بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
سبع الدجيل السيد محمّد بن الإمام علي الهادي عليه السلام السيد حسين العوامي تقديم ومراجعة مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي عليه السلام تفهرست الموضوعات 1مقدمة المركز 2مقدمة المؤلف 3مدخل 4ميزان العظمة وأهمية الذات 5الكتابة عن العظماء 6المقام الاجتماعي والشأن الرباني 7قرب الباري ونعوت الأولياء 8الفصل الأول: الهوية الشخصية 9المحور الاول: قرون الصراع بين قريش والاسلام 10مقامات تاريخية وأخرى أسطورية 11نظرة على الحياة العامة آنذاك 12المحور الثاني: الأصل والمنبت 13أهل البيت عليهم السلام 14آباؤه 15أمّه 16أعمامه وعمّاته 17إخوته 18عقبه 19المحور الثالث: سبع الدجيل في التاريخ والوجدان 20اسمه وكنيته 21تحليل الكنى 221 _ سبع الدجيل 232 _ البعّاج 243 _ أبو جاسم 254 _ أبو البرهان 265 _ أبو الشارة 276 _ أخو العبّاس 28حياته ومماته في سطور 29مماته 30قرائن تستبعد الموت الطبيعي 31المحور الرابع: السيد في وجدان الامة وعند قادتها 32بانوراما سبع الدجيل 33من شهادات الأعلام والكتّاب في حقَّ سبع الدجيل 34واقع مقام السيد وشأنه 35المحور الخامس: كرامات سبع الدجيل 36الأولى: تبرئة امرأة من التهمة 37أنَّة الشرف 38الثانية: شفاء امرأة مفلوجة خرساء 39شرف الخدمة 40مكنون الحدث 41الثالثة: داء الاستسقاء 42هلع الماء 43الرابعة: كرامة والبنت من كربلاء 44فعل الحكيم ونخوة الكريم 45الخامسة: قضاء حاجة مهمة 46تجديد معنى الحياة 47السادسة: شفاء امرأة من سنقر 48يحفظ المرء في ولده 49الفصل الثاني: كلمات في الكرامة وخوارق العادات 50نظرة مجردة 51الكرامة معنى ووجداناً 52الكرامة في القرآن 53الكرامة الإلهية 54وصفوة القول 55ميسم الكرامة 56وصف لحال من يؤمن بالكرامة ومن لا يؤمن بها 57كرامة الأحياء والأموات 58الكرامة ولوثة الشيطان 59الفرق بين مكتسبات الإنسان والكرامة 60الكرامة بين صبغتي الصدق والكذب 61فذلكة القول 62كرامة العقيدة والمعتقد 63أثر الكرامة في حياة المؤمن 64الكرامة ظلال الرحمة 65الكرامة وسحر بني إسرائيل القديم منه والجديد 66وصفوة القول 67الملازمة بين الكرامة والقرب من الباري 68حكم الاعتقاد بالكرامة 69الجواب 70الفصل الثالث: معالجة مفهوم الإمامة وإشكالية البداء في السيد محمد 71تمهيد في البداء، معناه و دلائله 72البداء 73ولبُّ القول 74لمحة موجزة عن الإمامة 75الإمامة والبداء 76تنبيه 77لفت نظر 78ناتج الأمرين علو مقام سبع الدجيل 79الفصل الرابع: شعراء سبع الدجيل 80مدخل 81قراءة في شعر الأعلام 82صفاته الفاضلة 83مختلف الأملاك 84الخوارق والكرامات 85اليد البيضاء 86الكلمات المحكمة 87الخاتمة: ملاحق 88الملحق الأول: زيارة السيد 89كيفية الزيارة 90زيارة أخرى لأولاد الأئمة عليهم السلام 91الملحق الثاني: كتب تحدثت عن السيد 92الملحق الثالث 93قال ابن تيمية 94مصادر التحقيق ****************** بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة المركز: لعلَّ من توضيح الواضحات القول بضرورة الحديث عن الرموز والتعرّف عليها وسبر غورها واستخراج كنوز المعرفة واستجلاء جوانب العظمة فيها. لأنَّ ذلك مدعاة للتأسي بها والسير على خطاها واتّباع نهجها وكفى في ذلك فائدة جمّة للفرد والمجتمع لأنَّ الشخصية حينما تكون رمزاً بأكثر من بعد وأبعد من اتجاه تكون عطاء دائماً تؤتي أكلها كلّ حين. وليس اعتباطاً تذكير القرآن بمواقف السلف والأمم السابقة فهو ليس قصّاصاً يريد إثارة مكامن الشوق لدى المجتمع وخلق حالة من الارتباط بنافذة الخيال الرحبة لدى المتلقي كما هو ديدن القصّاصين، بل هناك هدف عميق من تنوّع القصص في القرآن وذلك لأجل الترابط الوثيق والعلقة المتينة بين الماضي والحاضر والتخطيط برؤية فاحصة وشاملة للمستقبل فرُبَّ رمز غيَّر أمّة بكاملها وأحدث معجزة اجتماعية وبقيت بصماته منطبعة وآثاره متجّذرة في كلّ حركاتها وسكناتها كما نجده واضحاً جليّاً في الحسين عليه السلام. إذن الحديث عن الشخصيات والرموز ليس حديثاً تاريخياً بحتاً وليس كلاماً ترفياً فقط وإنَّما هو من صميم حركة الأمم نحو إصلاح ذاتها وتهذيب مجتمعاتها. وترتيب أوّلياتها في خضم المتغيّرات والتقلبات الفكرية. هكذا استطاع المؤلف أخونا العزيز سماحة حجة الإسلام والمسلمين السيد حسين العوامي تسليط بعض الضوء على حياة علم من أعلام أهل البيت عليهم السلام ورمز من رموزهم وكلّهم أعلام شاخصة ورموز عظيمة ألا وهو السيد محمّد ابن الإمام علي الهادي عليه السلام، وعمّ الإمام المهدي عليه السلام. فجزاه الله خيراً وجعله في ميزان حسناته. سائلين له ولنا المزيد من التوفيق وقبول الأعمال برعاية المولى صاحب العصر والزمان. مدير المركز السيد محمّد القبانچي بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة المؤلف: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيبين الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين. * * * خوارق العادات شيء يعجب كثيراً من الناس، ويسعون إلى امتلاك القدرة عليه بشتّى الوسائل ومهما كانت مشقّتها وكلفتها، ويعدّونه شكلاً من أشكال الكمال، وسمة من سمات العظمة، ومنحى من مناحي السلطة المطلقة على الكون، إذ أنه يرفع العجز الناشئ من غلبة الطبيعة وأسبابها. والعاقل البصير يرى خوارق العادات دالاً من دوال الغيب، ولا يبهره بديع قدرتها، فهو ينظر في لونها ليرى من أيّ الألوان هو؟ ويتأمَّل في مضمونها ليعرف هل الخرق الحادث آية من آيات الحق أو خدعة من خدع الشيطان ومكره أم هو طاقة النفس أو من مكامنها؟ ولهذه المعاني ومن أجل التمييز بينها جاء هذا الكتاب، فغرضه بيان الكرامة وبيان منشأها وما يميِّزها عن مشابهها، سواء كان ذلك المشابه من جانب الخير كاستجابة الدعاء والتوسل بالأولياء، أم كان من جانب الشر كالسحر والكهانة أو كان عصي الميل لأحد الجانبين فلا هو ناتج من ظلال الرحمة الإلهية، ولا هو سراب توهج من هجير الضلال، بل كان ناتج رياضات روحية تقف بين الطرفين وتتبع ضمير صاحبها. ومن الضروري ذكر مثال حي من أهلها يتجسَّد فيه لبُّ الفكرة وصورها كي تظهر معالمها جليَّة و واضحة للعيان، وشاءت الأقدار أن يكون مثالها اللامع السيد محمّد ابن الإمام علي الهادي عليه السلام المعروف بــ (سبع الدجيل) لذا سأسرد شيئاً من سيرته الذاتية بحسب ما تمليه العادة في مثل هذه البحوث، فقد تتطلَّب بيان الجو العام المعاش، ثمّ ذكر خصائص بيته الشريف لتتضح معالم شخصه بما هو مألوف ومعروف في مدوَّنات التاريخ والتراجم. لكن محاور هذه الدراسة لن تعتمد تلك العادة أساساً في التعرَّف على معالم شخصية هذا السيد لشحَّة ذكره في المدوَّنات التاريخية المعروفة، ولأن ما تعنى به كتب التاريخ ليس له مساس كبير بالغرض المنظور، بل مثل السيد تجده ماثلاً في وجدان الناس، وتسمع ذكراه نابضة بها قلوبهم، فلك أن تحسب قلوبهم ووجدانهم وثقافتهم تدويناً لتاريخ أهمله أربابه بقصد أو بغير قصد. وعلى هذا سيكون الكلام عن الظرف العام الذي عاش فيه، وسيكون التطرّق لسيرته ثانوياً ومقتضباً بقدر دخالته في موضوع البحث، وهو على إجماله ستظهر فيه النتائج مع الإحالة على الحوادث التي استقيت منها النتائج من دون مسردات إلاَّ بما تمليه طبيعة الغرض أو موجب آخر. وسير البحث يعتمد محاور عدّة، الأوّل منها: همس عن عظمة الذات ووجاهة الخلق وموجباتها بعنوانها المناسب لها، والثاني تعريف بالسيد واستنطاق خصائصه، والمحور الثالث ينصبُّ على الكرامة وما يمتُّ إليها بصلة، والرابع كراماته وشعراءه، وفي الختام تأتي ملاحق. هذا هو النسج العام للكلمات الآتية وبالله التوفيق. وقبل طي هذه الصفحة ألفت نظر القارئ إلى شيء سيلحظه من دون شكّ وهو أن الكلام في جميع العناوين يلتصق بالسيد وهو أمر مقصود لأنه المحور في الموضوع، ولأن الكتاب بركة من بركاته وشيء من عطاءه، فهو وفاء لنذرٍ نذرته في ظرفٍ عصيب ووضع مقيت، وببركة السيد محمّد بن الإمام علي الهادي عليه السلام تبددت العقبات وانحلّت العُقَد وتيسّرت الأمور بشكل لمست فيها ألطاف الكرامة الربانية. السيد حسين العوامي * * * مدخل ميزان العظمة وأهمية الذات. الكتابة عن العظماء. المقام الاجتماعي والشأن الرباني. قرب الباري ونعوت الأولياء. يحفل تاريخ الأديان برجالٍ جسَّدوا التديُّن بأروع معانيه حتّى غدوا نبراساً يستضاء به، فمن سيرتهم تنبع معاني العبادة جليَّة من دون رين ومن دون شبهات السالكين أو تزييف الشياطين، وبرغم أن التاريخ حافل بمثل هؤلاء الرجال إلاَّ أن الطريق إلى الله قد قعد فيه الشيطان، وقد عاند وضادَّ الله في سلطانه إذ ((قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لأََقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ))(1) وقد أعانه على ذلك أهل الأحقاد والحساد وعبيد الدنيا، فغدت غايات الدين وطرائقه مشوَّشة المعالم مشدوهة البال، يخفي جمالها قومٌ (رفعوا الله سيفاً وغنوا النبي والإسلام) فلم يبقَ للإسلام شعيرة لم تخبطها قريش وأذنابها، متخذة الدين والتديُّن غطاءً وشعاراً، حتّى قال أنس بن مالك في ذلك العهد: (لا أعرف شيئاً مما أدركت إلاَّ هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضُيِّعت)(2) وفي كلمة أخرى قال: (ما أعرف فيكم اليوم شيئاً كنت أعهده على عهد رسول الله غير قولكم: لا إله إلاَّ الله) ولم يعرف أبو الدرداء منهم من أمر محمّد إلاَّ أنهم يصلون جميعاً على حدَّ تعبيره(3)، وأما ميمون بن مهران عن أبيه فقد بلغ الحال في زمانه لدرجة يحكيها قوله: (لو أنَّ رجلاً نشر فيكم من السلف ما عرف فيكم غير هذه القبلة)(4) هذا هو الوضع المزري أبان فجر الرسالة فكيف ما بعده؟! وقد بيَّن الإمام الباقر عليه السلام الحالة في حديث طويل له جاء فيه: ((... ثمّ لم نزل أهل البيت مذ قبض رسول الله صلى الله عليه وآله نذل ونقصى ونحرم... ووجد الكذّابون لكذبهم موضعاً يتقرّبون إلى أوليائهم وقضاتهم وعمَّالهم، في كل بلدة يحدّثون عدوَّنا وولاتهم الماضين بالأحاديث الكاذبة الباطلة، ويحدّثون ويروون عنّا ما لم نقل، تهجيناً منهم لنا، وكذباً علينا، وتقرَّباً إلى ولاتهم وقضاتهم بالزور والكذب... ثمّ لم يزل البلاء الشديد يزداد... حتّى أن الرجل ليقال له زنديق أو مجوسي أحبُّ إليه من أن يشار إليه بأنه شيعة علي عليه السلام وربما رأيت الرجل يذكر بخير ولعلَّه يكون ورعاً صدوقاً يحدِّث بأحاديث عظيمة عجيبة... وكان أشدُّ الناس في ذلك القرَّاء المراءون المتصنِّعون الذين يظهرون الخشوع والورع... وصارت في يد المتنسِّكين والمتديّنين منهم الذين لا يستحلّون الافتعال لمثلها...))(5). والقارئ المتأمّل في تاريخ المسلمين يرى أن المتنسِّكين والمتزهّدين كانت لهم يد طولى في ثني الناس عن جادَّة الصواب، وما كان التزهُّد والتنسُّك سوى بوابة لدعوى القرب من الباري تبارك وتعالى قرباً يصوِّر مدّعيه في ظلال الرحمة الإلهية، وهو ما يمكّن صاحبه من نسج هالات القدس على مذهبه وجماعته ليسرق أو يبهت أبرز علامات القرب من الباري تبارك وتعالى ظهوراً عند البشر، ألا وهي الكرامات الربانية التي تظهر على يد الأولياء، الأمر الذي شوَّش على وجدان الناس فاختلطت موازينهم، وألفت معارفهم ذاكرة الجهل ووهن النظر وأوهام الشيطان، فمن جهة يلمسون آثاراً طبيعية تحدث للسالك لله وإن لم يكن سلوكه على صراطٍ مستقيم، وهي آثار يمليها جوُّ الاستطراق أو طبيعة الطريق المستطرق أو هي آثار تتولّد من صلب العقيدة بغضّ النظر عن المعتقد، ومن جهة أخرى يدرك العقل أن للشيطان لمسات تُزيِّن لأوليائه ضلالهم، وفي الآية المباركة المتقدِّمة ما يشير إلى ذلك، ومن جهة ثالثة يتحدّث التاريخ عن سعي قريش(6) _ في جميع أطوار دولتها وعلى اختلاف مشارب حكّامها _ في الاستفادة من الظواهر الدينية من أجل ترسيخ نظرتها الخاصة في الدين وتحوير ما جاء به الوحي بنحو يخدم مصالحها ويحقِّق رؤاها الدينية، فشوَّهت مظاهر الدين فضلاً عن حقائقه، وأكثرت من التظاهر بالتديّن، وهذا المعنى ليس من الحقائق المتخفّية _ خجلاً _ وراء سطور المؤرَّخين لتاريخ الخلفاء العرب، وبمجرَّد إطلالة سريعة على صولاتهم وجولاتهم تدرك أنهم جبابرة ضحَّوا من أجل الملك بكل شيء حتّى بالإسلام. ميزان العظمة وأهمية الذات: يأنس الذهن كثيراً بالأحداث الكبرى التي تكوَّن منعطفاً في حياته، ويجعلها معياراً يتمُّ على أساسه تحديد عظمة صانع تلك الأحداث بغضّ النظر عن إيجابية وسلبية تلك الأحداث، وهذا المقياس تجده متداولاً في مناحي الدنيا، مقبولاً عند العقلاء، ومتضمَّناً لموازينهم، وداخلاً ضمن مدركهم وشأنهم الذي تبتني عليه رؤيتهم تلك. وقد ترى في استعمالات الشارع المقدّس نفس الميزان، ولكن تجد في بياناته وصف بعض الأفراد بأنه عظيم كما في الخبر الوارد عن أبي عبد الله عليه السلام: ((... ومن تعلّم وعمل وعلّم لله دعي في ملكوت السماوات عظيماً...))