهر نقض عرى الإسلام ووسائله
1 ـ استبعاد النبي!!
أول وأخطر مظاهر نقض عرى الإسلام هو مواجهة بطون قريش وزعامتها للنبي أثناء مرضه، والحيلولة بين النبي وبين كتابة توجيهاته النهائية وتجاهلهم لوجوده تجاهلا تاما، وقولهم على مسمعه: إن النبي يهجر!! استفهموه إنه يهجر، ولا حاجة لنا بكتابه، حسبنا كتاب الله!!! (راجع صحيح البخاري كتاب المرض باب قول المريض قوموا عني ج 7 ص 9 و ج 4 ص 31 و ج 1 ص 37، وصحيح مسلم آخر كتاب الوصية ج 5 ص 75، وصحيح مسلم بشرح النووي ج 11 ص 95، ومسند أحمد بن حنبل ج 4 ص 356 ح 2992، والكامل في التاريخ لابن الأثير ج 2 ص 230 وكتابنا نظرية عدالة الصحابة ص 287 وما فوق).
كانت هذه أول عروة وأخطر عروة تنقض من عرى الإسلام، فقد تجاهلت زعامة بطون قريش وجود النبي، وأعلنت وبكل صراحة، أن القرآن يكفي، ولا حاجة لما قاله النبي أو سيقوله!!
وقد مهدت زعامة بطون قريش لهذا الموقف المدمر، فبثت سلسلة من الشائعات التي تنصب كلها على ضرورة عدم الوثوق بكل ما يقوله النبي، لأنه بشر يتكلم في الغضب والرضى، ودوره مقتصر على تلاوة القرآن، وتبليغ الناس، ما يوحى إليه من هذا القرآن فقط. وقد وثقنا ذلك في كتابنا (المواجهة) مع رسول الله وآله. وعندما تسلمت هذه الزعامة قيادة الأمة بعد وفاة النبي ترجمت أقوالها.
وشائعاتها وقناعاتها إلى قوانين ملزمة للرعية بالقوة الجبرية، فمنعت رواية وكتابة الحديث النبوي، وأحرقت المكتوب منه، وصار من المعروف عند العامة والخاصة أن عقوبة من يروي أحاديث النبي المتعلقة بالأمور الأساسية عقوبته قطع البلعوم على حد تعبير أبي هريرة، أو الاستحياء والقتل، كما عبر عنهما أبي بن كعب رضي الله عنه.
وهكذا واعتبارا من اللحظة التي قعد فيها رسول الله على فراش المرض تم استبعاده بالكامل، وجمدت كافة أوامره وتوجيهاته، ولم ينفذ منها شيء، وإن نفذت فقد جاء التنفيذ متأخرا وبالقدر الذي يخدم توجيهات زعامة بطون قريش، وخير مثال على ذلك جيش أسامة، أو بعث أسامة، فالملك ملك النبوة، وزعيم البطون رسميا هو خليفة النبي، والمتصرف بالملك الذي بناه النبي، والأمة هي أمة النبي. ومع هذا فلا يجوز لأي فرد من أفراد الأمة أن يروي أو يكتب حديثا عن النبي!!!
لأن رواية وكتابة أحاديث النبي تسبب الخلاف والاختلاف بين الناس، كما ذكر ذلك الخليفة الأول في أول تصريح له حسب رواية الذهبي في تذكرة الحفاظ وبنفس التصريح أمر الخليفة رعاياه قائلا: (فمن سألكم عن شيء فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله)!!! فعلى العموم، الرسول شخصيا مستبعد (كما في حالة مرضه)، وأحاديثه التي تضمنت توجيهاته مستبعدة من التأثير على الحركة الكلية للمجتمع، إلا إذا كانت هذه الأحاديث تخدم الملك، وتوجهاته الجديدة والقائمين عليه، فعندئذ تعمم هذه الأحاديث وتعامل بقداسة، وتروى وتبرز كأدلة قاطعة على شرعية نظام البطون!! يمكن لمن يشاء أن يروي ما يشاء من أشعار الجاهلية، وخرافات الأقدميين ونجاسات الشرك، ويمكن لفئة أن تقص القصص وأساطير بني إسرائيل في مسجد الرسول نفسه، فلا خطر من ذلك على ألفة الأمة ووحدتها وانقيادها لزعامة البطون. ولكن لا يمكن حتى لأبي بن كعب أن يروي حديثا عن النبي يمس واقع المجتمع أو مستقبله، لأن مثل هذا الحديث يسبب الخلاف، والاختلاف على حد تعبير الخليفة الأول وبهذه الحالة وأمثالها فالقرآن وحده يكفي!.
2 ـ استبعاد آل محمد وأهل البيت والهاشميين ومن والاهم!!!
ومن مظاهر حل عرى الإسلام أن زعامة بطون قريش التي استولت على السلطة بعد وفاة النبي، قد استبعدت آل محمد الذين يصلي عليهم المسلمون في صلاتهم، كما استبعدت أهل بيت النبوة الذين شهد الله لهم بالطهارة، ثم هم أبناء النبي، ونساؤه، وكنفسه كما هو ثابت بآية المباهلة، وبعد يوم واحد من دفن النبي هددت زعامة البطون علي بن أبي طالب بالقتل، وأحضرت الحطب وشرعت بحرق بيت فاطمة بنت الرسول على من فيه وفيه، فاطمة والحسن والحسين سبطا رسول الله، وحرمتهم من إرثهم من النبي، ومن تركته، وصادرت كافة الإقطاعات التي أعطاها النبي لهم حال حياته، وجردتهم من كافة ممتلكاتهم، ولأسباب إنسانية تعهد الخليفة الجديد بتقديم المأكل والمشرب لهم لا يزيد عن ذلك!! وصورت السلطة الجديدة أهل بيت النبوة بصورة الشاقين لعصا الطاعة المفارقين للجماعة، فأذلتهم، وعزلتهم عزلا تاما، فتجنبهم الناس، ونفروا منهم مع أن آل محمد وأهل بيته قد ورثوا علم النبوة كاملا وعزل الهاشميون وهم بطن النبي وتجنبهم الناس، واتخذوا منهم موقفا حذرا على ضوء موقف السلطة، وادعت بطون قريش أنها الأقرب للنبي لأن محمدا من قريش!!!
ويجدر بالذكر، أن بطون قريش ال 23 وقفت وقفة رجل واحد ضد النبي، فقاومته قبل الهجرة، وحاربته بعد الهجرة، ولم يقف مع النبي عمليا ولم يحمه من شرور بطون قريش إلا البطن الهاشمي، وعندما أشعلت بطون قريش حربها الآثمة ضد النبي، كان الهاشميون أول من قاتل وأول من قتل وبقوا إلى جانب النبي حتى انتقل إلى جوار ربه، هناك مزقت بطون قريش سجلات بني هاشم الحافلة بالأمجاد والشرف وعزلتهم وعاملتهم معاملة العبيد والسوقة.
وأحكمت بطون قريش الحلقة عندما عاملت أولياء آل محمد وأهل بيت النبوة معاملة جائرة بجرم موالاتهم لأهل البيت، وقولهم بأن آل محمد كما قد عرفوا من النبي أولى بسلطانه.
وخوفا من هذه الدعوى استبعدت بطون قريش آل محمد، وأهل بيته، وبني هاشم، ومن والاهم أو قال بمقالتهم أو تتلمذ على أيديهم. ومع أن الخلفاء التاريخيين، وبقوة الدفع النبوي، وبالآلية التي أوجدها النبي، وبالجيش الذي أسسه النبي قد فتحوا مشارق الأرض ومغاربها، إلا أنه لم يرو راو قط أن أحدا من الخلفاء قد أمر أحدا من آل محمد أو من أهل بيته، أو أحدا ممن يواليهم، بل على العكس كان الخلفاء يختارون الأمراء والعمال والولاة من الكارهين لآل محمد والحاقدين عليهم، أو ممن كانوا لا يرون لآل محمد أي فضل أو تميز عن الناس.
ولم تكتف زعامة قريش بذلك إنما حاولت أن تضرب آل محمد ببعضهم وأن توقع بينهم كما فعلت عندما وعدت العباس ببعض الأمر لتتمكن من الانفراد بعلي بن أبي طالب، وإبطال حجته، وحاولت أن تفتت وحدة البطن الهاشمي، ولكن محاولاتها فشلت في البداية ونجحت فيما بعد!!
ورصت زعامة البطون، وقادت بنفسها حملة كبرى هدفها طرد وتقتيل وتشريد وإذلال آل محمد، فهددت عليا بالقتل، وشرعت بحرق بيت فاطمة على من فيه، وفيه ابنا الرسول الحسن والحسين، وحرمتهم من ميراث النبي وتركته وصادرت ممتلكاتهم، ثم سمت الحسن، ثم قتلت الحسين، وأبادت أهل بيت النبوة، وتجاهلت ومعها الأكثرية الساحقة من المسلمين نداءات النبي التي لم تتوقف، ووصاياه المتلاحقة: (اتقوا الله في أهل بيتي)، وقد عبر الإمام زين العابدين عن هذا الهول بقوله: (لو أن رسول الله قد حرض المسلمين علينا ما زادوا على ما فعلوا..).
وهكذا تم استبعاد أهل بيت النبوة، وحرمانهم، والتنكيل بهم وإذلالهم، ومعاقبة أوليائهم، فقد مر على المسلمين حين من الدهر كان فيه حب آل محمد أو موالاتهم من جرائم الخيانة العظمى التي عقوبتها القتل وهدم الدار، والحرمان من العطاء، والتجريد من كافة الحقوق المدنية، بحيث لا تقبل شهادة من يحب آل محمد (راجع كتاب الأحداث للمدائني برواية ابن أبي الحديد في شرح النهج ج 3 ص 595 تحقيق حسن تميم).
فإذا عرفت أن أهل بيت النبوة هم أحد الثقلين بالنص الشرعي، وأن الهدى لن يدرك إلا بالتمسك بهما: (كتاب الله وعترة النبي أهل بيته) تكتشف بيسر بأن كافة عرى الإسلام قد حلت بالفعل، وأن الذين حكموا باسم الإسلام كانوا يصيبون من الإسلام المقاتل، ويجردونه من كل مضامينه، ويهدمون كل أركانه، ولا يبقون منه إلا الشكليات اللازمة للمحافظة على الملك!!!
والمدهش بالفعل، أن أهل بيت النبوة قد استغاثوا فلم يغثهم أحد، واستنصروا فلم ينصرهم أحد، وشرعت السلطة بحرق بيت فاطمة على من فيه وفيه ابنا الرسول، وحرمت السلطة أهل البيت من ميراث النبي، ومن تركته، وجردتهم من ممتلكاتهم. ومع هذا لم ينكر على السلطة منكر، ولم يأمرها أحد بمعروف، ولم ينهها عن منكر، والمدهش أيضا أن تجند السلطة مائة ألف مقاتل لقتال الحسين ومن معه، وهم لا يزيدون عن مائة رجل، ومع هذا لم ينكر عليها منكر، ولم يأمرها أحد بمعروف أو ينهها عن منكر، وبعد أن قتل كل من كان مع الحسين وبقي وحيدا شن جيش الخلافة هجوما شاملا على رجل واحد!! ولهم غاية محددة وهي قتله، والتمثيل به، ومع هذا لم ينكر على الخليفة أو جيشه منكر، ولم يؤمروا بمعروف أو ينهوا عن منكر!! وهذا ما لم يحدث حتى في مجتمع الفراعنة!!! وهكذا حدث ما أخبر به الرسول، وحذر منه. ولاقى أهل بيته القتل والتشريد والتطريد واقترف هذه الجرائم زعماء القوم الذين سمعوا النبي وهو يخبر بما كان، وما هو كائن، ويحذر، وشاهدوه وهو يبكي على ما يفعل القوم بأهل بيته من بعده، وبعد موت النبي تذكرت زعامة القوم تحذيرات النبي، واستذكرت دموعه الشريفة، ولكن تلك الزعامة ارتكبت جرائمها مع سبق الترصد والإصرار، وهي نفس الجرائم التي حذرها النبي منها.
3 ـ غربة الإسلام والإيمان:
بعد أن حلت عرى الإسلام بدءا من الحكم وانتهاء بالصلاة، أصبح الإسلام الحقيقي الذي جاء به محمد غريبا على المجتمع، إذ لم يبق من الإسلام إلا الشكليات الضرورية لبقاء الملك، والسيطرة على البلاد المفتوحة باسمه، والمسلمون المؤمنون الحقيقيون الذي بنيت دولة النبي على أكتافهم صاروا فئة قليلة معزولة غريبة غربة تامة عن مجتمع دولة الخلافة، لأن هذه الفئة تمسكت بالقرآن ووالت أهل بيت النبوة، كما أمرت وشكلت مع أهل بيت النبوة الشيعة المؤمنة التي تحمل إرث الأنبياء والتي عاشت معزولة طوال التاريخ البشري، فأفراد هذه الفئة المؤمنة هم الذين وقفوا مع النبي في لحظات شدته، وهم الذين نهلوا علوم النبوة يوما بيوم، وطبقوها فصلا فصلا، حتى صاروا هم أساتذة المجتمع وينابيع الدين النقية، ولما استولت بطون قريش بالقوة والتغلب على منصب الخلافة واكتشفت أن هذه الجماعة المؤمنة موالية لله ولرسوله ولأهل بيت النبوة، وأن ولاءها الثلاثي هذا لن يتجزأ لأن هذا الولاء بعرفها هو الدين الحقيقي، عندئذ أدركت دولة الخلافة خطورة هذه الفئة فنقمت عليها، وعزلتها تماما كما عزلت أهل بيت النبوة، واعتبرت أفرادها غرباء متطرفين، واعتبرت تعاليمهم خطرا على وحدة الدولة، ووحدة الأمة، وحذرت دولة الخلافة أفراد تلك الفئة بأنهم إن لم يلتزموا بالطاعة، وإعلان الولاء للدولة، فإن الدولة ستسند لهم تهمة مفارقة الجماعة، وشق عصا الطاعة، وتفريق الأمة الواحدة وهي جرائم عقوبتها الموت، وكان واضحا لأفراد تلك الفئة المؤمنة، بأن العامة ينتظرون إشارة دولة الخلافة لقتل كافة أفراد هذه الفئة، وسبي ذراريهم، ونهب أموالهم، لأن العامة لا مطمع فعلي لها إلا المال ورضى الخليفة الغالب طمعا بما في يديه، وتلك حقيقة فلن يكون لأي فرد من أفراد هذه الفئة المؤمنة أهمية أعظم من علي بن أبي طالب، أو من فاطمة بنت محمد، أو من سادات بني هاشم، وقد سمع الجميع ما حل بهم، وما آلت إليه أحوالهم من الذل والهوان والعزلة!!
لذلك من الأفضل لأفراد هذه الفئة أن يتجاهلوا تاريخهم الحافل بالأمجاد، وعلاقتهم الحميمة الخاصة بالنبي، وأن يتبالهوا، فيقوموا بدور التلاميذ الذين يسمعون للأمراء الأساتذة!!!
صحيح أن الأمراء طلقاء لا يفهمون من الدين شيئا، وأن أفراد الفئة المؤمنة هم العلماء، وكان ينبغي أن يكون أفراد الفئة المؤمنة هم الأمراء، والأساتذة، الذين يفيضون علومهم على الجميع، لكن الخليفة الغالب قد قرر الاستعانة بقوة (الطلقاء) وإثم الطلقاء على أنفسهم كما قال عمر بن الخطاب، فأصبح الطلقاء أمراء ومن حق الأمير أن يطاع وأن يوجه ويقود المأمورين!! وكان بيد دولة الخلافة وأركانها آلية الحكم الخاصة، فمن يعصي الخليفة الغالب الذي يتربع عمليا على ملك الدنيا ونفوذها، يتصرف به على الوجه الذي يريد بلا رقيب ولا حسيب، ويطيع عليا بن أبي طالب المؤمن الذي لا يملك شروى نقير، ومن يعصي معاوية بن أبي سفيان والي الشام المتصرف بخيراتها تصرف المالك بملكه، ويطيع عمار بن ياسر، وأبا ذر الغفاري، أو المقداد بن عمرو، الفقراء المغضوب عليهم من دولة الخلافة. صحيح أن معاوية بن أبي سفيان مثلا طليق وابن طليق، وأحد أبرز قادة معسكر الشرك الذي قاوم وحارب رسول الله وبكل قواه حتى أحيط به فاضطر مكرها للاستسلام والإسلام، وصحيح أيضا أن معاوية لا يعرف شيئا من الإسلام، وصحيح أيضا بأن عمار وأبا ذر والمقداد من أعمدة الإسلام ومن رواده المؤسسين وبناته ومن علمائه، لكن هذا تاريخ، ومثاليات، بعيدة عن إمكانية التطبيق فالواقع المفروض والوحيد الذي يمكن تطبيقه هو أن معاوية هو الأمير الذي يجب أن يطاع، والمعلم الديني، وأن عمار والمقداد وأبا ذر وأمثالهم مأمورين ومتعلمين، ويجب أن يرهفوا أسماعهم لمعاوية العالم الديني، وأن يتعودوا على طاعة معاوية الأمير!! وإن لم يفعلوا ذلك فهم عصاة أو مشاغبون يهددون الأمن ووحدة الأمة!! والقانون الإسلامي يطبق على الجميع لا فرق بين عربي وعجمي، ولا سابق بالإيمان ولا طليق، تلك هي الآلية القانونية التي أوجدتها دولة الخلافة!!!
وقد يخطر ببال عمار مثلا، وكما حدث بالفعل حسب رواية ابن الأثير في تاريخه أن يقدم احتجاجا خطيا إلى الخليفة الرمز يشكو له من أمور لا يمكن تبريرها، حتى وفق آلية الدولة، عندئذ يأمر الخليفة بعض أعوانه الطلقاء فيضربوا عمار بن ياسر، حتى يكسروا أضلاعه، ويرموه أخوار أسوار قصر الخليفة، لأنه تجرأ على ذكر مثل تلك الأمور، وتجرأ على الشكوى، وقد حدث هذا بالفعل كما روى ابن الأثير وغيره، وقد يخطر ببال أبي ذر أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحذر من مظاهر البذخ وسوء العاقبة، فيفسر عمل أبي ذر هذا بأنه (إفساد في الأرض) وإفساد للناس، فقد كتب معاوية إلى الخليفة، بأن أبا ذر في طريقه لإفساد الشام وأهلها، عندئذ يأمر الخليفة بنفيه، وينفى من مكان إلى مكان بالفعل خوفا على أمة محمد من أن يفسدها صاحبه أبو ذر، ويعيش الرجل مطاردا.
منفيا، ويموت منفيا وحيدا!!! وقد تتولى دولة الخلافة قتل من لا تقوى على تدجينهم من المؤمنين السابقين، وتسند تهمة القتل إلى الجن، كما فعلت مع سعد بن عبادة سيد الخزرج، فالرسالة الرسمية المصححة والمطلوب من المسلمين المؤمنين الصادقين أن يتناسوا بالكامل كل تاريخهم وعلومهم وعلاقتهم بالنبي، وأن يغضوا أبصارهم تماما عما يجري، وأن يشهدوا بصمت عملية نقض عرى الإسلام كلها، وأن يراقبوا عملية التغيير (الإسلامية الكبرى) فإن فعلوا ذلك نجوا، ولن يتعرض لهم أحد، ويمكن لكل واحد منهم أن يأخذ عطاءه الشهري، ولن يغضب الخليفة منه، وليس من المستبعد أن يرضى الخليفة وأعوانه عليه!!!
هذه الآلية العجيبة عزلت الفئة المؤمنة عمليا، وحيدتها تحييدا تاما عن التأثير على حركة الأحداث التي أدت لنقض عرى الإسلام كلها، وبالتالي فقد أصبح الإسلام والإيمان وكافة مضامينهما الحقيقية مفاهيم غريبة تماما، لا تنتمي لحركة الأحداث، ولا تؤثر على الأحداث، وهي عرضة للتبديل والتحوير والتغيير، لأن هذه المضامين وفي أحسن الظروف مجرد اجتهادات، لا تقدم ولا تؤخر، ولا تقيد الخليفة، فرسول الله مثلا كان يوزع العطاء بين الناس بالسوية، لا يفرق بين عربي وعجمي وأسود وأبيض، لأن حاجات الناس الأساسية متشابهة ومضى الخليفة الأول على هذه السنة، ولما جاء الخليفة الثاني اكتشف بأنه ليس من العدل أن يأخذ العربي كالعجمي، وأن يأخذ القرشي كغيره من العرب، لذلك اجتهد فأوجد موازين خاصة ومراتب للناس، وألغى فكرة التسوية بالعطاء، وأعطى الناس حسب مراتبهم عنده، حتى أنه لم يساو بالعطاء بين زوجات الرسول، فلعائشة أم المؤمنين، ولحفصة ابنته وأم المؤمنين درجة أعظم من أم سلمة مثلا، فكانت عائشة مثلا تأخذ اثني عشر ألفا، وكان المئات من الناس لا يحصلون على معشار هذا المبلغ، ونتيجة هذا الاجتهاد نشأت الطبقية فوجدت فئة يملك كل واحد من أفرادها الملايين، بل المليارات، ووجدت الملايين من الناس التي لا تدرك رغيف العيش إلا بشق الأنفس!! واكتشف الخليفة بعد بضع سنين خطورة الآثار المدمرة لاجتهاده، فصرح بأنه إن عاش العام المقبل سيرجع إلى سنة صاحبه ويوزع المال بالسوية، كما كان يفعل الرسول وأبو بكر!!!. ولا يخفى على عاقل.
بأن التسوية بالعطاء هي حكم شرعي صرح به النبي، وطبقه خلال حياته المباركة، ومن الطبيعي أن هذا الحكم أمر إلهي، لأن الرسول يتبع ويطبق ما يوحى إليه من ربه!! ومع هذا يتصرف الخليفة بهذا الحكم تصرف المجتهد الخبير الذي يتصور أن اجتهاده يمكن أن يكون أقرب للعدل، مما أمر الله به وطبقه رسوله. ويموت الخليفة العادل والناس على اجتهاده، وجاء اللاحقون فجعلوا اجتهاد الخليفة سنة نافذة، غير قابلة للتغيير!! لماذا! بحجة أنها قد جرت أمام الصحابة فلم ينكر عليه منكر!! أما سنة النبي فلم يسأل عنها أحد، ولم يطالب بإعادتها أحد!! وعلى هذا فقس ما تشاء من الأحكام والقواعد والمفاهيم الإسلامية وعرى الإسلام التي حلت كلها.
وهكذا صار الإسلام، والإيمان وكافة مضامينهما ومفاهيمهما غريبة تماما.
هذا على مستوى الدين.
أما على مستوى المسلمين المخلصين والمؤمنين الصادقين، فقد صاروا غرباء أيضا عن المجتمع، فهم كفئة جاءت من مجتمع آخر، وسكنت في المجتمع الجديد، واضطرت مكرهة أن تلتزم بقواعد وتوجهات المجتمع الجديد الذي استضافها، لقد عزلتهم دولة الخلافة عن الأكثرية المسلمة عزلا تاما، وشككت بولائهم لأمير المؤمنين ولدولته، وحرمت عليهم تولي الوظائف العامة لأنهم غرباء، وحرمت عليهم أن يكتبوا أو يرووا أو يحدثوا الناس بما سمعوه أو رأوه من رسول الله، باعتبارهم فئة تهدف إلى شق عصا الطاعة وتفريق الأمة المسلمة الواحدة!!!
فصارت الفئة المسلمة غريبة تماما عن المجتمع ويدها مشلولة وقدرتها محدودة على تغيير ما يجري في المجتمع.
لقد انقلبت الدنيا رأسا على عقب، فأعداء الله الذين قاوموا الرسول وحاربوه بكل وسائل الحرب، حتى أحيط بهم فاضطروا مكرهين للاستسلام وإعلان الإسلام صاروا قادة المجتمع وأمراؤه وخزنة أمواله وأساتذته، أما أولياء الله الذين وقفوا مع النبي في عسره ويسره، وحاربوا أعداءه وتلقوا وفهموا تعاليم الإسلام، فقد صاروا غرباء، محكومين، واضطروا أن يدخلوا الصفوف الابتدائية، ويتتلمذوا على يد.
الذين يجهلون الإسلام، والذين حاربوه بالأمس!!! وأن يقفوا في طوابير طويلة ليأخذوا ما تجود به أنفس الأمراء الجدد الذين كانوا أعداء الله بالأمس!!
إنها غربة الإسلام والإيمان، وغربة المسلمين المخلصين والمؤمنين الصادقين، تلك الغربة التي أخبر عنها النبي، وحذر منها قبل وقوعها بقوله: (إن الإيمان بدأ غريبا وسيعود كما بدأ، فطوبى للغرباء... (وبدأ الإسلام غريبا، ثم يعود غريبا كما بدأ...). (راجع معجم أحاديث المهدي ج 1 ص 71 ـ 77 تجد العشرات من مراجع هذين الحديثين الشريفين كصحيح مسلم، وابن ماجة، والترمذي، ومسند أحمد، وابن أبي شيبة، والبزار وغيرهم).
لقد عاشت الفئة القليلة المؤمنة غربة كغربة الفئة المؤمنة التي عاشت في المجتمعات التي سبقت عصر النبوة المحمدية. فمارست عباداتها سرا، ودعت لأمر الله سرا، وكتمت إيمانها، وانتظرت فرج الله لأن قيادة المجتمع قد كانت لها، وخرجت من يدها بالقوة والتغلب وبالكثرة، حيث جرت الأكثرية خلف مصالحها العاجلة، والفرق أن الفئة المؤمنة التي صارت غريبة بعد موت الرسول، صارت تعرف هدفها، وتعرف الوسيلة لتحقيق هذا الهدف، لذلك تجمعت حول أهل بيت النبوة ووالتهم كما أمرت، ونهلت منهم علوم الإسلام، وأخذت تدعو إلى الله ودينه سرا وتنمو يوما بعد يوم، وهدفها هداية الأكثرية الساحقة إلى الطريق القويم لتتحصن الأمة ضد الانحراف والمنحرفين، وعودة الحق والأمر إلى أهله الشرعيين، وإعادة حكم الله الحقيقي إلى الأرض.
4 ـ أئمة الضلالة وأعوانهم:
لغة وشرعا يطلق مصطلح الإمام على رئيس الأمة وهاديها ومرجعها ـ أي أمة ـ وتعني الإمامة الرئاسة العامة والمرجعية معا، وهي إما أن تكون إمامة بر وشرعية، كإمامة إبراهيم والأئمة من بعده، وإمامة محمد والأئمة الشرعيين من ولده تقود إلى الصراط المستقيم، وإما أن تكون إمامة فاجرة وغير شرعية سندها القوة والتغلب، كإمامة فرعون وغيره من أئمة الكفر تقود إلى دار البوار، وقد فصلنا كل ما يتعلق بهذين المصطلحين في كتابنا: (الإمامة والولاية) فارجع إليه إن شئت..
وما يعنينا أن رسول الله عندما لخص الموقف لأمته، وأخبرها بما هو كائن، وما سيكون، وحذرها من مغبة معصية توجيهاته وأوامره وطاعة أعداء الله وأعداء رسوله توقف طويلا عند أئمة الضلالة، الذين سيأتون من بعده، واعتبرهم ألد الأعداء، وأعظم الأخطار التي تتهدد الأمة الإسلامية من بعده لأنهم هم الذين سيبدأون بحل عرى الإسلام، وأول عروة سيحلونها هي نظام الحكم، ثم يستعينون بالسلطة والنفوذ فيحلون ما تبقى من عرى الإسلام، حتى لا تبقى فيه ولا عروة واحدة دون حل، وأن هؤلاء الأئمة لن يبقوا من الإسلام إلا اسمه، ومن القرآن إلا اسمه، ومن الدين إلا أشكاله ومظاهره الخارجية لغاية محددة، وهي المحافظة على ملك النبوة الذي اغتصبوه والتمتع بهذا الملك بعقلية وقلوب الجبابرة، ولكن بجبة وعمامة إسلامية!!! هذا هو الخطر الحقيقي الذي يتهدد الإسلام ويتهدد المسلمين، والذي توقف عنده النبي، وحذر منه وكرر التحذير، فقال مرة:
(لست أخاف على أمتي جوعا يقتلهم، ولا عدوا يجتاحهم، ولكني أخاف على أمتي قبيحهم، وتصدقوا كذبهم... (راجع الطبراني في الكبير ج 22 ص 362 ح 910 وص 373 و 934، والفردوس ج 2 ص 317 ح 3437، والجامع الصغير ج 2 ص 49 ح 4680، وكنز العمال ج 6 ص 67 ح 14876، وفيض القدير ج 4 ص 101 ح 4680، والمعجم ج 1 ص 29 ـ 30).
ووصفهم النبي مرة أخرى فقال: (لا تقوم الساعة حتى يبعث الله أمراء كذبة، ووزراء فجرة، وأمناء خونة، وقراء فسقة... (رواه البزار، والهيثمي في مجمع الزوائد ج 5 ص 233، والمعجم ج 1 ص 26).
وقد بين النبي الكريم أن أئمة الضلالة سيستغلون كل شيء لصالحهم، فالعطاء الذي فرضته الشريعة للمساعدة على تأمين الحاجات الأساسية لأفراد المسلمين سيحوله أئمة الضلالة إلى رشوة!! بمعنى أن أئمة الضلالة لن يعطوا أي مسلم عطاءه إلا إذا بايعهم، ورضي بجورهم وظلمهم وقبل بوجودهم، لذلك أمر رسول الله المسلمين أن يأخذوا العطاء ما دام عطاء، فإذا استغل أئمة الضلالة هذا العطاء فجعلوه رشوة للسكوت، فلا ينبغي أن يأخذ المسلمون هذا العطاء، ولكن الرسول قد أخبر الأمة بأنها ستأخذ العطاء، بالرغم من أنه رشوة، لأن الفقر والحاجة يمنع المسلمين من ترك العطاء. (راجع الطبراني في الصغير ج 1 ص 264، وحلية الأولياء ج 5 ص 165 ـ 166، وتاريخ بغداد ج 3 ص 398، ومعجم الأحاديث ج 1 ص 31 ـ 32). وأخبر الرسول المسلمين بمداهنة القراء، ونفاق العلماء وبعد أن أحكم أئمة الضلالة قبضتهم على الأمة، وسلبوها أمرها من غير مشورة، وبعد أن نقضوا عرى الإسلام كلها عروة عروة سخروا موارد الدولة وإمكانياتها، وأمروا ولاتهم وعمالهم وعلماء السوء أن يكذبوا على رسول الله وأن يختلقوا أحاديث تروى بطريقة فنية توجب على المسلمين، طاعة أئمة الضلالة، لأن طاعتهم عبادة بوصفهم خلفاء للنبي، وتحرم على المسلمين معصية أئمة الضلالة، لأن معصية أئمة الضلالة معصية لله، ومعصية الله معصية للرسول، ومن عصى الله والرسول فقد برئت منه الذمة، وأحل دمه حتى في الأشهر الحرم.
وأحكم أئمة الضلالة وأعوانهم الطوق عندما حرموا على أي مسلم أن يخرج عليهم مهما فعلوا. وسخر أئمة الضلالة كافة موارد الدولة وإمكانياتها لتعميم هذه الطاعة العمياء، وأدخلوها في مناهجهم التربوية والتعليمية، ورووا الأحاديث الكثيرة عن رسول الله، ومع الأيام والعادة والتكرار، صارت هذه القناعة التي لا يقبلها عقل جزءا من الدين نفسه.
قال أبو بكر الباقلاني القاضي المعروف في كتابه (التمهيد) باب ذكر ما يوجب خلع الإمام: (قال الجمهور من أهل الإثبات، وأصحاب الحديث: لا ينخلع الإمام بفسقه وظلمه بغصب الأموال وضرب الأبشار وتناول النفوس المحرمة وتضييع الحقوق وتعطيل الحدود ولا يجب الخروج عليه، بل يجب وعظه وتخويفه، فالأخبار متضافرة عن الرسول، وعن الصحابة في وجوب طاعة الأئمة).
وقال النووي في شروحه على صحيح مسلم بيان لزوم طاعة الأمراء ج 12 ص 229 من صحيح مسلم بشرح النووي ما يلي وبالحرف: (قال جماهير أهل السنة من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين: لا ينعزل الإمام بالفسق والظلم وتعطيل الحدود، ولا يخلع، ولا يجوز الخروج عليه بذلك، بل يجب وعظه وتخويفه، وأما الخروج على الأئمة وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين، وإن كانوا فسقة.
ظالمين)!!! أو أئمة مضلين، إن أطاعوهم فتنوهم، وإن عصوهم قتلوهم. (راجع مجمع الزوائد ج 5 ص 329 عن الطبراني، والجامع الصغير ج 2 ص 403 ح 7238 للسيوطي عن الطبراني، وكنز العمال ج 6 ص 22 ح 14671 عن الطبراني، وفيض القدير ج 5 ص 264 ح 7238 عن الجامع الصغير، ومعجم أحاديث الإمام المهدي ج 1 ص 35 ـ 36). لقد حذر الرسول كثيرا من الدجال، ولكن أكد للمسلمين أن الأئمة المضلين أخطر من الدجال، (راجع نص الحديث بمسند الإمام أحمد ج 1 ص 98 و ج 5 ص 145، وأبو يعلى ج 1 ص 359 عن ابن أبي شيبة، والفردوس ج 3 ص 131 ح 4163، ومجمع الزوائد ج 5 ص 238 ـ 239، والجامع الصغير للسيوطي ج 2 ص 201، ح 2 578، وكنز العمال ج 10 ص 191 ح 29008، وفيض القدير ج 4 ص 407 ح 5782 عن الجامع الصغير، ومعجم أحاديث الإمام المهدي ج 1 ص 33 ـ 34).
ووثق الرسول أثناء تحذيره الصلة بين الأئمة المضلين وبين الدجال، فقال: (إن طعام أمرائي بعدي مثل طعام الدجال، إذا أكله الرجل ينقلب قلبه). (راجع مسند أحمد ج 1 ص 98 و ج 5 ص 45، وابن أبي شيبة ج 5 ص 142 ح 19332).
وقد وصف رسول الله الأئمة المضلين فقال لأحد الصحابة: (أعاذك الله يا كعب بن عمرة من إمارة السفهاء. قال كعب: وما إمارة السفهاء؟ قال الرسول:
أمراء يكونون بعدي لا يهدون بهديي، ولا يستنون بسنتي، فمن صدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فأولئك ليسوا مني ولست منهم، ولا يردون على الحوض، ومن لم يصدقهم على كذبهم، ولم يعنهم على ظلمهم فأولئك مني وأنا منهم وسيردون علي الحوض... (راجع عبد الرزاق ج 11 ص 345 ـ 346 ح 20719، ومسند أحمد ج 3 ص 321 عن عبد الرزاق وص 329 و ج 5 ص 11 و ج 6 ص 395، والبزار عن حذيفة، والنسائي ج 7 ص 160، والطبراني في الكبير ج 4 ص 67 ح 3127 و ح 3628، والطبراني في الأوسط والحاكم ج 1 ص 78 ـ 79، ومعجم أحاديث الإمام المهدي ج 1 ص 23 ـ 25).
ووصفهم النبي مرة أخرى فقال: (ستكون عليكم أئمة يملكون أرزاقكم يحدثونكم فيكذبونكم، ويعملون ويسيئون العمل، لا يرضون منكم حتى تحسنوا إن أئمة الضلالة وأعوانهم في منتهى الدهاء والخبث، كما أخبر الرسول إنهم شياطين حقيقيون، سخروا كافة إمكانات الدولة ومواردها للتحريف والتبديل والخلط. لقد (جيروا) أو ظهروا لهم كما تجير وتظهر قسائم الشيكات كافة الحقوق التي رتبها الله للرسول وللأئمة الشرعيين من بعده، فصار إمام الضلالة يتمتع بنفس حقوق الطاعة والامتيازات التي يتمتع بها الرسول والأئمة الشرعيين الذين اختارهم الله وأعدهم وأهلهم لقيادة الأمة من بعده!! وانطلى خبث أئمة الضلالة على العوام!! فهل يعقل أن يحذر رسول الله من أئمة الضلالة، وأن يخبر المسلمين بأن أئمة الضلالة سينقضون عرى الإسلام كلها، وأنهم سينتهكون كل محرم، ويشردون ويطردون ويقتلون آل محمد وأهل بيت النبوة، وسيذلون المسلمين، ومع هذا يأمر الرسول بمكافأتهم على جرائمهم العظمى، فيعتبر طاعتهم كطاعته عبادة وواجبة، ومعصيتهم كمعصيته محرمة توجب العقوبة!!! ثم يحرم الخروج عليهم مهما فعلوا ويتركهم يتنفعون بظلمهم وفسقهم ومعاصيهم وإذلالهم للأمة والجلوس على رأسها!! فأي مجنون في الدنيا يصدق ذلك!!! وأي عقل يقره، وأي دين يأمر به!!!
ولكن ولأن أئمة الضلالة هم الحكام المالكون للسلطة والجاه والنفوذ والمتصرفون بشؤون الأمة تصرف المالك فقد اختلقوا هم وأعوانهم على الرسول، ووضعوا هذه الاختلاقات في مناهجهم التربوية والتعليمية، وفرضوا هذه المناهج على المسلمين، وأوجبوا عليهم التدين بها بالإكراه، وتناقلتها أجيال المسلمين، وروجت لها وسائل إعلام الدولة، وبحكم العادة والتكرار وبدعم متواصل من أئمة الضلالة وأعوانهم صارت العامة، الأكثرية الساحقة من الأمة، تعتقد بصواب هذا الاعتقاد، وتتعبد به، ولم يجرؤ الخاصة على الاعتراض. تلك معالم وشواهد وشواخص تكشف أئمة الضلالة وأعوانهم الذين نقضوا مجتمعين ومنفردين عرى الإسلام كلها، وأوردوا الأمة موارد الردى، وقدموا الدين بغير صورته الحقيقية، فحالوا بينه وبين الانتشار، وبين الأمم وبين الاستفادة من نوره المبين..
التناقض الصارخ بين الدين والواقع وبين المظاهر والحقائق:
1 ـ على صعيد الإمامة أو رئاسة الدولة: لقد أعد الله سبحانه وتعالى رسوله محمدا وأهله للنبوة والإمامة أو الرئاسة العامة للمسلمين واختاره لهذه المراتب لأنه الأفضل والأعلم والأفهم والأنقى والأقرب إلى الله، والأقدر على القيادة في تلك المرحلة، وتلك مواصفات ومؤهلات لا يعلمها علم اليقين إلا الله، وكلها مؤهلات ضرورية لتكون القدوة المثالية، وليتمكن من قيادة الأمة وفض ما يشجر بينها من مشكلات وفق الحكم الإلهي. ومن المفترض بعد وفاة النبي أن تنتقل الإمامة والرئاسة العامة لمن أعده الله ورسوله واختاره لهذه المهمة ليتابع طريق النبوة ويتم ما لم يتحقق من برامجها!! هذا هو التنظير الديني للرئاسة، وهذا هو حكم الدين. أما على صعيد الواقع فالأمر مختلف جدا فأبرز مؤهلات الذين خلفوا النبي برئاسة الدولة طوال التاريخ السياسي الإسلامي هو التغلب والقهر فأي شخص يغلب على الأمر أو الخلافة يتقلدها ويتنعم هو والذين أوصلوه لهذا المنصب بامتيازات الخلافة، فالمتغلب شخص عادي من جميع الوجوه فلم يدع أحد من الخلفاء التاريخيين أنه الأفضل أو الأعلم أو الأفهم أو الأتقى أو الأقرب إلى الله ورسوله بل وصرح أول الخلفاء بما يلي: (إني قد وليت عليكم ولست بخيركم)... فالخليفة الأول صادق في ما يقول، ويعترف صراحة وضمنا بأن بين المخاطبين المحكومين من هو خير منه، ومن هو أفضل منه، ومع هذا فقد ولي الخلافة رسميا وأصبح خليفة النبي والقائم مقامه واقعيا وعلى الأمة أن تسلم بذلك شاءت أم أبت، وأن تبايعه راضية أو كارهة لأنه لا بد للجماعة المؤمنة من رئاسة.
وهنا تقع المشكلات الكبرى فالسلطة الفعلية والأمر والنهي بيد الخليفة والقائم مقام النبي واقعيا أما الإمام الشرعي المؤهل والمختار إلهيا فهو مجرد مواطن عادي لا حول بيده ولا قوة، ويمكن للخليفة بإشارة من يده أن يطيح برأس الإمام الشرعي قبل أن يرتد إليه طرفه. بهذه الحالة، فإن الخليفة لا يعرف الحكم الشرعي ولا المقاصد الشرعية، ولا برامج النبوة، ولا معنى كل آية معرفة يقينية، هو يعرف ولكن ظنا وتخمينا، والخليفة ليس محيطا بالبيان النبوي ولا معدا أصلا ليكون خليفة وليس لديه علم يقيني لا بالماضي ولا بالحاضر ولا بالمستقبل لأنه أصلا غير معد لهذه الأمور، لقد جلس مجلسا ليس له وادعى أمرا فوق طاقته، وعلى الخليفة أن يدير أمور الدولة، فإذا رجع الخليفة للإمام الشرعي فإنه مضطر أن يرجع إليه في كل الأمور وفي ذلك حط من مقام الخليفة، واعتراف ضمني بعدم أهليته للحكم، واعتراف بأن الإمام الشرعي هو المؤهل الوحيد في زمانه لتولي الأمور. لكن الخليفة وأعوانه لن يستسلموا ولن يعترفوا بذلك فأول خطواتهم كانت تجاهل الإمام الشرعي تجاهلا كاملا والحط من مكانته، والتعتيم الكامل على مؤهلاته. ثم تسيير شؤون الحكم بالرأي لا بالشرع، فهم لا يعرفون الشرع، ولكنهم يعرفون الرأي، لذلك تركوا شرع الله الذي لا يعرفونه ولا يجيدون الحكم وفق أحكامه واجتهدوا أو اخترعوا أحكاما من آرائهم الشخصية لحل المشكلات التي كانت تواجه الخلفاء، وكان يصدف أن يطرح سؤال على الخليفة أو تعرض عليه مشكلة والإمام الشرعي موجود فيجيب الإمام الشرعي، ويقدم الحل للمشكلة أما الخليفة الساكت فيتبنى الخليفة جواب الإمام أو الحكم الشرعي الذي أعلنه الإمام إذا كان هذا الجواب أو الحكم لا يتعارض مع نظام الخليفة أو يمس بوجوده ووجود أعوانه. وكثيرا ما كان العامة ينتقدون آراء الخليفة وأحكامه، وكثيرا ما كان يصدر حكما أو رأيا اليوم وينقضه غدا ليتبنى رأيا وحكما آخر، لأنه لا يعرف الصواب على وجه اليقين ولا يعرف الأحكام الشرعية لذلك يبقى حبيس آرائه الشخصية واجتهاداته ليجد الحل أي حل لمشكلات الناس التي تعرض عليه.
والخلاصة أنه وحسب أحكام الدين فإن الإمام أو الرئيس من بعد النبي يتمتع بمؤهلات خاصة تجعله ملاذا للناس بمميزاته وقدراته التي تؤهله للإجابة على كل سؤال مطروح في العالم جوابا شرعيا يقينيا، وتجعله مثلا أعلى وقدوة للمحكومين ولأبناء الجنس البشري تماما كما كان النبي إلا أن الإمام ليس نبيا ولا يوحى إليه إنما هو وارث لعلمي النبوة والكتاب، ومسدد، وموفق إلهيا لأنه المكلف بتنفيذ البرامج الإلهية لهداية العالم كله، ولأنه مكلف ببيان وتنفيذ الحكم الشرعي على صعيد الأمة الإسلامية. هذا هو الإمام القائم مقام النبي شرعا وكما هو في الحق والحقيقة، وقد وجد مثل هذا الرجل المؤهل دائما، ولكن أئمة الضلالة حالوا بينه وبين ممارسة حقه الشرعي بالإمامة..
أما من الناحية الواقعية فالخليفة المتغلب الذي استولى على منصب الخلافة بالقوة والقهر والغلبة وكثرة الأتباع فليست له صفات ومؤهلات تميزه عن غيره من الناس، فهو رجل عادي من جميع الوجوه، ومؤهله الوحيد يكمن في القوة والتغلب، حتى إذا ما استولى على منصب الخلافة سخر إمكانياتها ومواردها لتجميل صورته، واختلاق مميزات خاصة له وإقناع الناس بالترغيب والترهيب أنه بالذات الشخص المناسب ليقوم مقام النبي وخلفائه.
والخليفة المتغلب يقر علنا بأنه ليس الأفضل ولا الأعلم ولا الأقرب لله ولرسوله، وأنه مجرد شخص عادي ليست له مميزات خاصة، ويقر أيضا بأن الأفضل والأعلم والأقرب للرسول موجود بالفعل ويقر أعوانه بكل ذلك تبعا لإقراره!!! ولكنهم يدعون بأن المسلمين قد قدموا المفضول وهو الخليفة على الأفضل وهو الإمام الشرعي لمصلحة قدروها في ذلك!!! والمقصود بالمسلمين هم الفئة التي جاءت بالخليفة المتغلب ودعمته حتى جعلته خليفة!! أما المسلمون الذين يعارضون هذا الخليفة فلا يعتد برأيهم، ولا يقام له وزن لأنه يفرق الأمة بعد توحدها!!
2 ـ الله سبحانه وتعالى شهد لأهل بيت النبوة بالطهارة، واعتبرهم أحد الثقلين فالقرآن الثقل الأكبر وأهل البيت هم الثقل الأصغر، والهدى لا يدرك إلا بالثقلين معا، والضلالة لا يمكن تجنبها إلا بالثقلين معا، والأمة تشهد أن الهاشميين هم الذين احتضنوا النبي وحموه وحموا دعوته طوال مدة الـ 15 سنة التي سبقت الهجرة، وأن بطون قريش مجتمعة قد حاصرت الهاشميين وقاطعتهم ولولا الهاشميين لقتلت بطون قريش رسول الله وبعد الهجرة وعندما جيشت بطون قريش الجيوش وحاربت الرسول كان الهاشميون هم أركان حرب الرسول وهم أول من قاتل ومنهم أول من قتل وبقي الهاشميون إلى جانب الرسول حتى استسلمت بطون قريش واضطرت مكرهة أن تعلن إسلامها، لهذه الأسباب مجتمعة ومنفردة ولأسباب تتعلق بحكمة الله وفضله جعل الله الصلاة على آل محمد ركنا من أركان الصلوات المفروضة على المسلمين، وفرض مودتهم على الناس، وفرض محبتهم. بعد موت النبي قالت بطون قريش أنها أولى بالنبي من آل محمد ومن أهل بيته ومن بني هاشم!!! وأن هذه البطون هي الوارثة الوحيدة لأموال النبي وسلطانه لأنه من قريش أما آل محمد وأهل بيته وبنو هاشم فليست لهم أية حقوق أو امتيازات خاصة، ولا يجوز لهم أن يتولوا الخلافة لأن محمدا من بني هاشم وقد أخذ الهاشميون النبوة ولا ينبغي لهم أن يجمعوا مع النبوة الخلافة فينالوا الشرفين، ويذهبوا بالفخرين، ويحرموا بطون قريش كذلك لا يجوز للهاشميين عامة ولا لأهل بيت النبوة وآل محمد خاصة أن يتولوا الوظائف العامة لأنهم سيستغلون هذه الوظائف للوصول إلى منصب الخلافة، وقد وثقنا ذلك في كتابينا: (نظرية عدالة الصحابة) والمواجهة مع رسول الله وآله وفوق ذلك وحتى لا يستغل آل محمد قرابتهم للنبي، وحتى لا يستميلوا القلوب ويؤلفوها من حولهم قرر الخلفاء أن يبقوا آل محمد في حالة عوز وحالة تبعية اقتصادية تامة، فحرموهم من تركة النبي، وصادروا الإقطاعات التي أقطعها لهم النبي حال حياته، وحرموهم من إرث النبي، ومنعوهم سهم ذوي القربى المخصص لهم بآية محكمة، وأعلن الخليفة الأول أنه على استعداد لتقديم المأكل والمشرب لآل محمد لا يزيدون عليه!!! وهكذا كان حصار الخلفاء لآل محمد رسول الله ولأهل بيته حصارا محكما وشاملا لكل نواحي الحياة!!! ولم يكتف الخلفاء بذلك لأنهم اعتبروا وجود آل محمد وأهل بيته خطرا على منصب الخلافة وقنبلة موقوتة لا يدري الخلفاء متى تنفجر لذلك طردوهم وشردوهم وقتلوهم تقتيلا، وإن جادل القوم بآل محمد وأهل بيته فلن يجادلوا أبدا بأن عليا بن أبي طالب وفاطمة الزهراء والحسن والحسين هم من آل محمد بل هم رأس وعماد آل محمد، ومع هذا فقد هددوا عليا بالقتل إن لم يبايع ثم قتلوه، وشرعوا بحرق بيت فاطمة بنت محمد على من فيه وفيه الحسن والحسين وذلك في اليوم الثاني لوفاة أبيها رسول الله، وعندما كبر الحسن قتلوه بالسم. وبقي الحسين وحيدا يضم تحت جناحيه آل محمد، ثم أخرجه الخلفاء ومن والاه من آل محمد، وقادوهم إلى حمراء لا ظل فيها ولا ماء، وحالوا بين آل محمد وبين ماء الفرات حتى لا يشربوا منه ويموتوا عطشا، ثم جهز الخليفة جيشا قوامه مائة ألف مقاتل أو ثلاثين ألف مقاتل بأقل الروايات وشن هذا الجيش هجوما ساحقا على الحسين ومن معه من آل محمد وأحفاده وأبناء عمومته وتمكن الجيش من إبادة كل من حضر من آل محمد، ولم يبق إلا الحسين، وكان بإمكان جيش الخليفة أن يأسر الحسين لأنه رجل واحد، ولكن هذا الجيش شن هجوما شاملا على ابن النبي وقتله شر قتلة وقطعه تقطيعا ونهب رحله، وساق بنات النبي، وبنات عمومته حفارى أسارى وبعد أن انتهت المعركة بانتصار جيش الخليفة، صلوا الفرائض ولم ينسوا أبدا بأن يصلوا على محمد وآل محمد، هم نظريا يصلون على محمد ويقتلون ابنه وأحفاده وأولاد عمومته!! وهم يصلون على آل محمد، ويقتلونهم!!
يصلون عليهم وبعد الانتهاء من الصلاة يستعدون لقتلهم ثم يقتلونهم، وبعد الانتهاء من القتل يصلون عليهم وهم يعتقدون أنه لا تناقض بين صلاتهم على النبي وقتلهم لابنه وأحفاده، ولا تناقض بين صلاتهم على آل النبي وقتلهم لأولئك الآل!!. وقد وقع في هذا التناقض حتى الخلفاء الراشدون، فقد أمر الخليفة الأول بحرق بيت فاطمة بنت الرسول على من فيه وفيه الحسن والحسين ابنا رسول الله، وقاد السرية التي تولت مهمة الشروع بحرق بيت فاطمة ولي عهد الأول والذي أصبح الخليفة الثاني وجمع الحطب تحت إشرافه، وأشعلت فيه النيران بأمره، وسمع بأذنه فاطمة بنت الرسول وهي تنادي بأعلى صوتها: (يا أبتي يا رسول الله) ولم يرمش له جفن حتى حقق ما أراد تماما، بعد ذلك عاد ولي عهد الأول والخليفة الثاني ومعه أركان دولة الخلافة فصلوا على محمد وآل محمد، مع أنهم قبل قليل قد شرعوا بحرق بيت بنت الرسول عليها وعلى ابنيه الصغيرين وهم أحب الناس إليه وصفوة آل محمد!! واعتقد الخليفة وولي عهده وأركان دولته أنه لا تناقض يذكر بين أفعالهم وبين حبهم للنبي وصلاتهم على محمد وعلى آل محمد!!!
وقد تقتضي مصلحة الخلفاء أو أوهام فيها مصلحة أن يسبوا ويشتموا ويلعنوا آل محمد، ويلزموا كل فرد من رعاياهم أن يلعن الآل الكرام أو يلعن عميدهم، وأن يقطعوا عطاء من يحبهم، أو يحكموا بالموت على من يواليهم كما فعل الخلفاء الأمويون، وخلال هذه المحنة الرهيبة كان الخلفاء الأمويون وأتباعهم يصلون على النبي وآل النبي، وكانوا يعتقدون أنه لا تناقض يذكر بين أفعالهم بآل محمد وصلاتهم على محمد وآله!!!.
3 ـ المؤمنون الصادقون الذين والوا رسول الله، وآله، ورافقوه في عسره ويسره وبذله له ولدينه النفس والنفيس، وجاهدوا في الله حق جهاده حتى نصر الله نبيه، وأعز دينه، وقامت دولة النبوة على أكتافهم، هؤلاء المؤمنون الصادقون قد استبعدوا تماما بعد موت النبي، وحرموا من تولي الوظائف العامة، ومن نشر علوم النبوة، وعزلوا عزلا تاما عند الناس وأصبحوا موضع شبهة، وصاروا غرباء بالوطن الذي بنوه حجرا فوق حجر، وأعداء بمقاييس الدولة الجديدة التي بنوا أساسها بالعرق والدم بحجة موالاتهم لآل محمد!!!
******************
أما الذين قاوموا الرسول، وعادوه قبل الهجرة، وتآمروا على قتله وحصروا الهاشميين وقاطعوهم، ثم جندوا الجيوش وحاربوا النبي بعد الهجرة، وقادوا جبهة الشرك، ورموا النبي بكل سهم في كناناتهم حتى أحيط بهم فاستسلموا واضطروا مكرهين لإعلان إسلامهم، وأخفوا تركة الصراع الهائل والمرير والطويل الذي دار بينهم وبين رسول الله!
بعد موت النبي مباشرة صاروا هم أركان دولة الخلافة وهم الأمراء، وهم الأساتذة، وهم أصحاب الأمر والنهي، ومن بيدهم السلطة الفعلية يتصرفون بالجاه والأموال والنفوذ على الوجه الذي يريدون بلا حسيب ولا رقيب، ويمكنون لأنفسهم في الأرض تحت سمع وبصر الخليفة الغالب، والمغلوب على أمره، ولكنه لا يريد الاعتراف بالحقيقة، كان كل واحد من قادة جبهة الشرك السابقين يتصرف بولايته تصرف المالك بملكه، ويضع البرامج والمناهج التربوية والتعليمية التي يراها مناسبة، لإحداث التبديل والتغيير، بما يخدمه ويرغم أنوف خصومه وهم أهل بيت النبوة، وقدامى محاربي الإسلام!! ورموزه وأعلامه الذين حرموا من تولي الوظائف العامة، واستبعدوا بالكامل!!
وعندما سئل الخليفة الثاني عن هول ما جرى، وعن سر استخدامه للمنافقين والفجار، وتركه لأولياء الله ورسوله؟ قال: (إننا نستعين بقوتهم وإثمهم على أنفسهم وقد وثقنا ذلك!!! فالمنافقون والفجار هم العناصر الوحيدة التي تملك القوة والقادرة على إدارة ملك الخليفة!!! أما أهل بيت النبوة، والسابقون في الإيمان، وقدامى المحاربين الذين هزموا بطون قريش وركعوا العرب كلهم فليست لديهم القوة لإدارة هذا الملك!!!
أمثلة حية على هذا الانقلاب
لا خلاف بين اثنين بأن أبا سفيان وأولاده هم الذين قادوا جبهة الشرك وحروبها العدوانية ضد رسول الله وضد دينه الإسلام، وأن أبا سفيان وأولاده قاوموا رسول الله بكل وسائل المقاومة، وحاربوه بكل فنون القتال، ويوم فتح مكة أحيط بهم، فاستسلموا واضطروا لإعلان إسلامهم فصاروا طلقاء، بعد موت النبي مباشرة تولى يزيد بن أبي سفيان قيادة الجيش الزاحف لفتح الشام، ولما مات يزيد خلفه أخوه معاوية، وترك معاوية واليا لبلاد الشام وهي أخطر ولايات دولة الخلافة مدة عشرين سنة يحكم كأنه ملك بلا رقيب ولا حسيب ويوطد لنفسه، ثم أصبح خليفة، وعهد بالخلافة لابنه يزيد، وجاء بعده حفيده معاوية الثاني. فكان التوطيد لأعداء الله مكافأة سخية على عداوتهم وحربهم لرسول الله!!!
والحكم بن العاص كان من ألد أعداء رسول الله، لعنه رسول الله. (راجع مجمع الزوائد للهيثمي ج 5 ص 241 وقال رواه أحمد بن حنبل والبزار والطبراني) وكان هذا معروفا للعامة والخاصة. قال الهيثمي في مجمع الزوائد ج 5 ص 241 أن عبد الرحمن بن أبي بكر قال لمروان: (إن رسول الله لعن أباك). وقال ابن عساكر (راجع كنز العمال ج 11 ص 358 والحاكم في مستدركه ج 4 ص 481) أن عبد الله بن الزبير قال وهو يطوف بالكعبة، ورب هذا البيت الحرام والبلد الحرام أن الحكم بن العاص وولده ملعونين على لسان محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفي الدر المنثور قال: أخرج ابن مردويه عن عائشة أنها قالت لمروان: (سمعت رسول الله يقول لأبيك وجدك أنكم الشجرة الملعونة في القرآن). لقد نفاه رسول الله لأنه من المرجفين. ومع هذا آلت الخلافة لذرية هذا الملعون يتوارثونها بينهم، مع أن رسول الله قد حذر المسلمين منه ومن ولده، ومن جملة تحذيرات الرسول أنه قد قال: (إن هذا، يعني الحكم، سيخالف كتاب الله وسنة نبيه وسيخرج من صلبه فتن يبلغ دخانها السماء، وبعضكم يومئذ شيعته)، رواه الدارقطني (راجع كنز العمال ج 11 ص 166 وابن عساكر ج 11 ص 36؛ والطبراني ج 11 ص 167).
وقد تواترت الأنباء عن رسول الله التي تؤكد بأن أشد العرب بغضا لرسول الله وآله هم بنو أمية، ووقائع التاريخ تؤكد صحة هذه الأنباء فقد ساد الأمويون أعداء الله، وقاد الهاشميون أولياء الله، ونتيجة الحروب الطاحنة، جرى القتل وتكونت الأحقاد الأموية. وربما لهذا السبب صار الأمويون بطانة الخلفاء الأول ثم أصبحوا خلفاء!! فكراهية آل محمد هي الوسيلة العملية للتقدم والوصول إلى السلطة، وموالاة آل محمد هي معيار وسبب الغربة والعزلة!! إن هذا لأمر عجاب!!
هذا على مستوى الخلافة، أما على مستوى ولايات الأعمال والأقاليم فنأخذ مثلا عبد الله بن أبي سرح فهو الذي افترى على الله الكذب، وهو عدو الله وعدو رسوله، لقد أمر الرسول بقتله ولو تعلق بأستار الكعبة، ويوم فتح مكة أمر الرسول بالبحث عنه وقتله، فلجأ ابن أبي سرح إلى أخيه في الرضاعة عثمان بن عفان، فغيبه عثمان وأخفاه، وفي يوم من الأيام بعد الفتح بفترة جاء به عثمان إلى رسول الله فاستاء منه، فصمت رسول الله طويلا، ثم قال نعم فلما انصرف عثمان قال النبي لمن حوله: ما صمت إلا ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه! فقال رجل فهلا أومأت إلي يا رسول الله؟ فقال النبي: إن النبي لا ينبغي أن تكون له خائنة أعين. (راجع ترجمة ابن أبي سرح في الاستيعاب لابن عبد البر ج 4 ص 378 والإصابة لابن حجر ج 2 ص 309، وأسد الغابة ج 3 ص 173).
وأصبح ابن أبي سرح طليقا ومن المؤلفة قلوبهم، الذين كان يعطى لهم سهم من الصدقات لأنهم منافقون وضعاف إيمان وحتى يصرفوا وبعد موت الرسول مباشرة صار عبد الله بن أبي سرح من أصفياء الخلفاء كما وثقنا، ومن أهل الحل والعقد، وأسندت إليه إمارة ولاية مصر وهي تاج الولايات الإسلامية، ومر حين من الدهر كان فيه ابن أبي سرح الرجل الثالث في الدولة الإسلامية، مع أنه الأظلم بنص القرآن، ومفتر على الله بنص القرآن ومع أنه عدو لله ولرسوله!!
هذا هو فريق القيادة، وهذه هي الكوادر الفنية التي حلت عرى الإسلام وأسست ورسمت معالم عصر ما بعد النبوة، فوضعت مناهجها التربوية والتعليمية، وفرضتها على المسلمين قرابة قرن من الزمان، خلطوا خلاله الأوراق.
خلطا عجيبا فبدلوا وعدلوا، ولم يبق من الإسلام إلا كتاب الله وأهل بيت النبوة، لمواجهة برامج تربوية وتعليمية قد استقرت في النفوس، فألغت دور كتاب الله وما وصل إلينا من السنة النبوية وعملت على تجميل أفعال تلك الكوادر، وإضفاء طابع الشرعية والمشروعية على وقائع التاريخ، لقد اختلط الحابل بالنابل فلا تدري أيا من أي!!! (فلم يبق من القرآن إلا رسمه، ولا من الإسلام إلا اسمه، يسمون به وهم أبعد الناس عنه، مساجدهم عامرة وهي خراب من الهدى، فقهاء ذلك الزمان شر فقهاء تحت السماء، منهم خرجت الفتنة وإليهم تعود).
هذا هو وصف رسول الله لواقع الأمة بعد أن حلت عرى الإسلام كلها.
(راجع ثواب الأعمال وعقابها ج 4 ص 301، وجامع الأخبار ص 129 فقرة 88 والبحار ج 52 ص 190، ومنتخب الأثر للرازي ص 472 ف 6 ب 2 ومعجم الإمام المهدي ج 1 ص 44 ـ 44)، أنت أمام جاهلية حقيقية أكثر شرا من الجاهلية الأولى كما ذكر رسول الله. (راجع معجم الإمام المهدي ج 1 ص 44).
وهكذا حدث كما أخبر به رسول الله، واقترفت تلك الكوادر كافة ما حذر منه! فقال: قال الرسول يوما لأصحابه: (إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود كما بدأ فطوبى للغرباء، رواه مسلم وابن ماجة والطبراني. (راجع كنز العمال ج 2 ص 177). قال النووي: أي أن الإسلام بدأ في آحاد من الناس وقلة، ثم انتشر وظهر ثم سيلحقه النقض والاخلال حتى لا يبقى إلا في قلة وآحاد أيضا. (راجع صحيح مسلم بشرح النووي ج 2 ص 177)..
الفصل الرابع
المهمة الكبرى للمهدي المنتظر
بعد انتقال النبي الأعظم إلى جوار ربه، واستيلاء بطون قريش على منصب الخلافة بالقوة والتغلب، وحيازتها الفعلية للملك الذي تمخضت عنه النبوة، حدثت تغييرات هائلة وشاملة وجذرية، طالت كل شيء كان النبي قد مسه، فنقلته من مكان إلى آخر، وعدلت وبدلت فيه، حتى غيرت حقيقته تماما ولم يبق منه إلا اسمه أو رسمه الإسلامي.
فقد حلت عرى الإسلام كلها سريعا عروة بعد عروة، ورفعت مضامينه ومفاهيمه الجوهرية من واقع الحياة تماما أو حيدتها!! ولم يبق من الإسلام إلا اسمه والإطار العام أو الشكل اللازم لبقاء الملك، وتوسيع رقعة المملكة أو الامبراطورية ولكن باسمه، أما الإسلام الحقيقي بجوهره ومضمونه فقد صار غريبا، لا يعرفه المجتمع أبدا!! ولا شيء يدل عليه أو يرمز إليه إلا الفئة المؤمنة القليلة والمتكونة من آل محمد وأهل بيته وقدامى المحاربين المؤمنين الذين قامت دولة النبوة على أكتافهم، وانتشرت دعوة الإسلام بسيوفهم وألسنتهم، وصحبوا النبي فأحسنوا الصحبة ووالوه فأخلصوا بالولاء، واستوعبوا ووعوا علوم الإسلام، فلما مات النبي تمسكوا بالقرآن وبأهل بيت النبوة كما أمروا فنقمت عليهم دولة الخلافة، وصبت جام غضبها عليهم فعزلتهم مع أهل بيت النبوة، وحرمت عليهم.
تولي الوظائف العامة وكممت أفواههم، وضيقت عليهم معيشتهم، ونفرت الناس منهم، فأذلوا وعزلوا تماما وصاروا غرباء كغربة الإسلام والإيمان!! وهم من عناهم النبي بقوله: (فطوبى للغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس). (راجع سنن الدارمي ج 2 ص 311 ـ 312 وصحيح مسلم ج 1 ص 130 وصحيح الترمذي ج 5 ص 18) اسم الإسلام ورسمه، والقرآن الكريم بين دفتين، وأهل بيت النبوة، والفئة القليلة المؤمنة الغريبة المستضعفة هم جميعا كل ما تبقى من الإسلام، وعمق الشعور بالإحباط وجذر المصيبة وضاعفها أن دولة الخلافة قد أجبرت أهل بيت النبوة وآل محمد وقدامى المحاربين وكافة أفراد الفئة المؤمنة على الجلوس على مقاعد التلاميذ وقصرت دورهم على الاستماع والموافقة، بعد أن سلمت الإمرة والقيادة ومنصب (الاستاذية والتعليم) إلى القضاء وحديثي العهد بالإسلام المتأخرين بالقوة وأمرتهم، وأخرت المتقدمين السابقين بالقوة وأجبرتهم على الاعتراف بأنهم متأخرون بالقوة أيضا!!!
ولم تكتف بذلك إنما خلطت الأوراق خلطا عجيبا!! فلم يعد المراقب المنصف يدري بالفعل أيا من أي كما قال الرسول وحذر!!
وهكذا اقتصرت مهمة الدين على حراسة تاريخ عصر ما بعد النبوة وإثبات شرعية وقائعه وظواهره التي تمخضت عنها الحركة السياسية لمسيرة الخلفاء المتغلبين من بعد النبي!!! وهرولت وراءهم الأكثرية الساحقة من الأمة طمعا برغيف العيش وبقيا منها على الحياة وتربت هذه الأكثرية تحت قبة الرأي والتأويل المفضي مباشرة إلى فقه الهوى، ونشأ فقه الهوى بالفعل وصار هو القانون النافذ في المجتمع، وتمكن هذا الفقه من النفوس، وظهر أو أظهر بصورة الدين الإسلامي وثوبه، وألقى هذا الفقه أجرانه في ديار الإسلام!! فعليك أن تقبل به وبتاريخ ما بعد النبوة معا، أو ترفض الدين وهذا التاريخ معا!! فهما وجهان لعملة واحدة، وكل جيل كان يسلم راية فقه الهوى للجيل الذي يليه، فأشربت قلوب المسلمين كليات وتفاصيل هذا الفقه بما كسبت أيديهم، وكانت الأجيال كلها تتحرك تحت أشراف وسطوة الخلفاء المنقلبين الذين صنعوا هذا الفقه ورعوه..
ومنه استمدوا شرعية وجودهم وسلطتهم!!
ومع أن المسلمين يعترفون بأن عرى الإسلام كلها قد حلت عروة بعد عروة، وأنه لم يبق من الإسلام عروة بدون حل!! وهم يعترفون أيضا بأن الإسلام قد أخرج من واقع الحياة ومسرحها وصار تاريخا، وهم يقرون أن الإسلام والإيمان والمسلمين والمؤمنين الصادقين قد صاروا جميعا غرباء، وأن حكم الله قد رفع من الأرض، وأن الأمة الإسلامية لم تعد أمة وسطا وأنها لم تعد مؤهلة لتكون الشاهدة على الناس، وكان هذا واضحا للناس جميعا من اللحظة التي أصبح فيها الذين عادوا الله ورسوله هم الحكام والمعلمون وأجبر أهل بيت النبوة وأولياء الله ورسوله على أن يكونوا تابعين ومحكومين ومقتصر دورهم على الإصغاء والسكوت أو مواجهة الموت الزؤام!!
مع أن المسلمين يعرفون كل ذلك معرفة تامة، ويقرون بحدوثه ووقوعه إلا أنه ليست لأحد من المسلمين الرغبة لمعرفة: من الذي فكك الإسلام، وحل عراه، وتسبب بإخراجه من واقع الحياة، وجعله والمتمسكين به في حالة غربة وهو صاحب الدار، ومن الذي مكن أعداء الله والمتأخرين من أن يصبحوا هم القادة وفرض على أهل بيت النبوة وقدامى المحاربين المؤمنين والفئة المؤمنة التأخر والذل؟!!
مع أن معرفة أولئك الذين تسببوا بكل هذه المصائب أمر ضروري!!
وتشخيص لا بد منه لوصف الدواء!!
وإذا رغب المسلمون بمعرفة من الذي فعل بهذه الأمة هذه الأفاعيل، وتسبب بدمار الإسلام والمسلمين فإن رغبتهم تصطدم مع فقه الهوى الذي أشربته قلوبهم، وحسب قواعد هذا الفقه، فإن طاعة ومحبة الذين حلوا عرى الإسلام وجعلوه غريبا واجبة، ومعصيتهم، أو كراهيتهم، أو الخروج عليهم حرام بالإجماع!!!! فمحبتهم واجبة وهم أموات، والاقتداء بهم دين حتى وإن كانوا مخطئين!!
وهكذا تصطدم الرغبة بتشخيص الداء ومعرفة الأعداء بفقه الهوى الذي تمكن من النفوس واستقر فيها بعد 14 قرنا من المداومة على حفظه على ظهر قلب والإيمان به وتصطدم مع اللاشعور المسكون بالرعب والخوف من سيوف المتغلبين وأعوانهم، والخشية من قطع العطاء، والحرمان من الجاه والنفوذ!! فلا شعور الأمة ما زال تحت سطوة معاوية والخلفاء الأمويين.
لهذا كلما سأل المسلم نفسه التساؤلات التي طرحناها قبل قليل يسيطر على قلبه وسمعه وعقله عالم لا شعوره المملوء بالرعب والعائش بالفعل تحت سلطة معاوية وحكمه، عندئذ يلعن هذا المسلم الشيطان ويعود لنفس الدائرة التي سجن المسلمون فيها أنفسهم طوال التاريخ!!!
فنكون أمام مشكلة حقيقية مستعصية الحل، فلو عاش الناس مليون قرن فلن يخرجوا من هذه الدائرة التي سجنوا أنفسهم فيها، ولن تفارقهم أشباح الرعب التي تتحكم بلا شعورهم!! فنحن أمام عقبة كبرى لا يمكن أن يقتحمها إلا نبي أو ولي مجرب ومدعوم إلهيا، وبما أن محمدا هو رسول الله وخاتم النبيين ولا نبي بعده، فيكون الولي العارف المجرب المطلع هو القادر على حل مشكلة المسلمين واجتياز هذه العقبة الكؤود، وإخراجهم من الدائرة التي سجنوا أنفسهم فيها.
وقد اختار الله سبحانه وتعالى عبده محمد بن الحسن ليكون هو المهدي المنتظر، لحل المشكلة العالمية من عقالها وتجاوز العقبة، وإخراج الناس من دائرة التقليد الأعمى (إنا وجدنا آباءنا على أمة) إلى دائرة الإبداع الملتزم! وقد وهب الله تعالى للمهدي المنتظر عمرا طويلا، وقدرة هائلة على التنقل والاستيعاب، والتخفي، فهو يعيش بين الناس، ويفهم كليات وتفاصيل ما يجري في العالم وهو ينتظر اكتمال الأسباب وأمر الله له بالظهور والخروج فعندما يخرج المهدي المنتظر تكون أسباب النجاح قد هيئت تماما، فيقوم المهدي المنتظر بإعادة الأمور إلى نصابها الشرعي تماما، ويدوس على الخلط بقدمه، ويفرز الأوراق عن بعضها البعض، ويضع النقاط على الحروف ويسمي الأشياء بأسمائها، ويقدم الإسلام على حقيقته للعالم، فتزول الغشاوات عن العيون، والرين عن القلوب، ويشكل المهدي حكومته العالمية من المؤمنين الصادقين أصحاب القوة والأمانة من رجال العالم ونسائه، وتصبح كل أقاليم العالم (دولة) ولايات لدولته، ويصبح كل أبناء الجنس البشري رعايا ومواطنين في دولته.
تعاملهم بكل المحبة والاحترام لا فرق بين لون ولون أو بين عرق وعرق، أو بين قوم وقوم، وتؤول إلى خزينة دولة المهدي كافة موارد العالم الاقتصادية، فيوزعها بين الناس بالسوية دون أن يميز أحدا عن أحد، لأن الحاجات الأساسية لبني البشر متشابهة، وخلال عهده تعطي السماء كل بركاتها، وتخرج الأرض كل كنوزها وخيراتها ويقصم المهدي كل جبار في الأرض. ويتحرر الإنسان من الخوف والعوز معا، وتتفتح أمام أبناء الجنس البشري أبواب ومنافذ العصر الذهبي الدنيوي الذي لا يضاهيه عصر في الدنيا، فلا عدوان ولا بغي ولا ظلم، ولا خوف ولا عوز، ولا مرض ولا قلق...
هذه هي الخطوط العريضة لتوجهات المهدي المنتظر واتجاهاته وهذه هي المهمة الكبرى التي اختار الله عبده المهدي لإنجازها وهذا هو المهدي الذي طالما بشر به النبي، ووعد المؤمنين والجنس البشري بالخلاص على يديه، وهذا هو خاتم الأئمة الذين اختارهم الله لقيادة العالم!.
الباب الثاني
الاعتقاد بالمهدي المنتظر
الفصل الأول
الاعتقاد بالمهدي المنتظر
شيوع هذا الاعتقاد وانتشاره:
شاع الاعتقاد بحتمية ظهور المنقذ (المهدي) وانتشر في كافة أرجاء المعمورة، وأخذ أشكالا مختلفة، ولكنها تتعلق بالمآل بذات الفكرة. وسلمت بفكرة ظهوره كافة التيارات الكبرى في كافة المجتمعات البشرية القديمة.
وأجمعت على حتمية هذا الظهور الطلائع المستنيرة من أتباع الديانات السماوية الثلاث، وعلى الأخص الديانة الإسلامية، والطلائع المستنيرة من أتباع الملل الأخرى الشائع بين الناس بأنها غير سماوية.
فعلى الرغم من اختلافهم في المنابت والأصول واختلاف عقائدهم وتوجهاتهم وأديانهم، ومصادر معارفهم، إلا أنهم قد اتفقوا على حتمية ظهور المنقذ، وأن هذا المنقذ مختلف ومميز من جميع الوجوه، وآمنوا بقدرته على الإنقاذ، واعتقدوا بأن عهده هو عهد العدل والكفاية والعزة، تلك هي الفكرة الرئيسة التي لا خلاف عليها، والتي شاعت وانتشرت على مستوى العالم، وطوال التاريخ البشري. وتوارثتها الأجيال جيلا بعد جيل.
ويتعذر على أي باحث منصف، في مجال الفكر السياسي العالمي أن يتجاهل حجم ومدى شيوع هذا الاعتقاد وانتشاره، حيث يجد له موقعا في كافة العقائد والأديان..
حقيقة هذا الاعتقاد:
من العسير على أي باحث موضوعي، بل على أي إنسان سوي الفطرة أن يتصور ولو للحظة واحدة بأن هذا الإجماع العالمي على الفكرة الرئيسة، قد حدث جزافا أو أنه وليد وهم أو خرافة أو أسطورة، أو أن هذا الإجماع كان صدفة!! لأن الثابت بأن هذا الاعتقاد بالفكرة الرئيسة له منابع ومصادر دينية وعقلية وتاريخية وواقعية تؤكده وتؤيده، وتجمع عليه وتنفي بالضرورة صلة هذه الفكرة الرئيسة بالوهم أو بالأسطورة أو بالصدفة، ومن الممكن حدوث زيادة أو نقصان أو اختلاط الاجتهاد بالتفاصيل، أما الفكرة الرئيسة المتمثلة بظهور المهدي المنقذ، فهي فكرة أصيلة وصحيحة ومتواترة، ويعتقد بها أتباع الديانات السماوية الثلاث، كما يعتقد بها غيرهم من أتباع الملل الأخرى الشائع بيننا، بأنها غير سماوية، ويعتقد بها عقلاء وفلاسفة العالم، ويرسلها الجميع إرسال المسلمات، ويعتبرها أتباع كل عقيدة جزءا لا يتجزء من عقيدتهم، تقرأ معها، وتحسب عليها. تلك هي طبيعة القوة التي يتمتع بها هذا الاعتقاد.
تعدد أشكال ونماذج هذا الاعتقاد:
مع أن كافة العقائد والديانات السماوي منها وغير السماوي قد أجمعت على حتمية ظهور المهدي المنقذ، وعلى تميز هذا المنقذ، وقدرته الفائقة على الإنقاذ، وأن عهده الزاهر هو المأمول، إلا أنها اختلفت في التفاصيل، وهذا الاختلاف ناتج عن وضوح فكرة الظهور أو غموضها في أذهان معتنقيها، فبعضهم يرى بأن مهمة المهدي تنحصر في إنقاذ هذا المجتمع أو ذاك فهو منقذ خاص لجماعة من الناس من حيث المبدأ!! بينما يرى البعض الآخر، بأن مهمة المهدي منصبة على إنقاذ العالم كله إنقاذا شاملا، وإقامة دولة عالمية، تصبح أقاليم العالم كله ولايات لها، وأبناء الجنس البشري، بمختلف ألوانهم وأعراقهم رعايا لها، وأصحاب القوة والأمانة من رجال العلم ونسائه هم قادة تلك الدولة وأمرائها. دولة عالمية تحقق العدل المطلق، والرخاء التام، والاكتفاء الذي لا عوز معه، والسعادة لجميع أبناء الجنس البشري، ولم نر مثل هذه الرؤيا الشمولية إلا في الإسلام، ربما لأنه آخر الأديان، ولأنه المرشح بطبيعته ليكون الدين العالمي الأوحد..
وكما اختلفت العقائد والديانات، بحجم ومدى عملية الإنقاذ، اختلفت أيضا في تحديد من هو المهدي بالفعل؟ وأين يظهر؟ ومتى يكون زمن ظهوره؟
ويكمن سر هذا الاختلاف في أن هذه التساؤلات من تفاصيل الفكرة الرئيسة، وأن هذه التفاصيل قد خضعت للزيادة والنقصان وللاجتهاد لدى الأغلبية من أتباع الملل الأخرى، وبالتالي تعدد منابع ومراجع المعلومات التي بنيت تلك التفاصيل على أساسها، أو لعدم وثوق بعضها. فقد اكتفت الديانة اليهودية، أو ما وصل إلى علمنا منها على الأقل، بتأكيد الفكرة الرئيسة، والإشارة العامة إلى أصول المهدي، وأنه من نسل إسماعيل، وأنه أحد اثني عشر عظيما، وأشارت أيضا إلى الظروف والمخاطر التي أحاطت بولادة هذا المنقذ العظيم، وصرحت بأن الله تعالى قد غيب هذا المنقذ ليحفظه، ثم يظهر في اللحظة المناسبة، وبالرغم من إجمال تلك المعلومات، إلا أنها على جانب كبير من الأهمية، كما سنرى. أما الديانة المسيحية فقد أشارت إلى عهد الظهور، وأبرزت من هذا العهد ظهور السيد المسيح، فركزت عليه تركيزا خاصا، وأهملت ما سواه.
أما الديانة الإسلامية، وهي أحدث وآخر الديانات السماوية، فقد غطت نظرية ظهور المهدي تغطية كاملة، فعلى الرغم من المحنة التي تعرض لها الحديث النبوي، حيث منعت كتابته وروايته مدة طويلة من الزمن، إلا أن ما وصلنا من الأحاديث النبوية قد وصف المهدي وصفا دقيقا، وحدد علامات ظهوره تحديدا واضحا، ووصفت مهمته موضوعيا كما سنرى.
وهذا الاختلاف بين العقائد والأديان على التفاصيل بعد الاتفاق على الفكرة الرئيسة أفرز نماذج وأشكالا متعددة، للاعتقاد بالمهدي المنتظر، أو المنقذ الأعظم، وسنستعرضها بما أمكن من الإيجاز طمعا باستكمال دائرة البحث.
أشكال هذا الاعتقاد:
1 ـ عند اتباع الملل الأخرى (غير السماوية)
لقد اعتقد الزرادشتيون بفكرة الظهور، واعتقدوا أن المنقذ الذي سيظهر هو بهرام شاه. واعتقد المجوس بعودة أرشيدو، واعتقد البوذيون بعودة بوذا، واعتقد.
الاسبان بعودة ملكهم روذريق، واعتقد المغول بعودة جنكيز خان، وقد وجد مثل هذا الاعتقادات عند قدماء المصريين وفي كتب الصينيين القديمة. راجع المهدية في الإسلام سعيد محمد حسن ص 43، 44 وقائم القيامة للدكتور مصطفى غالب ص 270 والمهدي المنتظر في الفكر الإسلامي إصدار مركز الرسالة ص 8، 9.
والملفت للانتباه أن أصحاب تلك المعتقدات الآنفة الذكر قد آمنوا بفكرة ظهور أشخاص كانوا معروفين بعد ما اختفوا في ظروف اكتنفها الغموض. لقد اتفق أصحاب تلك الاعتقادات على حالات اختفاء لرجال مشهورين جدا، ثم آمنوا بحتمية عودتهم وظهورهم لغايات الإنقاذ وتحقيق أهداف يتوقف تحقيقها على وجودهم بالذات!!
2 ـ عند اليهود والنصارى
لقد آمن اليهود بهذا الاعتقاد (ظهور المهدي) قال كعب الأحبار: مكتوب في أسفار الأنبياء: (المهدي ما في عمله عيب) قال سعيد أيوب الكاتب المصري الشهير في ص 370 ـ 380 من كتابه المسيح الدجال ما نصه: (وأشهد أني وجدت كذلك في كتب أهل الكتاب، لقد تتبع أهل الكتاب أخبار المهدي كما تتبعوا أخبار جده محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فأشارت أخبار سفر الرؤيا إلى امرأة يخرج منها اثنا عشر رجلا، وأشار إلى امرأة أخرى وهي تلد الأخير. وجاء في سفر الرؤيا 12 / 3 (والتنين وقف أما المرأة الأخيرة حتى تلد ليبتلع ولدها متى ولدت) وجاء في سفر الرؤيا 12/5 (واختطف الله ولدها وحفظه أي أن الله قد غيب هذا الطفل). وذكر سفر الرؤيا أن غيبة هذا الغلام ستكون ألفا ومائتي سنة وهي مدة لها رموزها عند أهل الكتاب، وقال باركلي عن نسل المرأة عموما: (إن التنين سيعمل حربا شرسة مع نسل المرأة)، وجاء في سفر الرؤيا 12/13 (فغضب التنين على المرأة وذهب ليصنع حربا مع باقي نسلها الذين يحفظون وصايا الله).
ولا تنطبق أوصاف المرأة الأولى ونسلها إلا على السيدة الزهراء ونسلها عمداء أهل بيت النبوة الأعلام، فقد طاردتهم السلطة (التنين) طوال التاريخ. أما المرأة الثانية وطفلها فلا تنطبق أوصافهما إلا على المهدي وأمه، فالمهدي هو حفيد.
الزهراء، وقد ترقب العباسيون ولادته يوما بيوم حتى يقتلوه، لأنهم قد عرفوا أنه المهدي المنتظر، ولكن الله سبحانه وتعالى نجا الطفل وغيبه بالفعل ليحفظه، وليهئ الأسباب لإقامة دولته العالمية، ثم يظهره. ويؤيد ما ذهبنا إليه ما جاء بسفر التكوين 17/20: (وأما إسماعيل فقد سمعت قولك فيه، وها أنا أباركه وأنميه، وأكثره جدا جدا، ويلد اثني عشر رئيسا، وأجعله أمة عظيمة) ومن المسلم به أن رسول الله محمد من نسل إسماعيل، وأن عمداء أهل بيت النبوة الاثني عشر هم ذرية النبي وعصبته، وأنهم أعلام الأمة وورثة علمي النبوة والكتاب، فإذا لم يكن هؤلاء العمداء هم الرؤساء المعنيون، فمن هم الرؤساء إذن؟ ومن هو الأولى منهم بالنبي، أو الأقرب إليه منهم؟ بل ومن هم ورثته غيرهم؟ قد يقول قائل ربما كان المقصود من الاثني عشر رئيسا (الخلفاء) الذين تعاقبوا على رئاسة دولة الخلافة التاريخية، وحسب تسلسلهم الزمني!! وهذا غير معقول لأن بعضهم قد هدم الكعبة، واستباح المدينة المنورة أموالا وأعراضا، وأعلن كفره جهارا ونهارا، وبعضهم قد نفذ خطة لإبادة المؤمنين الصادقين!! فهل يعقل أن يعد الله سبحانه وتعالى برئاسة مثلهم، وأن يباركهم، ويعتبر رئاستهم منة ونعمة!! وقد يقال أن الاثني عشر هم الصفوة المنتقاة من الخلفاء التاريخيين!! ولكن ما هو الدليل على ذلك؟ ومن هم المخول بانتقائهم؟
ثم إنا لو وزنا الخلفاء التاريخيين بموازين الشرع الحنيف لما صمد منهم ربع هذا العدد!! وقد يقال بأن الرئيس هو الملك فعلا!! لقد كان النمرود ملكا كان إبراهيم مواطنا في مملكته!! فمن هو العظيم والرئيس بالمعايير الشرعية هل هو إبراهيم أم النمرود الطاغية!!! لقد عاصر كل الأنبياء ملوكا بيدهم الحول والطول فهل كان الملوك هم الرؤساء العظماء، وهل كان الأنبياء عامة!! إن العبرة بالرئاسة هي الأهلية والمرجعية الشرعية فالأنبياء، والأولياء هم الرؤساء الذين اختارهم الله وفقا لموازين عدله وفضله، والملوك المتجبرون هم الذين فرضوا أنفسهم على العباد بالغلبة والقهر فخرجوا وأخرجوا الناس من دائرة الشرعية والمشروعية الإلهية.
وما يعنينا في هذا المقام هو حتمية الصلة بين الرؤساء الاثني عشر من نسل إسماعيل الذين وعد الله بهم وبين أئمة أهل بيت النبوة الكرام. ويعنينا أيضا هو النصوص الواردة بالأسفار بأن الله سبحانه وتعالى قد غيب الرئيس الثاني عشر.
ليحفظه ويوطد له، ثم يظهره، وتنطبق تلك الأوصاف انطباقا تاما على العميد الثاني عشر من عمداء بيت النبوة وهو محمد بن الحسن حفيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وهنالك إشارة في سفر أرميا 46 / 2 ـ 11 تتحدث عن قائد إسلامي عظيم يقود جند الله، وينتقم من أعداء الله عند نهر الفرات وهو المكان الذي ذبحت لله فيه (ذبيحة) ولا تنطبق أوصاف هذا... وتتبنى الديانة المسيحية بالطبع نفس الإشارات الواردة في الأسفار عن المهدي المنتظر، وتؤمن بفكرة الظهور، ومع أن ظهور المهدي يتزامن ويتكامل مع نزول السيد المسيح إلا أن اعتقاد المسيحية منصب بالدرجة الأولى والأخيرة على السيد المسيح، ويتجاهل ما سواه!! واعتقد مسيحيو الأحباش بعودة ملكهم ثيودور كمهدي في آخر الزمان.
3 ـ عند بعض فلاسفة اليهود والنصارى في العصر الحديث
قال الفيلسوف الانكليزي (برتراند راسل) إن العالم بانتظار مصلح يوحد العالم تحت علم واحد وشعار واحد. راجع المهدي للسيد الشهرستاني ص6 والمهدي المنتظر في الفكر الإسلامي ص9.
وقال أينشتاين صاحب النظرية النسبية المشهور (إن اليوم الذي يسود العالم كله الصلح والصفا ويكون الناس متحابين ليس ببعيد). راجع المهدي الموعود ودفع الشبهات للسيد الشهرستاني ص 7، والمهدي في الفكر الإسلامي ص9.
وقد بشر به الفيلسوف الانكليزي (برنارد شو) في كتابه الإنسان والسوبرمان، وعلق عباس محمود العقاد على هذه البشرى بالقول: (يلوح لنا أن سوبرمان (شو) ليس بالمستحيل، وأن دعوته إليه لا تخلو من حقيقة ثابتة). راجع برنارد شو لعباس محمود العقاد ص 124 ـ 125 والمهدي في الفكر الإسلامي ص9.
وأنت تلاحظ أن راسل يبرز حاجة العالم للمصلح، وانتظار العالم لذلك المصلح، بينما يتحدث أينشتاين عن بعض مظاهر عهد ذلك المصلح وبشرى برنارد شو سندها العقل المستند إلى فكرة عالمية موروثة ومتواترة.
الفصل الثاني
المهدي المنتظر في الإسلام
احتل الاعتقاد بالمهدي مكانة بارزة في الإسلام كدين، على صعيدي القرآن والسنة المطهرة، فقد برزت نظرية الاعتقاد بالمهدي المنتظر بصورتها الكاملة والواضحة والبعيدة عن التوهم والغموض. حيث أكد دين الإسلام حقيقة وصحة هذا الاعتقاد العالمي المتواتر، ثم أبرز كلياته وتفاصيله الدقيقة، وأزال ما لحق بهذا الاعتقاد من نقص وزيادة وتوهم واجتهاد، وأبقى على الحقائق النقية القادرة على الوقوف في كل زمان، ووضع تحت تصرف عشاق الحقائق المجردة نظرية متكاملة واضحة تغطي بالكامل كل ما يتعلق بالاعتقاد بالمهدي المنتظر، فما من سؤال في هذا المجال إلا وتجد له في الإسلام جوابا مستندا إلى القرآن الكريم أو السنة المطهرة. وقد قدم الإسلام هذه النظرية كجزء لا يتجزأ من النظام السياسي الذي أنزله الله على عبده ومصطفاه محمد صلى الله عليه وآله وسلم. فالمهدي المنتظر عند شيعة أهل بيت النبوة هو الإمام الثاني عشر من الأئمة أو القادة الشرعيين الذين اختارهم الله سبحانه وتعالى وأعلنهم النبي كقادة للأمة، ويجمع أهل السنة (شيعة الخلفاء) على صحة وتواتر قول رسول الله بأن الأئمة أو الخلفاء أو الأمراء أو النقباء أو القادة العظام من بعده اثنا عشر، وأخالهم بالضرورة يعتبرون المهدي المنتظر أحدهم. ثم إن أهل بيت النبوة وهم أحد الثقلين ومن والاهم قد أجمعوا على أن الاعتقاد بالمهدي الموعود المنتظر هو جزء لا يتجزأ من دين الإسلام، ثم أن الخلفاء التاريخيين ومن والاهم قد أجمعوا أيضا على أن الاعتقاد بالمهدي المنتظر هو جزء من عموم المعتقدات الإسلامية المنبثقة عن القرآن الكريم والسنة المطهرة والتي أجمعت الأمة على صحتها. فإن المنكر لهذا الاعتقاد هو بحكم المنكر لما هو ثابت من الدين، وقد ألف المتقي الهندي (ت 975 ه‍) صاحب كتاب كنز العمال كتابا عنوانه (البرهان في علامات مهدي آخر الزمان) أورد فيه فتاوي المذاهب الأربعة في زمانهم وهم ابن حجر الهيثمي الشافعي وأحمد أبي السرور بن الصبا الحنفي، ومحمد بن محمد الخطابي المالكي، ويحيى بن محمد الحنبلي، وقال:
(إن هؤلاء هم علماء أهل مكة وفقهاء الإسلام على المذاهب الأربعة، ومن راجع فتاواهم علم علم اليقين أنهم متفقون على تواتر أحاديث المهدي، وأن منكرها يجب أن ينال جزاءه، وصرحوا بوجوب ضربه وتأديبه وإهانته حتى يرجع إلى الحق رغم أنفه، ـ على حد تعبيرهم ـ وإلا فيهدرون دمه) (البرهان على علامات مهدي آخر الزمان ص 178 ـ 183 والمهدي المنتظر في الفكر الإسلامي ص 41 ـ 42).
الاعتقاد بالمهدي المنتظر عند المسلمين:
شق الاعتقاد بالمهدي المنتظر طريقه بيسر وسهولة إلى قلوب كل المسلمين وعقولهم، واعتبره المسلمون جزءا من عقيدتهم الإسلامية وحكما من أحكامها، وواحدا من تعاليمها كالتسبيح أو التهليل أو الصلاة أو الصوم أو الإيمان بالغيب.
فكافة المسلمين مع اختلاف منابتهم وأصولهم وتوجهاتهم السياسية وثقافاتهم المختلفة يعتقدون بحتمية ظهور المهدي المنتظر في آخر الزمان، وأن هذا المهدي من عترة النبي، وأن عهده من أزهى العهود حيث سيملأ الأرض عدلا، وسينقذ الأمة الإسلامية والعالم كله إنقاذا شاملا، وأن الله تعالى سيرد بالمهدي الدين، ويفتتح له العالم كله، وأنه سينشر الرخاء في الأرض. وقد اعترف بهذه الحقيقة حتى المتشككين بهذا الاعتقاد. فابن خلدون مثلا أحد المتشككين ومع هذا فهو يشهد قائلا: (إعلم أن المشهور بين الكافة من أهل الإسلام على ممر العصور أنه لا بد في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت يؤيد الدين، ويظهر العدل، ويتبعه المسلمون، ويستولي على الممالك الإسلامية ويسمى المهدي.
(راجع تاريخ ابن خلدون ج 1 ص 555 الفصل 52). وأحمد أمين الأزهري المعروف من المتشككين أيضا بهذا الاعتقاد ومع هذا فهو يشهد قائلا: (وأما أهل السنة فقد آمنوا بها أيضا) أي آمنوا بحقيقة المهدي. (راجع كتابه المهدي والمهدية.
ص 41) وبعد أن أدلى بشهادته ساق قول ابن خلدون الآنف الذكر. فإذا كانت هذه شهادة المتشككين فيعني أن شيوع هذا الاعتقاد وانتشاره بين كافة المسلمين العامة والخاصة من الحقائق الإسلامية المسلم بصحتها على مستوى المسلمين جميعا، وليس بإمكان عاقل أن يتجاهل عموم وشمول هذا الاعتقاد لكافة أتباع الملة الإسلامية. وقد أدرك الحكام الذين استولوا على قيادة الأمة طوال التاريخ السياسي الإسلامي، خطورة هذه الفكرة على حكمهم، وقدرتها الفائقة على شق طريقها إلى قلوب المسلمين، ودور هذه الفكرة بنقد الظلم وفضح الظالمين، فسخروا كافة موارد الدولة التي استولوا على قيادتها للتشكيك بالفكرة الأساسية تمهيدا لاقتلاعها من جذورها!! ومع أن الحكام قد نجحوا نجاحا ساحقا بحل عرى الإسلام كلها عروة بعد عروة، ومع أنهم قد نجحوا بإخضاع الأمة لمشيئتهم، إلا أنهم قد فشلوا فشلا ذريعا باقتلاع الاعتقاد بالمهدي المنتظر من قلوب الناس وعقولهم، بل إن هذا الاعتقاد كان يترسخ ويتجذر طرديا كلما زاد ظلم الحكام وبطشهم، ويزداد المسلمون يقينا بحتمية ظهور المهدي!!. وتوارثت الأجيال هذا الاعتقاد، وتوارثت صلته الحميمة بالدين الإسلامي.
مصادر ومنابع الاعتقاد بالمهدي المنتظر:
لقد استمد المسلمون الاعتقاد بالمهدي المنتظر واستقوه من منبع أو مصدر واحد وهو الإسلام. فالاسلام هو الذي جاء بنظرية المهدي بكل تفاصيلها وكلياتها، وهو الذي كلف أتباعه ومعتنقيه بالاعتقاد بها، والالتزام التام بهذا الاعتقاد كغيره من المعتقدات النابعة من صميم الإسلام.
ويعنى الإسلام على الصعيد القانوني أو الحقوقي (الآمر والناهي والمحلل والمحرم) كل ما جاء به القرآن الكريم، وبيان النبي لهذا القرآن سواء أكان البيان بالقول أو بالفعل أو بالتقدير، ويسمى هذا البيان بالسنة المطهرة. وكل واحد من هذين المصدرين مكمل للآخر، ولا غنى لأحدهما عن الآخر، لأن أولى مهمات النبي أن يبين للناس ما نزل إليهم من ربهم بيانا قائما على الجزم واليقين.
ولأن الإسلام آخر الأديان السماوية، ولأن محمدا خاتم النبيين فقد أجاب الإسلام على كافة التساؤلات البشرية في ما مضى، وفي ما يأتي، وغطى كافة.
الاحتياجات الإنسانية على كل الأصعدة اللازمة لنمو الحياة الإنسانية وتطورها ورقيها، فما من شيء، على الإطلاق إلا وجاء به القرآن، وبينه النبي بالقدر الذي يستوعبه كل المكلفين وتصديق ذلك قوله تعالى في سورة النحل آية 89 (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء).
وأحكام الإسلام وتعاليمه ما شرعت لمعالجة مشكلات قومية أو إقليمية إنما هي منصبة بالأصل على معالجة مشكلات العالم كله بأرضه وسكانه، وكانت الوحدة التاريخية والدينية والسياسة للعالم هي محور عناية واهتمام الإسلام. حيث وضع الإسلام تحت تصرف العالم نظاما حقوقيا لا مثيل له ومعجز، ووضع تحت تصرف العالم أيضا قيادة سياسية وروحية لا مثيل لها. فالإمام القائد في زمانه هو الأفضل وهو الأعلم وهو الأقرب لله ولرسوله، فإذا أراد العالم أن يهتدي فعليه بموالاة القيادة الإلهية والعمل بالنظام الإلهي فهما ثقلان يتكامل أحدهما مع الآخر ويتمم أحدهما الآخر وهذا هو المقصود الشرعي من حديث الثقلين.
وشاءت حكمة الله أن يكون المهدي هو آخر جيل القيادة الإلهية المسماة، وهو الذي سيتولى توحيد العالم دينيا وسياسيا ويترجم جهد الأنبياء وخاتمهم ويحقق هدفهم بتحقيق وحدة العالم الدينية والسياسية. بحيث تكون كل أقاليم الكرة الأرضية ولايات لدولته وكل سكان المعمورة رعايا لتلك الدولة، وكل أهل القوة والأمانة من رجال العالم ونسائه بطانة له يستعين بهم لتنفيذ النظام الإلهي، فيكون عهده الزاهر عهد الرخاء الذي حلم به النبيون، وعهد العدل الذي جاهد لتحقيقه النبيون، والنموذج الرمز لوحدة الجنس البشري التي بشر بها النبيون.
ورمز انتصار الحق على الباطل على المستوى العالمي عبر الصراع الطويل بينهما وهنا يكمن سر تركيز الإسلام تركيزا خاصا على نظرية المهدي المنتظر، وتكمن عناية النبي الفائقة بإبرازها وتوضيحها والتبشير بها، بل ويكمن سر فخره بالمهدي المنتظر لأنه المؤهل إلهيا لعملية التغيير الكبرى ولأنه ابنه وقرة عينه وحفيده.
والخلاصة أن الإسلام بركنيه الكتاب والسنة هما المصدر والمنبع الوحيد للاعتقاد بالمهدي المنتظر، وعلى ذلك أجمع المسلمون..
الفصل الثالث
المهدي المنتظر في القرآن الكريم
لكي نجد المهدي في القرآن:
قال تعالى وهو أصدق القائلين: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء) (سورة النحل، آية: 89)، ومعنى هذا أنه ما من شيء على الإطلاق إلا وقد بينه الله في هذا القرآن.
لكن عملية استخراج وتحديد بيان كل شيء، أو أي شيء في القرآن الكريم عملية فنية من جميع الوجوه، بمعنى أنها تحتاج إلى رجل مؤهل إلهيا، ومختص ومزود بالقدرة على معرفة مواضع بيان أي شيء في القرآن الكريم. وهنا يكمن سر التكامل والترابط العضوي الوثيق بين كتاب الله المنزل، ونبي الله المرسل، فالكتاب يحتوي بيان كل شيء، والنبي يعرف حصة كل شيء من هذا البيان معرفة يقينية وبلا زيادة ولا نقصان أي تماما على الوجه الذي أراد الله.
لذلك كانت مهمة الرسول الأساسية منصبة على بيان ما أنزل الله، قال تعالى مخاطبا نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) وقال تعالى: (وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه) (سورة النحل، الآيتان 44 و 64). فلا يعرف بيان الكتاب لأي شيء على الوجه اليقيني القاطع إلا النبي، أو الشخص المؤهل إلهيا القائم مقام النبي بعد وفاته. ولأن الرسول خاتم النبيين، ولأن الإسلام آخر دين، ولأنه لا بد من بيان القرآن، فقد خصص الله سبحانه وتعالى اثني عشر إماما، أو خليفة، أو نقيبا، أو أميرا وسماهم بأسمائهم،.
وعهد إليهم ببيان القرآن خلال الفترة الواقعة بين موت النبي وقيام الساعة. فكل واحد من هؤلاء الاثني عشر مخول ومؤهل ليكون المختص الوحيد لبيان القرآن وقيادة العالم في زمانه.
فالقرآن كمعجزة بيانية باقية ببقاء الحياة الدنيا، له أسلوبه البياني الخاص، فكلمة الصلاة يعرفها جميع البشر بأنها تعني الدعاء، وقد تكررت هذه الكلمة في القرآن الكريم عشرات المرات، دون تفصيل ولا بيان محدد لما ينبغي أن يقال فيها، لقد ترك القرآن كافة هذه الأمور والتفصيلات لبيان النبي، ويعتقد كل المؤمنين أن الله تعالى هو الذي أوحى للنبي وعلمه كافة هذه الأمور. هذا حال الصلاة وهي عماد الدين، ويقال مثل ذلك عن الزكاة والحج والصوم والشهادة، وهي أركان الإسلام، وكل ما يحتج به المسلمون بهذه الأمور وأمثالها يسندونه للرسول، وقد توخى القرآن من ذلك في ما توخى إبراز التكامل والترابط العضوي الوثيق، بين ما أنزله الله وما بينه نبيه، وإبراز الخط العام المتمثل بأن النبي يوحى إليه، وهو يتبع ما يوحى إليه تماما، وأن طاعة الرسول كطاعة الله، ومعصية الرسول كمعصية الله، وموالاة الرسول كموالاة الله، واتباع أوامر الرسول تماما كاتباع أوامر الله، ومخالفة أوامر الرسول هي مخالفة لأوامر الله، وهي تهدف في ما تهدف لخلق حالة نفسية عند المسلمين تقد بتميز الرسول، أو القائم الشرعي مقامه بعد وفاته كشخص مختص بالبيان، وأن مكانته لا ترقى إليها مكانة، وأن علاقتهم به هي التجسيد العملي لعلاقتهم بالله سبحانه وتعالى، فكل قول دون قوله، وكل مكانة دون مكانته، وكل فهم دون فهمه، فمن يتجاوز قول النبي وفهمه أو أمره ونهيه، ومن يعتقد أن (اجتهاده) أو رؤيته للأمور الدنيوية، أو الأخروية هي أقرب للصواب مما بين النبي، فهو منحرف وضال كائنا من كان، صحابيا أم خليفة. ثم إن تسليم مفاتيح بيان ما أنزل من بعد النبي إلى الأئمة الأعلام من أهل بيت النبوة الذين ورثوا علمي النبوة، فيه إبراز لمكانتهم، وتقديم لقولهم وفهمهم على كل قول وفهم، لأن الواحد منهم لا يقول برأيه، فإذا حدث فإنما يحدث بحدود علمي النبوة، والكتاب، وبنفس الوقت تأكيد نفسي لاستمرار وجود النبي، لأنهم بنوه وأحفاده..
الآن يمكننا أن نتعرف على المهدي في القرآن الكريم:
بعد هذه التوضيحات التي سقناها، فإننا وبحدود علمنا لا ندعي بأن مصطلح (المهدي المنتظر) أو سام (محمد بن الحسن) قد وردا في القرآن الكريم صراحة ولكن يمكننا أن نتلمس الآيات الكريمة، التي تشير إلى المهدي المنتظر في القرآن الكريم.
ولن نتلمس ذلك في الآثار الواردة عن الأئمة الأعلام من أهل بيت النبوة الذين ورثوا علمي النبوة والكتاب، لأن القسم الأكبر من المسلمين تربوا تربية ثقافية خاصة أساسها التشكك بكل ما يرد عن طريق أهل بيت النبوة، والقول بأفضلية غيرهم عليهم، أو تقديم غيرهم عليهم لحكمة (شرعية). ولكن طمعا بالشمول والاحاطة نقول أن الجزء الخامس من كتاب: (معجم أحاديث الإمام المهدي) الذي ألفته ونشرته مؤسسة المعارف الإسلامية في قم والذي أشرفت على إعداده نخبة من العلماء الأعلام، وقد اشتمل هذا الجزء الواقع في 530 صفحة كاملا على الآيات المفسرة لوجود المهدي، وجاء في الجزء توضيحا لذلك ما يلي: (أن المقصود بالآيات المفسرة في هذا المجلد الروايات التي وردت في تفسير آيات، أو تأويلها، أو تطبيقها، أو الاستشهاد بها بحيث ترتبط بقضية الإمام المهدي بعنوانه الخاص أو العام).
وقد تضمن هذا المجلد 220 آية من القرآن الكريم منبثة في 79 سورة من سوره، مشفوعة بقرابة 220 رواية مروية عن أئمة أهل البيت تثبت علاقة المهدي المنتظر بهذه الآيات، وارتباطها الوثيق بقضيته وبعصره، وقدرنا أن أذهان العامة وثقافتهم لا تحتمل تلك التأويلات ولا ترقى إليها، لأن العامة قد أشربت ثقافة التاريخ ومناهجه التربوية والتعليمية المناهضة بالضرورة لخط أهل بيت النبوة، لذلك قصرنا اهتمامنا على ما توصلت إليه العامة في هذا الموضوع.
أمثلة من القرآن الكريم:
1 ـ قال تعالى: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) (سورة التوبة، الآية: 33).
قال الرازي في التفسير الكبير ج 16 ص 40: (واعلم أن ظهور الشيء على غيره قد يكون بالحجة، وقد يكون بالكثرة والوفور، وقد يكون بالغلبة والاستيلاء، ومعلوم أنه تعالى بشر بذلك ولا يجوز أن يبشر إلا بأمر مستقبل غير حاصل، وظهور هذا الدين بالحجة مقرر معلوم، فالواجب حمله على الظهور بالغلبة).
والمروي عن قتادة كما يقول السيوطي في الدر المنثور ج 4 ص 176 (ليظهره على الدين كله) قال: الأديان الستة: (الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا) (سورة الحج، الآية: 17) فالأديان كلها تدخل في دين الإسلام.. فإن الله قضى بما حكم وأنزل أن يظهر دينه على الدين كله ولو كره المشركون، وفي تفسير ابن جزي ص 252: (وإظهاره جعله أعلى الأديان وأقواها حتى يعم المشارق والمغارب) وهذا هو المروي عن أبي هريرة كما نص عليه جملة من المفسرين، (تفسير الطبري ج 14 ص 215، والتفسير الكبير ج 16 ص 40، وتفسير القرطبي ج 8 ص 121، والدر المنثور ج 4 ص 176 راجع المهدي المنتظر في الفكر الإسلامي ص 22).
وفي الدر المنثور: وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر، والبيهقي في سننه عن جابر في قوله: (ليظهره على الدين كله) قال: لا يكون ذلك حتى لا يبقى يهودي ولا نصراني صاحب ملة إلا الإسلام، (راجع الدر المنثور للسيوطي ج 4 ص 175). وعن المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله يقول: (لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا وبر إلا أدخله كلمة الإسلام، إما بعز عزيز، أو بذل ذليل. إما يعزهم فيجعلهم من أهله فيعزوا به وإما يذلهم فيدينون له). (راجع مجمع البيان ج 3 ص 35).
لم يتم الإظهار:
حتى الآن لم يظهر الإسلام على الدين كله لا من حيث كثرة الأتباع ولا من حيث الغلبة. صحيح أن الإسلام ظاهر على الدين كله من حيث الحجة، لكن الوعد الإلهي يشمل الإظهار مطلقا، وهذا ما لم يحدث حتى الآن، وبما أن وعد الله حق، وأنه لا يخلف الميعاد، فلا بد أن يأتي زمن تتولى القيادة الإسلامية المدعومة بالتوفيق الإلهي إظهار الإسلام على الدين كله، بحيث يكون الإسلام هو الدين الرسمي للعالم.
الآية دالة على ظهور المهدي المنتظر:
قال الطبرسي في مجمع البيان ج 5 ص 35: (ومن هنا ورد في الأثر عن الإمام الباقر بأن الآية مبشرة بظهور المهدي في آخر الزمان، وأنه بتأييد من الله تعالى سيظهر دين جده صلى الله عليه وآله وسلم على سائر الأديان، حتى لا يبقى على وجه الأرض مشرك وهذا هو قول السدي المفسر المعروف).
قال القرطبي في تفسيره ج 8 ص 121، والرازي في التفسير الكبير ج 16 ص 40 قال السدي: (ذلك عند خروج المهدي لا يبقى أحد إلا دخل الإسلام) أي أن الله سبحانه وتعالى يظهر الإسلام على الدين كله في عهد المهدي. وأهل بيت النبوة الذين ورثوا علمي النبوة والكتاب مجمعون على ذلك، ومن المستحيل أن يجمعوا بغير دليل، أو قناعة، لأنهم أحد الثقلين ولأن المهدي المنتظر هو خاتم الأئمة عندهم، وقناعتهم مطلقة بأن الله تعالى: (قد فتح بهم (أي بالنبي) ويختم بهم (أي بالمهدي).
2 ـ قال تعالى: (ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب) (سورة سبأ، الآية: 51). أخرج الطبري عن حذيفة بن اليمان أن المعنى في هذه الآية منصب على الجيش الذي سيخسف به، وقد تواترت الأحاديث بأن جيشا سيرسل للقضاء على المهدي، وأنه سيخسف بهذا الجيش، وهذا الخسف لم يحصل للآن، وحدوثه مرتهن بظهور المهدي. (راجع تفسير الطبري ج 2 ص 72، وعقد الدرر 84 ب 4 من الفصل الثاني، والحادي للفتاوي للسيوطي ج 2 ص 81، والكشاف للزمخشري ج 3 ص 467 ـ 468).
3 ـ قال تعالى: (وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم) (سورة الزخرف، الآية: 61)..
لقد ذكر البغوي في معالم التنزيل ج 4 ص 444 والزمخشري في الكشاف ج 4 ص 6 والرازي في التفسير الكبير ج 27، والقرطبي في تفسيره ج 16 ص 105 والنسفي بهامش تفسير الخازن ج 4 ص 108 وتفسير الخازن ج 4 ص 109 وابن كثير في تفسيره ج 4 ص 124 وتفسير أبي السعود ج 8 ص 52 بأن هذه الآية بخصوص نزول عيسى بن مريم، وقال مثل ذلك مجاهد تفسير مجاهد ج 2 ص 583 وإلى هذا أشار السيوطي في الدر المنثور ج 6 ص 20، وقال أخرجه ابن حنبل وابن أبي حاتم، والطبراني وابن مردويه وسعيد بن منصور عن ابن عباس.
وقال الكنجي الشافعي في كتابه البيان في أخبار صاحب الزمان ص 528:
(قال مقاتل بن سليمان ومن تابعه من المفسرين في تفسير قوله عز وجل: (وإنه لعلم الساعة) هو المهدي يكون في آخر الزمان وبعد خروجه يكون قيام الساعة وإماراتها).
وتجد مثل ذلك في الصواعق المحرقة لابن حجر ص 162 ونور الأبصار للشبلنجي الشافعي ص 186، وينابيع المودة للقندوزي الحنفي ج 2 ص 126 باب 159.
وقد ذكر القندوزي الحنفي في كتابه ينابيع ج 3 ص 76 باب 71 الكثير من الآيات التي فسرها أئمة أهل بيت النبوة بالإمام المهدي وظهوره، (راجع المهدي المنتظر في الفكر الإسلامي ص 21 ـ 25). ومن يمعن النظر يجد أن في القرآن الكريم الكثير من الآيات التي حملت وعودا إلهية دنيوية، وربط تحققها بتوافر ظروف موضوعية معينة، وفق معايير خاصة لا تعرف إلا بالبيان النبوي، ومن استعراض الحادثات التاريخية واستقراء الشرع الحنيف، وما وصل إلينا من الآثار المروية عن الأئمة الأطهار من أهل بيت النبوة يتبين لنا أن الكثير من الوعود الإلهية الدنيوية مرتبط تحقيقها بعصر ظهور المهدي، وقيادة هذا المهدي. فإذا ظهر الإمام المهدي وآلت قيادة الأمة إليه تبدأ عملية ترجمة الوعود الإلهية من النظر إلى التطبيق ومن الكلمة إلى الحركة، لأن ظهور المهدي سيكون في آخر الزمان، ومن أشراط قيام الساعة، ومن المحال عقلا أن تقوم الساعة ولا ينفذ الله وعوده لأنه.
أصدق القائلين، ولأنه لا يخلف الميعاد. كل هذه الظروف تجعل من البيان النبوي المفتاح لكل غموض، والطريق الفرد إلى اليقين، في كل متشابه والأساس لكل المعارف الدينية التي صاغت نظرية المهدي المنتظر في الإسلام، والتي بشرت بعصر الظهور. وهذا يستدعي بالضرورة وقفة مطولة عند كل ما صدر عن الرسول حول المهدي المنتظر بالذات وحول عصر ظهوره..
******************
الفصل الرابع
المهدي المنتظر في البيان النبوي أو السنة المطهرة
التكامل وعمق الارتباط بين القرآن الكريم والسنة النبوية:
القرآن الكريم وبيان النبي لهذا القرآن (السنة النبوية) وجهان لعملة واحدة أو لشيء واحد، فلا يعرف أحدهما إلا بالآخر، ولا يفهم أحدهما فهما يقينيا إلا بالآخر، ولا تستقيم الحياة إلا بالاثنين معا. لقد اقتضت حكمة الله وطبيعة الإسلام كآخر دين، وطبيعة رسالة النبي، كخاتم للنبيين أن يكون التكامل والترابط بين القرآن والبيان النبوي مطلقا، فالنبي خلال حياته المباركة هو المالك الشرعي واليقيني لمفتاح بيان القرآن، ومعرفة المقاصد الإلهية من كل نص من نصوصه، وحرف من حروفه يفيض على الناس من هذه المعارف بحجم تطورهم واستيعابهم. وقد أعده الله تعالى وأهله لهذه المهمة.
وأتم الله نعمته وأكمل دينه يوم أعد وأهل وخصص (طواقم) فنية مهمتها القيادة والبيان من بعد النبي، وهم الأئمة الكرام من أهل بيت النبوة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وأعلن الله تعالى في القرآن الكريم بأن القرآن كتاب كريم لا يمسه إلا المطهرون، أي لا يعرف معناه ولا يجيد بيانه إلا المطهرون وهم أهل بيت النبوة، وبين النبي معنى هذه الآية وحدد من هم آل بيت النبوة بكل وسائل التوضيح والبيان، وفي اجتماع عام للمسلمين أعلن الرسول أن حجته تلك هي حجة الوداع، وأنه لن يلقى المسلمين بعد هذا العام، وأنه وبمجرد عودته إلى المدينة سيمرض وسيموت في مرضه، وأنه أراد أن يلقي القول معذرة للمسلمين، وأنه قد ترك من بعده ثقلين أحدهما كتاب الله وهو الثقل الأكبر وثانيهما أهل بيت النبوة، وهم الثقل الأصغر، وأن الأمة لن تهتدي إلا إذا تمسكت بالثقلين معا، ولا يمكن أن تتجنب الضلالة إلا بتمسكها بالاثنين معا، ثم سأل النبي المسلمين المجتمعين في غدير خم قائلا: ألست وليكم؟ ألست مولاكم؟ فأجاب المسلمون بلسان واحد، بلى يا رسول الله أنت ولينا ومولانا!! فقال الرسول: من كنت وليه فهذا علي بن أبي طالب وليه، ومن كنت مولاه فهذا على مولاه. وفهم المسلمون المغزى، وجلس علي وتقدم المسلمون واحدا واحدا وبايعوه بالولاية وقدموا له التهاني، وعرفوا بأن عليا هو أول أئمة أهل بيت النبوة، وأن الإمام من بعده هو ابنه الحسن، وأن الإمام من بعد الحسن هو ابنه الحسين، وأن نظام الولاية والقيادة من بعد النبي قد انتظم، فالقائم من الأئمة يعهد بالإمامة لمن يليه وفقا لترتيب ألهي عهد الله به لنبيه وعهد النبي به لأول الأئمة. وقد وثقنا كل ذلك في كتابينا: (المواجهة مع رسول الله وآله) ونظرية عدالة الصحابة، فارجع إليهما إن شئت للتيقن من إجماع أصحاب الحديث على كل ما ذكرناه.
الانقلاب والتنكر التام للرسول ولبيانه ولأهل بيته الكرام:
بطون قريش التي قاومت النبي وعادته طوال ال15 سنة التي قضاها في مكة قبل الهجرة، وحاربته طوال مدة 8 سنوات بعد الهجرة، ثم اضطرت مكرهة للدخول في الإسلام شكلت وأعوانها الأكثرية في المجتمع المسلم. لم ترق هذه الترتيبات الإلهية التي أعلنها الرسول لتلك البطون. وبنفس الوقت فإن البطون قد أدركت بأن النبوة قد تمخضت عن ملك عريض، لذلك طمعت البطون بهذا الملك، وخططت لغصبه من أهله وأخذت تتحين الفرص لتنفيذ مخططها. لقد أدركت البطون عمق التكامل والترابط بين الكتاب المنزل وبيان النبي المرسل، وتيقنت من استحالة تنفيذ مخططها هذا في حالة بقاء هذا التكامل والترابط بين كتاب الله وبيان النبي لهذا الكتاب. لذلك كله قررت بطون قريش وصممت نهائيا.
على أن تفرق بين الله ورسوله، وبين كتاب الله وبيان النبي لهذا الكتاب، لتجمد عمليا كافة النصوص الشرعية التي أعلنها النبي والمتعلقة بمنصب البيان والقيادة من بعد النبي، وأن تتجاهل بالكامل هذه النصوص الصادرة عن النبي، وتعتبرها كأنها غير موجودة، أو في أحسن الأحوال مجرد آراء شخصية لمحمد بن عبد الله الهاشمي، مثلما قررت بطون قريش أن تهمل بالكامل أهل بيت النبوة الذين اعتبرهم الدين أحد الثقلين، فاعتبرهم بطون قريش مجرد أفراد مسلمين لا ميزة لهم على أحد في مجتمع كل أفراده قد اعتنقوا الإسلام. وبدأت بطون قريش بتنفيذ قراراتها. بعد دقائق من انفضاض الاجتماع التاريخي في غدير خم. وفي كتابنا (المواجهة) أثبتنا أن بطون قريش قد مهدت لقراراتها قبل غدير خم بسنين.
مرض النبي واتهامه بالهجر وإعلان النوايا بوضوح:
بعد أيام من عودة النبي إلى المدينة مرض كما أخبر الناس في غدير خم، وكان سكان المدينة على يقين بأن مرض النبي هو مرض الموت، وإنه سيموت في مرضه كما أخبرهم النبي بذلك. وقد جرت العادة عند كل زعماء العالم وحتى رؤساء القبائل وعلية القوم أن يلخص الزعيم أو شيخ القبيلة، أو السيد لاتباعه الموقف من بعد موته، وأن يعلن توجيهاته وتعليماته النهائية لاتباعه فضرب النبي موعدا للخلص من أصحابه ليكتب توجيهاته النهائية للأمة. علمت بطون قريش بما عزم عليه النبي، فجمعت جمعا كبيرا، وبالوقت المحدد لكتاب التوجيهات النهائية اقتحم هذا الجمع بيت النبي، ودخلوه دون استئذان، فوجئ الخلص من أصحاب النبي، ولم يكن بوسع النبي أن يتراجع ولا ينبغي له فقال لمن حوله قربوا أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا، وما أن أتم النبي كلامه حتى قال جمع البطون بصوت واحد، إن النبي قد غلبه الوجع، ولا حاجة لنا بكتابه، إن النبي يهجر!!
استفهموه إنه يهجر!!!! وكرروا هذه الكلمة النابية على مسامعه الشريفة متجاهلين بالكامل وجوده، وحدث نزاع بين الخلص الذين دعاهم النبي وهم قلة، وبين الجمع الكبير الذي حشدته بطون قريش وارتفعت الأصوات، وأطلت النسوة من وراء الستر فقلن لجمع بطون قريش: إلا تسمعون رسول الله يقول لكم قربوا يكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده! فنهر عمر بن الخطاب النسوة لأن رأيه كان كرأي بطون قريش وقال لهن: (إنكن صويحبات يوسف...) هنا أتيحت الفرصة للنبي ليتكلم فقال: (إنهن خير منكم، قوموا عني لا ينبغي عندي تنازع، ما أنا فيه خير مما تدعونني إليه). وأدرك النبي أنه لم يعد هنالك ما يبرر كتابة توجيهاته النهائية، فلو أصر النبي على كتابة توجيهاته النهائية، لأصر جمع بطون قريش على اتهامه بالهجر مع ما يستتبع ذلك من عواقب مدمرة على الدين نفسه، لذلك صرف النبي النظر عن كتابة هذه التوجيهات، وخرج جمع البطون وخرج الخلص من أصحاب النبي، ونجح جمع البطون بالحيلولة بين النبي وبين كتابة ما أراد، ونجحت بطون قريش عمليا، ولأول مرة بالتفريق بين الله ورسوله، وبين كتاب الله وبيان النبي لهذا الكتاب، ورفعت بطون قريش شعار: (حسبنا كتاب الله) أي يكفينا القرآن، ولسنا بحاجة لبيان النبي أو لوصيته!! وهكذا أعلنت بطون قريش نواياها وبكل سفور، فعرفها النبي، وعرفها الخلص من أصحابه. وخرج الرسول عمليا من التأثير على مسرح الأحداث، وصار الذين آمنوا قلة كما كانوا دائما، وسط كثرة تدعي الإسلام!! ومن المدهش حقا أنه ما من خليفة قط إلا وكتب توجيهاته النهائية وهو على فراش الموت، وقد اشتد به الوجع أكثر مما اشتد برسول الله ومع هذا لم يقل أحد من المسلمين قط لأحد من الخلفاء قط (حسبنا كتاب الله، أو أن المرض قد اشتد بك، ولا حاجة لنا بكتابك، بل على العكس كانت توجيهات الخلفاء تنفذ كأنها وحي من الله جاء به الله والملائكة قبلا).
قد يقول قائل أن هذا غير معقول!! ولا يمكن أن يعامل الرسول بهذه القسوة، ولكن هذا ما حدث بالفعل فأصح الصحاح عند أهل السنة صحيحا البخاري ومسلم، وقد سلما بوقوع ذلك كله وفي كتابينا: (نظرية عدالة الصحابة والمواجهة) سقنا ووثقنا كافة الروايات التي ذكرها البخاري ومسلم في صحيحهما. فارجع إليهما إن كنت في شك من ذلك.
منع رواية وكتابة أحاديث رسول الله:
قبضت بطون قريش على مقاليد الأمور حتى قبل أن يدفن رسول الله، وكانت أول المراسيم التي أصدرتها دولة الخلافة أن منعت رواية وكتابة أحاديث الرسول.
لأن كتابة ورواية أحاديث الرسول ـ تسبب الخلاف والاختلاف بين الناس!!! هكذا ورد بالمرسوم الأول لدولة الخلافة، وجاء بالمرسوم أيضا: (فمن سألكم عن شيء فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله)!!! فلم يعد بوسع أهل بيت النبوة، ولا بوسع غيرهم أن يروي حديثا أو يحتج بحديث إلا إذا كان هذا الحديث مؤيد لدولة الخلافة أو لسلوكها أو لاتجاهاتها، أو لسياساتها عندئذ يصبح هذا الحديث، أو ذلك سندا شرعيا لوجود دولة الخلافة، أو لسلوكها أو اتجاهها أو سياستها. كذلك لم يعد بوسع مسلم أن يكتب أحاديث الرسول، بل شجعت الدولة على حرق المكتوب من أحاديث الرسول، وبدأ الخليفة الأول بنفسه حيث كان قد كتب خمسمائة حديث أثناء حياة الرسول، قالت أم المؤمنين عائشة فبات الخليفة يتقلب ولما أصبح الصباح أحرق الأحاديث التي كتبها فعلمت أم المؤمنين عائشة ابنته بأنه لن يعدل بكتاب الله شيء، ولما جاء الخليفة الثاني اشتد في هذه الناحية فناشد الناس أن يأتوه بكل ما كتبوا من أحاديث رسول الله، وظن الناس أنه يريد أن يدونها ويكتبها فجاءوه بها فلما وضعت بين يديه أمر بتحريقها، وكان يوصي جيوشه قبل توجهها للقتال بعدم التحديث عن رسول الله!! حتى لا يصدوا الناس عن القرآن الكريم!!
وكان يقرع بشدة الذين يحدثون عن رسول الله!! وكان يحبس بعضهم بتهمة الإكثار من التحديث عن رسول الله، وأحيانا يضرب بعضهم، لأنه لا يريد إلا القرآن، ولأنه مقتنع بأن القرآن وحده يكفي!! وقد سبقت هذه الحملة الرسمية حملة سرية قادتها بطون قريش، حتى والرسول على قيد الحياة، ونهت أولياءها من أن يكتبوا أحاديث رسول الله بحجة أنه بشر يتكلم في الغضب والرضى!!
والأخطر من ذلك أن سنة الرسول الثابتة في الأمور السياسية والاقتصادية والاجتماعية صارت مجرد اجتهادات شخصية، وكان بإمكان الخليفة وبكل أعصاب هادئة أن يخالفها تماما، فالرسول مجتهد والخليفة مجتهد، ولا حرج أن خالف المجتهد مجتهدا مثله!!! فعلى سبيل المثال كان الرسول يقسم المال بين الناس بالسوية لأن حاجات البشر الأساسية متشابهة، وهكذا فعل الخليفة الأول، ولما آلت الخلافة إلى الخليفة الثاني رأى أن الأنسب والأصوب عدم المساواة بين الناس في العطاء، بل عطاء الناس حسب منازلهم، فاجتهد وعمل جدولا للمنازل، ووزع العطاء حسب هذا الجدول!! وحسب هذا الجدول لم يساو حتى بين زوجات النبي، وقد أدت عدم التسوية في العطاء إلى نشوء الطبقات فملك بعض الناس الملايين من الدنانير الذهبية بينما كان الآلاف من المسلمين لا يجدون رغيف العيش، ولما رأى الخليفة الثاني تلك الآثار المدمرة لعدم التسوية في العطاء قال وبكل بساطة: (لئن استقبلت من عامي ما استدبرت لأعملن بسنة النبي وصاحبه ولأسوين بين الناس بالعطاء)!!!!!
ولما آلت الخلافة للخليفة الثالث كانت أول مراسيمه الإعلان عن عدم السماح برواية أي حديث لم يسمع به في زمن الخليفتين الأول والثاني. واستمر المنع الشامل على كتابة ورواية أحاديث الرسول. خلال عهود الخلفاء الثلاثة الأول ترسخت مفاهيم معينة عن الحديث النبوي والسنة النبوية بشكل عام وارتبطت هذه المفاهيم بالسلطة الغالبة التي أرست حجر الأساس العملي للفترة التي تلت موت النبي. فإذا استعرضنا الأحاديث التي أذنت السلطة بشيوعها وانتشارها خلال عهود الخلفاء الثلاثة الأول نجدها منصبة بالدرجة الأولى والأخيرة على تمجيد قريش وإبراز مكانتها كعشيرة النبي، وعلى فضائل الخلفاء الثلاثة ومصاهرتهم للنبي، ومكانتهم عنده، ودورهم البارز في نصرة النبي.
والتركيز على أن الرئاسة أو الإمامة أو الخلافة أو القيادة حق خالص للمسلمين، فهم وحدهم أصحاب الاختصاص ببيعة من يريدون، أما الأحاديث والسنن المتعلقة بالأحكام والعبادات والمعاملات، فلا حرج من روايتها إن كانت لا تتعارض مع اجتهادات الخلفاء وعلومهم، واجتهادات وعلماء أولياء الخلفاء.
وهكذا خضعت كتابة ورواية الأحاديث لرقابة السلطة الصارمة، فمنع رواية الحديث وكتابته شامل وكامل، ولكن السلطة أذنت بل وشجعت على رواية وكتابة ما يخدم سياستها وتوجهاتها العامة، وما يرغم أنوف معارضيها ويكبتهم، وقربت رواة تلك الأحاديث، فكعب الأحبار الذي أسلم بعد وفاة النبي يصغى إليه، ويتكلم ويسأل، وتقرب مكانته، وأبو ذر، وحذيفة وعمار بن ياسر يجبرون على السكوت، ويطاردون في الأرض، ويضربون وينفون من الأرض.
وما يعنينا بأن الأحاديث المتعلقة بالإمامة أو الولاية من بعد النبي والأحاديث المتعلقة بمكانة أهل بيت النبوة وفضائلهم كانت محظورة ومحصورة حصرا تاما، وحيل بين الناس وبين معرفتها، وتم تجاهل أهل بيت النبوة سياسيا تجاهلا تاما، وتم استبعادهم وأولياؤهم عن كافة مراكز التأثير والخطر فتأخروا وهم المتقدمون، وتقدم عليهم كافة المتأخرين، فمع وجود علي بن أبي طالب يتمنى عمر بن الخطاب لو أن سالم مولى أبي حذيفة حيا ليوليه الخلافة، وسالم هذا مولى لا يعرف له نسب في العرب، فعمر بن الخطاب يعتقد حسب اجتهاده وموازينه أن سالم مولى أبي حذيفة هو أولى بخلافة النبي من علي بن أبي طالب ابن عم النبي، وأول المؤمنين به، وزوج ابنته ووالد سبطيه، وفارس الإسلام والولي الرسمي لكل مؤمن ومؤمنة، وسيد العرب وسيد المسلمين وإمامهم بالنص الشرعي!!
وعندما تمنى عمر لو أن سالم أو خالد، أو أبا عبيدة، أو معاذ بن جبل أحياء لولى أحدهم الخلافة، ويوضح عمر الأسباب فيقول فلو سألني ربي عن ذلك لقلت سمعت نبيك يقول، ويروي حديثا سمعه عن النبي في كل واحد من أولئك الذين تمنى عمر حياتهم!! والمثير حقا أن عمر نفسه سمع النبي يقول: (من كنت وليه فهذا علي بن أبي طالب وليه، ومن كنت مولاه فهذا علي مولاه، وسمع النبي وهو يقول عن علي: (إنه وليكم من بعدي) وسمعه وهو يقول له أنت سيد العرب، وأنت سيد المسلمين وإمام المتقين، والاهم من ذلك أن عمر نفسه قد هنأ الإمام علي بالولاية في غدير خم...
لكنها سياسة لجم الحديث النبوي وإلزامه على السير بما يتلاءم مع توجهات السلطة وإرغام أنوف معارضيها.
لما آلت الخلافة لعلي بن أبي طالب، وبايعته الأكثرية الساحقة التي بايعت الخلفاء الثلاثة، وجد أن دائرة الحصار والخطر على كتابة أحاديث الرسول محكمة تماما وأنه ليس من اليسير اختراقها وبيان الحقائق الشرعية للناس، لأن مضامين هذه الدائرة قد استقرت بعد أن أصبحت منهاجا تربويا وتعليميا رسميا للناس خلال عهود الخلفاء الثلاثة الأول، فأوجد الإمام طريقة خاصة لاختراق تلك الدائرة وفتح نوافذ فيها، فكان يشهد ويحدث شخصيا بما سمعه من النبي، وكان يغتنم فرصة تجمع الصحابة في اجتماع عام ويناشد قائلا: (نشدت الله امرءا مسلما سمع رسول الله في المكان الفلاني قد قال كذا أن يقوم... فيقوم العشرة والعشرون، ليشهدوا على أن الرسول قد قال كذا بالفعل، وكان يصدف أن بعض شانئي أهل بيت النبوة الذين سمعوا رسول الله لا يقومون، وإمعانا بإقامة الحجة عليهم يسألهم الإمام عن سبب عدم قيامهم مع أنه يعرف أنهم قد سمعوا الرسول وهو يقول...
فيدعون النسيان، ويصدف أن يدعوا الإمام على بعضهم، ويستجيب الله لدعوة الإمام، ويحمل السامع المنكر علامة تشهد بكذبه كما حدث يوم الرجعة ولقد استطاع الإمام علي خلال مدة حكمه أن يكشف للناس ما جهدت السلطة بإخفائه، طوال السنين التي تلت موت النبي الأعظم خاصة الأحاديث المتعلقة بمنصب القيادة من بعد النبي، وبمكانة أهل بيت النبوة، وفضائلهم. وجاء معاوية فسن ما يمكن أن نسميه بحرب الفضائل، فسخر كافة موارد الدولة وإمكانياتها للحط من مكانة أهل بيت النبوة، وللتشكيك بكل ما نشره علي بن أبي طالب وأولياءه عن منصب القيادة من بعد النبي، وللتنكر لكل الفضائل التي قالها رسول الله عن أهل بيته، ولخلط الأوراق خلطا عجيبا أمر معاوية كافة ولاته وعماله أن لا يدعوا فضيلة يرويها أحد من المسلمين في علي وأهل بيت النبوة إلا وجاءوا بمثلها لأحد من الصحابة، فسالت سيول الفضائل، وانفتحت الأرض عن عشرات الآلاف من الرواة، فرووا عشرات الألوف من الفضائل ونسبوها للرسول، ثم أمرت الدولة بتدريس هذه المرويات في المدارس والمعاهد والجامعات، وفرضت دراستها على العامة والخاصة، فنشأ جيل يعتقد بصحة هذه المرويات، ثم انتقلت هذه المرويات من جيل إلى جيل واقتصر اهتمام المسلمين عليها، وبقي الحظر والمنع على رواية وكتابة أحاديث الرسول ساريا على ما سواها، وإمعانا بإرغام أنوف أهل بيت النبوة ومن والاهم أمر معاوية كافة رعاياه أن يلعنوا عليا بن أبي طالب وأهل بيته كما تلعن الشياطين، وأن لا يجيزوا لأحد ممن يحبهم شهادة، وأن يقطعوا عطاءهم ويهدموا دور الذين يوالونهم. (راجع كتاب الأحداث للمدائني، وقول ابن نفطويه في شرح النهج لابن أبي الحديد ج 3 ص 595 تحقيق حسن تميم).
ولما تولى الخليفة الأموي الفاضل عمر بن عبد العزيز الخلافة أدرك خطورة منع كتابة ورواية أحاديث الرسول، وخشي أن يندرس هذا العلم ويموت ما تبقى من أهله، فكتب إلى واليه على المدينة وكلفه بكتابة أحاديث الرسول، ولأن الخليفة على علم بتوجهات المجتمع فقد علل قراره بخشيته من موت العلماء، واندراس علم الحديث.
فاحتج علماء عصره، وضج المجتمع الإسلامي الذي تربى على ثقافة معينة!! وتساءل الناس متعجبين؟ كيف يجرؤ عمر بن عبد العزيز على اقتراف ما نهى عنه الخلفاء الثلاثة أبو بكر وعمر وعثمان!!! وأهمل أمر الخليفة عمر بن عبد العزيز عمليا ولم ينفذ، لأن التوجه العام للمجتمع لا يحتمل ذلك، فمن غير الممكن أن يسمح بكتابة ورواية أحاديث صدرت عن رسول الله، تتضمن فضائل علي بن أبي طالب، مثلا في الوقت الذي أمرت فيه الدولة كافة رعاياها بلعنه!!
والتبروء منه!! ولا يحتمل مجتمع دولة الخلافة إبراز فضائل ومكانة أهل بيت النبوة في الوقت الذي تعتبرهم الدولة أعداء الخليفة وأعداء المجتمع!! ولكن على الرغم من أن أمر الخليفة لم ينفذ عمليا إلا أنه كان ثغرة واسعة في جدار سميك، وإعداد علمي للمجتمع ليرقى من طور إلى طور!!
وبعد قرابة مائة عام على موت الرسول اقتنع مجتمع دولة الخلافة بضرورة كتابة ورواية أحاديث الرسول، ولم تر دولة الخلافة في ذلك ما يهدد وجودها أو يمس استقرارها، فإيديولوجيتها الواقعية قد رتبت عمليا واستقرت في أذهان العامة خلال مدة المائة العام التي منعت فيها رسميا كتابة ورواية أحاديث الرسول، لهذا كله أذنت دولة الخلافة برواية وكتابة أحاديث الرسول، أو على الأقل لم تعترض على هذا التوجه الجديد!!
الانطلاقة الكبرى في رواية وكتابة الحديث:
أ ـ على صعيد علماء دولة الخلافة
على ضوء التوجه العام والواقع الجديدين، انطلق علماء دولة الخلافة ليبحثوا عن كل ما صدر عن نبيهم من قول أو فعل أو تقرير قبل مائة عام!!!.
وأوجدوا ضوابط علمية لعمليتي كتابة ورواية سنة الرسول من قول، أو فعل، أو تقرير، وبذلوا جهودا مضنية للوقوف على كل ما قاله رسول الله بالفعل في كل أمر من الأمور، وفي أي شخص من الأشخاص، أو أية جماعة من الجماعات، حتى أنهم رووا الأحاديث المتعلقة بعلي بن أبي طالب، وأهل بيت النبوة الذين صبت عليهم دولة الخلافة كل غضبها ونقمتها وقوتها!! فرويت الأحاديث التي تتحدث عن مكانة علي، وقربه من النبي، وجهاده المميز وسجله الحافل بالأمجاد، ورويت أحاديث تتحدث عن مكانة أهل بيت النبوة، وآل محمد وتميزهم عن غيرهم من المسلمين، والتي تبرز دور آل محمد بالدفاع عن دعوة الإسلام، وإقامة دولته الأولى، ومعاناتهم الكبرى، باحتضان النبي، والدفاع عنه، والجهاد بين يديه!! وأبعد من ذلك أن علماء دولة الخلافة قد رووا أحاديثا عن رسول الله عن عداوة أبي سفيان وبنيه خاصة، والبطن الأموي عامة لله ورسوله، وعن قيادتهم لجبهة الشرك طوال فترة ال‍15 سنة التي سبقت الهجرة، وأنهم حاربوا الإسلام ونبيه طوال مدة الثماني سنوات التي تلت الهجرة، وأنهم قد استعدوا العرب واليهود على رسول الله، وأعظم من ذلك، فقد روى العلماء أحاديثا عن رسول الله، بأن الحكم بن العاص وذريته هم أعداء الله ورسوله، وأن الله قد لعنهم على لسان نبيه، ومع هذا آلت خلافة الرسول لذرية الحكم، في الوقت الذي كانت فيه ذرية النبي وآل النبي يتعرضون للتقتيل والتشريد والتطريد!!! بعد أن فرضت الدولة على العامة والخاصة لعنهم.
وروى علماء دولة الخلافة أحاديث عن رسول الله تبين مكانة فاطمة الزهراء، وابنيها الحسن والحسين، عند رسول الله، وقرابتهم القريبة، ومنزلتهم الرفيعة في قلبه الشريف. لقد أذهلت تلك المرويات العامة والخاصة من المسلمين، وربطوها بالمحن والمآسي والآلام التي تجرعها أهل بيت النبوة مجتمعين ومنفردين!!!
وبدأت قلوب المسلمين تتعاطف مع أهل البيت، وتتيقن أن خللا كبيرا قد حدث، وأن لأهل بيت النبوة قضية عادلة لم تلق أبدا آذانا صاغية طوال التاريخ!!
وفجأة قررت جموع دولة الخلافة أن تعتبر عليا بن أبي طالب رابع الخلفاء الراشدين، وأن تعترف به وبابنيه الحسن والحسين، كعمداء لآل محمد الذين لا.
تجوز صلاة المسلم بغير الصلاة عليهم!! وأنهم والسيدة الزهراء هم أهل بيت النبوة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، واكتشفت تلك الجموع أنها قد سارت طويلا بالخط المعاكس للطريق الإلهي. وشعرت تلك الجموع بالندامة لأنها خذلت عليا وحسنا وحسينا، وسمت الحسن، وقتلت الحسين وهما ابنا رسول الله ومزقت آل محمد في كربلاء، أو على الأقل لأنهم قتلوا أمامها دون أن تنصرهم أو تحرك ساكنا.
وهذا انقلاب حقيقي وثورة فعلية تحدث في نفسية تلك الجموع التي استجابت لمعاوية، وخلفاء بني أمية، ولعنت الإمام علي في العشي والأبكار، وتعبدت بكرهه وكراهية أهل بيت النبوة طمعا بدنيا معاوية وشيعته!!!
(ولم يجد العلماء صعوبة تذكر بكتابة ورواية الأحاديث التي احتضنتها دولة الخلافة، والتي كانت منسجمة مع توجهات تلك الدولة، ومع تاريخها السياسي، لأن تلك الأحاديث كانت مروية ومكتوبة بالفعل، وجاهزة، وكانت تشكل المناهج التربوية والتعليمية لدولة الخلافة، حيث كان تعلمها مفروضا على الخاصة والعامة، فنقلها العلماء كما هي، مسلمين بصحتها سندا لكثرة تداولها بين الناس، ولأنها جزء لا يتجزأ من وثائق الدولة الرسمية التي عمل بها المجتمع، بل والأعظم من ذلك أنها قد صارت أحد مقاييس الصحة لما يروى من الحديث، فإذا تعارض حديث مع الأحاديث التي تبنتها الدولة، فهذا الحديث موضع شك!!!
والمخرج يكمن بتضعيف رواته، أو أحد رواته أو تكذيبهم، أو تكذيب بعضهم، بمعنى أن المناهج التربوية والتعليمية لدولة الخلافة كانت بمثابة رقيب ضمني على ما يروى من أحاديث الرسول، فأي حديث يتفق مع هذه المناهج فهو صحيح وما يعارضها فهو موضع شك، ومع هذا لم تكن هنالك موانع فعلية من رواية أي حديث، وهذا بحد ذاته إنجاز، بل وثورة فعلية كبرى أطل من أبوابها ونوافذها الرأي الآخر مدعوما بالسند الشرعي، وهذا ما كان ممنوعا طوال التاريخ.
والخلاصة أن علماء دولة الخلافة لم يتوقفوا أبدا عن تقييد كل ما ذكر بأنه قد صدر عن الرسول، فكانوا يروونه، ويقيسونه بموازينهم العلمية التي أوجدوها خصيصا لهذه الغاية، ويخرجونه للناس ويكتبونه بصحاحهم أو مسانيدهم، أو تواريخهم، أو سيرهم أو مؤلفاتهم، إنها انطلاقة عظيمة لإحياء كل ما وأدته دولة الخلافة عبر تاريخها السياسي الطويل!!
ومن الطبيعي أن تعترض هذه الانطلاقة الكبرى معوقات كبرى أيضا فظهر الكذابون الذين تعمدوا الكذب على رسول الله، إما تأييدا لتاريخ قد استقر، أو دفاعا عما تهوى الأنفس، أو نكاية وإرغاما لأنف خصم، وقد يكون الكذب لصالح الرسول كما زعم بعضهم حيث قالوا: (إننا لا نكذب على الرسول إنما نكذب له)، وبرع بعض الرواة بالرواية كما وكيفا وخلطوا فهمهم لما سمعوه من الرسول، بآرائهم الشخصية، وسوقوا الاثنين معا، فإما أن ترفضهما معا أو تقبلهما معا!!
ومع هذا فقد تمخضت تلك الانطلاقة الكبرى عن ثروة علمية عظمي، تجد فيها الجزء الأعظم من الحقيقة، التي تطمئن بها القلوب. لكن لا أحد من علماء دولة الخلافة قد أدعى بأن ما أخرجه من الأحاديث هو عين ما صدر عن رسول الله باللفظ والمعنى، بلا زيادة ولا نقصان والأحاديث التي وصلتنا عن النبي بهذا الوصف: (لفظا ومعنى، وبلا زيادة أو نقصان) أندر من النادر!! وهكذا ألحقت دولة الخلافة بالعالم والعلم خسارة فادحة عندما منعت رواية وكتابة أحاديث الرسول، بالوقت الذي أجازت فيه رواية وكتابة حتى الخرافات والأساطير، ولولا جهود العالم لضاع الأثر والعين معا، ولكن الله غالب على أمره.
وتمخضت تلك الانطلاقة الكبرى عن تدوين الكم الهائل من الأحاديث في مجموعة كبيرة من كتب الحديث أبرزها عند أهل السنة ستة كتب عرفت بالصحاح وهي: (صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن أبي داود، وسنن ابن ماجة، وسنن الترمذي، وسنن النسائي)، ومنهم من يقدم سنن الدارمي على سنن النسائي، بالإضافة إلى المستدركات على هذه الصحاح، ومجموعة من المسانيد.
ب ـ رواية وكتابة الحديث عند أهل البيت وأوليائهم
أهل البيت بما ورثوه من علمي النبوة والكتاب، وبما خصهم الله به من مكانة، لا ترقى إليها مكانة، وبما أسند إليهم من وظائف وتكاليف شرعية، على يقين تام ومطلق بعمق الارتباط والتكامل والتعاضد بين كتاب الله القرآن الكريم وبين بيان النبي لهذا الكتاب، مثلما هم على يقين تام بأن أحدهما لا يغني عن الآخر. وهم على علم بتركيز النبي المكثف والخاص على هذه الناحية.
وقد تحدث أئمة أهل البيت عن مجموعة حقوقية شرعية كبرى قد ورثوها عن رسول الله اسمها (الجامعة) أملاها رسول الله وكتبها الإمام علي بن أبي طالب بخط يده، وكلف رسول الله عليا أن يحتفظ بها، وأن يورثها للأئمة من بعده وهي تشتمل على العلم كله، القضاء والفرائض، وما يحتاج إليه الناس حتى أرش الخدش، وما خلق الله من حلال ولا حرام إلا وضوابطه بهذه الجامعة، وأن هذه الجامعة لم تدع لأحد كلاما. ويبدو أن هذه المجموعة قد أملاها رسول الله خصيصا للأئمة القادة من أهل البيت ليحكموا بها إذا تولوا حكم الناس، لأن فيها حكم الله.
وتحدث الإمام علي عن صحف كثيرة عنده، ووصف تلك الصحف بأنها (قطايع) أي مخصصات رسول الله وأهل بيته. ويروي علماء دولة الخلافة أنه بعد فترة من موت رسول الله جاء علي بن أبي طالب وهو يحمل كتاب الله وتفسيره على ظهره، وأنه قد عرض على قيادة دولة البطون أن يحكم بينهم بما أنزل الله وما أملى رسوله، وأن هذه الدولة رفضت العرض.
ويبدو من كثير من الأحاديث إن لدى أئمة أهل البيت كتابين آخرين قد كتبا بخط الإمام علي وعلى عهد رسول الله، ويسمى أحد هذين الكتابين: (بمصحف فاطمة) وفيه أنباء من الحوادث الكائنة والمتعلقة بالأئمة، أما الكتاب الآخر فيسمى ب‍ (الجفر) وهو يشتمل على أنباء من الحوادث الكائنة عموما). (راجع بصائر الدرجات ص 144 ـ 148 ـ 156 و 160، وأصول الكافي ج 1 ص 241 وص 57 والوافي ج 2 ص 125 ومعالم المدرستين ج 2 ص 300 ـ 312 وكتابنا الخطط السياسية ص 191 ـ 197). ومن المؤكد أن ذلك قد حدث بالفعل فرسول الله متيقن أنه ميت لا محالة، وموقن من حاجة الأمة إلى بيان كافة الأحكام الشرعية بيانا قائما على الجزم واليقين، وهو بيانه الشريف، ولأن عليا بن أبي طالب هو المخول شرعا بالبيان بعد وفاة الرسول، ولأنه من الرسول بمنزلة هارون من موسى باعتراف قادة دولة البطون، ولأن الإمام علي أعظم علماء.
الأمة وأعلمهم بإقرار كافة الخلفاء، ولأنه قارئ كبير في أمة أمية يندر فيها القارئ، ولأنه باب مدينة العلم. فقد أملى عليه رسول الله الحكم الشرعي لكل شيء، وكلف النبي عليا أن يجمع ذلك في كتاب ليكون مرجعا، للأمة في بيان القرآن بعد وفاة النبي، وكلف النبي عليا أن يحتفظ بهذا الكتاب، وأن يسلمه لأولاده الأئمة ليتوارثوه حسب ترتيب خاص، ويبينونه للأمة بعد وفاة النبي، ويحكمون بموجبه إن سلمت الأمة بحقوقهم، فتكون علوم هذا الكتاب من الأدلة المادية لمرجعيتهم ولحقهم بالقيادة والبيان من بعد النبي. ثم إن سادة أهل بيت النبوة كانوا يقيمون مع النبي في بيت واحد طوال حياة النبي المباركة، وكان النبي يزقهم بالعلم زقا، ويفيض عليهم من عجائب علمه ومن أخبار المستقبل البعيد، وكانت تلك المعارف بكل الموازين ثروة كبرى خصهم الله بها فمن غير المعقول أن لا يحفظوا تلك الثروة ويكتبوها!!! ليحتجوا بها القوم، ولينتفعوا بها، ويورثوها لذرياتهم تأكيدا للطهر والتميز، ثم إن العلوم التي أفاضها رسول الله على أهل بيته هي بيان للقرآن، ومن الضروري أن يحتفظ بها أهل بيت النبوة ليكون لديهم بيان القرآن، وليحملوا هذا البيان للإنسانية في كل زمن، إن هذا البيان هو علم النبوة، وقد كلف الله نبيه أن يورث الأئمة الأعلام من ذريته علمي النبوة والكتاب.
والخلاصة أنه لما قبض الله نبيه، كان أهل بيت النبوة قد وعوا علمي النبوة والكتاب بالتمام والكمال، ووثقوا من هذين العلمين كل ما يحتاج إلى توثيق، فما من سؤال على الإطلاق! إلا ويعرف عميد أهل البيت في زمانه جوابه، وما من أمر من أمور الدنيا والآخرة إلا ويعرف هذا العميد كلياته وتفاصيله الدقيقة، وحكم الشرع الحنيف فيه، وكل هذه المعارف موثقة ومعروفة عندهم ومعلومة علم اليقين.
أثناء مرض النبي الذي قبض منه، تجاهلت بطون قريش البيان النبوة تجاهلا كاملا، واستولت على السلطة، وحجمت أهل بيت النبوة بالقوة، وعتمت على كل فضائلهم وتنكرت لمقامهم ومكانتهم تنكرا تاما، وجردتهم من كافة حقوقهم، ثم أصدرت مراسيم منعت فيها رواية وكتابة أحاديث رسول الله، وقررت أن القرآن وحده يكفي، ولا حاجة لبيان النبي، لأن بإمكان أي إنسان أن يفهم القرآن حسب رأي البطون!! ورواية أحاديث النبي وكتابة هذه الأحاديث تسبب الخلاف والاختلاف بين المسلمين، وقيادة البطون ترى أن منع الاختلاف والخلاف يتحقق عندما تمنع رواية وكتابة أحاديث الرسول!!!
وبدأت قيادة البطون بتطبيق مراسيمها بصراحة تامة، فكانت تحرق كل ما وصل إليها من أحاديث الرسول، وكانت تتصيد كل ما هو مكتوب من أحاديث الرسول فتتلفه، وحرمت مرارا وتكرارا تلك الأحاديث، مثلما حرمت روايتها تحريما كاملا، إلا ما كان يخدم توجهاتها وسياستها، وبهذه الظروف خبأ أهل بيت النبوة كنوز العلم الثمينة والنادرة والتي تلقوها من رسول الله مباشرة، خوفا عليها، وتناقلوها كابرا عن كابر، وأفاضوا منها سرا على أوليائهم، وكانت دولة الخلافة تراقبهم مراقبة دقيقة، وتتمنى لو تجد تلك الكنوز النادرة لتحرقها تحريقا، وتتلفها إلى الأبد. ونجح أئمة أهل بيت النبوة بإخفاء تلك الكنوز العلمية، ورغم المنع المفروض على رواية الحديث إلا أنهم نجحوا بتسريب الكثير الكثير من معارفهم إلى المسلمين عامة، وإلى أوليائهم خاصة، بالرغم من رقابة الدولة الصارمة، وأدعية الإمام زين العابدين المعروفة من الأمثلة الحية فالأدعية أحاسيس عميقة صادقة استوحاها الإمام من علمي النبوة والكتاب، ومن خلالها بث شكواه ولوعته وحزنه العظيم، ثم كتبها بخط يده لينقلها إلى الأجيال اللاحقة، ومع أنها أدعية إلا أنه كان خائفا عليها كما خافت أم موسى على ولدها، فكان ينقلها من مكان إلى مكان، ومن حرز إلى حرز لأن دولة الخلافة الأموية لو عثرت عليها لمزقتها تمزيقا ولحرقتها تحريقا. لأن دولة الخلافة أرادت أن تمحو من ذاكرة المسلمين نهائيا وإلى الأبد كل الأحكام الشرعية المتعلقة بمنصب القيادة من بعد النبي والمتعلقة بمكانة أهل بيت النبوة، حتى لا يبقى في الشريعة أثر يدين استيلائها على القيادة بالقوة والتغلب وكثرة الأتباع.
وخلال مدة المائة سنة التي حرمت فيها دولة الخلافة كتابة ورواية أحاديث الرسول، عاش الإسلام والفئة المتنورة من المسلمين محنة كبرى، ووطأة عظمي، وكان أهل البيت الكرام أكثر الناس إحساسا بالمحنة والوطأة وما زاد الطين بلة أن المجتمع الإسلامي أو العامة وهم الأكثرية تحولت إلى حارس ومدافع عن شرعية تحريم كتابة ورواية أحاديث الرسول.
ولما تحول الرأي العام، وأقبل علماء دولة الخلافة على كتابة ورواية أحاديث الرسول، ولم تعترض دولة الخلافة على هذا التحول وذلك الإقبال، تنفس أهل بيت النبوة الصعداء، فراقبوا عن كثب عمليتي رواية وكتابة الحديث، ورسموا لها الطريق الأقوم: (سأل رجل الإمام جعفر الصادق عن مسألة فأجابه، فقال الرجل: أرأيت إن كان كذا وكذا ما يكون القول)؟.
فقال جعفر: (مه ما أجبتك فيه من شيء فهو من رسول الله لسنا ممن رأيت في شيء، وقوله: (مهما أجبتك بشيء فهو من رسول الله لسنا نقول برأينا) وقال مرة: (لو أنا حدثنا برأينا ضللنا كما ضل من كان قبلنا، ولكن حدثنا ببينة من ربنا، بينها لنبيه، فبينها لنا) وكان يقول: (لو كنا نفتي الناس برأينا وهوانا لكنا من الهالكين، ولكنها آثار من رسول الله أصل علم نتوارثها كابرا عن كابر، نكتنزها كما يكتنز الناس ذهبهم وفضتهم). (راجع بصائر الدرجات ج 2 ص 29 و 301 وكتابنا الخطط السياسية ص 187 ـ 189). وقول الإمام جعفر هذا دعوة لمن أرادوا البحث عما صدر عن رسول الله ليرجعوا إلى أهل بيت النبوة، فهم وحدهم الذين يملكون مفاتيح البيان النبوي، وهي دعوة من الإمام للمعنيين برواية وكتابة أحاديث الرسول، للفصل التام بين آرائهم الشخصية وما قاله الرسول.
وبدأ أهل البيت يفيضون على الناس مما آتاهم الله من علمي النبوة والكتاب، وبالحدود التي تتقبلها وتتحملها نفسية العامة التي تربت تربية ثقافية مناهضة لأهل بيت النبوة وموالية لدولة الخلافة.
واصطدمت علوم أهل بيت النبوة مع الأحاديث التي تبنتها دولة الخلافة عبر تاريخها السياسي، وسمحت بكتابتها وروايتها، بل واعتبرتها جزءا من مناهجها التربوية والتعليمية، وبحكم العادة والتكرار آمنت العامة بحتمية صدورها عن رسول الله.
واصطدمت روايات أهل بيت النبوة بسيل من روايات الفضائل التي اشتراها معاوية وأولياؤه من الطامعين بدنياه، ثم عممها بقوة الدولة ونفوذها، وأجبر العامة.
والخاصة على الاقتناع بها والتسليم بصحتها، وذلك لإرغام أنوف أهل بيت النبوة، وتمييز وإبطال الفضائل الحقيقية التي خصهم الله بها!!
ومع أن دولة الخلافة لم تعترض على إقبال علمائها على كتابة ورواية أحاديث الرسول، ولم تعترض على تحول الرأي العام وتأييده لهذا العمل، إلا أنها ضاقت ذرعا بأهل بيت النبوة وأوليائهم، وشككت بقدرتهم وبما يروونه، وشككت بحيادهم أيضا. وتأثر علماء الدولة بذلك تأثرا كبيرا، فإذا ثبت لديهم أن هذا الراوي أو ذاك يوالي أهل بيت النبوة أو يقدمهم على غيرهم، أو يقول برئاستهم للأمة، أو بتقدمهم على الخلفاء الثلاثة الأول اعتبروه كاذبا أو غير ثقة، وبالتالي لم يأخذوا بروايته ولما اكتشف بعض علماء الدولة أن الشافعي يوالي أهل بيت النبوة وصفه ابن معين بأنه ثقة!!!
وعلى أي حال فقد انطلق أولياء أهل بيت النبوة يروون الأحاديث عن الرسول وعن الأئمة وفق القواعد والأصول الشكلية التي كان يروي فيها علماء دولة الخلافة. وكان الشيخ الكليني المتوفى سنة 329 ه‍ أول من ألف موسوعة بالحديث، ثم تلاه الشيخ الصدوق المتوفى سنة 381 ه‍، ثم الشيخ الطوسي المتوفى سنة 460 ه‍، ثم المجلسي (البحار) ثم الحر العاملي (الوسائل) وقد أحرقت موسوعة الشيخ الطوسي كما أحرق الكثير من كنوز أولياء أهل بيت النبوة، ولكنهم صمدوا ونقلوا ما وصل إليهم من كنوز وعلوم أهل بيت النبوة التي غطت كل ما يحتاجه الناس في دنياهم وآخرتهم. (راجع كتابنا الخطط السياسية ص 192 ـ 209 لتقف على تفاصيل ذلك)..
الفصل الخامس
الآن يمكننا أن نتبين موقع المهدي في السنة النبوية
بعد استعراضنا لتاريخ رواية وكتابة الأحاديث النبوية، والظروف التي أحاطت بهذا التاريخ لدى دولة الخلافة وعلمائها من جهة، ولدى أهل بيت النبوة وأوليائهم من جهة أخرى، وبعد وقوفنا على ما رواه الطرفان عن المهدي المنتظر، وعلامات ظهوره، وعصر هذا الظهور، يتبين لنا بوضوح ساطع أن المهدي المنتظر حقيقة من الحقائق الدينية الرئيسة التي أجمع المسلمون على صحتها، وتواترت أنباء هذه الحقيقة بينهم، تواترا لا يقل عن تواتر أركان الإسلام، وأساسياته الضرورية، وأن ما رواه الطرفان عن رسول الله في هذا الموضوع هو جزء لا يتجزأ من المعارف والمعلومات الدينية التي جاء بها الإسلام كدين، وأن هذه المعارف والمعلومات جزء لا يتجزأ من عقيدة الإسلام وتعاليمه.