(7) ومثله نعت: ((من يحب في الله و يبغض في الله)) وهذه النعوت تتّفق مع المناحي التي بُنيَ عليها الدين، فالعظمة تكمن في أمور كبيرة وذات خطر عظيم في واقعها وإن لم يلتفت الناس إلى تلك الحقيقة. ولست في صدد تعداد مكامن العظمة أو كواشفها في الذات الإنسانية أو غيرها، ولكن لا أجد بدّاً من ذكر أهم كاشفين عن عناية الباري بالإنسان ولا شكّ أنهما إذا التقيا كشفا عن عظمة تحفُّ بذلك الفرد أو تحلُّ بالذي صار محلاً لتجليهما بنحوٍ ما، وهما: البداء والإمامة، وسيأتي الحديث عنهما حين الكلام حول مقام السيد وشأنه. الكتابة عن العظماء: كما تكون الأحداث الكبرى معياراً لعظمة أصحابها كذلك تكون مقياساً يجسُّ صعوبة الحديث عن العظماء ودراسة حياتهم وتمييزهم عن المدّعين والمزيّفين هذه جهة، وجهة أخرى هي كثرة دواعي التدوين لسير العظماء، ولعلَّ أهم ما يدعو إلى الكتابة عنهم أنهم منار يُهتدى بهم في غمار الحياة، ولكلٍ نظرة وتعلُّقٌ بالعظماء، فنظرة ترقى إلى مستوى التقديس، ونظرة تهبط ما دون سطح الاعتراف والاقتداء بغضاً أو حنقاً أو غير ذلك مع الاعتراف بعظمة تلك الشخصية المرغوب عنها. وتتعطَّل لغة الكلام حينما يكون التدوين عن عظيم وهب مبدأه الحياة، ونسخ عنوان ذاته ليحلّ محله عنوان مبدئه، وإذا كان المبدأ سماوياً، وكان العامل به والواهب روحه له محبّاً فإن العقل يبخع؛ إذ الوقت وقتٌ تتجلَّى فيه روح الوجود، كي تقود العالم نحو تكاملٍ وتناسقٍ ضيعه الإنسان أو كاد؛ هنا ندرك نحن البشر أن السكينة التي يهبها لنا أرباب العظمة لم تكن من كأس أوهامنا، ولم تكن من موائد دنيانا.. إنها نتاج الدين والتديَّن والضمير الحي الواعي، إنها دواء النفس المتهالكة والعقل الواهي، فقد يترك هذا العظيم التجوال في الأرض ويتعالى على المشتهيات كي يشرف على آمال الضمائر الحرة، ويُنَمَّي غرسة العبودية للحق تبارك وتعالى؛ تلك الغرسة الكافلة لتحقيق الذات للذات، والماسحة ألوان الغبش عن فجر الحقيقة ومشرق النفس. يشرف على الآمال، ويحقِّق الأمنيات، ويزداد عطاءً كلما زدنا استعداداً وقابلية، وكأن التحف والمواهب الرحمانية فيض جاء به، وهبةٌ زفَّها لنا نحن البشر من شفقةٍ ورحمةٍ تتدفَّق من بين جوانبه، فذاته على عطائها وكرامته على نوالها صدقة جارية له فطرها فاطر الخلق، فنبعت فوق الحس أو قارنته، ومن دون دركٍ أو معه.. هكذا شأن العظماء الربانيين يفيضون علينا، ويبلغون بنا ما لم نكن نحلم به، بل ما لم يخطر بالبال، رعاية منهم لعيشنا نحن البشر، وصيانة لوجه الحياة وحفاظة على الأخلاق ولباب العقول. وبين العظام من يسعى نحو مبدءٍ ظانّاً أن فيه جماع الأمر المُنْشد في وجدانه، وهو على عظمته شارد البال، لاهٍ عن معاقد الأمور، وإنما تلمّس أشياء تجمَّل ببعضها العقلاء، وجالوا ببعضها في سياحتهم حول الذات الإنسانية؛ هؤلاء وإن تعرَّفوا على سرَّ العظمة، أو نالوا شيئاً من خصائصها، ولكنَّها لم تكن إلاّ خصائص مرسلة ذات ملامح مجازية، لا أسَّ لها ولا أساس، وهي وإن صدرت عن نبع حي إلاّ أنها فارقت بلسمه الذي يبرء الجراح الدامية من صرعة الأنا حيث لم ترتبط بالسماء، وإن ادّعت الارتباط بها لم يصدِّق الرب تبارك وتعالى دعواها. وأما عظماء الحق فلم تلههم خصيصة عن سرَّ العظمة؛ إذ كانت قلوبهم مكمنها، ولم يفقدوا بلسمها؛ إذ بهم يتم الارتباط بين السماء والأرض، وأحد أولئك العظماء _ الذين أقرَّت لهم الأرض، بضعف تحملها عظيم دلائلهم، وسابغ إيمانهم، وتأبَّت أن تركن إلى خادع أمانيها _ إمامٌ وابنٌ لأئمّة الهدى، ومنار التقى وهو الإمام علي الهادي عليه السلام الذي أنجب سادات، تحنُّ الأرواح إلى محيَّاهم، فصنعهم أعلاماً للدين وتسديداً لأولياء الله، منهم من نال عهد الإمامة، ومنهم من شابه ريحانتي رسول الله صلى الله عليه وآله، و منهم من يقف المؤالف والمخالف على بابه، خاضعاً يرجو نوالاً ينعش دنياه، أو يثمر أمل أخراه، والسيد المرجوُّ المعنيُّ بهذه الأحرف الجذلى وهو سيدنا: أبو جعفر سيد محمّد ابن الإمام علي الهادي عليه السلام. المقام الاجتماعي والشأن الرباني: يتكوّن المقام الاجتماعي للفرد من عوامل عدّة، منها المكانة الاجتماعية لبيته الذي أنجبه، ومنها الميزات والخصائص المعنوية والمادية التي يحويها، وعادة ما تقترن المكانة الاجتماعية بوجاهة ونفوذ اجتماعيين يظهر اعتبارهما وقيمتهما أثر ظروف وشروط خاصة(8). الهوامش: (1) الأعراف: 16 و17. (2) محكي عن البخاري في صحيحه والمقدسي في الأحاديث المختارة وغيرهما بأسانيدهم عن الزهري أنه قال: دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي فقلت: ما يبكيك؟ فقال ما ذكر في النصّ. راجع مثل البخاري 1: 133/ كتاب مواقيت الصلاة وفضلها/ باب تضييع الصلاة عن وقتها. (3) محكي عن مسند أحمد 5: 195، و6: 443. (4) محكي عن الاعتصام للشاطبي 1: 34. (5) كتاب سليم بن قيس الهلالي 2: 630 - 635. (6) ليس المراد من لفظ قريش ذلك المرتكز التاريخي المشير إلى المجموعات التي وقفت بوجه النبي صلى الله عليه وآله أبان الدعوة بل هي مفردة تسع للأعقاب منهم الذين كايدوا الدين الإسلامي بنفس النهج الأوّل وإن تناحروا فيما بينهم في سبيل الملك ولوحدة النهج عبرت بدولة قريش. (7) بحار الأنوار 2: 27. (8) من جهة فنية يقع البحث في الظروف والشروط على عاتق الباحث الاجتماعي. ****************** فالوجاهة هي محصَّل الاحترام الذي يتلقَّاه الفرد من المجتمع بسبب ما يحيط بمكانته من الملابسات التي توجب الاحترام، فإن لم توجبه تذهب وجاهته، فكم من إنسانٍ له مكانة اجتماعية مرموقة، ولكن ليست لديه تلك الوجاهة المناسبة لها، وكم من إنسان له من الوجاهة الشيء الكثير رغم أن مكانته الاجتماعية بسيطة أو مقامه ضحل. ومع تحقُّق الوجاهة يتحقَّق النفوذ؛ إذ هو تعبير عن قدرة الإنسان في المجتمع. وللوجاهة هيمنة على عقول الناس ونفوسهم، هيمنة تكاد أن تكون مقدَّسة، ولعلَّ سرُّ ذلك هو غياب منشأها عن أعين الناس ورؤيتهم لآثارها، الأمر الذي يشعرهم بالراحة من النقص الذي يعتريهم، لذا تجدهم يحنّون إليها كحنين الرضيع لثدي اُمّه، ويُسخّرون بها الناس أيّما تسخير(1)، وكأن الوجاهة ميسم كرامة حباه الله لذوي المكانة الاجتماعية فلا يتوقَّع عامة الناس محلاً للفضائل غير هؤلاء، وكأن مضمون كلمة الصادق عليه السلام متجلٍ هنا: ((إذا أقبلت الدنيا على إنسان أعطته محاسن غيره وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه))(2)، وفي قوله تعالى: ((وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ))(3) ما يعضد هذه الحقيقة، وناظر إلى مثل هذه الخصيصة الشائعة بين الناس، في حين أن المُؤْثر بأفضل مراتب الدين وجلاله هو الأفضل في طاعة الباري والأجدى في خدمته، وأيضاً لا يُؤخر في مراتب الدين وجلاله إلاَّ الأشدّ تباطئاً عن طاعته، وهذا من الأمور الخفيَّة التي لا يظهر عليها إلاَّ الباري تبارك وتعالى، أو من أظهره عليها الباري عز وجل فقد يكون هنالك عبد لله عز وجل لا ينفذ أمره في الناس رغم وجاهته، أو لا يعتني الناس به وهو لو أقسم على الله لأبرَّ الله قسمه، ولكن الله أخفاه في عباده(4). إذن لا غرابة أن ترى الدنيا منصبَّة على قوم لا خلاق لهم في الآخرة، يحكمون فيها بأهوائهم، ويأخذونها باسم الدين وربَّه، ولو كانت الدنيا تساوي عند الله مقدار جناح بعوضة لما شرب منها كافر شربة ماء، بينما ترى أهل بيت النبوة تضيق عليهم الدنيا بما رحبت، والغرض الإشارة إلى عدم الملازمة بين المكانة الاجتماعية والشأن الرباني. ومكانة السيد وإن تربَّعت في ذروة المراتب الاجتماعية وما تفرزه من وهاجة إلاَّ أنَّ شأنه الرباني له ذروته التي لا تضاهى. قرب الباري ونعوت الأولياء: إنَّ درك لون إيمان السيد وتصوُّر مدى قربه من الباري عز وجل هو الغرض من هذه الأسطر التي تشير _ بنظرة إجمالية _ إلى درجات الإيمان وموجباته ودرجات القرب من الباري تبارك وتعالى ومراتبه، ولا حاجة إلى بيان المفردات لوضوحها، ولأن الموضوع ليس من صميم البحث المنظور، وإنما هو توطئة من أجل تكوين صورة إجمالية عن الأجواء التي يعيشها الولي، والتعرَّف ولو بشكل مقتضب على لون إيمان السيد ومدى قربه من الباري. ولعلَّ المستقر في نفس الإنسان أن حقيقة الإيمان ومكوناته وأكوانه سهلة المنال، بسيطة التناول، لا تحتاج لبذل جهد أو إتعاب نفس كما هو شأن تعريفه ولكن.. أجد الحديث عن درجات الإيمان ومراتب القرب من الباري تبارك وتعالى حديثاً شائكاً، رغم أنه ممتع في نفس الوقت، فللإسلام مراتب أدناها التلفظ بالشهادتين، وتتدرَّج المراتب لتصل إلى منحى يتطلَّبه الأنبياء، فهم على علو درجاتهم وسموَّ مقامهم يتوسَّلون إلى الله كي يبلّغهم إلى تلكم المراتب، فهذا أبو الأنبياء إبراهيم وابنه إسماعيل يدعوان الله: ((رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ))(5) وكذا الإيمان له مراتب يبدأ أوّلها بالإقرار بالوحدانية، ويتبعه الإقرار للرسول بالرسالة وأنَّ طاعتهما ومعرفتهما مقرونتان(6)، وتتدرَّج مراتب الإيمان إلى ما شاء الله، وفي بعضها يمتحن المؤمن ليصبح قرين مَلَك مقرب أو نبي مرسل، ولكل مرتبة اسم يحكيها وقسمة تحويها، فاليقين _ مثلاً _ أقل المراتب انتشار(7). إذن من المهم معرفة ما جاء من الحديث عن الإيمان بالنحو الذي يبرز سماته وعلاماته وآثاره وخصائصه وخصاله فضلاً عن بيان حدوده، إذ له حقيقة بل حقائق، وأركان، ودعائم، وعرى، ومن أوثق عراه الحبّ في الله والسعي في قضاء الحوائج، وفي جملة من النصوص عُدَّ الحبّ في الله هو الدين، وبعض ملابسات الحبّ يعدُّ تقوية للحبّ والإيمان كتعظيم شعائر المحبوب وبعضها بالإضافة إلى تقويتها للإيمان تنمُّ عن صلابته بل وتنميه كالثقة بالله، ورجائه، وخوفه، وحسن الظن به، ومراقبته، واتّباعه، بل والتوكّل عليه، فلا شيء يفوق ما يختاره المحبوب، وهو ما يستدعي الرضا باختياره والتسليم لأمره. وهذه المعاني جملة ما توجب للإنسان نيل الدرجات العلى، فمن أحبَّ في الله وكذلك من أبغض وأعطى ومنع في الله فهو من أصفياء الله(8). وهذا المعنى سارٍ بكل ملابس مذكور أو غير مذكور، فمثل الثقة بالله ثمن لكل غال وسلّم لكل عال كما ورد عن الإمام الجواد عليه السلام(9)، والتوكّل على الله أحد أركان الإيمان التي لا يستقر إيمان بدونها، فبعض الصفات تكون ركناً في مرتبة من مراتب الإيمان وعاملاً مقوياً ومنمّياً في مرتبة أخرى، وبعضها يُعدُّ أساساً لأصل الإيمان سارياً في جميع مراتبه ولك الرجوع إلى أحاديث الإيمان ودرجات الإسلام للإطلاع على ذلك. وبالإضافة إلى التعرّف على الإيمان ودرجاته ينبغي معرفة درجات المؤمنين؛ إذ لكل درجة متطلّبات فحسنات الأبرار سيئات المقربين، وكل ما ذُكِر من مراتب له درجات، ويتفاوت أهل الإيمان قوة وضعفاً في حيازتهم لهذه الصفات(10)، وكثيراً ما تتأثّر تلك الحيازة بالعلم والعمل، قال تعالى: ((يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ))(11) فالعلم والعمل أساسان للإيمان والترقي، وإن كان لبيئة الإنسان مدخلية فهي بشكل جزئي ومحدود. نعم في الجانب الإيجابي لبيئة الإنسان ومنبته يصّرح القرآن بتأثير الإيمان، قال تعالى: ((وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً))(12) وبعد حصول هذه المعرفة الإجمالية تدرك أنَّ من آثار المودّة والحبّ الأولوية بالدنو والقرب، ومعنى ذلك أن الولي هو المستحق