مدرستا الأمة:
تخرجت الأمة الإسلامية من مدرستين لا ثالث لهما.
المدرسة الأولى: وهي مدرسة دولة الخلافة التاريخية ومن والاها من علماء المسلمين رغبة أو رهبة وقد أجمع أساتذة وخريجو هذه المدرسة على أن المهدي المنتظر حقيقة دينية، بشر بها الرسول وأنه سيظهر ذات يوم، ورووا مئات الأحاديث عن رسول الله التي تحدثت عن المهدي ونسبه، وعن حتمية ظهوره،.
وعن علامات الظهور، وعن عصر ظهوره، ووفق معايير هذه المدرسة وموازينها، فقد أجمع أساتذتها وخريجوها بأن تلك الأحاديث صحيحة، ومتواترة وأنها قد رواها جمع كبير من الصحابة الكرام والعلماء الذين يمتنع عقلا اجتماعهم على الكذب، وأن هذه الأخبار قد شاعت بين المسلمين وتناقلتها أجيالهم جيلا عن جيل، واطمأنت لها القلوب فتحولت إلى جزء لا يتجزأ من العقيدة الدينية والإسلامية.
المدرسة الثانية، وهي مدرسة أهل بيت النبوة: أساتذتها أئمة أهل البيت الأعلام الذين تتلمذوا على يد الرسول شخصيا، وعاشوا وإياه تحت سقف واحد طوال حياته المباركة، وأورثهم علمي النبوة والكتاب، وعهد إليهم بوظيفة بيان ما أنزل الله من بعده كل في عصره، وقد تخرج على أيديهم علماء أفذاذ نبغوا بعلمي النبوة والكتاب، وقد أجمع أئمة أهل بيت النبوة وخريجو مدرستهم على أنهم قد سمعوا رسول الله يبشر بالمهدي المنتظر، ويسميه باسمه محمد بن الحسن وأنه حفيد النبي، وأنهم سمعوا رسول الله يصفه وصفا دقيقا، ويؤكد على حتمية ظهوره، مثلما سمعوه وهو يبين علامات هذا الظهور، ويصف عهد المهدي وما فيه من عدل ورخاء، وسيادة على العالم كله، وظهور لدين الإسلام على كل الأديان، وأن هذا المهدي هو الإمام الثاني عشر من أئمة أهل بيت النبوة، ومن لا يعتقد بذلك فليس من شيعة أهل البيت ولا من مواليهم الخلص. بمعنى أن هذا الاعتقاد جزء من حقيقة موالاة وتولي أهل بيت النبوة. ثم إنه ما من إمام من الأئمة الأخيار إلا وقد بشر بالمهدي المنتظر، وروى عن جده رسول الله أحاديث تتعلق بذات المهدي وصفاته، وعلامات ظهوره ومظاهر العدل، والعزة، والرخاء في صحاحهم وكتب حديثهم تتحدث بالتفصيل عن المهدي، ويعتبرون ظهوره فرجا، وانتظار هذا الفرج قربى إلى الله ودينا.
إجماع المدرستين واستحالة إجماعهما على كذب:
لقد رأيت قبل قليل إجماع المدرستين الإسلاميتين الوحيدتين في العالم.
الإسلامي على حقيقة أن رسول الله بالفعل قد بشر بالمهدي المنتظر، وأكد حتمية ظهوره، بحيث أنه لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد، لطول الله ذلك اليوم حتى يظهر المهدي المنتظر فيه، ولا خلاف بين اثنين من كون المهدي من أهل بيت النبوة.
فهل يعقل بربك أن يجمع أهل بيت النبوة وأولياؤهم، وعلماء دولة الخلافة والخلفاء وأولياؤهم وهم على طرفي نقيض على كذب!! وبتعبير أدق هل يعقل أن يجمع كافة المسلمين على كذب، أو على أسطورة منسوبة للدين، أو على الكذب على رسول الله، أو التقول عليه!!
يمكن لدولة الخلافة أن تجبر فريقا من الأمة على هدم الكعبة نفسها وهي أقدس مقدسات المسلمين، وتجبر الفريق الآخر على السكوت، ويمكنها أن تنتهك أعظم حرمات الإسلام، فتقتل ابن النبي، وتقتل وتبيد ذرية النبي، وتسبي بناته وبأعصاب هادئة بأيدي فريق من الأمة مع ضمان سكوت الفريق الآخر، ويمكنها أن تستبيح مدينة النبي، فتفض بكارات بناتها وتنهب أموالها، وتقتل الأكثرية الساحقة من سكانها وتأخذ البيعة من الناس على أنهم خول وعبيد لخليفة يتصرف بهم تصرف المالك بملكه وأشيائه!! كما حدث ذلك في التاريخ فعلا، بمعنى أن دولة الخلافة قادرة على فعل كل ما تريده، ولكنها لا تستطيع أن تجبر الأمة لتقتنع قناعة تامة، وتختلق على رسول الله الأنباء المتعلقة بالمهدي المنتظر، ولنفترض بأنها استطاعت أن تقود رعاياها، وتسخر مواردها في حملة اختلاق كبرى على رسول الله، فهل يمكنها أن تجبر أئمة بيت النبوة على المشاركة بمثل هذه الحملة!! وهل يمكنها أن تجبر الأئمة على اقتراف جريمتي الكذب والاختلاق على رسول الله!! وهم نماذج بشرية فذة تعتبر الموت سعادة، والحياة مع الظالمين شقاء لا يطاق!!
ثم ما هي مصلحة الخلفاء، أو رعاياهم، أو دولتهم ليجمعوا على حقيقة أن المهدي المنتظر من أهل بيت النبوة!! وهم الخلفاء الذين كانوا يؤمنون أن العبيد والموالي وأعداء الله ورسوله أولى بالخلافة من آل محمد، فهل يعقل أن يعملوا بأيديهم الدليل الذي سيدينهم!!.
لقد فرضت كثرة ونوعية، وصحة وتواتر، الأحاديث الصادرة عن رسول الله نفسها على الخلفاء ورعاياهم ودولتهم، فكان زخمها من القوة بحيث لم يعد بالإمكان إنكارها، أو تجاهلها أو تكذيبها، إنها قوة الحقائق الربانية التي يعترف بها المحب والكاره، المؤمن والفاسق.
لهذا كله أجمع أهل بيت النبوة ومن والاهم على أن الأحاديث المتعلقة بالمهدي المنتظر قد صدرت من رسول الله بالفعل، وأنهم قد سمعوا رسول الله يتحدث بها، وأنه قد كلفهم ببيانها ونقلها للمسلمين، وأنهم ورثوا هذه الحقيقة كجزء لا يتجزأ من علمي النبوة والكتاب.
كذلك فقد أجمع علماء دولة الخلافة بأنه قد ثبت لديهم بالوجه القطعي بأن الأخبار المتعلقة بالمهدي المنتظر قد صدرت عن رسول الله بالفعل، وأنهم قد حصلوا تلك الأخبار بنفس الطرق والوسائل التي حصلوا فيها على أخبار النبي عن الصلاة والصيام والحج وغيرها من أحكام الإسلام، وأنه قد ثبت لديهم صحتها وتواترها، وعلى ذلك تسالم جميع علماء دولة الخلافة ورعاياها عبر تاريخها السياسي الطويل، وما زال ذلك إرثا مقدسا.
رواة الأحاديث المتعلقة بالمهدي المنتظر:
روى الأحاديث المتعلقة بالمهدي أكثر من خمسين صحابيا. شهدت الأكثرية الساحقة منهم بأنهم قد سمعوا رسول الله يدلي بهذه الأحاديث ويتحدث بها أمامهم وعلى مسامعهم.
وتتبع العلماء بدقة متناهية بعض هذه الأحاديث حتى أوصلوها إلى بعض الصحابة فوقفت عندهم، دون أن يصرحوا بأنهم قد سمعوها من رسول الله. ولا يخفى أن أحاديث المهدي كلها من أنباء الغيب، والصحابي لا يوحى إليه، ولا يعلم الغيب إلا من رسول الله، وهذا كله يعني أن الأحاديث الموقوفة عند بعض الصحابة قد صدرت بالفعل من رسول الله. ومن المستحيل عقلا أن يتفق عدد يربو على الخمسين صحابيا على كذب!! خاصة وأنه لا مصلحة لهم بالكذب، ولم يكرههم أحد على ذلك، ثم إنهم لا يعرفون شخص المهدي المنتظر على وجه اليقين ليكذبوا من أجله أو ليطمعوا بثواب عاجل منه لهذا الكذب.
من هم رواة الأحاديث المتعلقة بالمهدي المنتظر:
1 ـ أهل بيت النبوة وآل محمد:
فعلي بن أبي طالب والسيدة فاطمة بنت محمد الزهراء والسبط الإمام الحسن، والسبط الثاني الإمام الحسين قد أجمعوا جميعا بأنهم قد سمعوا رسول الله يحدث بالأحاديث المتعلقة بالمهدي المنتظر، وهؤلاء الأربعة هم أبناء النبي، ونساء النبي، ونفس النبي كما هو ثابت من آية المباهلة. وهم آل محمد، الذين لا تجوز صلاة مسلم إن لم يصل عليهم، وهم أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، ولو لم يكن للأحاديث المتعلقة بالمهدي المنتظر غير هؤلاء الرواة لكان فيهم الكفاية، ولتحقق بهم اليقين. ثم إن الأئمة الطاهرين الثمانية الذين آلت إليهم الإمامة بعد الإمام الحسين قد رووا هذه الأحاديث، وقدموها لاتباعهم وللأمة كجزء لا يتجزأ من علمي النبوة والكتاب.
2 ـ من بني هاشم أيضا:
كان الهاشميون أكثر الناس التصاقا بالنبي والتفافا حوله، وجهادا معه، ودفاعا عنه، وبلاء في سبيله وقد وعى الكثير منهم ما صدر عن النبي من قول أو فعل أو تقرير، ونذكر من الرواة الهاشميين الذين رووا أحاديث متعلقة بالمهدي المنتظر:
1 ـ العباس بن عبد المطلب عم النبي.
2 ـ وعبد الله بن العباس.
3 ـ وعبد الله بن جعفر الطيار.
3 ـ الصحابة الأبرار:
ومن الذين رووا الأحاديث المتعلقة بالمهدي المنتظر طائفة من الصحابة الأبرار الذين ثبتوا على الولاء لله وللرسول ولأهل بيت النبوة، واجتازوا المحن والبلاء بنفوس مطمئنة، وفارقوا الدنيا دون أن يغيروا ويبدلوا أو ينقلبوا على أعقابهم منهم سلمان الفارسي، وأبو ذر الغفاري، وعمار بن ياسر.
وجابر الأنصاري وحذيفة بن اليمان.
4 ـ خلفاء ومرشحون للخلافة
وممن روى الأحاديث المتعلقة بالمهدي المنتظر خلفاء، كعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، أو ممن ترشحوا للخلافة كعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمرو بن العاص.
5 ـ من زوجات النبي:
وروى أحاديث متعلقة بالمهدي المنتظر بعض زوجات النبي كأم سلمة، وعائشة، وأم حبيبة.
6 ـ طائفة من الصحابة الكرام:
وروى جانبا من الأحاديث المتعلقة بالمهدي المنتظر طائفة من أجلاء الصحابة منهم أبو أيوب الأنصاري، وزيد بن أرقم، وأبو سعيد الخدري، وسهل بن سعد الساعدي، وحذيفة بن أسيد، ومعاذ بن جبل.
7 ـ مثلما روتها طائفة أخرى من الصحابة:
كأبي هريرة، وعبد الله بن عمرو بن العاص وعمران بن حصين، وأنس بن مالك، وزيد بن ثابت. (راجع المهدي المنتظر في الفكر الإسلامي، مركز الرسالة ص 28، وما فوق: و (إبراز الوهم المكنون من كلام ابن خلدون) أبو الفيض الغماري ص 437، (ومعجم أحاديث الإمام المهدي)، خمسة مجلدات مؤسسة المعارف الإسلامية بإشراف الشيخ علي الكوراني)..
******************
الفصل السادس
علماء المسلمين الأعلام الذين أخرجوا أحاديث المهدي
أخرج علماء المسلمين الأعلام الأحاديث المتعلقة بالمهدي المنتظر ودونوها في صحاحهم ومسانيدهم ومؤلفاتهم، مسلمين بصحتها وتواترها.
1 ـ علماء المسلمين الأعلام الذين تخرجوا من مدرسة أهل البيت:
علماء المسلمين الأعلام الذين والوا أهل بيت النبوة، وقالوا بحقهم الشرعي برئاسة الأمة من الناحيتين الروحية والزمنية ونقصد بهم علماء الشيعة: كالكليني، والصدوق، والمجلسي، والعاملي وغيرهم ممن دونوا الأحاديث والموسوعات الدينية، أخرجوا أحاديث المهدي المنتظر وتعاملوا معها كحقائق إسلامية ثابتة لديهم، واعتبروها معارف ومعلومات دينية وصلت إليهم من رسول الله، مثلما اعتبروها من أصول الدين وأساسياته، لأن الاعتقاد بالمهدي المنتظر واعتباره ثاني عشر الأئمة الشرعيين من المسائل الأصولية والأساسية عندهم.
2 ـ علماء المسلمين الأعلام الذين تخرجوا من مدرسة دولة الخلافة:
وأخرج أحاديث المهدي المنتظر العلماء المسلمين الأعلام الذين والوا دولة الخلافة التاريخية رغبة أو رهبة، وتخرجوا من مدرستها وهم من الكثرة والشهرة ومؤلفاتهم من التعدد بحيث يستحيل تواطؤهم على الاتفاق بإخراجها، ومع ذلك فقد أجمعوا على إخراج الأحاديث المتعلقة بالمهدي المنتظر، لأن هذه الأحاديث.
كانت من الثبوت والشيوع والقوة، بحيث أنها قد فرضت نفسها فرضا على دولة الخلافة وعلى كافة علمائها، وتعذر تجاهلها أو إنكارها، لأنها شقت طريقها بيسر وسهولة إلى أسماع المسلمين وقلوبهم، ولم يكن بوسع دولة الخلافة، ولا بوسع علمائها أن يتجاهلوا قوة هذا التيار الغلاب، فأذعنوا أمام قوة الحقيقة الدينية، وأخرجوا الأحاديث المتعلقة بالمهدي المنتظر، ودونوها في صحاحهم ومسانيدهم ومؤلفاتهم، واعتبروها معلومات عن الغيب، وحقائق دينية صادرة بالفعل عن الصادق المجرب الذي لا ينطق عن الهوى.
ممن أخرج الأحاديث المتعلقة بالمهدي:
1 ـ أصحاب كتب الحديث المعروفة بالصحاح الستة: البخاري، ذكر المهدي بالوصف لا بالاسم، وأخرج الأحاديث المتعلقة بعلامات الظهور، وبنزول السيد المسيح، وظهور المسيح الدجال، وأخرج الحديث الذي يؤكد بأن إمام الأمة هو الذي سيؤم المسيح ابن مريم عند نزوله، وشراح صحيح البخاري أعلنوا بصراحة بأن الإمام الذي عناه البخاري هو المهدي المنتظر. (راجع فتح الباري ج 6 ص 383 ـ 385، وعمدة القاري ج 16 ص 39 ـ 40 المجلد الثامن، وفيض الباري ج 4 ص 44 ـ 47، وحاشية البدر الساري ج 4 ص 33 ـ 47، والمهدي المنتظر في الفكر الإسلامي 140 ـ 143).
ويبدو أن البخاري قد تحاشى ذكر المهدي بالاسم لأنه عندما وضع صحيحه، كانت فرائص الدولة ترتجف رعبا من هذا المهدي، وتبحث عنه بعد أن تأكدت مخابراتها بأنه قد ولد بالفعل.
كذلك ذكر مسلم في صحيحه المهدي بالوصف لا بالاسم، لأن مسلم قد وضع صحيحه بنفس الفترة الزمنية، ومع هذا فقد ذكر ابن حجر الهيثمي، (راجع في الصواعق المحرقة الفصل 11، والمتقي الهندي في كنز العمال ج 14 ص 264، حديث 38662، ومحمد علي الصبان في إسعاف الراغبين ص 145، والشيخ حسن العدوي المالكي في مشارق الأنوار)، أن مسلم قد ذكر في صحيحه.
المهدي بالاسم وبالوصف معا لكن الاسم قد حذف، وبقي الوصف، وليس أدل على ذلك من أن مسلم قد أخرج حديث الخليفة الذي يحثي المال حثيا، ولا يعده عدا. (راجع صحيح مسلم بشرح النووي ج 18 ص 38، وأخرج حديث خسف البيداء ج 18 ص 4 ـ 7 من صحيح مسلم بشرح النووي وكلاهما من الظواهر الخاصة بالمهدي المنتظر، التي لا تنطبق على غيره، ولم تحدث مع غيره. وأخرج أحاديث المهدي المنتظر ابن ماجة ت 273 ه‍، وأبو داود ا 275 ه‍، والترمذي المتوفى 279 ه‍، وهؤلاء هم أصحاب الصحاح عند أهل السنة).
2 ـ وأخرج أحاديث المهدي كل علماء دولة الخلافة الأعلام الذين تألقوا خلال الفترة الزمنية الواقعة ما بين 100 ه‍ 975 ه‍، وقد ورد ذكرهم في كتاب المهدي المنتظر في الفكر الإسلامي ص 26 ـ 29 إصدار مركز الرسالة منهم ابن سعد صاحب الطبقات الكبرى، وابن أبي شيبة ت 235 ه‍، وأحمد بن حنبل ت 241 ه‍، وأبو بكر الإسكافي ت 260 ه‍، وابن قتيبة الدينوري ت 276 ه‍، والبزار ت 292 ه‍، وأبو يعلى الموصلي ت 307 ه‍ والطبري ت 310 ه‍ والعقيلي ت 322، ونعيم بن حماد ت 328، وشيخ الحنابلة البربهاري ت 329 وابن حبان البستي ت 354، والمقدسي ت 355، والطبراني ت 360، وأبو الحسن الأبري ت 363، والدارقطني 385، والخطابي ت 388، والحاكم النيسابوري ت 405، وأبو نعيم الإصبهاني ت 430، وأبو عمرو الداني ت 444، والبيهقي ت 458، والخطيب البغدادي ت 463، وابن عبد البر المالكي ت 463، والديلمي ت 509 ه‍ والبغوي ت 510، والقاضي عياض ت 544، والخوارزمي الحنفي ت 568، وابن عساكر ت 571، وابن الجوزي ت 597، وابن الجزري ت 606 وابن العربي ت 638، ومحمد بن طلحة الشافعي ت 652، والسبط بن الجوزي ت 654 وابن أبي الحديد المعتزلي الحنفي ت 655، والقرطبي المالكي ت 671، والكنجي الشافعي ت 658، وابن خلكان ت 681، ومحب الدين الطبري ت 694، والعلامة ابن منصور في مادة هدى من لسان العرب وهو متوفى عام 711 ه‍، وابن تيمية ت 728، والجويني ت 730، والذهبي ت 748، وابن الوردي ت 749، والزرندي الحنفي ت 750، وابن القيم.
الجوزي 751، وابن كثير ت 774 ه‍، وابن خلدون المغربي ت 808 ه‍. إلخ.
هؤلاء هم العلماء الأفذاذ الذين تألقوا في سماء دولة الخلافة وعرفتهم الخاصة والعامة، وكلهم قد أجمعوا على إخراج الأحاديث النبوية المتعلقة بالمهدي المنتظر.
ويمكنك القول وبكل ارتياح، أنه ما من محدث إسلامي على الإطلاق، إلا وقد أخرج الأحاديث المبشرة بظهور المهدي في آخر الزمان أو أخرج بعضها، أو أخرج أحاديث عن علامات الظهور أو مشاهد من عصر الظهور.
عدد الأحاديث المتعلقة بالمهدي المنتظر:
بالرجوع إلى معجم أحاديث المهدي الذي ألفته مؤسسة المعارف الإسلامية والواقع في خمسة مجلدات والمطبوع في قم الطبعة الأولى نجد أن: ـ 1 ـ المجلد الأول والثاني قد اشتملا على 560 حديثا من الأحاديث المروية بطرق السنة والشيعة معا والمسندة جميعها إلى النبي.
2 ـ المجلد الثالث والرابع قد اشتملا على 876 حديثا مسندة إلى أئمة أهل البيت، واشترك أهل السنة برواية الكثير منها مع الشيعة الإمامية.
3 ـ أما المجلد الخامس فقد اشتمل على 505 أحاديث وكلها من الأحاديث المفسرة لآيات قرآنية، وقد غطت هذه الأحاديث ما أورده المفسرون من أهل السنة والشيعة.
4 ـ وعلى هذا تكون مجموع الأحاديث المسندة إلى النبي وأئمة أهل البيت 1436 حديثا، فإذا أضفنا لها محتويات المجلد الخامس المشتمل على الأحاديث المفسرة يكون مجموع الأحاديث المتعلقة بالمهدي المنتظر 1941 حديثا. (راجع المهدي المنتظر في الفكر الإسلامي إصدار مؤسسة الرسالة ص 149).
أحاديث المهدي المنتظر بموازين علماء الحديث:
1 ـ صحة أحاديث المهدي المنتظر
1 ـ قال الترمذي في سننه ج 4 ص 505 الأحاديث أرقام 2230 و 2231.
و ج 4 ص 506 الحديث رقم 2233 عن كل واحد من الأحاديث الثلاثة المذكورة هذا حديث حسن صحيح. وقال في ج 4 ص 506 من سننه عن الحديث رقم 2232: (هذا حديث حسن).
2 ـ قال أبو جعفر العقيلي ت 322: (وفي المهدي أحاديث جياد) الضعفاء الكبير للعقيلي ج 3 ص 253 الحديث رقم 1257 في ترجمة علي بن نفيل الحراني.
3 ـ قال الحاكم النيسابوري ت 405 ه‍ في المستدرك ج 4 ص 429 و 465 و 553 و 558 عن كل واحد من الأحاديث الأربعة التي أخرجها: (هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وفي ج 4 ح 450 و 557 و 558 قال عن كل واحد من هذه الأحاديث الثلاثة: (هذا حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه) وفي ج 4 ص 429 و 442 و 457 و 464 و 502 و 554 و 557، قال عن كل واحد من الأحاديث الثمانية: (هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه).
4 ـ قال البيهقي ت 458 ه‍ في الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد ص 127: (والأحاديث على خروج المهدي أصح إسنادا).
5 ـ وفي كتاب مصابيح السنة للبغوي ص 488، 491 أخرج حديثا للمهدي في فصل الصحاح وفي ص 492 ـ 493 أخرج خمسة أحاديث للمهدي في فصل الحسان.
6 ـ قال ابن الأثير ت 606 ه‍ في النهاية مادة (هدا) وبه سمي المهدي الذي بشر به رسول الله أنه يجئ في آخر الزمان، (راجع النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير ج 5 ص 254). وهذا لا يصدر إلا على من يقول بالصحة.
7 ـ قال القرطبي في التذكرة ص 704 باب ما جاء في المهدي عن حديث ابن ماجة في المهدي إسناده صحيح.
8 ـ قال ابن تيمية في منهاج السنة: (إن الأحاديث التي يحتج بها الحلي على خروج المهدي أحاديث صحيحة) منهاج السنة ج 4 ص 211..
9 ـ سكت الذهبي على ما صححه الحاكم في مستدركه من أحاديث المهدي وصرح بصحة حديثين، (راجع تلخيص المستدرك ج 4 ص 553 و 558 مطبوع بهامش المستدرك).
10 ـ قال الكنجي الشافعي في كتابه: (البيان في أخبار صاحب الزمان عن حديث أخرجه الترمذي في سننه ج 4 ص 505 وصححه هذا حديث صحيح، وقال عن آخر هذا حديث حسن صحيح).
11 ـ اعترف ابن القيم الجوزي في المنار المنيف ص 130 ـ 135 حديث 326 و 327 و 329 و 331 بحسن بعض أحاديث المهدي وصحة بعضها الآخر.
12 ـ قال ابن كثير عن سند حديث في المهدي، وهذا إسناد قوي صحيح، ثم نقل حديثا عن ابن ماجة وقال: هذا حديث حسن، وقد روي من غير وجه عن النبي). (راجع النهاية في الفتن والملاحم ج 1 ص 55 و 56 لابن كثير).
13 ـ قال التفتازاني عن خروج المهدي في آخر الزمان: (وقد ورد في هذا الباب أخبار صحاح). (راجع شرح المقاصد للتفتازاني ج 5 ص 312).
14 ـ قال نور الدين الهيثمي في مجمع الزوائد ج 7 ص 313 ـ 314 عن أحد حديثين واردين في المهدي المنتظر رواه الترمذي وغيره، ورواه أحمد، وأبو يعلى ورجالهما ثقات، وقال عن آخر ج 7 ص 115: رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح، وفي ج 7 ص 116 قال عن ثالث: ورجاله ثقات وفي ج 7 ص 117 قال عن رابع: رواه البزار ورجاله رجال صحيح، وفي ص 117 أيضا قال عن خامس: رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات.
15 ـ وفي الجامع الصغير للسيوطي ج 2 ص 672 رمز لبعض الأحاديث المتعلقة بالمهدي المنتظر بعلامة (صح) أي صحيح ولبعضها الآخر بعلامة (ح) أي حسن.
16 ـ نقل القنوجي عن الشوكاني قوله بصحة أحاديث الإمام المهدي وتواترها.
17 ـ قال ناصر الدين الألباني في مقال له بمجلة التمدن الإسلامي
دمشق / 22 ذي العقدة 1371: (أما مسألة المهدي المنتظر فليعلم أن في خروجه أحاديث صحيحة قسم كبير منها له أسانيد صحيحة). (راجع المهدي المنتظر في الفكر الإسلامي إصدار مركز الرسالة ص 34 ـ 38).
2 ـ تواتر الأحاديث المتعلقة بالمهدي المنتظر
لا خلاف بين اثنين من أئمة أهل البيت أو من أوليائهم بأن الأحاديث المتعلقة بالمهدي المنتظر قد صدرت عن رسول الله بالفعل، ونقلها عنه جمع كبير من المسلمين يمتنع عقلا وبكل الموازين اجتماعهم على الكذب، وأن هذه الأحاديث كانت معلومة بين الناس أثناء حياة الرسول وبعد وفاته، وأنها قد تواترت واستقرت في القلوب والأذهان، وما كانت حركة التدوين والرواية إلا كشفا وتأكيدا لحقائق ثابتة ومستقرة.
كذلك فإن علماء دولة الخلافة قد توصلوا عمليا لهذه النتيجة وصرحوا بتواتر الأحاديث المتعلقة بالمهدي المنتظر، وصدر هذا التصريح عن غير واحد منهم كالسيوطي، راجع إبراز الوهم المكنون لأبي الفيض ص 436، والهيثمي، راجع الصواعق المحرقة 162 ـ 167 فصل 1 باب 11 والمتقي الهندي، راجع البرهان على علامات مهدي آخر الزمان 178 ـ 183، والبرزنجي، راجع الإشاعة لأشراط الساعة ص 87، وابن حجر العسقلاني، راجع تهذيب التهذيب ج 9 ص 125 / 201 واحتج القرطبي بقول الحافظ الحاكم النيسابوري (والأحاديث عن النبي في التنصيص على خروج المهدي من عترته من ولد فاطمة ثابتة) التذكرة ج 1 ص 701. راجع المهدي المنتظر في الفكر الإسلامي / إصدار مركز الرسالة ص 38 ـ 43.
الفصل السابع
التشكك بأحاديث المهدي بعد التيقن منها
حصول اليقين فيها:
رأينا أن أحاديث المهدي المنتظر، قد رواها أهل بيت النبوة عن رسول الله، وقد شهدوا أنهم قد سمعوا رسول الله يحدث بها، ويبشر المؤمنين بالمهدي المنتظر، وعلى ذلك قد أجمعوا، وتناقل أهل بيت النبوة هذا الإجماع جيلا بعد جيل. فلو لم يرويها من الأمة غيرهم لكانت رواية أهل بيت النبوة كافية، ولكانت شهادتهم صادقة، ولكان إجماعهم حجة على المسلمين أجمعين، لأنهم الأبناء والنساء والأنفس المنوه عنهم بآية المباهلة، ولأن الله قد شهد لهم بالطهارة، ولأن الصلاة عليهم ركن من أركان الصلاة المفروضة على العباد، ثم لأنهم أحد الثقلين.
وبعد مائة سنة من منع كتابة ورواية الأحاديث النبوية، والتزام دولة الخلافة ورعاياها بهذا القانون العجيب اكتشفوا خطورة هذا القانون وكم ضيعوا في جنب الله، فانطلقوا يروون ويكتبون أحاديث نبيهم بعد مائة عام من صدورها، وأوجدوا موازين الرواية والدراية وتوصلوا وفق هذه الموازين إلى نتيجة مفادها أن أكثر من خمسين صحابيا قد سمعوا رسول الله يحدث بأحاديث المهدي المنتظر، ويبشر المؤمنين به.
وكان الأخوان الذين سبقونا بالإيمان قد سمعوا رسول الله يحدث بها، ويبشر بالمهدي فنقلوا ما سمعوه لأبنائهم، وصدق الناس لأن هذه من أنباء الغيب التي لا مجال للاجتهاد فيها.
وتضافر إجماع أهل بيت النبوة، مع شهادة الخمسين صحابيا مع القناعة العامة التي تولدت عند المسلمين وتوارثوها جيلا بعد جيل، فصار الاعتقاد بالمهدي المنتظر وعلامات ظهوره، وملامح عهد الظهور عقيدة عند المسلمين تقرأ تماما مع عقيدتهم الدينية.
وعلى هذا الأساس وبعد التحري والاثبات قام علماء الحديث الأعلام بإخراج أحاديث المهدي المنتظر، وحكموا بصحتها وفق الموازين العامة التي أوجدوها، وقالوا بتواترها، وأخرجها المؤرخون وعلماء التفسير وأصحاب السير، وأفرد لها رجال الفكر والسياسة بحوثا خاصة، وتكونت لدى المسلمين مع اختلاف منابتهم وأصولهم ومذاهبهم وتوجهاتهم عقيدة الاعتقاد بالمهدي المنتظر الواحدة. وهكذا تحقق اليقين بكل صوره وتصوراته القطعية.
2 ـ أوهام الشك بعد حصول اليقين
بعد أن حصل اليقين بعقيدة المهدي المنتظر، وبعد أن عرف المسلمون إجماع أهل بيت النبوة على صحة هذا الاعتقاد، وبعد أن أدلى خمسون صحابيا بشهادتهم على أنهم سمعوا الرسول يبشر بالمهدي المنتظر ويحدث بأحاديثه، وبعد أن أخرج العلماء الأعلام هذه الأحاديث وحكموا بصحتها وتواترها كما أسلفنا، وبعد أن صار الاعتقاد بالمهدي المنتظر عقيدة لكل المسلمين، وصار انتظاره فرجا ومخرجا وعبادة، بدأت أوهام الشك تتجدد بعد حصول اليقين تراود أذهان البعض، ثم صرحوا بها مع علمهم بكل ما أسلفنا، وأخذوا يشككون بصحة الاعتقاد بالمهدي المنتظر.
الأسباب المعلنة للشك بعد اليقين والرد عليها
الذين أبدوا شكوكهم بفكرة الاعتقاد بالمهدي المنتظر، وبالأحاديث النبوية الواردة فيه، أعلنوا بأن شكوكهم لم تنطلق من فراغ، ولا هي من قبيل التشهي بل تستند إلى أسباب معقولة منها:
1 ـ أن البخاري ومسلم لم يرويا أي حديث صريح بالمهدي المنتظر
الرد على هذا السبب:
أ ـ لم يقل أحد من علماء الحديث أن كل ما لم يروه البخاري ومسلم غير صحيح.
ب ـ صحيحا البخاري ومسلم لم يشتملا على كافة الأحاديث الصحيحة بدليل قول البخاري عن كتابه الصحيح: (أخرجت هذا الكتاب من مائة ألف حديث صحيح، أو من مائتي ألف حديث صحيح، فما أعلن البخاري صحته يزيد عما أخرجه في صحيحه بعشرات الأضعاف).
ج ـ إن البخاري ومسلم قد كتبا صحيحيهما بتاريخ ولادة المهدي المنتظر وكان مجرد ذكر المهدي المنتظر يثير الرعب في أوصال أركان الدولة العباسية، فكانت مخابراتها وعيونها تتحرى عن كل المواليد في ذلك التاريخ، فمن غير المعقول بهذه الظروف أن يخاطر الشيخان بذكر لفظ المهدي المنتظر، فلو فعلا ذلك لواجها دولة لا طاقة لهما بمواجهتها والاهم أن الدولة يمكن أن تتلف صحيحيهما.
ومع هذا فقد تطرق الشيخان إلى الأحاديث الواردة بخروج الدجال، وأحاديث نزول عيسى، وإمامة أمير المسلمين لعيسى، فهما يعبران عن وجود الإمام المهدي: (بكلمة أمير) أو الإمام مطلقا ثم إن شراح صحيح البخاري متفقون على أن البخاري قد قصد بلفظ الإمام: (الإمام المهدي). (راجع عمدة القاري بشرح صحيح البخاري ج 16 ص 39 ـ 40 المجلد الثامن. وفتح الباري ج 6 ص 383 ـ 385، وإرشاد الساري ج 5 ص 419).
ذ ـ أما مسلم فقد ذكر حديث عن خليفة يحثي المال حثيا ولا يعده عدا، وذكر حديث الخسف، وهذه أوصاف وأحداث لا تنطبق إلا على الإمام المهدي وعلامات ظهوره.
ر ـ ثم إن الأحاديث التي أخرجها أصحاب الصحاح الأخرى تتكامل إلى درجة التطابق مع ما ذكره البخاري ومسلم، مما يؤكد تحاشي الشيخين المتعمد لإغفال الإمام المهدي خشية سطوة الدولة التي كانت معبأة بالكامل ضد شبح المهدي، وخوفا على كتابيهما.
ز ـ لقد تعارف علماء دولة الخلافة على أن كتب الأحاديث المشهورة عندهم هي ستة كتب، وسموها بالصحاح ومنها صحيح البخاري ومسلم، والكتب الأربعة الأخرى التي تحمل صفة الصحاح أخرجت أحاديث المهدي المنتظر بمعنى أن اثنين من أصحاب الصحاح قد أخرجا أحاديث المهدي المنتظر بالوصف دون أن يصرحا باسمه، بينما أخرج أربعة من أصحاب الصحاح أحاديث المهدي المنتظر وصرحوا باسمه ووصفه معا.
س ـ ثم إن البخاري ومسلم لم يخرجا كل الأحاديث المتفقة مع الشروط التي وضعاها فطالما كرر الحاكم النيسابوري جملة: (هذا الحديث صحيح على شروط الشيخين ولم يخرجاه).
ش ـ لم يرد في القرآن ولا في السنة، ولا أجمع المسلمون بأن البخاري ومسلم معصومان، وأن قولهما هو القول الفصل، فقد عاش المسلمون قرابة قرنين ونصف بدون البخاري ومسلم وتدبروا أمورهم!!
ص ـ ثم ما هي قيمة قولي البخاري ومسلم أمام إجماع أهل بيت النبوة أعدال الكتاب والمشهور لهم بالطهارة إلهيا، والمفروضة مودتهم على العباد!!
ض ـ ثم إن البخاري ومسلم ليسوا أكثر من عالمين فاضلين من علماء الحديث من جملة مئات علماء الحديث الذين تألقوا في سماء العالم الإسلامي، ولهما شيوخ وأساتذة، كلهم أخرجوا أحاديث المهدي المنتظر وقالوا بصحتها وتواترها.
ط ـ ثم إنه ليس منطقيا أن نوقف أو أن نتجاهل حركة الأحداث الربانية لأن صحيحي البخاري ومسلم لم يشتملا عليها!!
ظ ـ من المؤكد أن البخاري ومسلم لم يخرجا في صحيحيهما بأن الشمس تطلع من المشرق، وتغيب من المغرب، فهل نتجاهل هذين الحدثين وننكرهما أو نتنكر لهما بحجة أن البخاري ومسلم لم يتطرقا إلى هذه الناحية! ما لكم كيف تحكمون!!
2ـ السبب الثاني: أن ابن خلدون ضعف بعض الأحاديث الواردة في المهدي المنتظر!!
الرد على هذا السبب:
أ ـ ملخص الموضوع وحصر تضعيفات ابن خلدون: تناول ابن خلدون 23 حديثا من الأحاديث الواردة في المهدي المنتظر فأخضع هذه الأحاديث للنقد والدراسة فضعف 19 عشر حديثا ولم يحكم بالضعف على الأربعة المتبقية مما يعني أنها صحيحة في نظره، فجاء المتشككون، وطاروا بتضعيفات ابن خلدون كل مطار، وأشاعوا أن ابن خلدون لا يعتقد بالمهدي المنتظر، ويضعف على الإطلاق الأحاديث الواردة فيه مطلقا. وهكذا تاجر المشككون بشهرة الرجل، وسخروا هذه الشهرة لخدمة هواهم.
ب ـ شهادة خطية لابن خلدون: قال ابن خلدون في تاريخه ج 1 ص 555 فصل 52 ما نصه حرفيا: (إعلم أن المشهور بين الكافة من أهل الإسلام على ممر الأعصار أنه لا بد في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت يؤيد الدين، ويظهر العدل، ويتبعه المسلمون، ويستولي على الممالك الإسلامية ويسمى المهدي) انتهى كلام ابن خلدون.
ح‍ ـ لم يذكر ابن خلدون من الذين أخرجوا أحاديث المهدي المنتظر غير سبعة وهم الترمذي، وأبو داود والبزار، وابن ماجة، والحاكم، والطبراني، وأبو يعلى الموصلي، (راجع تاريخ ابن خلدون ج 1 ص 555 فصل 52). وهذا يعني أنه ترك 48 عالم حديث ممن أخرجوا أحاديث المهدي المنتظر أولهم ابن سعد في طبقاته ت 230 ه‍، وآخرهم نور الدين الهيثمي ت 807 ه‍، وحتى يكون الحاكم سليما يجب أن يطلع على ما أخرجه علماء الحديث، لأن الأحاديث في كل موضوع يكشف بعضها غموض بعض، ويؤيد بعضها بعضا.
قال الشيخ أحمد شاكر: (إن ابن خلدون قد قفا ما ليس له به علم وأقحم قحما لم يكن من رجالها... إنه لم يحسن فهم قول المحدثين، ولو اطلع على أقوالهم وفقههم ما قال شيئا مما قال). مقال في مجلة الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة ج 1 سنة 12 رقم 46 سنة 1400، وجاء في هذا العدد أيضا عن الشيخ العباد أنه قال: (ابن خلدون مؤرخ وليس من رجال الحديث، فلا يعتد به في التصحيح والتضعيف وإنما الاعتماد بذلك على مثل: البيهقي، والعقيلي، والخطابي، والذهبي، وابن القيم وغيرهم من أهل الرواية والدراية الذين قالوا بصحة الكثير من أحاديث المهدي).
خ ـ لقد سكت ابن خلدون عما رواه الحاكم، ولم ينتقده بحرف لوثاقة جميع رجاله عند أهل السنة قاطبة، تاريخ ابن خلدون ج 1 ص 564 فصل 52.
وقال ابن خلدون عن حديث آخر: (هذا صحيح الإسناد) تاريخ ابن خلدون ج 1 ص 564 وقال عن ثالث وهذا إسناد صحيح، تاريخ ابن خلدون ج 1 ص 565، وقال عن رابع: (ورجاله رجال الصحيح لا مطعن فيهم ولا مغمز) تاريخ ابن خلدون ج 1 ص 568 فأنت ترى أن ابن خلدون نفسه يصحح أربعة أحاديث من الأحاديث الواردة في المهدي!!
خ ـ لقد توفي ابن خلدون عام 808 ه‍، ودونت أحاديث المهدي المنتظر سنة 230 بمعنى أنه بين تدوينها وتناول ابن خلدون لها قرابة 600 عام، فكيف يتمكن من دراستها والحكم عليها وهو يتناول 7 / 55 ممن أخرجوها.
ذ ـ ثم لنفترض أن ابن خلدون أنكر وضعف ال‍ 23 حديثا التي تناولها بالدراسة كلها فما معنى هذا العدد مع وجود 1941 حديثا! ولنفترض أنه ضعف أو أنكر كافة الأحاديث المتعلقة بالمهدي المنتظر، فما هي القيمة العلمية لإنكاره!!
ولماذا اختاره المتشككون قدوة لهم لينقضوا كافة الأحاديث المتعلقة بالمهدي المنتظر؟ ولم يختاروا عالما من ال‍ 55 عالما الذين أخرجوا أحاديث المهدي المنتظر وحكموا بصحتها وتواترها!!
ـ ثم ما هي قيمة معارضة ابن خلدون أمام قول وإجماع أهل بيت النبوة؟!.
جرأة ابن خلدون وتطاوله ومبلغه من العلم:
قال ابن خلدون في مقدمته بالفصل الذي عقده لعلم النفقة ما يلي وبالحرف: وشذ أهل بيت النبوة بمذاهب ابتدعوها، وفقه انفردوا به بنوه على مذهبهم في تناول بعض الصحابة بالقدح، وعلى قولهم بعصمة الأئمة، ورفع الخلاف عن أقوالهم، وهي كلها أصول واهية، وشك بمثل ذلك الخوارج، ولم يحفل الجمهور بمذاهبهم، بل أوسعوها جانب الإنكار والقدح، فلا نعرف شيئا من مذاهبهم، ولا نروي كتبهم، ولا أثر لشيء منها في مواطنهم، فهو يعتبر أهل بيت النبوة: مبتدعة، شذاذ، ويرى أن الأصول التي سار عليها أهل البيت أصول واهية!! ويكشف عن حقيقة شعوره وما في نفسه، فيعبر عن ألمه وحزنه لأن فقه أهل السنة قد انقرض في مصر، وحل محله فقه أهل البيت!! وتلاشى من سواهم، ثم يرقص الرجل فرحا ويهلل عندما زالت دولة العبيديين وحل فقه الشافعي محل فقه أهل بيت النبوة.
فماذا تتوقع من رجل هذه حقيقة مشاعره عن أهل بيت النبوة!! ربما كان سر شهرته يكمن في طبيعة هذه المشاعر، وربما كره اعتقاد المسلمين بالمهدي المنتظر وتصديقهم للأحاديث النوبة الواردة فيه، وحاول أن يوهن اعتقاد المسلمين بالمهدي، وأن يكذب الأحاديث الواردة فيه لأن المهدي المنتظر من أهل بيت النبوة!! فأراد بمحاولاته تلك الحصول على مزيد من الشهرة، والتألق!!!
والذي لا أعرفه بالفعل هو هل تلا ابن خلدون آية التطهير وآية المودة في القربى، وآية المباهلة، وآية الصلاة على النبي؟ وعلى عرف معاني هذه الآيات واطلع على تفسيرها؟ وهل مر عليه حديث الثقلين، وحديث السفينة، وحديث النجوم؟ أكبر الظن ـ وبعض الظن إثم ـ أنه لم يتل هذه الآيات، ولم يقف على تفاسيرها، ولم تمر عليه تلك الأحاديث!!
لكن ابن خلدون مؤرخ وذكي ولا بد أنه قد أطلع بحكم دراساته التاريخية على كليات وتفاصيل الصراع الذي دار بين الشرك والإيمان، وعرف أن الذين قادوا جبهة الشرك والعداوة ضد رسول الله حتى أحيط بهم هم أنفسهم الذين.
سلمهم ابن خلدون رايات السنة، وأن أهل بيت النبوة الذين قادوا جبهة الإيمان وجاهدوا في الله حق جهاده، هم الذين وصفهم ابن خلدون بالشذاذ والمبتدعة، وأهل الأحوال الواهية!! إن هذا هو جهد البلاء حقا!!
3 ـ السبب الثالث
والسبب الثالث الذي شكك المتشككين بعقيدة المهدي وبالأحاديث النبوية الواردة فيه، أن أحد علماء الحديث قد روى حديثا نبويا يخص عيسى ابن مريم بالمهدية وينفيها عن سواه، ونص الحديث كما يلي: (لا يزداد الأمر إلا شدة ولا الدنيا إلا إدبارا، ولا الناس إلا شحا، ولا تقوم الساعة إلا على شرار الناس ولا مهدي إلا عيسى ابن مريم). (راجع سنن ابن ماجة ج 2 ص 340 حديث 4039). ولأن المتشككين حريصون على سنة رسول الله فقد تمسكوا بهذا الحديث الوحيد ليبطلوا به اعتقاد المسلمين بالمهدي المنتظر، وليكذبوا به 1941 حديثا واردة بالمهدي!!!
الرد على هذا السبب 1 ـ نفس ابن ماجة الذي روى هذه الحديث الوحيد كان قد روى أحاديث عن المهدي المنتظر منها حديث: (المهدي حق وهو من ولد فاطمة) ج 2 ص 1368 حديث 4086 وقد صححه وحكم بتواتره جمع من أهل السنة. فلماذا يهمل المتشككون حديث المهدي حق.... ويتمسكون بحديث لا مهدي إلا عيسى!!!
ولماذا يتجاهلون بالكامل 1941 حديثا، أو يكذبون ويركزون كل اهتمامهم على حديث واحد ويصدقونه!!
2 ـ ثم لماذا وضع علم الرجال وفق الدراية، قال ابن القيم في المنار المنيف 129 حديث 324 وص 130 حديث 325 أن الأبري ت 363 قد قال: (محمد بن خالد الجندي هذا غير معروف عند أهل الصناعة من أهل العلم والنقل، وقال البيهقي تفرد به محمد بن خالد هذا، وقال الحاكم مجهول، وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب ج 9 ص 125 و 202: قدح أبو عمرو وأبو الفتح الأزدي بمحمد بن خالد، وقال الذهبي في ميزان الاعتدال ج 3 ص 535 ح 479 قال الأزدي منكر الحديث، وقال أبو عبد الله الحاكم مجهول، وحديث: (لا مهدي إلا عيسى خبر منكر أخرجه ابن ماجة. وقال القرطبي في التذكرة: (حديث لا مهدي إلا عيسى يعارض أحاديث هذا الباب، ثم نقل كلمات من طعن بمحمد بن خالد وأنكر عليه حديثه) ثم قال: (والأحاديث عن النبي في التنصيص على خروج المهدي من عترته من ولد فاطمة ثابتة وهي أصح من هذا الحديث فالحكم لها دونه).
وقال ابن حجر في الصواعق المحرقة: (وصرح النسائي بأنه منكر، وجزم غيره من الحفاظ بأن الأحاديث التي قبله أي الناصة على أن المهدي من ولد فاطمة أصح إسنادا).
ووصف أبو نعيم في حلية الأولياء ج 9 ص 61 هذا الحديث بالغرابة وقال: لم نكتبه إلا من حديث الشافعي.
وقال ابن تيمية والحديث الذي فيه لا مهدي إلا عيسى رواه ابن ماجة وهو حديث ضعيف، رواه عن يونس، عن الشافعي، عن شيخ مجهول من أهل اليمن:
(محمد بن خالد) لا تقوم بإسناده حجة. وقال عن حديث محمد بن خالد الجندي: (وهذا تدليس يدل على توهينه، ومن الناس من يقول بأن الشافعي لم يروه). (راجع منهاج السنة ج 4 ص 101 ـ 102).
(ولكثرة ما طعن به محمد بن خالد حاول بعض أنصار الشافعي أن يدرأ عن الشافعي رواية هذا الحديث وادعى أنه رأى الشافعي في المنام وهو يقول كذب علي يونس بن عبد الأعلى ليس هذا من حديثي). (راجع الفتن والملاحم لابن كثير ص 32).
3 ـ ثم إن الناصبة وأركان دولة الخلافة لن يقبلوا أبدا أن يكون المهدي المنتظر من عترة النبي أهل بيته، وقد هالهم أن يخص الله آل محمد بهذا الشرف الجديد، فليس من المستبعد أن يحرك الناصبة، وأركان دولة الخلافة أعوانهم وعيونهم لتنحية هذا الشرف عن آل محمد، أو تشكيك المسلمين بصحة الأخبار التي بدأت تفيض حول المهدي المنتظر، لكن علم الرجال والدراية لهما المقدرة على كشف الكثير من هذه العناصر بموضوعية وبدون مواجهة. وليس في ذلك.
عجب فقد حسدت بطون قريش النبي نفسه وحاولت وبكل أساليبها الفاشلة أن تصرف النبوة عنه، وأن تشكك بكل ما جاء به وصولا إلى غايتها المتمثلة بصرف النوبة عن بني هاشم حتى لا ينالوا هذا الشرف من دون البطون.
4 ـ السبب الرابع
يقول المتشككون بعقيدة المهدي المنتظر، وبالأحاديث النوبة الواردة فيه بأن الادعاءات بالمهدية لم تتوقف طوال التاريخ، وقد ثبت بالدليل القاطع عدم صحة هذه الادعاءات، وهذا سبب وجيه للشك بعقيدة المهدي، وبالأحاديث النبوية الواردة فيه ككل!!!
الرد على هذا السبب:
يعرف المتشككون أن هنالك من ادعى النبوة قبل ظهور النبي الحقيقي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهنالك من ادعى النبوة بعد ما أعلن رسول الله محمد أنباء النبوة، وبعد موت النبي محمد ادعى بعضهم النبوة وثبت لنا واقعيا وبالدليل القاطع عدم صحة ادعاءات الذين ادعوا النبوة قبل ظهور النبي وبعد ظهوره، وبعد موته.
فهل ادعاءات المدعين بالنبوة تبطل نبوة محمد!!! أو تبرر الشك فيها!! أو توجب عدم الاعتقاد بنبوة محمد، أو بالأدلة والبراهين الدالة عليها!!!
أن العكس هو الصحيح فطالما أنه قد ثبت لنا بالدليل القاطع عدم صحة ادعاءات المدعين بالنبوة قبل نبوة محمد وبعد ظهوره، وبعد موته فهذا من البراهين التي تثبت صحة نبوة محمد وبطلان نبوات الأدعياء!! ثم إنكم تحملون المعلومات الإسلامية، والأنباء التي أعلنها رسول الله، وفكرة الاعتقاد بالمهدي المنتظر وزر كذب الكاذبين أو ادعاءات المدعين، وهذا هو الظلم بعينه الذي لا نرضاه لا لنا ولا لكم.
5 ـ السبب الخامس:
وهنالك من يقول في زماننا أن رئاسة الدولة الإسلامية شأن يخص المسلمين وحدهم: (لأنهم الأعلم بشؤون دنياهم) وهم أصحاب الاختصاص باختيار الرئيس.
أو الخليفة أو الإمام أو الأمير، ويستشهدون على صحة هذا التصور بما فعل الخلفاء الثلاثة الأول وأولياؤهم بعد موت النبي، حيث أنهم لم يعيروا أي انتباه لتولية رسول الله لعلي بن أبي طالب، ولا للمكانة المميزة التي خص الله بها أهل بيت نبيه، إذ اعتبرها الخلفاء الثلاثة وأولياؤهم من قبيل المديح لا من قبيل الأحكام الشرعية الملزمة!! ثم إن تقديم المهدي المنتظر كرئيس للدولة الإسلامية المرتجاة هو إخلال بمبدأ الشورى، وبما فعله الخلفاء الثلاثة، ومجافاة لروح الديمقراطية السائدة في العالم الآن!! هذه الروح التي استقرت نهائيا!! فالمهدي كما تدل الأحاديث النبوية رجل قد اختاره الله تعالى، وأعلن النبي هذا الاختيار!!
وهكذا يحرم المسلمون من المشاركة باختيار حاكمهم!!! لقد سمعت هذا السبب من بعض المتشككين بعقيدة المهدي وبالأحاديث الواردة فيه! ومن المفجع حقا أن هذا البعض يحتل مراكز قيادية في أحزاب تدعو إلى عودة الإسلام، وإعادة نظام الخلافة التاريخي!! ومن المخجل أيضا أن هذه القيادات ما زالت تعتقد وتتيقن أن نظام الخلافة التاريخي هو نظام الإسلام، وأنه لا يوجد في الإسلام نظام غيره!!
فإذا سألتهم ماذا تعني الخلافة؟ اتهموك بالبلاهة وأجابوك على الفور إنها خلافة النبي!! فإذا قلت لهم إذا كان نظام الخلافة التاريخي هو النظام الإسلامي، فما هو النظام الذي كان يطبقه النبي قبل أن ينتقل إلى جوار ربه؟ لماذا تهملون بالكامل عصر النبوة ونظامه، وتتمسكون بكل قواكم بعصر ما بعد النبوة ونظامه؟ أليس عصر النبوة هو الأصل، وعصر ما بعد النبوة هو الفرع؟ فمن يلجأ إلى الفرع ويترك الأصل؟! عندئذ تضيق صدورهم، وتحمر وجوههم، وتنتفخ أوداجهم، ويصرخون بضيق ظاهر، هكذا فعل الصحابة الكرام!! وهذا ما اتفقوا عليه!! فإن قلت لهم: إن الصحابة الكرام بعيوننا رضي الله عنهم، ولكن أرأيتم إن أمر الرسول بأمر وفعل فعلا، وأمر الصحابة الكرام بأمر آخر وفعلوا فعلا فبمن نقتدي، وأي أمر نتبع؟ هل نتبع أمر الصحابة ونقتدي بما فعلوا؟ أم نتبع أمر الرسول ونقتدي بما فعل؟! ما لكم كيف تحكمون!! إن لكم لما تخيرون!!
الرد على هذا السبب حول قولهم بأن الرئاسة أو الإمارة أو الإمامة أو الخلافة شأن خاص بالمسلمين، وأنهم أصحاب الاختصاص باختيار الإمام أو الخليفة أو الأمير ضمن قواعد الشورى.
أ ـ هذا القول ليس صحيحا لأن الرئاسة الإسلامية ليست شأنا خاصا بالمسلمين وحدهم بل تخص الله ورسوله والعالم كله ومستقبل البشرية، إنها تخص الشرعية الإلهية بكل مقوماتها، لأن مهمة الإمام في الإسلام أن يقود المسلمين والعالم وفق إطار الشرعية الإلهية، وأن يحكم بالحكم الإلهي بلا زيادة ولا نقصان، وهذا يستدعي أن يكون الإمام هو الأعلم والأفهم على وجه الجزم واليقين، والمسلمون لا يعرفون من يتصف بهذه الصفة حتى يختاروه. لذلك اختص الله سبحانه وتعالى باختيار الإمام لأنه يعرف على وجه اليقين من هو الأعلم والأفهم والأفضل والأقرب إليه.
ب ـ لا يماري أي واحد من المتشككين بأن الرسول كان نبيا وكان إماما أو رئيسا للمسلمين، فهل اختاره المسلمون إماما أو رئيسا لهم، أم أن الله سبحانه وتعالى هو الذي اختاره وقدمه للناس وقاد عملية إقناعهم بأنه الأعلم والأفهم والأنسب لرئاستهم!!! وهل اختار الناس النبي سليمان رئيسا لهم، وهل اختاروا داود أو طالوت!! لأن مهمة الرئيس الإيماني، أو الإمام ليست الجلوس على كرسي الحكم وإصدار الأوامر والنواهي، إنما هي منصبة على تنفيذ برامج إلهية لإنقاذ العالم وترشيد خطاه على طريق الهداية الإلهية، والناس لا يعرفون من هو المؤهل للقيام بهذه المهمة. وهذا هو سر إعلان النبي لإمامة علي بن أبي طالب والإحدى عشر إماما من أحفاده الطاهرين، لأن الله تعالى أحكم وأرحم من أن يكل الناس لأنفسهم، وأن يتركهم بعد وفاة النبي وفي مرحلة حرجة دون رعاة شرعيين وقادة مؤهلين. وقد ركزنا على هذه الناحية في كل مؤلفاتنا ويمكنك مراجعة كتابنا (المواجهة مع رسول الله وآله) لتقف على تفصيل ذلك وتوثيقه.
ثم إنه لم يصدف طوال تاريخ الخلافة التاريخية أن اختار المسلمون خليفتهم وفق قواعد الشورى، لقد كانت الخلافة لمن غلب طوال التاريخ، فمن يغلب.
بالقوة أو كثرة الأتباع يصبح خليفة، ويقتصر دور المسلمين على إعطائه البيعة، ومن يمتنع عن البيعة يعتبر شاقا للطاعة، ومفارقا للجماعة حتى لو كان عليا بن أبي طالب أو الحسين ابن النبي، فيستتاب ويخير بين البيعة أو القتل، فلا نجاة للمتخلف عن بيعة الغالب، فلو اختبأ هذا المتخلف ببيت فاطمة بنت رسول الله فإن الخليفة الغالب سيحرق بيت فاطمة بنت محمد على من فيه حتى يخرج المتخلف ويعطي البيعة أو يموت حريقا هو ومن آواه، وقد حدث هذا بالفعل حتى في أزهى عصور الخلافة، ولا يجرؤ عاقل واحد من المتشككين على نفي ذلك.
ولو أن أهل مدينة رسول الله قد امتنعوا عن بيعة الخليفة الغالب ليقينهم بأنه كافر، أو فاسق يجاهر بالعصيان فإن الخليفة الغالب سيرسل لهذه المدينة جيشه ويأمره بالتنكيل بها حتى تبايع، وبناء على أوامر الخليفة الغالب يقتل الجيش عشرة آلاف من أهل المدينة بيوم واحد، وينهب أموالها، ويهتك أعراضها، فتحمل ألف عذراء من غير زوج، ويأخذ البيعة ممن تبقى من سكانها على أنهم عبيد وخول للخليفة يتصرف بهم تصرف المالك بأشيائه وعبيده!! وقد حدث هذا بالفعل ومجنون من ينفي ذلك.
ولو احتمى من تخلف عن البيعة بالكعبة، فإن الخليفة الغالب سيرسل جيشه ومعه أوامر بالحصول على بيعة من تخلف، فإن أبى تهدم الكعبة نفسها على رؤوس المتخلفين عن البيعة!! وقد حدث هذا بالفعل، راجع كتابنا (كربلاء الثورة والمأساة) وكتابنا (المواجهة مع رسول الله وآله) تجد التفصيل والتوثيق معا!!
وكان الغالب يعهد بالخلافة لمن يريد، ويتكرر العهد من الغالبين حتى يظهر متغلب جديد!! فتبدأ دورة العهد وإعطاء المسلمين البيعة للغالب وهم صاغرون!!
فأين هي الشورى، وأين هو الاختيار، وأين هو الاختصاص الذي يدعيه المتشككون.
2 ـ أما قول المتشككين بأن تولية المهدي المنتظر قيادة الأمة بهذه الطريقة التي حملتها الأحاديث المتعلقة بالمهدي لا تتفق مع الطريقة التي تولى فيها الخلفاء الثلاثة الأول الخلافة، لأن خلافتهم هي مقياس الشرعية والمشروعية على اعتبار أنها قد تمت تحت أسماع الصحابة وأبصارهم!!!!.
الرد على هذا القول أ ـ إنكم تحشرون الجمل في سم الخياط، وتتقولون على الله ورسوله وعلى الحقيقة الشرعية بما لم ينزل به الله سلطانا، فليس صحيحا أن فعل الخلفاء هو مقياس الشرعية والمشروعية، فهم في أحسن الأوصاف من أتباع صاحب الرسالة، ولم يدع أحد فيهم بأنه نبي، أو يوحى إليه أو معصوم عن الخطأ، ولم يدع أحد منهم بأنه الأعلم أو الأتقى أو الأفضل أو الأقرب لله ولرسوله. وأول تصريح قد صدر عن الخليفة الأول هو قوله: (إني قد وليت عليكم ولست بخيركم..) وتواترت تصريحات الخليفة الثاني التي جاء فيها: (كل الناس أعلم من عمر، وجهل عمر وعرفت المرأة، اللهم إني أعوذ بك من معضلة ليس فيها أبو الحسن...) وحسب مقاييسكم التاريخية فإن الذي جاء بعدهما أقل منهما فضلا، وأدنى مرتبة، فكيف تجاهلتم صاحب الرسالة تجاهلا تاما وجعلتم من أفعال الخلفاء الثلاثة الأول هي المقياس الأوحد للشرعية والمشروعية!!!
ب ـ إن مقياس الشرعية والمشروعية الإلهية ليس قول ولا فعل الخلفاء الثلاثة، أو غيرهم من الخلفاء التاريخيين، ولكنه قول وفعل صاحب الرسالة صلى الله عليه وآله وسلم، ومكانة أي فرد من المسلمين كائنا من كان تتحدد بحجم التزامه بأوامر رسول الله، وتقديم خيرة الله على خيرته وأمر الله ورسوله على اجتهاده وما تهوى نفسه.
ج ـ إن الله تعالى الذي اختار رسوله لقيادة مرحلة التأسيس والرسالة والذي اختار الأنبياء الكرام والأئمة الطاهرين هو نفسه الذي اختار محمد بن الحسن ليكون خاتما للأئمة، وقائدا لفترة آخر الزمان، والفرق أن محمدا نبي ورسول، والمهدي إمام وليس نبيا ولا رسول. وأن محمدا هو الوالد، والمهدي هو الابن والحفيد وهو الوارث الشرعي لعلمي النبوة والكتاب، وهو المؤهل الوحيد لقيادة المرحلة التي اختاره الله لقيادتها. فإذا أردتم القياس فقيسوا على صاحب الرسالة لا على غيره. ومهمة المهدي قيادة العالم في آخر الزمان، وإصلاح البشرية بعد فسادها، وإنقاذها بعد أن أوشكت على الغرق، وهدايتها إلى الطريق القويم، ثم إن المهدي مسلح بآيات بينات ظاهرات في السماء والأرض.
د ـ إذا كان الله تعالى قد اختار الأنبياء وخاتمهم محمد رسول الله واختار الأئمة وخاتمهم المهدي المنتظر لتحقيق غايات عالمية محددة فإن بطون قريش هي التي اختارت الخلفاء الثلاثة، وكان سبب الاختيار وهدفه منصبا بالدرجة الأولى والأخيرة على إرغام أنوف آل محمد وحرمانهم من الجمع بين النبوة والملك.
وهي نفس البطون التي قاومت النبي وعادته واستعدت عليه العرب وحاربته طوال 23 عاما، حتى أحيط بها فأسلمت أو تظاهرت بالإسلام طمعا بالملك الذي تمخضت عنه النبوة، فاختيار بطون قريش قبلي من جميع الوجوه، وغايته بدائية ومحدودة من جميع الوجوه، بينما جاء اختيار المهدي إلهيا ولغايات ومقاصد إلهية مختلفة تماما عن غايات ومقاصد بطون قريش. إنكم تصرون على إدخال الكبير بالصغير، وإيلاج الجمل في سم الخياط، وهذا محال عقلا!!
ه‍ ـ ثم إن كل واحد من الخلفاء الثلاثة قد آلت إليه الخلافة بطريقة تختلف تماما عن طريقة سلفه، فالأول فلتة، والثاني بعهد من الأول، والثالث واحد من ستة اختارهم الثاني، ثم ما هو وجه المقارنة بين المهدي وبين الثلاثة، وأين هي وحدة العلة حتى تتحقق شروط قياسكم!!
و ـ أما قولكم بأن الاختيار قد تم تحت أسماع الصحابة وأبصارهم فأعظم الصحابة على الإطلاق آل محمد الذين تذكرونهم في صلواتكم وأهل بيته الذين شهد الله تعالى بطهرهم، فهل تدلوني مشكورين على خليفة واحد من الخلفاء التاريخيين قد تولى الخلافة برضاهم وموافقتهم!!
فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا إلا مكابرة مردودة فقد آن الأوان لتتقوا الله في تمحكاتكم، واختلافاتكم، ولترك التقليد الأعمى، وللتبرع بتمثيل دور حراس الشرعية التاريخية ولفك أغلالكم عن عقول المسلمين، ولو سمع الخلفاء الثلاثة اختلافاتكم التي لا علم لهم بها لقرفوا منكم ولشعروا بالخجل لأنكم من شيعتهم.
لهذه الأسباب المعلنة التي سقناها مجتمعة ومنفردة يتشكك المتشككون بصواب فكرة الاعتقاد بالمهدي المنتظر ويشكون بصحة الأحاديث الواردة فيه على الرغم من إجماع أهل بيت النبوة على صحة الاعتقاد، وعلى الرغم من شهادة خمسين صحابيا، ومن إخراج علماء الأمة الأعلام لهذه الأحاديث وإجماعهم على صواب الاعتقاد بالمهدي المنتظر، وعلى الرغم من إجماع الأمة الإسلامية على.
اختلاف مذاهبها بصواب الاعتقاد بالمهدي، واعتقادها الفعلي فيه.
السبب الحقيقي الذي يدفع المتشككين للتشكيك بالمهدي المنتظر وبالأحاديث الواردة فيه:
الأسباب التي يوردها المتشككون للشك بالمهدي المنتظر وبالأحاديث الواردة فيه والتي سقناها وردينا عليها في البحث السابق هي أسباب ظاهرية يلج من خلالها المتشككون إلى دائرة الحوار طمعا بهز اعتقاد الأمة، وتشكيكها بالواضحات المسلمات.
أما السبب الحقيقي الذي يدفع المتشككين للتشكيك فهو كراهيتهم المطلقة لولاية آل محمد، ولقيادة أهل بيت النبوة!! وولاؤهم المطلق للواقع التاريخي والخلافة التاريخية. لأن المتشككين قد أشربوا في قلوبهم الثقافة التاريخية التي فرضت أصلا بسطوة الدولة التاريخية ونفوذها وأحوالها، ثم تحولت إلى برامج تربوية وتعليمية ثابتة يتناقلها المسلمون جيلا بعد جيل، فاستقرت بحكم العادة والتكرار، وصار الناس يعتقدون بصوابها، ثم تمادى هذا الاعتقاد، فألقى بروعهم أنها جزء لا يتجزأ من الدين، بل هي الجانب السياسي من الدين فتصبروا بها وحرصوا عليها حرصهم على الإسلام الذي اختلط عمليا هذا الاعتقاد فيه.
هذه الثقافة التاريخية التي تحولت إلى قناعة دينية، قائمة أصلا وأولا وآخرا على استبعاد أهل بيت النبوة استبعادا كاملا عن مركز قيادة الأمة، وتسليم هذه القيادة للبطل الغالب الذي يجبر الأمة على الاستسلام له، والانقياد لطاعته، وهذه الثقافة أيضا قائمة على التقليل من أهمية أهل بيت النبوة، واعتبارهم في أحسن الظروف مجرد أفراد من مجتمع أكثر أفراده صحابة، وإن وجدت أهمية لأهل البيت فهي مقصورة على المباركة وعلى شهادة الخليفة الغالب، ومن قبيل الدعاية له. فمثلا عندما يبدأ الخليفة الثاني بآل محمد بالعطاء، فهذا لا يعني أن آل محمد خير منه حتى يقدمهم عليه بالعطاء، ولو أنه عنى ذلك لقدمهم عليه بالخلافة، ولكن تقديمه لهم عليه بالعطاء، يرمز لعدله، وعظمته وليس لمكانة آل محمد، فالرجل من العدل بحيث أنه يقدم آل محمد عليه مع أنه الخليفة وأمير المؤمنين، وعلى هذا قس كل مظاهر تقديم آل محمد.
ثم إن الأمة قد أجمعت طوال تاريخها الطويل على استبعاد أهل بيت النبوة عن القيادة، فعندما يأتي المهدي وهو ابن محمد وعميد أهل بيت النبوة، وتنقاد له الأمة وينقاد له العالم كله، فإن في ذلك نقض لإجماع الأكثرية الساحقة رغبة أو رهبة على استبعاد آل محمد عن قيادة الأمة!! ثم إن في ذلك تعييب على الصحابة الكرام وخاصة الخلفاء الثلاثة الأول لأنه وفق هذه الثقافة صارت لهم مكانة عملية في قلوب العامة أعظم من مكانة النبيين!! فمن الجائز أن يخطئ الرسول (حاشاه) حسب مقاييس العامة لأنه بشر، ولكن من غير المعقول أن يخطئ الخليفة الأول أو الثاني لأنهما خليفتا رسول رب العالمين!!! وكثيرا ما روى البخاري ومسلم أحاديث تعطي لعمر دور البطولة حتى على رسول الله نفسه!! فتراه يأمر النبي، وينهاه، أو يعتبر ما رضي به النبي (دنية) في الدين كما حدث بصلح الحديبية!!
وتحولت كل هذه الأمور وأمثالها مع الأيام إلى دين حقيقي يقرأ مع الدين الإسلامي.
فإذا جاء المهدي ـ حسب اعتقاد المشككين، فإنه سينشر قضية أهل بيت النبوة على مستوى العالم كله، ويفضح فصول الظلم التي لحقت بهم، ومن خلال عدله سيطلع العالم على منهاج أهل بيت النبوة بالحكم، وسيبهر العالم، بما يفعله ويقوله، وفي ذلك إدانة للخلافة التاريخية والثقافة التاريخية، وتطال الإدانة المتشككين أنفسهم.
ومن جهة أخرى فإن المتشككين والأكثرية الساحقة من العامة مسكونة نفسيا بالرعب، وبالخوف من قطع العطاء فهي تتصور أن السيف الأموي ما زال مصلتا فوق الأعناق، وأن الرعب الأموي ما زال ماثلا، هذه هي حالة اللاشعور التي يحيونها في الحقيقة والواقع، ويتصرفون على هداها، وتنعكس على كافة أقوالهم وأفعالهم. هذه هي الدوافع والأسباب الحقيقية الكامنة وراء تشكيك المتشككين بالاعتقاد بالمهدي المنتظر وبالأحاديث النبوية الواردة فيه، وما الأسباب الظاهرة التي أعلنوها إلا غطاء مكشوفا للدوافع والأسباب الحقيقية التي وضحناها.
******************
الباب الثالث
البنى الشرعية الأساسية لنظرية المهدي المنتظر في الإسلام
الفصل الأول
حتمية ظهور المهدي المنتظر
أ ـ عند أهل بيت النبوة وأوليائهم (الشيعة):
أجمع أهل بيت النبوة وآل محمد وهم المصدر الموثوق لعلمي النبوة والكتاب على أنهم قد سمعوا ووعوا رسول الله وهو يتحدث ويؤكد وبكل وسائل التأكيد، ويبين وبكل طرق البيان حتمية ظهور الإمام المهدي المنتظر، وأنه صلى الله عليه وآله وسلم قد ركز على هذه الحتمية تركيزا خاصا، وأعطاها عناية خاصة، وأجمعوا أيضا على صحة وتواتر هذه الأحاديث عندهم، وأنها قد آلت إليهم من النبي كابرا عن كابر، وتناقلتها أجيالهم المباركة جيلا بعد جيل. وأهل بيت النبوة يعتبرون الإمام المهدي العظيم، أو الإمام أو العميد الثاني عشر من عمدائهم، أو عظمائهم أو أئمتهم، وأن ظهوره ترتيب وقدر إلهي محتوم ولا مفر من حدوثه.
وتبعا لإجماع أهل بيت النبوة وآل محمد أجمع موالوهم الذين يعتقدون بحقهم برئاسة الأمة (شيعتهم) على صحة وتواتر الأحاديث والروايات التي تتحدث عن حتمية ظهور الإمام المهدي المنتظر والتي رويت لهم عن طريق أئمة أهل بيت النبوة وتناقلوها جيلا عن جيل كما هي، واعتبروها من الكنوز والنفائس النادرة، التي تسموا بطبيعتها عن التعديل والتبديل والتحريف، فأورثها السلف للخلف كما أخذها، وأبعد من ذلك فإن شيعة أهل بيت النبوة، الذين تخرجوا من مدرسة الأئمة الأطهار ونهلوا منهم العلوم والمعارف الإسلامية اعتبروا الإمام المهدي ثاني عشر الأئمة الذين أهلهم الله وأعدهم لقيادة الأمة، وأمر رسوله بأن يعلن أسماءهم.
مع الأمر الإلهي بتأميرهم وإمامتهم، وأن رسول الله قد بلغ ما أوحي إليه من ربه، فأعلن الأمر الإلهي بإمارتهم، وسماهم بأسمائهم، وتسعة منهم يومذاك لم يولدوا بعد، وحدد زمن إمامة كل واحد منهم، وأمر المسلمين أن يسمعوا لهم ويطيعوا واعتبر القرآن هو الثقل الأكبر، وأئمة أهل بيت النبوة هم الثقل الأصغر، فإن لم يكن الأئمة الأعلام من أهل بيت النبوة هم الثقل الأصغر الذي عناه رسول الله، فمن عساه أن يكون!! ولكن المسلمين لم يسمعوا ولم يطيعوا، لأنهم غلبوا على أمرهم، فعرفوا الحق بقلوبهم، ولم تقو ألسنتهم وأيديهم على تغيير النقيض المفروض بالقوة والتغلب.
وما يعنينا أن شيعة أهل بيت النبوة المخلصين الذين تتلمذوا على يد الأئمة الأعلام وقالوا برئاستهم، يعتبرون الإمام المهدي المنتظر هو الإمام الثاني عشر من الأئمة الذين اختارهم الله، وسماهم الرسول بأسمائهم وحدد زمن إمامة كل واحد منهم، وهم موقنون أن الإمام المهدي موجود الآن بالفعل وسيظهر حتما باللحظة التي أمره بها الله، ووقت ظهوره كالساعة علمه عند الله وحده، وهم يعتبرون هذا الاعتقاد جزءا لا يتجزأ من عقيدتهم الدينية الإسلامية، والسمة البارزة المميزة لمذهبهم من دون المذاهب، فمن لا يعتقد بذلك فليس منهم.
ب ـ عند الخلفاء التاريخيين وأوليائهم (أهل السنة):
روى العلماء الأعلام من أولياء الخلافة التاريخية أحاديث الرسول التي تتحدث عن حتمية ظهور الإمام المهدي بنفس المنهاج والطريقة التي رووا فيها أحكام الإسلام التي بين أيديهم من صلاة وصيام وحج وزكاة وغيرها من الأمور الدينية، وقد وزنوا تلك الأحاديث بنفس الموازين التي وزنوا بها الأحاديث النبوية المروية عن رسول الله والتي تتعلق بأصول الدين وأحكامه الأساسية، وأكدوا صحة وتواتر الأحاديث المتعلقة بحتمية ظهور المهدي المنتظر عندهم، وقد وثقنا ذلك في الباب السابق، ثم جزموا بأن هذه الأحاديث قد صدرت عن رسول الله بالفعل، وأنها جزء لا يتجزء من الهدي النبوي والبيان النبوي، ومن المحال عقلا أن يتحدث الرسول عن أمور غيبية، وحوادث لم تقع بعلمه أو اجتهاده الشخصي (محمد البشر) ولا بد أن تكون هذه الأحاديث من الوحي الإلهي وقد كرر الله تعالى.
بلسان النبي القول: (إن أتبع إلا ما يوحى إلي)، وطالما أنها وحي فهي جزء لا يتجزأ من دين الإسلام ومضامينه ومفاهيمه ومعارفه، شأنها شأن غيرها من الأمور الدينية من صلاة وصوم وزكاة... هذه هي النتيجة التي توصلت إليها الأكثرية الساحقة من أهل السنة، فهم موقنون بحتمية ظهور المهدي المنتظر، وهم لا يرون ما يوجب الشك بحتمية هذه الظهور لأن هذه المعلومة وصلتهم بنفس الدقة والمعايير والموازين التي وصلت فيها أحكام الدين.
إجماع الأمة الإسلامية على حتمية ظهور المهدي:
الأمة الإسلامية بعد وفاة النبي تكونت عمليا من فرقتين: أولهما أهل بيت النبوة والقلة المؤمنة التي والتهم قناعة وتعبدا وهم (الشيعة) الحقيقية، والفرقة الآخرة تتكون من الخلفاء ومن الأكثرية الساحقة التي والتهم طمعا بما في أيديهم، أو خوفا من بطشهم أو رغبة أو رهبة ويعرفون (بأهل السنة) هذه هي الأمة مجتمعة وقد لاحظت من السياق السابق بأن أهل بيت النبوة ومن والاهم وهم الفرقة الأولى موقنون بحتمية ظهور الإمام المهدي المنتظر ويعدون هذا اليقين جزءا من الدين.
أما الفرقة الثانية وهم أهل السنة فقد توصلوا لذات النتيجة، وتيقنوا دينيا من حتمية ظهور المهدي المنتظر.
وهكذا نكون أمام إجماع شامل للأمة بمختلف توجهاتها على حتمية ظهور الإمام المهدي المنتظر. وحتى الذين لم يرق لهم بأن يكون المهدي من أهل بيت النبوة، قالوا بحتمية ظهور المهدي، واعتبروا عيسى ابن مريم هو المهدي المنتظر، مستندين على خبر ورد من مجهول يمني لم ير رسول الله ولم ير أصحابه. وهذا يعني أن الاعتقاد عند المسلمين بحتمية ظهور المهدي عقيدة دينية.
وقناعة عامة وراسخة في القلوب.
نماذج من الأحاديث النبوية التي رواها علماء أهل السنة والتي تؤكد حتمية ظهور المهدي:
1 ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تنقضي الأيام ولا يذهب الدهر حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي)... (راجع مسند أحمد ج 1 ص 376 ـ 377 و 430.
و 448، وسنن أبي داود ج 4 ص 107 ح 4282، والبزار ج 1 ص 281 على ما في هامش الطبراني وصحيح الترمذي ج 4 ص 505 ح 2230، والطبراني الكبير ج 20 ص 164 ـ 165، وحلية الأولياء، وكنز العمال ج 14 ص 263، ومعجم الإمام المهدي ج 1 ص 116 وتجد فيه هذه المراجع والعشرات من مراجع هذا الحديث أيضا).
2 ـ قال رسول الله: (لو لم يبق من الدهر إلا يوم لبعث الله رجل من أهل بيتي يملؤها عدلا كما ملئت جورا). (راجع ابن أبي شيبة ج 15 ص 198 ح 19494، وأبو داود ج 4 ص 107 ح 4283، والبزار ج 1 ص 104، وتذكرة الخواص ص 364، وعقد الدرر ص 18، وبيان الشافعي ص 482، ومقدمة ابن خلدون ص 248، وفتن ابن كثير ج 1 ص 37، والجامع الصغير ج 2 ص 438، وكنز العمال ج 14 ص 267، والصواعق المحرقة ص 163، ومعجم أحاديث الإمام المهدي حيث تجد هذه المراجع وعشرات المراجع إلى جانبها).
3 ـ قال رسول الله: (لو لم يبق من الدنيا إلا ليلة لملك فيها رجل من أهل بيتي...). (راجع ابن حبان ج 7 ص 576 ح 5922، والطبراني في الكبير ج 10 ص 161 و 164، والطبراني في الصغير ج 2 ص 148، وحلية الأولياء ج 5 ص 75، وعقد الدرر ص 18، والحاوي للسيوطي ج 2 ص 59، والصواعق المحرقة لابن حجر ص 163 نقلا عن أحمد بن حنبل وأبي داود والترمذي، وراجع معجم أحاديث الإمام المهدي ج 1 ص 123 وما فوق تجد الكثير من المراجع).
4 ـ قال رسول الله: (المهدي حق وهو من ولد فاطمة). (راجع تاريخ البخاري ج 3 ص 46، وصحيح مسلم على ما في إسعاف الراغبين، وأبو داود ج 4 ص 107 ح 4284، وابن ماجة ج 2 ص 1368، والنسائي على ما في إسعاف الراغبين، وجامع الأصول ج 11 ص 49، وعقد الدرر ص 15، ومشكاة المصابيح ج 3 ص 24، والجامع الصغير ج 2 ص 672 والدر المنثور ج 6 ص 449، وصواعق ابن حجر ص 163، وقال: ومن ذلك ما أخرجه أبو داود، وابن ماجة، ومسلم، والنسائي، والبيهقي وآخرون، راجع معجم أحاديث الإمام.
المهدي ج 1 ص 137 ـ 145 تجد أكثر من ستين مرجعا).
5 ـ قال صلى الله عليه وآله وسلم: (فلو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يأتيهم رجل من أهل بيتي، تكون الملائكة بين يديه، ويظهر الإسلام). (راجع صحيح الترمذي على ما في تحفة الأشراف، والديلمي على ما في كنز العمال، وتذكرة القرطبي ص 700، وتحفة الأشراف ج 9 ص 428، وكنز العمال ج 14 ص 269، ومعجم أحاديث الإمام المهدي ص 156 ـ 157 ج 1).
6 ـ قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يخرج عليهم رجل من أهل بيتي فيضربهم حتى يرجعوا إلى الحق)... (أبو يعلى ج 12 ص 19 ح 6665، مجمع الزوائد ج 7 ص 15، مقدمة ابن خلدون ص 254، والحاوي للسيوطي ج 2 ص 62 ـ، راجع معجم أحاديث الإمام المهدي ج 1 ص 261).
7 ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا علي لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يملك رجل من عترتك يقال له المهدي يهدي إلى الله عز وجل ويهتدي به العرب). (منتخب الأثر للرازي ص 189، ض 2 ب 5 ج 2، وإثبات الهداة ج 2 ص 574، ودلائل الإمامة ص 250، ومعجم أحاديث الإمام المهدي ج 1 ص 165).
8 ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تذهب الدنيا حتى يبعث الله رجلا من أهل بيتي...).
(راجع ابن أبي شيبة ج 15 ص 198، والكنى والأسماء ج 1 ص 107، والطبراني الكبير ج 10 ص 163، والدارقطني، والحاكم ج 4 ص 442، ومعجم أحاديث المهدي ج 1 ص 168 ـ 169).
تحليل موجز للأحاديث التي رواها علماء أهل السنة الأعلام حول حتمية ظهور المهدي:
إن أي إنسان ـ مهما كانت ثقافته ـ يقرأ الأحاديث التي رواها علماء أهل السنة الأعلام حول حتمية ظهور المهدي يكتشف ويحس إحساسا عميقا بجزم النبي وتأكيده على حتمية ظهور المهدي، ويبدو هذا جليا بالنماذج التي سقناها من 1 ـ 8 فالنبي يؤكد بمناسبات متعددة وبصيغ مختلفة: (بأن الأيام لن تنقضي ولن يذهب الدهر... وأن الساعة لن تقوم،... وأن الدنيا لن تذهب... حتى يبعث المهدي وهذه الصيغ الثلاث التي تؤكد بعضها، وتفسر بعضها، وتفصح عن أعلى درجات البيان ومراتب التأكيد تصب مجتمعة ومنفردة في خانة حتمية الظهور، وزيادة في التأكيد والبيان، وإفاضة للحجة الدامغة، وترسيخا للمعنى في القلوب يؤكد النبي، بأنه: (لو لم يبق من الدنيا إلا ليلة... أو من الدهر إلا يوم... أو لم يبق من الدنيا إلا يوم.... لبعث الله المهدي في تلك الليلة! ولملك المهدي تلك الليلة ولطول الله ذلك اليوم حتى يظهر المهدي ويملك). ارجع للنماذج الثمانية الآنفة وأعد قراءتها...
أهل السنة يعتقدون أن النبي ليس معصوما في كل شيء، ويقولون إنه يتحدث في الغضب والرضى، فلا ينبغي أن يحمل كل كلامه على محمل الجد وينسبون إلى النبي القول: (أنتم أعلم بشؤون دنياكم)، وينسبون إليه أمورا كثيرة، وقد وثقنا كل ذلك في كتابنا (المواجهة) والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام هو: (طالما أن الأمة بشقيها مجتمعة قد أجمعت وجزمت، بأن الأحاديث النبوية التي تحدثت عن حتمية ظهور الإمام المهدي المنتظر قد صدرت حتما من رسول الله، فهل يعقل أن تكون: (اجتهادا منه) أو تحليلا شخصيا منه صلى الله عليه وآله وسلم، أو أنها وحي إلهي!!!؟ (ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب...) (سورة طه، آية 62). كان رسول الله قبل أن يؤتى شرف النبوة يعرف بين قومه بالصادق، والصادق هو الذي لا يكذب، أفحين شرفه الله بالنبوة، وأمره أن يتبع ما يوحى إليه (يجتهد) في ما لا علم له به، أو يحلل تحليلات شخصية تحتمل الصدق والكذب!!!! ثم ما هي حاجته للاجتهادات والتحليلات الشخصية وعنده الوحي!!! ثم كيف يجتهد ويحلل ويضمن الصواب في حوادث تقع بعد عشرات القرون!!! إن رسول الله أجل وأرفع وأعظم مما يصفون، وما ردنا على تجديفهم الآثم إلا حشرا لهم، وإقامة للحجة العقلية عليهم كأنهم لم يقرأوا كتاب الله:
(ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين) (سورة الحاقة، الآيات: 44 ـ 45 ـ 46) ويبقى المعقول والمنطقي الوحيد المنسجم مع صدق النبي وقربه من الله أنه صلى الله عليه وآله وسلم قد تلقى معلومة حتمية ظهور.
المهدي المنتظر بالوحي من الله تعالى، مع الأمر بالتبشير به وإعلان هذه الحقيقة الغيبية القادمة لا محالة..
الفصل الثاني
المهدي المنتظر من آل محمد ومن عترته أهل بيته وبالتحديد من ولده
كون المهدي المنتظر من عترة النبي أهل بيته الطاهرين حقيقة مطلقة من الحقائق الدينية المحدودة جدا التي أجمعت عليها الأمة بشقيها: (أهل بيت النبوة وشيعتهم والخلفاء التاريخيون وشيعتهم أهل السنة) فالكل متفق على أن المهدي المنتظر من صلب علي بن أبي طالب، ومن أحفاد فاطمة بنت النبي، وأنه من ذرية النبي وحفيده، وقد تواترت صحة الأحاديث النبوية عند الجميع، والتي بينت للمسلمين أن الله قد جعل ذرية كل نبي من صلبه خاصة، وجعل ذرية خاتم الأنبياء محمد من صلب علي ابن عمه ونسل ابنته البتول فاطمة، والمسلمون يرسلون هذه المعلومة إرسال المسلمات، فطالما ردد الرسول أمام قدامي المسلمين والطلقاء معا هذا ابني الحسن، أو هذا ابني الحسين، أو هذان ابناي ولا خلاف بين اثنين من المسلمين، بما فيهم الخلفاء الثلاثة الأول، ومعاوية وبنو أمية، وبنو العباس وشيعتهم بأن عليا وفاطمة والحسن والحسين هم آل محمد، وهم أهل بيته، أو على الأقل هم من الآل والأهل!!
1 ـ وأهل بيت النبوة مجمعون على أن الإمام المهدي المنتظر هو الإمام الثاني عشر من أئمة أهل بيت النبوة الذين اختارهم الله تعالى لقيادة الأمة طوال.
عصر ما بعد النبوة، ولكن ظروفا قاهرة قد حالت بينهم وبين ممارسة حقهم بقيادة الأمة، فكان كل واحد منهم هو الإمام الشرعي للأمة المختار من الله سبحانه وتعالى والمعلن عن إمامته من رسول الله، ولكن الخليفة المتغلب في زمن كل إمام حال بينه وبين ممارسة حقه الشرعي، بإمامة الأمة وقيادتها ومرجعيتها، وكل إمام من الأئمة الإحدى عشر قد تبعته الفئة القليلة المؤمنة وسلمت بإمامته، ولكنها كانت فئة مستضعفة، وغير قادرة على مواجهة الأكثرية الساحقة التي وقفت مع الخليفة المتغلب طمعا بما في يده من المال والجاه والنفوذ والسلطة.
واقتضت حكمة الله تعالى أن يكون للإمام الثاني عشر: (المهدي المنتظر نمط حياة، ومنهج مختلف عن نمط ومنهج الأئمة الإحدى عشر الذين سبقوه).
فكل واحد من الأئمة الإحدى عشر السابقين كان معروفا، للخاصة والعامة من المسلمين، وكان مشهورا بينهم، تعرفه العرب ويعرفه العجم، ويعرفه المحل والمحرم معا، ولا يخفى واقعه وأمله على أحد من الخاصة والعامة، فكل واحد من الخلفاء الثلاثة الأول كان يعلم علم اليقين بأن عليا بن أبي طالب أول الأئمة الشرعيين كان: (يطمع بالخلافة)، ويعتقد أنه أولى بها من الخلفاء الثلاثة الأول، وكان يشارك الخلفاء الثلاثة بهذا العلم اليقيني، خاصة القوم وعامتهم، قدامي المسلمين وطلقاؤهم وأحداثهم. ولما مات الإمام علي، وآلت الإمامة إلى الإمام الحسن كان الخليفة المتغلب وكافة أفراد رعيته يعلمون علم اليقين بآمال الحسن وواقعه، وهكذا كانت الأحوال مع الحسين، وعلي بن الحسين ومحمد الباقر، وجعفر الصادق، وموسى الكاظم، وعلي الرضا، وفي عهد الإمام علي الرضا قرر الخليفة المتغلب المأمون أن يعترف بالحق الشرعي وأن يتنازل بمحض اختياره للإمام الشرعي المعاصر له وهو الرضا، وتلك حالة فريدة في التاريخ الإسلامي ولم تتكرر، وتعاقب ظهور الأئمة حتى بلغوا إحدى عشر إماما، وكان الناس في زمن كل واحد منهم يعلمون أن هذا الرجل الإمام من أهل بيت النبوة، وأنه من ذرية النبي، وكانوا يعلمون أنه على الأقل (يدعي) الإمامة، والخلافة الشرعية عن النبي.
وكان الخليفة المعاصر لأي واحد من الأئمة الإحدى عشر يعلم علم اليقين.
بأن هذا الإمام: (أو مدعي الإمامية) طامع بالخلافة، ومعتقد أنه أولى بها من الخليفة المتغلب، لذلك كان كل خليفة متغلب يتوجس خيفة من الإمام الشرعي المعاصر له، فيضيق عليه، ويحط من قدره، ويتصنع عدم الاكتراث به، وكثيرا ما كانت تملك الوساوس والمخاوف الخليفة المتغلب، ولا يطيق إمام زمانه، فيتآمر مع حاشيته ويقتلون خفية أو بالسم إمام الزمان.
أما الإمام الثاني عشر وهو الإمام المهدي: (محمد بن الحسن) فقد اختلف أمره ونهجه وأسلوبه ونمط حياته، عن الأئمة الأحد عشر السابقين، فقبل ولادته بفترة انتشرت شائعات على نطاق واسع مفادها أن ملك بني العباس سيزول على يد رجل من آل محمد يقال له المهدي، لذلك كانت كلمة المهدي أشد خطرا وثقلا على أسماع الدولة العباسية وأركانها من كلمات الكفر، والالحاد، والشيطنة، فجندت الدولة مخابراتها وأجهزتها السرية للتحري والبحث عن هذا المهدي، هذه الحملة اضطرت الإمام الوالد الحسن العسكري أن يخفي نبأ ولادة ابنه، وأن لا يذكر اسم المولود إلا للخلص من أتباعه، حيث أفضى لهم باسم ابنه، وأنه الإمام من بعده الوارث لعلمي النبوة والكتاب، وانتقل الإمام الحادي عشر إلى جوار ربه وآلت الإمامة إلى الصبي محمد بن الحسن: (المهدي المنتظر) وكان عمره خمس سنين، وعرفت الدولة العباسية وكافة أركانها بأن الإمام الحادي عشر الحسن العسكري قد مات، وأن عمادة أهل بيت النبوة قد آلت إلى ابنه الصبي: (محمد بن الحسن المهدي المنتظر) بدليل أن أركان الدولة العباسية ورجالات بني هاشم قد حضروا الإعداد لجنازة الإمام الحادي عشر، ولم يتقدم أحد منهم لإمامة الناس بصلاة الجنازة إنما تقدم الإمام الصبي، وأم الجميع دون اعتراض من أحد وسط دهشة الجميع، وتسليمهم بأن هذا الصبي هو عميد وسيد أهل بيت النبوة، والقائم مقام أبيه السيد الذي انتقل إلى جوار ربه. بعد انتهاء مراسم العزاء اختفى الإمام الصبي عن الأنظار تماما، ولم يعد يراه أحد، وكان يعرف أمور أولياء أهل بيت النبوة، ويتصرف بالأموال التي تجبى إليه بواسطة أربعة سفراء أجمع أهل بيت النبوة وشيعتهم المخلصة على صحة سفارتهم.
وتسمى هذه الغيبة بالغيبة الصغرى، وبعد موت آخر السفراء بدأت الغيبة.
الكبرى، وجاء في عدة أخبار أنه يحضر المواسم سنويا فيرى الناس ويعرفهم، ويرونه ولا يعرفونه، وأنه بوقت يطول أو يقصر سيظهر حتما لإنجاز المهمة التاريخية التي أناط الله به إنجازها.
2 ـ أما الخلفاء التاريخيون وشيعتهم أهل السنة فيقرون أن الأئمة الأحد عشر هم الذين تعاقبوا على عمادة أهل بيت النبوة طوال التاريخ، وكل واحد منهم في زمانه كان عميد أهل البيت، وشيخ آل محمد في زمانه، وأنه لم يجرؤ أحد على الادعاء بأنه عميد أهل بيت النبوة، أو شيخ آل محمد في زمن أي واحد من الأحد عشر، وهم يقرون أيضا ويجمعون على أن الرسول قد بين بأن الخلفاء أو الأمراء أو النقباء من بعده اثني عشر!! ولكنهم لا يعترفون بأن الرسول قد عنى أو قصد بالاثني عشر أئمة أو عمداء أو شيوخ آل محمد بل عنى وقصد الخلفاء المتغلبين على الخلافة، والذين مارسوا سلطات الخلافة ومهامها ممارسة فعلية، وهم متفقون على أربعة، وهم الخلفاء الأربعة الأول، أما الثمانية الآخرون فهنالك آراء شخصية واجتهادات لا حصر لها ولا سند لها لا من عقل ولا من دين ولا من منطق، ومن المستبعد جدا على المدى المنظور على الأقل أن تقر شيعة الخلفاء بأن الاثني عشر الذين عناهم رسول الله وقصدهم هم عمداء أهل بيت النبوة، لأنهم لو فعلوا ذلك لانهار التاريخ السياسي الإسلامي بعد وفاة النبي على صانعيه، ولسحبوا بساط الشرعية عن التاريخ السياسي لدولة الخلافة ولأدانوا أنفسهم دون حاجة لقضاء يعلن الإدانة، والإنسان بطبيعته يفر من الإدانة ولا يتقبلها راضيا!!
ولكن شيعة الخلفاء: (أهل السنة) يقرون أن الاثني عشر أولهم علي وآخرهم محمد بن الحسن المهدي، هم عمداء أهل بيت النبوة أو شيوخ أو وجهاء آل محمد كل واحد منهم في زمانه.
وأبعد من ذلك فهم يقرون بولادة الإمام محمد بن الحسن، وبعضهم يصرح بأنه المهدي المنتظر بالفعل. قال ابن الأثير الجرزي في كتابه الكامل في التاريخ ج 7 ص 274 آخر حوادث سنة 260 وفيها: (توفي محمد العلوي العسكري وهو أحد الأئمة الاثني عشر على مذهب الإمامية، وهو والد محمد الذي يعتقدونه المهدي)..
قال ابن خلكان في وفيات الأعيان ج 4 ص 176 / 562: (أبو القاسم محمد بن الحسن العسكري بن علي الهادي بن محمد الجواد المذكور قبله ثاني عشر الأئمة الاثني عشر على اعتقاد الإمامية المعروف بالحجة، كانت ولادته يوم الجمعة منتصف شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين، ثم نقل عن المؤرخ الرحالة ابن الأزرقي أنه قال في تاريخ ميافارقين أن الحجة المذكور ولد بتاريخ.
قال الذهبي في كتابه العبر وفيها: (أي سنة 256 ولد محمد بن الحسن بن علي الهادي بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق العلوي الحسيني الذي تلقبه الرافضة الخلف الحجة، وتلقبه بالمهدي، والمنتظر وتلقبه بصاحب الزمان وهو خاتم الاثني عشر. (راجع العبر في خبر من غبر للذهبي) ج 3 ص 21).
وقال الذهبي في تاريخ دول الإسلام ج 5 حوادث ووفيات 251 ـ 260 ص 113 ـ 159 عن الإمام الحسن العسكري: (وهو والد منتظر الرافضة، توفي إلى رضوان الله في سامراء ودفن إلى جانب والده، وأما ابنه محمد بن الحسن الذي يدعوه الرافضة القائم الخلف الحجة)...
وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء ج 13 ص 119 الترجمة رقم 60 (المنتظر الشريف محمد بن الحسن العسكري بن علي الهادي بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زين العابدين علي بن الحسين الشهيد بن الإمام علي بن أبي طالب الحسيني خاتمة الاثني عشر سيدا).
قال خير الدين الزركلي في كتابه الأعلام ج 6 ص 80 في ترجمة الإمام المهدي المنتظر: (محمد بن الحسن العسكري الخالص بن علي الهادي أبو القاسم آخر الأئمة الاثني عشر عند الإمامية ولد في....) وأشار علماء الأنساب من أهل السنة إلى ولادة المهدي منهم أبو نصير البخاري في سر السلسلة العلوية ص 39 وهو من أعلام القرن الرابع الهجري والعرى النسابة المشهور وهو من أعلام القرن الخامس: (المجدي في أنساب الطالبيين ص 130، والفخر الرازي الشافعي قال في كتابه: (الشجرة المباركة في أنساب الطالبية ص 78 ـ 79)، وأما الحسن العسكري فله ابنان وبنتان أما الابنان فأحدهما صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف... وقال ابن عنبة في عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب: (الإمام أبو محمد الحسن العسكري، وكان من الزهد والعلم على أمر عظيم وهو والد الإمام محمد المهدي صلوات الله عليه ثاني عشر الأئمة عند الإمامية، وهو القائم المنتظر عندهم) ص 199 من عمدة الطالب. وقال في الفصول الفخرية ص 134 ـ 135 عن الإمام الحسن العسكري وهو الحادي عشر من الأئمة الاثني عشر وهو والد محمد المهدي ثاني عشرهم، وإلى هذا المعنى أشار الصنعاني في كتابه: (روضة الألباب لمعرفة الأنساب ص 105، والسويدي في كتابه سبائك الذهب. (راجع المهدي المنتظر في الفكر الإسلامي إصدار مركز الرسالة ص 119 ـ 120).
والخلاصة أن شيعة الخلفاء التاريخيين (أهل السنة) موقنون بأن المهدي المنتظر من آل محمد ومن عترته أهل بيته، وبالتحديد من ذرية النبي ومن نسل فاطمة ابنته، ومن صلب علي بن أبي طالب، وقد تولد هذا اليقين عندهم لصحة وتواتر الأحاديث النبوية الناطقة به، وقد توصلوا بالمنطق إلى أن الإمام الثاني عشر من أئمة أهل بيت النبوة هو الإمام المهدي بالضرورة، وصرح بعضهم بذلك، ولولا خشيتهم من انهيار قناعاتهم التاريخية، ومن أن يسحب بساط الشرعية من تحت أساسات دولة الخلافة التاريخية، وأعلن بعضهم علنا بأن الإمام المهدي المنتظر هو الإمام الثاني عشر من أئمة أهل بيت النبوة وهو محمد بن الحسن، ومهم محي الدين بن العربي المتوفى 638 كما ذكر ذلك في الفتوحات المكية.
(راجع اليواقيت والجواهر للشعراني ج 2 ص 143، ومحمد بن طلحة الشافعي في كتابه مطالب السؤول ج 2 ص 79 باب 12، وابن الجوزي الحنبلي في تذكرة الخواص ص 363، والكنجي الشافعي في البيان في أخبار صاحب الزمان ص 521 باب 25، وابن الصباغ المالكي في كتاب الفصول المهمة ص 287 ـ 300، والفضل بن روزبهان في كتابه (إبطال الباطل). (راجع دلائل الصدق للمظفر ج 2 ص 574 ـ 575، ومحمد بن طولون الحنفي مؤرخ دمشق في كتابه.
الأئمة الاثني عشر ص 117، والقندوزي الحنفي في ينابيع المودة ج 3 ص 114 آخر الباب 79).
نماذج من الأحاديث النبوية الدالة على أن المهدي المنتظر من ذرية النبي، ومن نسل فاطمة وصلب علي بن أبي طالب:
1 ـ قال رسول الله بعد أن تحدث عن الفتن من بعده: (... ثم تكون فتنة، كلما قيل انقضت تمادت، حتى لا يبقى بيت إلا دخلته، ولا مسلم إلا حكته حتى يخرج رجل من عترتي). (راجع ابن حماد ص 10، وأحمد بن حنبل ج 2 ص 133، وأبو داود ج 4 ص 94 ح 4242، ومعالم السنن ج 4 ص 336 ـ 337 عن أبي داود، وحلية الأولياء ج 5 ص 158، وكنز العمال ج 14 ص269 وراجع بقية المراجع في معجم أحاديث الإمام المهدي ج 1 ص 81 ـ 83).
2 ـ تحدث الرسول عن بلاء يصيب الأمة حتى لا يجد الرجل ملجأ يلجأ إليه من الظلم، فيبعث الله رجلا من عترتي من أهل بيتي فيملأ به الأرض قسطا، كما ملئت ظلما وجورا... (راجع عبد الرزاق ج 11 ص 371، وابن حماد ص 99، والترمذي على ما في الدر المنثور، والطبراني على في الصواعق المحرقة، والحاكم ج 4 ص 465، وتذكرة القرطبي ص 700، وتذكرة الحفاظ ج 3 ص 838، والحاوي للسيوطي ج 2 ص 65، والدر المنثور ج 6 ص 58، وانظر بقية المراجع في (معجم أحاديث المهدي ج 1 ص 83 ـ 86).
3 ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: يخرج رجل من أهل بيتي عند انقطاع من الزمان... (راجع ابن حماد ص 10 ابن أبي شيبة ج 15 ص 196 ح 19485، وأحمد بن حنبل ج 3 ص 80، والبداية والنهاية ج 6 ص 247، ومجمع الزوائد ج 7 ص 314، والدر المنثور ج 6 ص 58، انظر بقية المراجع في معجم أحاديث الإمام المهدي ج 1 ص 97 ـ 98).
4 ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (.... ثم يخرج رجل من عترتي أو من أهل بيتي)....
(راجع أحمد بن حنبل ج 3 ص 36، وابن خزيمة، وابن حبان ج 8 ص 290 ـ.
291، والحاكم ج 4 ص 557، ومقدمة ابن خلدون ص 250 فقرة 53 عن الحاكم، وتجد بقية المراجع في معجم (أحاديث الإمام المهدي) ج 1 ص 104 ـ 105).
5 ـ ومثله قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يلي رجل من أهل بيتي)...
(راجع البزار ج 1 ص 281، وابن حنبل ج 1 ص 376، والترمذي ج 4 ص 505 حديث 2231، والبدء والتاريخ ج 2 ص 180، والطبراني في الكبير ج 1 ص 165، راجع بقية المراجع في ج 1 ص 106 ـ 108 من معجم (أحاديث الإمام المهدي)).
6 ـ ومثله قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يملك رجل من أهل بيتي).
(راجع أبو يعلى ج 2 ص 367، وابن حبان ج 8 ص 291، ومجمع الزوائد ج 7 ص 314، والدر المنثور ج 6 ص 57، وكنز العمال ج 14 ص 270 ح 38690، راجع بقية المراجع في معجم أحاديث الإمام المهدي ج 1 ص 108 ـ 109).
7 ـ ومثله قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يخرج في آخر الزمان رجل من ولدي)... (راجع تذكرة الخواص ص 363، وعقد الدرر ص 32، ومنهاج السنة لابن تيمية ج 4 ص 211، بقية المراجع في معجم أحاديث الإمام المهدي ج 1 ص 113 ـ 114).
8 ـ ومثله قوله صلى الله عليه وآله وسلم: إن المهدي من عترتي من أهل بيتي.. (راجع إثبات الهداة ج 3 ص 502، والبحار ج 51 ص 74، ومنتخب الأثر ص 169، ومعجم أحاديث الإمام المهدي ج 1 ص 14).
9 ـ وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (المهدي رجل من ولدي وجهه كالقمر الدري)... (راجع أحمد بن حنبل على ما في ينابيع المودة، وابن ماجة على ما في غاية المرام، والطبراني على ما في بيان الشافعي، راجع معجم أحاديث الإمام المهدي ج 1 ص 130 ـ 134 تجد عشرات المراجع لهذا الحديث).
10 ـ ومثله قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (المهدي حق وهو من ولد فاطمة). (راجع ابن شيبة على ما في سنن ابن ماجة، وتاريخ البخاري ج 3 ص 346، وصحيح مسلم على ما في إسعاف الراغبين، وأبو داود ج 4 ص 107 ح 4284، وابن ماجة ج 2 ص 1368 ب 34 ح 4086، والطبراني في الكبير ج 23 ص 267، وميزان الاعتدال ج 2 ص 87، وراجع معجم أحاديث الإمام المهدي ج 1 ص 136 ـ 139 تجد أكثر من أربعين مرجعا)!
11 ـ ومثله قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد، لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلا من ولدي اسمه اسمي) فقام سلمان الفارسي فقال: يا رسول الله: من أي ولدك؟ قال النبي: (من ولدي هذا وضرب بيده على الحسين).
(راجع الطبراني في الأوسط، وأربعون أبي نعيم، وعقد الدرر ص 24، وذخائر العقبى للطبراني ص 136 ـ 137، وراجع معجم أحاديث المهدي المنتظر ج 1 ص 142 ـ 143).
12 ـ ومثله قوله لفاطمة: (المهدي من ولدك). (راجع مقاتل الطالبيين ج 1 ص 97، والحاكم، وتهذيب ابن عساكر ج 6 ص 26، وذخائر العقبى ص 136، وعقد الدرر ص 21، والحاوي للسيوطي ج 2 ص 66، وكنز العمال ج 12 ص 105، راجع بقية المراجع في المعجم ج 1 ص 143 ـ 144).
13 ـ ومثله قوله لفاطمة: (نبينا خير الأنبياء وهو أبوك، وشهيدنا خير الشهداء وهو عم أبيك حمزة... ومنا سبطا هذه الأمة الحسن والحسين وهما ابناك ومنا المهدي... ومنا والذي نفسي بيده مهدي هذه الأمة). (راجع معجم أحاديث الإمام المهدي ج 1 ص 145 ـ 147، وعلى سبيل المثال مناقب الخوارزمي ص 6، وبيان الشافعي ص 485، وذخائر العقبى ص 44، عن الطبراني، ومجمع الزوائد ج 9 ص 166).
وهنالك العشرات من الأحاديث النبوية التي تدور حول ذات المضمون، ويمكن لمن أراد الوقوف عليها وعلى مراجعها أن يراجع: (معجم أحاديث الإمام المهدي) ج 1 ص 150 وما بعدها..
الفصل الثالث
الخلط وتمييع النصوص ومحاولات صرف هذا الشرف عن أهل البيت
عندما خص الله نبيه محمدا الهاشمي بالنبوة والرسالة جن جنون بطون قريش، فحسدت الهاشميين شرف النبوة، فوحدت صفوفها تحت راية الشرك وعقدت العزم على صرف شرف النبوة عن بني هاشم. فتصدت للنبي وقاومته بشراسة طوال مدة الـ ‍15 سنة التي قضاها في مكة قبل الهجرة، وتآمرت على قتله مرات متعددة، وحاصرته وبني هاشم وقاطعتهم، وبعد الهجرة جيشت الجيوش واستعدت العرب، وشنت حروبها العدوانية على النبي طوال ثماني سنوات، ولما أحيط بها، واستنفدت سهامها وتكسرت سيوفها ورماحها في حربها للنبي، استسلمت واضطرت مكرهة لإعلان إسلامها وللاعتراف بالنبوة الهاشمية.
وعندما اختار الله تعالى أهل بيت النبوة ثقلا آخر، وقيادة، ومرجعية للأمة من بعد النبي، وصدع النبي بما أوحي إليه، وأعلن الاختيار الإلهي، جن جنون بطون قريش لأنها كرهت أن يجمع الهاشميون الملك والنبوة، على حد تعبير الخليفة عمر بن الخطاب، فصممت أن تصرف شرف الملك عن الهاشميين فوحدت صفوفها، ولكن تحت خيمة الإسلام هذه المرة وانتظرت موت النبي بفارغ الصبر لتصرف شرف الملك عن آل محمد ولتستولي بالكثرة والقوة والتغلب على الملك الذي تمخضت عنه النبوة، وعندما قعد النبي على فراش المرض، أحست البطون بأنه ميت، عندئذ أظهرت نواياها، وشرعت بتنفيذ مخططها الرامي إلى الاستيلاء على ملك النبوة بالكثرة والتغلب، ونقض الترتيبات الإلهية وصرف شرف الملك عن أهل البيت، فقالت البطون للنبي مواجهة: أنت تهجر، ولا حاجة لنا بكتابك، ولا بوصيتك لأن القرآن يغنينا عنك!! وقد وثقنا ذلك. ومات النبي وهو كسير الخاطر، واستولت البطون على الملك. ومن ذلك التاريخ وشبح الجريمة يلاحقها، وصار أهل بيت النبوة هاجسا وصارت الخلافة ملكا لمن غلب، وسخر الغالب إمكانيات دولة الخلافة ومواردها وإعلامها لقلب الحقائق، وإثبات أنه صاحب الحق الشرعي بالخلافة وآل محمد وأهل بيته ينازعونه حقه، ويسعون لتفريق الأمة وشق عصا الطاعة بطلبهم ما ليس لهم!!!!!
كان لا بد من استحضار هذه المقدمة لفهم العقلية الحاكمة التي وضعت المناهج التربوية والتعليمية، والتي منعت رواية وكتابة أحاديث الرسول قرابة مائة عام، وبعد المائة عام أذنت برواية وكتابة الأحاديث النبوية، في مناخ الدولة المعادي لأهل بيت النبوة، وتحت إشراف أو مراقبة أركان دولة الخلافة الذين تدخلوا واشتركوا بهذا العداء.
محاولات صرف شرف المهدية عن أهل البيت:
لما اكتشف علماء الحديث الأعلام من أهل السنة هذا الكم الهائل من الأحاديث النبوية التي تتحدث عن حتمية ظهور المهدي المنتظر، وأن هذا المهدي من أهل بيت النبوة، ومن صلب علي بن أبي طالب، ومن ولد فاطمة بنت النبي، فوجئت دولة الخلافة، وفوجئ أركانها تماما، وقدروا أن المهدي المنتظر الذي تتحدث الأحاديث النبوية عن دعم إلهي، مطلق له سيكشف ذات يوم كل شيء، وسيضع النقاط على الحروف، وسيطلع العالم على هول الظلم الذي لحق بالإسلام، وأهل بيت النبوة، وسيقلب التاريخ كله رأسا على عقب.
لذلك وبواسطة أوليائهم وضعوا خطة ذات أربع شعب لمواجهة سيل الأحاديث الصحيحة والمتواترة المتعلقة بالمهدي المنتظر، بعد أن قطعوا وتيقنوا بأنه من أهل بيت النبوة ومن أحفاد النبي الذين شردوهم وطاردوهم وقتلوهم تقتيلا، عبر التاريخ وكان قصدهم من هذه الخطة:.
1 ـ أن يخلطوا الحق بالباطل وتلك صناعة أتقنوها ومهروا بها.
2 ـ أن يحصنوا الرعية من تأثير هذه الأحاديث أو أن يتحكموا بتأثيرها على الرعية.
3 ـ محاولة يائسة لصرف هذا الشرف الشامخ عن أهل بيت النبوة.
1 ـ الشعبة الأولى من المخطط الادعاء بأنه لا مهدي إلا عيسى ابن مريم
بنفس الوسائل التي تستخرج فيها الأحاديث استخرجوا حديثا يحصر (المهدي بعيسى ابن مريم)، وقد أخرج هذا الحديث ابن ماجة في سننه ج 2 ص 1340 ح 4039، وابن ماجة نفسه كان قد أخرج حديث: (المهدي حق وهو من ولد فاطمة) ج 2 ص 1368 ح 4086، والحديث الأخير صحيح ومتواتر.
وحديث لا مهدي إلا عيسى هو الحديث الوحيد الذي ينفي أن يكون المهدي من أهل البيت أو من غيرهم، ويحصره حصرا بعيسى ابن مريم، وقد عالجنا وأثبتنا فساد هذا الحديث وبطلانه في الباب الثاني من هذا الكتاب.
2 ـ الشعبة الثانية من المخطط الادعاء بأن المهدي رجل من الأمة
وقد أخرجوا حديثا جاء فيه: (يخرج رجل من أمتي يعمل بسنتي، ينزل الله له البركة من السماء، وتخرج له الأرض بركتها، يملأ الأرض عدلا، كما ملئت جورا)... (راجع معجم أحاديث الإمام المهدي ج 1 ص 134 ـ 136، وهذا الحديث أيضا هو الوحيد الذي يجعل المهدي رجلا من الأمة)!!!
3 ـ الشعبة الثالثة من المخطط الادعاء بأن المهدي المنتظر من ولد الإمام الحسن وليس من ولد الحسين كما يجمع أهل البيت!!
روى أبو داود في سننه ج 4 ص 108 ح 4290 قول علي بن أبي طالب:
(إن ابني هذا سيد كما سماه النبي، وسيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم يشبهه في الخلق ولا يشبهه في الخلق يملأ الأرض عدلا)...
والمدهش أيضا بأن هذا هو الحديث الوحيد الذي يجعل المهدي من ولد الإمام الحسن!!! وجاء في كتاب: (المهدي المنتظر في الفكر الإسلامي) إصدار مركز الرسالة ص 62، وما فوق أن هذا الحديث باطل من سبعة وجوه:
1 ـ اختلاف النقل عن أبي داود فقد نقل الجزري الشافعي في كتابه: أسمى المناقب في تهذيب أسنى المطالب ص 165 ـ 168 كلمة (الحسين) بدلا من كلمة الحسن.
2 ـ إن سند الحديث منقطع حيث أن السبيعي لم تثبت له رواية واحدة سماعا عن طريق علي، كما صرح بذلك المنذري (مختصر سنن أبي داود للمنذري ج 6 ص 162 ح 4121.
3 ـ إن سنده مجهول: (حيث قال: (حدثت عن هارون بن المغيرة، ولا يعلم من الذي حدثه).
4 ـ أن الحديث المذكور أخرجه أبو صالح السليلي عن الإمام موسى بن جعفر وفيه اسم الحسين بدلا من الحسن.
5 ـ إنه معارض بأحاديث كثيرة من طرق أهل السنة تصرح بأن المهدي من ولد الحسين.
6 ـ احتمال التصحيف في الاسم من الحسين إلى الحسن.
7 ـ يحتمل وضع الحديث لأن بعض أنصار محمد بن عبد الله بن الحسن المثنى بن الإمام الحسن السبط الذي قتل سنة 145 في زمن المنصور العباسي كانوا يظنون بأنه المهدي.
8 ـ وعلى فرض أنه حديث فإنه مجرد خبر لا قيمة له أمام الصحيح والمتواتر.
4 ـ المهدي ليس من أهل بيت النبوة ولا من ذرية النبي إنما هو من ولد العباس!!
بدليل: 1 ـ الأحاديث المتعلقة بالرايات السود المقبلة من خراسان، والتي ذكرت بأن فيها خليفة الله المهدي. (راجع مسند أحمد ج 5 ص 277، وسنن
ابن ماجة ج 2 ص 1236 ح 4082، وما رواه الترمذي في ج 4 ص 53 ح 2269، وهي أحاديث مجملة وقد ضعفها ابن القيم في المنار المنيف ص 137 ـ 138).
2 ـ وجود أحاديث تخبر بأن المهدي: (من ولد العباس عمي). (أورده السيوطي في الجامع الصغير ج 2 ص 672، وقال حديث ضعيف، وقال المناوي الشافعي في فيض القدير، رواه الدارقطني في الأفراد، وقال ابن الجوزي فيه محمد بن الوليد المقري، قال ابن عدي: يضع الحديث ويصله، ويسرق ويقلب الأسانيد والمتون، وقال ابن أبي معسر هو كذاب، وقال السمهودي، ما بعده وما قبله أصح منه، وأما هذه ففيه محمد بن الوليد وضاع، راجع فيض القدير شرح الجامع الصغير ج 6 ص 278 ح 9242. وضعفه السيوطي في الحاوي ج 2 ص 85 وابن حجر في صواعقه ص 166، والصبان في إسعاف الراغبين ص 151، وأبو الفيض في إبراز الوهم المكنون ص 563).
ومثله حديث ابن عمر الذي رواه ابن الوردي في فريدة العجائب ص 199 وهو مرسل عن ابن عمر وموقوف عليه فلا حجة فيه، فضلا عن أنه لم يصرح باسمه المهدي.
ومثله حديث أم الفضل سنة 135 لك لولدك منهم السفاح ومنهم المنصور، ومنهم المهدي، وهذا الحديث وارد في تاريخ بغداد ج 1 ص 63، وتاريخ دمشق ج 4 ص 178 لابن عساكر. قال الذهبي في ميزان الاعتدال ج 1 ص 97: أن أحمد بن راشد هو الذي اختلقه بجهل، راجع المهدي المنتظر في الفكر الإسلامي ص 52 ـ 55 وما يثير الدهشة أن المهدي العباسي المتوفى سنة 169 ـ كانت دولته دولة للنساء. قال الطبري في تاريخه ج 3 ص 466 أن الخيزران زوجة الخليفة المهدي تدخلت في شؤون الدولة في زمنه وأنها استولت على زمام الأمور في عهد ابنه الهادي. ثم إن المهدي العباسي نفسه لم يدع بأنه المهدي المنتظر الذي عناه الرسول، ولم تتحقق في زمنه أي علامة من العلامات المرادفة لظهور المهدي، ولا ساد العالم ولا انتشر الرخاء في عهده، إنما كانت هنالك طبقة مترفة تشرف على الموت من التخمة، وأكثرية ساحقة معدمة تكاد أن تموت من الجوع، وهذا يتعارض بالكامل مع مضامين الأحاديث النبوية التي وصفت المهدي وصفا دقيقا، وتحدثت عن علامات ظهوره، ووصفت عهده الراشد وحال الدين والمسلمين فيه..
الفصل الرابع
الجذور التاريخية لهذا المخطط (الخلط والتمييع ومحاولة صرف هذا الشرف عن أهل بيت النبوة)
بعد موت النبي مباشرة وعندما اشتد الجدل والصراع على الخلافة بين قيادة بطون قريش ومن والاها من جهة، وبين علي بن أبي طالب الإمام الشرعي وابنة النبي الزهراء وسبطي النبي الحسن والحسين ومن والاهم من جهة أخرى، عرضت قيادة البطون على العباس بن عبد المطلب عم النبي أن تجعل له ولعقبه شيئا من هذا الأمر: (أي الخلافة) مقابل أن يتخلى عن دعمه لأهل بيت النبوة وأن يقف مع البطون، وقدرت قيادة البطون أن انحياز العباس لجانبها يشكل ضربة فنية ومعنوية قاصمة لأهل بيت النبوة وادعائهم بالحق بقيادة الأمة!! لأنها تكون بهذه الحالة قد ضربت عم النبي بابن عم النبي الآخر وبابنة النبي وسبطيه فتتصدع وحدة البطن الهاشمي وتتهدم كافة حجج أهل البيت، ويشب الصراع بين آل محمد وآل أبي طالب من جهة، وبين آل العباس من جهة أخرى، وتتحول قيادة البطون إلى قاض وخصم معا، وتتفرج على هذا الصراع، واكتشف العباس مضامين وأهداف قيادة بطون قريش من هذا العرض، فرفضه رفضا قاطعا وبإباء، ورد عليهم بحزم ورجولة، وقد حاول الخليفة الثاني، والثالث ومعاوية أن يجتذبوا إلى جانبهم عبد الله بن العباس خاصة، والعباسيين عامة، لذات الغرض لينافس عبد الله الحسن والحسين بعد أن أخفقوا بأن يجعلوا العباس ينافس الإمام علي، ويبدو أن تلك المحاولات قد نجحت إلى حد ما. صحيح أن العباسيين لم يقفوا ضد علي وضد الحسن والحسين، ولكنهم لم يقفوا معهم أيضا، لقد قرر العباسيون أن يعملوا لصالحهم الخاص، وقدروا أن عملهم لصالحهم الخاص لن يؤتي أكله ولن يثمر، ما دام سبطا النبي الحسن والحسين أحياء!! لأنه ليس بإمكان أي عباسي أن يدانيهما بالشرف والقربى والمكانة. لقد قرر عبد الله بن العباس أن يعتزل وأن يتخلى عن الإمام علي، والإمام أحوج ما يكون إليه، لقد كانت فعلة عبد الله جرحا نازفا في قلب الإمام، تحمل آلامه العميقة في صمت وبلا إعلام. ومع الإمام الحسن قد عهد لعبيد الله بن العباس بقيادة أول جيش يشكله ومع أن معاوية هو القاتل عمليا لطفلي عبيد الله، إلا أن عبيد الله لم يجد حرجا ولا غضاضة عندما استمال ثلثي الجيش الذي سلمه الإمام الحسن قيادته وانضم إلى معاوية عدو آبائه وأجداده وأحد قادة قدامي المحاربين ضد الله ورسوله!! فكانت فعلة عبيد الله الضربة المعنوية القاتلة التي أصابت من الحسن ومعسكره مقتلا يصعب علاجه!!
فإذا كان عبيد الله ابن عم النبي ينضم لمعسكر معاوية طمعا بما عنده من دنيا، فما الذي يجبر أعرابيا لا دين له على البقاء في طاعة الإمام الحسن!! إنها من ضربات قيادة البطون ومن ثمرة ثقافاتها، لأن قيادة البطون وثقافتها المعادية لآل محمد تعرف بالتجربة المقاتل تماما!!
إنه ليس من المستبعد أن يتولى أعداء أهل بيت النبوة الذين أشربوا الثقافة المعادية لأهل بيت النبوة وضع عدة أحاديث تبين أن المهدي المنتظر الذي بشر به الرسول من ذرية العباس عم النبي، وليس من أهل بيت النبوة كما يزعمون!!
والقصد نفسه يتمثل باستعداء العباسيين على أهل البيت وعزل أهل بيت النبوة عن الأمة، ومحاولة صرف هذا الشرف عنهم، خاصة وأن كافة الأحاديث النبوية قد رويت وكتبت في عهد بني العباس، وأن رواة هذه الأحاديث الذين جمعوا يخضعون للحكم العباسي، وما هي مصلحة بني العباس بنفي هذا الشرف عنهم، إن مجرد الزعم بأن المهدي من بني العباس يشكل دعما لنظامهم، وتثبيتا لأركان ملكهم!! ثم ما هو الفرق بينهم وبين آل أبي طالب!! أليس العباس عم النبي وليس من المستبعد أيضا بأن النبي عندما أخبر الأمة بما كان وما هو كائن، أن يكون قد قال للعباس بأن ذرية العباس ستستولي على الخلافة بالقوة يوما ما، وأن من جملة ملوكهم أو خلفائهم رجال يلقبون أحدهم بالسفاح والآخر بالمنصور، والثالث بالمهدي. ومصطلح المهدي مجرد لقب لقب به وعرف به، وهذا اللقب لا يجعل منه المهدي الذي بشر به الرسول، فإذا سميت ابنك أو أحد الملوك بالمهدي فهل يصبح بموجب هذه التسمية المهدي الذي بشر به رسول الله؟؟!
ومن المؤكد أن العباسيين كانت لهم دولة، وكانت لهذه الدولة أجهزتها السرية المكلفة بدعم النظام والمحافظة عليه بالأساليب الخفية، كما تفعل الدول اليوم، ومن الجائز أن تكون الدولة قد استغلت إخبار الرسول للعباس، بما هو كائن، فطورت هذا الحديث واختلقت توابعه!! مع أن كافة الأحاديث المتعلقة بمهدي العباسيين ساقطة بكل الموازين التي أوجدها علماء الحديث، ومعارضة لأحاديث المهدي المنتظر الصحيحة والمتواترة عندهم.
وليس من المستبعد أن تكون أحاديث مهدي العباسيين، ومهدي الأمة المجهول، أو نفي فكرة المهدي عن الجميع وقصرها على عيسى ابن مريم من اختلاق الأمويين وأوليائهم لنفس الغايات والأهداف التي أشرنا إليها وتفصيل ذلك:
أن الخلفاء الثلاثة الأول كانوا قد منعوا كتابة ورواية الأحاديث النبوية، وأحرقوا المكتوب منها، ورفعوا شعار (حسبنا كتاب الله)، ولم يأذنوا برواية إلا ما يتفق مع توجهاتهم وسياساتهم.
وعندما آلت الخلافة إلى علي بن أبي طالب بدأ نشر الحديث بأسلوب المناشدة والاستشهاد بقدامى المحاربين من الصحابة، وأوشكت الأمور أن تتضح، وكاد الحبل أن يفلت من بناة دولة الخلافة وأوليائهم، ولكن في بداية الطريق برز معاوية بن أبي سفيان والي الشام، وأحد مؤسسي نظام الخلافة، وأبرز أركان دولة الخلفاء الثلاثة الأول، وعندما غلب معاوية أمة محمد واستولى بالقوة على منصب الخلافة، قاد بنفسه حملة كبرى لرواية وكتابة أحاديث الرسول المتعلقة (بالفضائل فقط) فأصدر سلسلة من المراسيم الملكية إلى كافة ولاته وأمرائه وعماله أمرهم فيها:
1 ـ بأن يرووا فضائل الخلفاء الثلاثة الأول وأن يركزوا تركيزا خاصا على فضائل الخليفة الثالث، وبعد ذلك يروون فضائل الصحابة.
2 ـ أن لا يتركوا فضيلة لعلي بن أبي طالب أو أحد من أهل البيت إلا ويضعوا فضيلة لأحد من الصحابة تنقضها وتشابهها. (راجع شرح النهج لابن أبي الحديد ج 3 ص 595. وما فوق نقلا عن المدائني في كتابة الأحداث:
(تحقيق حسن تميم)) وأمر معاوية الولاة والعمال والأمراء بأن يقربوا الرواة، ويجزلوا لهم العطايا والإقطاعات. وفجأة انشقت الأرض عن آلاف الرواة الذين رووا عشرات الألوف من أحاديث الفضائل التي لا أصل لها، والتي اختلقت لإرغام أنوف بني هاشم كما يقول ابن نفطويه، ولما تحقق لمعاوية ما أراد، وقدر أن فضائل أهل بيت النبوة قد ضاعت، أو فقدت قيمتها، وأن مكانتهم الدينية قد تلاشت تماما أمر معاوية بتدريس هذه المرويات في المدارس والجامعات والمعاهد، وفرض على العامة والخاصة تعلمها وحفظها، ودامت الحال حتى أواخر عهد الأمويين وبعد سقوط الدولة الأموية، ورفع الحظر والمنع عن رواية وكتابة أحاديث الرسول في بداية العهد العباسي نقل علماء الحديث كافة الروايات التي تمخضت عنها حملة معاوية، والتي احتضنتها الدولة الأموية وعممتها، وهي روايات متقنة من حيث الشكل لأنها قد وضعت تحت إشراف دولة ومن الممكن جدا بل ونكاد أن نقطع، بأن (لا مهدي إلا عيسى، والمهدي من ولد العباس، والمهدي رجل من الأمة)، كانت من هندسة معاوية وولاته ورواته لأنها تتفق مع المراسيم الملكية التي أصدرها في بداية عهده، وتخدم ذات الغاية: (لا تتركوا فضيلة لأبي تراب أو لأحد من أهل بيته إلا وتأتوني بمناقض لها من الصحابة) وكون المهدي من صلب علي فضيلة بموازين معاوية، وحتى تنقض هذه الفضيلة، لا بد من نفي فكرة المهدي، وإلصاقها بشخص آخر، وليكن عيسى ابن مريم ولما أدرك رجال معاوية أن النفي غير ممكن جعلوا المهدي نكرة من أفراد الأمة، ولما أدركوا عدم معقولية الفكرة، جعلوا المهدي من ولد العباس..
وجاء علماء الحديث فنقلوا مرويات معاوية وطاقمه، كما هي ودونوها في صحاحهم ومسانيدهم ومؤلفاتهم باعتبارها جزءا من وثائق الدولة الإسلامية، ولأن رعايا الدولة كلها قد أطلعوا عليها، وتعلموها. هذه هي الجذور التاريخية لأحاديث (لا مهدي إلا عيسى، والمهدي رجل من الأمة، والمهدي رجل من ولد العباس)، وهي محض اختلاق، وأثر من آثار حملة الرواية التي قادتها دولة معاوية وطواقمها.
وهذه الأحاديث (لا مهدي إلا عيسى والمهدي مجرد رجل من الأمة، والمهدي من ولد العباس) تتعارض مع الأحاديث الصحيحة والمتواترة ومع إجماع الأمة ومع إجماع أهل بيت النبوة وأوليائهم وهي ساقطة بكل موازين علم الحديث. والاهم أن وقائع التاريخ تناقضها وتكذبها تماما).
******************
الفصل الخامس
المهدي المنتظر يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما
من السمات البارزة، والبنى الأساسية التي تستند عليها نظرية المهدي المنتظر في الإسلام هي التأكيدات النبوية القاطعة، بأن المهدي الذي بشر النبي بظهوره ذات يوم سوف يملأ الأرض بالقسط والعدل تماما، كما ملئت قبل ظهوره بالجور والظلم.
فأهل بيت النبوة مجمعون على أنهم قد سمعوا تلك التأكيدات القاطعة من رسول الله، وأنهم قد تناقلوها جيلا بعد جيل، وورثوها من النبي مع نفائس علمي النبوة والكتاب، وسماعهم لهذه التأكيدات واستيعابهم لها من الأمور اليقينية التي لا يشكون إطلاقا بصحتها، وهي متواترة عندهم ويرسلها الكبير والصغير منهم إرسال المسلمات، وتبعا لإجماع أهل بيت النبوة المشهود لهم إلهيا، بالطهر والتميز والملازمة الدائمة لرسول الله أثناء حياته، وبوراثتهم لعلمي النبوة والكتاب أجمعت شيعتهم على أن هذه التأكيدات قد صدرت من الرسول بالفعل، فهي مع بقية البنى الأساسية من نظرية المهدي المنتظر تشكل جزءا أساسيا من معتقدهم الإسلامي، وسمة مميزة من مذهبهم الديني.
أما الخلفاء التاريخيون وشيعتهم (أهل السنة) فقد توصلوا إلى ذات النتائج المتعلقة بهذه التأكيدات، فصحت عندهم كافة الأحاديث النبوية التي تؤكد بأن.
المهدي المنتظر سيملأ الأرض قسطا وعدلا، كما ملئت جورا وظلما، وتواترت هذه التأكيدات، وأرسلها علماء أهل السنة الأعلام إرسال المسلمات أيضا، وجزموا بأن هذه التأكيدات قد صدرت عن رسول الله بالفعل.
مما يعني أن الأمة بشقيها: (أهل بيت النبوة ومن والاهم والخلفاء التاريخيون ومن والاهم)، مجمعون على أن رسول الله قد بين للمسلمين وأكد لهم بأن المهدي المنتظر سيملأ الأرض قسطا وعدلا، كما ملئت جورا وظلما، وهم جميعا قد جزموا بأن هذه الأحاديث قد صدرت من رسول الله بالفعل، وهم على يقين بأن هذه المهمة: (ملء الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما) من المبررات والأسباب الأساسية، لظهور المهدي المنتظر، ويعتقد الجميع بذلك، ويؤمنون به، وقد شكل هذا الاعتقاد جزءا من عقيدة المسلمين الدينية.
فبعد موت النبي بقليل حلت عرى الإسلام كلها، عروة بعد عروة، ورفع الحكم الإلهي من الأرض، وصار الملك الذي تمخضت عنه النبوة. بحوزة من غلب، وحيل بين المرجع الديني المعتمد من الله ورسوله، وبين ممارسة مهام مرجعيته، وبموت النبي وانتهاء عهده العظيم، وبتحييد المرجع الديني، فقد العالم النموذج الأمثل، وحل الرأي محل النص، وشاع الاجتهاد مع وجود النص، وإن جرت محاولات لتطبيق النصوص الشرعية، فإنها قد فشلت، لأن تطبيق النصوص الشرعية يحتاج إلى أهلية وإعداد خاص لا يتوفر إلا بالنبي، أو الإمام المؤهل إلهيا من بعده، وهذا مبدأ مسلم به حتى في القوانين الوضعية، فالجهة المؤهلة لإصدار حكم قطعي مبرم حائز على الحقيقة القانونية هي محكمة التمييز، أو محكمة النقض، وأعضاؤها يشكلون أو من المفترض أن يشكلوا ويكونوا قمة الفهم والوعي القانوني، بحيث لا يعلو فهمهم فهم، ولا وعيهم وعي، فإذا كانت القوانين التي يضعها البشر قد وصلت إلى هذا المستوى من التقنية القانونية، فلا تتعجب من قولنا بأن النص الشرعي يحتاج تطبيقه إلى نبي، أو إمام مؤهل ومعد إلهيا. فضلا عن ذلك فإن الإسلام كشريعة لا يؤتي أكله كاملا إلا إذا طبق كاملا، وبقيت عراه ـ خاصة نظام الحكم ـ كلها متماسكة، ولم تحل..
والخلاصة أنه وبعد موت النبي، وحل عرى الإسلام، والاستيلاء على منصب الخلافة بالقوة والتغلب، وحلول الآراء محل النصوص والعمل بالاجتهادات، مع وجود النصوص الشرعية، رفع الحكم الإسلامي عمليا من واقع الحياة، ولم يبق من الإسلام إلا الهيكل أو الشكل الخارجي اللازم للمحافظة على الملك وتوسيعه باسم الإسلام.
بمعنى أن حكما وضعيا له طبيعة دينية قد دخل الساحة الدولية المكتظة بالأحكام والمنظومات الوضعية، والمستندة إلى الآراء الشخصية القابلة للصواب والخطأ، وأن الساحة الدولية قد خلت تماما من أي منظومة حقوقية إلهية، ومن أي ترشيد إلهي عملي لحركة العالم السياسية، مما يعني أن المناخ الملائم لنشوء الظلم ونموه وترعرعه قد نشأ، وأخذ ساعد الظلم يشتد بهذا المناخ يوما بعد يوم، حتى ألقى الظلم أجرانه على الأرض فعلا، فالناس يقدسون اليوم عقيدة وضعية، وتتبناها دوله، وتقدمها على أساس أنها أكسير الحياة، وبعد تطبيقها وبوقت يطول أو يقصر يكتشف الناس فساد هذه العقيدة، وتعترف الدولة بهذا الفساد وتأتي عقائد أخرى، ثم تموت، ولا تثمر إلا الظلم والمعاناة، حتى صار الظلم من أبرز الموجودات على وجه الأرض.
بعد أن يجرب العالم كل شيء، ويلجأ لكل رأي، ويختبر كل عقيدة وضعية، ثم يكتشف أن ما جرب وما لجأ إليه، وما اختبر، لم يثمر إلا الظلم وعندما يحس كل واحد من أفراد الجنس البشري بوطأة الظلم وهوله، وعندما تمتلئ الكرة الأرضية، ويكتوي الجميع بنار الظلم، هنالك فقط يعرفون قيمة القسط والعدل، عندئذ يظهر الإمام المهدي المنتظر ومعه عقيدة الإسلام من أنقى المصادر، فيقوم بتطبيقها، فتثمر الحكم الإلهي ويثمر الحكم الإلهي العدل والقسط، وعندما يذوق أبناء الجنس البشري طعم العدل الحقيقي يعشقونه، ويعشقون الذي جاء به ويكرهون الظلم الذي كوى قلوبهم، وبفترة وجيزة، تقتلع جذور الظلم من الكرة الأرضية، ويحل محلها العدل المطلق، والقسط المطلق الذي يتولى المهدي المنتظر وبالإشراف الإلهي نشرهما، حتى يلقيا أجرانهما في الأرض. وهذا هو الجانب الحقوقي من عصر المهدي المنتظر الذهبي..
نماذج من الأحاديث النبوية التي تؤكد بأن المهدي سيملأ الأرض عدلا وقسطا:
1 ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تمتلئ الأرض ظلما وعدوانا. ثم يخرج رجل من عترتي أو أهل بيتي يملؤها قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وعدوانا).
(راجع معجم أحاديث المهدي ج 1 ص 104، ومسند أحمد ج 3 ص 36، وابن حبان ج 8 ص 290 ـ 291، والحاكم ج 4 ص 557)....
2 ـ (لا تقوم الساعة حتى يملك رجل من أهل بيتي... يملأ الأرض عدلا كما ملئت قبله ظلما...). (راجع مسند أحمد بن حنبل ج 3 ص 17، وأبو يعلى ج 1 ص 367 ح 1128، وابن حبان ج 8 ص 291، ومجمع الزوائد ج 7 ص 314، والحاوي للسيوطي ج 2 ص 63، ومعجم أحاديث الإمام المهدي ج 1 ص 108 ـ 110).
3 ـ (تملأ الأرض ظلما وجورا، ثم يخرج رجل من عترتي... فيملأ الأرض قسطا وعدلا). (الحاكم ج 4 ص 558، وعقد الدرر ص 16، نقلا عن البيهقي، ومسند أحمد ج 3 ص 28.... ومعجم أحاديث المهدي) ج 1 ص 110 ـ 111).
4 ـ (يخرج في آخر الزمان رجل من ولدي... يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا). (تذكرة الخواص ص 363، منهاج السنة لابن تيمية ج 4 ص 261).
5 ـ (لو لم يبق من الدهر إلا يوم لبعث الله رجلا من أهل بيتي يملأها عدلا كما ملئت جورا). (ابن أبي شيبة ج 15 ص 198، وأبو داود ج 4 ص 107، والبزار ج 1 ص 104... ومعجم أحاديث الإمام المهدي ج 1 ص 119 ـ 122).
6 ـ ومثله قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (المهدي مني.. يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما). (ابن حماد ص 100، عبد الرزاق ج 11 ص 372، والترمذي على ما في مطالب السؤول، والمنار المنيف، والنسائي على ما في عقد الدرر، والطبراني على ما في بيان الشافعي، والحاكم ج 1 ص 57... وراجع معجم أحاديث الإمام المهدي ج 1 ص 126 128)..
الفصل السادس
المهدي المنتظر سيملك العالم كله ويكون دولة عالمية
أهل بيت النبوة مجمعون على أن الإمام المهدي المنتظر سيملك العالم بعد وقت قصير من ظهوره، وستكون له دولة عالمية، تصبح كل أقاليم الكرة الأرضية ولايات لها، ويتحول كل سكان العالم آنذاك إلى رعايا ومواطنين في تلك الدولة، أما عمالها وأمراؤها وقادتها فهم أهل القوة والأمانة من رجال العالم ونسائه.
وستكون المنظومة الحقوقية الإلهية هي القانون النافذ في كل أرجاء العالم، ونقصد بالمنظومة الحقوقية الإلهية: (كتاب الله كما أنزل وبيان النبي لهذا الكتاب تماما كما وعاه أهل بيت النبوة، وتتكون موارد هذه الدولة المالية من إنتاج العالم كله، وموارده وإمكاناته الاقتصادية، ومن خلال إمامته وقيادته الراشدة، ومن خلال تطبيقه للمنظومة الحقوقية الإلهية، ومن خلال توزيعه العادل للموارد العالمية ينشر العدل والرخاء في الكرة الأرضية، ويبدو واضحا من تتبع روايات أهل بيت النبوة وأخبارهم حول هذا الموضوع، بأن المهدي المنتظر سيملك أولا بلاد العرب وبلاد فارس، ومن هذه البلاد سينطلق إلى كافة أرجاء المعمورة، حيث ستدخل في طاعته حربا أو سلما. ويرسل موالي أهل بيت النبوة كافة هذه المعلومات إرسال المسلمات. ويعتبرونها جزءا من قناعاتهم الدينية وسماتهم المذهبية..
ومن المؤكد أن أولياء الخلفاء التاريخيين (أهل السنة) قد توصلوا بوسائلهم الخاصة بهم إلى ذات المعلومات، ونفس النتائج، وتكونت عندهم نفس القناعات المتعلقة بعالمية دولة المهدي، فقد صحت عندهم وتواترت الأحاديث النبوية التي بينت بأن المهدي المنتظر (سيملك) على الإطلاق. (راجع على سبيل المثال الأحاديث النبوية التي رواها أحمد بن حنبل في مسنده ج 3 ص 17، وأبو يعلى ج 2 ص 367، والسيوطي في الحاوي ج 2 ص 63، ومثله قول النبي عن المهدي، بأنه (سيملك العرب) خاصة راجع مسند أحمد ج 1 ص 367، وأبو داود ج 4 ص 107 ح 4282 والبزار ج 1 ص 381، والترمذي ج 4 ص 505، والطبراني في الكبير ص 78 ومثله قول النبي: (لو لم يبق من الدنيا إلا ليلة واحدة (لملك فيها) رجل من أهل بيتي... راجع ابن حبان ج 7 ص 576 ح 5922، والطبراني في الكبير ج 10 ص 161 والطبراني في الصغير ج 2 ص 158... راجع معجم أحاديث الإمام المهدي المنتظر الجزء الأول)...
وقد صحت وتواترت عندهم الأحاديث النبوية التي أكدت تأكيدات قاطعة بأن المهدي المنتظر (سيملأ الأرض عدلا وقسطا، كما ملئت جورا وظلما) حتى أنهم قد اتفقوا على اللفظ الحرفي للحديث (سيملأ الأرض) و (قسطا وعدلا)، و (ظلما وجورا)، وتلك من الحالات النادرة في علم الحديث، وقد وثقنا ذلك في البحوث السابقة، ومقتضى الحال، يعني أن أهل السنة على يقين من أن المهدي المنتظر سيملك الأرض كلها، وإلا كيف ينشر ويملأ بالعدل والقسط أرضا لا يملكها!!!
وصحت وتواترت عندهم الأحاديث النبوية التي ذكرت بأن السماء ستعطي كل خيراتها، قطرها وبركاتها، وأن الأرض كل الأرض ستخرج كل نباتها وكنوزها ونفائسها في زمن المهدي، لقد جاءت هذه الأحاديث وأمثالها بصيغة العموم، ولم يرد ما يخصصها، وكل هذا يعني بأن ملك المهدي المنتظر سيشمل الكرة الأرضية كلها، وموالي الخلفاء، يتفقون مع أهل بيت النبوة ومواليهم بأن المهدي المنتظر سيملك بلاد العرب وبلاد فارس أولا، ويشكل منها قاعدة قوية ثم ينطلق منها إلى كافة البلاد المعمورة التي ستخضع له في النهاية طوعا أو كرها. ويصبح المهدي.
المنتظر أول إمام شرعي يمارس السيادة ومهام الحكم على العالم كله. ويطبق الشرع الإلهي على كافة سكانه.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه لما عرج به إلى السماء السابعة ومنها إلى سدرة المنتهى، ومن السدرة إلى حجب النور ناداه جل جلاله... وبك، وبه، وبالأئمة من ولده أرحم عبادي وإمائي، وبالقائم منكم (المهدي المنتظر) أعمر أرضي بتسبيحي وتهليلي وتقديسي وتكبيري وتمجيدي، وبه أطهر الأرض من أعدائي وأورثها أوليائي، وبه أجعل كلمة الذين كفروا هي السفلى، وكلمتي العليا وبه أحيي عبادي وبلادي بعلمي، وبه أظهر الكنوز والذخائر بمشيئتي، وإياه أظهر على الأسرار والضمائر بإرادتي، وأمده بملائكتي لتؤيده على إنفاذ أمري، وإعلان ديني، ذلك وليي حقا، ومهدي عبادي صدقا). (راجع منتخب الأثر للرازي ص 167 ف 2 ب 1 ح 77، وأمالي الصدوق ص 504 مجلس 92 ح 4، والبحار ج 18 ص 341 ب 2 ح 49 و ج 23 ص 128 و ج 51 ص 65 ـ 66 ومعجم أحاديث الإمام المهدي ج 1 ص 214 ـ 215)..
الفصل السابع
عهد الإمام المهدي المنتظر عهد الكفاية والرخاء المطلق
أهل بيت النبوة مجمعون على أنهم قد سمعوا ووعوا تأكيدات الرسول المتكررة بأن عهد الإمام المهدي سيكون من الناحية الاقتصادية، عهد الكفاية والرخاء المطلق لكافة سكان الكرة الأرضية في عهده، وأن عهده من هذه الناحية سيكون أزهى عهد عاشته البشرية إطلاقا، حيث ستتحقق الكفاية والوفرة للجميع وينعم جميع أبناء الجنس البشري بالرخاء التام في عهده. ولا يختلف في ذلك اثنان من شيعة أهل بيت النبوة.
ويبدو أن شيعة الخلفاء، (أهل السنة) قد وصلوا إلى ذات النتائج، واستقرت في قلوبهم نهائيا ذات القناعات، بعد أن وقفوا على الأحاديث النبوية التي تواترت عندهم، والتي عالجت هذه الناحية معالجات مقنعة.
ويمكنك القول بأن خاصة المسلمين وعامتهم يرسلون هذه المعلومات إرسال المسلمات، لأنه قد تحقق لهم اليقين بصحتها، ومن المستحيل عقلا أن ينطلق ويتكون هذا اليقين العام من فراغ، إنما كان ثمرة طبيعية للتأكيدات النبوية المتلاحقة والتي شقت طريقها بيسر إلى أسماع المسلمين وقلوبهم بعد أن تخطت كل العوائق التي وضعت سابقا للحيلولة دون رواية الحديث النبوي وكتابته.
فالنبي يؤكد بأن السماء في عهد المهدي ستنزل قطرها، وأن الأرض ستخرج له بذرها. (راجع الحديث رقم 66 ج 1 من معجم أحاديث الإمام المهدي)..
وفي تأكيد آخر يبين الرسول بأن الله سينزل البركة للمهدي من السماء، ويخرج له من الأرض بركتها. (راجع الحديث رقم 73 وفي الحديث 123). وأكد الرسول بأنه لما عرج به إلى السماء السابعة، ثم إلى سدرة المنتهى وإلى حجب النور كلمه الله تعالى عن أمور كثيرة من جملتها المهدي المنتظر، وأن الله تعالى قد وعده وأكد له بأنه سيحيي بالمهدي العباد والبلاد، وأنه سيظهر في عهده الكنوز والذخائر، ويمده بالملائكة لتساعده على تنفيذ الأوامر الإلهية وإعلان الدين.
ويؤكد الرسول في حديث رابع أن السماء لن تدع من قطرها شيئا إلا صبته، وأن الأرض لن تدع من نباتها شيئا إلا أخرجته بإذن الله. (راجع الحديث رقم 141 ج 1 من معجم أحاديث الإمام المهدي). وفي حديث خامس يؤكد الرسول حجم العطاء الإلهي في عهد المهدي قائلا (تقئ الأرض أفلاذ كبدها) أمثال الاسطوان من الذهب والفضة، ويتابع الرسول تأكيداته موضحا الصورة فيقول: (فيجئ القاتل فيقول في هذا قتلت، ويجئ القاطع فيقول في هذا قطعت رحمي، ويجئ السارق فيقول في هذا قطعت يدي، ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئا). (راجع الحديث رقم 142 ج 1). وفي حديث سادس يجزم الرسول قائلا: (تنعم أمتي في زمن المهدي نعمة لم ينعموا مثلها قط، ترسل السماء عليهم مدرارا، ولا تدع الأرض شيئا من النبات إلا أخرجته، والمال كدوس، يقوم الرجل فيقول: (يا مهدي أعطني فيقول خذ) الحديث 139، ويؤكد الرسول بأن المهدي سيعطي المال بغير عد) الحديث 143، وفي الحديث 144 يوضح الرسول الصورة فيقول:
(ويكون المال كدوسا، يجئ الرجل إليه فيقول يا مهدي أعطني، فيحثي له المهدي في ثوبه ما استطاع أن يحمل)، وفي الحديث 146 يؤكد الرسول بأن المهدي: (يحثي المال حثيا ولا يعده عدا)، وفي الحديث 149 يؤكد الرسول أنه في عهد الإمام المهدي (يفيض المال فيضا)، وفي الحديث رقم 151 يقول الرسول: (أن المال سيكثر فيفيض حتى يهم رب المال من يقبل الصدقة ومتى يعرضه، فيقول الذي يعرضه عليه (لا إرب لي)، وتتكرر الأحاديث النبوية بهذه المضامين، وتتعد الصيغ، ويبدو أن الرسول الأعظم قياما بواجب البيان، وتأكيدا لما أراد تأكيده، وحرصا منه على غرس ما يريد في قلوب السامعين، وتوصيل ما.
أراد لمن بلغ، قد حدث بهذه الأحاديث في أكثر من مكان وفي أوقات متعددة.
وتحدث الإمام زين العابدين عن الكفاية والرخاء في عهد الإمام المهدي فقال إن القائم: (يعطي الناس عطايا مرتين في السنة، ويرزقهم في الشهر رزقتين ويسوي بين الناس، حتى لا ترى محتاجا إلى الزكاة، ويجئ أصحاب الزكاة بزكاتهم إلى المحتاجين من شيعته فلا يقبلونها، فيصرونها ويدورون في دورهم، فيخرجون إليهم فيقولون لا حاجة لنا في دراهمكم)... ثم قال: ويجتمع إليه أموال أهل الدنيا كلها من بطن الأرض وظهرها فيقال للناس: (تعالوا إلى ما قطعتم فيه الأرحام، وسفكتم فيه الدم الحرام، وركبتم فيه المحارم، فيعطي عطاء لم يعطه أحد من قبله. (راجع الحديث رقم 867 مجلد 3 من معجم أحاديث الإمام المهدي).
وهذه الصور الحقيقية حتى بموازين البحث الاقتصادي، فأقاليم العالم كله خاضعة لدولة واحدة، وهذه الأقاليم متكاملة بالضرورة، وكافة مواردها مستثمرة استثمارا سليما، وهذه الموارد جميعا تجبى إلى بيت المال للإمام المهدي، حيث يتولى توزيعها بعدالة بين الناس، وفقا للتسديد والتأييد الإلهي المطلق، فموارد العالم مجتمعة إذا وزعت بعدالة ستتحقق الكفاية والوفرة والرخاء لكل سكان العالم، ولن يبقى في الأرض محتاج واحد، هذا حسب الموازين الاقتصادية، فكيف يكون حجم الكفاية والرخاء عندما تقذف الأرض بكل نفائسها وكنوزها، وتخرج كل نباتها، وعندما ينزل الله من السماء كل قطرها؟ عند ذلك سيفوق حجم الكفاية والرخاء حدي التصور والتصديق..
الفصل الثامن
سكان الأرض والسماء يحبون المهدي ويرضون منه
عمى القلوب والخلل المزمن بالذوق البشري العام:
طوال تاريخ البشرية وهي مصابة بعمى القلوب، وبخلل مذهل بالذوق العام. فقد صفقت البشرية دائما للجبابرة والطغاة والأغبياء، وأعجبت بهم، والتفت حولهم، ووضعت نفسها تحت تصرفهم، وبذلت لهم الغالي والرخيص، وأعطتهم كل ما طلبوه منها، لقد سعت البشرية بكل طاقاتها لترضي الطغاة والجبابرة طوال تاريخها رغبة أو رهبة!!
أما الأنبياء، والرسل، والمصلحون، فقد تجاهلتهم البشرية تماما، وعاملتهم باحتقار، وسعت في مقاومتهم، وتعاونت للصد عما يدعون إليه.
واتهمتهم ظلما بأشنع التهم، وأقذعها، فنسبتهم إلى الجنون، والسحر والكهانة، والشيطنة والسفاهة، وصورتهم بصور بشعة، وتمادت بعض المجتمعات البشرية، فاستعدى بعضها بعضا، وكونت الأحلاف وجيشت الجيوش، وشنت على الأنبياء والرسل حروبا عدوانية لا مبرر لها، فقتلتهم ومن والاهم، أو أذاقتهم من أمرهم عسرا!!
كانت المجتمعات البشرية تعتقد أن الأنبياء والرسل والمصلحين يمثلون الشر كله، وأن الجبابرة والطغاة يمثلون الخير كلهم، لأن بأيديهم مفاتيح الأموال والجاه والسلطة، وكانوا يعتقدون أن دعوات الأنبياء تمثل خطرا على مجتمعاتهم ونظمهم وأنماط حياتهم، لذلك اعتقدوا بأنهم ملزمون للتصدي للأنبياء والرسل ولكل ما جاءوا به، وأنهم ملزمون بموالاة الطغاة والجبابرة والوقوف معهم صفا واحدا لمواجهة خطر النبوة والرسالة والاصلاح!! إنها ثقافة الطغيان، إنها النتائج اللاشعورية للرعب والخوف وتقديس الغالب وتكريس ثقافته ومناهجه التربوية.
أحدث الأمثلة والبراهين على ذلك:
وأحدث الأمثلة والبراهين على صحة ما ذكرناه موقف بطون قريش والعرب عامة من نبوة ورسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فقد وقفت بطون قريش وقفة رجل واحد ضد النبي، وقاومته ودعوته طوال مدة الـ 15 سنة التي قضاها في مكة قبل الهجرة، وحاصرته وبني هاشم ودعوته وقاطعتهم، وعذبت المستضعفين من أتباعه، وتآمرت على قتله، ولما نجح النبي بهجرته استعدت عليه العرب، وجيشت الجيوش، وشنت عليه حروبها العدوانية، وحاربته حربا لا هوادة فيها، ومكرت به مكرا يزيل الجبال!! كانت بطون قريش ومن والاها من العرب يعتقدون أن رسول الله هو الشر بعينه، وكانوا يكرهونه إلى درجة العقد، ويكرهون من والاه حقا بنفس الدرجة. وكانوا يعتقدون أن أبا سفيان، ومعاوية، ويزيد، وأبا جهل، وعتبة وغيرهم من أئمة الكفر هم رموز الخير، وقادة الفلاح، ورموز الإصلاح، وأن الحياة لا تستقيم بغير قيادتهم الملهمة، لذلك والوهم وأطاعوهم ووضعوا تحت تصرفهم الغالي والرخيص ليحاربوا عدوهم محمدا حتى آخر سهم!!!
ومضوا بعداوتهم المجنونة للنبي، وبحقدهم عليه، وعلى من والاه، وبعد 23 سنة من المقاومة والعداء والحرب لمحمد كانوا يعتقدون أن الحرب ما زالت في أولها، وأنه لا ينبغي لهم أن يضعوا السلاح حتى يموت محمد ومن والاه أو يموتون، بهذا المناخ دخلت جيوش محمد عاصمتهم، عاصمة الشرك، وأحيط بالمجرمين وبقادة جبهة الشرك فاستسلموا عسكريا، واضطروا مكرهين أن يعلنوا إسلامهم بقيا منهم على الحياة!! وتبعا لاستسلام قادة الشرك وإعلان إسلامهم، استسلمت جموع المجتمع، وأعلنت إسلامها وادعى قادة الشرك بأن قلوبهم كانت عمياء، وأن في ذوقهم العام خلل رهيب، وادعى أتباعهم مثل ادعائهم، وصرحوا علنا بأن محمدا رسول الله هو الجدير بالمحبة، وأنهم كانوا خاطئين بعدائهم له، وهم راضون من قيادته كل الرضا، ومن المؤكد أن رسول الله كان يعرف حقيقة ادعاءاتهم ولكن الرسول عفا عنهم، وأعطاهم فرصة جديدة، وقبل منهم الظاهر، ولكنه وعلى سبيل الاحتياط والتحذير لأوليائه من كيدهم سماهم بالطلقاء وسماهم بالمؤلفة قلوبهم، وخصص الله تعالى لهم جزءا من الصدقات حتى يعرفهم المؤمنون بهذه الصفة أبدا فيحذروهم ويتقون شرور مكائدهم، وبنفس الوقت فرصة أمامهم ليصلحوا أنفسهم ويرجعوا عن غيهم، ولكن المؤمنين تناسوا، فبعد وفاة النبي مباشرة صار الطلقاء والمؤلفة قلوبهم هم أركان الدولة الفعليين!! فجنوا ثمرة حربهم للنبي وعدائهم له، وحققوا بالدهاء ما عجزوا عن تحقيقه بالحرب.
وما يعنينا أنه بعد هزيمة جبهة الشرك صار محمد حبيب الجميع وادعى الجميع بأنهم راضون منه، وقابلون بحكمه، وسعداء بقيادته!! لست أدري هل فاضت مشاعرهم بالمحبة للنبي لأنه نبي وحامل دعوة الإصلاح الحقيقية، أم لأنه غلبهم، وقهرهم، وكانوا من قبل قد تعودوا على موالاة من يغلب ويقهر!!؟ يقينا أن المؤمنين الصادقين والعقلاء قد أفاضوا تلك المشاعر بحق وصدق، لكن أنى للظالمين، وأنى للغوغاء أن يقولوا فيصدقوا، أو يوالوا فيخلصوا وهم الذين صنعوا ثقافة الذل وورثوها جيلا بعد جيل!!
محبة الإمام المهدي موالاته:
هذه المعلومة يقينية عند أهل بيت النبوة، وهم يرسلونها إرسال المسلمات، لأنهم سمعوا ووعوا رسول الله وهو يؤكد ذلك مرارا وتكرارا، وفي أوقات متعددة وأمكنة مختلفة، وتبعا ليقين أهل بيت النبوة وإجماعهم، تيقن أولياؤهم وأجمعوا على أن الرسول الله قد أخبر المسلمين بأن سكان الأرض والسماء سيحبون المهدي ويرضون عنه.
وقد توصلت شيعة الخلفاء التاريخيين (أهل السنة) بوسائلها الخاصة إلى أن رسول الله بالفعل قد أخبر المسلمين بأن أهل الأرض وأهل السماء سيحبون.
المهدي المنتظر ويرضون عنه تماما، وأن هذه المعلومة من علم الغيب لا يعلم حقيقتها إلا الله تعالى، مما يعني بأن الله قد أوحى لرسوله بأن يبين ذلك للمؤمنين ويبشرهم بهذه الحقيقة وبقية الحقائق المتعلقة بالمهدي المنتظر. وقد صحت هذه الأحاديث عندهم، وتواترت بينهم حتى صارت من المسلمات واعتقد بها العامة والخاصة منهم.
فيض من تأكيدات الرسول:
قال رسول الله: (المهدي رجل من ولدي، وجهه كالقمر الدري.... يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا يرضى بخلافته أهل السماء وأهل الأرض والطير في الهواء...). (راجع الحديث 72 ج 1 ص 130 من معجم أحاديث الإمام المهدي، تجد أربعين مرجعا لهذا الحديث منهم ابن ماجة، والطبراني، والسيوطي، والشافعي، والذهبي والطبري). وفي حديث آخر يوضح النبي الصورة بقوله عن المهدي: (تأوي إليه أمته كما تأوي النحلة إلى يعسوبها). (ابن حماد ص 99، والحاوي للسيوطي ج 2 ص 77، وملاحم بن طاووس ص 70، ومنتخب الأثر ص 78، الحديث 130 ج 1 ص 220).