دون غيره، إذ هو الأقرب للباري دون سواه، وأنَّ الأولياء تتفاوت درجاتهم بحسب ما تحتويه قلوبهم وتصرف فيه أعمارهم وما يجتازون من امتحان. إلى هنا يمكن القول: بأنَّ هنالك تناسباً طردياً بين الإيمان والقرب من الله تبارك وتعالى، فمع ازدياد الإيمان يزداد الإنسان قرباً من الباري عز وجل وأنَّ لكل مرتبة إيمانية بناءها الخاص، وأنَّ لأهلها شأناً وابتلاء يعكس تلك المرتبة، وتتلخَّص أسباب علوَّ المرتبة في العلم والمعرفة وحبّ الله سبحانه وتعالى، وهي أمور ينبثق منها الكثير من الفضائل، منها: الثقة بالله والتوكل عليه وخوفه ورجاؤه وطاعته، ومشرعة هذه الميزات تقوى الله ومراقبته والتسليم لأمره، وهي معانٍ تستبطن خصائص تنمَّي الذات الإنسانية فتجد الأنا نفسها من دون أن يشوَّهها جهل أو يمسَّها طائف من الشيطان. هذا هو الإيمان، وهذا هو أثره بشكل مختزل بحسب طبيعة موضوع البحث، ويكاد من شدّة إجماله أن يكون مختل البيان(13). وبعد ما تقدَّم تدرك أن شخص السيد سبع الدجيل _ بالإضافة إلى وفور عقله وعلمه _ قد حوى جملة خلال الإيمان(14)، بل وتسنَّم درجاته الرفيعة بالنظر إلى كونه محلاً للبداء، وقد تقدَّم ما يشير إلى أنه لا يكون كذلك لو لم يحل في منزلة رفيعة، وقد أسعفه على ذلك أنه من آل إبراهيم المصطفين بحسب النصّ القرآني المتقدّم، فصفاته إذن نموذجية كشفت عنها آثارها وأخبار البداء، وسيأتي في البحث التالي الكلام حول آثار القرب وكيفية كشفه عن الولي ومنزلته بشكل إجمالي؛ إذ أنَّ الله أخفى أولياءه بين الناس فلا يستخفنَّ أحدٌ بأحد، وبذا يتمُّ الكلام عن موجبات القرب وصفات المقرّبين. * * * الفصل الأوّل: الهوية الشخصية قرون الصراع بين قريش والإسلام. الأصل والمنبت. سبع الدجيل في التاريخ والوجدان. السيد في وجدان الأمّة وعند قادتها. كرامات سبع الدجيل. المحور الأوّل: قرون الصراع بين قريش والإسلام عنوان يختصر الكلام وهو وإن كان بسطه وشرحه يطول لكن مضمونه من الواضحات لدى القارئ الواعي لتاريخ الإسلام والمسلمين، فالقرآن الكريم يحتوي على عشرات الآيات التي تكشف ستر النفاق والمنافقين، ولبُّ حركة المنافقين _ على اختلاف اتّجاهاتهم وتنوّع مشاربهم _ يرتكز على رفض ما جاء به الدين والأخذ بنظرتهم أو مصلحتهم الخاصة تحت أيّ مسمى كان، وأسفار التاريخ مشبعة بأقاصيص تكذّب بما ورد في القرآن الكريم أو تموّه الحق الذي لا ريب فيه، وما يمسُّ البحث من هذا العنوان هو الإشارة إلى أساليب المؤرَّخين في دولة بني العبّاس، ولفت الأنظار إلى الوضع الديني العام آنذاك، وإلى ما نال أهل البيت عليهم السلام إذ كانوا المصدر الطبيعي للدين وملجأ الإسلام على مرور الأيام، وبذا تظهر بعض القيم المهمّة والتي تحدِّد موقعية السيد سبع الدجيل. مقامات تاريخية وأخرى أسطورية: جرت عادة الكتّاب أن يرسموا مقام العظام بالتركيز على مكمن رفعتهم، وقد تعزُّ المصادر على الباحث فيخبو ضوء الرفعة عنه، كما النجم كلما ازداد بعداً كلما خبا نوره وندر العثور على شيء من خصائصه، بيد أنَّ جولات الفكر تستطيع أن تفصح عن مقام عظيم ما، بالكشف عن المحل الذي تبوَّأه، وهذا المنحى له ميزاته الشيّقة؛ إذ يبتعد عن سطر الأحداث أو استنطاقها موجهة بما يعتقد كاتبها، فهي الكائن الذي يحمل بين طيَّاته رغبات المؤرَّخ ونزعاته، وبهذا الداعي وذاك التجأت المعاني إلى قلم عَلِمَ معالمَ الفكر وحرَّر محبرته من سواد الأنا، فالسيد أبو جعفر وإن لم أظفر بشيء يحكي عنه حدثاً أو يصنع له جدثاً في مدوَّنات التاريخ إلاَّ أن له مَعْلَماً حياً في النفوس لم تصنعه كلمات المتاجرين ولا تمتمات المريدين، بل فرضه ربُّ العالمين على من ناوأه وسقاه بمن والاه، فسبع الدجيل _ على صغر سنه _ خاض لباب المعترك، فلقد صبَّت الدولة العبّاسية كل نصب ووصب على بيت الإمامة، وحاكت حولهم رصداً يمنع الناس من الدنو لرشدهم، فصار الناس بأشدَّ ظلمة، وبات أهل البيت وقد تفرَّد بهم البلاء، وتحمَّلوا الأذى من حين خُرَّب بيت النبوة ورُدِمَ بابه ونُقِضَ سقفه واُلحقت سماؤه بأرضه وعاليه بسافله وظاهره بباطنه واستأصل أهله واُبيدت أنصاره وقُتلت أطفاله واُخلي منبره من وصيه ووارثه، وهم _ ورغم ذلك كلّه _ يبثُّون لطائف الفكر ودلائل الإيمان كي يخرجوا الناس من طيف الوهم والضلال. وقد جرت العادة بين ذوي القلم على الالتجاء إلى قصاصات تاريخية كي يصفوا شخصاً ما، فقصاصة تحكي طوله، وأخرى تحكي لونه، وثالثة شكله و... حتّى تملَّ العين من ملاحقة كلماتٍ يكثر خطوها في أسطر التاريخ، وهي تجترُّ وتجترُّ، وقد شاخت ولم تتقاعد بعد، يلتمس كاتبها معالم شخصية ما، ويحكي سماتٍ ماديةً أو أخرى معنوية قد تشرق في مسطورات التاريخ أو ترسم أسطوراته التي يعمدها ذاك المؤرَّخ أو هذا الباحث بمخيالٍ طبعه التزويق، فيزاوج بينها وبين الواقع، فيبدأ بوصف الخليفة، ويحكي سكنه، ويضفي عليه جملة أصباغ بغداد وكريمات الشام إذ لم تكن باريس آنذاك! ويروَّج لها ألحان معبد ومخنث المدنية فيضطر الإنسان إلى ترك ما في التاريخ من أمجاد وبطولات، ويهجر القلم وما خط؛ إذ لم يكن فيه روح الصدق وعاطفة الحقيقة، ويسعى نحو وشائج عصت على المؤرَّخ فلا المؤرَّخ ينكرها، ولا العالم يذكرها، وإنما تخرج من بين أنامله برغم منه، كما شردت عن أعين الراصدين وشائج النبوة ودلائل الصدق. ومن الأمثال التي تتجلّى في طياتها مثل هذه القضايا.. دولة بني العبّاس، فقد صالوا وجالوا في كل حقل جاهدين في إطفاء نور الله عز وجل، وتراهم متفننّين في غيَّهم، فمن تغييبٍ للعقول المنورة.. إلى قتلٍ للقلوب الواعية كابن السكيت، وحبسٍ للأنفس الطاهرة كابن أبي عمير، ومنع للنفوس العطشى عن الورود للمنهل العذب بتزوير ملامح الهداة ونشر الأفكار المشوّهة، الأمر الذي صدر عنه حيرة شديدة ألمَّت بأغلب المسلمين المتطلّعين إلى نور النبوة والمشتاقين إلى رؤية أبناء الرسول الأكرم والأخذ من هديهم، وتمَّ ذلك بتشعيب طرق المعرفة الدينية ما يعسر معه الوصول إلى المنهل العذب الذي نصبه ودلَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وآله