ويؤكد النبي هذا الخبر بصيغة أخرى فيقول عن المهدي المنتظر: (يرضى عنه ساكن الأرض وساكن السماء). (راجع الحديث رقم 141 من المعجم).
حتمية حب العالم للمهدي وقبوله بخلافته ورضوانه عنها:
كان المهدي في البداية طريدا شريدا يظهر فجأة وحده، وتبدأ الآيات بالظهور تباعا ويلتف حوله حفنة من المؤمنين، ويتصدى المهدي لطغاة العالم وجبابرته وظالميه وبمدة لا تتجاوز الثمانية أشهر يحسم المواجهة لصالحه، وينقاد له العالم طوعا أو كرها ويصبح المهدي هو الزعيم أو الإمام أو الخليفة العالمي الأوحد، ومن بيده مفاتيح أموال العالم وخزائنه ونفوذه وجاهه وسلطانه، وفوق هذا وذاك فهو مزود بقدرات إلهية خارقة، حيث تسير الملائكة بين يديه، وتتجلى كراماته التي أعطاها الله تعالى له كرامة بعد كرامة، علنا وعلى رؤوس الأشهاد، وتخرج له الأرض كنوزها ونفائسها ونباتاتها بأذن الله، وتجبى إليه موارد العالم كله، ثم يتصرف بهذه الأكداس المكدسة من الأموال على الوجه الشرعي، ويقسم بين الناس بالسوية، كما كان يفعل النبي وعلي، فيغمر سكان الأرض بعطاياه، ولا يبقى في الأرض كلها محتاج واحد، وينشر القسط، وينشر العدل، ويعمم المعارف الحقيقية، ويسع عدله البر والفاجر، ويعمر الأرض، ويدخل البشرية عصرها الذهبي، ويحقق المعجزات خلال فترة حكمه، فما الذي يمنع العالم من أن ينبهر بهذا الإمام وأن يعجب به، وأن يحبه حبا صادقا وأن يرضى عنه، وعن خلافته!! إن هذه المشاعر نتائج حتمية وثمرات طبيعية لإنجازات وأفعال المهدي الماجدة خاصة وأن البشرية قد جربت كل أنماط الحكم، واكتوت بنيران الظلم عبر تاريخها الطويل، فيكون المهدي البلسم الشافي فمن لا يحبه ومن لا يرضى به في هذه الحالة!!.
الفصل التاسع
الله تعالى يظهر بالإمام المهدي دين الإسلام على جميع الأديان
الثابت والمجمع عليه عند أهل بيت النبوة وشيعتهم، بأن رسول الله قد أكد وبكل وسائل التأكيد، بأن الله سبحانه وتعالى سيظهر الإسلام بالمهدي المنتظر على الدين كله، بحيث تختفي كل الأديان وتتلاشى ولا يبقى منها إلا دين الإسلام. (راجع ينابيع المودة ص 423، ومنتخب الأثر للرازي ص 294، والحديث 712 من أحاديث المعجم ج 3). وهذه المعلومة عند أهل بيت النبوة وأوليائهم من المسلمات التي لا يختلف فيها اثنان، لأن المهدي ستكون له دولة عالمية يشمل حكمها وسلطانها ونظامها كل أقاليم الكرة الأرضية، وستكون المنظومة الحقوقية الإلهية المتكونة من القرآن الكريم والسنة النبوية هي القانون الأوحد والنافذ في هذه الدولة، وسيكون الدين الإسلامي هو الدين الرسمي والفعلي لكافة رعايا ومواطني تلك الدولة. حيث ستتزامن عملية بناء الدولة العالمية مع عملية نشر الإسلام، فتسير العمليتان معا، حيث سيدعو المهدي الناس جميعا إلى الإسلام، ويهديهم إلى أمر قد دثر فضل عنه الجمهور. (راجع الإرشاد ص 364، وروضة الواعظين ج 2 ص 264، وإعلام الورى ص 431، وكشف الغمة ج 3 ص 254، وإثبات الهداة ص 537 ج 3، والبحار ج 51 ص 30، والحديث 1122 من المعجم). وإن المهدي سيصنع كما صنع رسول الله، حيث سيهدم أمر الجاهلية كله، ويستأنف الإسلام جديدا. (راجع الحديث 1123 من أحاديث المعجم وراجع المصادر المذكورة فيه والحديث 1124).
وأكد الرسول هذا المحتوم بقوله: (... أما والله لا تذهب الأيام والليالي حتى يحيي الله الموتى ويميت الأحياء ويرد الله الحق إلى أهله، ويقيم دينه الذي ارتضاه لنفسه فأبشروا ثم أبشروا... (راجع البحار ج 41 ص 127، والتهذيب ج 4 ص 97، والكافي ج 3 ص 536، والحديث رقم 1126 من أحاديث المعجم). وحيثما حل المهدي وحيثما ارتحل يفتح المدارس والمعاهد لتعليم الناس القرآن على ما أنزل الله، فمع المهدي القرآن المكتوب بخط علي، وبإملاء رسول الله، ومع هذا القرآن حاشية بخط علي، وإملاء الرسول تتضمن القول الفصل بكل مسألة وردت فيه، فضلا عن ذلك فإن المهدي بوصفه الإمام الثاني عشر من أئمة أهل بيت النبوة الذين اختارهم الله لقيادة العالم قد ورث علمي النبوة والكتاب، ولا يخفى عليه من أمرهما شيء فيوجه الحركة العلمية، بحيث تأتي منسجمة مع علمي النبوة والكتاب، ومتفقة معهما، ويعدل الوقائع السابقة لعهده لتكون متفقة مع المفهوم الشرعي، فقد يهدم منابر ويدخل التعديلات الجذرية، حتى على المساجد لتكون كما أرادها الله ورسوله بلا زيادة ولا نقصان.
ويبدو واضحا أن شيعة الخلفاء: (أهل السنة) على شح مواردهم اليقينية من الحديث قد توصلوا إلى ذات النتيجة، فكيف يمكن أن يملأ المهدي الأرض عدلا وقسطا، ويرضى عنه ساكن الأرض وساكن السماء أن لم يحكم بما أنزل الله!! وما أنزل الله وحكم الله مختصر بكلمة الإسلام، فعند ما يكون الإسلام هو القانون النافذ في الدولة وهو دينها الرسمي، ويتزامن نشره في العالم مع بسط المهدي لسلطانه في الأرض، فيعني ذلك ضمنا أن المهدي سيظهر الإسلام على الدين كله، وقد صرح بذلك أعلام المفسرين من أهل السنة كما أسلفنا تحت عنوان:
(المهدي في القرآن والسنة).
حتمية هذه المعلومة ومنطقيتها معا:
الثابت بأن عيسى ابن مريم سينزل ويظهر في زمن المهدي، وأن المهدي.
المنتظر سوف يؤم المسيح ابن مريم في الصلاة، وعندما ينزل المسيح ابن مريم تكون للمهدي دولته المستقرة، وحكومته المشكلة، وجيشه القائم ونفوذه وصيته الواسع، مما يعني أن المهدي هو الإمام الشرعي والرئيس الفعلي لأمته ورعاياه، ويفهم بوضوح من الأحاديث والأخبار التي عالجت هذه الناحية، بأن السيد المسيح مكلف بمهام معينة تساعد على تمكين أمر المهدي، وهزيمة أعدائه، وأن الاثنين سيشكلان فريقا واحدا برئاسة المهدي ينصب هدفه بالدرجة الأولى والأخيرة على إنقاذ الجنس البشري وهدايته إلى الصراط المستقيم، والعمل معا لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة أعداء الله هي السفلى، وتوحيد العالم كله لتكون له دولة واحدة، ودين واحد هو دين الله، ولتقسيم موارد العالم على سكانه بالسوية، ليتحقق الوفر والكفاية للجميع، ولتعيش البشرية أزهى عصورها في ظلال الحكم الإلهي، فيحق الله الحق ويبطل دعاوي المبطلين.
فعندما يرى أتباع الديانة المسيحية المسيح ابن مريم نفسه منقادا للمهدي ومتبعا لدينه، فما هي حججهم، وما هي مبرراتهم لمخالفة المسيح وعدم اعتناقهم للدين الذي اعتنقه!! ثم ماذا يبقى لهم إن كان المسيح نفسه على غير دينهم، وهذا يدعوهم وبالضرورة لاعتناق الإسلام دين الله ودين المهدي والمسيح، وعندما تدخل هذه الكثرة من أتباع المسيح في الإسلام على يد المسيح وبمساعدته، فإن دخولها سيخلق حالة من الانبهار العالمي، والوعي العالمي، والمناخ الملائم لاعتناق العالم لدين الإسلام فتقبل الأكثرية الساحقة على دين الله لتدخله أفواجا أفواجا، ويبدو أن اليهود سيقاومون بكل قواهم، وسيقتل خلق كثير منهم، ولكن من يبقى منهم سيستسلم في النهاية ويعتنق الإسلام. ثم إن الله سبحانه وتعالى سيسلح المهدي والمسيح بفيض وافر ودائم من الآيات الربانية والمعجزات المتتابعة التي تخضع لها الأعناق، بحيث يضطر أكثر الخلق عتوا إلى التصديق والتسليم.
وعندما ينجح المهدي بتوحيد العالم، وتكوين دولته العالمية، ونشر القسط والعدل وتحقيق الكفاية والرخاء المطلق لكل سكان الأرض، فلا يبقى فيها محتاج واحد، عندئذ يبهر العالم بالفعل، ويحب هذا الرجل المعجزة حبا عظيما.
فيتعلق المهدي وبدينه تعلقا شديدا، فيكتشف العالم بأنه قد وجد ضالته المنشودة بالإسلام الذي حقق به المهدي عصر البشرية العظيم.
ألم تر كيف دخلت الملايين في الشيوعية ووالتها بسبب وعود الكفاية والرخاء، وكيف أن هذه الملايين قد أعطت كل ما لديها وصبرت صبر أيوب، ولما اكتشفت الملايين أن الشيوعية لا تملك ذلك انفضت من حولها!! وأكثر العقائد البشرية استقطبت أتباعها بشعارات تهواها النفوس، ثم اكتشفت أنها وعود لا يمكن تحقيقها!! ويمكنك أن تتصور حجم الإقبال على دين المهدي وشخصه عندما يحول الأحلام إلى حقائق، والمنى إلى وقائع ملموسة بأيام أو شهور!! يقينا أن العالم الذي عضه الظلم وأذلته الحاجة، وكفر بالوعود الكاذبة سيحب المهدي ودينه إلى درجة العشق والدنف، والهيام.
المهدي المنتظر يظهر في آخر الزمان:
كما صحت وتواترت عند أهل بيت النبوة وشيعتهم وعند الخلفاء والتاريخيين وشيعتهم (أهل السنة) الأحاديث التي تحدثت عن حتمية ظهور الإمام المهدي المنتظر، صحت وتواترت عندهم الأحاديث النبوية التي تحدثت عن أن المهدي المنتظر سيظهر في آخر الزمان، أي في المرحلة الأخيرة من الحياة الدنيا، وقبيل قيام الساعة وانتهاء دورة الحياة الدنيا وعلى هذا أجمعت الأمة، وأرسلت هذه المعلومة الدينية إرسال المسلمات.
نماذج من هذه الأحاديث:
1 ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يخرج في آخر الزمان رجل من ولدي)... (راجع تذكرة الخواص ص 363، وعقد الدرر ص 32 ب 3، ومنهاج السنة لابن تيمية ج 4 ص 211، وقال إن الأحاديث التي يحتج بها على خروج المهدي أحاديث صحيحة رواها أبو داود والترمذي وأحمد وغيرهم، منهاج الكرامة ص 28 عن ابن الجوزي ص 115، وإثبات الهداة ج 3 ص 606، ومنتخب الأثر ص 182 ف 2 ب 1 ج 1 عن تذكرة الخواص لابن الجوزي الحنبلي، ومعجم أحاديث الإمام المهدي ج 1 ص 113).
2 ـ ومثله قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يقوم في آخر الزمان رجل من عترتي).... (راجع الداني ص 94، وعقد الدرر ص 39 ب 3، ومعجم أحاديث الإمام المهدي ج 1 ص 114).
3 ـ ومثله قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (المهدي يخرج في آخر الزمان)... (غيبة الطوسي ص 111، وإثبات الهداة ج 3 ص 502، والبحار ج 51 ص 73 ـ 74، ومنتخب الأثر ص 168، ومعجم الأحاديث ج 1 ص 114 ـ 115).
4 ـ ومثله قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (.... يقوم بالدين في آخر الزمان كما قمت به في أول الزمان)... (راجع الطبراني في الكبير ج 3 ص 52 ح 2675، وفي الأوسط على ما في مجمع الزوائد، وصفة المهدي لأبي نعيم على ما في عقد الدرر، وينابيع المودة، وبيان الشافعي ص 478، وذخائر العقبى مختصرا ص 44، وعقد الدرر ص 151، ومجمع الزوائد ج 9 ص 165، وينابيع المودة ص 223، والإزاء ص 136، وكفاية الأثر 62، وكشف الغمة ج 3 ص 592).
5 ـ ومثله قوله عن المهدي: (يظهر في آخر الزمان على رأسه غمامة). (راجع مواليد الأمة ووفياتهم ص 201، والصراط المستقيم ج 2 ص 260، وإثبات الهداة ج 3 ص 615. ومعجم الأحاديث ج 1 ص 211).
6 ـ ومثله قوله عن المهدي: (يخرج في آخر الزمان خليفة يعطي المال بغير عدد).
(ابن حماد ص 98، ابن أبي شيبة ص 196 ح 19486، وأحمد بن حنبل ج 3 ص 5 و 48 ـ 49 ـ 60 و 98، وصحيح مسلم ج 4 ص 2234 وص 2235، وأبو يعلى ج 2 ص 421، وابن حبان ج 8 ص 240، والحاكم ج 4 ص 454، والداني ص 98، والفردوس ج 5 ص 510، ومجمع الزوائد ج 7 ص 316، ومقدمة ابن خلدون ص 250، وراجع معجم أحاديث الإمام المهدي ج 1 ص 231 ـ 236 تجد بقية المراجع).
والأحاديث النبوية التي سقناها كنماذج لحتمية ظهور الإمام المهدي تنم.
وتوحي بما لا يخفى على الإنسان العادي، بأن الإمام المهدي سيظهر في المرحلة الأخيرة من الحياة الدنيا، وبعد ظهوره بزمن يطول قليلا أو يقصر ستنتهي دورة الحياة الدنيا، وتقوم الساعة حيث ستبدأ دورة الحياة الأخرى..
الباب الرابع
هوية المهدي الذي بشر به الرسول وعلامات ظهوره
الفصل الأول
اسم المهدي المنتظر واسم أبيه وجده ورهطه وكنيته عند أهل بيت النبوة ومن والاهم
أجمع عمداء أهل بيت النبوة، أو شيوخ آل محمد، أو الأئمة الأعلام الذين ورثوا علمي النبوة والكتاب، والذين اختارهم الله، وأعدهم وأهلهم لقيادة الأمة ومرجعيتها طوال عصر ما بعد النبوة، والذين سماهم رسول الله بأسمائهم قبل أن يولد تسعة منهم، بأن المهدي المنتظر هو العميد أو الإمام الثاني عشر من أئمة أهل بيت النبوة وهو:
الإمام محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب حفيد النبي الأعظم، وحفيد بنته البتول الزهراء الهاشمي، ويكنى بأبي القاسم، وقد نهى الأئمة الكرام عن ذكر اسمه ـ ربما خوفا عليه ـ فعرف بمجموعة من الاصطلاحات منها الصاحب، والقائم، وصاحب الزمان، وصاحب الدار والحضرة المقدسة، والرجل، والغريم. (راجع في رحاب أئمة أهل بيت النبوة مجلد 2 ـ 3 ـ 5 ص 5 لمحسن الأمين).
وعندما يجمع الأئمة الأعلام على أمر من الأمور ويحدثون به فإنهم لا يجمعون ولا يحدثون بناء على رأي أو اجتهاد منهم، إنما يجمعون ويحدثون بناء.
على حديث رسول الله، فقد جزم الأئمة الأعلام بأنهم قد سمعوا ووعوا وتيقنوا يقينا قاطعا بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أخبرهم بأن المهدي المنتظر هو محمد بن الحسن المكنى بأبي القاسم، وهو خاتم الأئمة، وتبعا لإجماع أئمة أهل بيت النبوة الأعلام أجمعت شيعتهم التي والتهم، وتتلمذت على أيديهم، ونهلت علومهم. وتحقق عند الشيعة اليقين القاطع بأن المهدي المنتظر الذي بشر به رسول الله وخاتم النبيين هو محمد بن الحسن الإمام الثاني عشر من أئمة أهل بيت النبوة وهو ابن النبي وحفيده، والبقية الباقية من عترته أهل بيته الطاهرين وآله الأكرمين، وصار هذا اليقين جزءا أصيلا من العقيدة الدينية الإسلامية عندهم، وسمة من أبرز سمات مذهبهم. وهكذا وصل أئمة أهل بيت النبوة الأعلام، وهم ناصية آل محمد وتاج أهل بيته إلى القول الفصل واليقين المطلق بهذه الناحية، وأوردوا شيعتهم ومواليهم المخلصين نفس المورد، فتحقق اليقين الكامل عند أهل بيت النبوة وشيعتهم، بأن المهدي المنتظر هو خاتم الأئمة الاثني عشر، وهو محمد بن الحسن.... حتى ينتهي برسول الله أبا وجدا وبعلي بن أبي طالب أبا وجدا، وبالسيدة البتول الزهراء ابنة النبي أما وجدة. وهكذا حسم أهل بيت النبوة بما ورثوه من علمي النبوة والكتاب اسم المهدي المنتظر، واسم أبيه وجده ورهطه وكنيته ونعموا هم ومواليهم بسلام اليقين، وراحته.
اسم المهدي واسم أبيه وجده وبطنه وكنيته عند شيعة الخلفاء أهل السنة:
1 ـ لكي تقف على الحقائق المجردة:
أسست بطون قريش الخلافة التاريخية على أساس أن الهاشميين: (على الأخص عترة النبي وأهل بيته) قد أخذوا النبوة ولا ينبغي لهم، ولا حق لهم بأخذ الملك أيضا. بل يتوجب أن يكون الملك لبطون قريش تتداوله في ما بينها، ولا حرج إن آلت الخلافة لأي مسلم يرى رأي هذه البطون، ويخلص لقضيتها ولو كان من الموالي: (لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا لوليته واستخلفته)، ثم إن قيادة بطون قريش لم تكن ترى لأهل بيت النبوة وللهاشميين فضلا أو مكانة خاصة أو تميزا عن غيرهم، وحتى تنجح بطون قريش بدعاويها استولت على السلطة، أو الخلافة بالقوة والقهر وكثرة الأتباع، وسلمت حكم الولايات والأعمال وقيادات الجيش والمناصب العليا في الدولة لأبناء البطون، وشانئي أهل بيت النبوة والكارهين لولايتهم، وحتى لا يحتج أهل بيت النبوة بالأحاديث النبوية التي ذكرت فضائلهم وأكدت على حقهم الشرعي بقيادة الأمة ومكانتهم التأسيسية المميزة في الأمة، فإن قيادة بطون قريش التي صارت دولة منعت منعا باتا كتابة ورواية أحاديث رسول الله، ورفع مؤسسوها وخلفاؤها شعار: (حسبنا كتاب الله)، بمعنى أن القرآن يغني عن حديث النبي، وعللت ذلك بقولها: (أن أحاديث النبي تسبب الخلاف والاختلاف بين المسلمين. وبقي منع رواية وكتابة الأحاديث النبوية ساريا قرابة مائة عام). ولما آلت الأمور إلى معاوية جند كافة طاقات دولة الخلافة وإمكانياتها وقاد بنفسه حملة كبرى يمكن أن نسميها: (حملة الفضائل) كلف أركان دولته بأن يرووا كافة الفضائل التي ذكرها رسول الله عن الخلفاء الثلاثة الأول، وخاصة الثالث وكافة الفضائل الواردة بحق أي رجل من الصحابة لم يوال آل بيت النبوة، ولم يفعل معاوية ذلك حبا بالخلفاء، ولا بالصحابة ولكن إرغاما لأنوف آل بيت النبوة، وحتى تضيع فضائل أه ل بيت النبوة ويميع الأحكام الشرعية، ويطمس أي دليل على أحقية أهل بيت النبوة بقيادة الأمة، بدليل مرسومه الملكي الموجه لعماله والذي جاء بفقرة منه: فلا تدعو لأبي تراب (يقصد الإمام علي) أو لأحد من أهل بيته (يقصد آل محمد وعترته أهل بيته) فضيلة يرويها أحد من المسلمين إلا وتأتوني بما يناقضها في الصحابة!! (راجع شرح النهج ج 3 ص 595 تحقيق حسن تميم نقلا عن المدائني). ولم يكتف معاوية بذلك بل فرض على كل رعيته أن يسبوا عليا بن أبي طالب بالعشي والإبكار وأن يلعنوه، ومن لا يفعل ذلك فقد حل دمه، ولم يكتف ابن هند بذلك بل اعتبر أن موالاة أهل بيت النبوة ومحبتهم من جرائم الخيانة العظمى، وعقوبتها القتل وهدم الدار، وقطع العطاء عن الذرية والتجريد من الحقوق المدنية، فلا تقبل شهادة من يحب عليا، أو أحدا من أهل بيت النبوة، ولما نفذت مراسيم معاوية بحذافيرها، وتمخضت عن مئات الألوف من الفضائل المروية والمختلقة، كما يقول ابن نفطويه، ولما استقرت سنة اللعن والشتم وكراهية أهل بيت النبوة ومن والاهم حولت دولة معاوية والدولة الأموية عامة هذه السنن وتلك المرويات المختلقة إلى مناهج تربوية وتعليمية تدرس في المدارس والمعاهد والجامعات، وتناقلتها الأجيال كمسلمات، وبقيت هذه المناهج سارية المفعول وسياسة عامة للدولة الأموية طوال ألف شهر، ولما سقطت الدولة الأموية، وأفل النجم الأموي الرهيب، لم تسقط الثقافة الأموية، ثقافة الرعب والارهاب وقلب الحقائق، بل أثمرت فقه الهوى الذي صار الأساس الواقعي للفقه الذي عرف بالإسلامي فيما بعد، وبعد قرابة مائة عام اقتنع المسلمون بضرورة كتابة الأحاديث النبوية وروايتها ولمحت الدولة العباسية وأحست بهذا الاقتناع ولم تر بأسا من عدم اعتراضه، ولا حاجة لاستمرارية منع رواية وكتابة أحاديث الرسول، بل رأت فيه الفرصة لدعم الحكم العباسي، فالعباس عم النبي وله فضائل، والعباسيون من بني هاشم، وللهاشميين مواقف مشرفة في التاريخ. فتفتحت أبواب رواية وكتابة الأحاديث النبوية في هذا المناخ السائد والمناخ الوراثي المسيطر.
الآن يمكنك أن تتفهم موقف شيعة الخلفاء من اسم المهدي واسم أبيه واسم رهطه بعد أن توقفنا بالفقرة السابقة وبعمق عند الأساس الذي قامت عليه دولة الخلافة، وعلى الطريقة التي تكونت منها الثقافة التاريخية المعادية تماما لأهل بيت النبوة، والمنكرة لأي حق من حقوقهم، وعلى المحنة التي تعرض لها الحديث النبوي، والغاية من منع رواية وكتابة الأحاديث النبوية، يمكنك أن تتفهم وتفهم موقف شيعة الخفاء من اسم المهدي واسم أبيه ورهطه. لما رفع الحظر وتفتحت الأبواب والمنافذ على رواية وكتابة الأحاديث النبوية، وفوجئ علماء أهل السنة ورعايا دولة الخلافة التاريخية بحجم ونوعية وزخم الأحاديث والأخبار التي تحدثت عن المهدي المنتظر الذي بشر به النبي، وهي من الكثرة ومن الصحة ومن التواتر ومن الشيوع بحيث لا يمكن تجاهلها، وهي فوق هذا وذاك مناقضة لواقع وثقافة دولة الخلافة التاريخية، فاحتارت الدولة العباسية المشرفة بطريقة غير مباشرة على الرواية والكتابة والحاكمة الفعلية للعلماء الذين يروون ويكتبون هذه.
الأحاديث والأخبار فيمكن للدولة العباسية، كما كان ممكنا للدولة الأموية من قبل، وكما كان ممكنا لأي خليفة أن يقتل أي عالم أو أي إنسان لأي سبب يراه دون بيان الأسباب، فحسب الثقافة التاريخية المستقرة بالنفوس ليس أمام المسلم إلا الالتزام بالطاعة، أو مواجهة الموت، وقد فهم علماء دولة الخلافة مضامين هذه الثقافة وقواعد اللعبة، فلم يحرجوا الدولة، ولم يحرجوا أنفسهم فقاموا بعملهم ضمن الإطار العام لهذه اللعبة الرهيبة.
التمييع ومحاولة تفريغ النصوص من مضامينها:
بحثنا هذه الناحية من قبل، ولا بأس من بحثها بمنتهى الاختصار لغايات الربط المحكم للبحث 1 ـ المهدي رجل مجهول الهوية والاسم ولا يعرف له نسب في العرب، إنما هو مجرد شخص من الأمة، هذه مضامين حديث من الأحاديث التي تدخلت الدولة العباسية بوضعها، أو أحد الأحاديث التي رواها طاقم معاوية، ووجدها العلماء مكتوبة وجاهزة، وما يدرينا أن العلماء لم يقووا على مواجهة العامة بحقيقة، أن المهدي من ذرية النبي ومن آل علي لأن قد العامة قد أشربت الثقافة التاريخية وفقه الهوى، فكان لا بد من إعداد العامة لتقبل حقيقة المهدي بالتمهيد بهذا العموم العجيب، وقد ورد حديثان بهذا المضمون أشرنا إليهما بالبحوث السابقة.
2 ـ يبدوا أن الحديث الأول قد أثار ردة فعل وتساؤلات مثل: لماذا لا يكون المهدي من ذرية الخليفة الأول، أو الثاني أو الثالث، أو من ذرية معاوية أو الحكم بن العاص، أو من ذرية العباسيين على الأقل، لقد أحدث الحديث الأول بلبلة في عالم الرواية، فتدخلت الدولة وعملاؤها، وأرادوا أن يضعوا حدا لهذه البلبلة فرووا حديثا ينفي أن يكون المهدي من أمة محمد كلها، ويبين بأن المهدي هو المسيح ابن مريم، وهذه أول مرة يذكر فيها اسم المهدي (المسيح ابن مريم) وما يدرينا أيضا أن هذا الحديث من الأحاديث التي روتها طواقم رواة معاوية بعد أن تيقنوا من أن المهدي من ذرية النبي وآل علي، فأرادوا أن يصرفوا هذا الشرف.
******************
والتكليف الإلهي، وأن يطعموه لعيسى ابن مريم كحل وسط، وقد ثبت لعلماء أهل السنة أن هذا الحديث موضوع ومكذوب، بالرغم من جودة صناعته، وأن بعض الرواة لا وجود لهم بالواقع إنما هم من صنع الأوهام.
3 ـ ثم خطر ببال بعض الأذكياء المرتزقة، أو خططت أجهزة الدولة العباسية لتروي بواسطة أجهزتها وعناصرها المتخصصة أحاديث تفيد، بأن المهدي من ذرية العباس بن عبد المطلب عم النبي، ومثل هذه الروايات تجر مغنما للرواة وترضي الدولة، وتوطد حكمها ويستعقلها العامة، فالعباس عم النبي بالفعل، والعباسيون هم الحكام، ومن بيدهم العطاء والجاه والنفوذ، وشاعت هذه الأحاديث وروج لها جهاز الدولة، وليس من المستبعد أنها قد أدخلت بالمناهج التربوية والتعليمية المعتمدة في دولة بني العباس، ونكاد أن نقطع بأن هذه النماذج الثلاثة من مخلفات روايات طواقم معاوية التي حرصت على صرف كل خير وشرف عن أهل بيت النبوة وإعطائه لأي كان غيرهم، ولما شرع العلماء برواية وتدوين الأحاديث النبوية ومنها أحاديث المهدي وأخباره وجدوا هذه الروايات مكتوبة وجاهزة، وجزءا من المناهج التربوية التي استقرت بنفوس الرعية طويلا، فنقلوها كما هي، ومن يقوى على الجهر بحرمان البيت العباسي الحاكم من هذا الشرف!! بل إن نقلها دليل موضوعية!! وحجة للعالم!! وإثبات وجود!!.
الفصل الثاني
علماء أهل السنة يكتشفون أن المهدي المنتظر من أهل البيت ومن ذرية النبي وأن اسمه محمد!!!
الموضوعية!!
الأئمة الأعلام من أهل بيت النبوة هم ورثة علمي النبوة والكتاب، وهم المرجعية والقيادة الشرعية للأمة، وقد أهلهم الله ورسوله للإجابة على أي سؤال جوابا يقينيا.
لكن الأكثرية الساحقة جدا من رعايا دولة الخلافة، بما فيهم العلماء كانوا يجهلون ذلك جهلا تاما، وتلك نتيجة طبيعية للثقافة التاريخية التي مكنتها دولة الخلافة في النفوس، والتي أشرنا إليها بعمق وإيجاز قبل قليل، ثم بدأ علماء دولة الخلافة يكتشفون المكانة الشرعية لأهل بيت النبوة والمؤهلات العلمية للأئمة الأعلام، ولكن علماء أهل السنة لم يكونوا على يقين من ذلك، ثم إن هناك حالة القسر الاجتماعي والفجوة النفسية التي صنعتها ثقافة التاريخ، والتي تحول دون التيقن من معلومات أهل بيت النبوة!!
لذلك أوجد علماء دولة الخلافة لأنفسهم قواعد ووسائل معينة لرواية أحاديث الرسول، وتميز صحيحها من باطلها، وقويها من ضعيفها، وجدوا واجتهدوا بطلب أحاديث الرسول، وممن رووا عن الثقاة، (ومستوري الحال)، وعن المجاهيل وعن أولياء الجميع، ولكهنم لم يرووا عن أي رجل متهم بموالاة أهل بيت النبوة، أو التشيع لهم، لأنهم رأوا في ذلك إخلال: (بالأمانة والموضوعية) ووفق قواعد هذه الموضوعية، لا حرج على العلماء لو رووا أحاديث النبي عن معاوية، أو عن الحكم بن العاص، أو عن أي رجل من شيعتهم ومن مواليهم، لكن الحرج كل الحرج والاخلال (بالموضوعية العلمية) يتأتى من الرواية عن أي شخص من موالي أهل بيت النبوة!! حتى ولو كان نقيا تقيا صادقا قديسا، لأن الثقة والأمانة والتشيع لأهل بيت النبوة عندهم لا يجتمعان!!! لقد قال أحدهم عن الشافعي عندما سئل عنه ليس بثقة، والسبب أن الشافعي كان يجهر بحب أهل بيت النبوة!! ولما قيل لذلك العالم أن زيدا من الناس ثقة وهو شيعي اندهش ذلك العالم وعبر عن حقيقة مشاعره بقوله: (شيعي وثقة)!!!!!.
هذه هي طبيعة الموضوعية التي التزمتها غالبية العلماء من شيعة دولة الخلافة، ومع هذا فقد توصلت إلى نتائج مذهلة حقا!!!
النتائج المذهلة التي توصل لها علماء شيعة الخلفاء حول اسم المهدي واسم جده ورهطه:
1 ـ لقد تبين لعلماء أهل السنة بعد رواياتهم المكثفة لأحاديث الرسول، ووفق مناهجهم وقواعدهم الموضوعية أن المهدي المنتظر من عترة النبي أهل بيته. (الحديث 44 و 55 و 57 و 59 و 62 و 68 و 69 و 70 و 84 و 88 و 95 و 96 من أحاديث معجم الإمام المهدي ج 1، وراجع عشرات المراجع المبينة إزاء كل منها وقد حكم علماء أهل السنة بصحة هذه الأحاديث وتواترها).
2 ـ وأبعد من ذلك فقد أكد علماء أهل السنة أن المهدي المنتظر من ولد فاطمة. (راجع الحديث 74 و 81 من أحاديث الإمام المهدي، وراجع المراجع المذكورة تحتها، والحديث 77 والحديث 99).
وقد حكم علماء أهل السنة بصحة هذه الأحاديث وتواترها أيضا).
3 ـ وأوضح من ذلك فقد توصل علماء أهل السنة على أن المهدي المنتظر من ولد الحسين بن علي بن أبي طالب. (الحديث 75 و 76 والحديث رقم 100.
ج 1 من معجم الأحاديث). وقد حكم علماء أهل السنة بصحة هذه الأحاديث وتواترها أيضا.
4 ـ وروى علماء أهل السنة أحاديث عن النبي تضمنت بأنه قد قال:
(المهدي من ولدي) أي من أحفاده وذريته الطاهرة. (راجع الحديث رقم 64 و 72 و 75 و 86 من أحاديث معجم أحاديث الإمام المهدي، وراجع المراجع المدرجة تحت كل واحد منها). وقد صحت هذه الأحاديث عند علماء أهل السنة، وتواترت.
5 ـ وتبين لعلماء أهل السنة أيضا بأن رسول الله قد قال: بأن اسم المهدي كاسم الرسول (محمد). (راجع الحديث 60 و 64، (اسمه كاسمي وكنيته ككنيتي) و 75 من أحاديث الإمام المهدي ج 1). ثم ذكروا هذه الأحاديث بصيغة أخرى فقالوا أن رسول الله قد قال: (بأن اسم المهدي يواطئ اسم النبي. (راجع الحديث 68 و 90 و 97 و 98 و 99، وقدروا أن المواطأة تعني المتشابهة أي أن اسم المهدي يشبه اسم النبي)!!
وقد صحت عندهم هذه الأحاديث وتواترت أيضا، واقتنع بصحتها العامة والخاصة فيهم.
ومعنى ذلك فإن شيعة الخلفاء أو أهل السنة قد تيقنوا بأن المهدي المنتظر من عترة النبي أهل بيته، ومن صلب علي بن أبي طالب، وبالتحديد من صلب الحسين، ومن أحفاد فاطمة بنت النبي، وأن اسمه كاسم الرسول (محمد) وهذا خط الدفاع الثاني وهم لم يتجاوزوه قيد أنملة، فلا يمكنهم الاعتراف بأن المهدي هو محمد بن الحسن ثاني عشر أئمة أهل بيت النبوة وخاتمهم، لأنهم لو فعلوا ذلك لانهار البناء على ساكنيه، ولسحبوا ضمنا بساط الشرعية والمشروعية من تحت أقدام الخلافة التاريخية كلها، ولكانوا شركاء بالجرم!! ولكن ما توصل إليه علماء أهل السنة الأفذاذ في هذا المجال يعتبر إنجازا علميا بكل الموازين، وتمردا مذهلا على ثقافة التاريخ والحواجز النفسية التي ترسخت في نفوس العامة والخاصة من شيعة الخلفاء وبعض علماء أهل السنة تجاهلوا تلك الثقافة التاريخية وأثرها وصرحوا علنا بأن المهدي المنتظر هو محمد بن الحسن ثاني عشر أئمة أهل بيت النبوة، وقد أشرنا إلى مؤلفاتهم في بحوثنا السابقة.
المهدي المنتظر خاتم الخلفاء أو الأئمة الشرعيين:
أجمع أئمة أهل بيت النبوة الأعلام على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد سمى الأئمة الشرعيين من بعده، وحصرهم بأثني عشر خليفة أو إماما، وأن الرسول الأعظم قد أكد وبكل وسائل التأكيد، بأن عليا بن أبي طالب هو أول الخلفاء أو الأئمة الشرعيين، وأن المهدي المنتظر محمد بن الحسن هو خاتم الخلفاء، أو الأئمة الشرعيين المؤهلين إلهيا للمرجعية وقيادة الأمة.
وتبعا لإجماع أئمة أهل بيت النبوة أجمعت شيعتهم التي تتلمذت على أيديهم، ونهلت العلوم منهم مباشرة، وصارت هذه المعلومات من الحقائق الدينية التي يرسلون صحتها إرسال المسلمات.
وقد روى أهل السنة أحاديث عن رسول الله صحت وتواترت عندهم، مفادها أن المهدي هو آخر الأئمة وخاتمهم مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (بنا يختم الدين كما بنا فتح)... (ابن حماد ص 102، والطبراني في الأوسط ج 1 ص 136 ـ 157، والبيهقي على ما في عقد الدرر، وعقد الدرر ص 25 ب 1 وص 142 ب 7، ومجمع الزوائد ج 7 ص 216، ومقدمة ابن خلدون ص 253 ب 53، والحديث رقم 154 من المعجم).
ومثله قوله صلى الله عليه وآله وسلم أيضا: (الأئمة من بعدي اثني عشر، أولهم أنت يا علي وآخرهم القائم الذي يفتح الله على يديه مشارق الأرض ومغاربها). (مناقب ابن شهرآشوب ج 1 ص 298، وغاية المرام ص 710 ب 142 ح 18، وينابيع المودة للقندوزي الحنفي ص 492 ـ 493، ومنتخب الأثر ص 58، والحديث رقم 155، من المعجم).
ومثله قوله صلى الله عليه وآله وسلم أيضا: (يا علي إني مزوجك فاطمة ابنتي سيدة نساء العالمين وكائن منكما.. عدتهم عدة أشهر السنة آخرهم يصلي عيسى ابن مريم خلفه).
(النعماني ص 57 ب 4 ج 1، ومنتخب الأثر ص 29، والبحار ج 36 ص 272، والحديث رقم 157 من المعجم ج 1).
ومثله قوله صلى الله عليه وآله وسلم (يا علي الأئمة الراشدون.... من ولدك اثني عشر، وأنت أولهم وآخرهم اسمه اسمي يخرج فيملأ الأرض عدلا وقسطا). (الحديث رقم 156 ج 1 من المعجم، والنعماني ص 92 ب 4 ح 27، ومنتخب الأثر ص 60 ـ 61، والبحار ج 6 ص 259).
إجماع الأمة على عدد الأئمة أو الخلفاء:
1 ـ أهل بيت النبوة ومن والاهم وتخرج من مدرستهم يؤكدون بأن الأئمة أو الخلفاء الشرعيين من بعد النبي اثنا عشر، وأن الله قد اختارهم وأعدهم وأهلهم للقيادة والمرجعية من بعد النبي، وسماهم لرسوله وتسعة منهم لم يولدوا بعد، وأن دور الرسول كان مقتصرا على إعلان ما أوحي إليه من ربه. وكان أول أولئك الأئمة علي بن أبي طالب، وآخرهم محمد بن الحسن المهدي المنتظر وأنه قد حيل بينهم وبين الممارسة الفعلية لحقهم الشرعي بخلافة النبي وقيادة الأمة من بعده، لأن الأمة قد اتبعت الغالب وخذلت الأئمة الشرعيين.
2 ـ والخلفاء التاريخيون ومن والاهم وتخرج من مدارسهم يؤكدون جميعا، بأن الرسول بالفعل قد أكد وبين، بأن الخلفاء أو الأمراء أو الأئمة أو النقباء من بعده اثني عشر، وقد جزموا بصدور هذا عن رسول الله وصحت عندهم هذه الأحاديث وتواترت وأرسلوها إرسال المسلمات.
ولكنهم جميعا لا يعرفون أسماء هؤلاء الاثني عشر، ويدعون بأن الرسول لم يسم أي واحد منهم!! ولا يعرفون أول الاثني عشر ولا خاتمهم.
شيعة الخلفاء أمام مشكلة كبرى:
إذا صدق الخلفاء وشيعتهم أهل بيت النبوة وما قالوه عن الاثني عشر إماما، فمعنى ذلك أن الخلفاء وشيعتهم قد أدانوا أنفسهم، وأقروا إقرارا شرعيا، بأنهم قد غصبوا الأمر من أهله، وأخرجوه من معدنه. وفي ذلك قلب كامل للواقع التاريخي كله وسحب لبساط الشرعية من تحت أقدام كافة الخلفاء التاريخيين، ولا يتصور عاقل أن يفعل الخلفاء وشيعتهم ذلك!! وهل يعقل أن يكون الخلفاء التاريخيين الذين ملكوا الجاه والنفوذ وخزائن الأموال ومن والاهم على باطل، وهم الأكثرية الساحقة جدا من الأمة وأن يكون أهل بيت النبوة وآل محمد والقلة المستضعفة التي والتهم على الحق!!
محاولة الخروج من المأزق وإيجاد حل للمشكلة:
لقد تبين للخلفاء التاريخيين وشيعتهم أن عدد الذين تولوا الخلافة أو الإمارة من بعد النبي بالمئات، فكيف يوفقون بين العدد 12 وبين المئات!! لقد انقسموا إلى طوائف، فكل طائفة وضعت قائمة بأسماء اثني عشر خليفة، وزعمت كل طائفة أن الأسماء الواردة في قائمتها ربما كانت هي التي عناها رسول الله!!!
والمدهش أن كافة قوائمهم تضمنت اسم معاوية، مع كل تاريخه، ومع كل ما فعله، وتضمنت اسم ابنه يزيد الذي هدم الكعبة، وأباح مدينة رسول الله، وهتك أعراضها، وقتل ابن النبي، وأباد ذريته، وتضمنت القائمة اسم مروان بن الحكم الذي لعنه رسول الله!! وهم للآن لا يعرفون من هو خاتم الخلفاء الاثني عشر.
هل المهدي في نظر شيعة الخلفاء خليفة؟
أخرج أحاديثه البخاري ومسلم بالوصف و 52 من علماء الحديث عند أهل السنة أخرجوه بالاسم ولكنه عندهم ليس من الاثني عشر الذين عناهم رسول الله، فإذا كان المهدي المنتظر الذي يعترفون بأنه سيفتح مشارق الأرض ومغاربها، ويكون دولة عالمية، وينشر الإسلام في الأرض، ويملأ الأرض قسطا وعدلا ليس خليفة من الاثني عشر على الأقل، فمن هو الخليفة إذا، ومن هو خاتم الخلفاء إذا، وهل يعد المهدي خلفاء أو خليفة يختمهم!! إنهم أمام خيارين، فإما أن التضحية بالدين أو بالتاريخ، وقد عزموا على أن يثبتوا شرعية الخلافة التاريخية وأفعالها وبكل وسائل الإثبات ولو بالقوة!! لأنهم قد أشربوا ثقافتها، واختلط فقهها مع لحمهم ودمهم، فهي حي بشعورهم ولا شعورهم!! إنها حالة عجيبة حقا، فهم يتمسكون برواية رجل يقول إنه قد سمى صحابي يقول إنه قد سمع رسول الله يقول كذا وكذا.
ويهملون رواية أهل بيت النبوة الذين عاشوا مع الرسول تحت سقف واحد طوال حياته المباركة، ورافقوه في حله وترحاله، وورثوا منه علمي النبوة والكتاب، وأكد الرسول بأنهم والقرآن ثقلان، وأن الهدى لا يدرك إلا بهما، وأن الله قد فرض مودتهم على الجميع، وشهد لهم بالطهارة، وجعل الصلاة عليهم جزءا من الصلاة المفروضة على العباد! إن هذا لأمر عجاب!! ما سمعنا بهذا، والأنكى أنهم لا يقبلون رواية من يواليهم!! في نفس الوقت الذي يقبلون فيه رواية أعداء الله ورسوله!!
إنها مشكلة كبرى لا يحلها إلا المهدي المنتظر خاتم الخلفاء الأئمة الشرعيين.
مكانة المهدي المنتظر ومقامه:
للمهدي المنتظر مكانة خاصة، ومقام رفيع عند الله سبحانه وتعالى، فهو أحد سادات أهل الجنة. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (نحن ولد عبد المطلب سادة أهل الجنة أنا، وحمزة، وعلي، وجعفر والحسن والحسين والمهدي). (راجع تاريخ البخاري على ما في فتن ابن كثير، وفتن ابن كثير ج 4 ص 44 عن ابن ماجة، وراجع سنن ابن ماجة ج 2 ص 1368 ب 4 ح 4087، والطبراني، والحاكم ج 3 ص 211، وتاريخ بغداد ج 9 ص 434، وراجع الحديث رقم 110 ج 1 من معجم أحاديث الإمام المهدي تجد عشرات المراجع).
ويكفي المهدي شرفا، ومكانته علوا أن عيسى ابن مريم يصلي خلفه، ويرتضي به إماما له، وقد أكد الرسول الأعظم بأن الجنة: (تشتاق إلى أربعة من أهلي قد أحبهم الله وأمرني بحبهم: علي بن أبي طالب والحسن والحسين والمهدي الذي يصلي خلفه عيسى ابن مريم). (راجع الحديث رقم 113 ج 1 من معجم أحاديث الإمام المهدي). وقد بين الرسول بأن (المهدي طاووس أهل الجنة).
(راجع الحديث رقم 114 ج 1 من معجم أحاديث الإمام المهدي، وراجع المراجع المدونة تحته منها عقد الدرر ص 148، ومصابيح السنة للبغوي، والحاوي للسيوطي ج 2 ص 83، والفردوس ج 4 ص 222، وينابيع المودة ص 181 ب 56). ثم إن المهدي من خيرة الله سبحانه وتعالى. قال الرسول مرة:
(إن الله اختار من كل شيء شيئا... وأختار من الشهور شهر رمضان، ومن الليالي ليلة القدر، وأختار مني ومن علي الحسن والحسين... تاسعهم باطنهم وهو ظاهرهم وهو أفضلهم وهو قائمهم ينفون عنه...) راجع الحديث 122 ج 1 من معجم أحاديث الإمام المهدي وراجع المراجع المذكورة تحته).
وهذا الحديث القدسي يبين مقام المهدي ومكانته عند الله وعند رسوله، وجسامة المهام المناطة به. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لما عرج بي إلى السماء السابعة ومنها إلى سدرة المنتهى، ومن السدرة إلى حجب النور، ناداني ربي جل جلاله قائلا: وبك وبه وبالأئمة من ولده أرحم عبادي وإمائي، وبالقائم منكم أعمر أرضي بتسبيحي وتهليلي وتقديسي وتكبيري وتمجيدي، وبه أطهر الأرض من أعدائي وأورثها أوليائي، وبه أجعل كلمة الذين كفروا بي السفلى، وكلمتي العليا، وبه أحيي عبادي وبلادي بعلمي، وبه أظهر الكنوز والذخائر بمشيئتي، وإياه أظهر على الأسرار والضمائر بإرادتي، وأمده بملائكتي لتؤيده على إنفاذ أمري، وإعلان ديني، ذلك وليي حقا ومهدي عبادي صدقا). (راجع الحديث رقم 123 ج 1 من المعجم والمراجع المذكورة تحته)..
الفصل الثالث
آيات ومعجزات خاصة بالمهدي المنتظر
الأهداف الكبرى والمهام العظمى:
المهام الكبرى، والمهام العظمى المناطة بالإمام المهدي مهمة تنفيذها وتحقيقها تستدعي آيات ومعجزات من نوع مكثف وخاص. فالمهدي المنتظر مكلف بأن يقطف ثمرة جهد كافة الأنبياء والرسل والأوصياء، وأن يحقق ما تطلعوا إلى تحقيقه، وذلك بأن يهدي سكان الكرة الأرضية من مختلف الأديان إلى دين الله الواحد وهو الإسلام، ومكلف بأن يكون دولة عالمية تسمل كافة أقاليم الكرة الأرضية برا وبحرا وجوا، ويحمل جنسيتها كافة أبناء الجنس البشري المتواجدين على الكرة الأرضية في زمن المهدي، ومكلف أيضا بأن يجعل المنظومة الإلهية قانونا نافذا في كافة أرجاء دولته العالمية، وأن ينشر العدل المطلق، ويحقق الكفاية والرخاء التام لكافة أبناء الجنس البشري، ليتعرف العالم على طبيعة الحكم الإلهي، ونتائج هذا إن طبق، وليحيا أبناء الجنس البشري العصر الذهبي في ظلال هذا الحكم قبل قيام القيامة بقليل. وتلك أهداف ومهام لم يكلف بها نبي ولا رسول ولا وحي قط قبل المهدي المنتظر، كانت مهمة النبي والرسول والوحي على الإطلاق: (أي نبي أو رسول أو وحي) مقتصرة على بذل العناية، وإقامة الحجة، ولا تنصب بكليتها على تحقيق غاية، فالنبي أو الرسول أي نبي أو رسول، مطالب بأن يبلغ رسالات ربه، وأن يبذل العناية الكافية بهداية قومه، وأن يثبت بأنه حقيقة نبي الله ورسوله، فإذا رفضت هذه الأمة أو تلك مضامين الرسالة الإلهية، فإن هذا الرسول أو ذاك غير مخول بجر الناس إلى الحق جرا، وإلزامهم بالاعتراف بمضامين الرسالة الإلهية قسرا، لأن الفئة القليلة المؤمنة التي آمنت به وصدقت بمضامين الرسالة الإلهية لا تقوى على مواجهة الأكثرية الساحقة الكافرة بتلك المضامين، والمواجهة بهذه الحالة لون من ألوان الانتحار، لأن نتائج المواجهة محسومة سلفا وفقا لموضوعية وقواعد عملية (الابتلاء الإلهي) التي يجب أن تجري في مناخ حيادي، حتى يخضع العمل للثواب أو العقاب!! وأمام عدم قدرة الفئة المؤمنة على المواجهة، ولأنه لا بد من عقاب الذين كذبوا رسولهم، وكفروا بمضامين رسالته، فقد ختمت أكثر الرسالة الإلهية بالعذاب النكر الذي صبه الله تعالى على الأكثرية الفاسدة التي آمنت بباطل أئمة الضلالة، وكفرت بالحق الذي جاءت به الرسالات الإلهية، فتصبح رسالة كل نبي سطر في تاريخ الهداية الإلهية، ومشعل يتألق نوره وسط عالم ملأه المجرمون بالظلمات.
مهمة الإمام المهدي المنتظر مختلفة اختلافا جوهريا:
إذا كان النبي، أي نبي مكلف إلهيا ببذل عناية بقوم وعلى رقعة محدودة من الأرض، فإن الإمام المهدي مكلف إلهيا بتحقيق غاية على مستوى الكرة الأرضية، وعلى مستوى العالم كله، وتحقيق غايات الإمام المهدي كاملة، وتنفيذ المهام المنوطة به من المحتومات الإلهية التي لا مفر من تحقيقها، لأن الله تعالى قد حتم ذلك، وكلف الإمام المنتظر بتحقيق كافة الغايات الإلهية التي حددها تعالى بنفسه، وأن ينفذ كافة المهام الإلهية التي وضعها الله تعالى بنفسه، ووعد الإمام المهدي بالدعم المطلق، والتأييد المطلق اللازمين لتحقيق الغايات الكبرى والأهداف العظمى، فلا بد أن يدخل سكان الكرة الأرضية في زمن المهدي بالإسلام، ولا بد من أن يكون المهدي دولته العالمية الشاملة لكل بقاع الأرض، ولا بد أيضا من أن تكون المنظومة الحقوقية الإلهية هي القانون النافذ على كل سكان الأرض، ولا بد من نشر العدالة المطلقة، وتحقيق الاكتفاء التام والرخاء المطلق لكل بني البشر، هذه أوامر الله، وتلك مشيئته التي لا راد لها، وهي حتميات لا بد من وقوعها بالكم والكيف الذي أراده الله.
آيات ومعجزات كافية لتحقيق الغايات وإنجاز المهمات:
الأهداف والمهام الكبرى المناطة بالإمام المهدي المنتظر تحقيقها على مستوى الكرة الأرضية، وعلى مستوى بني البشر جميعا تحتاج إلى آيات ومعجزات كافية، وناطقة بالحق، فإذا كان النبي موسى المكلف بإنقاذ بني إسرائيل من قبضة الفرعون، وهداية الإقليم المصري يحتاج إلى تسع آيات بينات، ومع أنه قد أظهر هذه الآيات التسع إلا أن أهل مصر لم يهتدوا، وأثمرت هذه الآيات عن إنقاذ بني إسرائيل فقط وهدايتهم إلى حين، ومع أن الآيات والمعجزات الربانية قد تتابعت وأظهرها موسى جميعا، إلا أن بني إسرائيل قد انحرفوا انحرافا كبيرا، وعبدوا العجل عندما غاب عنهم موسى أياما معدودات، وحال الأنبياء جميعا لم تختلف كثيرا عن حال موسى، ومعاناتهم لم تقل عن معاناته، إذا كان هذا الكم والكيف من المعجزات قد أظهرهما الله تعالى وأيد بهما موسى لغايات إنقاذ بني إسرائيل من قبضة فرعون وهدايتهم، وهم مجرد عشيرة، فما هو حجم الآيات والمعجزات التي تلزم لتحقيق المحتومات المكلف الإمام المهدي بتحقيقها وهي على مستوى الكرة الأرضية ومستوى الجنس البشري!!!! من المؤكد بأن الله سبحانه وتعالى سيزود الإمام المهدي بالآيات والمعجزات اللازمة والكافية لتحقيق الغايات، وإنجاز المهمات التي كلفه الله تعالى بتحقيقها وإنجازها.
نماذج من الآيات والمعجزات التي سيظهرها الله على يد المهدي المنتظر:
قال الإمام جعفر الصادق: (ما من معجزة من معجزات الأنبياء والأوصياء إلا ويظهر الله تبارك وتعالى مثلها في يد قائمنا، لإتمام الحجة على الأعداء). (راجع الحديث رقم 931 من معجم أحاديث الإمام المهدي ج 3 ص 380، وإثبات الرجعة للفضل بن شاذان، وإثبات الهداة ج 3 ص 700، ومنتخب الأثر ص 312 ح 3). والإمام جعفر الصادق لا يحدث مثل هذا الحديث برأيه أو تحليله أو استنتاجاته، إنما يحدثه رواية عن أبيه، وعن جده، وعن رسول الله، وهذا ثابت عن الأئمة الكرام بأنهم إذا حدثوا فإنما يحدثون عن رسول الله، فضلا عن ذلك، فإن هذا الجزم من رجل وإمام معروف بالصادق لا يتسع به الرأي ولا الاجتهاد، وعلى أي حال، فإن أهل بيت النبوة مجمعون على أنهم قد سمعوا ووعوا رسول الله وهو يؤكد بأن الله سبحانه وتعالى سيزود المهدي بالآيات والمعجزات الكافية لتحقيق الغايات الكبرى، وتنفيذ المهام العظمى التي أناط الله تعالى بالمهدي تحقيقها وتنفيذها وأن هذه الأحاديث صحيحة ومتواترة عندهم، وهم يجزمون بأنها قد صدرت من رسول الله بالفعل، وتبعا لإجماع أئمة أهل بيت النبوة، وجزمهم ويقينهم أجمعت شيعتهم التي تتلمذت على أيديهم، ونهلت العلوم منهم، ومع الإجماع جزمت وتيقنت بأن رسول الله قد أكد بالفعل، بأن الله سبحانه وتعالى سيظهر على يد المهدي المنتظر الآيات والمعجزات الكافية، لتحقيق الغايات الكبرى التي كلفه الله تعالى بتحقيقها. وهذا الإجماع والجزم واليقين من المسلمات التي لا يختلف فيها اثنان من شيعة أهل بيت النبوة المخلصين.
1 ـ فمع المهدي راية النبي الغالبة الحديث رقم 771، ومعه سلاح النبي الحديث رقم 772، ومعه مواريث النبي الحديث رقم 773، ومعه عصا موسى وهي خضراء كهيئتها حين انتزعت من شجرتها، وأنها لتنطق إذا استنطقت، أعدت للمهدي ليصنع، كما كان موسى يصنع بها، وأنها لتروع وتلقف، ومعه حجر موسى لا ينزل المهدي منزلا إلا انبعثت عين منه، فمن كان جائعا شبع ومن كان طمآنا روي. (راجع الحديث 775 و 777).
2 ـ ينادي مناد من السماء ألا إن الحق في آل محمد الحديث 813، وينادي المنادي: (إن المهدي من آل محمد، فلان بن فلان باسمه واسم أبيه الحديث 815، ويسمع هذا النداء أهل المشرق والمغرب، حتى تسمعه الفتاة في خدرها الحديث 817.
3 ـ ويخرج المهدي المصحف الذي كتبه علي كما أنزله الله بخط يده، وبإملاء رسول الله، ويخرج الجامعة التي فيها بيان حكم كل شيء حتى أرش الخدش. (راجع الحديث رقم 1115).
4 ـ وروي أن الملائكة الذين نصروا محمد يوم بدر الأرض ما صعدوا بعد ولا يصعدوا حتى ينصروا المهدي، الحديث 824.
نماذج من أحاديث رواها شيعة الخلفاء أو أهل السنة عن بعض معجزات الإمام المهدي:
1 ـ (يخرج الإمام المهدي على رأسه غمامة فيها مناد ينادي هذا المهدي خليفة الله فاتبعوه). (راجع الحديث رقم 118 ج 1 من المعجم. راجع بيان الشافعي ح 511 ب 15، والفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص 298، وقال:
روته الحفاظ كأبي نعيم، والطبراني، والحاوي للفتاوي للسيوطي ج 2 ص 61، وتاريخ الخميس ج 2 ص 288 عن أبي نعيم).
2 ـ ومثله قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يخرج المهدي وعلى رأسه ملك ينادي إن هذا هو المهدي فاتبعوه. (رواه الطبراني، وأبو نعيم، وبيان الشافعي ص 512 ب 16، راجع الحديث رقم 119 ج 1).
3 ـ يظهر في آخر الزمان على رأسه غمامة تظله من الشمس تدور معه حيثما دار ينادي مناد بصوت فصيح هذا هو المهدي، الحديث 120.
4 ـ (مع المهدي راية رسول الله المغلبة)... (الحديث رقم 133 ج 1 وابن حماد ص 98، وملاحم ابن طاووس ص 68 ب 140، وعرف السيوطي الحاوي ج 2 ص 75).
5 ـ في راية المهدي مكتوب البيعة لله. (راجع الحديث رقم 134 ج 1).
6 ـ قال صلى الله عليه وآله وسلم: (فلو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يأتيهم رجل من أهل بيتي تكون الملائكة بين يديه ويظهر الإسلام). (رواه الترمذي على ما في تحفة الأشراف ج 9 ص 428، والديلمي على ما في كنز العمال ج 14 ص 269 ح 38684، والفردوس ج 3 ص 372، وتذكرة القرطبي ص 700، راجع الحديث رقم 84 ج 1 من أحاديث المهدي)..
وقد صحت هذه الأحاديث وأمثالها عند أهل السنة وتواترت، وجزموا بأنها قد صدرت بالفعل من رسول الله.
لماذا وصف بالمهدي؟
الله سبحانه وتعالى هو الذي وصف الإمام الثاني عشر من أئمة أهل بيت النبوة بالمهدي، وبناء على هذا الوصف الإلهي بشر رسول الله بهذا الرجل ووصفه بالمهدي أيضا وبناء على هذين الوصفين اعتقد المسلمون قاطبة بهذا الوصف فأطلقوه على الإمام الثاني عشر من أئمة أهل بيت النبوة، أو على ذلك الخليفة الذي سيملك مشارق الأرض ومغاربها، ويكون دولة عالمية، وينشر العدل والرخاء والإسلام في الكرة الأرضية. أما لماذا وصف بالمهدي؟ فقد وردت عدة أخبار عن رسول الله وأهل بيته تجيب على هذا السؤال منها:
! ـ فعن الإمام محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أنه قال:
(إنما سمي المهدي مهديا لأنه يهدي لأمر خفي، يهدي ما في صدور الناس، ويخرج التوراة من مغارة في أنطاكية، ويعطى حكم سليمان). (راجع الحديث رقم 748 ج 3 من المعجم).
2 ـ وروي حديث عن رسول الله أنه قد قال لعلي: (يا علي لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يملك رجل من عترتك يقال له المهدي يهدي إلى الله عز وجل ويهتدي به العرب، كما هديت أنت الكفار والمشركين من الضلالة، ثم قال: ومكتوب على راحته بايعوه بإن البيعة لله عز وجل. (الحديث رقم 92 ج 1 من المعجم).
وما يعنينا هنا أن الرسول قد قال: يقال له المهدي، يهدي إلى أمر الله ويهتدي به العرب.
3 ـ وروي عن الإمام جعفر الصادق أنه سئل: (المهدي والقائم واحد)؟
فقال نعم. فقال السائل: لأي شيء سمي المهدي؟ قال الإمام: لأنه يهدي إلى كل أمر خفي، الحديث رقم: 1121.
4 ـ وروي عنه أيضا أنه قد قال: (إذا قام القائم عليه السلام دعا الناس إلى.
الإسلام جديدا، وهداهم إلى أمر قد دثر فضل عنه الجمهور، وإنما سمي القائم مهديا، لأنه يهدي إلى أمر مضلول عنه)... (راجع الحديث رقم: 1122 والمراجع المذكورة تحته).
وعندما يظهر المهدي سيكون الإسلام أثرا بعد عين، وسيكون العالم كله في ضلالة عمياء، يتخبط ولا يعرف طريق الهدى، إنه فريسة الظن والتخمين حائر بأمره، عندئذ يظهر الإمام المهدي فيهدي العالم إلى الصراط المستقيم ويدله عليها، ويضع تحت تصرف العالم الحوافز التي تحفزه لسلوك هذا الطريق، ومع التأييد الإلهي، والتوفيق ينجح المهدي المنتظر بإنقاذ العالم وهدايته إلى طريق الخير، وينجح بتوحيد أبناء الجنس البشري ويهتدي إلى الطرق التي تشيع كافة حاجاتهم وتجعلهم يعيشون عيشة كفاية ورخاء. كل هذه الأسباب مجتمعة ومنفردة تكمن خلف وصف الإمام الثاني عشر بالمهدي..
الفصل الرابع
غيبة الإمام المهدي المنتظر
أجمع شيوخ آل محمد، أو الأئمة الأعلام من أهل بيت النبوة، أو العمداء الذين اعترف العالم كله بعمادتهم لأهل بيت النبوة على أن المهدي المنتظر الذي بشر به رسول الله هو الشيخ أو العميد أو الإمام الثاني عشر من عمداء أهل بيت النبوة، وهو بالتحديد محمد بن الحسن، وقبل أن يولد هذا الإمام انتشرت شائعة في أوساط الدولة العباسية، وبين رعاياها مفادها أن مولودا من ذرية محمد رسول الله سيولد، وأنه سيكون المهدي المنتظر، وأنه سيستولي على كل أقاليم الأرض: (بما فيها إقليم الدولة العباسية) وسيخضع الخاصة والعامة لحكمه بما فيهم ذرية العباس، وخلفاء الدولة العباسية، فأوجست الدولة العباسية في نفسها خيفة، وحملت هذه الإشاعة على محمل الجد، وكلفت أجهزتها السرية بمراقبة مواليد أهل بيت النبوة، وعلى الأخص مواليد عميدهم آنذاك الحسن بن علي الهادي المعروف بالعسكري، كان إمام العصر آنذاك أو العميد الحسن بن علي العسكري على علم بالشائعة، وكان يعلم علم اليقين أن ابنه محمد بن الحسن الذي سيولد هو بعينه الإمام الثاني عشر، وهو بعينه الإمام المهدي المنتظر، وكان الإمام العسكري يعلم بخيفة الدولة العباسية وبحركة أجهزتها السرية، وقد حمل هذه الخيفة وحركة الأجهزة السرية العباسية على محمل الجد، فأخفى ولادة ولده إخفاء تاما إلا على صفوة الصفوة من أوليائه، فلم يكن أحد يعلم أن للإمام الحسن العسكري ولد، وأن هذا الولد هو وارثه وهو العميد من بعده، ويوم وفاة الإمام الحسن العسكري فوجئ أركان الدولة العباسية الذين حضروا مراسم دفن الإمام بغلام لا يتجاوز عمره الخمس سنوات يقول لعمه الذي تأهب ليصلي بالناس على الإمام صلاة الجنازة، تأخر يا عم أنا أولى بالصلاة على أبي!! كان الغلام هو المهدي المنتظر، وهو العميد الثاني عشر، فأخذ العم من هول المفاجأة وتأخر، وتقدم الإمام الغلام ليصلي بالناس على أبيه صلاة الجنازة وعلمت الدولة العباسية أن هذا الغلام هو العميد والإمام من بعد أبيه، وتساءلت متى ولد!! وقدرت أنه ربما كان المهدي المنتظر فهو من ذرية النبي، وسليل الأئمة العمداء، وبدأت تستفيق من هول الصدمة، وتتعجب كيف أنها لم تعرف بولادته!! وأخذت أجهزتها السرية تخطط لمراقبة الإمام والقضاء عليه، لأنها أيقنت أنه المهدي المنتظر الذي عنته الأحاديث النبوية، وأنه سر الإشاعة التي انتشرت بين الناس!!! بعد ما عرف أركان الدولة العباسية والخاصة والعامة من رعاياها أن للإمام الحسن العسكري ولد، وأن اسمه محمد وأنه الإمام والعميد من بعد أبيه، وأنه قد أم الجميع بصلاة الجنازة على أبيه، وبعد أن ربط الناس إشاعة المهدي الموعود المنتظر بهذا الغلام، وبعد أن صممت أجهزة الدولة العباسية على وضع الخطط والقضاء على هذا الإمام الغلام اختفى بالكامل، وعجزت الدولة العباسية بكل قوتها عن تحديد مكان وجوده، أو إثبات وفاته!! كأن الغلام الإمام قد تبخر من الأرض!! وزاد من حيرة الدولة العباسية وأجهزتها السرية، أنها قد تيقنت بأن الإمام الغلام كان يمارس مهام الإمامة على أوليائه، فتجبى له الأموال، ويوزعها على مستحقيها وينفقها على مصارفها الشرعية، وأنه كان يصدر الأوامر والتوجيهات لاتباعه بواسطة سفراء، عجزت الدولة العباسية عن معرفتهم أو معرفة أمكنة إقامتهم!! لقد كان الإمام الغلام وسفراؤه شغلها الشاغل، ولكنها لم تصل إلى نتيجة.
فيئست من العثور على الإمام الغلام، ويئست من العثور على سفرائه ومن معرفة وسائل اتصالهم بالإمام، وانتشرت الشائعات واستقر في أذهان العامة والخاصة من رعايا الدولة العباسية أن الإمام الغلام هو المهدي المنتظر بالفعل، وقد رووا أنه هو وحده الذي سيخلصهم وينقذهم دون أن يضطروا لتقديم أي تضحية!! بل سيأتيهم الخلاص والإنقاذ تماما كما تعود المطر أن يأتيهم!!.
ومن ذلك التاريخ لم تره رعايا دولة الخلافة، وإذا رأته فإنها لا تعرفه، لقد احتارت تلك الرعايا أين ذهب الغلام الإمام، وكيف اختفى، ولم يجزم أحد بموته، بل ولم يدع أحد موته!! وهل يعقل أن يموت شيخ أو عميد أو إمام آل محمد ولا يعرف المسلمون بموته!!! كان كل إمام من أئمة أهل البيت أو شيوخهم أو عمدائهم بمثابة البدر المتألق في السماء يعرفه المسلمون قاطبة على الرغم من محاولات الخليفة وأركان دولته للتعتيم عليه، والحي من قدره، والتقليل من مكانته، فكانت رعايا دولة الخلافة تعرف طوال التاريخ، بأن هذا الإمام أو ذاك هو ابن رسول الله، وما من عميد أو شيخ أو إمام من عمداء أو شيوخ أو أئمة أهل بيت النبوة قد مات إلا وعرف كل المسلمين بموته، وبكى عليه الصادقون أو تباكى عليه الخلفاء وأعوانهم!! فهل يعقل أن يموت محمد بن الحسن (المهدي المنتظر) وهو إمام وابن إمام، وهو شيخ آل محمد وعميدهم ولا يعرف الناس عن موته!!! وحتى دولة الخلافة التي كانت تحصي على الناس أنفاسهم لا تدعي بأن هذا الإمام قد مات، لأنها لا تملك دليلا وليس بإمكانها تلفيق دليل من عندها!!
كل هذا يعني بأن الإمام الثاني عشر من أئمة أهل بيت النبوة وهو محمد بن الحسن (المهدي المنتظر) ما زال حيا يرزق، ولكنه غائب أو مغيب إلهيا عن أعين الناس، وهو يعرفهم، ويراهم، وقد يرونه ويعرفونه، ولكنهم يجهلون أنه الإمام المهدي المنتظر أو أنه محمد بن الحسن الإمام الثاني عشر من أئمة أهل بيت النبوة.
أحاديث عن رسول الله:
روى المسلمون أحاديث عن رسول الله تبين بأن رسول الله قد قال بأن المهدي المنتظر، ستكون له غيبة وحيرة تضل فيها الأنام. (راجع الحديث رقم 159 والحديث رقم 160، 161). وقد بين الرسول أن غيبة المهدي ضرورية لأنه يخاف القتل 167، بل وشجع الرسول أولياءه على موالاة الإمام المهدي وهو غائب، الحديث 165، والاهم أن الرسول قد أقسم بربه بأن المهدي سيغيب، لأن هذه الغيبة ضرورية لتمحيص الذين آمنوا ومحق الكافرين وفق قواعد العدالة والابتلاء الإلهي، الحديث 167، وقد صحت هذه الأحاديث عن رواتها، وتواترت، وسدت جوانبا من نظرية المهدي المنتظر التي كشف رسول الله من وجودها في الإسلام. (راجع الأحاديث ذوات الأرقام 159 ـ 161 و 164 و 165 و 167 و 168 من المجلد الأول من معجم أحاديث الإمام المهدي، وراجع عشرات المراجع المذكورة تحتها).
إجماع آل محمد وأهل بيت النبوة:
لا يوجد عاقل واحد في الدنيا ينكر بأن آل محمد، أو عترته أهل بيته كانت طوال التاريخ فئة من المسلمين متميزة عن غيرها من الفئات، وفي كل زمان من الأزمنة التي تلت موت النبي، وانتهت بموت الحسن العسكري الإمام الحادي عشر من أئمة أهل البيت كان قد وجد على رأس هذه الفئة: (أعني آل محمد وأهل بيته) رجل هو بمثابة العميد أو الشيخ لآل محمد، وهو بمثابة الإمام الشرعي المؤهل إلهيا لقيادة الأمة لو سلمت إليه، وكان العالم كله يعرف هذا الإمام، ويعترف به، ويقر أنه بالفعل شيخ آل محمد، وأنه أقرب الأحياء من أبناء عصره للنبي. وكان العالم كله يعرف بأن عمداء آل محمد أو أئمتهم علماء على الأقل، وأنهم قد ورثوا علوم جدهم رسول الله، أو أنهم على الأقل من علماء المسلمين!!
تلك حقائق لا يماري فيها إلا تافه أو ناصبي لقد أجمع الأئمة أو العمداء الأحد عشر الذين تولوا رئاسة آل محمد بأنهم قد سمعوا رسول الله يؤكد بأن المهدي المنتظر ستكون له غيبة، ثم يقبل كالشهاب الثابت على حد تعبير رسول الله، (الحديث رقم 159 من المعجم). وقد جزموا بأن هذه التأكيدات قد صدرت من الرسول بالفعل وهم يشهدون على ذلك. فقد أكد الإمام علي أنه سمع الرسول، وأكد الإمام الحسن ذلك، وأكده الإمام الحسين، مثلما أكد زين العابدين، والباقر، والصادق والكاظم، والرضا، والجواد، والهادي.
والعسكري، وهم مشيخة آل محمد طوال فترة ثلاثة قرون من الزمن! وقد وضح شيوخ آل محمد الصورة فبينوا أن الإمام المهدي ستكون له غيبتان، الغيبة الأولى يختفي فيها عن أعين السلطة وأوليائها، وعن عامة أوليائه، ويدير أمر أوليائه من خلال سفراء انتقاهم أبوه، وأقر هو هذا الانتقاء، أما الغيبة الثانية فيختفي فيها المهدي تماما ولا يعرف مكان وجوده أحد لا من السلطة، ولا من أوليائه.
نماذج من أحاديث الأئمة:
قال الإمام علي: (أما والله لأقتلن أنا وابناي هذان، وليبعثن الله رجلا من ولدي في آخر الزمان يطالب بدمائنا به، وليغيبن عنهم تمييزا لأهل الضلالة، (الحديث رقم 614)، ويقال عنه مات أو هلك، بل في أي واد سلك، (الحديث 615)، ومثله قوله: والتاسع من ولدك يا حسين هو القائم بالحق، وعندما سئل:
هل هو كائن؟ أقسم الإمام علي بأنه سيكون، وأنه ستكون للمهدي غيبة وحيرة لا يثبت فيها على دينه إلا المخلصون. (وراجع الحديث 618 و 619)، قال الإمام زين العابدين: تخفى ولادته عن الناس، وأن لصاحب هذا الأمر غيبتان، (الحديث 759 و 760)، وقال الإمام الباقر: لقائم أهل محمد غيبتان، إحداهما أطول من الأخرى. (راجع الحديث 895 و 904 و 905 و 906 و 907 و 908 و 913 من معجم أحاديث الإمام المهدي ج 3).
الغايات المعلنة من الغيبة:
كشفت بعض الأحاديث النبوية وأحاديث الأئمة عن بعض الغايات من الغيبة، مثل الخوف من القتل، وتمحيص المؤمن، ومحق الكافر وفقا لقواعد الابتلاء الإلهي، (الحديث 164 و 167). هذا على صعيد الأحاديث النبوية، أما على صعيد أحاديث الأئمة فنفهم منها: (ليخرج المهدي وليس لأحد بعنقه بيعة)، (الحديث 700 و 759)، ومثله قول الإمام جعفر عندما سئل عن الغيبة فقال:
(لأمر لم يؤذن لنا في كشفه لكم، وقال لسائله أيضا: وجه الحكمة في غيبات من تقدمه من حجج الله، لأن وجه الحكمة من ذلك لا ينكشف إلا بعد ظهوره).
(راجع الأحاديث أرقام 906 ـ 913 والمراجع المدونة تحت كل منها).
نص حديث الإمام الباقر وزوال العجب وغيبات سابقة:
قال الإمام محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب حول هذا الموضوع: (يا محمد بن محمد إن في القائم من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم شبها من خمسة من الرسل: (يونس بن متي، ويوسف بن يعقوب، وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم فأما شبهه من يونس بن متي، فرجوعه من غيبته وهو شاب بعد كبر السن).
2 ـ وأما شبهه من يوسف بن يعقوب، فالغيبة عن خاصته وعامته واختفاؤه من أخوته وإشكال أمره على أبيه مع قرب المسافة بينه وبين أبيه وأهله وشيعته.
3 ـ وأما شبهه من موسى عليه السلام فدوام خوفه، وطول غيبته، وخفاء ولادته، وتعب شيعته من بعده، مما لقوا من الأذى والهوان إلى أن أذن الله عز وجل في ظهوره ونصره وأيده على عدوه.
4 ـ وأما شبهه من عيسى فاختلاف من اختلف فيه حتى قالت طائفة منهم ما ولد، وقالت طائفة مات، وقالت طائفة قتل وصلب.
5 ـ وأما شبهه من جده المصطفى فخروجه بالسيف وقتله أعداء الله وأعداء رسوله الجبارين والطواغيت، وأنه ينصر بالسيف والرعب وأنه لا ترد له راية...). (راجع الحديث رقم 770 مجلد 3 من أحاديث الإمام المهدي، راجع المراجع المذكورة تحته).
والمعنى أن الإمام المهدي ليس أول من يغيب، وأنه ليس في الغيبة عجب.
أوصاف الإمام المهدي المنتظر:
روى الأئمة الأعلام من أهل بيت النبوة، والعلماء الأكابر من شيعتهم أحاديث نبوية تتضمن بعض الصفات الجسدية للإمام المهدي المنتظر.
وجاء في بعضها أن المهدي هو: (الطريد الفريد الوحيد...)، (الحديث رقم 595) وفي آخر: (أنه فتى من قريش آدم ضرب من الرجال)... (الحديث 602)، وفي ثالث: (إنه رجل أجلى الجبين، أقنى الأنف، ضخم البطن، أزيل الفخذين، أبلج الثنايا، بفخذه اليمنى شامة)... (الحديث 594)، وفي حديث رابع، وصف المهدي: (بأنه رجل أبيض اللون، مشرب بالحمرة، مبدح البطن، عريض الفخذين، عظيم مشاس المنكبين، بظهره شامتان شامة على لون جلده، وشامة على شبه شامة النبي،.. وأن الله قد أعطاه قوة أربعين رجلا.. (الحديث رقم 593)، وجاء في (الحديث رقم 592) أن المهدي يشبه رسول الله في الخلق والخلق... وأنه سيظهر شابا دون الأربعين. (راجع الحديث رقم 691، وجاء في الحديث رقم 900)، أن المهدي سيرجع شابا، ووصف المهدي في حديث بأنه:
(الطريد الفريد الوحيد...) (الحديث رقم 595)، وجاء أيضا أن المهدي إذا خرج كان في سن الشيوخ ومنظر الشبان، قويا في بدنه، حتى لو مد يده إلى أعظم شجرة في الأرض لقلعها، ولو صاح بين الجبال لتدكدكت صخورها. (راجع الحديث 1211، وجاء في الحديث رقم 1147)... أن القائم من ولدي يعمر عمر الخليل عشرين ومائة سنة، ثم يغيب غيبة في الدهر ويظهر في صورة شاب موفق ابن اثنين وثلاثين سنة.
كذلك فقد روى العلماء الأعلام من شيعة الخلفاء: (أهل السنة) طائفة من الأحاديث النبوية التي تتحدث عن بعض أوصاف المهدي، وقد صحت هذه الأحاديث عندهم، وتواترت وشاعت بين المسلمين مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (المهدي مني أجلى الجبهة، أقنى الأنف)، وقد روى هذا الحديث الترمذي والنسائي والحاكم والبيهقي وغيرهم من علماء الحديث الأفذاذ). (راجع الحديث رقم 71 ج 1 من المعجم وراجع عشرات المراجع المذكورة تحته).
ومثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (المهدي من ولدي، وجهه كالقمر الدري، اللون لون عربي، والجسم جسم إسرائيلي.. (راجع الحديث رقم 72 وعشرات المراجع المذكورة تحته). وروى علماء أهل السنة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (المهدي منا أهل البيت، أشم الأنف أقنى، أجلى)... (راجع الحديث رقم 88، والمراجع المذكورة تحته): ورووا قوله أيضا: (يخرج المهدي وهو ابن أربعين سنة كأنه رجل من بني إسرائيل). (راجع الحديث رقم 91 ج 1 والمراجع المذكورة تحته). وقوله: (المهدي رجل أزج أبلج أعين... يستوي على منبر دمشق وهو ابن ثماني عشر سنة). (راجع الحديث رقم 92). وقوله: (المهدي شاب من أهل البيت)، (الحديث رقم 94)، وقوله: (ليبعثن الله تعالى من عترتي رجلا أفرق الثنايا، أجلى الجبهة...)، (الحديث رقم 149).
هذه الأكثرية الساحقة من الأحاديث النبوية التي رواها أهل بيت النبوة وشيعتهم، وصحت عندهم وتواترت، تليها الأحاديث النبوية التي رواها علماء شيعة الخلفاء ـ أهل السنة ـ وصحت عندهم وتواترت، وشاعت مضامين هذه الأحاديث بين المسلمين قاطبة، فاعتقدوا بها لأنهم قد جزموا أن هذه الأوصاف قد صدرت بالفعل عن رسول الله، إذ لا مجال للاجتهاد بمثل هذه الأمور، وقد غطت هذه الأحاديث الثغرة المتعلقة بالأوصاف الجسدية من نظرية المهدي المنتظر الذي بشر به رسول الله..
******************
الفصل الخامس
دولة أهل بيت النبوة ومدة حكم الإمام المهدي المنتظر
أئمة أهل بيت النبوة الأعلام على يقين تام من ربهم ونبيهم، بأن المهدي المنتظر الذي بشر به رسول الله هو الإمام الثاني عشر من أئمة أهل بيت النبوة الذين اختارهم الله وأعلنهم رسوله، وهو خاتم الأئمة الشرعيين فلا إمام من بعده، لأن الأئمة اثني عشر فقط.
وهم على يقين من ربهم ونبيهم بحتمية ظهور المهدي المنتظر، وحتمية انتصاره، وحتمية نجاحه بتكوين دولة أهل بيت النبوة العالمية التي ستحكم العالم كله، ويتجنس بجنسيتها كافة أبناء الجنس البشري المتواجدين فوق الكرة الأرضية في عصرها الذهبي، وأن هذه الدولة ستكون آخر الدول، حيث سيحكم الإمام المهدي ما شاء الله له أن يحكم، ثم يتوفاه الله تعالى وتنتقل رئاسة هذه الدولة من بعده إلى أحد عشر مهديا بالتتابع، وكلهم من شيعة أهل البيت المخلصين السائرين على خط أهل البيت القويم، وهم يدعون الناس خلال فترة حكمهم إلى موالاة أهل بيت النبوة ومعرفة حقهم. (راجع الحديث رقم 1149 ج 4 من المعجم والمراجع المدونة تحته). وشيعة أهل بيت النبوة المخلصين صار لهم نفس اليقين التام بكل ما ذكرناه آنفا.
مدة حكم المهدي المنتظر:
إذا كان المهدي المنتظر سيكون دولة عالمية تحكم العالم كله، فما هي الفترة الزمنية التي يستمر فيها حكم الإمام المهدي! أو بتعبير آخر كم سنة سيحكم الإمام المهدي المنتظر بعد ظهوره وتكوينه للدولة العالمية، ورئاسته لها؟.
روى عبد الله بن الحارث حديثا عن الإمام علي يجيب على هذا السؤال إذ قال له الإمام علي: (يا ابن الحارث ذلك شيء ذكره موكول إليه، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عهد إلي أن لا أخبر به إلا الحسن والحسين. (راجع الحديث رقم 673 ج 3).
وروي عن الإمام الباقر قوله: يملك القائم ثلاثمائة سنة ويزداد تسعا كما بعث أهل الكهف في كهفهم.... (راجع الحديث رقم 859).
وروى أهل السنة عن الإمام علي قوله: (يلي المهدي أمر الناس ثلاثين أو أربعين سنة). (راجع الحديث 674 وراجع المراجع المذكورة تحته).
وروي عن الإمام جعفر أنه قال: (يملك القائم عليه السلام تسع عشرة سنة وأشهرا).
وروى ابن حماد حديثا لم يسنده إلى النبي جاء فيه: (فيلبث عيسى والمؤمنون سنوات في بيت المقدس)...
أحاديث رواها شيعة أهل بيت النبوة وشيعة الخلفاء معا:
وروى العلماء الأعلام من شيعة الخلفاء حديثا عن النبي جاء فيه... فيبعث الله رجلا من عترتي من أهل بيتي فيملأ الأرض قسطا... يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض... لا تدع السماء من قطرها... ولا تدع الأرض من مائها...
حتى تتمنى الأحياء الأموات يعيش في ذلك سبع سنين أو ثمان سنين أو تسع سنين... وروى هذا الحديث أيضا وأخرجه علماء كبار من شيعة أهل البيت.
(راجع الحديث رقم 44 ج 1 من المعجم والمراجع الكثيرة المدونة تحته).
وروى علماء شيعة الخلفاء حديثا عن الرسول تحدث فيه عن الرخاء والوفرة في عهد الإمام المهدي وعن كثرة المال، وزهد الناس فيه إلى أن قال: (فيكون كذلك سبع سنين أو ثماني سنين أو تسع سنين، ثم لا خير في العيش بعده) أو قال: (ثم لا خير في الحياة بعده). (راجع الحديث رقم 53 وعشرات المراجع المدونة تحته).
وقد تفرد علماء أهل السنة بهذا الحديث. وروى أكابر علماء شيعة أهل البيت عن رسول الله حديثا يتفق معه بالمضمون جاء فيه: (فيمكث سبع أو ثمانية أو تسعا) (أي سنة) ولا خير في العيش بعد هذا أو قال: (لا خير في الحياة بعدهن). (راجع الحديث رقم بلا على الصفحة 95 من المجلد الأول من المعجم).
تحليل هذه الأحاديث:
1 ـ لا ينبغي أن يتبادر إلى الذهن وجود أي تناقض، ولا حدث أي تناقض في أقوال الأئمة، لأنهم قد نهلوا من مشكاة واحدة، وإذا حدثوا فهم لا يقولون برأيهم، وإنما حديثهم حديث رسول الله لأنهم ورثة علمي النبوة والكتاب، وإذا وجد تناقض فهو ناتج من الروايات الخاطئة أو المختلة عنهم، وليس واردا أيضا بأن الأئمة الكرام لا يعرفون بالضبط والدقة الفترة الزمنية لحكم الإمام المهدي، فلدى الأئمة القدرة والتأهيل الإلهي للإجابة على كل سؤال، ومن الطبيعي أن مدة حكم الإمام المهدي سؤال، ومن الجائز أن يسأله أي واحد من الناس لأي واحد من الأئمة ومن المحتوم أن الإمام يعرف الجواب اليقيني.
وقد لاحظت أن الإمام علي قد ذكر بأن رسول الله قد عهد إليه بأن لا يخبر أحدا عن مقدار هذه المدة إلا الحسن والحسين، لأنهما إمامان بالتوالي، وقد لاحظنا أن الإمام الباقر قد حدد هذه ب 309 سنوات، وأن الإمام الصادق قد حددها بسبعين سنة (من سنيكم).
وروي عن الإمام جعفر أن المهدي يملك تسع عشرة سنة وأشهرا.
2 ـ تاريخيا كانت دولة الخلافة وأركانها، وحتى الرعايا ينظرون بتوجس.
وحذر وريبة لأئمة أهل بيت النبوة، ولمن والاهم وخصهم بالولاء والمحبة، ويلوح لي أن الأجهزة السرية لدولة الخلافة طوال التاريخ كانت تتربص بالأئمة الكرام وتحاول أن تحصي عليهم أنفاسهم، فتعرف ما يقولون وما يتحدثون به، ثم تستدعيهم رئاسة دولة الخلافة من حين إلى حين لتحاسبهم حسابا عسيرا على كل ما يصدر عنهم من أحاديث، وكلمة المهدي شبح مرعب للخلفاء، ودولة أهل بيت النوبة هاجس مجرد ذكره يسبب للخلفاء وأركان دولتهم الجنون التام.
ثم إن الكثير من زوار الأئمة كانوا بمثابة الجواسيس أو العيون على الأئمة ليسألوهم ويحصلوا منهم على أجوبة ثم يكتبون تقاريرا بذلك إلى أسيادهم وأولياء نعمتهم، وفي كثير من الأحيان كانت تلك العيون اللعينة تزور وتحرف وتهول عن عمد ما تسمعه من الإمام. وعندما أذنت دولة الخلافة بكتابة ورواية أحاديث الرسول بعد مائة عام من المنع، كانت مرويات طواقم معاوية قد استقرت تماما، وعرفت من الجميع، وكانت الرعية تتحاشى أهل بيت النبوة لأن الاختلاط بهم يشكل خطرا، فضلا عن ذلك فإن المناهج التربوية والتعليمية المعتمدة في دولة الخلافة التاريخية أظهرت أهل بيت النبوة بمظهر الناس، ولم تعطهم أية مميزة، فعلي بن أبي طالب صحابي، مثله مثل معاوية في أحسن الظروف، والحسن والحسين مثلهما مثل يزيد بن معاوية!!! فما هو الداعي للرواية عن الحسن أو الحسين وأبو هريرة موجود!!! بل على العكس كانت وسائل إعلام دولة الخلافة تظهر أبا هريرة بصورة العالم المرجع، والصحابي الجليل الموالي لأمير المؤمنين، وتظهر الإمام الحسن أو الحسين بصورة الشاب الذي لا علم له الذي يتربص الدوائر بأمير المؤمنين، ويترقب الفرص للخروج عليه!!! هذا هو المناخ الذي كان سائدا.
والخلاصة في مدة حكم الإمام المهدي:
أن دولة أهل بيت النبوة لن تزول بموت المهدي المنتظر بل ستستمر، ويحكم من بعده أحد عشر مهديا، إنه من الجائز أن مدة ال‍ 309 سنوات.
الواردة في الحديث هي المدة التي ستستمر فيها دولة أهل بيت النبوة!! ومن المؤكد أن الإمام المهدي سيكافح كفاحا رهيبا حتى يدين العالم كله بالطاعة لدولته، وهنا يبرز تساؤل مهم وهو منذ متى يبدأ حكم المهدي؟ لأن المهدي في البداية سيحكم بقعة محدودة من الكرة الأرضية، ثم يتوسع حتى يسيطر على العالم، فهل نعتبر مدة حكم المهدي مبتدئة من تاريخ حكمه لأول أقليم، أو من التاريخ الذي تتم فيه للمهدي السيطرة على العالم كله؟ هذه بعض الإشكالات التي لا بد من حلها قبل الجزم بمدة حكم الإمام المهدي.
وأكبر الظن أن مدة حكم الإمام المهدي، سبعا أو تسعا أو تسع عشرة سنة وأشهرا أو ثلاثين سنة، ولكن من المؤكد إنها ليست أقل من سبع سنين ولا أكثر من 70 سنة..
الفصل السادس
العلامات التي تسبق مباشرة ظهور الإمام المهدي
الداء والدواء:
قياما بواجب البيان، وإضفاء لطابع الأهمية على المهدي المنتظر، وعصره الذهبي، شخص رسول الله حالة الأمة والعالم قبيل ظهور الإمام المهدي، بسلسلة متكاملة من الأحاديث النبوية التي صحت وتواترت عند أئمة أهل بيت النبوة وشيعتهم، وعند الخلفاء وشيعتهم، والتي شاعت بين المسلمين كافة، فاعتقدوا بها لأنهم قد جزموا بأنها قد صدرت من رسول الله بالفعل، حيث إنها قد أخرجت بنفس الوسائل والأساليب التي أخرجت بها أحكام دينهم من صلاة وصوم وزكاة....
ومن يمعن النظر بتلك الأحاديث الشريفة، ويتجرد، لا يخالطه أدنى شك بأنها قد صدرت بالفعل عمن لا ينطق عن الهوى، ثم يتيقن بأن الرسول الأعظم قد نجح نجاحا منقطع النظير بتشخيص حالة الأمة، وحالة العالم قبل ظهور الإمام المهدي! فكأن العالم بماضيه وحاضره ومستقبله رجل مريض ممدد على فراش المرض، وقد وضعت تحت تصرف الرسل أحدث المعدات التي توصل إليها العقل البشري في كل مجال، والرسول متخصص في كل ناحية، بعد ذلك شخص حالة العالم الممدد أمامه تشخيصا علميا دقيقا، فوصف الداء وصفا تاما، وأكد بأن العالم كله مشرف على الهلاك والتلاشي من الحياة، وأن الدواء الوحيد الذي يشفي العالم وينقذه هو الإمام المهدي المنتظر الذي سيضع حجر الأساس ويبني دولة آل محمد، فالمهدي المنتظر هو الدواء الفرد والوحيد، فليس على وجه الأرض إنسان واحد له القدرة على إنقاذ العالم، مما يعانيه آنذاك إلا المهدي المنتظر. والمدهش حقا أن هذه الصورة العلمية المتكاملة الدقيقة قد رسمها رسول الله بالكلمة، وبالكلمة الطيبة وحدها، وأن هذه الصورة قد شقت طريقها إلينا وثبتت بوجه الأعاصير، وحافظت على نقائها وأصالتها على الرغم من أن دولة الخلافة قد منعت رواية وكتابة الأحاديث النبوية طوال فترة المائة عام التي تلت انتقال النبي إلى جوار ربه!! لكنها العناية الإلهية، والتوفيق الإلهي، والإصرار الإلهي على إقامة الحجة، وترشيد حركة الكون وفق نواميس الابتلاء الإلهي فتبارك الله رب العالمين حقا وصدقا.
1 ـ انكساف الشمس والقمر قبل خروج المهدي
1 ـ أكد الرسول الأعظم أن الشمس ستنكسف في شهر رمضان مرتين قبل خروج المهدي. (راجع الحديث رقم 174 ابن حماد ص 61، وملاحم ابن طاووس ص 46 ب 72، وعقد الدرر ص 111 ب 4 ف 3، والحاوي للسيوطي ج 2 ص 82).
2 ـ وبين بأن المهدي لا يخرج حتى تطلع مع الشمس آية. (الحديث رقم 173، وعبد الرزاق ج 7 ص 373 ح 20775، وابن حماد ص 91، والبيهقي كما في عقد الدرر ص 106 ب 4 ف 3، والحاوي للسيوطي ج 2 ص 75)....
3 ـ وبين الرسول أنه بين يدي المهدي انكساف لخمس تبقى من رمضان والشمس لخمس عشرة منه. (راجع الحديث رقم 780 والمراجع المدونة تحته).
4 ـ وروي عن رسول الله قوله: آيتان قبل قيام القائم عليه السلام لم تكونا منذ هبط آدم إلى الأرض، تنكسف الشمس في النصف من شهر رمضان والقمر في آخره!! (راجع الحديث رقم 71 برواية الإمام محمد الباقر).
5 ـ وروى الإمام الباقر أيضا فقال: (إن لمهدينا آيتين لم تكونا منذ خلق السموات والأرض ينكسف القمر لأول ليلة من رمضان، وتنكسف الشمس في النصف منه)... (الحديث رقم 782، وراجع الحديث رقم 1020 و 1021 ج 4 من المعجم و 172 ج 1). فإذا ظهرت هذه الآيات التي لا يمكن لأي إنسان أن ينكرها فإن المهدي المنتظر سيظهر حتما في أثرها.
2 ـ مناد من السماء ينادي
روى أئمة أهل بيت الأعلام عن رسول الله (أحاديث المنادي من السماء)، وجزموا بأن هذه الأحاديث قد صدرت عن رسول الله بالفعل، وتناقلوها عنه كابرا عن كابر، حتى صارت من المسلمات وأجمعوا على صحتها وتواترت بينهم، وتبعا لروايات أهل بيت النبوة وإجماعهم أجمعت شيعتهم. وسلمت بما سلموا به.
كذلك فقد روى: (أحاديث المنادي من السماء) العلماء الأعلام من شيعة الخلفاء، وتوصلوا إلى ذات النتيجة التي توصل لها أئمة أهل بيت النبوة، فجزموا وتيقنوا أن أحاديث النداء قد صدرت بالفعل عن رسول الله، لأن هذه الأحاديث صحت عندهم وتواترت.
وأجمعت الأمة بشقيها: (أئمة أهل بيت النبوة وشيعتهم، والخلفاء التاريخيون وشيعتهم أيضا (أهل السنة) على أنه عند ظهور المهدي المنتظر سينادي مناد من السماء.... وتحول هذا الإجماع إلى قناعة ومعتقد، اعتقد به كافة المسلمين.
أحاديث النداء:
1 ـ روى أكابر علماء شيعة أهل البيت، والعلماء الأعلام من شيعة الخلفاء (أهل السنة) على أن رسول الله قد قال: (يخرج المهدي على رأسه غمامة فيها مناد ينادي: هذا المهدي خليفة الله فاتبعوه). (راجع الحديث رقم 112 ج 1 من المعجم رواه الطبراني على ما في الفصول المهمة ص 298 ف 12، والحاوي للسيوطي ج 2 ص 61 على ما في بيان الشافعي ص 511 ب 15، وتاريخ الخميس ج 2 ص 288، وفرائض السمطين ج 2 ص 316 ب 61 ح 566 ـ 569)..
2 ـ ورووا أيضا أن الرسول قد قال: (يخرج المهدي وعلى رأسه ملك ينادي أن هذا المهدي فاتبعوه). (راجع الحديث رقم 119 و 23 مرجعا مدونة تحته).
3 ـ ورووا أيضا قول النبي: (يظهر في آخر الزمان... ينادي مناد بصوت فصيح هذا المهدي). (راجع الحديث رقم 120 ج 1 والمراجع المدونة تحته).
4 ـ وروي عن الإمام الباقر: (ينادي مناد من السماء ألا إن الحق في آل محمد)... (راجع الحديث رقم 812 ج 1 من المعجم). وروي أيضا قوله:
(يا سيف بن عمرة لا بد من مناد ينادي باسم رجل من ولد أبي طالب)، (الحديث 813)، وروي أيضا: (أن المنادي ينادي أن المهدي من آل محمد فلان بن فلان باسمه واسم أبيه)... (راجع الحديث رقم 815)، وروي أيضا: (توقعوا الصوت يأتيكم من قبل دمشق)...
5 ـ وروي أيضا: (إنه لا يكون حتى ينادي مناد من السماء يسمع أهل المشرق والمغرب، حتى تسمعه الفتاة في خدرها). (راجع الحديث رقم 817).
فالنداء من السماء علامة بارزة من علامات ظهور المهدي المنتظر وهي تكسف كانكساف الشمس والقمر آيات وعلامات ومعجزات بارزة على مستوى البشر كله، ومن غير الممكن أن يقوى عاقل يحترم نفسه على إنكارها أو تجاهلها أو المجادلة فيها. وهي فيض من مظاهر الدعم الإلهي المطلق للمهدي المنتظر حتى يتمكن من تحقيق الغايات الكبرى التي كلفه الله تعالى بتحقيقها وهذه الآيات توطد له في الأرض، وتحفر اسمه في الذاكرة البشرية بحيث يرتبط المهدي مع مفهوم الإنقاذ ومفهوم التحرر من الظلم، ومع مفاهيم الرخاء والكفاية والعدل.
البلاء الشامل وامتلاء الأرض بالظلم والجور:
بين الرسول الأعظم بأن المهدي سيظهر حتما مقضيا عندما يعم البلاء الشامل الأمة والعالم معها، وعندما تمتلئ الأرض بالظلم والجور والعدوان، عندئذ يبعث الله الإمام المهدي لرفع هذا البلاء الشامل، وليملأ الأرض عدلا وقسطا، كما ملئت جورا وظلما، فعموم البلاء وامتلاء الأرض بالظلم مقدمة.
وسبب وعلامة، وظهور المهدي بوجه من وجوهه نتيجة لهذه المقدمة، وأثر لهذا السبب، وعلامة من علامات الظهور.
من مظاهر البلاء والظلم:
1 ـ الفتن:
بين الرسول الأعظم بأن موجات متلاحقة من الفتن ستعصف بهذه الأمة من بعده، حيث ستجتاح الأمة فتنة، ثم تليها فتنة أخرى أضعاف الفتنة الأولى، ثم تليها فتنة ثالثة لا يبقى معها لله محرم إلا استحل... (راجع الحديث رقم 45 ج 1). وأشار مرة ثانية إلى هذه الفتن الثلاثة بحديث آخر هو (الحديث رقم 47 ج 1).
ووضح رسول الله الصورة فقسم الفتن إلى أربعة، ففي الأولى يصيبهم البلاء حتى يقول المؤمن هذه مهلكتي، ثم تنكشف، وتنكشف الثانية وتطول الثالثة، فكلما قيل بأنها قد انقضت تتمادى، وتتسع، أما الفتنة الرابعة فيصير المسلمون فيها عمليا إلى الكفر... (راجع الحديث رقم 46 ج 1). وبسط الرسول الصورة للمسلمين ووضحها قائلا: بالفتنة الأولى يستحل الدم، والثانية يستحل فيها الدم والمال، والثالثة يستحل فيها الدم والمال والفرج، أما الرابعة فيقودها الدجال، (راجع الحديث رقم 48 ج 1).
وركز الإمام محمد الباقر على فتنة بالشام يطلب الناس المخرج منها فلا يجدونه. (راجع الحديث رقم 732 ج 3).
وذكر الباقر أيضا بأنه سيكون هنالك قتل ظاهر بين الكوفة والحيرة (الحديث رقم 732 ج 3).
ويصور الرسول إحساس الناس آنذاك بقوله: (حتى لا يجد الرجل ملجأ يلجأ إليه من الظلم). (الحديث رقم 44). وفي حديث آخر تراه يقول: (ثم تكون فتنة كلما قيل انقطعت تمادت حتى لا يبقى بيت إلا دخلته ولا مسلم إلا حكته).
(الحديث رقم 43). وفي حديث ثالث يصف رسول الله الحالة... فيقول....
وحتى يأتي الرجل القبر فيقول يا ليتني كنت مكانك. (الحديث رقم 50 ج 1).
ووصف الإمام علي تلك الحالة بقوله: (تمتلئ الأرض ظلما وجورا حتى يدخل كل بيت خوف وحرب....). (الحديث رقم 65 ج 35).
المهدي هو الحل، وهو الدواء وبعد أن شخص رسول الله، جانب الفتن أكد أن المهدي هو الوحيد الذي سيقضي على هذه الفتن ويعيد الأمور إلى نصابها، ففي كل حديث من الأحاديث التي ذكرناها فتحه رسول الله بالقول: (حتى لا يجد الرجل ملجأ يلجأ إليه من الظلم فيبعث الله رجلا من عترتي...). (الحديث رقم 44 ج 1). وفي (الحديث رقم 45) قال: (.... ثم تكون فتنة فلا يبقى لله محرم إلا استحل، ثم يجتمع الناس على خيرهم رجلا (يعني المهدي).... (الحديث رقم 45 ج1).
وفي الحديث رقم 50 ج 1، قال الرسول (... لا يستقيم أمرهم حتى ينادي مناد من السماء عليكم بفلان (يعني المهدي). ومثله قول الرسول أيضا... (ثم تكون أمور كريهة شديدة عظيمة، ثم يخرج المهدي من ولدي...). (الحديث رقم 52 ج 1)، وإلى هذه المعاني أشار الإمام الباقر بقوله: (يا جابر لا يظهر القائم حتى يشمل الناس بالشام فتنة يطلبون المخرج منها فلا يجدونه)... (راجع الحديث رقم 732 ج 3).
والخلاصة أنه عندما تتمادى الفتن وتتسع لتشمل الناس، يصبح المهدي هو المخرج الوحيد من سلسلة الفتن التي لا تنقطع وأن تمادي الفتن علامة بارزة من علامات ظهور المهدي المنتظر.
2 ـ امتلاء الأرض بالظلم والجور والعدوان:
الظلم والجور والعدوان والفتن المتلاحقة، والشرور التي تعصف ببني البشر كلها، ثمرات مرة وطبيعية لحكم الظالمين، ولفقههم فقه الهوى الفاسد.
فكل ظالم على الإطلاق يستولي على السلطة بالقوة والتغلب وكثرة الأتباع الراكضين خلفه طمعا برغيف العيش، فإذا قبض الظالم على السلطة، يخترع وزمرته فقه هوى خاصا به، ليسوس وفقه المجتمع العاثر الحظ الذي سقط بين مخالب الظالم وأعوانه، فيفسدون بفقههم هذا كل شيء في المجتمع، ويتبخر القسط والعدل والرحمة، وتصبح أسماء لا مضامين لها، وتمتلئ أرض الإقليم الذي يحكمه الظالم بالظلم والجور والعدوان، ويغلب الناس على أمرهم فيسكتون.
رغبة أو رهبة، وقد يتمادى الظالم فيسمي ظلمه عدلا، وقسوته رحمة، ويقلب كل الحقائق رأسا على عقب، أو يحرفها فيمسخها، حتى إذا ما دنت منية الظالم عهد بحكمه وبخلافته لابنه أو أخيه أو قريبه، أو صديقه، وتستمر دورة التغلب والعهد حتى يظهر من عالم الغيب متغلب جديد، فتبدأ عهود ظلم جديدة، ودورة جديدة من دورات العهد والتعاقب على الحكم. هذه هي الطريقة الوحيدة التي يتولى فيها الظالمون الحكم ضاربين عرض الحائط بالشرعية الإلهية.
ويبدو أن هذه الطريقة ستنتشر على مستوى الكرة الأرضية لها، بحيث يستولي الظالمون في كل إقليم من أقاليم الأرض، وفي كل مجتمع من المجتمعات البشرية على السلطة بالقوة والتغلب وكثرة الأتباع، ويفرضون على مجتمعاتهم فقه هواهم، حيث سيصبح العالم كله تحت حكم الظالمين، وبحيث يسوس فقههم الفاسد كافة المجتمعات البشرية. ونتيجة لحكم الظالمين ولسيادة فقههم تمتلئ الأرض بالظلم والجور والعدوان، وتكتوي البشرية بهذا الجحيم الشامل، هنا فقط يظهر الإمام المهدي المنتظر، ليملأ الأرض قسطا وعدلا بالحكم الإلهي، بعد أن ملأها الظالمون بالظلم والجور الناتج عن حكمهم وفقههم، فامتلاء الأرض بالظلم والجور والعدوان، وشمول حكم الظالمين للعالم كله، وسيادة فقههم علامة بارزة من علامات ظهور المهدي المنتظر، لأنه المؤهل الوحيد لقطع دابر الفتن، وقصم ظهور الظالمين، ورفع فقههم من الأرض، وهو المؤهل الوحيد ليملأ الأرض قسطا وعدلا بعد أن ملئت ظلما وجورا. وهذا ما عناه الرسول بسيل الأحاديث التي عالجت هذه الناحية. وهذا أيضا ما عناه الإمام الباقر بقوله: (لا يخرج المهدي حتى ترقى الظلمة). (راجع الحديث رقم 801 ج 3 من المعجم، وراجع الأحاديث النبوية أرقام 51 و 62 و 565 من أحاديث المعجم).
3 ـ الحرب والطاعون:
لا يكتفي الظالم بإذلال رعيته، وإرغامها على أن تفض مشكلاتها وفق قواعد فقه الهوى الذي اخترعه، ولا يكتفي بأن يملأ الإقليم الذي يحكمه بالظلم والجور والعدوان، بل يطمع بأن يوسع رقعة ملكه على حساب ممالك الظالمين المحيطة به، وتعميم فقهه، هذه طبيعة ثابتة بظلمة الأرض، ونتيجة لهذه المطامع تنشأ وتنشب الحروب بين الظالمين وكلها حروب عدوانية لا ناقة للشعوب بها ولا جمل وغايتها توسيع رقعة الملك، وتعميم الفقه الفاسد، أو درء خطر يتهدد ملك ظالم، وقد يكون الخطر وهميا، لا وجود له إلا في ذهنية الظالم المريض. وبمناخ الحروب والدمار تنتشر الأمراض بين الناس وعلى الأخص مرض الطاعون.
وهذا ما عناه رسول الله بسيل الأحاديث التي تحدثت عن الفتن والتي أشرنا إليها قبل قليل. وهذا ما وضحه الإمام الباقر بقوله: (قدام القائم موتان موت أحمر وموت أبيض حيث يذهب من كل سبعة خمسة، الموت الأحمر السيف، والموت الأبيض الطاعون). (الحديث رقم 994 ج 1). ومثله قوله: (لا يكون هذا الأمر أي لا يظهر المهدي) حتى يذهب ثلث الناس، فقيل له: (إذا ذهب ثلث الناس فما يبقى فقال عليه السلام: (أما ترضون أن تكونوا الثلث الباقي) (الحديث رقم 995 ج 3 من المعجم)، وتلك علامة بارزة من علامات ظهور المهدي المنتظر.
علامات أخرى لظهور المهدي المنتظر:
وذكر أئمة أهل بيت النبوة علامات أخرى لظهور الإمام المهدي منها:
1 ـ روي عن الإمام الباقر قوله: (إذا رأيتم نارا من قبل المشرق شبه الهردي العظيم تطلع ثلاثة أيام أو سبعة فتوقعوا فرج آل محمد)... (الحديث رقم 783).
2 ـ وروي عن الإمام السجاد قوله: (يكون قبل خروجه (أي المهدي) خروج رجل يقال له عون السلمي بأرض الجزيرة ويكون مأواه بكريت، وقتله بمسجد دمشق، ثم يكون خروج شعيب بن صالح من سمرقند، ثم يخرج السفياني الملعون من الوادي اليابس وهو من ولد عنبسة ابن أبي سفيان. (راجع الحديث رقم 720 ج 3).
3 ـ وروي عن الإمام الصادق قوله: (يزجر الناس قبل قيام القائم عن معاصيهم بنار تظهر في السماء، وحمرة تجلل السماء، وخسف ببغداد، وخسف ببلدة البصرة ودماء تسفك بها، وخراب دورها، وفناء يقع في أهلها، وشمول أهل العراق خوف لا يكون لهم معه قرار). (الحديث رقم 1047 ج 4).
4 ـ وروي عن الإمام علي قوله: (إذا اختلف الرمحان بالشام لم تنجل إلا عن آية من آيات الله، قيل وما هي يا أمير المؤمنين)؟ قال: رجفة تكون بالشام يهلك فيها أكثر من مائة ألف، يجعلها الله رحمة للمؤمنين وعذابا على الكافرين فإذا كان ذلك، فانظروا إلى أصحاب البراذين الشهب المحذوفة، والرايات الصفر تقبل من المغرب حتى تحل بالشام، وذلك عند الجزع الأكبر والموت الأحمر، فإذا كان ذلك فانظروا خسف قرية من دمشق يقال لها حرستا، فإذا كان ذلك خرج ابن آكلة الأكباد من الوادي اليابس، حتى يستولي على منبر دمشق، فإذا كان ذلك فانظروا خروج المهدي). (راجع الحديث رقم 631 ج 3 من المعجم والمراجع المدونة تحته).
5 ـ وروي عن الإمام قوله: (سنة الفتح ينبثق الفرات حتى يدخل في أزقة الكوفة). (راجع الحديث 1056). وقبل ظهور الإمام المهدي بسنة يفسد الثمار والتمر في النخل). (الحديث رقم 1055)، وروي عنه أيضا: أن المهدي لا يخرج إلا في وتر من السنين سنة إحدى، أو ثلاثة، أو خمسة، أو سبع أو تسع، (الحديث رقم 1053)، وروي عن الإمام جعفر قوله: (العام الذي فيه الصيحة قبله الآية في رجب، قلت وما هي؟ قال وجه يطلع في القمر ويد بارزة). (الحديث رقم 1058)، وأن المهدي سيظهر يوم السبت الموافق العاشر من محرم يوم عاشوراء، حيث سيكون بين الركن والمقام. (الحديث 1060). قال ابن حماد في ص 92:
(ينحسر الفرات عن جبل من ذهب وفضة، فيقتل عليه من كل تسعة سبعة،...
(راجع عصر الظهور للشيخ علي الكوراني ص 118، وراجع الأحاديث النبوية المتعلقة بالكنز وهي تحمل الأرقام 294 ـ 296 ج 1).
6 ـ جاء في صحيح مسلم ج 8 ص 180 لا تقوم الساعة حتى تخرج نار بالحجاز تضئ لها أعناق الإبل ببصرى، أي يصل نورها إلى مدينة بصرى بسوريا، (راجع عصر الظهور ص 265).
7 ـ تتفق الأحاديث في مصادر الشيعة والسنة على أن مقدمة ظهور المهدي في الحجاز حدوث فراغ سياسي فيه وصراع على السلطة بين قبائله). راجع عصر الظهور ص 261، بدايته قتل ملك بسبب قضية أخلاقية، ثم تهتز مؤسسة الحكم في الحجاز فكلما نصبوا ملكا لا يبقى لأكثر من سنة، وينتهي الأمر إلى ظهور.
المهدي. (راجع عصر الظهور ص 262).
8 ـ ويفهم من بعض الأحاديث النبوية بأن أرض العرب قبل ظهور المهدي بقليل أو بعد ظهوره، ستعود مروجا وأنهارا، وأكبر الظن بأن هذه التغييرات الجيولوجية الجذرية في أرض العرب ستحدث بعد ظهور المهدي، وبعد أن تنزل السماء كل قطرها، وتخرج الأرض كل مائها ونبتها كما بين الرسول، على ضوء هذا الفيض من العطاء تحدث تلك الانقلابات الجيولوجية.
9 ـ وبين رسول الله بأن الله يبعث المهدي بعد يأس وحتى يقول الناس لا مهدي... (راجع الحديث رقم 312 ج 1 من المعجم).
10 ـ وبين رسول الله بأن المهدي لا يخرج حتى تقتل النفس الزكية، فإذا قتلت غضب عليهم من في السماء ومن في الأرض، فأتى الناس المهدي فزفوه كما تزف العروس إلى زوجها ليلة عرسها... (الحديث رقم 319، وجاء في الحديث رقم 320 (تستباح المدينة وتقتل النفس الزكية).
11 ـ وتتكون قناعة خاطئة وعامة عند الناس مفادها أنه ليس للمسلمين حاجة بآل محمد فهم كغيرهم من الناس. (راجع الحديث رقم 614 من المعجم).
الفصل السابع
علامات تتزامن مع ظهور المهدي المنتظر
ظهور العلامات البارزة السابقة التي أشرنا إليها قبل قليل، يفيد قطعا بأن المهدي المنتظر قد تلقى الأمر الإلهي بالظهور، وأنه يتأهب للظهور بالفعل، وبالتالي يتوجب على أوليائه وبالتالي يتوجب على أوليائه أن يتوقعوا ظهوره بالعشي والإبكار، لأن تلك العلامات بوجه من وجوهها بشائر بظهور المهدي، وبشائر بالإنقاذ والهدى.
وهنالك نمط آخر من العلامات، حيث يتزامن ظهور تلك العلامات تماما مع الوقت الذي يبدأ فيه المهدي المنتظر بالظهور، وأبرز تلك العلامات ظهور شخصية أموية، حاقدة على آل محمد، تحاول وبكل ما يتيسر لها من قوة أن تحول بين المهدي وبين سعيه لإقامة دولة آل محمد، وقد أطلقت الأحاديث على هذه الشخصية لقب (السفياني).
السفياني، وابن آكلة الأكباد:
السفياني هذا من ولد أبي سفيان، وهو حفيد هند أم معاوية المعروفة بآكلة الأكباد، لأنها حاولت أن تأكل كبد حمزة سيد الشهداء، وأبوه عنبسة. (راجع الحديث رقم 632 ج 3 من المعجم). ويبدو أن هذا الرجل مقيم في الوادي اليابس أو أن قاعدة انطلاقه بهذا الوادي. (راجع الحديث رقم 631 ج 3).
وتصف بعض الأحاديث السفياني بالقول: (بأنه أحمر أشقر أزرق لم يعبد الله قط، ولم ير مكة ولا المدينة). (الحديث رقم 804)، وقد أكدت الأحاديث بأن خروج السفياني من المحتوم الذي لا مفر منه.. (راجع الحديث رقم 811)، الذي رواه الإمام جعفر الصادق ونقل الشيخ علي الكوراني وهو من المتبحرين في (نظرية المهدي) بأن حركة السفياني ستستمر 15 شهرا. (راجع عصر الظهور، للشيخ على الكوراني) يقضي من هذه المدة تسعة شهور في العراق. (راجع الحديث رقم 805 ج 3).
ويبدو واضحا بأن السفياني قد وعى تاريخ أجداده الأمويين وصراعهم الحافل مع النبي وآله، وورث حقدهم الدفين على آل محمد خاصة، والهاشميين عامة، وأنه قد استوعب تجربة جده معاوية وأدرك، بل وتيقن من إمكانية تركيع الأمة بالقوة وحكمها بالتغلب والقهر، ويبدو أيضا بأن السفياني رجل ذكي وخبيث، تيقن من حتمية ظهور المهدي، وأن هذا المهدي هاشمي ومن ذرية محمد وأنه سيكون دولة لآل محمد تحكم العالم كله، فأخذ الحقد يغلي في قلبه كالمرجل، وصمم أن يحاول وبكل قواه صرف شرف المهدية عن المهدي الهاشمي، تماما، كما حاول أجداده أن يصرفوا شرف النبوة عن محمد الهاشمي، وصمم السفياني على بناء ملك خاص بالأمويين تماما، كما فعل جده معاوية، ويلوح لي بأن المهدي سيجمع حوله كل الكارهين لآل محمد والحاقدين عليهم، وآل الدنيا وسفلة المغامرين والمرتزقة، ويبدو أن الرجل سينجح وسيجتاح حوران ودرعا، وسيصل إلى دمشق، ويعلو منبرها. (راجع الحديث 631)، ويبدو أنه سيحتل الأردن، وسيغزو العراق، ويبلغ السفياني أن المهدي المنتظر قد ظهر في مكة، فيجهز السفياني جيشا كبيرا لغزو المدينة والقضاء على حركة المهدي وهي في مهدها، ويسمع المسلمون بهذا الجيش الزاحف خاصة أهل الحجاز، ويسير جيش السفياني بالفعل، وخلال هذه المدة يكتب السفياني للقادة الإيرانيين ليدخلوا في طاعته، وتصل رسل السفياني إلى ايران بالفعل.
ويبدو أن السفياني قد كتب لأمراء العالم الإسلامي، ليدخلوا في طاعته وليس من المستبعد أنه قد يرفع شعارات الوحدة الإسلامية، ومصلحة المسلمين، كما فعل جده معاوية، وفي يوم من الأيام يفاجأ السفياني بأن الجيش الذي قد أرسل للقضاء على حركة المهدي المنتظر قد خسفت به الأرض، ولم ينج منه غير اثنين، أحدهما بشر أهل الحجاز بالخسف، والآخر أحاط السفياني علما بنبأ هلاك الجيش كله، ويدرك المسلمون ساعتها، وبعد انتشار خبر هلاك جيش السفياني، أن المهدي قد ظهر بالفعل. (راجع الحديث رقم 810 ج 3 و 809 و 997 و 803 و 658، راجع الأحاديث النبوية ذوات الأرقام 324 و 325 و 326 ـ 329).
وقد أجمعت الأمة على صحة الأحاديث وتواترها وعلى حتمية حدوث الخسف. والخلاصة أن السفياني يتلازم وجوده مع ظهور المهدي حتى قيل أنه لا مهدي بدون سفياني، فظهور السفياني أمر محتوم. راجع (الحديث رقم 712).
وتتحدث الأحاديث النبوية عن ثلاثة سفيانيين، وما يعنينا هو السفياني الذي يرسل جيشا إلى الحجاز للقضاء على حركة المهدي، فيخسف بذلك الجيش ولا ينجو منه إلا اثنان فقط، ويبدو أن (الثلاثة) على خط واحد، ولهم هدف واحد، وبعضهم يخلف بعضا.
حملة الرايات السود:
ومن العلامات البارزة المتزامنة مع ظهور الإمام المهدي، الرايات السود، أو أصحاب الرايات السود، وقد روى الأحاديث المتعلقة بالرايات السود الأئمة من أهل بيت النبوة، ثم رواها أكابر علماء شيعتهم، مثلما رواها العلماء الأعلام من شيعة الخلفاء (أهل السنة)، وقد صحت هذه الأحاديث عند الطرفين، وتواترت عندهم وشاعت بين المسلمين، حتى تحولت إلى قناعة عامة تقرأ بالضرورة مع نظرية المهدي المنتظر المستقرة أركانها وبناها في النفس الإسلامية.
ويبدو أن أصحاب الرايات السود من إيران، وأن السبب المباشر لخروج أصحاب الرايات السود يكمن بخروج السفياني، فأهل ايران من موالي أهل بيت النبوة المخلصين وشيعتهم الصادقين، والأكثرية الساحقة جدا من الإيرانيين يؤمنون بحتمية ظهور الإمام المهدي، وأنه الإمام محمد بن الحسن العسكري ثاني عشر أئمة أهل بيت النبوة، ومن مدة طويلة، وهم يتوقعون ظهور هذا الإمام، فعندما يخرج السفياني الأموي، ويحاول أن يبني ملكا أمويا جديدا على غرار ملك.
معاوية وذرية الحكم بن العاص هذا الملك الذي مس أهل بيت النبوة ومن والاهم بنصب وعذاب، فإن الإيرانيين الذين وعوا التاريخ السياسي للخلافة التاريخية لن يقبلوا بتكرار مأساة الحكم الأموي، بل سيقاتلون حتى آخر رجل منهم للحيلولة دون ذلك، ثم إنه حسب رصد الخاصة من الإيرانيين، فإن أوان ظهور المهدي قد حان، والعلامات كلها قد ظهرت، ولا بد أن يكون ذلك الأموي الطامع ببناء ملك لبني أمية، وتوحيد المسلمين تحت الراية الأموية، لا بد أن يكون هو السفياني اللعين الذي أشارت إليه الأحاديث النبوية، والذي يتزامن ظهوره مع ظهور الإمام المهدي، وتلك هي الفرصة الذهبية التي ترقبها الإيرانيون ليقفوا إلى جانب المهدي المنتظر المنقذ الذي طال انتظاره، وينالوا شرف موالاته ونصرته، أضف إلى ذلك فإن شيعة أهل بيت النبوة المخلصين قد تعلموا من وقائع التاريخ، وآلوا على أنفسهم بأن لا تتكرر مأساة خذلان الإمام الحسين، فإذا كان المسلمون قد تركوا الإمام الحسين وحيدا في كربلاء، ولم ينصروه، فإن الشيعة الصادقة لن تترك الإمام المهدي وحيدا بل ستقف معه، وقفة رجل واحد، وستقاتل دونه حتى الموت.
هذه الأسباب مجتمعة ومنفردة هي التي ستقف وراء خروج أصحاب الرايات السود للتصدي لذلك المغامر الأموي، ومن والاه، ولنصرة الإمام المهدي المنتظر والمساهمة بإقامة دولة آل محمد، دولة العدل الإلهي التي طال انتظارها.
قال الإمام علي: (إذا خرجت الرايات السود... التي فيها شعيب بن صالح، تمنى الناس المهدي فيطلبونه.. فيخرج المهدي من مكة ومعه راية رسول الله...). (الحديث 620).
وجاء في حديث آخر: (إذا خرجت خيل السفياني إلى الكوفة، بعث في طلب أهل خراسان ويخرج أهل خراسان في طلب المهدي)... ويلتقي الجيش الإيراني مع جيش السفياني في منطقة (اصطخر) وتكون بين الجيشين ملحمة عظيمة، تظهر فيها الرايات السود. (راجع الحديث رقم 621).
وقد شجعت الأحاديث المسلمين على الالتحاق والانضمام لحملة الرايات السود القادمين من إيران مثل قول الإمام علي لأحد محدثيه (يا عامر إذا سمعت الرايات السود مقبلة، فاكسر ذلك القفل وذلك الصندوق حتى تقتل تحتها، فإن لم تستطع، فتدحرج حتى تقتل تحتها). (راجع الحديث رقم 624). ومثل قوله: (إذا رأيت أهل خراسان أصبتم أنتم إثمها، وأصبنا نحن برها). ويبدو أن الإمام بهذا الحديث يخاطب أحدا أو جماعة من أعداء أهل النبوة. (راجع الحديث 625). ويبين الإمام بأن القائم العام لحملة الرايات السود رجل من بني هاشم وعلى مقدمة جيشه رجل من بني تميم يدعى شعيب بن صالح. (راجع الحديث رقم 623)، ويقسم الإمام بأن الليل والنهار لا يذهبان حتى تجئ الرايات السود من قبل خراسان، ويربطوا خيولهم بنخلات بيسان والفرات، (الحديث رقم 626، وراجع الحديث رقم 797). ويبين الإمام جعفر الصادق، بأن الرايات السود تخرج من خراسان وعند ظهور المهدي يبعثون له بالبيعة من العراق. (راجع الحديث رقم 797).
والأحاديث النبوية تتفق تماما مع الأحاديث التي رواها علماء أهل السنة عن النبي ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا، وإن أهل بيتي سيلقون بعدي بلاء وتطريدا وتشريدا حتى يأتي قوم من نحو المشرق أصحاب رايات سود، يسألون الحق فلا يعطونه، فيقاتلون فينصرون، فيعطون ما سألوا فلا يقبلوها حتى يدفعوها إلى رجل من أهل بيتي، فيملأها عدلا كما ملأوها ظلما فمن أدرك ذلك منكم، فليأتهم ولو حبوا على الثلج فإنه المهدي. (راجع الحديث رقم 245، وراجع المصادر المدونة تحته، منها ابن حماد ص 84، وابن أبي شيبة ج 15 ص 235 ح 1973، وابن ماجة ج 2 ص 366 ح 4082، وأبو داود، والحاكم وقرابة أربعين مرجعا من المراجع المعتمدة عند أهل السنة). وتحدث الرسول عن بلاء يلقاه أهل بيته من بعده، حتى تأتي رايات من المشرق سوداء من نصرها نصره الله، ومن خذلها خذله الله... (راجع الحديث رقم 246). ومثله قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يخرج ناس من المشرق فيوطئون للمهدي). (الحديث رقم 249)، ووصف رسول الله حملة الرايات السود بقوله: (تجئ الرايات السود من قبل المشرق، كأن قلوبهم زبر الحديد، فمن سمع بهم فليأتهم ولو حبوا على الثلج).
(الحديث رقم 250، والحديث رقم 251 و 253). وبين الرسول مثلما بين أئمة أهل بيت النبوة أن حملة الرايات السود الذين يخرجون لنصرة المهدي هم غير الذين يحملون رايات بني العباس وعلى سبيل المثال قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (تخرج من المشرق رايات سود لبني العباس، ثم يمكثون ما شاء الله، ثم تخرج رايات سود صغار تقاتل رجلا من ولد أبي سفيان وأصحابه من قبل المشرق، يؤدون الطاعة للمهدي). (الحديث رقم 255). ومثل قوله: (تخرج راية سوداء لبني العباس، ثم تخرج من خراسان أخرى سوداء قلانسهم سود وثيابهم بيض على مقدمتهم رجل يقال لهم شعيب بن صالح... توطئ للمهدي). (راجع الحديث رقم 256).
ويتحدث الرسول عن قتال ضار يشتعل بين السفياني ورجاله وبين حملة الرايات السود والخلاصة أن خروج حملة الرايات السود يتزامن مع خروج الإمام المهدي، وأنهم قد جاءوا لنصرته ومحاربة أعدائه، والتوطيد له. (راجع الحديث 250 وما فوق ج 1).
أحداث الحجاز وظهور الإمام المهدي:
بينت الأحاديث النبوية التي رواها أئمة أهل بيت النبوة، والعلماء الأعلام من شيعة الخلفاء (أهل السنة) أنه بالوقت الذي يتأهب فيه المهدي المنتظر للظهور ستحدث أزمة حكم في دولة الحجاز وما حوله، بعد أن يقتل ملك تلك الدولة، وخمس عشرة شخصية من شخصيات تلك الدولة. (راجع الحديث رقم 303 ج 1 والمراجع المدونة تحته). وعلى أثر هذه الحوادث يدب الخلاف والاختلاف بين القبائل التي تدعم ذلك النظام، وتنقسم إلى شيع وأحزاب، ويختل حبل الأمن، حيث ينهب الحجاج، وتكون ملحمة بمنى، يكثر فيها القتلى، وتسفك الدماء، حتى تسيل الدماء على عقبة الجمرة. (راجع الحديث رقم 304 ج 1 والمراجع المدونة تحته).
والخلاصة أنه لن يبقى لنظام الحجاز من الملك إلا الاسم فقط وبعض خلفاء الملك المقتول لن يبقى في الحكم إلا أشهرا وبعضهم أسابيع، وآخر أياما. (راجع أحاديث الإمام الصادق في البحار ج 52 ص 210 و 240، وحديث الإمام الباقر في كمال الدين للصدوق ص 655، وحديث الإمام الرضا في البحار ج 52.
ص 210). ويبدو أن الإمام المهدي وبتوجيه من الله تعالى سيغتنم فرصة ضعف النظام وانهياره، فيظهر، ويبدو أيضا أن علية القوم أيضا سيبايعون المهدي دون أن يطلب منهم ذلك، وأن البيعة ستكون في مكة بين الركن والمقام. (راجع الأحاديث النبوية 303 و 304 و 305 و 306 و 307 ج 1 من المعجم، وراجع المراجع المدونة تحت كل منها).
وما يعنينا هو التأكيد على أن ظهور الإمام المهدي المنتظر سيتزامن مع أحداث نظام حكم الحجاز ومع الفتنة التي تقع بالحجاز، فيظهر المهدي المنتظر وذلك النظام قائم من الناحية الشكلية، ويبايع في مكة التي تخضع اسميا لسلطة ذلك النظام، الذي سيقف عاجزا أمام انفلات الأمور من يده ومبايعة جزء من رعيته للمهدي، وأمام الخطر الناجم عن أنباء زحف جيوش السفياني إلى الحجاز واحتلالها للمدينة المنورة..
الباب الخامس
أنصار المهدي وأعوانه ونمط حكومته
الفصل الأول
أنصار المهدي وأعوانه
مؤمنون من نوع خاص:
نظرا لعظمة وضخامة الغايات التي بعث الله الإمام المهدي لتحقيقها ولجسامة المهمات التي أناط به أمر تنفيذها، فقد هيأ الله تعالى له فئة مؤمنة صادقة من نوع خاص، لتحمل معه أعباء مرحلة تأسيس وبناء دولة الحق ـ دولة آل محمد ـ. وأفراد تلك الفئة التي هيأها تعالى لنصرة المهدي هم خلاصة شيعة رسول الله، وأهل بيته المؤمنة التي عزلت وصمدت وتمسكت بدينها عبر التاريخ، وحملت لواء الحق والإسلام الحقيقي وسط كثرة إدارات ظهرها للحق وللاسلام وساهمت مساهمة فعالة مع أئمة الضلالة لحل عرى الإسلام كلها عروة بعد عروة وتغريبه غربة كاملة عن الحياة، وعزل وتغريب المتمسكين به. إنها رمز الفئة الطاهرة المؤمنة الظاهرة الصابرة حتى ينزل عيسى ابن مريم. (الحديث رقم 29 ج 1 ومصادره المدونة تحته)، الفئة التي تمسكت بالحق، ولم تعبأ بما ناوأها (الحديث: 30 ج 1). إنها عصابة الحق التي لم تبال بمن خالفها، (الحديث: 31) ج 1)، ومصادره، إنها الفئة التي أعاضت العدو على كثرته وقهرته، (الحديث 32)، ولم تكترث بخذلان الغوغاء لها (الحديث 33 ج 1)، إنها الفئة المسلمة التي حفظت جوهر الدين، وجسدت وجوده مع قلتها (حديث رقم 37)، إنها الفئة التي تفقهت في دينها، وقامت على أمر الله، ورفضت فقه الهوى بكل أشكاله وألوانه، وصمدت أمام مكر تزول منه الجبال، (الحديث رقم 38 ج 1، ومصادره المدونة تحته) إنهم الناجمون بالابتلاء الإلهي، الذين محصوا وغربلوا كغربلة الزوان من القمح. (الحديث رقم 731 ج 3). إنهم أولياء حقا، الذين تمسكوا بالثقلين كتاب الله وبيان النبي لهذا الكتاب وبعترة النبي أهل بيته، لذلك استحقوا شرف الولاية، وحتى تتحقق هذه السمة المميزة لهم ينادي مناد بعد الخسف مباشرة: (بأن أولياء الله هم أصحاب المهدي). (راجع الحديث رقم 648 ج 3).
لكل هذه الأسباب أجزل الله ثوابهم، وأعطى الواحد منهم أجر خمسين شهيدا من شهداء الصحابة. (راجع الحديث رقم 25 و 26 ج 1). ولما سئل الرسول عن سر هذه المكافأة والجزالة الإلهية بالعطاء، قال: إنكم لم تحملوا ما حملوا ولم تصبروا صبرهم. (راجع الحديث رقم 26 ج 1).
******************
نوعيات ونماذج من أعوان المهدي وأنصاره:
يمد الله تعالى عبده ووليه الإمام المهدي بنوعيات ونماذج من الأنصار والأعوان تتناسب مع نبل الغايات وجسامة المهمات وخطورتها، وهي نماذج ونوعيات بشرية نادرة ومميزة من جميع الوجوه، ومؤهلة للمساهمة بثورة عالمية نوعية تطبع العالم سريعا بطابعها، وتصنع للبشرية عصرا ذهبيا، ما فرحت بمثله قط ولن تفرح، لأنه سيكون الثمرة الفعلية لكفاح الأنبياء والرسل والأوصياء وعباد الله الصالحين الذين واجهوا أئمة الضلالة وأعوانهم عبر التاريخ البشري.
ومن هذه النوعيات والنماذج:
1 ـ 315 رجلا من أهل الشام ـ أهل الشام الذين حكمهم معاوية، وثقفهم بثقافة التاريخ المعادية لعترة النبي أهل بيته، من الشام التي انطلقت منها موجات العداء لأهل بيت النبوة، والحقد الأسود عليهم، فبعد أن يقول الناس لا مهدي، وبعد إياس تسير هذه الفئة المؤمنة من الشام إلى مكة، وتستخرج المهدي من بطن مكة من دار عند الصفا، ثم تبايعه، ويصلي بهم المهدي ركعتين صلاة المسافر، عند مقام إبراهيم، وبعدها يصعد المنبر ليعلن ظهوره وبداية عهده الذهبي. (راجع. الحديث رقم 312 ج 1 والمراجع المدونة تحته والحديث 316، والحديث رقم 641 و 648، والحديث 659 والحديث رقم 928 والحديث رقم 1091، وقد بين الإمام جعفر الصادق أسماء الـ ‍315 أو 312 وإلى أي بلد ينتمي كل واحد منهم راجع الحديث رقم 1099 و 1100).
2 ـ وجاء في الحديث رقم 316.. أنه إذا انقطعت التجارات والطرق وكثرت الفتن خرج سبعة رجال علماء من أفق شتى على غير ميعاد يبايع لكل رجل منهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا حتى يجتمعوا بمكة فيقول بعضهم لبعض ما جاء بكم؟ فيقولون جئنا في طلب هذا الرجل (يعني المهدي، ويبحثون عن المهدي ثم يعثرون عليه في النهاية ويبايعونه ويضعون أنفسهم تحت تصرفه).
3 ـ الخضر وإلياس من أصحاب المهدي أيضا، الخضر في البحر وإلياس في البر يجتمعان كل ليلة عند الردم الذي بناه ذو القرنين بين الناس وبين ياجوج وماجوج ويحجان كل سنة ويشربان من ماء زمزم، (راجع الحديث رقم 315 ج 1). ومن المؤكد أنهما سيشهدان بيعة الإمام المهدي بين الركن والمقام وسيبايعانه، فمن غير الممكن عقلا أن تتم البيعة دون علمهما، أو يشهدا البيعة فلا يبايعان، لأن المهدي المنتظر ولي الله مثلهما، وهو حبيبهما وصديقهما.
4 ـ وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس عن النبي أنه قال: (أصحاب الكهف أعوان المهدي). (راجع الحديث رقم 313، والمراجع المدونة تحته).
5 ـ وروى الإمام علي: (... فيجمع الله تعالى له قوما قزع كقزع السحاب، يؤلف الله بين قلوبهم، لا يستوحشون إلى أحد، ولا يفرحون بأحد يدخل فيهم على عدة أصحاب بدر، لم يسبقهم الأولون ولا يدركهم الآخرون، وعلى عدد أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر). (راجع الحديث رقم 641، والمراجع المدونة تحته، منها المستدرك للحاكم ج 4 ص 554، ومقدمة ابن خلدون ص 252 ـ 253 ف 43...).
ومثله قوله أيضا: (... وبقي المؤمنون، وقليل ما يكونون، تجاهد معه عصبان جاهدت مع رسول الله يوم بدر لم تقتل ولم تمت). (راجع الحديث رقم 646)..
ومثله قوله: (... يجمع الله له (للمهدي) عسكره في ليلة واحدة وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا من أقاصي الأرض. ثم ذكر تفصيلهم وأماكنهم وبلادهم... ويتقدم المهدي... ويسيرون جميعا إلى أن يأتوا بيت المقدس...
(الحديث رقم 659).
6 ـ وروي عن الإمام جعفر الصادق قوله: (الأبدال من أهل الشام والنجباء من أهل الكوفة يجمعهم الله لشر يوم لعدونا... (راجع الحديث 1092 ج 4).
وروى الإمام علي: (إذا قام قائم أهل محمد جمع الله له أهل المشرق وأهل المغرب فيجتمعون كما يجتمع قزع الخريف، فأما الرفقاء فمن أهل الكوفة، وأما الأبدال فمن أهل الشام). (الحديث رقم 642 ج 3). ومثله قوله: (الأبدال بالشام، والنجباء بمصر والعصائب بالعراق) (الحديث 645). ومثله قول الإمام الباقر... إذا سمع العائذ بمكة (المهدي) بالخسف خرج مع اثني عشر ألفا فيهم الأبدال... (راجع الحديث 851).
7 ـ وروي عن الإمام الباقر قوله: (إذا ظهر القائم ودخل الكوفة بعث الله تعالى من ظهر الكوفة سبعين ألف صديق في أصحابه وأنصاره).... (الحديث رقم 867).
8 ـ أهل قم من أنصار الإمام المهدي وأعوانه: قال الإمام جعفر الصادق:
أتدري لم سمي قم؟ قلت: الله ورسوله وأنت أعلم، قال إنما سمي قم لأن أهله يجتمعون مع قائم آل محمد، ويقومون معه ويستقيمون عليه وينصرونه). (راجع الحديث رقم 1038). ومثله قول الإمام الصادق: (تربة قم مقدسة، وأهلها منا ونحن منهم لا يريدهم جبار بسوء إلا عجلت عقوبته ما لم يخونوا إخوانهم، فإذا فعلوا ذلك سلط الله عليهم جبابرة سوء أما إنهم أنصار قائمنا ودعاة حقنا، ثم رفع رأسه إلى السماء وقال: (اللهم اعصمهم من كل فتنة ونجهم من كل هلكة).
(راجع الحديث 1040 ج 4)، ومثله قول الباقر أيضا: (إن الله احتج بالكوفة على سائر البلاد وبالمؤمنين من أهلها على غيرهم من أهل البلاد، واحتج ببلدة قم على سائر البلاد وبأهلها على جميع أهل المشرق والمغرب من الجن والإنس، ولم يدع الله في قم وأهلها مستضعفا، بل وفقهم وأيدهم... (الحديث رقم 1041 ج 1).
9 ـ وقد رأيت في المباحث السابقة أن حملة الرايات السود هم من أنصار المهدي وأعوانه وهم كأهل قم من ايران المسلمة.
10 ـ أنصار وأعوان مدخرون: قال الإمام جعفر الصادق: (اركض برجلك فإذا بحر تلك الأرض على حافتيها فرسان قد وضعوا رقابهم على قرابيس سروجهم)... فقال أبو عبد الله: (هؤلاء أصحاب القائم عليه السلام. (راجع الحديث رقم 1101 ج 4).
من صفات أصحاب المهدي وأنصاره:
تحت عنوان: (مؤمنون من نوع خاص) عالجنا الفقرة السابقة الخط العام لأصحاب المهدي وأنصاره، وأبرزنا الصفات الإيمانية الأصيلة التي اتصفوا بها وأهلتهم لينالوا شرف محبة الإمام المهدي ونصرته وشرف المساهمة بتحقيق الغايات الكبرى التي بعث الله الإمام المهدي لتحقيقها وفي هذه العجالة سنذكر نماذج من الصفات الخاصة التي خلعها الله ورسوله على أصحاب المهدي وأنصاره:
1 ـ من ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (... وهم أسد بالنهار رهبان بالليل). (الحديث 316 ج 1).
2 ـ وما رواه الإمام علي بقوله: (... لم يسبقهم الأولون ولا يدركهم الآخرون...). (الحديث رقم 641 ج 3).
3 ـ ومثله قوله: (... فبأبي وأمي من عدة قليلة أسماؤهم في الأرض مجهولة، قد دان حينئذ ظهورهم)... (الحديث رقم 643).
4 ـ إن أصحاب القائم شباب لا كهول فيهم إلا كالكحل في العين أو كالملح في الزاد، وأقل الزاد الملح). (الحديث رقم 644).
5 ـ (... ويقي المؤمنون، وقليل ما يكونون، ثلاثمائة أو يزيدون...).
(الحديث رقم 646 ج 3)..
6 ـ... ومثله قوله: (... ينادي مناد بأن أولياء الله هم أصحاب المهدي). (الحديث رقم 648).
7 ـ ومثله (طوبى لمن شهد... مع قائم أهل بيتي أولئك خير الأمة مع أبرار العزة). (الحديث رقم 651).
8 ـ (... قوم شديد كلبهم، قليل سلبهم، يجاهدون في سبيل الله، قوم أذلة عند المستكبرين، في الأرض مجهولون، وفي السماء معروفون..). (الحديث رقم 672 ج 3).
9 ـ ومثله قوله: (... يؤيده الله بملائكته ويعصم أنصاره...). (الحديث رقم 692).
10 ـ ومثله: (... كأني بأصحاب القائم وقد أحاطوا بما بين الخافقين فليس من شيء إلا وهو مطيع لهم، حتى سباع الأرض، وسباع الطير يطلب رضاهم في كل شيء، حتى تفتخر الأرض وتقول مر بي اليوم رجل من أصحاب القائم...). (الحديث رقم 818).
11 ـ (... إن الله تعالى يلقي في قلوب شيعتنا الرعب، فإذا قام قائمنا وظهر مهدينا، كان الرجل أجرأ من ليث وأمضى من سنان). (الحديث رقم 821).
12 ـ (... إنكم مؤمنون ولكن لا تكملون إيمانكم حتى يخرج قائمنا فعندها يجمع الله أحلامكم فتكونوا مؤمنين كاملين...). (الحديث رقم 1093).
13 ـ (ثلاثمائة وثلاثة عشر وكل واحد منهم يرى نفسه في ثلاثمائة).
(الحديث رقم 1091).
14 ـ (... يعطي المؤمن قوة أربعين رجلا...). (الحديث 1099).
جموع المؤيدين للإمام المهدي:
بعد أن يظهر الإمام المهدي نفسه ويبايع في مكة، ويدخل أهلها في طاعته، وبعد أن ينتشر نبأ واقعة الخسف بجيش السفياني، وبعد أن يسمع الناس النداء السماوي، وتتوالى أنباء الآيات والمعجزات التي زود الله بها الإمام المهدي، يتردد اسم المهدي على كل لسان، ويتيقن الخاصة والعامة بأن نجم المهدي قد تألق بالفعل، وأن خطه هو الطريق إلى المستقبل، عندئذ يبدأ الناس بالتعرف عليه، والتعاطف معه، والتفكير بطرق التخلص من أئمة الضلالة، ولكن على استحياء، لأن لا شعورهم مسكون بالرعب والخوف من الظالمين، وبالتالي لن تكون لهم القدرة على المواجهة، لأنهم مهزومون من داخل نفوسهم، ولكنهم يقولون بأنفسهم لو جاءهم المهدي لما قاتلوه، أما المجتمعات التي تخلصت من حكم الظالمين فإن أبناءها سيؤيدون المهدي رغبة بما فيه يديه أو رهبة، أو قناعة بسيطة به. فبعد مبايعته في مكة وبسط سلطانه عليها يخرج معه عشرة آلاف مقاتل فيسير بهم وهو يحمل راية رسول الله: (السحابة) ودرع رسول الله (السابغة) ويتقلد سيف رسول الله ذي الفقار... (راجع الحديث رقم 831)، وفي المدينة يتبعه أناس منها بعد أن يبسط سلطانه عليها، ثم يؤيده حملة الرايات السود دون أن يروه، ويؤيده أناس من مصر ومن الشام، ومن العراق، ومن اليمن، ومن غيرها فيأتون إليه وينضمون لمعسكره أو ينتظرون قدومه، أو يبعثون له بالبيعة. وتصف الأحاديث أنماط هذا التأييد وإليك نماذجا منها.
1 ـ قال الإمام (الباقر): (إن الله يلقي في قلوب شيعتنا الرعب، فإذا قام قائمنا وظهر مهدينا، كان الرجل أجرأ من ليث وأمضى من سنان). (الحديث رقم 821 ج 3).
2 ـ ومثله قول الإمام الصادق: (بينما شباب الشيعة على ظهور سطوحهم ينامون، إذ توافوا إلى صاحبهم في ليلة واحدة على غير ميعاد، فيصبحون بمكة).
(الحديث رقم 1080).
3 ـ وقول الصادق أيضا: يكون مع القائم ثلاث عشرة امرأة، وعندما سئل وما يصنع بهن؟ قال: يداوين الجرحى، ويقمن على المرضى... (الحديث 1094).
4 ـ قال الإمام علي: إذا قام قائم آل محمد جمع الله له أهل المشرق وأهل المغرب، فيجتمعون كما يجتمع قزع الخريف... (الحديث رقم 642)..
الفصل الثاني
الملائكة من أعوان المهدي وأنصاره أيضا
1 ـ لما عرج برسول الله إلى السماء السابعة، ومنها إلى سدرة المنتهى، ومنها إلى حجب النور ناداه الحق جل جلاله قائلا يا محمد.... وبالقائم منكم أعمر أرضي... وبه أطهر الأرض من أعدائي وأورثها أوليائي.... وأمده بملائكتي لتؤيده على إنفاذ أمري، وإعلان ديني، ذلك وليي حقا، ومهدي عبادي صدقا). (راجع الحديث رقم 123 ج 1). فإمداد الله تعالى للمهدي بالملائكة، قرار قد أتخذ من الأزل ووعد إلهي قد صدر، إن الله لا يخلف الميعاد.
2 ـ وقد أكد الرسول الكريم هذه الحقيقة بقوله: (... لطول الله ذلك اليوم حتى يأتيهم رجل من أهل بيتي تكون الملائكة بين يديه ويظهر الإسلام). (راجع الحديث رقم 84 وراجع مراجع أهل السنة المدونة تحته).
3 ـ وروي عن الإمام الحسن قوله: (يؤيده الله بملائكته)... (راجع الحديث رقم 692).
4 ـ وروي عن الإمام الباقر قوله: (... إن الملائكة الذين نصروا محمدا في بدر لم يصعدوا لينصروا صاحب الأمر)... (الحديث رقم 824).
5 ـ وروي عن الباقر أيضا: (كأني بالقائم على نجف الكوفة قد سار إليها من مكة في خمسة آلاف من الملائكة جبريل عن يمينه وميكائيل عن شماله والمؤمنون بين يديه وهو يفرق الجنود في البلاد). (راجع الحديث 836 ج 3)..
6 ـ وعندما يقف الإمام المهدي بين الركن والمقام ليستعد للبيعة، يكون أول من يضرب على يديه جبرئيل وميكائيل ويبايعانه، وعندما يخرج من مكة ومعه أصحابه 313 وعشرة آلاف من الذين اتبعوه في مكة يكون جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن شماله... (الحديث رقم 831 ج 3).
7 ـ وروي عن الإمام جعفر الصادق... (وينشر المهدي راية رسول الله، عمودها من عمود العرش، وسائرها من نصر الله، لا يهوي بها إلى شيء أبدا إلا هتكه الله... فينحط عليه ثلاثة عشر ألف ملك وثلاثمائة وثلاثة عشر ملكا.. قال الراوي قلت: كل هذه الملائكة؟ قال الإمام الصادق: نعم، الذين كانوا مع نوح في السفينة، والذين كانوا مع إبراهيم حين ألقي في النار، والذين كانوا مع موسى حين فلق البحر لبني إسرائيل، والذين كانوا مع عيسى حين رفعه الله وأربعة آلاف ملك مسومين، وألف مردفين وثلاثمائة وثلاثة عشر ملكا بدريين، وأربعة آلاف ملك هبطوا يريدون القتال مع الحسين، فلم يؤذن لهم في القتال، فهم شعث غبر يبكونه عند قبره، ورئيسهم ملك يقال له المنصور... (راجع الحديث رقم 1096 ج 4).
8 ـ وروي عن الإمام الصادق قوله: (إذا خرج القائم نزلت الملائكة بدر وهم خمسة آلاف ثلث على خيول شهب، وثلث على خيول بلق وثلث على خيول حو، قال الراوي: قلت وما الحو؟ قال هي الحمر). (راجع الحديث رقم 1097).
9 ـ وروي أيضا... (بعد أن يخرج جيش السفياني من الكوفة، ويتواجه مع جيش المهدي يقتل رجل... قال الإمام الصادق: (فعند ذلك ينشر المهدي راية رسول الله، فإذا نشرها انحطت عليه ملائكة بدر)... (راجع الحديث رقم 1114).
10 ـ وروي عن الإمام الرضا قوله: (ولقد نزل إلى الأرض من الملائكة أربعة آلاف لنصرة الحسين فلم يؤذن لهم فهم عند قبره... إلى أن يقوم القائم فيكونون من أنصاره وشعارهم (يا لثارات الحسين) (الحديث 1230).
11 ـ وروي عن الإمام الرضا أيضا قوله: (إذا قام القائم يأمر الله الملائكة بالسلام على المؤمنين والجلوس معهم في مجالسهم، فإذا أراد من واحد حاجة أرسل القائم من بعض الملائكة أن يحمله، فيحمله الملك حتى يأتي القائم، فيقضي حاجته ثم يرده... ومن المؤمنين من يسير في السحاب، ومنهم من يطير مع الملائكة، ومنهم من يمشي مع الملائكة مشيا، ومنهم من يسبق الملائكة ومنهم من يتحاكم الملائكة إليه، والمؤمن أكرم على الله من الملائكة، ومنهم من يصيره القائم قاضيا بين مائة ألف من الملائكة). (راجع الحديث رقم 1231).
إنها طبيعة أعوان المهدي وأنصاره!!!
رسل وأنبياء وأولياء ووثائق أعوان للمهدي وأنصار له:
لقد خص الله عبده الإمام المهدي بكرامات خاصة، ما خص بها أحدا من عباده، وأيده تأييدا لم يؤيد به أحدا من قبل، وأعطاه من المعجزات ما يفوق حدي التصور والتصديق، وتكمن علة ذلك كله في أن الله تعالى لم يكلف رسولا ولا نبيا قط بما كلف به الإمام المهدي، فقد اقتصرت مهمة كل رسول عمليا على هداية قومه، وكلف كل رسول ببذل عناية، ولم يكلف بتحقيق غاية، فإذا بذل الرسول أي رسول عنايته وجهده بهداية قومه، ولم يستجيبوا له، ففي هذه الحالة لا يقوى ذلك الرسول والقلة القليلة التي اتبعته على المواجهة مع الأكثرية الساحقة التي تتبع إمام الكفر، لأن المواجهة بهذه الحالة انتحار حقيقي، عندئذ يتولى الله مواجهة إمام الكفر وأتباعه، فيسلط عليهم بعض جنده ويأخذهم أخذ عزيز مقتدر، فيحسم الصراع في هذه المنطقة أو تلك، ويتحول إلى واقعة في تاريخ البشر.
أما الإمام المهدي فهو مكلف إلهيا بتحقيق غاية لا بد من تحقيقها ولا يكفي منه بذل الجهد والعناية، فيجب وجوبا القضاء على أئمة الضلالة في الأرض كلها ورفع حكمهم الجائر وإلغائه من الأرض، ويجب وجوبا إقامة دولة العدل الإلهي ـ دولة آل محمد ـ التي يشمل سلطانها كافة بقاع الكرة الأرضية، ويجب وجوبا تطبيق المنظومة الحقوقية الإلهية على سكان الكرة الأرضية جميعا، ويجب وجوبا وكثمرة لكل ذلك أن تمتلئ الأرض بالعدل والقسط، وأن تتحقق الكفاية، ويحصل الرخاء التام لكل أبناء الحسن البشري، ولا يقبل من الإمام المهدي أي عذر، فهذه أمور حتمية يتوجب تحقيقها جميعا، ولكن بالمقابل فإن الله تعالى قد وضع تحت تصرف المهدي الدعم والتأييد الكاملين اللازمين لتحقيق هذه الغايات الكبرى، فما من معجزة خص الله بها نبيا أو رسولا إلا وبإمكان المهدي أن يستعملها وقد وثقنا ذلك، والاهم أن الأرض ملزمة بإخراج كنوزها ومائها ونباتها، وأن السماء ملزمة إلهيا بأن تنزل قطرها، وأن فرقا كاملة من الملائكة مجندة وتحت تصرف الإمام المهدي. هذه الإمكانيات الهائلة مسخرة إلهيا لخدمة الغايات الكبرى التي كلف المهدي إلهيا بتحقيقها.
الواقع السائد في العالم عند ظهور الإمام المهدي:
1 ـ القسم الأعظم من سكان الكرة الأرضية يدين بالديانة المسيحية التي جاء بها السيد المسيح، عليه السلام.
2 ـ وقسم كبير من سكان الكرة الأرضية يدين بالديانة الإسلامية التي جاء بها خاتم النبيين رسول الله محمد عليه السلام.
3 ـ ويعتنق الديانة اليهودية التي جاء بها كليم الله موسى قسم ضئيل من سكان الكرة الأرضية لكن هذا القسم له نفوذ وفاعلية كبرى، لأنه منغلق، ومنظم، ومسيطر على رأس المال وله نفوذ كاسح، وقد اكتسب خبرة هائلة.
4 ـ وقسم كبير من سكان الكرة الأرضية يدينون بأديان غير سماوية.
5 ـ أئمة الضلالة (الحكام الظالمون) قد أحكموا سيطرتهم على العالم وهم يدينون شكليا بإحدى هذه الشرائع الأربع، وعمليا لا يقيمون للدين أي وزن إلا بالقدر الذي يساهم بإحكام سيطرتهم، وتوسيع نفوذهم، والدين بالنسبة لهم ليس أكثر من برقع أو روج أو مسحوق يضعونه صباحا ويغسلونه مساء، أو يرفعونه، ودينهم الحقيقي هو شهوة الحكم، وحب التسلط، وتوسيع النفوذ. بمعنى أن علاقة الظالمين بالأديان علاقة مصلحية، تهدف إلى تسخير الدين لخدمة مطامعهم وأهدافهم السياسية، وبمعنى آخر فإن الظالمين لا دين لهم في الحق والحقيقة، بل.
هم عناصر مريضة ومنحرفة ومجرمة أدمنت على حب التسلط، وشهوة الحكم ومنافعه ولكنها ترفع شعار الدين بالضرورة، وتتظاهر بالتدين وتدعي الحرص على الدين الذي تدين به الجموع الخاضعة لحكمها.
الفصل الثالث
الإمام المهدي يفكك الواقع العالمي ويثبت فساده بنفس الأدوات التي تؤمن بها المجتمعات
1 ـ السيد المسيح عيسى بن مريم مؤسس وصاحب الديانة المسيحية يهبط بأمر من ربه، ويعلن وبكل وسائل الإعلان المسموعة والمنظورة بأن الله تعالى قد أهبطه إلى الأرض ليكون عونا ونصيرا ووزيرا للإمام المهدي، وأن الإمام المهدي على الحق، وأنه مأمور بأن يكون وزيرا للإمام المهدي، وأن الإمام المهدي هو إمام المسيح، وإمام الناس جميعا والدليل على ذلك أن المسيح نفسه يصلي خلف الإمام المهدي. وبهذه الأثناء يتقدم الإمام المهدي ويعلن وبكل وسائل الإعلان المسموعة والمرئية، بأن الإنجيل الذي أنزله الله تعالى على عيسى، والنسخة الأصلية منه موجودة في حوزته، وها هي، ثم يرفعها بين يديه ويشاهدها العالم معه، فلا حجة مع أتباع المسيح. فعندما يعلن المسيح ذلك ويعلن الإمام المهدي عن الإنجيل وهو وثيقة مادية، فيعني ذلك أن المهدي والمسيح قد سحبا عمليا البساط من تحت أقدام كل أتباع المسيحية في العالم، فليس أمامهم إلا أن يتبعوا المسيح نفسه مؤسس الديانة نفسه، فيبايعوا المهدي كما بايعه المسيح ويعترفوا بإمامته للكرة الأرضية وما عليها أو يعلنوا ارتدادهم عن الديانة المسيحية. (راجع الحديث النبوي المتعلق بالإنجيل وهو الحديث رقم 225). وهكذا حسمت المواجهة مع واقع المسيحية بنفس الأدوات والشعارات التي يرفعها المسيحيون والنصارى في العالم وتحت إشراف المسيح نفسه!.
2 ـ مواجهة الواقع المتعلق بالمسلمين: والنبي على فراش الموت بدأت.
عرى الإسلام بالحل، وبعد وفاته حلت عروة الحكم، وخلال مدة لم تتجاوز العشرة سنين لم يبق من الإسلام عروة دون حل بعد أن صار المؤمنون الحقيقيون يصلون سرا وهم بحالة خوف كما وثقنا وقد رفع الدين عمليا من واقع الحياة، وحل محله فقه الهوى المتستر بثوب الدين لغايات المحافظة على الملك أو توسيع رقعته، ثم صار الإسلام غريبا تماما ولم يبق منه إلا الاسم أو الشكل الخارجي، وصارت الفئة المؤمنة غريبة أيضا ومعزولة تماما، ونكل الخلفاء بآل محمد فقتلوهم وطردوهم وشردوهم تماما كما أخبر النبي، وبعد ذلك فرض الخلفاء فقه الهوى، وألزموا الرعية المسلمة باستيعابه لأنهم جعلوه منهجا تربويا وتعليميا، ومع الأيام استقر فقه الهوى في النفوس وأشربته الرعية وصارت تعتقد أنه الإسلام نفسه، وقد وثقنا كل ذلك في الباب الأول، وبعد أن رفع الخلفاء وأولياؤهم المنع عن رواية وكتابة الأحاديث النبوية، اكتشفت الأجيال نظرية المهدي المنتظر في الإسلام ووقفت على كلياتها من الأحاديث النبوية، واعتقدت بها، لكن فقه الهوى المتمكن من النفوس، كان أقوى من اعتقادها بالمهدي، ومن اعتقادها بحديث الثقلين، وبمكانة أهل البيت، فاستقرت هذه الاعتقادات في النفوس كحقائق لا يمكن إنكارها، ولكنها غير قابلة للتنفيذ، أو أن المسلمين ليسوا مستعدين لتنفيذها والعمل بها لأنها تنقض الواقع التاريخي، وتتناقض معه، ذلك الواقع الذي تحول إلى دين حقيقي ولكن ليس لدى المسلمين مانع لقد نفذت تلك الاعتقادات من تلقاء نفسها أو بقدرة الله خاصة وأن المهدي خير وليس شرا، فإذا ظهر المهدي سيحدث صراع بين فقه الهوى التاريخي وبين الاعتقاد بالمهدي، وحديث الثقلين ومكانة أهل البيت، وأكبر الظن بأن العامة لن يقفوا وقفة عقائدية بوجه الإمام المهدي بل سيسلموا له كما سلموا لغيره، وسيبايعونه كما بايعوا غيره والخلاصة ومع اعتناق المسيحيين للإسلام ستتأكد العامة ساعتها أن هذا الرجل هو بالفعل خاتم أئمة أهل بيت النبوة وأنه المهدي المنتظر الذي بشر به رسول الله، عندئذ ستلتف حوله وستدعه يوجهها ويقودها، وهكذا ينقاد أتباع الديانة الإسلامية للمهدي المنتظر.
3 ـ بالنسبة لليهود، عصا موسى يعرفها الخاصة والعامة من أتباع الديانة.