والتمويه بأشباه الرجال، فأبدعوا المذاهب وحصروا الفتيا في أناس معدودين مما ظاهرهم على إطفاء نور الله، ولكن يأبى الله أن يخبو نور الحق، وأهله أهل بيت النبوة، فخلَّد ذكرهم الحكيم وأغنى الناس عن تكلُّف ما قيل وما يقال حولهم بما أنبأ عن منبتهم وأفصح من طهارتهم، وظهرت للناس آثار الاصطفاء، وشاعت علائم الاجتباء، فنقشت أحوالهم كرامات لهم تنبئ الموافق والمخالف بأنه ((لا يقاس بآل محمّد صلى الله عليه وآله من هذه الأمّة أحد))(15) إذ ليست مصادفة أن تجري خوارق العادات بما يقيم أود طلابهم، فمن كان مع الله كان الله معه، وإذا أراد الله عز وجل إظهار فضيلة أمّة أو هتك لمة لا يعييه شيء؛ إذ هو القادر لا تعييه المذاهب ولا يفوته طالب. وخلاصة القول: أنَّ الدولة العبّاسية صرفت الناس عن باب بيت النبوة، واستطاعت أن تشتّت الانتماء الديني بما أبدعت من مذاهب واتجاهات في مختلف فروع المعارف الدينية، وعمَّقت ما أحدثه رجالات قريش إبَّان فجر الإسلام، بيد أن العناية الإلهية حالت بينهم وبين شهوات أنفسهم. نظرة على الحياة العامة آنذاك: كان شعار الحركة العبّاسية (الرضا من آل محمّد) فوافق هوى الناس؛ إذ القابع في أذهانهم والمرتكز في نفوسهم تمثُّل الحق والعدل في محمّد وآله، سيّما وأنهم لم يصابوا بذلّةٍ في جوارهم، ولم ينتقص حقٌّ في سلطانهم، وبدينهم ودين جدَّهم دان الناس، ومن سيرتهم تعرَّف الخلق على معاني الكرامة والحياة النبيلة، ولذا ترى الناس وقد سارعوا إلى تفتيت بني أمية، خصوصاً وأنهم ذاقوا وبال صولتهم وشؤم دولتهم وسرعان ما تكشَّف قناع بني العبّاس واُطرح شعار (الرضا من آل محمّد) فمن بدء أمرهم مكنَّوا السيف من رفاق الأمس، وطاشت أحلامهم حتّى خالط نشوة الظفر شهوة الاستبداد وسلطان الغدر، فطُلَّت دماء الخراسانيين وهي دماء طالما تدفَّقت في شرايينهم، فلم يتربَّع المنصور إلاَّ على جماجم أنصاره الذين التهموا دولة بني أمية، وعمد بنو العبّاس إلى التخلُّص ممن يخشونه من أعوانهم، وبعد موجة عاتية من التصفيات شرعوا في تأسيس فكرٍ يقوَّي سلطانهم ويربط الدين بمصالحهم مستفيدين من طلاب الرئاسة والشهرة(16) ومنافقي الأمّة، فحصروا الفتيا في فئة معينة، وأوكلوا الحديث لأخرى، ولم يتركوا العقيدة في حالها، بل كوَّنوا لهم أندية جمعوا فيها المتكلّمين على اختلاف مشاربهم(17)، وبلغت هذه الأندية أوجها في زمن المأمون، فلقد جمع متكلّمي الأديان من أقطار الأرض على اختلاف مشاربهم، وقذف بهم في سجالات مع أهل البيت طمعاً منه في أن تبهت أنوار آل محمّد، ولم تفلح هذه المحاولات على كثرتها، هذا على صعيد علّية القوم، وأما على مستوى عموم الناس فلقد وظَّف بنو العبّاس الشعراء(18) والمفتين وطبقات من طلاب العلوم _ سيّما طلاب علم الكلام(19) ممن حفظ طرفاً من هنا وهناك _ من أجل بثّ معانٍ جدد في مختلف أطياف المجتمع، وقد بدأوا في تكوين الغطاء الديني في وقت مبكر من عمر الدولة العبّاسية، ومؤسس هذه الحركة في زمن بني العبّاس هو المنصور الدوانيقي(20) بعد وقعة الحرة، وأطلقها بكلمةٍ معروفة (لأعلونَّ كعب تيم وعدي وإن رغم أنفه)(21)، ومنها انطلقت آيات التقديس للشيخين وبدأت الشياطين توحي إلى أوليائها زخرفاً من القول وزوراً. ولا يعني ذلك أنَّ الناس تجاوبوا مع بني العبّاس أو أنهم نجحوا بقول مطلق في تحقيق بغيتهم؛ إذ وقفت ثُلّة من الغيارى على الدين وأهله، وهم (( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً))(22) فها هو السيد الحميري يصدح بحقائق التاريخ ويوثّقها سيّما ما صدر من الشيخين، وبنو العبّاس لا يلقون بالاً لما يفعل إذ كانوا في شغل عنه.. الهوامش: (1) ومن لطائف الشواهد على هيمنة الوجاهة ما جعل المتنبي يضنُّ بالمال لقضية حدثت له مع بعض الباعة، فبينما كان يساومه على خمس بطيخات بدينار جاء رجل وأخذها منه بثلاثة دراهم من دون مساومة، بل وحملها البائع لبيته، فلما عاتبه المتنبي قال له: أنت لا تعرف هذا الرجل، إنه شيخ التجّار؟! (2) بحار الأنوار 69: 64/ ح 11. (3) الزخرف: 31. (4) روى الصدوق عن أمير المؤمنين عليه السلام: ((إن الله أخفى وليه في عباده فلا تستصغروا شيئاً من عباده)) بحار الأنوار 72: 55. (5) البقرة: 128. (6) وسائل الشيعة 5: 419/ ح 6975. (7) بين الإسلام والإيمان تداخل في المراتب فالإيمان يدخل كشرطٍ أو كجزء في بعض مراتب الإسلام وكذا العكس، ومثلهما لفظ التقوى واليقين وما شابه فهذه الألفاظ بالإضافة إلى كونها مشكّكة هي متداخلة. (8) هذا مضمون حديث يذكره الحر العاملي في وسائل الشيعة 16: 166/ ح 21251. (9) بحار الأنوار 75: 364. (10) (11) تحسن الإشارة إلى أن للكفر مراتب، وهي تتفاوت، وفي بعضها قد يكون الإنسان مسلماً لكن له كفر دون كفر، وهو غير المخرج من دائر الإسلام ما لم يؤدِ إلى إنكار النبوة أعاذنا الله وإيّاكم. (12) الكهف: 82 . (13) ولا يخفى أنَّ لكل صفة مراتب، ولكل مرتبة مطالب، فقد تتطلَّب مرتبة من مراتب التوكّل درجة إيمانية معيَّنة، وفي عين الحال تتطلَّب تلك الدرجة الإيمانية لوناً معيَّناً من ألوان التوكّل، فالتوكّل والإيمان وغيرهما مما تقدَّم طالب ومطلوب في تدرجه، وقد تقدَّمت الإشارة إليه وهو شيء مهم ينبغي العناية به. (14) لان الإيمان فرع الالتفات و المعرفة، وهما يحتاجان لعقل رزين وعلم نقي. (15) نهج البلاغة 1: 30/ من خطبة له بعد انصرافه من صفين. (16) هناك مكاتبة مشهورة بين الإمام الصادق عليه السلام و المنصور الدوانيقي يطلب فيها الثاني من الإمام أن يغشاه كما يغشاه الناس فأجابه عليه السلام: ((ليس عندنا ما نخافك عليه، وليس عندك ما نطمع فيه، ولست في نعمة فنهنيك، ولا في مصيبة فنعزيك)) فقال له: تغشانا لتنصحنا؟! فأجابه: ((من يطلب الآخرة لا يصحبك، ومن يطلب الدنيا لا ينصحك)). وكان تعليق المنصور على هذه المقولة أنها ميَّزت منازل الناس لديه. بحار الأنوار 47: 184. (17) من أبرز أنديتهم نادي البرامكة الذي يحضره بين الفينة والأخرى هارون نفسه. (18) يعدُّ الشعر آنذاك أقوى وسيلة إعلامية. (19) لمعرفة