اليهودية ويعرفون قدرتها، وهذه العصا موجودة مع الإمام المهدي، وهو على استعداد لإظهارها والاعلان عن وجودها بكل وسائل الإعلان. كذلك فإن تابوت السكينة معروف عند اليهود، والألواح التي نزلت على موسى يعرفها خاصة اليهود وعامتهم وهي موجودة بحوزة الإمام المهدي وهو مستعد لإطلاع وفود اليهود أو كل اليهود عليها. (راجع الحديث رقم 225 ج 1 و 226) هذه أدلة مادية قطعية لا يستطيع أتباع اليهودية أن ينكروها، أو يتنكروا لها، وفي النهاية لا بد من أن يؤمن اليهود بأن المهدي على الحق وأنه قد حسم الصراع بنفس الأدوات والوسائل التي قامت عليها الديانة اليهودية، فيضطرون في النهاية للدخول في الإسلام والاعتراف بإمامة المهدي وقيادته، أو مواجهة الموت.
4 ـ بالنسبة للذين لا يعتنقون دينا سماويا عندما يرون إقبال المسيحيين والمسلمين، واليهود على المهدي واعترافهم بإمامته وقيادته ودخولهم في دينه، وعندما يرون المعجزات، وأبواب الرخاء والكفاية قد تفتحت، فإنهم سيدخلون حتما في دين الله، وسيعترفون بإمامة المهدي وقيادته.
5 ـ في ما يتعلق بأئمة الضلالة (الحكام الظالمين) فإنهم لا إيمان لهم، ولا يعرفون ولا يفهمون إلا لغة القوة والتغلب والقهر وأن تظاهروا بغير ذلك فهم كاذبون، وبهذه الحالة يتوجب على الإمام المهدي أن يحسم الصراع معهم بنفس الأدوات والوسائل التي أسست حكمهم الظالم وهي القوة، سيقمعهم الإمام المهدي وبغير رحمة، وسيطهر الأرض من رجسهم، وسيسقطهم صنما بعد صنم، وسيردد كما ردد أبوه رسول الله من قبل: (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا)..
الفصل الرابع
العقيدة القتالية للمهدي المنتظر وأنصاره
لكي نفهم هذه العقيدة:
مشكلة الإمام المهدي مع معتنقي الديانات السماوية الثلاث سيحلها الإمام المهدي بالأدوات والوسائل التي يحتج بها أتباع كل ديانة من هذه الديانات الثلاث السابقة كما بينا قبل قليل، فعندما يعلن المسيح نفسه أنه وزير للإمام المهدي، وأنه على دينه، وأن المهدي إمامه وأميره، وعندما يصلي المسيح نفسه خلف الإمام المهدي، وعندما يقدم الإمام المهدي النسخة الأصلية والوحيدة من الإنجيل الذي أنزله الله على عيسى، وعندما يرى المسيحيون الآيات والمعجزات التي تخضع لها الأعناق فعلى الأقل فإن الأكثرية الساحقة منهم ستعتنق الإسلام لأنه دين المهدي والمسيح معا.
وعندما يرى أتباع الديانة اليهودية عصا موسى تتحرك بيد المهدي على الوجه الذي يريد وبنفس القدرة والكفاءة التي كانت تتحرك فيها مع موسى، وعندما يظهر الإمام المهدي النسخة الأصلية والوحيدة للألواح التي أنزلها الله على موسى، وعندما يأتيهم التابوت، فإنهم سيكابرون في البداية، ولكن الأكثرية الساحقة في النهاية وأمام البراهين والأدلة القاطعة والمعجزات التي تخضع لها الأعناق سيعتنقون الإسلام دين المهدي ودين موسى وهارون.
وعندما يزول الوهم ويتحرر لا شعور المسلمين من عقدة الرعب والخوف من قطع العطاء، والرهبة من سطوة الخلفاء، ويكتشفون فساد فقه الهوى وثقافة التاريخ سيسيرون خلف الإمام المهدي ليعلمهم دينهم من جديد.
أما الذين لا يعتنقون دينا سماويا فسيبهرهم التحول الديني على مستوى العالم وستدهشهم الآيات والمعجزات التي تظهر على يد المهدي، والمنجزات التي يحققها، عندئذ سيقبلون على دين الله وسيدخلون فيه أفواجا. فلا مشكلة للمهدي معهم جميعا إنما مشكلته مع أئمة الضلالة الذين ملأوا الأرض ظلما وجورا وعدوانا.
الإمام المهدي وجها لوجه مع أئمة الضلالة أو الحكام الظالمين:
رأينا أن مشكلة الإمام المهدي ستحل مع أتباع الديانات السماوية الثلاثة وأن الأكثرية الساحقة منهم ستعتنق الإسلام، وأن المسلمين سيفهمون أحكام دينهم الحقيقية، وسيكتشفون زيف فقه الهوى، وثقافة التاريخ، وسيعرفون بالفعل قيمة أهل بيت النبوة ومكانتهم عند الله، وربما ندموا على ما فرطوا في جنب الله وكافة المشاكل التي ستعترض الإمام المهدي سيتولى حلها بالتسديد والتوفيق الإلهيين.
المشكلة العظمى تتمثل بأئمة الضلالة أو الحكام الظالمين:
بينا في الفصول السابقة أن الإمام المهدي لن يظهر قبل أن يرقى الظلمة، أو بمعنى آخر قبل أن يحكم الظالمون العالم كله، ويعمموا فقه الهوى بين الناس، فكل ظالم يجمع الظلمة والمنتفعين من ظلمه وينقض على الإقليم الذي يقيمون فيه، ثم يستولي على السلطة بالقوة والتغلب والقهر، ويحكمون سيطرتهم، ثم تبدأ بعد ذلك عملية التنافس بين أئمة الضلالة لتوسيع رقعة ممالكهم، أو نفوذهم فيشعلون حروبا لا ناقة للشعوب فيها ولا جمل، ونتيجة لحكم الظالمين ولتعميم فقه الهوى، وللتنافس المقيت على توسيع رقعة الملك أو مدى النفوذ تمتلئ الأرض كلها بالظلم والجور والعدوان وهي ثمرات طبيعية لوجود أئمة الضلالة، ولسيادة فقههم الفاسد وأثناء إحكام الظالمين لسيطرتهم ولقبضتهم الحديدية على.
الشعوب يزرعون في قلوب أبناء الشعوب الأرض وقبائله الرعب والهلع والخوف، فمصير الذي لا يسير بركابهم الموت الزؤام، أو قطع رزقه وحرمانه من حقوقه، وتجويعه حتى الموت البطئ، تلك الأساليب الإجرامية التي عممها الظالمون في الأرض طبعت أبناء الجنس البشري بطابع الذل، ووسمتهم بسمة العبودية، وأبطلت في نفوسهم عناصر المقاومة، وجعلت الرعب والخوف مقيما دائما بلا شعور كل واحد من ضحايا الظلم والظالمين. وتحول كل واحد من رعاياهم إلى آلة بأيديهم أو مطية من مطاياهم أو عبد من عبيدهم.
اللغة التي يفهمها أئمة الضلالة:
أئمة الضلالة يتقنون لغة واحدة وهي لغة القوة، والغلبة، والبطش والقهر، والإذلال، والقتل، والرعب، والخوف، هذه هي مقومات وجودهم، وأساس ملكهم، وضمانة استمراره، وهم لا يعرفون الدين إلا بالقدر الذي يروي شهوة الحكم عندهم، ويخدم هذه الشهوة وهم لا يعرفون الرحمة إلا كأداة من أدوات ضحكهم على عباد الله. إن أئمة الضلالة وأعوانهم لا دين لهم ولا أخلاق، ولا مبادئ، ولا يقرون بوجود أية حواجز تقف بوجه ظلمهم، أو ما يريدون، لقد حولوا الكرة الأرضية إلى غابة يحكم القوي فيها الضعيف، ويفترس ذو الأنياب من لا ناب له، حولوها إلى مسرح لا شرعية عملية فيه إلا الظلم وفقه الهوى. فالقوة أولا، والقوة هي عصب الحياة وناموسها.
جوهر مشكلة الإمام المهدي مع أئمة الضلالة في الأرض:
أئمة الضلالة الذين يحكمون العالم عند ظهور الإمام المهدي لن يتركوا الحكم بالرضا، لأنهم لا يفهمون الرضا، ولا وجود لهذه الكلمة في قواميسهم ومن جهة أخرى، فإن أئمة الضلالة قد أدمنوا شهوة الحكم، وباعتقادهم أن حياتهم ستنتهي إن هم تخلوا عنه، ويخيل إليهم أن الكرة الأرضية ستخرب إن لم يحكموها، ومن جهة ثالثة، فإن القوة والقوة وحدها هي الحكم الفصل بين أئمة الظلم ومن ينازعهم الحكم. والأخطر من ذلك كله أن أئمة الضلالة قد حولوا.
الشعوب إلى عبيد أو رقيق وسلبوا منهم روح المقاومة، وأسكنوا بلا شعورهم الرعب والخوف والقلق، فصار الأفراد أدوات، مجرد أدوات بيد الأنظمة الظالمة، يتبنون تماما ما يتبناه المجرمون الظالمون، يحاربون إذا حارب الظالمون، ويسالمون إذا سالم الظالمون، يتكلمون إذا أمروا بالكلام ويصمتون إن أمروا بالصمت!!
مواجهة المهدي لأئمة الضلالة قدر محتوم لا مفر منه:
رأينا أن الإمام المهدي مكلف إلهيا بتحقيق غايات كبرى لا بد من تحقيقها ومن هذه الغايات تطهير الأرض من أعداء الله، والظالمون هم أشرس وأقذر أعداء الله، ومن مهام المهدي أن يملأ الأرض بالعدل والقسط كما ملأها الظالمون المجرمون بالظلم والعدوان والجور، وتلك غايات لا يمكن تحقيقها دون القضاء التام على الظالمين، وقصمهم وبمنتهى العنف والقسوة، أئمة الضلالة يرفضون التخلي عن الحكم طوعا، ويرفضون رفع فقههم الفاسد من واقع الحياة، ويرفضون أن يعطوا الحرية للشعوب لتختار ما تريد، وهم يلوحون بالقوة والقهر باعتبارهما أساس حكمهم وعماد وجودهم، وهم يقبلون بالقوة كحكم فصل بينهم وبين الإمام المهدي، الذي لا يخفي أهدافه، المتمثلة بالقضاء على حكم الظالمين وتأديبهم، ومحاكمتهم على جرائمهم، وتحرير البشرية من سطوتهم. والمهدي لن يتراجع عن تحقيق أهدافه، لأنه ملزم إلهيا بتحقيقها. وأئمة الضلالة لن يتراجعوا عن مواقفهم المتزمتة، فمعنى ذلك كله حدوث ووقوع المواجهة، ونشوب حرب ضروس تطعن فيها الكلى، وتقطع فيها الرقاب. حرب حقيقية بين المهدي وجند الله من جهة، وبين أئمة الضلالة في العالم ومن والاهم رغبة أو رهبة من جهة أخرى.
طبيعة ومصادر العقيدة القتالية للمهدي وأعوانه
الإمام المهدي يمثل قمة الوعي البشري، فهو إمام زمانه المؤهل والمعد إعدادا إلهيا لسيادة العالم كله، وهو مرجع بذاته، فما من سؤال على مستوى العالم.
إلا ويعرف جوابه، وما من مشكلة إلا ويعرف الحل الأنسب لها. هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن المهدي كإمام وكوارث لعلمي النبوة والكتاب على علم يقيني بتاريخ الظلم والظالمين الأسود في العالم، ومواقف الظالمين المخزية من الرسل والأنبياء والأولياء وعباد الله الصالحين، ومن جهة ثالثة فإن الإمام المهدي بوصفه خاتم أئمة أهل بيت النبوة على علم يقيني بحجم الظلم والتشريد والقتل والتطريد الذي اقترفه الظالمون بحق آبائه وأجداده الأكرمين وبحق مواليهم الصادقين، ثم إن الإمام المهدي نفسه أحد ضحايا الظلم والتطريد والتشريد، ثم إن أي محاكمة عادلة ومنصفة ستدين الظالمين، وستحملهم مسؤولية إجهاض الدعوة الإسلامية وصرفها عن مسيرتها، تلك المسيرة التي لو بقيت في مسارها الصحيح لتغير مجرى التاريخ، ولكان العالم بغنى عن قرون من الهول والاضطهاد والظلم، ثم إن الظالمين هم الذين أذلوا الجنس البشري، وألبسوه أزياء الذل والهوان والعبودية، وصادروا منه كافة الحقوق التي وهبها الله تعالى له، كل هذه الأسباب جعلت من الظالمين العدو الأول لله ولرسوله، ولأهل بيته ولمن والاهم، وقد عهد الله لرسله ولأوليائه بأن لا يركنوا إلى الظالمين، ثم إن الظالمين رجس، وقد أمر المهدي بأن يطهر الأرض من أعداء الله ومن رجسهم، وأن يفرغها تماما من ظلمهم، وأن يملأها بالعدل كما ملأها الظالمون بالجور والظلم والعدوان. هذه طبيعة ومستندات ومصادر العقيدة القتالية للإمام المهدي وأعوانه، وهي طبيعة خاصة تفرض على الإمام المهدي وأعوانه، أن يضربوا الظالمين وأعوانهم بكل قسوة وبدون رحمة، لأن القسوة مع الظالمين مهما اشتدت لن تبلغ معشار الجرائم القذرة التي ارتكبوها بحق الله ورسوله والمؤمنين والجنس البشري عامة، فالظالمون مجرمون عتاة، لا يمكن إصلاحهم أو استصلاحهم، لقد مردوا على الظلم، وكفروا بالله ورسوله، وعبدوا مصالحهم وشهواتهم من دون الله، وسخروا كل ما طالته أيديهم لإشباع تلك المصالح والشهوات، إنهم أساتذة بالكفر والفسوق والنفاق فما طالت أيديهم النجسة شيئا إلا لوثته وأفسدته، فالحل الجذري يكمن بالقضاء عليهم وتهديم أركانهم، وتقليع أظافرهم بشكل لا تنمو بعده أبدا..
نماذج من أساليب الإمام المهدي وأصحابه في تعاملهم مع الظالمين:
1 ـ قال الإمام علي: (بأبي ابن خيرة الإماء (يعني المهدي) يسومهم خسفا، ويسقيهم بكأس مصبرة، ولا يعطيهم إلا السيف، فعند ذلك تتمنى فجرة قريش لو أن لها مفاداة من الدنيا وما فيها ليغفر لها، لا يكف عنهم حتى يرضى الله). (راجع الحديث رقم 656، وراجع المصادر المدونة تحته).
2 ـ ومثل قول الإمام علي... (أما والله لو قام قائمنا لأخرج من هذا الموضع اثني عشر ألف درع، واثني عشر ألف بيضة لها وجهان، ثم ألبسها اثني عشر ألف رجلا من ولد العجم، ثم ليتأمر بهم، ليقتلن كل من كان على خلاف ما هم عليه، إني لأعلم ذلك وأراه كما أعلم هذا اليوم)، (الحديث رقم 657 ج 3).
3 ـ ومثله حديث الإمام علي: (ويبقى المنتظر المهدي من آل محمد فيسير في الدنيا وسيفه على عاتقه)... (الحديث رقم 659 ج 3).
4 ـ ومثله حديث الإمام الحسين: (... يظهر الله قائمنا فينتقم من الظالمين...). (الحديث رقم 704).
5 ـ وقول الإمام الحسين لابنه علي: (.... يا ولدي يا علي والله لا يسكن دمي حتى يبعث الله المهدي فيقتل علي دمي من المنافقين الكفرة الفسقة سبعين ألفا). (الحديث رقم 705).
6 ـ قال الإمام الحسين لمحدثه: (يا بشر ما بقاء قريش إذا قدم القائم المهدي منهم خمسمائة رجل فضرب أعناقهم صبرا، ثم قدم خمسمائة فضرب أعناقهم صبرا، ثم خمسمائة فضرب أعناقهم صبرا، قال بشر: فقلت له: أصلحك الله، أيبلغون ذلك؟ فقال الحسين: إن موالي القوم منهم...). (الحديث رقم 607).
7 ـ ومثله حديث الإمام الحسين: (أما والله لا تذهب الدنيا حتى يبعث الله مني رجلا يقتل منكم ألفا ومع الألف ألفا ومع الألف ألفا قال الراوي فقلت:
جعلت فداك إن هؤلاء أولاد كذا وكذا لا يبلغون هذا، فقال: ويحك في ذلك.
الزمان يكون الرجل من صلبه كذا وكذا رجلا وإن مولى القوم من أنفسهم)..
(الحديث رقم 707).
ولكن لماذا قريش بالذات؟
بطون قريش ال‍23 هي التي وقفت وقفة رجل واحد ضد النبي، وضد بني هاشم وضد من والاهم طوال فترة ال13‍ سنة التي سبقت الهجرة وهي التي تآمرت على قتل النبي مرات متعددة، وحصرته وبني هاشم وقاطعتهم ثلاث سنين في شعب أبي طالب، وهي التي استعدت عليه العرب وجيشت الجيوش وحاربته بعد الهجرة بكل سهم، وبكل وسائل الحرب، ولم تتوقف بطون قريش عن القتال إلا بعد أن أحاط بها النبي، ودخل عاصمة الشرك، فاستسلمت واضطرت مكرهة لإعلان إسلامها، فسمى رسول الله أبناءها بالطلقاء، وعفى عنهم، وبعد العفو اختلط المهاجر من بطون قريش بالطليق، ورتبوا أمر الانقلاب على الشرعية الإلهية، ورفعوا شعار أن الهاشميين قد أخذوا النبوة ولا ينبغي لهم أن يأخذوا الملك أيضا، وبموجب هذا الشعار أخذت بطون قريش الأئمة الذين اختارهم الله لحكم الأمة، ووضعت بدلا منهم خلفاء موالين للبطون ومن أبنائها، فكانت بطون قريش هي التي وضعت اللبنة الأولى للنظام الوضعي، وهي أول من رفع الحكم الإلهي من الأرض، وهي التي حلت عرى الإسلام بدءا من الحكم وانتهاء بالصلاة والطلقاء منهم هم أول من اخترع فقه الهوى، فهم معدن الظلم ومنبته الأول، ومنهم انطلق كل شيء، وبطون قريش هي التي شرعت قوانين التطريد والتشريد والتقتيل لآل محمد، وهي التي نفذت بأيديها كل تلك الجرائم، فأحرقت، وقتلت، وشردت وهددت، وأذلت آل محمد، وجرأت الناس عليهم، وأخرتهم وهم المتقدمون، وقدمت عليهم كل متأخر، فتخرجت على يد أبنائها كوادر الظالمين، وعتاة الطغاة، فهل تعجب بربك إن قتل الإمام المهدي منهم ألفا وخمسمائة أو ثلاثة آلاف!! من ذريتهم السالكين درب آبائهم وأجدادهم!! إن إبادة تلك النوعية هي الجزاء المناسب لجرائمها! (راجع كتابنا المواجهة تجد التوثيق والتفصيل)..
8 ـ قال الإمام الباقر:: (حديثنا صعب مستصعب، لا يحتمله إلا ملك مقرب، أو نبي مرسل، أو مؤمن ممتحن، أو مدينة محصنة، فإذا وقع أمرنا، وجاء مهدينا، كان الرجل من شيعتنا أجرأ من ليث، وأمضى من سنان، يطأ عدونا برجليه، ويضربه بكفيه، وذلك عند نزول رحمة الله وفرجه على العباد). (راجع الحديث رقم 822 ج 3).
9 ـ وروى الإمام الباقر: (اسمه اسمي)، قال الراوي: أيسير بسيرة محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال الباقر: (هيهات هيهات يا زرارة ما يسير بسيرته، قلت: جعلت فداك لم؟ قال: إن رسول الله سار في أمته بالمن، كان يتألف الناس، والقائم يسير بالقتل، بذلك أمر في الكتاب الذي معه أن يسير بالقتل ولا يستتيب أحدا، ويل لمن ناوأه). (الحديث رقم 840 ج 3).
10 وروى الإمام الباقر أيضا: (لو يعلم الناس ما يصنع القائم إذا خرج لأحب أكثرهم أن لا يروه مما يقتل من الناس، أما إنه لا يبدأ إلا من قريش، فلا يأخذ منها إلا السيف، ولا يعطيها إلا السيف، حتى يقول كثير من الناس، ليس هذا من آل محمد، ولو كان من آل محمد لرحم). (الحديث رقم 841 ج 3).
11 ـ روى الإمام الباقر أيضا: (.... لما قتل الحسين ضجت عليه الملائكة إلى الله تعالى بالبكاء والنحيب وقالوا: إلهنا وسيدنا، أتغفل عمن قتل صفوتك وابن صفوتك، وخيرتك من خلقك)، فأوحى الله عز وجل إليهم: (قروا ملائكتي فوعزتي وجلالي لانتقمن منهم ولو بعد حين، ثم كشف الله عن الأئمة من ولد الحسين للملائكة، فسرت الملائكة بذلك، فإذا أحدهم قائم يصلي، فقال عز وجل: بذلك القائم أنتقم منهم). (الحديث رقم 849) فالإمام المهدي إحدى مهماته هي ثأر الحسين.
12 ـ وروى الإمام الصادق.... (ويملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما، ويقتل حتى يقول الجاهل لو كان هذا من ذرية محمد صلى الله عليه وآله وسلم لرحم).
(الحديث رقم 1108).
13 ـ وروى الإمام الصادق أيضا: (... إذا خرج القائم لم يكن بينه وبين العرب وقريش إلا السيف ما يأخذ منها إلا بالسيف، وما يستعجلون بخروج القائم، والله ما لباسه إلا الغليظ، وما طعامه إلا الشعير الجشب، وما هو إلا السيف والموت تحت ظل السيف). (الحديث رقم 1106 ج 4).
تعامل الإمام المهدي مع الظالمين بعهد من رسول الله:
روى الإمام الصادق: (يقتل القائم حتى يبلغ السوق، فيقول له رجل من ولد أبيه، إنك لتجفل الناس إجفال النعم، فبعهد من رسول الله أو بماذا؟ قال: وليس في الناس رجل أشد منه بأسا، فيقوم إليه رجل من الموالي فيقول له: لتسكنن أو لأضربن عنقك، فعند ذلك يخرج القائم عهدا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم). (راجع الحديث رقم 1109 ج 4)..
******************
الفصل الخامس
معارك الإمام المهدي وحروبه
ليس لدينا تاريخا مدونا، ومنهجا يحتوي على المعارك الحربية والحروب التي سيخوضها الإمام المهدي، ولا نعرف على وجه اليقين التسلل الزمني لتلك المعارك والحروب، ويكمن السبب في أن التاريخ يتناول حوادث وقعت، ويخرج عن دائرة اختصاصه الحوادث التي لم تقع، ثم إن المعلومات التي وردتنا عن معارك المهدي وحروبه، معلومات غيبية لا يعلمها إلا الله ورسوله، ولا مجال للاجتهاد أو التخمين بها، فهي جميعها تسند للرسول أو لأولئك الذين سمعوه وهو يتحدث بها، وقد تبين أن الحديث النبوي قد تعرض لمحنة هائلة، حيث منعت سلطات دولة الخلافة التاريخية رواية وكتابة الأحاديث النبوية من اليوم الثالث لوفاة الرسول واستمر هذا المنع قرابة مائة عام وبعد المائة عام اقتنع المسلمون بخطأ وفساد قرار دولة الخلافة القاضي بمنع رواية وكتابة الأحاديث النبوية، فأقبل علماء دولة الخلافة على كتابة ورواية أحاديث الرسول بعد قرابة مائة عام من صدورها عنه، ولم تر دولة الخلافة آنذاك ضررا من رواية وكتابة أحاديث النبي، لأن ثقافة التاريخ قد استقرت نهائيا، ولأن فقه دولة الخلافة التاريخية قد ألقى أجرانه في الأرض وفي النفوس رغبة أو رهبة، واكتشف علماء دولة الخلافة من الأحاديث النبوية التفاصيل الكلية (لنظرية المهدي المنتظر) فرووا وأخرجوا كل ما سمعوه حول هذا الموضوع بما لا يتعارض مع الثقافة التاريخية، والسنن التي اخترعها الخلفاء بعد وفاة النبي، ومع الخط العام التي سارت عليه دولة الخلافة التاريخية، والذي يقوم على تأخير أهل بيت النبوة، والحط من شأنهم، وعدم الاعتراف بمكانتهم المميزة في الأمة، وعدم تصديق ادعائهم بأنهم ورثة النبي، وأصحاب الحق الشرعي بقيادة الأمة وإظهارهم وإظهار من والاهم بصورة من ينازع الأمر أهله، وبصورة الطامعين بالسلطة، المتربصين بشق عصا الطاعة، وتفريق الأمة والجماعة، ولا نبالغ إذا ما قلنا بأن ثقافة تاريخ دولة الخلافة مكرسة لإثبات تلك المزاعم ولإثبات شرعية حكم أولئك التي استولوا على منصب الخلافة بالقوة والتغلب وكثرة الأتباع!!
هذا المناخ القائم على تحريف الحقائق أدى إلى عزل أهل بيت النبوة، وعزل أوليائهم، وحرمان الأمة والعالم من الاستفادة من أئمة أهل بيت النبوة الذين ورثوا علمي النبوة والكتاب، وعلى سبيل المثال فإن أئمة أهل بيت النبوة كانوا يعرفون معرفة يقينية التفاصيل الكلية والجزئية لنظرية المهدي المنتظر قبل أن يكتشفها علماء شيعة الخلفاء بمائة عام ونيف، ولكن الأئمة كانوا محاصرين من دولة الخلافة، ومراقبين هم وأوليائهم مراقبة دقيقة من قبل عيون تلك الدولة وجواسيسها الذين كانوا يترصدون كل ما يصدر منه ليجدوا لأنفسهم السبيل لإيذائهم أو قتلهم أو تشريدهم أو تطريدهم!! ولما فتحت أبواب رواية الحديث وكتابته بعد مائة عام من المنع، ألقت الدولة وكل أعوانها بثقلهم كله للتشكيك بكل ما يصدر عن أئمة أهل بيت النبوة، وعن أوليائهم وفي أحسن الأحوال صار حديث إمام أهل بيت النبوة كحديث بعض الرواة!!!
ثم إن الأحاديث التي روتها طواقم معاوية وعماله، والهادفة إلى محق مكانة أهل بيت النبوة، والقضاء على فضائلهم، وإظهارهم بصورة أفراد عاديين من الصحابة. هذه الأحاديث ألقت بظلها القاتم على كل شيء، لأن معاوية لما تم له ما أراد من جمع عشرات الألوف من الأحاديث التي اخترعها رواته وعماله، عمم هذه الأحاديث على الناس، وفرض على الخاصة والعامة تعلمها، ثم تناقلتها الأجيال معتقدة بصحتها وهي باطلة من أساسها، ولما انقضت مدة الألف شهر السوداء، واستولى العباسيون على منصب الخلافة بالقهر والتغلب كما فعل الأمويون من قبلهم، وجد الناس مناهج تربوية وتعليمية جاهزة، وأحاديث موثقة.
من الناحية الشكلية فنقلوها كما هي دون تعديل ولا تبديل، وإذا وجدوا حديثا يتعارض معها، كان القول الفصل للأحاديث التي روتها طواقم معاوية!!
وبعد مرور مدة طويلة على فتح أبواب رواية الحديث وكتابته، تجمعت ملايين المرويات، واختلط الحابل بالنابل ولم تعد تدري أيا من أي وهذا ما يجعل مهمة الباحث المنصف الطالب للحقائق الشرعية المجردة مهمة شاقة، أصعب من قطع الحجارة.
الطريقة المثلى للوقوف على معارك الإمام المهدي وحروبه:
وأفضل الطرق المؤدية للوقوف على معارك الإمام المهدي وحروبه تكمن بسرد الروايات التي تعالج هذه الناحية، والتركيز بشكل خاص على روايات أئمة أهل بيت النبوة الأعلام، لأنهم ورثة علمي النبوة والكتاب، ولأن الله قد شهد بطهارتهم، ولأنهم آل محمد، ولأنهم الثقل الأصغر، وتزداد روايتهم أهمية إذا رواها معهم أو عنهم بعض علماء شيعة الخلفاء، لأن مثل هذه الروايات ستكون حجة على الخصم، وشهادة منه بصحتها، وإدانة منه لنفسه، وقد قصرنا اهتمامنا ما وسعنا الجهد للتركيز والاهتمام الخاص بهذه الروايات.
الرسول الأعظم يلخص معارك الإمام المهدي وحروبه:
لخص رسول الله معارك الإمام المهدي بسلسلة من الأحاديث التي عالجت هذه الناحية نوجزها فيما يلي:
1 ـ قال رسول الله أن المهدي المنتظر (... لا يبدأ إلا بقريش فلا يأخذ منها إلا السيف ولا يعطيها إلا السيف، حتى يقول كثير من الناس، ليس هذا من آل محمد، ولو كان من آل محمد رحم). (راجع الحديث رقم 841 ج 3).
وتكمن علة هذه البداية بأن بطون قريش هي صاحبة نظريات تأخير آل محمد، وتجاهل مكانتهم، وعدم الاعتراف بها، وهي صاحبة النظرية الشهيرة.
(النبوة لبني هاشم والملك لبطون قريش) وقريش هي التي اخترعت فقه الهوى، وأوجدت ثقافة التاريخ، وحولت الفقه والثقافة إلى مناهج تربوية وتعليمية فرضتها بالقوة على الناس وبطون قريش هي الأكثر كراهية في العالم لرئاسة آل محمد، فمن الطبيعي أن يرتب المهدي أموره مع هذه البطون، وأن يحاسبها حسابا عسيرا على ما فرطت في جنب الله، وما تسببت به من هدم الشرعية الإلهية وحرمان البشرية من حكومة آل محمد، ومن عدلهم، ومن علمهم.
ولأن قريش لها تأثير على العرب، فبعض الروايات بينت بأنه لن يخرج مع المهدي في البداية من العرب أحد، لأن العرب هم أكثر الناس تأثرا بثقافة التاريخ وفقه الهوى وكراهية لرئاسة آل محمد، وهنا يكمن السبب في أن المهدي سيبدأ بقريش، وسيصب نقمته عليها، وقد توسعنا في هذه الناحية عندما بحثنا العقيدة القتالية للإمام المهدي وأصحابه. وبعد أن يصفي الإمام المهدي حساباته مع قريش ومع العرب ينطلق.
2 ـ إن الإمام المهدي سيفتح كافة حصون الضلالة في العالم فعند ظهور الإمام المهدي سيكون أئمة الضلالة قد أحكموا سيطرتهم على العالم، فيدخل الإمام المهدي بمواجهة معهم ويفتح حصونهم جميعا. وقد صرح رسول الله بهذه الحقيقة إلى ابنته الزهراء فاطمة قائلا: (... يا فاطمة والذي بعثني بالحق، وإن منهما (أي الحسن والحسين) مهدي هذه الأمة إذا صارت الدنيا هرجا ومرجا، وتظاهرت الفتن، وتقطعت السبل، وأغار بعضهم على بعض... فيبعث الله عز وجل عند ذلك منهما من يفتح حصون الضلالة وقلوبا غلفا، يقوم بالدين في آخر الزمان كما قمت به أول الزمان)... (الحديث رقم 79 ج 1).
3 ـ ثم إن الرسول الأعظم قد أكد بشكل قاطع بأن الإمام المهدي سيظهر حتما على الجبابرة في الأرض حيث قال... (فيجتمع إليه (أي للمهدي) ثلاثمائة وأربعة عشر رجلا فيهم نسوة، فيظهر على كل جبار وابن جبار...) (الحديث رقم 34 ج 1).
4 ـ وبين الرسول الكريم أن هذه الحتمية وعد إلهي، وقرار محتوم حيث أخبره الله تعالى به عندما أسرى به إلى السماء السابعة، ومنها إلى سدرة المنتهى، ومنها إلى حجب النور حيث كلمه الله تعالى قائلا: (وبالقائم منكم أعمر أرضي، وبه أطهر الأرض من أعدائي، وأورثها أوليائي...) (الحديث رقم 123 ج 1).
5 ـ وأكد الرسول الأعظم أن الإمام المهدي في معاركه وحروبه ملتزم بالشرعية، ومنفذ لغاياتها وعبر عن هذه الحقيقة بقوله: (وهو رجل من عترتي يقاتل على سنتي، كما قاتلت على الوحي). (راجع الحديث رقم 136 ج 1 وراجع مراجع أهل السنة المدونة تحته). وبين الرسول الأعظم حقيقة هذا الالتزام بقوله: (يقفوا أثري لا يخطئ). (راجع الحديث رقم 137).
6 ـ وتقريبا للصورة، أجرى رسول الله مقارنة بين فتوحات ذي القرنين، وبين فتوحات المهدي فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (... حتى لا يبقى منهلا ولا موضعا من سهل ولا جبل وطئه ذو القرنين إلا وطئه، يظهر الله عز وجل له كنوز الأرض ومعادنها وينصره بالرعب).. (الحديث رقم 158 ج 1).
7 ـ أكد الرسول الأعظم بأن الإمام المهدي سيفتح بإذن الله شرق الأرض وغربها، بقوله: (... يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجورا، فيفتح الله له شرق الأرض وغربها، ويقتل الناس حتى لا يبقى إلا دين محمد، ويسير بسيرة سليمان بن داود، ويدعو الشمس والقمر، فيجيبانه، وتطوى له الأرض، ويوحى إليه فيعمل بالوحي بأمر الله). (راجع الحديث رقم 859 ج 4).
8 ـ وبين الرسول أيضا: (بأنه إذا قام القائم بعث في أقاليم الأرض في كل أقليم رجلا يقول له: (عهدك في كفك، فإذا ورد عليك أمر لا تفهمه ولا تعرف القضاء فيه، فانظر في كفك واعمل بما فيها. (الحديث رقم 858 ج 4).
الترتيب الزمني وتسلسل أحداث معارك الإمام المهدي وحروبه:
وقفنا قبل قليل على التقاطيع الأساسية للصورة العامة والمجملة التي رسمها رسول الله لمعارك الإمام المهدي وحروبه، واستوعبنا تأكيداته القاطعة بأن الإمام المهدي سيفتح كافة حصون الضلالة في العالم، وسيقضي على كل جبار وابن جبار فيه، وسيتولى نتيجة لهذه المعارك والحروب وثمرة للآيات والمعجزات.
والدعم على كافة أقاليم الكرة الأرضية، وأنه سيولي على كل إقليم من أقاليم الأرض أحد رجاله. أما تاريخ كل معركة من معارك الإمام المهدي، ومتى تقع، وكيف تتسلسل الأحداث بالدقة التامة، فهذه أمور لا نعرفها على وجه الدقة واليقين، ولا أحد في العالم كله يعرفها إلا رسول الله، وأئمة أهل بيت النبوة الذين ورثوا علمي النبوة والكتاب، لأن معارك الإمام المهدي وحروبه لم تقع للآن ولم تحدث ولم تتحول إلى تاريخ، بل ما زالت في رحم الغيب، ثم إن كافة الأمور المتعلقة بنظرية الإمام المهدي قضايا غيبية إيمانية مستقبلية أوحاها الله لرسوله، وبينها الرسول للمسلمين بحدود قدرة الكلام على البيان، فهي كقضايا الجنة والنار والصراط والحساب أمور ستحدث حتما، ولكن متى وكيف؟ فإن الإجابة بحدود المعلومات اليقينية التي وصلتنا من رسول الله، ولا نملك أن نزيد في هذه المعلومات أو أن ننقص منها لأنه لا مجال للاجتهاد في هذه الأمور الغيبية.
والخلاصة أن الترتيب الزمني لمعارك الإمام المهدي وحروبه لا يمكن تحصيله إطلاقا، ولا يمكن الوقوف عليه، لأن تلك المعارك والحروب لم تقع بعد، صحيح أن الرسول قد بين كل شيء، وأنه قد أورث علمي النبوة والكتاب لأئمة أهل بيت النبوة، وهم مؤهلون وقادرون على الإجابة على كل سؤال، وقد بينا أن دولة الخلافة قد منعت رواية وكتابة الأحاديث النبوية من اليوم الثالث لوفاة الرسول، وحتى طوال مائة عام، وبينا الظروف التي عاشها أئمة أهل بيت النبوة والمعاناة التي تعرضوا لها، والعزلة التي فرضت عليهم وكل هذا قد أدى إلى حرمان المسلمين من الوقوف على حقيقة كل ما قاله رسوله، لأن أحاديثه قد رويت بعد مائة سنة من صدروها عنه، وحرمان الناس من الانتفاع الكلي من علمي النبوة والكتاب الذين ورثهما أئمة أهل بيت النبوة، وبالتالي تمخض هذا عن وجود أسئلة بدون أجوبة، وأمور مفتوحة بدون تغطية، خاصة وأنه لا يوجد الآن إمام لأهل بيت النبوة، فخاتم الأئمة هو المهدي المنتظر وهو غير ظاهر، بمعنى أن الوقوف على الترتيب الزمني لمعارك المهدي وحروبه ضرب من المستحيلات في أيامنا هذه.
ولا يبقى أمامنا إلا محاولة ترتيب حوادث ومعارك وحروب الإمام المهدي حسب الرقم المتسلسل لوقوعها، بمعنى أن تقع حادثة، فنعرف الحادثة التي تليها.
بالضبط، ثم نعرف الثالثة والرابعة.. الخ. وتوضيحا للصورة نسأل ما هو أول إقليم من أقاليم الأرض قد أخضعه الإمام المهدي لسلطانه؟ وما هو الإقليم الثاني والثالث والرابع فلا نقوى على ربط الأحداث بتسلسل وقوعها، ولا معرفة أقاليم الأرض بتسلسل فتح الإمام المهدي لها، لكن معرفة تسلسل وقوع الحوادث أهون على الباحث من معرفة التسلسل الزمني لوقوعها، فمعرفة التسلسل الزمني لوقوع معارك المهدي وحروبه مستحيل استحالة مطلقة، أما ترتيب الأحداث والمعارك والحرب بتسلسل وقوعها فممكن إن تعاون على تحقيقه عصبة من العلماء الأفذاذ، وبالرغم من كثرة بحوثي في هذا المجال، ومحاولاتي التي لم تتوقف للاطلاع على ما كتب فيه، فإني لم أجد أفضل ولا أشمل ولا أعمق ولا أقرب لروح العصر من كتاب سماحة العلامة الشيخ علي الكوراني الموسوم (بعصر الظهور) لقد كان الجهد الذي بذل فيه كبيرا، فجاء الكتاب كثمرة طيبة لذلك الجهد، إن ترتيب الشيخ الكوراني لتسلسل الأحداث وربطها أمر يثير الإعجاب والاحترام، ولا عجب فالشيخ الكوراني هو الذي أشرف على جمع وتبويب موسوعة أحاديث الإمام المهدي، مما أهله وأعده لينجز كتابه الرائع (عصر الظهور)، ومما مكنه من أن يكون بحق أعظم المراجع بالأمور المتعلقة بنظرية الإمام المهدي المنتظر.
والخلاصة أنه من غير المعقول ولا المنطقي أن ننقل كل ما ورد في كتاب عصر الظهور لنقف على تسلسل معارك وحروب الإمام المهدي، إنما اكتفينا بالإشارة إليه، وأرى أن الأنسب لي أن أضع (سيناريو) لتسلسل الأحداث والمعارك والحروب التي خاضها الإمام المهدي وأصحابه بالحجم وبالمدى التي أشارت إليه الأحاديث النبوية، والأحاديث التي رواها الأئمة الأعلام من أهل بيت النبوة، وأرى أنني غير ملزم بسد الثغرات، لأن هذه الأمور لا مجال للافتراض ولا للاجتهاد بها، وتركها أولى من محاولات سدها..
الفصل السادس
تسلسل أحداث ظهور الإمام المهدي ومعاركه وحروبه (السيناريو)
ظهور نظرية الإمام المهدي المنتظر وتغيبها كفكرة:
ظهرت نظرية الإمام المهدي المنتظر على يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد بين للمسلمين ما أوحى إليه ربه حول الإمام المهدي المنتظر، وأطلعهم على كليات وتفاصيل هذه النظرية تماما، كما أوحيت إليه، وفهم المسلمون الذين استمعوا إليه، وفهموا منه بأن الإمام المهدي المنتظر هو خاتم أئمة أهل بيت النبوة الذين اختارهم الله تعالى لقيادة الأمة من بعده، وأن ظهور الإمام المهدي من الحتميات الإلهية التي لا بد من وقوعها، ذات يوم، وأكد الرسول هذه الحقيقة بكل وسائل التأكيد، وبينها بكل طرق البيان إلى درجة أن الرسول قد قال: (لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد، لطول الله ذات اليوم حتى يبعث الله الإمام المهدي فيملأ الأرض عدلا)، وقد فصلنا ذلك ووثقناه توثيقا كافيا في الأبواب السابقة وأجمعت الأمة على حتمية صدور هذه الأحاديث عن رسول الله. كان المسلمون على عهد رسول الله يرسلون هذه الحقائق التي سمعوها من رسول الله إرسال المسلمات، ويعتبرونها جزءا من علوم الغيب التي خص الله بها نبيه، ويؤمنون بها كما يؤمنون ببقية الأمور الغيبية من جنة ونار وعذاب وثواب، مع الاختلاف بعمق هذا الإيمان من فرد إلى فرد..
تغييب نظرية الإمام المهدي وإخفائها:
بعد فتح مكة، وبعد أن بردت جراحات المواجهة بين الرسول وبين بطون قريش وبعد أن استسلمت بطون قريش، واضطرت لإعلان إسلامها، حدث تقارب بين المهاجرين والطلقاء من أبنائها، واستذكر الطرفان قتلى البطون وتفاصيل المواجهة بين تلك البطون وبين رسول الله وآله، وفهموا حقيقة، أن الرسول قد رتب الأمور من بعده ليكون أول خلفائه علي بن أبي طالب، ويتعاقب على الحكم من بعده أحد عشر إماما أو خليفة وكلهم من ذرية النبي ومن بني هاشم وأن الرسول قد أعلن كل ذلك على المسلمين، بسلسلة مترابطة من الأحاديث النبوية، وأخبرهم بأن ترتيب الأمور من بعده عمل رباني ولا علاقة له به وما هو إلا عبد مأمور يعلن ما يأمره الله بإعلانه، هذه الترتيبات لم ترق لبطون قريش ولا لأبنائها المهاجرين منهم والطلقاء، واستبعد أبناء البطون أن يكون الله تعالى قد رتب مثل هذه الأمور، فهل يعقل برأي البطون أن يكون النبي من بني هاشم، وأن يكون الخلفاء هاشميون!!! إن هذا أمر لا يمكن تصديقه!! فكيف يصرف الله تعالى الشرف كله عن بطون قريش الـ ‍23 ويحصر شرفي النبوة والخلافة ببني هاشم!!
وقدر قادة البطون بأن محمدا كبشر هو الذي وضع هذا الترتيب ولا علاقة لله به!!
ثم توصلوا أي نتيجة مفادها بأن حصر النبوة والخلافة ببني هاشم إجحاف على حد تعبير عمر بن الخطاب!! وأن الأفضل والأوفق والأصوب أن يختص الهاشميون بالنبوة لا يشاركهم فيها أحد من البطون، وأن تختص بطون قريش بالخلافة لا يشاركهم فيها أي هاشمي قط، وبناء على هذا أجمعت قريش إلا من هدى الله، وصممت أن تستولي على منصب الخلافة بالقوة والتغلب وكثرة الأتباع وأخذت تعد العدة وتتربص، وتنتظر بفارغ الصبر موت النبي لتنفذ ما اتفقت عليه، ولما قعد النبي على فراش المرض، وأيقنت البطون بحتمية موته، شرعت بالفعل بتنفيذ مخططها الرامي إلى الاستيلاء على منصب الخلافة بالقوة والتغلب، وكثرة الأتباع، وتجاهل كافة الترتيبات التي أعدها النبي لعصر ما بعد النبوة، وأعلن أنها ترتيبات إلهية!! إلى درجة أن زعامة بطون قريش قد واجهت النبي شخصيا وهو مريض.
وقالت له: (أنت تهجر، ولا حاجة لنا بوصاياك، لأن القرآن عندنا وهو يكفينا!!!) وقد أكد أئمة أهل بيت النبوة ومن والاهم أن هذه التصريحات الخطيرة قد صدرت بالفعل من زعامة بطون قريش، وأكد العلماء الأعلام من شيعة الخلفاء (أهل السنة) بأن هذه التصريحات قد صدرت بالفعل من زعامة بطون قريش للنبي وهو على فراش المرض، فقد رواها البخاري في صحيحه ومسلم في صحيحه... الخ، وقد وثقنا كل ذلك في كتابينا (نظرية عدالة الصحابة) و (المواجهة) وفي الباب الأول من هذا الكتاب.
وما يعنينا إبرازه في هذا المجال هو أن حزب بطون قريش استطاع أن يستولي على منصب الخلافة خلال يومين فقط، وواجه المسلمين بأمر واقع فإما أن يقبلوه، وإما أن يواجه وجاهة الأكثرية (زعامة بطون قريش) تلك الزعامة التي حاربت النبي وقاومته 23 سنة، ومن يقوى على مواجهة بطون قريش بعد النبي!!
ولنفترض أن عليا بن أبي طالب والهاشميين قد قرروا آنذاك مواجهة البطون، فإن تلك المواجهة ستكون انتحارا، وستؤدي إلى فتنة قد تقتلع دين الإسلام من جذوره، وترد الناس إلى الشرك فلا يبقى من الإسلام لا اسمه ولا رسمه ولا مضمونه، بل ستقتلع تلك الفتنة لو حدثت كل ما بناه الرسول من جذوره، لذلك فضل أهل بيت النبوة الاحتجاج بشكل لا يشق جماعة المسلمين، ولو تيسرت لأهل بيت النبوة أسباب القوة لتمكنوا من هزيمة الانقلابيين بأقل الخسائر، ولكن سريعا قبض الانقلابيون على منصب الخلافة والنفوذ والمال وفتحوا أبواب مواجهة بين المسلمين وبين الدولتين الأعظم.
كيف غيبت دولة الخلافة نظرية الإمام المهدي المنتظر وأحفتها؟
لما قبضت بطون قريش على منصب الخلافة بالقوة والتغلب والقهر وكثرة الأتباع، عزلت أهل بيت النبوة وأولياءهم عزلا تاما، وحرمت عليهم تولي الوظائف العامة وبنفس الوقت قربت أعداء أهل بيت النبوة، ومن لا يرون لأهل البيت أي فضل، وسلمتهم الإمارات وقيادات الجيوش والأعمال، وحتى لا تحرج.
دولة الخلافة نفسها، وحتى لا يحتج أهل بيت النبوة وأولياؤهم بالنصوص الشرعية والأحاديث النبوية، أصدرت دولة الخلافة قرارا أو مرسوما يمنع منعا باتا كتابة ورواية الأحاديث النبوية بأي أمر من الأمور، وكان هذا أول مرسوم أعلنه الخليفة الأول بعد استلامه للسلطة، والأعظم أن دولة الخلافة قامت بحرق المكتوب من أحاديث الرسول، وبررت دولة الخلافة مرسومها هذا بالقول: (بأن كتاب الله يكفي ولا حاجة لحديث رسول الله، لأنه يورث الخلاف والاختلاف على حد تعبير الخليفة الأول فقد خاطب المسلمين قائلا: (فمن سألكم عن شيء فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله. وبقيت قرارات مؤسسي دولة الخلافة سارية المفعول طوال مائة عام، لأنه لم يجرؤ أحد أن يعيب أو ينقض سنة الخلفاء الثلاثة الأول المؤسسين للخلافة التاريخية لأن تلك الخلافة راشدة، وبالتالي لم يتمكن أحد من رواية وكتابة الأحاديث النبوية التي اشتملت عليها نظرية المهدي المنتظر، لأن هذا المهدي من أهل بيت النبوة، ولأن النبي قد أكد بأنه ختم أئمة أهل البيت، فإذا انتشرت الأحاديث النبوية التي تصدع بإمامته فيقول المسلمون ما بال الذين سبقوه من أئمة أهل البيت لم يتولوا الخلافة!! وفي ذلك إحراج للخلفاء، ونسف لثقافتهم، لذلك غيبت كافة الأحاديث النبوية التي تحدثت عن المهدي المنتظر طوال المائة عام التي منعت فيها دولة الخلافة كتابة ورواية الأحاديث النبوية، ولم يكن بوسع أحد من المسلمين أن يتحدث خلال تلك المدة عن المهدي المنتظر أو عن أهل بيت النبوة، أو يروي عنهم أي حديث نبوي إلا سرا، خوفا من بطش دولة الخلافة، وتجنبا لإسخاط الخلفاء، وحرصا على العطاء، أو الحصول على حصة مناسبة من النفوذ بتلك الدولة. أما أئمة أهل بيت النبوة، ورثة علمي النبوة والكتاب، فقد كانوا يتحدثون بالسر للصفوة القليلة من أوليائهم حتى لا يجعلوا لدولة الخلافة عليهم سبيلا لأن هدف دولة الخلافة آنذاك كان منصبا على إيجاد السبل للقضاء التام على أهل بيت النبوة حتى لا يكشفوا حقيقة ما جرى فيما بعد، وحتى لا يكتشف الناس طبيعة دولة الخلافة. والأسس التي قامت عليها، وهكذا نجح الخلفاء بتغييب وإخفاء المعالم الأساسية لنظرية المهدي المنتظر طوال مائة عام. ويمكنك أن تقف على محنة الحديث النبوي وأساليب زعامة بطون قريش.
للتشكيك به وتفريغه من مضامينه ومحتواه في كتابنا (المواجهة).
نظرية الإمام المهدي تعود للظهور في عهد معاوية!!
لقد كان معاوية أوضح من الذين سبقوه بمنع رواية وكتابة الأحاديث النبوية فقد قهر المسلمين، ولم يعد هناك ما يخشاه، لقد قدر معاوية أن الغاية من منع رواية وكتابة الأحاديث النبوية تكمن في رغبة بطون قريش بإخفاء المكانة، والفضائل التي خص بها الله ورسوله آل محمد، وإذا كان قرار منع رواية وكتابة الحديث النبوي قد ظل ساريا طوال هذه المدة، فما الذي يضمن لمعاوية سريانه طول الزمان!! فبوقت يطول أو يقصر سيضطر المسلمون لرواية الأحاديث النبوية وكتابتها، وحينها سيكتشفون مكانة أهل بيت النبوة وفضائلهم التي لا تعد ولا تحصى وسجلهم التاريخي الحافل بالفخر والأمجاد، وسيكتشفون أيضا أن لمعاوية وأخوته وأبيه وأجداده سجل تاريخي أسود حافل بالعداء لله ولرسوله وللاسلام وهو مختلف بالكامل عن سجلهم الرسمي الذي كتبوه بالرعب والارهاب والقوة وأجبروا الرعية على التسليم بصحة ما جاء فيه!!
وفكر معاوية طويلا، فرأى أن الرأي كل الرأي بإبقاء قرار منع رواية وكتابة الأحاديث النبوية ساريا كما أراد الخلفاء المؤسسون، ولمواجهة المستقبل واحتمالية رواية وكتابة الحديث فيما بعد، رأى معاوية أن يقود بنفسه حملة لرواية فضائل الخلفاء الثلاثة الأول خاصة الثالث الأموي لا حبا بهم ـ مع أنهم هم الذين مكنوا له وأوصلوه للخلافة عمليا ـ ولكن كراهية بآل محمد وأهل بيته وللبطن الهاشمي عامة، وتتفرع من حملة فضائل الخلفاء الثلاثة حملة أخرى تتحدث عن فضائل الصحابة كل الصحابة، معتبرا نفسه وأباه وأخوته وأبناء عمومته من أجلاء الصحابة لأنهم شاهدوا رسول الله وجالسوه وسمعوا منه، لا حبا بالصحابة الكرام السابقين إلى الإيمان ولكنه نكاية بآل محمد وأهل بيته، وإرغاما لأنوفهم، ومحاولة لتجريدهم من كل مميزة أو فضيلة تميزهم عليه وعلى غيره، وسخر معاوية كافة طاقات الدولة وإمكانياتها، وجند كل عمالها لإنجاح هذه الحملة وكان معاوية صريحا في مراسيمه حيث قال: (فلا تدعو خبرا يرويه أحد من الناس بأبي تراب أو بأهل بيته، إلا وتأتوني بمناقض له في الصحابة). (راجع شرح النهج لعلامة المعتزلة ابن أبي الحديد ج 3 ص 595، تحقيق حسن تميم)، وهذا يعني أن معاوية وعماله وأركان دولته قد قادوا عملية الوضع على رسول الله، وأغرق معاوية وعماله الرواة بالعطايا والصلات، وانشقت الأرض عن الألوف من الرواة فجأة فرووا عشرات الألوف من أحاديث الفضائل التي لم يقلها الرسول ولم ينزل بها الله سلطانا إنما هي محض اختلاق لإرغام أنوف بني هاشم كما يقول ابن نفطويه.
(راجع المرجع السابق، وكتاب الأحاديث للمدائني)، وبعد أن تجمعت له تلك السيول الجارفة من الروايات أمر معاوية بكتابتها وإشاعتها، وروايتها بين الناس، وفرض على العامة والخاصة حفظها، والعمل بها، ولاح لمعاوية ولأركان دولته بأنهم قد احتاطوا للمستقبل، وهدموا مجد آل محمد وأهل بيته، وجردوهم من مكانتهم وكافة فضائلهم، أو على الأقل ضيعوا فضائل آل محمد وأهل بيته، وسط هذا المحيط المترامي الأطراف من الفضائل. ومن غرائب هذه الحملة أن الرواة قد اكتشفوا بأن فضيلة الطهارة خاصة بأهل بيت النبوة ولا يمكن انتزاعها منهم لأنها مثبتة بالقرآن الكريم، فتفتقت عبقريات الرواة عن حديث يخص أعداء الله (بالطهارة والزكاة)!!! وتفصيل ذلك أن رسول الله لعن نفرا معينا من المسلمين كالحكم بن العاص، ومعاوية نفسه، وأباه وغيرهم وشاع أمر لعن الرسول لهذه النفر بشكل لا يمكن إنكاره أو التنكر له، وعالجت طواقم رواة معاوية هذا الأمر على الصيغة التالية: (بأن الرسول بشر يتكلم في الغضب والرضى وأثناء غضبه كان قد لعن بعض الصحابة (الحكم بن العاص) عدو الله ورسوله، ولما سكن عنه الغضب سأل الله أن يجعل هذا اللعن زكاة وطهورا لمن بدرت منه بحقهم!!
واستجاب الله، فصار عدو الله الحكم بن العاص زاكيا ومطهرا وأولى بالخلافة من الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وابنا النبي لماذا لأنهما مطهرين فقط، أما الحكم بن العاص فهو (زاكي ومطهر) وأما ولي الله بالنص، وإمام المتقين بالنص، وفارس الإسلام، وأعلم الناس بأحكامه فهو (ملعون) حاشاه حسب قوانين معاوية، لذلك من واجب الرعية كلها أن تلعنه على المنابر، وفعلا لعنه.
معاوية، ولعنته رعية معاوية ومن المدهش بالفعل أن البخاري ومسلم قد رويا حديث (تحويل أعداء الله إلى زكاة ومطهرين، وقد وثقنا ذلك في كتابينا (الخطط السياسية) و (المواجهة).
معاوية يظهر نظرية المهدي المنتظر بعد إخفائها بمناسبة الحديث عن الفضائل التي قاد معاوية وأركان دولته حملتها اكتشفوا بأن الإمام المهدي المنتظر من أهل بيت النبوة، وأن عليا بن أبي طالب وأهل بيت النبوة يعتبرونه من مفاخرهم وفضائلهم التي لا تدانى، ولا ترقى لها فضيلة من فضائل القوم، فطالما ردد الإمام علي بفخر ظاهر (بنا فتح وبنا يختم) فلا معاوية ولا أركان دولته لهم القدرة على أن يمحوا من الذاكرة ما قاله الرسول عن الإمام المهدي المنتظر، لقد كانت أحاديث الرسول المتعلقة بالمهدي المنتظر من القوة والشيوع بحيث لا يمكن إنكارها أو التنكر لها، حتى من رجل مثل معاوية وطواقم مثل طواقمه، فكانت حملة الفضائل مناسبة لإظهار نظرية الإمام المهدي بعد إخفائها، ولتأكيد وجود هذه النظرية وقوتها وتأصلها في نفوس المسلمين، واكتشفت طواقم معاوية أن إنكار النظرية مستحيل، وأن تجاهلها أكثر استحالة، وأوامر معاوية واضحة (لا تدعو فضيلة يرويها أحد من المسلمين بأبي تراب أو بأهل بيته إلا وتأتوني بمناقض لها في الصحابة) ولكن كيف يأتوه بمناقض لفضيلة المهدي بالصحابة؟ هل يقولون بأن المهدي من ذرية أبي بكر أو عمر أو عثمان أو معاوية أو عمرو أو زيد من الصحابة؟ ولكن لماذا من ذريتهم وليس من ذرية الرسول؟ وكيف يمكن اقتلاع قناعة المسلمين وقتذاك بأنهم قد سمعوا الرسول يؤكد بأن المهدي من عترته أهل بيته، لذلك رأت طواقم معاوية بأن البديل الوحيد والممكن هو رواية أحاديث تفيد بأن المهدي من أمة محمد!!! وهذه الأحاديث في ما بعد ستشكك بكون المهدي من آل محمد، وستؤدي بعض المهام التي يرمي لها معاوية.
والخلاصة أن معاوية وبدون قصد منه، وعندما قاد حملة الفضائل وسخر لها.
موارد دولة الخلافة ساهم مساهمة فعالة بإظهار نظرية الإمام المهدي بعد خفائها.
وبالتأكيد على وجودها وقوتها، واستقرارها في نفوس المسلمين وأن محاولات رواته لتنحية هذا الشرف عن أهل بيت النبوة، وإلحاقه بغيرهم باءت بالفشل الذريع، لأن آل محمد هم من أمته بل هم سنامها وتاج فخارها.
الظهور العام والشامل لنظرية الإمام المهدي المنتظر:
بعد أن اقتنع رعايا دولة الخلافة التاريخية بعدم صواب، وعدم منطقية استمرار منع رواية وكتابة أحاديث الرسول، وبعد انتقال منصب الخلافة من الأسرة الأموية إلى الأسرة العباسية، وبعد أن استقرت الثقافة التاريخية في النفوس، وألقى فقهها أجرانه في الأرض لم تر دولة الخلافة أي ضرر من كتابة ورواية الأحاديث النبوية، خاصة مع تكون رأي عام ينادي بكتابة ورواية الأحاديث النبوية، وكيف يمكن الاستمرار بمنع رواية وكتابة الأحاديث النبوية، بالوقت الذي تشجع فيه الدولة، وتقبل فيه الرعية على ترجمة كتب الأمم السابقة وفلسفاتها وعلومها وأساطيرها!! ثم إنه لا محذور من أن يتقول على دولة الخلافة، متقول ويتهمها بأنها قد خرجت على سنة مؤكدة من سنن الخلفاء الثلاثة الأول، فالرعية كلها مقتنعة بضرورة كتابة ورواية الأحاديث النبوية بشكل لا يتعارض مع نظام دولة الخلافة، أو ثقافتها، أو فقهها النافذ، وهكذا أرخت الدولة الحبل لرعاياها وعلمائها، وتفتحت أبواب ومنافذ رواية الحديث النبوي وكتابته بعد حظر دام أكثر من مائة عام.
علماء دولة الخلافة يعثرون على نظرية الإمام المهدي:
بوقت قصير جدا عثر علماء دولة الخلافة على نظرية الإمام المهدي المنتظر، واكتشفوا أنها نظرية إسلامية من جميع الوجوه، وأن الأحاديث المتعلقة بها قد صدرت بالفعل عن رسول الله، وأن هذه النظرية جزء لا يتجزء من النظام السياسي الإسلامي وأن الرسول قد بشر بالفعل بالمهدي المنتظر، وأكد وبكل وسائل التأكيد على حتمية ظهوره، وأن هذا المهدي من عترة النبي أهل بيته، وأنه خاتم أئمة أهل بيت النبوة، وأنه سيبايع حتما بين الركن والمقام، أو بين زمزم والمقام، وأنه سيؤسس دولة آل محمد، وسيفتح أقاليم الأرض كلها، وينتقم من الظالمين، ويسقط كافة حصونهم، ويكون دولة عالمية، وأنه سيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما، وأن سكان العالم في زمانه سيعتنقون جميعهم دين الإسلام، وأن عيسى ابن مريم سينزل من السماء في زمانه، فيكون وزيرا له، ويصلي خلفه، وتوصلوا إلى اسمه واسم أبيه وكنيته، وإلى علامات ظهوره، وكل هذه المعلومات قد استقوها من أحاديث نبوية صحت عندهم، وتواترت بينهم، ورووها عن النبي بنفس الطرق والوسائل التي رووا فيها أحام الدين الأساسية من صلاة وصوم وزكاة وحج... الخ، وبعد أن رووا هذه الأحاديث أخرجوها في صحاحهم ومسانيدهم ولشد ما عجبوا عندما اكتشفوا أن أهل بيت النبوة كانوا يعرفون هذه الأحاديث قبلهم بمائة سنة، وأن مضامين هذه الأحاديث صحيحة عند أهل بيت النبوة، ومتواترة بينهم.
وهكذا أجمعت الأمة أئمة أهل بيت النبوة وشيعتهم، والخلفاء وشيعتهم على صحة نظرية الإمام المهدي المنتظر، وجزمت الأمة بأسرها على أن الأحاديث النبوية التي تحدثت عن المقاطع الأساسية لنظرية الإمام المهدي المنتظر قد صدرت بالفعل عن رسول الله، وأنها جزء من أنباء الغيب التي أوحاها الله لرسوله، لأن الرسول لا يعلم من الغيب إلا ما علمه الله إياها، وبالتالي صار الاعتقاد بالإمام المهدي المنتظر جزء من عقيدة المسلم الدينية، وظهرت نظرية الإمام المهدي ظهورا عاما وشاملا ونهائيا، فليس بإمكان قوة في الأرض أن تمحو هذا الاعتقاد من نفوس المسلمين، وقد فشلت كافة محاولات التشكيك بهذا الاعتقاد، وبقيت نظرية الإمام المهدي صامدة، وشامخة، وقد تعرضنا لمحاولات التشكيك وأثبتنا فسادها وفشلها..
الفصل السابع
ترتيب أحداث ووقائع ظهور الإمام المهدي المنتظر
صحيح أن الإمام المهدي المنتظر سيظهر بفجأة كالساعة، ولكن وبالضرورة تسبق ظهوره سلسلة من الوقائع والأحداث التي تفضي حتما إلى هذا الظهور، وتؤدي إليه مباشرة، فيكون الظهور التام للإمام المهدي هو قمة حركة الوقائع والأحداث المبرمجة إلهيا، والمسيرة تماما وفق مخطط إلهي، بحيث يترجم هذا المخطط ترجمة تصب في خانة نواميس نظرية الابتلاء الإلهي، فتستوعب البشرية المكلفة ما يحدث، وتفهمه، وتتفاعل معه سلبا أو إيجابا ليكون هذا التفاعل موضعا للثواب أو العقاب.
وباستقراء الأحاديث النبوية التي غطت أنباء نظرية المهدي المنتظر يتبين لنا، بأن حركة الظهور ستمر عبر سلسلة من المراحل، تتمخض عن ولادة عصر الإمام المهدي بكل ما فيه من كفاية ورخاء وعدل وانسجام مطلق.
المرحلة الأولى: انتشار الاعتقاد بالإمام المهدي وإيمان المسلمين بهذا الاعتقاد
وقد تولى الرسول الأعظم بنفسه، نشر هذا الاعتقاد، فهو الذي بشر بالإمام المهدي المنتظر، وأكد وبكل وسائل التأكيد على حتمية ظهوره، وأنه سيملأ الأرض قسطا وعدلا، كما ملئت جورا وظلما، وأن عيسى ابن مريم سيصلي خلفه، ويكون أحد أعوانه وأنصاره، والرسول نفسه هو الذي تولى بيان كافة الأمور الكلية والتفصيلية المتعلقة بالإمام المهدي، مؤكدا بأنها من أنباء الغيب التي خص الله بها نبيه، وبالرغم من المحنة التي تعرض لها الحديث النبوي إلا أن هذه الأنباء قد شاعت وانتشرت بين المسلمين واعتقدوا بها، وآمنوا بأنها من أنباء الغيب المحتومة الوقوع والفئة المتنورة من المسلمين أخذت ترصد حركة الأحداث وتتمنى أن تتاح لها الفرصة لتكون من أنصار الإمام المهدي وأعوانه، وأن تساهم بصنع وإخراج عهده الذهبي، بمعنى أنها لا تكتفي بأن تشهد عصر المهدي، بل تريد أن توطد له، وأن تنال شرف المشاركة طمعا بما عند الله، وهروبا من مخاطر السلبية، واستفادة من تجارب التاريخ حيث أنه لا ينبغي على المؤمن أن يقف من الأحداث موقف المتفرج، بل يتوجب عليه أن يؤثر بها سلبا أو إيجابا، ثم إن المهدي المنتظر إمام شرعي اختاره الله، ومن واجب المؤمنين أن يضعوا أنفسهم تحت تصرفه، وأن يسلموا له قيادتهم، وأن يكونوا حيثما يتوقع منهم الإمام أن يكونوا.
المرحلة الثانية: إفلاس كافة العقائد الوضعية وأنماط حكمها واعتراف البشرية بعجز تلك العقائد وعدم أهليتها
قبل أن يظهر الإمام المهدي، تتاح الفرصة للبشرية لتجرب كافة العقائد الوضعية، وأنماط الحكم المنبثقة عنها، وأن تخضع لسيطرة حكام من مختلف النوعيات، ثم تكتشف البشرية بالتصوير الفني البطئ فشل وإفلاس وعجز كافة العقائد الوضعية، وكافة أنماط الحكم المنبثقة عنها، وتقر وتعترف ولو في قرارة النفوس، وبعد التجربة والمعاناة، بعدم أهلية العقائد الوضعية، وأنماط الحكم المنبثقة عنها لتحقيق العدل والكفاية والرخاء لبني البشر، ولتتساءل: أليس لله عقيدة؟ أليس لعقيدته نمط حكم!! أليس لله أولياء يمكنهم أن يحكموا البشرية!!
وتقيم البشرية الموقف، وترى أن الأرض قد فاضت بالظلم والجور، وأن كافة الوسائل البشرية للإنقاذ قد استنفدت وفشلت فشلا ذريعا، وأن الحياة لا تطاق، ولا شيء ينقذ العالم إلا المهدي، عندئذ يتهيأ المناخ النفسي، والجو العام الملائم لظهور الإمام المهدي. وتقديره حق قدره، وإبرازه بصورة المنقذ الفعلي الوحيد في العالم. والتطلع إليه على هذا الأساس.
المرحلة الثالثة: بروز علامات الظهور وتواليها
لم يترك رسول الله المسلمين في حالة غموض، إنما بين لهم بيانا كافيا كافة الأمور المتعلقة بالإمام المهدي، ووصفها وصفا دقيقا، فأكد على وجود علامات تسبق ظهور الإمام المهدي وتتزامن مع هذا الظهور، وأن هذه العلامات ستبرز تباعا ويتوالى ظهورها، حتى إذا اكتمل ظهورها، طلع الإمام المهدي وظهر للعالم كالنجم الثاقب المتألق. وقد وصف رسول الله هذه العلامات وصفا علميا دقيقا، تفهمه العامة والخاصة، وهي من الوضوح بحيث أنها لا تخفى على أحد إن بدأت بالظهور، وقد أفردنا في البحوث السابقة فصلا خاصا عن علامات الظهور.
ولا تبدأ إلا بعد أن يتيقن العالم ويقر إقرارا صريحا أو ضمنيا، بإفلاس كافة العقائد الوضعية، وأنماط الحكم المنبثقة عنها وعدم أهليتها لسياسة وإدارة الجنس البشري، وأن تلك العقائد والأنماط هي التي ملأت الأرض بالظلم والجور، وأن مشاكل العالم عصية ومستعصية على الحل، وأن المهدي المنتظر هو المؤهل الوحيد والقادر على أن يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما، وأن العدل الإلهي والحكم الإلهي وقيادة أولياء الله هي المخرج الوحيد للعالم عندئذ تبدأ علامات الظهور بالبروز واحدة تلو الأخرى، وبالصورة التي بسطناها في موضعها وحتى تكتمل.
المرحلة الرابعة: وجود فئة مميزة تؤمن بالإمام المهدي وتضع نفسها تحت تصرفه عندما تبدأ علامات الظهور بالبروز واحدة بعد الأخرى، وعندما تعصف.
المحن بأبناء الجنس البشري، ويشتد البلاء وعندما يكتشف الناس أن الحل الوحيد والمصلح الوحيد للعالم هو المهدي يخرج من بين المسلمين أفراد هم أكثر الناس إحساسا بالبلاء، ورغبة بالخلاص، وإيمانا بالإمام المهدي المنتظر وثقة بقدرته الهائلة على التغيير، وفوق هذا وذلك هم في قمة الوعي والإخلاص لله، فيطلبون الإمام المهدي، ويبحثون عنه وكل واحد منهم لا يعرف الآخر، وفي ساعة مباركة تلتقي هذه الفئة التي تجمعت من بلاد شتى على غير موعد بالمهدي المنتظر، في مكان ما حول الكعبة المشرفة، بين الركن والمقام أو بين زمزم والمقام، فيتعارفون ويتعرفون على الإمام المهدي، ويتعلقون به، ويضعون أنفسهم تحت تصرفه والأحاديث النبوية المتواترة تؤكد بأن عدد أفراد هذه الفئة لا يتجاوز ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا وهو عدد يطابق لعدد الذين خاضوا مع الرسول غمار معركة بدر، وفي معرض حديثنا عن أصحاب المهدي وأنصاره تعرضنا إلى مواطن أفراد هذه الفئة، وعددهم، وصفاتهم ووثقنا كل ذلك فارجع إليه إن شئت.
وهنالك فئة من المؤمنين رصدت الأحداث وراقبت علامات الظهور، وأيقنت أن الإمام المهدي، يتأهب للظهور وأنه بحاجة إلى الأعوان والأنصار، فأعدت للأمر عدته، واستعدت للخروج والبحث عن الإمام المهدي المنتظر، لتعثر عليه وتضع نفسها تحت تصرفه وتنال شرف صحبته ومشاركته في عملية التغيير الكبرى، وأبرز مثال على هذه الفئات حملة الرايات السود القادمون من إيران أو المشرق.
الفئة المؤمنة المؤسسة تضع نفسها تحت تصرف الإمام المهدي الذي يتأهب للظهور:
بعد جهد مضن، وعناء كبير، وجدت الفئة المؤمنة الإمام المهدي وتعرفت عليه، وتعرف عليها، ووضعت نفسها تحت تصرفه، وأقسم أفرادها بأنهم لن يفارقوه حتى الموت، واطمأن المهدي بهم، واطمأنوا به، وأيقن الإمام المهدي، بأنه قد آن أوان ظهوره، وبدأ بانتظار الأمر الإلهي بالظهور..
المرحلة الخامسة: ظهور السفياني ومسابقته للزمن
أكد الرسول الأعظم، وأئمة أهل بيت النبوة الأطهار بأن ظهور السفياني من الأمور المحتومة حتى قيل: لا مهدي بدون سفياني، ولا سفياني بدون مهدي، فظهور السفياني من أبرز وأشهر العلامات الدالة على ظهور الإمام المهدي، بل إن ظهور الإمام المهدي سيتزامن مع عصر السفياني، وقد فصلنا ذلك وبيناه في الفصول السابقة. والسفياني كما بينا سابقا رجل من ذرية أبي سفيان حاقد على آل محمد، كاره لدولتهم، وهو خبيث وذكي، فقد رصد الأحداث رصدا دقيقا، وقدر بأن الإمام الهاشمي المهدي سيظهر، وسيحاول أن يبني دولة لآل محمد، فأراد السفياني أن يسبق المهدي، ويبني ملكا أمويا، ليصرف شرف المهدي عن آل محمد، كما حاول أجداده أن يصرفوا شرف النبوة والخلافة عن بني هاشم فيجمع حوله الناصبة وشانئي أهل البيت، وطلاب الدنيا والمغامرين ويؤسس لنفسه قاعدة بالوادي اليابس، ثم ينطلق منه إلى درعا وحوران ودمشق والعراق والحجاز، ويرفع شعارات براقة كوحدة العرب، ووحدة المسلمين، ويصمم على تكوين امبراطورية أموية فقط لغايات التصدي لآل محمد، وبناء الملك الأموي الذي سيحول بين آل محمد وبين ما يريدون. يسابق الزمن، ويحاول أن يستبق الأحداث ليواجه الإمام المهدي بملك قائم ومستقر، وبأمر واقع فيجهض حركة المهدي عند ظهورها. ويئدها وهي في مهدها.
المرحلة السادسة: مبايعة الإمام المهدي وظهوره
بينما تكون جيوش السفياني مشتبكة بحروب ومعارك متعددة لبسط نفوذ السفياني على العالمين العربي والإسلامي، وبالوقت الذي تكون فيه منطقة الحجاز في حالة ضعف وتفكك واسترخاء بسبب أزمة حكم تعصف بالنظام السائد فيه.
وفي ليلة مباركة، وبين الركن والمقام، أو بين زمزم والمقام يبايع الإمام المهدي ال313‍ رجلا، ويلتقي الإمام المهدي أمرا إلهيا بالظهور، فيظهر بالفعل، وتبدأ الآيات والمعجزات والعلامات المتزامنة مع ظهوره بالظهور.
وبمدة محدودة يبسط الإمام المهدي سلطانه على منطقة مكة ويبايعه أهلها، وينضم إلى جيشه عشرة آلاف مقاتل منهم، ثم يولي على مكة أحد أصحابه، ويتوجه إلى المدينة، قال الإمام الباقر: (يبايع القائم بمكة على كتاب الله وسنة رسوله، ويستعمل على مكة، ثم يسير نحو المدينة فيبلغه أن عامله على مكة قد قتل، فيرجع إليهم، فيقتل المقاتلة ولا يزيد على ذلك).
ثم ينطلق فيدعو الناس بين المسجدين إلى كتاب الله وسنة رسوله والولاية لعلي بن أبي طالب والبراءة من عدوه.. (راجع الحديث رقم 834)، ويبسط الإمام المهدي سلطانه على المدينة المنورة، ويبايعه أهلها فيقيم فيها ما يشاء، ثم يخرج متوجها إلى العراق، وعندما يسير المهدي باتجاه العراق يكتب السفياني لأهل المدينة (إن لم تقتلوه) أي والي الإمام المهدي لأقتلن مقاتلكم، ولأسبين ذراريكم)، فيقتلونه فيأتي الخبر المهدي، فيرجع إليهم، ويقتل قريش، حتى لا يبقى منهم إلا أكلة كبش..). (الحديث 835)، ويرتب الإمام المهدي أمور المدينة، ويتابع استعداداته للذهاب إلى الكوفة.
آية الخسف أوضح علامات ظهور الإمام المهدي وأدلها عليه:
يسمع المسلمون كلهم بظهور الإمام المهدي، وبمبايعته بين الركن والمقام وبإخضاعه مكة لسلطانه، ومبايعة أهلها له، وأنه قد كون جيشا من أصحابه وممن اتبعه من أهل مكة قوامه عشرة آلاف مقاتل وأن جيش المهدي ينوي دعوة الناس بين المسجدين، ثم الاتجاه إلى المدينة المنورة لإخضاعها لسلطانه أيضا.
ويسمع السفياني ما سمعه الناس، فيجن جنونه، ويجهز جيشا عظيما من خيرة رجاله، ويولي قيادة هذا الجيش لأحد أقربائه (سفياني آخر) ويأمره بأن يتوجه إلى مكة وأن يقضي بكل العنف والقسوة والشدة على الإمام المهدي وحركته، ويتوجه جيش السفياني إلى الحجاز بالفعل، ويسمع المسلمون كلهم بهذا الجيش، يصل جيش السفياني إلى الحجاز، ويعتقد أنه لم يبق بينه وبين القضاء على الإمام.
المهدي، يخسف الله الأرض بذلك الجيش فلا ينجو منه إلا اثنان أحدهما يبشر بالخسف، والآخر يخبر السفياني بما حدث، هناك يتيقن المسلمون أن الإمام المهدي قد ظهر بالفعل، وأن السفياني هو عدو الله الذي حذر منه رسول الله، فتفيض عواطفهم الدينية نحو الإمام المهدي فالخسف آية ظهور يعلمها الخاصة والعامة، والسفياني آية ظهور أخرى، ونتيجة للخسف بجيش السفياني يتلقى ضربة معنوية قاتلة، ويبدأ نجمه بالأفول السريع، وترتفع الروح المعنوية لأنصار الإمام المهدي، ويوقنون بأن الله معه، وأن كل ما أخبرهم به رسول الله من أنباء الغيب حق لا ريب فيه.
المرحلة السابعة: الذهاب إلى العراق، وإنشاء قاعدة للعمليات، واتخاذ الكوفة عاصمة له
بعد أن يخضع للإمام المهدي مكة والمدينة وما بينهما لسلطانه، يتجه إلى العراق وإلى الكوفة بالذات، وقد روى الإمام الباقر: (أن الإمام المهدي يدخل الكوفة، وفيها رايات ثلاث قد اضطربت، فتصفو له، ويدخل حتى يأتي المنبر فيخطب فلا يدري الناس ما يقول من البكاء)... (الحديث رقم 838).
وروى الإمام الباقر أيضا: (كأني بالقائم على نجف الكوفة قد سار إليها من مكة في خمسة آلاف من الملائكة جبرئيل عن يمينه، وميكائيل عن شماله والمؤمنون بين يديه وهو يفرق الجنود في البلاد. (الحديث رقم 836). وروى الإمام الباقر أيضا (بأن الكوفة ستكون عاصمته... ومنها يظهر عدل الله، وفيها يكون قائمه، والقوم من بعده، وهي منازل الأنبياء والأوصياء والصالحين)...
(الحديث رقم 939).
لماذا اختار الإمام المهدي العراق قاعدة للعمليات والكوفة عاصمة له؟
لأن العراق نقطة تجمع كبرى لشيعة أهل بيت النبوة، ففيه أعوانه وأنصاره ولأن العراق مجاور لبلاد الشرق / فارس وما حولها، تلك البلاد التي تضم نخبة.
شيعة أهل بيت النبوة، ولأن في إيران آنذاك حكم موالي لأهل بيت النبوة وجند مجندة للمهدي وهم حملة الرايات السود، ولأن الكوفة عاصمة أبيه التي شهدت انتصار الحق وهزائمه، ويريدها الإمام المهدي أن تشهد انتصار الحق الأعظم، وهزيمة الباطل الساحقة، ثم إن الإمام المهدي يتصرف بتوجيه رباني، وبعهد من رسول الله.
المرحلة الثامنة: قاعدة الإمام المهدي وقيادة عملياته العسكرية
يفهم من الأحاديث النبوية، ومن أحاديث أئمة أهل بيت النبوة، بأن الإمام المهدي سيجعل من مدينة الكوفة قاعدة له، ومنطلقا لأعماله الحربية، ومقرا لقيادة عملياته العسكرية، فمنها يسير الجيوش، ومنها يصدر أوامره إلى أنصاره في مختلف البلاد.
القضاء على السفياني وحركته:
يبدو من الأحاديث بأن السفياني سيخطط للاستيلاء على كافة البلاد العربية والإسلامية وتكوين امبراطورية أموية تسخر كافة طاقاتها ومواردها لإجهاض حركة الإمام المهدي والقضاء عليه، وتنفيذا لهذا المخطط يسير السفياني سراياه وجيوشه إلى فلسطين والأردن وسوريا والعراق والجزيرة، ويشتبك عسكريا مع الأتراك ويكتب إلى الإيرانيين للدخول في طاعته وإلا غزاهم!
وعندما يعلم السفياني بظهور الإمام المهدي ومبايعة أهل مكة وبعزم المهدي على المسير إلى المدينة، ومنها إلى العراق، عندها يجن جنون السفياني ويجهز جيشا كبيرا من خيرة قواته، ويأمره بالزحف على الحجاز والقضاء على المهدي وحركته، ولكن الله تعالى يخسف الأرض بذلك الجيش ولا ينجو منه غير اثنين، ويتلقى السفياني بهذا الخسف ضربة معنوية ساحقة تقصم ظهره عمليا، وتنهي أمره، وتبدأ جيوشه الأخرى بالتراجع، ويفقد بعضها الاتصال بقيادته، وتتفكك قواته، وتنهار روحها المعنوية تماما، بالوقت الذي تكون فيه قوات الإمام المهدي وأنصاره يطاردون بقايا جيوش السفياني، ويبدو أن السفياني قد يسلم قيادة أكثر من.
جيش من جيوشه إلى أمويين (سفيانيين)، وأن الناس سيطلقون مصطلح السفياني على كل قائد من قادة تلك الجيوش، لكن القادة الأمويين يخضعون في النهاية لقيادة كبيرهم وعميد البيت الأموي ووارث أحفاده وهو المعروف بالسفياني وهو المقصود بالأحاديث النبوية، وتشير الأحاديث النبوية، وأحاديث أئمة أهل بيت النبوة، بأن الإمام المهدي وأنصاره سيقضون على حركة السفياني، وعلى أنصاره، وأن السفياني نفسه سيبايع الإمام المهدي، ثم ينقض البيعة، وأن الإمام المهدي سيقتله. (راجع الأحاديث رقم 346 و 348 و 349 و 350 و 353 والحديث رقم 658).
فتح كافة حصون الضلالة والقضاء على الجبارين وأبنائهم وتطهير الشرق من الظلمة وأعداء الله وتبين الأحاديث النبوية، وأحاديث أئمة أهل بيت النبوة بأن الإمام المهدي بعد قضائه على السفياني وحركته وأثناء ذلك سيتابع عملياته الحربية ويفتح كافة حصون الضلالة في الشرق خاصة العالم الإسلامي، وسيطهر العالم الإسلامي من أعداء الله ومن أئمة الضلالة، (راجع الأحاديث أرقام 79 و 340 و 23 و 479 ج 1 و 238). وستكون أول ألويته موجهة إلى الترك. ويبدو واضحا بأن الإمام المهدي سينجح بتوحيد العالم الإسلامي، كله، وإخضاعه لسلطانه، وخلال سعي الإمام المهدي لتوحيد العالم الإسلامي يعقد هدنة مع الروم تدوم سنين أو المدة التي يستغرقها الإمام المهدي لتوحيد العالم الإسلامي وإخضاعه لسلطانه. (راجع الحديث رقم 223 و 223 ج 1). ويبذل المهدي جهده لاستمرار هذه الهدنة، ويتغاضى في البداية عن نقض الروم لتلك الهدنة، لأن غاية المهدي كما يبدو ستكون منصبة على توحيد العالم الإسلامي من خلفه قبل الدخول بحرب شاملة مع الروم، ويفهم من الأحاديث والروايات المتعددة بأن الإمام المهدي سينجح بتوحيد الأمة الإسلامية قبل أن يصطدم على نطاق واسع مع الروم، وتظهر تلك الروايات الإمام المهدي بصورة القوة الوحيدة في العالم الإسلامي، فله وجود في العراق والجزيرة، والشام وفلسطين والأردن وإيران، واليمن، ويتصرف في هذه المناطق تصرف السلطان الأوحد. راجع عصر الظهور ص 207 وما فوق، وأن التواجد الملحوظ للروم في ما بعد ناتج عن غزو شامل يقوم به الروم للعالم الإسلامي بعد أن تفهموا حجم المخاطر التي ستشكلها دولة الإمام المهدي على أنظمة الحكم السائدة في بلاد الغرب.
سعي الإمام المهدي لتجنب المواجهة مع الغرب:
بعد أن يوحد الإمام المهدي العالم الإسلامي، ويقضي على جبابرته، ويفتح كافة حصون الظلام فيه يبدأ الإمام المهدي بالاستعداد لمواجهة الغرب لفتح حصون الضلالة فيه، والقضاء على جباريه وعلى حكم الظلمة فيه، ونشر الإسلام في بلاد الغرب.
ويبدو أن خطة الإمام المهدي ستتركز على عزل ظالمي الغرب عن شعوبهم، وإقناع شعوب الغرب بأنه لا مصلحة لها بالدخول في حرب مع الإمام المهدي، لأن الإمام المهدي مهمته أن ينقذ العالم من قبضة الظالمين الجبابرة، وأن يطهر الأرض من وجودهم، وأن الله والمهدي والشعوب المظلومة يقفون في معسكر واحد ضد الظلمة.
وعلى هذا وخدمة لهذا التوجه وبتوجيه إلهي يقوم الإمام المهدي باستخراج تابوت السكينة من بحيرة طبرية، ويستخرج النسخة الأصلية من الإنجيل والنسخة الأصلية من التوراة، ويعلن الإمام المهدي وبكل وسائل الإعلان عن حيازته لهذه الأدلة المادية القاطعة، والبراهين الساطعة، ويلوح بعصا موسى وبحيازته لها، وبكافة الآيات والمعجزات التي خصه الله تعالى بها، ويفاخر بأن عيسى بن مريم وزيره وتابعه ومن يصلي خلفه، وسيحاول الإمام المهدي أن يفتح أبواب الحوار بينه وبين العالم الغربي، وأن يتجنب الحرب معه ما وسعه الجهد طمعا بتجنيب شعوب العالم الغربي ويلات حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل. (راجع أحاديث استخراج التابوت، والتوراة والإنجيل ذوات الأرقام 203 و 226 و 225 و 227).
وخدمة لهذا التوجه يعقد الإمام المهدي معهم هدنا متعددة، ويغض الطرف عن نقضهم لتلك الهدنة، وتجري مبادلات تجارية بين دولة المهدي والعالم.
الغربي حيث يختلف التجار المسلمون إلى بلادهم، وتجار الغرب إلى العالم الإسلامي، ويحاول الإمام المهدي أن يفتح أبواب الحوار بين الشرق والغرب وأن يوظف حالة الهدنة لصالح السلام الهادف. (راجع الحديث رقم 224 ج 1).
المواجهة المسلحة مع الغرب:
يعقد الإمام المهدي مع الغرب هدنة، (الحديث رقم 221)، فينقضوها، ثم يعقد معهم أربع هدن فينقضونها أيضا، (الحديث رقم 222)، ويعبر الإمام المهدي عشر سنين، (الحديث رقم 223 و 224)، ويفسر قادة الغرب رغبة الإمام المهدي بتجنب المواجهة العسكرية تفسيرا خاطئا، أو يكتشفون ما يرمي إليه الإمام المهدي، ويدركون خطورة الرجل، وقدرته على التأثير على شعوبهم، وقوة حجته ونجاعة الأدلة المادية التي يحوزها من تابوت وتوراة وإنجيل وعصا موسى، والتأثير الساحق لوجود المسيح ابن مريم معه، لذلك يتناسى أئمة الضلالة في الغرب كافة خلافاتهم، ويوحدون جيوشهم، ويسلمون قيادتهم لأحد ملوكهم ثم يتفقون على شن حرب شاملة على دولة الإمام المهدي، ويستغلون هدنهم مع المهدي لإتمام استعداداتهم العسكرية، ويبدو أن أئمة الضلالة في الغرب يجهزون جيشا قوامه 960 ألف مقاتل، وثمانمائة سفينة. (راجع الحديث رقم 223 والحديث رقم 232))، ويبدو أيضا بأن الطرفين سيتواجهان في أرض أفريقيا، (الحديث رقم 232)، وأن الكفة سترجح لصالح المهدي وجنده، وأن قادة الغرب سينسحبون لإعادة تنظيم قواتهم، ثم يقبلون حيث سترسو سفن الروم الغازية من صور إلى عكا عندئذ تبدأ الملاحم. (راجع الحديث رقم 224)، ويبدو أن نصارى المنطقة سيكتشفون خطورة الإمام المهدي، وستجري بين قياداتهم وقيادة جيوش الغرب اتصالات، وأن النصارى سيقدمون مساعدة للجيوش الغربية الغازية، (الحديث رقم 235).
الملحمة العظمى بين الإمام المهدي وجنده وبين الروم والترك واليهود:
يبدو من الأحاديث النبوية أن قادة الغرب سيتحالفون مع الترك ومع اليهود.
ضد الإمام المهدي، (راجع الحديث رقم 215 و 216 و 217). وأن القوات المتحالفة ستحصل على موضع قدم لها في أكثر من موقع، وتشتبك مع المسلمين في أكثر من جهة، ربما طمعا بإجبار الجيش الإسلامي على تشتيت قواه، ويبدو أيضا بأن القوات المتحالفة قد جندت جيشا عظيما لم ير الشرق في تاريخه له مثيلا فقد روي عن النبي قوله... ثم يأتيكم في ثمانين غاية تحت كل غاية اثني عشر ألفا. (الحديث رقم 223 والحديث رقم 226)، ويبدو أن قوات التحالف ستكون مصممة على هزيمة الإمام المهدي وجنوده، لأن الأوامر المعطاة لقيادة تلك القوات بالقيام بحرق المراكب والسفن بعد رسوها في ساحل الشام ليشعر الجيش المتحالف أنه يقاتل دفاعا عن نفسه ويضطر إلى الثبات والاستبسال في القتال.
(راجع الحديث رقم 236)، وينجح الغزاة ويستولون بالفعل على أكثر بلاد الشام برها وبحرها، ويخربون بيت المقدس ولا يبقى من بلاد الشام بأيدي المسلمين إلا دمشق والمقسق وهو جبل بأرض الشام، ويبدو أن الإمام المهدي يطلب من عماله على بقية الولايات الإسلامية إمداده، وأن هذه الإمدادات ستبدأ بالوصول، فيصل من اليمن 70 ألف مقاتل، ويحاول الإمام المهدي أن يجمع الجزء الأكبر من قواته بالشام بعد أن تيقن من أن القوة الضاربة لقوات التحالف في الشام، ويبدو أن المهدي ستكون قيادته الميدانية في أنطاكية، وهنالك ستنشب معركة كبرى بين الطرفين يستشهد فيها ثلاثون ألف مسلم منهم سبعون أميرا من أولياء الله، ويتدفق الدم بغزارة من الطرفين حتى تخوض الخيل بالدم. (راجع الحديث رقم 235)، ويصب الله غضبه على الروم فيهزمون هزيمة ساحقة، ويبدو أن هذه المعركة وذيولها ستقصم ظهر الروم وحلفائهم لأنهم عندما قرروا غزو البلاد الإسلامية جندوا كافة طاقاتهم، ورجالهم القادرين على حمل السلاح، وتركوا بلادهم مفتوحة.
وقد خسر الروم بهذه الملاحم قرابة ستمائة ألف مقاتل عدا الجرحى والمفقودين، ويبدو أن الإمام المهدي سيعرف حقيقة الوضع العسكري في بلاد الغرب بدليل أنه وبعيد هذه الملاحم بقليل، يجهز ألف وخمسمائة مركب، لتحمل جيشه المؤلف من أربعة أجناد وهم جند المشرق، وجند المغرب، وجند الشام، وجند الحجاز لغايات غزو بلاد المغرب المفتوحة أمامه. ويبدو بأن المحن، واليقين سيصقلا جيش الإمام المهدي حيث تصف الأحاديث ذلك الجيش بأنه متماسك، ومؤمن، ومتعاضد، وكأن أفراده أولاد رجل واحد، وأن الله سيذهب عنهم الشحناء والتباغض من قلوبهم، فيسيرون من عكاء إلى رومية، ويسخر الله لهم الريح كما سخرها لسليمان.
وتؤكد الأحاديث النبوية بأن هذا الجيش سيفتح بلاد الغرب حتى يأتون مدينة يقال لها قاطع على البحر الأخضر المحدق بالدنيا ليس خلفه إلا أمر الله. (راجع الحديث رقم 128)، وتركز الأحاديث على فتح القسطنطينية خاصة، (راجع الحديث رقم 414 و 408)، ويفتح الصين أيضا وجبال الديلم (الحديث رقم 663)، ولا يمر بحصن إلا فتحه. (الحديث 661 رقم).
ولا تتوقف معارك الإمام المهدي حتى يملك مشارق الأرض ومغاربها:
وتؤكد الأحاديث النبوية أن الإمام المهدي سيحمل سيفه، ولن يرميه حتى يملك العرب، (الحديث رقم 68)، ويملك مشارق الأرض ومغاربها: (يفتح له ما بين المشرق والمغرب) (الحديث رقم 127)، (يفتح الله على يديه مشارق الأرض ومغاربها)، (الحديث رقم 155) ويبلغ المغرب والمشرق، (الحديث رقم 158)، ولا يبقى على وجه الأرض إلا من يقول لا إله إلا الله، (الحديث رقم 309)، ويحكم بين أهل المشرق والمغرب، (الحديث رقم 361)، ويشمل ملك المهدي العالم كله، (الحديث رقم 858)، ويفتح الله له شرق الأرض وغربها، (الحديث رقم 959).
نزول المسيح إلى الأرض:
لا خلاف بين اثنين من المسلمين على حتمية نزول السيد المسيح، وحتمية صلاته خلف الإمام المهدي، وحتمية تأمر الإمام المهدي عليه، وعلى كونه أحد وأبرز وزراء الإمام المهدي، لكننا لا نعرف على وجه الجزم واليقين بأي مرحلة من المراحل سينزل السيد المسيح، ويصلي خلف الإمام المهدي، ويباشر مهام وزارته في حكومة الإمام المهدي، وإن كنا نرجح أن يكون نزول السيد المسيح، بعد دحر جيوش غزاة العرب، وخلال فترة استعدادات الإمام لفتح حصون الضلالة في العالم الغربي، لأن عقلية الغرب آنذاك ستكون أكثر استعدادا وقابلية لسماع ما يقوله الإمام المهدي، بعد أن تحطمت القوة العسكرية الضاربة في الغرب، وبعد فشل تحالف أئمة الضلالة فيه..
******************
الفصل الثامن
دولة الإمام المهدي هي دولة آل محمد، وستكون آخر الدول
نشوء دول التاريخ السياسي الإسلامي وحرمان آل محمد من تكوين دولة خاصة بهم:
لو استعرضنا تاريخ دولة الخلافة التاريخية، والدول التي تعاقبت على حكم الأمة الإسلامية لتبين لنا بوضوح تام أن كافة الجماعات والإفراد الذين عرفوا رسول الله، أو آمنوا به، أو تظاهروا بهذا الإيمان قد استفادوا من الملك العريض الذي بناه رسول الله، فنالوا نصيبا من الجاه، ونصيبا من النفوذ وبعض الأفراد والجماعات، استولوا على ملك النبوة، وكونوا في هذا الملك دولا خاصة بهم، تحمل أسماءهم، أو أسماء عائلاتهم، وعللوا ذلك بمبررات مختلفة وغير مقنعة، ولكن تلك المبررات جميعا تستند عمليا على القوة والقهر وكثرة الأتباع وتسخير موارد دولة الخلافة لتثبيت دعائم تلك الدول بعد إخراج تلك الموارد عن مصارفها الشرعية.
والفئة الوحيدة التي لم تستفد من ملك النبوة، ولم تنل نصيبا من جاه ولا نفوذ هذا الملك، ولم تتمكن من تكوين دولة خاصة بها هم عترة النبي أهل بيته أو آل محمد، مع أنهم الأقرب للنبي والأولى به!!! وأعظم من ذلك أن الذين استولوا على هذا الملك النبوي حولوه إلى سوط من عذاب جلدوا به عترة النبي أهل بيته.
وساموهم فيه سوء العذاب!!!
الإمام الحسن العسكري يعلل ذلك:
علل الإمام الحسن العسكري أسباب نقمة مؤسسي وقادة دولة الخلافة التاريخية على آل محمد، وحرمانهم من تكوين دولة خاصة بهم، ويسوق الإمام العسكري الأمويين والعباسيين كمثال متاح على ذلك فيقول وبالحرف: (قد وضع بنو أمية وبنو العباس سيوفهم علينا لعلتين:1ـ أحدهما أنهم كانوا يعلمون أنه ليس لهم في الخلافة حق، فيخافون من ادعائنا إياها وتستقر في مركزها،2ـ وثانيهما أنهم قد وقفوا من الأخبار المتواترة على أن زوال ملك الجبابرة والظلمة على يد القائم منا، وكانوا لا يشكون أنهم من الجبابرة والظلمة، فسعوا في قتل أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، طمعا منهم في الوصول إلى منع تولد القائم أو قتله، فأبى الله أن يكشف أمره لواحد منهم إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون). (راجع الحديث رقم 1262 ج 4 والمراجع المدونة تحته). وتحليل وتعليل الإمام العسكري من القوة والوضوح والاقناع بحيث أنه لا يحتاج إلى بيان.
مبررات تقدم الجميع على آل محمد وقيام دول الجميع إلا دولة آل محمد!!
1 ـ ورث الخليفة الأول ملك النبوة، وكون دولة فعلية لنفسه ولرهطه بني تيم بحجة أنه صاحب النبي، ووالد زوجته، وأنه من قريش عشيرة النبي ولما قال له الإمام علي، بأنه وأهل البيت أولى برسول الله حيا وميتا، والرسول مثل شجرة، عترته أهل بيته فروعها وأغصانها، وقريش ظلالها، وأشار الإمام إلى الأحاديث النبوية التي صدعت بخلافته للنبي وبالترتيب الإلهي لعصر ما بعد النبوة. قال الخليفة الأول بأن الخلافة شأن خاص بالمسلمين وأن المسلمين قد اختاروه بالشورى، وأجمعوا عليه، وما ذكره الرسول في غدير خم ومناسبات متعددة حول ولاية الإمام علي من بعده ومكانة أهل بيت النبوة، وآل محمد، ليست ملزمة، لأنها صادرة من الرسول كبشر وليست وحيا إلهيا!! وأن الخلافة مرهونة بشورى.
فأجابهم الإمام بأن الرسول لا ينطق عن الهوى، وهو يتبع ما يوحى إليه، ولا يمكنه أن يتقول على الله، أو يعلن أمرا بهذه الخطورة دون الموافقة الإلهية، ثم لنفترض أن الأمر شورى بين المسلمين فآل محمد وعترته أهل بيته من المسلمين، بل هم الناصية، وعنوان الفخار، فكيف تكون الخلافة دون استشارتهم، لقد كانوا غيبا عن هذه الشورى؟!
فقالت بطون قريش التي كانت تقف خلف الخليفة بكل كثرتها وخيلائها وفخرها ونفوذها: يا علي قد جادلتنا فأكثرت جدالنا، فإما أن تبايع أنت وعترة النبي أهل بيته وإما أن تقتلون!! فالتفت الإمام ولم يجد له معينا إلا أهل بيته، فضن بهم عن الموت، فسلم لدولة بني تيم وبعد ستة شهور بايع وبايع معه أهل البيت.
2 ـ ونظرا للجهود المضنية التي بذلها عمر بن الخطاب بتوحيد بطون قريش وحلفائها، وبإقامة دولة البطون الأولى عهد الخليفة الأول له بالخلافة فكانت مبررات استخلاف الثاني هي نفس مبررات استخلاف الأول وزادت عنها بعهد الأول وهكذا نشأت دولة فعلية لبني عدي وتقدم آل تيم وآل عدي على آل محمد.
3 ـ والخليفة الثاني على فراش الموت عهد بالخلافة عمليا لعثمان بن عفان وهو حليف الأول والثاني ووزيرهما، وصاحب الجهد الأعظم بإقامة دولتهما وهو عميد البيت الأموي وكانت مبررات توليته هي نفس مبررات الخليفتين الأول والثاني، والفارق أن الخليفة الثالث هو زوج ابنة النبي التي ماتت ولم تعقب وليس والد زوجة النبي وأن الثاني عهد إليه، وهكذا قامت عمليا دولة بني أمية ولكن دون إعلان في البداية، وفي مرحلة من مراحل الخليفة الثالث خاطب وزيره مروان بن الحكم المسلمين بقوله: (شاهت وجوهكم تريدون أن تسلبونا ملكنا)!!
4 ـ لما آلت الخلافة إلى الإمام علي بن أبي طالب بنفس الوسائل والطرق التي أوجدتها بطون قريش، ونفس المبررات التي تولى فيها الخلفاء الثلاثة الحكم وقفت بطون قريش وقفة رجل واحد، ورفضت خلافة الإمام علي ثم قتلته، ثم رفضت خلافة ابنه ولم تقبل إلا بعد هزيمة آل محمد وعودة منصب الخلافة للبطون. لأنها لا تقبل بحكم آل محمد وترفض رفضا قاطعا أن تكون لهم دولة!!.
ولا مانع لدى بطون قريش من أن تتكون دولة للموالي، وللأنصار، ولأي مسلم لكنها لا تقبل بدولة آل محمد، قال الخليفة الثاني وهو على فراش الموت: (لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا لوليته واستخلفته) وسالم هذا من الموالي ولا يعرف له نسب في العرب، فالخليفة الثاني يتمنى حياة الموالي الأموات ليوليهم الخلافة، ويتجاهل وجود آل محمد تجاهلا تاما من الناحية العملية، ولا يرى أن فيهم من هو أهل لتولي الخلافة)!!!
5 ـ ومع أن معاوية بن أبي سفيان وأبوه وأخوته هم الذين قادوا جبهة الشرك وقاوموا رسول الله وحاربوه طوال مدة 21 عاما، ولم يسلموا إلا بعد أن أحيط بهم فاضطروا مكرهين للتلفظ بالشهادتين إلا أنه وبعد أن وطد له الخلفاء الثلاثة استولى على منصب الخلافة بالقوة والقهر وأسس دولة خاصة بآل أبي سفيان وهم أعداء الله ورسوله الألداء وحجة معاوية ومبررات خلافته أنه القوي الغالب، وأنه صحابي وأنه مسلم، وأنه من عشيرة النبي، وأن أخته هي إحدى زوجات النبي!!
6 ـ بعد أن سقطت دولة آل أبي سفيان آلت الخلافة إلى ذرية عدو الله وعدو رسوله الحكم بن العاص، الذي لعنه رسول الله ونفاه وحرم عليه أن يسكن معه في المدينة، وحذر المسلمين من شروره ومع هذا كون دولة خاصة بآل الحكم بن العاص بحجة أنه أموي، وأنه أولى بمعاوية وأنه من قريش عشيرة النبي!! وصار المسلمون رعايا لهذه الدولة كما كانوا رعايا للدولة التي سبقتها، وبايعوا خلفاءهم تماما كما بايعوا الذين قبلهم.
7 ـ وجمع العباسيون القوة، وأعدوا وسائل الغلبة، ورفعوا شعارات آل محمد، فاستولوا على منصب الخلافة بالقوة والقهر وكونوا دولة خاصة بآل العباس بحجة وبمبررات مفادها أنهم أحفاد العباس عم النبي، ولما قال لهم أهل بيت النبوة، بأننا أحفاد النبي نفسه وأحفاد عم النبي الشقيق، وأنتم رفعتم شعاراتنا، وتعرفون حقنا، وأننا الأولى منكم، وكنتم تتفرجون علينا ونحن نقتل ونسام سوء العذاب!! فيغضب العباسيون ويصبون على آل محمد فيضا جارفا من النقم والقتل والعذاب، وكأنه ليس بين العباسيين وبين عترة النبي أية قرابة!!
8 ـ وتتفكك الدولة العباسية، ويغلب كل وال على ولايته، ويؤسس له ولأسرته دولة خاصة به، بحجة أنه مسلم، وأن الخليفة غير قادر على إدارة شؤون الخلافة، وليس في تلك الولاية من هو أصلح ولا أنسب منه لقيادة الرعية.
9 ـ ثم تطلع عائلة تركية، وتجمع حولها أسباب القوة وتستولي بالغلبة على كافة أقاليم العالم الإسلامي، وتخضع جميع المسلمين لسلطانها ويعلن كبير العائلة التركية (العثمانية) بأنه خليفة رسول رب العالمين لأنه لا يوجد خليفة، ولا يوجد من هو أنسب للخلافة منه!!
ولأنه لا بد للمسلمين من خليفة!! ولأنه لا فرق بين عربي وعجمي!! وأن الأتقى هو الأكرم عند الله!! بمعنى أن كبير الأسرة العثمانية هو الأكرم عند الله!!
والخلاصة أن العثمانيين قد تجاهلوا وجود أهل بيت النبوة كتجاهل الذين من قبلهم، وتقدموا على أهل البيت كما تقدم الذين من قبلهم، وقبل المسلمون بذلك أو تظاهروا بالقبول كما فعل آباؤهم من قبل. وبعد قرون تسقط دولة آل عثمان، وبسقوطها يسقط نظام الخلافة التاريخية، ولكن ثقافة تلك الخلافة ومناهجها التربوية والتعليمية قد استقرت نهائيا في النفوس، فالملك لمن غلب، والتبريرات الشكلية ما هي إلا ديكور. فرفعت الشرعية الإلهية من واقع الحياة، وحل محلها التغلب والقوة، وتفسحت أشداق المطامع، وأبواب ومنافذ التنافس، وصار كل قوي يعتقد بأنه الأحق بالقيادة، فتولى الأمر غير أهله، وأهله ينظرون، وقيل لكل إمام من أئمة بيت النبوة، خاصة ولآل محمد عامة، إما أن تقبلوا ما يرتبه الظلمة الجبارون أو تموتوا!! فآثر أهل بيت النبوة الحياة لا حبا فيها لأن الجبابرة قد أفسدوها بالفعل، ولكن لينقلوا ما جرى للأجيال اللاحقة، وليكشفوا التزييف والتضليل، لعل جيل من الأجيال ينصفهم، ويفهم عدالة قضيتهم، ويفهم حجم الجريمة التي ارتكبها المجرمون بحق الله ورسوله وأهل بيته. وخلال قرون العذاب والألم كان أهل بيت النبوة يشكون بثهم وحزنهم إلى الله.
العلم الإلهي المسبق لحركة الأحداث والوعد الإلهي القاطع بإقامة دولة آل محمد:
الله سبحانه وتعالى يعلم بحركة الأحداث قبل وقوعها بداية وتفاصيل ونهاية فما من أمة من الأمم إلا ويعلم الله تفاصيل وكليات الحركة المستقبلية لأفرادها فردا فردا، ولجماعتها جماعة جماعة، ويعلم الخط العام الذي ستسير عليه الأمة كلها من البداية وحتى النهاية، ولأن الله رحيم بعباده، فإنه يتولى بتوجيهاته الإلهية ترشيد الحركتين الخاصة بكل فرد وجماعة، والعامة التي تخص الأمة كلها، لكنه تعالى لا يجبر الفرد، ولا يجبر الجماعة، ولا يجبر الأمة على فعل شيء، لأنه لو وقع الإجبار لما كان للثواب أو العقاب معنى، ولاختلت قواعد الابتلاء الإلهي ونواميسه، والله سبحانه وتعالى يريد لهذه القواعد والنوامس أن تشق طريقها بموضوعية بدون تأثيرات، ليكون الثواب عادلا والعقاب عادلا ولتتكون المقومات الموضوعية للحكم الإلهي العادل.
لقد أكمل الله دينه، وأتم نعمته، ورضي الله بالإسلام دينا للعرب ولكل خلق الله، ونجح الرسول بتحويل العرب من دين الشرك إلى دين الإسلام، وبإقامة دولة إيمانية وحدتهم ولأول مرة في التاريخ بكلفة بشرية لا تكاد أن تذكر، وبلغهم الرسول كتاب الله كما أوحي إليه، وبينه لهم كما أمره، ولم يترك الرسول أمرا من أمور الدنيا والآخرة فيه خير إلا ورغبهم فيه، ولا أمرا فيه شر إلا وحذرهم منه، واتسعت رحمة الرسول ورأفته بالجميع، ولأن الرسول بشر فسيموت حتما، وحتى لا تفسد الأمور بعد موته، وحتى لا ينهار ما بناه، وضع الله سبحانه وتعالى ترتيبات إلهية لعصر ما بعد النبوة، فاختار الله اثني عشر إماما ليحكموا الأمة من بعد النبي وحتى قيام الساعة، فأهلهم وأعدهم إعدادا إلهيا للقيادة والمرجعية بحيث يكون كل واحد منهم هو الوارث الوحيد لعلمي النبوة والكتاب في زمانه، وهو المرجع الأوحد ليقول الناس في زمانه بحق، أنه الأعلم والأفضل والأنقى والأقرب لله ولرسوله، وأمر الله رسوله أن يعلن للأمة أسماء القادة أو الأئمة أو الخلفاء أو النقباء والأمراء الذين اختارهم الله، ولأن الرسول مأمور، ويتبع ما يوحى إليه، فقد سمى للأمة قادتها من بعد وفاته، وتسعة منهم لم يولدوا بعد، وأمر الله رسوله بأن يعلن للناس بأن طاعة كل واحد من الاثني عشر هي طاعة لله، ولرسوله، وموالاتهم هي موالاة لله ولرسوله، ومعاداتهم هي معاداة لله ولرسوله، والخروج على أي واحد منهم هو خروج على الله ورسوله، وأكد الرسول كل ذلك وبكل وسائل الإعلان والبيان وليحكم الله أمره ويقيم حجته أمر الله رسوله بأن ينصب أول أولئك الأئمة وليا للمؤمنين والرسول حيا، وأن يأخذ له البيعة من المسلمين، كافة، وفي غدير خم أعلن الرسول أن حجته تلك ستكون حجة الوداع، وأنه سيموت بعد عودته إلى المدينة بقليل حيث سيمرض، ويموت في مرضه، وأنه لن يلقى المجتمعين بعد عامهم ذلك، وسألهم من وليكم، ومن مولاكم، وهل حقيقة أني وليكم ومولاكم؟ فتعجب المسلمون وأجابوه بصوت واحد أنه الولي، وأنه المولى، فقال الرسول: من كنت وليه فهذا علي بن أبي طالب وليه، ومن كنت مولاه فهذا علي مولاه، ولخص الرسول للمسلمين الموقف بقوله: (تركت فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبدا كتاب الله وعترتي أهل بيتي) حديث الثقلين بصيغة المتعددة، ثم عمم عليا بن أبي طالب بعمامة، وأجلسه، وطلب من الجميع أن يبايعوه، وبايعه الجميع وعلى رأسهم الخلفاء الثلاثة الأول وعرف المسلمون أن الخليفة الأول هو علي بن أبي طالب وأن الأحد عشر الآخرين من صلب علي ومن ذرية النبي، وأن آخرهم وخاتمهم محمد بن الحسن المهدي المنتظر، وتفرق المسلمون وعادوا إلى منازلهم على هذا الأساس.
الانقلاب والردة على الأعقاب وتكوين حزب العدالة!!
ذهلت بطون قريش من هول ما سمعت، فآل محمد وأهل بيته هم الذين قتلوا أبناء بطون قريش أثناء حربها للنبي، وهم من بني هاشم، ثم إن محمدا من بني هاشم، فأي عدل هذا الذي يخص الهاشميين بالنبوة والخلافة إلى قيام الساعة، ويحرم بقية البطون من الشرفين معا!! إنه لمن المستحيل أن يأمر الله بذلك!! أو يرتب ذلك!! إنها مجرد أقوال لمحمد!! ومحمد بشر يتكلم في الغضب والرضى، ولا ينبغي أن تحمل كل أقواله على محمل الجد!! وحمل أقوال النبي المتعلقة بالخلافة من بعده على محمل الجد سيلحق ضررا فاحشا ببطون قريش، ويجحف بحق المسلمين!!! والأصوب والأنسب والأوفق أن تكون النبوة لبني هاشم لا يشاركهم فيها أحد، والدولة والخلافة لبطون قريش لا يشاركهم فيها هاشمي قط، ووقف المنافقون وقفة رجل واحد مع بطون قريش لأن المنافقين يكرهون الظلم، ويحبون العدالة!!! ووقفت المرتزقة من الأعراب مع بطون قريش أيضا، ووقفت كل العناصر التي حاربت النبي حتى أحيط بها فاضطرت مكرهة لإعلان إسلامها مع بطون قريش، ووقف طلاب الدنيا مع بطون قريش، وتكون من الناحية العملية حزب كبير يضم الأكثرية الساحقة من المسلمين، للدفاع عن حقوق البطون، وفي الجانب الآخر يقف النبي وأهل بيته وفئة مؤمنة قليلة العدد لا قدرة لهم على مواجهة هذا التيار الجارف الذي أوجدته عدالة البطون!!!
الله يطلع رسوله على كل ما يجري والرسول يعلن ذلك ويكشف أهل الفتن:
حركة بطون قريش صارت علنية، وغير خافية على أحد، ونوايا البطون مكشوفة للجميع، فالأكثرية الساحقة تعارض بشدة دولة آل محمد بتحريض من بطون قريش ولا بد للإسلام أن يقول رأيه بحركة البطون وأشياعهم، فأوحى الله إلى نبيه بكل ما يجري، وينطلق النبي من دائرة اليقين والوحي ليكشف ما تبيته البطون وليعلن أنها فتنة، وأنها إن نجحت ستحل عرى الإسلام كلها، ويسمى الرسول للمسلمين قادة الفتن كل باسمه، ويبكي الرسول أمام المسلمين مخبرا إياهم بما أوحى الله إليه به، من أنهم سينكلون بأهل بيته من بعده، فيطردونهم ويشردونهم ويقتلونهم تقتيلا، وأنه سيسمون الحسن سبطه وسيقتلون الحسين وأهل بيته في كربلاء شر قتلة، وسيلاحقون أهل بيته ويطاردونه طوال التاريخ، ويتساءل النبي بحزن يدمي قلبه الشريف لم تفعلون ذلك، وهل أستحق هذا منكم؟
وهل هذا هو الأجر الذي تقدمونه لي لقاء هدايتي لكم، وإنقاذكم!!
أهل بيت النبوة والفئة المؤمنة القليلة كانوا موقنين بأن النبي يقول الحق، وينشر ما أوحي إليه من ربه. وأن ما أخبر به النبي واقع لا محالة.
وبطون قريش وقادتها، وحلفاؤها أيقنوا أيضا بأن محمدا قد كشفهم وأنه قد عرف حقيقة نواياهم، وموقفهم الصارم من عترة النبي أهل بيته والمفاجآت التي يعدونها لهم، ومعارضتهم ورفضهم القاطع لدولة آل محمد وكانوا يتوقعون من النبي لأن هذا رأي الأكثرية أن يقوم بإجراء تعديلات جوهرية على ترتيباته السابقة، وأن ينصف!!! بطون قريش فيعلن حقها بالملك من بعده ويعترف بهذا الحق، كما اعترفت له بطون قريش بالنبوة!!! ولكن النبي لم يجر أية تعديلات على ترتيباته السابقة!!! إذا لم يبق أمام زعامة بطون قريش وحلفائها إلا أن تفرض رأي الأكثرية بالقوة، وأن تحول بين دولة آل محمد وبين الظهور، وتقيم بدلا منها دولا لبطون قريش متتابعة لأن أكثرية الناس بعد الإسلام يتبعون قريشا، تماما كما اتبعوها أثناء مقاومتها للنبي وحربها له. والفرق أنهم الآن يتبعونها تحت خيمة الإسلام وكانوا سابقا يتبعونها تحت خيمة الشرك!! ويكفي محمدا والهاشميين أن بطون قريش جميعا ومواليها ومن تعاطف معها من العرب، والمنافقين، والمرتزقة من الأعراب يعترفون بنبوته، ويتلفظون بالشهادتين وهم من حيث المبدأ على دينه، فماذا يريد غير ذلك!!! أما أن يتأمر أحفاده على بطون قريش ومن والاها، وأن يكونوا قادة لها إلى يوم الدين، فالموت أهون على البطون منه وهي لن تقبله حتى ولو اضطرت إلى ترك الدين نفسه!!! وتحددت الخيارات بخيار واحد إما دولة آل محمد وردة البطون ومن والاها عن الإسلام، وأما دولة البطون وبقاء البطون ومن والاها على دين الله بالقدر الذي تراه مناسبا!!! ولقد فهم الرسول في آخر أيامه هذه الحقيقة، وفهمها الإمام علي وأعلنها بأكثر من مناسبة في ما بعد.
وصممت زعامة بطون قريش وقادة النفاق على ذلك، وركبوا رؤوسهم، وأخذوا يتربصون، وينتظرون بفارغ الصبر موت النبي، ليستولوا بالقوة والتغلب وكثرة الأتباع على الملك الذي تمخضت عنه النبوة!!! وليلغوا نهائيا كافة الترتيبات الإلهية المتعلقة بقيادة الأمة طوال عصر ما بعد النبوة، والتي أعلنها النبي، لأن هذه الترتيبات مجحفة على حد تعبير زعامة البطون، ومن المحال أن يأمر بها الله!! إنما هي صادرة عن محمد ومحمد بشر يتكلم في الغضب والرضى!!
وبالتالي فإنها غير ملزمة!! لأن المسلمين أعرف بشؤون دنياهم!! وفضلا عن ذلك فإن القرآن وحده يكفي والقرآن لم يعلن صراحة عما أعلنه النبي!!
كشف حقيقة ما يجري:
الله جلت قدرته على علم تام بما تدبره زعامة البطون، وحلفائها، وعلى علم.
بتحركاتها، وبحجم التغير والضرر الذي ألحقته تلك الحركات. بحالة الانسجام العام الذي كان سائدا قبلها. كانت تحركات البطون علنية، وغير خافية على أحد لأنها كانت مستندة إلى دعم الأكثرية التي حاربت رسول الله قبل الإسلام ثم أسلمت، وكانت زعامة البطون تهدف إلى إلزام الرسول بإحداث تغييرات جذرية على الترتيبات التي أعلنها لقيادة الأمة طوال عصر ما بعد النبوة!! ولكن هذا الوضوح والمعلومات التي عرفها الجميع عن تحركات زعامة البطون كانت تستند إلى الملاحظة والسمع والمشاهدة، وتحركات الرسول وتوجيهاته لا تستند إلى مثل هذه الأمور، ولا تصدر بناء عليها وحدها، لقد كان يعرف عن هذه التحركات كما كان يعرف غيره وأكثر، ولكنه كان ينتظر القول الفصل واليقيني من الوحي الإلهي، وينتظر التوجيهات الإلهية لمواجهة مكر البطون وما تدبره وترمي إليه!! ولم يطل انتظار النبي، فقد جاءه الوحي، وأحاطه علما بكليات وتفاصيل ما تدبره زعامة بطون قريش، ثم أمر نبيه بأن يكشف للجميع، ما يجري الإعداد له في الخفاء، وأن يبين للجميع بأن نتائجه ستكون مدمرة، حيث سيدفع الجميع الثمن غاليا لهذا المكر، لأنه الأسباب لفتنة إذا وقعت لن تنتهي، بل ستتمادى كلما قيل أنها انتهت. وإن هذا المكر لن يلحق ضررا بالله وبرسوله، لأن الله غني عن العالمين، بل سيلحق أشد الأضرار بالماكرين أنفسهم وبذرياتهم وبالناس أجمعين، لأن النتيجة المؤكدة لهذا المكر هي حل عرى الإسلام كلها، لأن الإسلام يتوقف على عروة الحكم، فإذا حلت عروة الحكم يرفع الإسلام عمليا من الحياة، وستحل بالضرورة كافة عرى الإسلام تبعا لعروة الحكم، وينحرف الجميع تماما عن صراط الله المستقيم ويدخلون في ليل من التيه لا آخر له. وحذر رسول الله المسلمين عامة، وبطون قريش ومن لف لفها، وأقام الحجة على الجميع ليهلك من هلك عن بينة، ولتتضاعف عقوبة المجرمين إذا اقترفوا جرائمهم، لأنهم يقترفونها بالرغم من التحذير ومع سبق الإصرار والترصد والأعظم من ذلك وكما بينا في الباب الأول أن الرسول قد سمى قادة الفتن بأسمائهم، وحذر منهم، وبين لأصحاب الخطر تفاصيل ما سيفعلونه مستقبلا، وحذرهم من فعله، لقد استبق رسول الله الأحداث قبل وقوعها، ووصف أفعال المسلمين قبل أن تقع تلك الأفعال، لأن الله قد زوده.
بصورة دقيقة لوقائع المستقبل قبل أن تقع فكان الرسول يصف ويحذر بناء على مخطط وخارطة إلهية موضوعة أمامه، لقد حذر رسول الله المسلمين مجتمعين من أن يأتوا تلك الأفعال أو أن يسمحوا بحدوثها، ثم حذر كل وأحد منهم على انفراد، وكانت تحذيرات الرسول شاملة للجميع، وخاصة بأصحاب الخطر.
أمثلة ونماذج من تحذيرات الرسول 1 ـ بين الرسول للمسلمين بأن أهل بيته سيلقون بعده القتل والتشريد والتطريد، وطلب من المسلمين أن لا يفعلوا بأهل بيته ذلك، وإذا قتلهم أو شردهم أو طردهم أحد فعلى المسلمين أن يقفوا مع أهل بيته.
2 ـ وبين النبي للمسلمين أن ابنه الحسين سيكون وحيدا ذات يوم وسيحيط به وبمن معه أعداء الله من كل جهة يريدون قتلهم، فلا تتركوا ابني الحسين وحيدا، بل انصروه واحموه، ولا تمكنوا أحدا من قتله.
3 ـ أشار الرسول ذات يوم إلى بيت زوجته عائشة كما يروي البخاري وقال للمسلمين: (من ها هنا يطلع قرن الشيطان)... وقال لزوجته عائشة ذات يوم أن كلاب الحوأب ستنبحها، وحذرها من أن تفعل ذلك.
4 ـ وسأل الرسول الزبير في جلسة ضمته وعليا أتحب عليا فقال الزبير:
نعم، فقال الرسول: ستقاتله يوما وأنت ظالم له!!
والخلاصة أن الرسول لم يترك فعلا، ولا واقعة ستقع إلا حذر المسلمين منها، وحثهم على أن لا يفعلوها!! ولم يترك أمرا فيه خير إلا وحثهم على فعله.
القلة المؤمنة هي التي صدقته وحملت كل أقواله على محمل الجد، أما الأكثرية الساحقة التي اتبعت بطون قريش فاستبعدت أن تكون كافة هذه المعلومات المشيرة من الله، وقدرت أنها ربما كانت من التحليلات الشخصية لمحمد، والتي لا ينبغي أن تحمل محمل الجد.
لقد اختصروا الدين والدنيا بكلمة واحدة وهي الخلافة، فيجب أن لا يتولاها رجل من آل محمد، ويجب أن تكون لهم وفي سبيل ذلك كانوا على استعداد للتضحية بالدين، وبالنبي نفسه. بدليل أنهم قد أقدموا مع سبق الإصرار والترصد في ما بعد على حل عرى الإسلام كلها وعلى اقتراف كل ما حذرهم الرسول من اقترافه، وعلى رفع الإسلام عمليا من واقع الحياة، ولم يبقوا منه غير القشور والشكليات اللازمة لبقاء، وتوسيع رقعة مملكة الخليفة!!
الجهد النبوي المكثف:
باختصار شديد لقد أعلن الرسول ما أوحي إليه، وبلغ كافة التحذيرات الإلهية بكل وسائل الإعلان وطرق التبليغ والبيان، فرسم صورة كلية وتفصيلية لوقائع المستقبل، وعمل الأمة وقيادتها وأفرادها فيه وبين لكل واحد من أصحاب التأثير والخطر دوره وأفعاله وطلب منه أن يحذر وأن لا يفعل ما ينوي فعله، ثم بين للجماعات ما تنوي فعله مستقبلا وحذرها من فعله، ثم بين للمسلمين جميعا بأن هذه الأفعال ستقع ذات يوم، ومن واجبهم أن يستعدوا لها، وأن يحولوا وبكل الوسائل دون وقوعها فلا ينبغي أن يخرج الحق من أهله، ولا ينبغي أن يقتل أعداء الله أهل بيت النبوة، ولا ينبغي أن يخرج الحق من أهله، ولا ينبغي أن يقتل أعداء الله أهل بيت النبوة، ولا ينبغي أن يشردوا أو يطردوا، وإنه من العار أن يقتل ابن النبي بين المسلمين ولا ينصره أحد، ويبكي النبي بكاء ترق له الحجارة الصلداء ويحاول وبكل الوسائل أن يضفي على تحذيراته طابع الجدية، وأن يقنع الناس بأن ما أخبرهم به من أنباء الغيب قد أوحيت إليه من ربه لأنه لا يعلم الغيب، وليس له ولغيره أن يتقول على الله ما لم يوحى به إليه، وبين لهم الرسول بأنهم إن لم يسمعوا منه، فإن عرى الإسلام ستحل كلها، وستعود الجاهلية، ولكن بثوب الإسلام، ولن يبقى من الإسلام إلا اسمه ورسمه والأنكى بأن مقاليد الأمور ستؤول إلى أعداء الله الذين حاربوا الله ورسوله بالأمس بكل وسائل الحرب، وهم جبابرة ظلمة لا يرعون في مؤمن إلا ولا ذمة، فإذا آلت مقاليد الأمور إليهم، فإنهم سيفعلون فعل فرعون، فيقتلون أبناء الذين آمنوا، ويستحيون نساءهم، ويأخذون أموالهم، ويسومونهم سوء العذاب....
إن الجهد المكثف الذي بذله الرسول ليجنب الأمة مخاطر الوقوع بين مخالب أئمة الضلالة، ومخاطر الخروج من دائرة الشرعية الإلهية لم يبذله نبي أو رسول قط. لقد خاض في هذه الناحية معركة حقيقية وبذل فيها من الجهد والعناء، ما لم يبذله في أي معركة من المعارك الحربية التي خاض غمارها.
نتائج الجهد النبوي:
1 ـ لقد أقيمت الحجة الكاملة على بطون قريش وزعامتها ومن والاها، وهذا يعني بأنهم إن اقترفوا ما حذر منه الرسول سيقترفونه مع العلم وسبق الإصرار، وبدون شبهة، وأن حجة الله عليهم ستكون كاملة.
2 ـ إن الحقائق ومقومات الحكم على تلك الفترة قد توفرت بالكامل فيمكن لمن يقف عليها كلها أن يعرف بوضوح وبقناعة تامة من هم الذين يتحملون مسؤولية حل عرى الإسلام كلها، ومن هم الذين وطدوا لأئمة الضلالة.
3 ـ هذا الجهد العظيم المكثف الذي بذله النبي لم يؤثر إطلاقا على زعامة بطون قريش، الموتورة، فلو جاءها الله والملائكة قبيلا ما سمحت لأولي الأمر من أهل بيت النبوة أن يتولوا الخلافة من بعد النبي، لأن هذا يعني تكوين دول لآل محمد، ويعني أن يجمع الهاشميون النبوة والملك معا، والموت نفسه أخف على زعامة بطون قريش وأبنائها وعلى المنافقين من ذلك!! وبطون قريش لن تسمح على الإطلاق لأي رجل هاشمي أو من ذرية محمد خاصة بأن يتولى الخلافة من بعد النبي مهما كلف الأمر. ثم إن زعامة البطون لن تتراجع بأنها الأولى بالخلافة، لأن الهاشميين أخذوا النبوة، ولأن النبي من قريش.
وبهذه الحالة فإن الجهد المكثف الذي بذله الرسول لم يثمر بتغيير تفكير زعامة بطون قريش، أو زحزحتها عن مواقفها، وكانت الزعامة القرشية تتوقع من النبي أن يعدل الترتيبات التي أعلنها، معتقدة أنها ترتيبات خاصة من الرسول كبشر، وليست ترتيبات إلهية، لأن الله أعظم وأعدل من أن يخص الهاشميين بالنبوة والخلافة معا ويحرم بطون قريش من الشرفين معا!!!!
4 ـ إن زعامة بطون قريش ومن لف لفها ماضون بتنفيذ نواياهم ومصرون على اقتراف أفعالهم التي حذرهم الرسول منها لأنها ضرورية لتحقيق كامل أهدافهم، (والمسلمون أعلم بشؤون دنياهم) من الرسول نفسه!!!!
5 ـ إن بطون قريش ستمد يدها لكل من يتبنى أهدافها، ويرى حقها بالخلافة ويعارض حق آل محمد بقيادة الأمة، وقريش لا تسأل عن تاريخ حلفائها، ولا عن إيمانهم، ولا عن مؤهلاتهم، وتكتفي ممن يحالفها بأن يتلفظ بالشهادتين فقط، ولا عبرة لكونه منافقا أو فاجرا فهي تستعين بقوة المنافق، وبقوة الفاجر، وإثمهما على نفسيهما على حد تعبير عمر بن الخطاب كما وثقنا في الباب الأول، والمهم في نظر زعامة البطون هو العدل ـ ولا غير العدل ـ ووفق قواعد هذا العدل فإن الخلافة لبطون قريش، وليست لأئمة أهل بيت النبوة كما أعلن محمد بصفته الشخصية!!!! وقد وثقنا كل ذلك في كتابنا: (المواجهة مع رسول الله وآله).
الوعد الإلهي بدولة آل محمد:
لما تبين للرسول الأعظم بأن القوم ماضون في برنامجهم، وأنهم سيحولون بالفعل بين أئمة أهل بيت النبوة وبين الخلافة، وفوق ذلك سيصبون نقمتهم على آل محمد ويشردونهم، ويطردونهم، ويقتلونهم تقتيلا وأن أعداء الله الذين حاربوه بالأمس حتى أحيط بهم، فاضطروا لإعلان إسلامهم هم الذين سيتولون خلافته، وسيحكمون أمته!! وأن كافة عرى الإسلام ستحل، وأنه لن يبقى من الإسلام إلا اسمه ورسمه، ويذوب قلبه حزنا وأسفا ولا يرى بعدها ضاحكا أبدا، وعلم الله بحجم الهم والحزن الذي أناخ بكلاله الثقال على قلب النبي الشريف، فيعده بدولة آل محمد، وأنها ستكون آخر الدول، وهي دولة من نوع خاص، حيث ستحكم العالم كله، ويخضع لسلطانها كل سكان الكرة الأرضية، وأن مؤسس تلك الدولة هو حفيد النبي، محمد بن الحسن، وهو المهدي المنتظر، وأوحى الله إلى نبيه بكافة المعلومات المتعلقة بهذا الموضوع، فسر النبي سرورا بالغا وبدأ جهدا مكثفا جديدا لإطلاع المسلمين على ما أوحي إليه، واطلعهم بالفعل على كل ما أوحي إليه بهذا المجال من أنباء الغيب، فدولة آل محمد ستملأ الأرض كلها عدلا وقسطا، كما ملئت جورا وظلما، ودولة آل محمد ستنتقم من الظالمين، وتفتح كافة حصون الضلالة، ودولة آل محمد ستحقق الكفاية والرخاء للجميع، وسيرضى عنها الجميع، إنها طراز خاص من الدول بعض وزائها من الرسل والأنبياء وبعضهم من الصديقين والأولياء، عدلها يتسع للبر والفاجر، إنها دولة الجنس البشري، لقد فرح النبي وأهل بيته بهذا الوعد الإلهي، وأيقنوا أنه.
واقع لا محالة لأن الله لا يخلف وعده. أما أعداء الله وبطون قريش فقد صدموا من حجم التعويض الإلهي لأهل بيت النبوة، وحزنوا لأن الله خص أهل بيت النبوة بالمهدي، وحرم بطون قريش من هذا الشرف، فازدادوا حسدا فوق الحسد، وحقدا مع أحقادهم، فأخذوا يخفون هذه المعلومات، ويشككون بما شاع منها وانتشر.
المعالم الأساسية لدولة آل محمد:
1 ـ مقومات الدولة
الإقليم:
من المؤكد استنادا للأحاديث النبوية ولأحاديث أئمة أهل بيت النبوة الذين ورثوا علمي النبوة والكتاب بأن الإمام المهدي مؤسس دولة آل محمد سيفتح مشارق الأرض ومغاربها ويملك المشارق والمغارب، وهذا يعني أن الكرة الأرضية كلها ستكون إقليما لدولة آل محمد ويدل على هذا قول النبي: (لا تقوم الساعة حتى يملك رجل من أهل بيتي... يملك الأرض عدلا كما ملئت ظلما) (الحديث رقم 61 من المعجم راجع المراجع المدونة تحته)، فكيف يملأ الإمام المهدي الأرض عدلا إن لم يكن مالكها وصاحب السلطان عليها!! ويدل على ذلك قول النبي أيضا: (... ويفتح له ما بين المشرق والمغرب)... (راجع الحديث رقم 127 من معجم أحاديث الإمام المهدي) ويوضح الرسول الصورة فيقول: (الأئمة بعدي اثنا عشر أولهم أنت يا علي، وآخرهم القائم الذي يفتح الله عز وجل على يديه مشارق الأرض ومغاربها). (راجع الحديث رقم 155 من المعجم)، وليسوق الأرض مثلا معروفا للجميع وهو المعروف (بذي القرنين) فيقول الرسول عنه أنه: (وبلغ المغرب والمشرق، وأن الله تبارك وتعالى سيجري سنته في القائم من ولدي، فيبلغه شرق الأرض وغربها حتى لا يبقى منهلا ولا موضعا من سهل ولا جبل وطئه ذو القرنين إلا وطئه... (الحديث رقم 158 من المعجم). وكم كرر الرسول وأكد بأن الإمام المهدي سيملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجورا، لقد استعمل الرسول مصطلح الأرض على الإطلاق...
وفي حديث آخر يقول النبي: (.... ويفتح له فتوح فلا يبقى على وجه الأرض).
الأرضية كلها من المشرق إلى المغرب ومن الشمال إلى الجنوب.
2 ـ شعب دولة آل محمد:
إذا كانت الكرة الأرضية هي إقليم دولة آل محمد فإن كافة الأحياء من أبناء الجنس البشري في زمن الإمام المهدي يشكلون شعب دولة آل محمد، ومواطني ورعايا تلك الدولة، فكيف تملك الدولة الأرض كلها، ولا سلطان لها على ساكنيها، فالأرض كلها إقليم للدولة ومن على وجه الأرض من بني البشر هم شعبها، فالأحاديث النبوية تؤكد بأن الإمام المهدي سيطهر الأرض من أعدائه ومن كل ظلم وجور (الحديث 123 و 479)، وأنه سيفتح حصون الضلالة، وقلوبا غلفا (الحديث رقم 79) وأنه سيظهر على كل جبار (الحديث رقم 30)، فكيف يعرف القلوب الغلف ويفتحها، وكيف يعرف أعداء الله من أوليائه، ويطهر الأرض من أعداء الله إن لم تكن له سلطة فعلية على كل مكان في الأرض ولهم به رابطة قانونية أو شرعية، وهذه هي مقومات مصطلح الشعب بالفقه الدستوري.
3 ـ السلطة:
الإمام المهدي هو المؤسس والمعلن عن وجود دولة لآل محمد، وهو إمامها أو رئيسها، أو أميرها أو الخليفة الشرعي عشر من خلفاء الرسول، وهو صاحب الكلمة العليا والمقام الأول في دولة آل محمد، وهو المرجع الشرعي أو القانوني لكافة سكان الكرة الأرضية لأنه إمام ووارث لعلمي النبوة والكتاب، ولا يخفى عليه شيء من أمر الدنيا والآخرة، لأن كل ما يحتاجه البشر يعرفه الأئمة الشرعيون، والإمام الشرعي مؤهل إلهيا ومعد لقيادة العالم كله.
والإمام المهدي هو القائد العام لجيش الدولة، وهو القاضي الأعلى، وهو المسؤول عن وزرائها. ويساعد الإمام المهدي مجلس وزراء من نوعية خاصة، ويكفيك أن تعرف بأن المسيح عليه السلام أحد وزرائه، والخضر الشهير وإلياس من وزرائه أيضا كما وثقنا وهم من صفوة أولياء الله. ويساعد المهدي أيضا ولاة أقاليم الكرة الأرضية حيث سيولي الإمام المهدي على كل إقليم من أقاليم الكرة الأرضية أحد الموثقين من أصحابه ليدبر أمور الإقليم ويسوسه تحت إشراف الإمام المهدي. قال الإمام جعفر الصادق: ويكون من شيعتنا في دولة القائم سنام الأرض وحكامها، يعطى كل رجل منهم قوة أربعين رجلا). (الحديث رقم 1081 من المعجم) وروي عن الإمام الباقر قوله: (إذا قام القائم بعث في كل إقليم من أقاليم الأرض رجلا فيقول له عهدك في كفك، فإذا ورد عليك أمر لا تفهمه، ولا تعرف القضاء فيه، فانظر في كفك واعمل بما فيها...). (راجع الحديث رقم 858) بمعنى أن ولاة الإمام المهدي وعماله على الأقاليم من أولياء الله الصادقين الذين وعوا تاريخ أئمة الضلالة، وأشربوا كراهية الظلم وأهله. والخلاصة أن حكومة الإمام المهدي وسلطته تقوم بكافة الوظائف التي تقوم بها الدول في عصرنا هذا وتزيد على ذلك بأنها ملتزمة بتحقيق الكفاية للجميع وفورا، والرخاء للجميع وفورا أي بدون وعود، وأنه لا ظلم فيها ولا عوز، على الإطلاق، وأن الجميع بما فيهم الإمام المهدي عبيد الله لا عبيد للدولة ويخضعون لشرع الله لا لشرعها. وأن الجميع منسجمون وسعداء، تماما.
القانون النافذ في دولة آل محمد:
المنظومة الحقوقية الإلهية المكونة من كتاب الله وبيان النبي لهذا الكتاب هي القانون النافذ في دولة الإمام المهدي أو دولة آل محمد، فالإمام المهدي إمام شرعي وهو خاتم الأئمة الشرعيين وهو الوارث لعلمي النبوة والكتاب، وبالتالي فإنه يعرف الحكم الشرعي لكل قضية، والتكييف الشرعي لكل واقعة، وفوق هذا وذاك فإن معه المصحف الذي كتبه الإمام علي بخطه، وأملى تفسيره رسول الله بنفسه، وعنده أيضا الجامعة التي تحوي حكم كل شيء بما فيه إرش الخدش. (راجع الحديث رقم 1115)، وبالتالي فإن الإمام المهدي سيطبق القرآن (الحديث رقم 865) ويبين الحلال والحرام ويقيم الحدود. (راجع الحديث رقم 1139 و 1140 من أحاديث المعجم)، وبالتالي فلا مجال للاجتهاد، لأن الاجتهاد يحصل في حالة عدم وجود النص، أو عدم الاهتداء إليه، وهذه أمور لا يمكن أن تقع في عهد الإمام المهدي لأنه إمام شرعي اختاره الله وليس خليفة قد فرض نفسه على الناس بالقوة والقهر، والخلاصة أن الإمام المهدي سيحكم بكتاب الله الذي لم يعمل به قط بعد وفاة أمير المؤمنين علي. (راجع الحديث رقم 1126).
4 ـ الدين الرسمي لدولة الإمام المهدي أو دولة آل محمد:
في دولة الإمام المهدي يصبح الإسلام هو الدين الرسمي والفعلي الوحيد في كافة أرجاء الكرة الأرضية التي ستخضع لسلطان دولة آل محمد، لأن الإمام المهدي سيدعو إلى الإسلام جديدا، ويهدي الناس إلى أمر قد دبر فضل عنه الجمهور كما حدث الإمام جعفر الصادق. (راجع الحديث رقم 1122) وقال الصادق يوما لجليسه: (يا أبا محمد إذا قام القائم استأنف دعاء جديدا كما دعا رسول الله)... (الحديث 612)، وقال الإمام الصادق أيضا.... أما والله لا تذهب الأيام والليالي...
حتى... ويرد الحق إلى أهله ويقيم الدين الذي ارتضاه لنفسه فأبشروا ثم أبشروا... (الحديث 1126). وقد أكد الرسول الكريم هذه الحقيقة بقوله:
(... يبايع له الناس بين الركن والمقام، يرد به الدين، ويفتح له فتوح، فلا يبقى على وجه الأرض إلا من يقول: لا إله إلا الله (الحديث رقم 309 من أحاديث معجم الإمام المهدي ج 1). وقال الإمام الحسين: (إن الإسلام قد يظهره العالم على جميع الأديان عند قيام القائم عليه السلام) فليس عجيبا بعد هذا كله بأن يكون الإسلام هو الدين الرسمي والفعلي الوحيد لدولة آل محمد.
5 ـ طبيعة دولة الإمام المهدي أو دولة آل محمد دولة دينية ولكن
طبيعة دولة المهدي أو دولة آل محمد مختلفة بالكامل عن طبيعة الدول التي عرفتها البشرية طوال تاريخها، فلا نعرف دولة على الإطلاق قد حظيت بالدعم الإلهي الدائم والمطلق كما تحظى به دولة الإمام المهدي فالملائكة الكرام فرقة دائمة من فرق جيشها كما أسلفنا، وكافة الآيات والمعجزات التي خص الله بها أنبياءه ورسله تحت تصرف الإمام المهدي كما وثقنا، ورسل وأنبياء وأولياء صالحون يعملون مع المهدي ويأتمرون بأمره كما أثبتنا، ويفهم من حديث الباقر بأن القوى الطبيعية ستكون مسخرات للإمام المهدي الحديث رقم 870 ج 3، ثم إن الإمام المهدي ليس نبيا وليس رسولا إنما هو إمام شرعي، اختاره الله سبحانه تعالى وسبقه أحد عشر إماما، ومع هذا تكلف دولته بتحقيق غايات وإنجاز مهمات لم يكلف نبي ولا رسول ولا إمام من قبل بتحقيقها وإنجازها!! إنها دولة دينية لأن الدين محور اهتمامها، ومبرر وجودها، وقانونها النافذ، وإمكانيات الدولة مسخرة.
لتحقيق الغايات والأهداف الدينية، لكنها ليست على شاكلة الدول التاريخية التي ادعت بأنها دول دينية، ولا على شاكلة دول الأنبياء والرسل التي عرفنا نماذجها، إنها دولة دينية من نوع خاص!! وهي نسيج وحدها تماما، من حيث مداها وشمول ملكها، فدولة الإمام المهدي كما أسلفنا تشمل العالم كله. (راجع الحديث رقم 858)، ويشمل ملك الإمام المهدي العالم أيضا (الحديث رقم 959)، وهذه حالة فريدة لم يتحقق مثلها في دول الملوك الذين ادعوا بأن دولهم دينية، ولا في الدول التي أسسها الأنبياء والرسل!! ثم إن هناك ظاهرة عجيبة وفريدة من نوعها في دولة الإمام المهدي تتمثل بتسخير كامل لمخزونات الأرض والسماء لتحقيق الأهداف التي وعدت دولة الإمام المهدي بتحقيقها، فكم أكد الرسول الأعظم والأئمة الكرام بأن الأرض في عهد الإمام المهدي ستخرج كل كنوزها ونفائسها ونباتها، وأن السماء ستنزل كل قطرها ومائها وبركاتها وقد وثقنا ذلك وتلك حالة فريدة من نوعها، إنها عرض كامل لبركات الحكم الإلهي الأمثل!!! وتصحيح عملي لمفاهيم البشرية الخاطئة عن الحكم الديني الإلهي الحقيقي.
6 ـ الإصرار على تحقيق غاية دولة آل محمد
وتتجلى طبيعة دولة آل محمد بإصرارها العجيب على تحقيق غاياتها ومبررات وجود دولة الإمام المهدي، وهو إصرار لا يعرف الحلول الوسط، ولا يعرف المستحيل فلا بد من القضاء التام على كل الظالمين والجبابرة، ولا بد من محاكمتهم والانتقام منهم وتطهير الأرض من وجودهم لأنه رجس وقذارة وقرف، ولا بد من فتح كافة حصونهم، حصون الضلالة، وهذا أمر لا يحتمل التأخير أو التأجيل ولا بد من رفع ظلمهم من الأرض، ولا بد من مل ء الأرض بالعدل كما ملأها المجرمون بالظلم ولا بد من هدم ما خلفه المجرمون، من مظاهر ظلمهم وانحرافهم، (الحديث رقم 861 و 1123)، وهدم أمر الجاهلية كله وإبطاله (الحديث رقم 862) ليكون تطهير الأرض كاملا من الظالمين وآثارهم، وكل ما يدل عليهم، ورفع فقههم الفاسد وإبطال كافة مفاعيله. وهذه هي المهمة العاجلة، والمبرر الأول لوجود دولة المهدي أو دولة آل محمد، لأن ظلم الجبابرة قد مس الأرض وما عليها مسا أليما موجعا ولم ينج من هذا الظلم أحد، وخص هذا الظلم آل محمد وأولياءهم خاصة بألوان معينة من المعاناة والألم، وطريقة تعامل دولة المهدي مع الظالمين، لها طابع خاص مختمر من التجربة التاريخية على اعتبار أن الظالم لا دين له ولا أخلاق، ولا يعرف الإحسان أو المعروف، فقد قال النبي لأعدائه الذين ظهر عليهم يوم فتح مكة: (اذهبوا فأنتم الطلقاء) وبدلا من أن يذخروا إحسان النبي ومعروفه بالعفو الشامل عن جرائمهم تنكروا له وتآمروا عليه، وبعد موته قتلوا أبناءه وذريته، المهدي استفاد من عبرة التاريخ فعندما يخرج الإمام المهدي لن يخرج معه من العرب أحد (الحديث 1119)، ومع هذا فهو لا يجبرهم على الخروج، ولم يؤيده من قريش أحد، ومع هذا هو لا يتعرض إليهم ولا يجبرهم على تأييده، بل ولا يسألهم أن يخرجوا معه أو يؤيدوه، ولكن عندما يعلم بأن قريش قتلت وإليه وعامله يقتل منهم 1500 أو ثلاثة آلاف رجل صبرا دون أن يرمش له جفن، ولا يترك من قريش إلا أكلة كبش!! قد يبدو أن هذه العقوبة قاسية، لكنها عادلة إذا ما عرفت حجم جرائم بطون قريش، فقد قاومت النبي وحاربته طوال مدة 21 عاما، ولما أحيط بها اضطرت مكرهة لإعلان إسلامها، فعفى الرسول عنها وقبل موت الرسول وبعد موته مباشرة استولت بالقوة على ملك الرسول وقادت المسلمين إلى الانحراف، وحلت عرى الإسلام ومهدت للظلمة والجبابرة وخرجتهم من مدرستها، وجعلت من عباد الله عبيدا للظالمين بنفس الوقت الذي كانت تلبس فيه الجبة الإسلامية، إنهم مجرمو حرب لم يعرف التاريخ البشري جرائما بحجم وبشاعة جرائمهم فعقوبة الإمام المهدي مع قسوتها عادلة.
والخلاصة، إن إصرار الإمام المهدي على التخلص من الظلمة والجبابرة وأعوانهم بعكس طبيعة دولة آل محمد الملتزمة التزاما مطلقا بتحقيق أهدافها وغاياتها والتي لا تحيد عن تحقيق هذه الأهداف، لأنها دولة هدف وغاية، ولا يكفي منها أن تبذل الجهد والعناية، إنما يتوجب عليها وجوبا لا عذر معه تحقيق هذه الغايات. لأن الله تعالى وعد الإمام المهدي بالدعم الكامل والمطلق لتحقيق الغايات وإنجاز المهمات التي كلفه الله بتحقيقها وإنجازها، وإذا أراد الله أمرا فلا.
راد لإرادته، وقد أراد الله تحقيق كافة الغايات التي كلف عبده الإمام المهدي بتحقيقها، فدولة الإمام المهدي أو دولة آل محمد مكلفة باقتلاع جذور الظلم والظالمين وتطهير الأرض من وجودهم ومن فقههم، لذلك فإنها لن تقبل بأن يبقى على وجه الأرض خلال عهدها الراشد ظالم أو جبار واحد، أو حصن واحد من حصون الضلالة فهي ملتزمة أمام الله تعالى بالقضاء التام والمبرم على الظلمة والظالمين وتطهير الأرض من ظلمهم ومن آثارهم.
وتجد هذا الإصرار العجيب عند كل غاية وهدف من الغايات والأهداف التي كلف الإمام بتحقيقها فعلى المستوى الاقتصادي فإن الإمام المهدي ودولة آل محمد مكلفون بتحقيق الكفاية التامة والرخاء المطلق للجميع، بحيث يكون كل واحد على وجه الأرض من أبناء الجنس البشري في حالة كفاية تامة ورخاء مطلق، بحيث يتجول المكلفون بدفع الزكاة في الأرض شرقا وغربا وشمالا وجنوبا فلا يجدوا محتاجا واحدا يقبل الزكاة لأن الجميع في حالة كفاية والجميع في حالة رخاء، ولا يوجد في الأرض كلها محتاج واحد، فالنقود والذهب والفضة لا تعد عدا إنما تهال هيلا!! وقد تواترت الأحاديث النبوية التي أكدت هذه الناحية، وقد وثقناها في الفصول السابقة، حتى أن الدرهم والدينار يصبح من سقط التاريخ ولا قيمة له. (راجع الحديث 1133).
وهذه طبيعة ما عرفتها ولا سمحت بها أية دولة من الدول التي ظهرت أو ستظهر على وجه الأرض قبل نشوء دولة آل محمد وظهور الإمام المهدي المنتظر، فالدول عادة تغرق الشعوب بالوعود البراقة خاصة في العصر الحديث، وتدغدغ مشاعر المستضعفين، ثم تسقط الحكومات وتزول الدول نفسها دون تحقيق معشار معشار ما وعدت بتحقيقه، حتى أن الناس قد ملت وعود الدول، وصارت وعودها أحد الرموز والاصطلاحات الدالة على معنى الكذب!!
7 ـ حالة الانسجام العام في دولة الإمام المهدي أو دولة آل محمد
ومن أبرز مظاهر طبيعة دولة الإمام المهدي أو دولة آل محمد، ومن مميزاتها.
الخاصة وجود حالة الانسجام العام والمطلق، واختفاء مظاهر الصراع بكل أشكاله وعلى الأخص الصراع الطبقي، فالكرة الأرضية كلها إقليم لدولة آل محمد، وأبناء الجنس البشري مواطنون في تلك الدولة، يعتنقون دينا واحدا وهو دين الإسلام، فلا نجد على وجه الأرض إلا من يقول لا إله إلا الله. فأبناء الجنس البشري على مختلف منابتهم وأصولهم وأعراقهم وألوانهم يعتنقون نفس الدين، ويخضعون لذات النظام، ويشعرون بأنهم أخوة لا فرق بين لون ولون وعرق وعرق، فهم أسرة كبيرة أبوهم آدم وأمهم حواء، تكاثروا كما تتكاثر الأسرة الواحدة، ثم نزغ الشيطان بين الإخوة فاختلفوا، فأرسل الله الإمام المهدي وأقام دولة آل محمد لغايات إصلاح ذات البين، وإعادة المياه لمجاريها، وساعد الإمام المهدي على تحقيق هذا الإنجاز قضاؤه على أسباب الخلاف والاختلاف فالإمام المهدي إمام شرعي اختاره الله وأعده وأهله للقيادة والمرجعية، فليس في العالم كله من هو أعلم ولا أفضل ولا أتقى، ولا أقرب لرسول الله من الإمام المهدي. هذا كله يخلق ويرسخ ثقة أبناء الجنس البشري في إمامهم وقائدهم الإمام المهدي، ويقطع دابر التنافس على القيادة، ويخلق حالة من الاستقرار ويؤدي للقضاء على مبررات النزاع السياسي، خاصة وأن أعضاء حكومة الإمام المهدي فرادى ومجتمعين يجمعون مميزات خاصة بهم لا تتوفر لدى أي طامع بمنصب الوزارة أو الولاية.
كذلك فإن دولة آل محمد تقضي أيضا على أسباب النزاع الاقتصادية وتغلق أبواب التنافس المرير على المال، فعندما تحقق دولة آل محمد الكفاية المطلقة لكل واحد من أبناء الجنس البشري، والرخاء المطلق للجميع فلا يبقى على وجه الأرض محتاج واحد، أو معوز واحد، ولا يجد أصحاب الأموال رجلا واحدا يقبل زكاة أموالهم، وعندما يجد الناس الذهب والفضة مكومة كالجبال، وكرمال الصحاري، فما هو الداعي لأسباب التنازع الاقتصادي!! وهكذا في كل الأمور حيث تتولى دولة آل محمد القضاء على أسباب الشر واجتثاثها من الأرض لتضمن حالة الانسجام المطلق بين أبناء الجنس البشري، وعدم وجود ما يكدر صفوهم، أو ينغص عيشهم، ثم إن الإمام المهدي وطاقم حكومته، لن يوقظوا نائما ولن يهرقوا دما (الحديث رقم 130 ج 1) وسيرحمون مساكين العالم فيشعرون كأن.
الدولة تلعقهم الزبدة (الحديث رقم 131) وفي الحقيقة فإن كافة سكان العالم مساكين ومستضعفين لأنهم خرجوا على الفور وتحرروا من ظلم الظالمين، ومن محاكم تفتيشهم ومن معسكرات اعتقالهم فعهد دولة آل محمد هو فترة نقاهة لمستضعفي العالم، وهو فترة أمن ورخاء في عالم قسى الظالمون على أهله وسلبوهم الأمن والرخاء.
وما يساعد على تحقيق الانسجام العام الجو النفسي الخاص الذي تخلقه الكفاية، ويحققه الرخاء حيث تتفتح مدارك العقل البشري ومواهبه التي أغلقها الجبابرة والظالمون، ويصل الإنسان إلى قمة الوعي البشرية ويكتمل إيمانهم.
(راجع الحديث رقم 1093)، وتطهر نواياها بعد القضاء التام على أسباب الخلاف والتنازع بين بني البشر وتطهير الأرض من الظلم والظالمين وانتشار المعرفة، فتكتمل العقول والأحلام (الحديث رقم 866) وتؤكد أحاديث الأئمة الكرام بأن العالم قبل ظهور المهدي سيعرف 2 / 27 جزءا من المعارف والعلوم فإذا ظهر الإمام المهدي وقامت دولة آل محمد ينشر الله العلم كله بين الناس. (راجع الحديث رقم 1127)، قال الإمام الصادق: (إذا قام قائمنا، وضع الله يده على رؤوس العباد، فجمع بها عقولهم وكملت به أحلامهم). (الحديث رقم 869)، وقال الإمام الصادق أيضا عن الإمام المهدي:)... فيعطيكم في السنة عطاءين، ويرزقكم في الشهر رزقين، وتؤتون الحكمة في زمانه، حتى أن المرأة لتقضي في بيتها بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم). (الحديث رقم 868 ج 4 من معجم أحاديث الإمام المهدي).
وستتأثر كافة المخلوقات بحالة الانسجام التام السائد في بني البشر فالأحاديث النبوية تتحدث عن سماء تعطي كل قطرها ومائها، وعن أرض تخرج كل كنوزها ونفائسها ونباتها، وعن ملائكة تضع نفسها تحت تصرف دولة آل محمد كما وثقنا ذلك، قال الإمام الرضا، إذا قام قائمنا يأمر الله الملائكة بالسلام على المؤمنين، والجلوس معهم في مجالسهم، فإذا أراد واحد حاجة أرسل القائم بعض الملائكة أن يحمله، فيحمله الملك حتى يأتي القائم فيقضي حاجته، ثم يرده، ومن المؤمنين من يسير في السحاب، ومنهم من يسير مع.
الملائكة مشيا ومنهم من يسبق الملائكة، ومنهم من يتحاكم الملائكة إليه، والمؤمن أكرم على الله من الملائكة، ومنهم من يصيره القائم قاضيا بين مائة ألف من الملائكة. (راجع الحديث رقم 1231)، قال الإمام جعفر الصادق: (إن المؤمن في زمن الإمام المهدي وهو في المشرق ليرى أخاه الذي في المغرب، وكذا الذي في المغرب يرى أخاه الذي في المشرق). (الحديث رقم 1130)، وقال أيضا: (إن الله يمد بالأسماع والأبصار حتى لا يكون بين الإمام المهدي وبين شيعته بريد). (الحديث رقم 1131)، وروى أيضا بأنه إذا قام القائم، استنزل المؤمن الطير من الهواء فيذبحه ويشويه، ويأكل لحمه، ولا يكسر عظمه، ثم يقول له إحي بإذن الله فيحيى، ويطير، وكذا الظباء من الصحاري، ويكون ضوء البلاد ونورها ولا يحتاجون إلى شمس ولا قمر، ولا يكون على وجه الأرض مؤذ، ولا شر ولا سم، ولا فساد، لأن الدعوة سماوية ليست أرضية، ولا يكون للشيطان فيها وسوسة، ولا شيء من الفساد.
قال الإمام الحسن عن الإمام المهدي:... يدين له عرض البلاد وطولها، ولا يبقى كافر إلا آمن به، ولا طالح إلا صلح، وتصطلح في ملكه السباع...
الحديث رقم 692) وروى أيضا بأن الذئب سيرعى مع الغنم وكأنه كلبها.. إنها حالة من الانسجام المطلق بين بني البشر، وبين الكائنات المسخرة لهم!!!
موت الإمام المهدي وغياب القمر المنير:
بعد أن تحقق دولة الإمام المهدي ـ دولة آل محمد ـ كافة الغايات والأهداف التي كلف الله عبده الإمام المهدي بتحقيقها، وبعد أن ينجز كل المهام المأمور إلهيا بإنجازها وبالأجل المحدد يتوفى الله تعالى الإمام المهدي وينتقل إلى جوار ربه، ويغيب القمر الثاني عشر الذي ملأ الأسماع والأبصار، ورضي منه ساكن الأرض وساكن السماء وبوفاة الإمام المهدي ينتهي الحكم الإلهي تماما، وتغلق الدائرة، لأن الإمام المهدي هو خاتم الأئمة الاثني عشر الذين أهلهم الله وأعدهم لقيادة الأمة الإسلامية من بعد وفاة النبي وحتى قيام الساعة، فلا إمام بعدهم ولا إمام قبلهم، ذلك تقدير العزيز العليم، وبموت الإمام المهدي تنتهي عمليا دولة.
آل محمد، ولن يبقى بيننا وبين القيامة أو الساعة إلا قاب قوسين أو أدنى. لأن دولة محمد هي آخر الدول (الحديث رقم 984 و 983 ج 4) وبموت مؤسسها تنتهي وتزول عمليا ولا يبقى إلا آثارها وتاريخها.
من الذي يرث هذا الملك العريض الذي بناه الإمام المهدي؟
بعد أن يغيب القمر الثاني عشر والأخير من أقمار أهل بيت النبوة غيبة لا رجعة بعدها إلى الدنيا، تزول دولة آل محمد عمليا، وينتهي دورهم لأن الحياة الدنيا ستنتهي دورتها، وستبدأ دورة الحياة العليا، ولأنه لا بد للناس من حاكم يدبر أمورهم خلال الفترة الواقعة بين موت الإمام المهدي وبين ساعة قيام القيامة، فإن الملك العريض الذي يبنيه الإمام المهدي وكافة شؤون دولة آل محمد ستؤول لشيعة ـ آل محمد، ويبدو أنه بالتسديد الإلهي وبترتيب خاص من الإمام المهدي لعصر ما بعد المهدي سيتعاقب على حكم العالم من بعده أحد عشر مهديا وليس إماما لأنه لا إمام شرعي بعد المهدي وهؤلاء المهديون سيقتدون بالإمام المهدي، ويسيرون على خطه، ويدعون الناس إلى موالاة أهل بيت النبوة ومعرفة حقهم).
(الحديث رقم 1149 ج 4) مستفيدين من العصر الذهبي الذي عاشته البشرية في زمن الإمام المهدي وفي أحياء وبركات دولة آل محمد، ويبدو أنه وبعد موت الحادي عشر منهم ستفسد الحياة، وتفلس، وتنتهي دورتها لتبدأ دورة الحياة الأخرى الخالدة.
(وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين)
/ 1