أهمية أهل الكلام وتأثيرهم في الوضع في تلك الفترة لاحظ قول هارون الرشيد في خطابه ليحيى البرمكي، بعدما سمع كلام هشام بن الحكم: (مثل هذا حي ويبقى لي ملكي ساعة واحدة، فوالله للسان هذا أبلغ في قلوب الناس العامة من مائة ألف سيف). بحار الأنوار 48: 202. (20) قد سبقه في ذلك الحكّام المتقدّمون عليه، لكن محاولاتهم لم تكن مؤثّرة كما كانت حركة بني العبّاس، ولعلَّ السبب يرجع إلى فقد عنصر الانتماء للبيت الهاشمي. (21) ذكرها في خطبة الجمعة، ولها صيغ متعدّدة، ومنع على إثرها من ذكر فضائل أهل البيت عليهم السلام ومنع من رواية ما لا يصب مع حربه على أهل البيت من تاريخ أبي بكر وعمر، راجع (ج 3/ ص 204) من الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم للشيخ زين الدين علي بن يونس العاملي النباطي. (22) الأحزاب: 23. ****************** وما إن انتشر فكر العبّاسيين ونشط رجال البلاط لذلك الفكر حتّى بدأ الخناق يضيق على السيد وذلك بتحريك العامة، وقد استفادوا من الشراة كثيراً في هذا الباب. وقد انتقي مكان عاصمة العبّاسيين بعناية، وتمَّت هندستها وفق حاجات الملك والسلطنة، وبشكل يضمن السيطرة عليها وعلى قاطنيها، برغم أنَّ ساكنيها قد اختيروا بدراية تضمن الولاء للدولة، وقد أعطى بناؤها المؤسَّسين الأوائل المدى الزمني الكافي لكنس رفاق الدرب ومحو آثار الحروب، فقد استغرق العمل فيها عقداً من الزمن أو أكثر حتّى أنشئت كدار للسلطنة وعاصمة للملك يدين أهلها للحاكم بالولاء ولكن رغم كل تلك التدابير إلاَّ أنه سرعان ما ارتسم على وجهها ملامح تضاد، فبغداد العاصمة كانت من وجهة دينية همُّها الشاغل طُرف دينية يحلم بها العامة، وتجلب الألقاب أو الأرزاق من جيب هذا الوزير وذاك الخليفة. ومن وجهة ثانية حلَّ بها جيش يفعل ما يشاء، وكأنَّ الدين أنزل لغيرهم والأخلاق ليست بثوبٍ لهم. ومن وجهة ثالثة خليفة يرفع الله سيفاً ويغنّي النبي وا لإسلاما، يصلّي في الجامع ويأمر بتقوى الله ويدلّل الجيش بما لا يرضي الله. وبلغ الأمر أن جند الخليفة يعتدون على المرأة المسلمة في شوارع بغداد وتسحق خيلهم الشيوخ والأطفال من غير اكتراث(1) ولا من منكر، ولمَّا احتج المتدرّعون بالمواهب الدينية طلبوا من الخليفة إبعاد جنده عنهم فانبثقت.. سامراء: بلدٌ يقطنها الخليفة وجنده، وتحوي أركان المملكة ويحجز فيها من يخشى منه، وقد كانت سامراء لوناً جديداً في العالم لا يمسّها معروف ولا يهجرها منكر، لم يقطنها عالم باختياره، ولم يبارحها جاهل إلاَّ من قيَّض الله له أمره. هذا إجمال الصورة العامة للبلاط وأهله، وقد غلب عليه الترك وهم قوم أولوا قوة فتمكّنوا من كل شيء حتّى من سلاطين بني العبّاس ومن أعراض السلاطين(2). ولك أن تقدَّر حال الناس إذا كان أميرهم يسوسهم بالظلم والجور ويقوده في ذلك الجهل والبغي، تُرى كيف يكون حالهم وخليفتهم جاهل بأهمية القراءة والكتابة، بل وفيهم من لا يقرأ ولا يكتب، وهي أبسط الكمالات التي يحتاجها مثله(3) آنذاك، وأصبح السائد المعروف البغي والظلم والجور حتّى قال القائل: يا ليت ظلم بني مروان دام لنا وليت عدل بني العبّاس في النار ولو عملتَ مسرداً للحوادث التي منيَ بها الناس في دولة بني العبّاس لرأيت الأمن من جملة الأحلام والأمنيات التي تسكن خواطر الناس، ولرأيت أنَّ تفشي الفقر وتوهين الحق من أقوى الأسباب الداعية لقيام العلَّويين في دفع الظلم عن الناس(4) وبلغ الظلم حدّاً وكثرة أنَّه لا تكاد تعثر على صنف من المسلمين لم يجرَّد السيف في وجه بني العبّاس. * * * المحور الثاني: الأصل والمنبت أهل البيت عليهم السلام: قد تنتفي الحاجة إلى الاطلاع على جذور الرجال وأصول الأنساب في دنيا العلوم وعالم المعرفة، وقد يحتاج الباحث في مجال معيّن إلى الإلمام بأحوال الرجال ويستغني عن فصلهم وأصلهم، فيُعدُّ التعرّض للأصل والفصل ضرباً من الترف العلمي، لكن الأخذ بهذه النظرة بشكل مطلق غير صحيح، لأهمية جذور الإنسان وأصوله في معرفة سمته وسماته وتأثيرها في تكوينه الاجتماعي والنفسي والثقافي، فحينما يستعرض الإنسان خواطر النسب والأصل ينتشي فخراً أمام كلمات أرباب القلم، ويستشعر الرفعة والأصالة في ذاته حينما يسجّل طيب معدن الإنسان أو يرصد مجد آباء البشرية، وتخشع الأنفس وتندهش العقول عندما يكون وصفُ المنبتِ محل عناية الباري تبارك وتعالى، فكلامه سبحانه بعيد عن المبالغات المتحارفة عن الواقع، بعيد عن المجاملات ولو لم تكن تلك المجاملات خاوية، وأصل السيد وشأن آبائه يفصح عنه صنع الله بهم، فهلمَّ نستنطق كتاب الله في شأنهم. آباؤه: يكفي تعريفاً لهم أنهم أولئك المصطفون الأخيار، فقد قال تعالى فيهم: ((إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ))(5) وهم الذين دانت العباد بدينهم الذي اختصَّهم الله به، فقد نطق الذكر الحكيم عن لسان أبيهم إبراهيم الخليل: ((وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ))(6) وهم أمّة جنَّبهم الله عبادة الأصنام بدعوة أبيهم إبراهيم: ((وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَْصْنامَ))(7) وقد كانوا كما شاء الله من قبل أن يبرأهم، فـكانوا السبيل إلى الله والدعاة إليه والأدلاء عليه اقترن ذكرهم بذكره، وشكرهم بشكره، فأكرم به من مقام فقال تبارك وتعالى: ((قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى))(8). اُمّه: لم أظفر بشيء يمكن أن ينمَّ عن مقام اُمّه، ويكفيها شرفاً وسمواً أن كانت وعاءً لمثله، فالولد غرسة أبيه ونبتة اُمّه، يحكي فضائلهما وفواضلهما ويعكس سيرتهما بشكل ما إلاَّ ما شذ وندر، ولا يشذ شاذ إلاَّ لعلَّة عارضة. ويظهر من كلمات بعض النسّابة أنَّ أولاد الإمام علي الهادي عليه السلام لاُمّهات شتّى ففي كتاب السيد ضامن بن شدقم في تحفة الأزهار ما نصّه: قال السيد: (فأبو الحسن علي النقي عليه السلام خلَّف أربعة بنين: أبا محمّد الحسن العسكري اُمّه اُمّ ولد، والحسين، وأبا علي محمّداً، وأبا كرين جعفراً الكذّاب، وعايشة اُمّهاتهما اُمّهات أولاد)(9). أعمامه وعمّاته: ذكر السيد ضامن بن شدقم أنَّ للإمام الجواد أربعة بنين هم: الإمام الهادي وموسى المبرقع والحسين وعمران، وأربع بنات هنَّ: فاطمة وخديجة واُمّ كلثوم وحكيمة اُمّهم اُمّ ولد(10). ونصَّ الشيخ المفيد على ابنين: الإمام علي الهادي وموسى، وفاطمة وأمامة ابنتيه(11). واستظهر الشيخ عبّاس القمي من تاريخ قم أنَّ للإمام الجواد بناتاً غير ما ذكرت. وحكيمة لها فضل مميَّز، وقد أدركت أربعة من الأئمّة وأودع عندها الإمام الهادي السيدة نرجس اُمّ صاحب الزمان، وكان لها منصب السفارة بعد استشهاد الإمام العسكري، بالإضافة إلى خصائص ومهام اُخر، والملفت للنظر إهمال ذكرها فلم تثبت سيرته(12). والقول: بأنها ولدت بسامراء.. من سهو القلم؛ لأن المعتصم شرع في عمارة سامراء سنة (220هـ) وهي السنة التي قبض فيها الإمام الجواد على ما هو مشهور، وقيل توفي سنة (219هـ) أو (226هـ). إخوته: أبو (م ح م د) الحسن العسكري وهو الإمام بعد أبيه عليهما السلام. والحسين، ولقد كان ممتازاً في الديانة عن سائر أقرانه وأمثاله، تابعاً لأخيه الحسن عليه السلام معتقداً بإمامته، ودفن في حرم العسكريين عليهما السلام تحت قدميهما. وجعفر المعروف بالكذّاب، ذكر عنه السيد ابن شدقم جملة من الفضائع، وأشار إلى رسالة قد صنّفت في توبته، وعلَّق عليها قائلاً: (هذا خلاف للنسّابين وأهل التواريخ والسير، فإن مناصفتهم قد اتفقت على أكثر أخبار جعفر وما كان مصرّاً على ارتكابه، وأفعاله مشهورة عند الخاصة والعامة فنستعيذ بالله من ذلك)(13) وللدكتور جودت القزويني موقف وتأمّل حول هذا الموضوع في دراسته وتحقيقه لكتاب سبع الدجيل تأليف السيد موسى الموسوي فراجعه. وله أخت واحدة اسمها علية أو عائشة(14) وقيل: فاطمة. عقبه (15): الاعتناء بالنسب في ثقافة المسلم له مساس بمقامات دينية وأحكام تشريعية، ففي صوره الأوّلية يكون موضوعاً للتشريع، فبنو هاشم تحرم عليهم الزكاة، ويرجَّح الهاشمي في إمامة المصلّين على غيره، فمثل حديث: ((الأئمّة من قريش))(16) لفت نظر قريش وعلماءها، فجعلوا الانتساب إلى قريش أحد الشروط المطلوبة في الساعي لنيل الإمرة العظمى للمسلمين، رغم أن النبي صلى الله عليه وآله عيَّن المراد من هذه الكلمة ونصَّ على أسماء الأئمّة، لكن القوم تلاقفوها وحرَّفوها عن مواضعها والغرض من هذه الكلمات الإشارة إلى أن الاعتناء بالنسب له دواع دينية، كما أن له دواعيَ اجتماعية، وقد عنيَ النسَّابون بذكر أعقاب السادة الأشراف، وظاهر كلماتهم لملمة شتات الذرية في مختلف البلدان والأزمان، وهم يراعون في ذلك تشابه الأسماء وتداخلها حتّى حاكم بعضهم البعض فيما يقول وتكاد تدين بقولهم، وتترفَّع عن اتهامهم بالتقصير أو التوهّم لشدّة ما ترى من محاكمات وتتبّع(17)، ولكن الالتفات إلى بعض الملابسات التاريخية يريك أنَّ إغفالهم بعض الروابط الاجتماعية الماثلة في حياة البيوتات والأسر في ذلك الوقت قد أثّر في نتاجهم واستنتاجهم. فمثل الأيتام لا يذكرون من تكفَّل بهم واعتنى بشأنهم، وهل ثَمّة تداخل في الانتساب نتيجة لذلك التكفّل أو لا؟ قد تكون الأصول العقلائية نافية لمثل هذه الاحتمالات، وبعض الشواهد التاريخية تدفع تأثير الرعاية والتكفُّل في تداخل الأنساب فمحمّد بن أبي بكر ربيب أمير المؤمنين عليه السلام ودرج بين يديه، ومع ذلك لم يعرف به، ولكن هناك أيضاً شواهد تاريخية تثبت هذا التداخل والتأثير أيضاً كما في نسب بني أمية لعنهم الله. إذن ينبغي الاعتناء بهذا اللون من الروابط الاجتماعية من أجل بيان ما عليه حال الأعقاب، خصوصاً في الأسر التي لا يتصوَّر فيها إهمال كبرائها لأيتامهم وصغارهم، فهم المحسنون لأعدائهم فضلاً عن أوليائهم فكيف بأولادهم(18). والعيِّنة التاريخية لهذه النظرة أعقاب السيد محمّد، فإن هذا السيد الجليل له إخوة منهم من أعقب ومنهم من لم يعقب، وتاريخياً كلّهم لقوا حتفهم في عنفوان شبابهم سوى جعفر المعروف بـ (أبو كرين) وهو شخص تنسب له ذرية تزيد على المائة. فهل جعفر هذا كان ممن تحمَّل ثقل إخوته، سيّما وأنَّهم عاشوا ظرفاً قاسياً جدّاً، أو كان الرجل _ كما هو مبثوث في كتب التاريخ _ منشغلاً بالجوسق يلهو ويلعب وكان عوناً للزمن على أهل بيته؟! المعروف عند أهل النسب والتاريخ الثاني، بل يكاد أن يلحق بالضروريات عندهم ومجانبة كلماتهم تفرض لنا احتمالين: الأوّل: كونه الكبير الوحيد الذي بقي من أهل بيته، وطبقاً للأخلاقيات العقلائية يصير هو المحتضن لأبناء إخوته، وبه يعرفون، وعليه يحسبون، لكن التاريخ يصف كلبه عليهم. الثاني: أنَّ له ذرية أثقلت الأرض بـ (لا إله إلاَّ الله) ولسوء ما كتب في التاريخ تواروا بين أغصان المشجرات، فعرفوا بعمومتهم دون أبيهم سيّما مع مخالفة سيرتهم لسيرته. والداعي لطرح مثل هذا التساؤل أنَّ جماعة من السادة ينتسبون إلى سبع الدجيل، وجملة من كتب في الأنساب سكتوا عن عقب الإمام الهادي من ابنه أبي جعفر، وعدّة منهم ذكروا أنه مئناث، وقال آخرون: إنَّ له عقباً. فأبو النصر البخاري في سرَّ الأنساب العلوية وابن طباطبا في أبناء الإمام في مصر والشام لم يذكراه أصلاً. والمحكي عن العمري في المجدي أنه يذكر: أنَّ الإمام الهادي أعقب ثلاثة: الإمام الحسن العسكري الثاني المدفون مع أبيه في سامراء ولقبه الرضي واُمّه اُمّ ولد، والثاني أخوه محمّد أراد النهضة إلى الحجاز فسافر في حياة أخيه حتّى بلغ بلد وهي قريبة... فمات بالسواد وقبره هناك مشهور وقد زرته ولم يذكر له عقب. وعلَّق الجلالي في جريدة النسب بقوله: (ومرقد السيد محمّد هذا مزار معروف تزوره الشيعة والسُنّة زرافات، ويعرف عند أهالي المنطقة بسبع الدجيل، يبعد عن (بلد) خمسة كيلومترات، وزرته وذكرته في كتاب مزارات أهل البيت عليهم السلام). وأقول: قال باسل الأتاسي: يجدر بالذكر أن الجلالي يصحَّح أنساب الجعافرة بمصر المنسوبين إلى المهدي بن الحسن العسكري عن طريق إرجاعهم إلى علي بن محمّد سيد الدجيل بن علي الهادي فلاحظ المفارقة بين النسبتين. وفي المحكي عن الأصيلي لابن الطقطقي عن الإمام الهادي: (وله خمسة أولاد: الإمام الحسن العسكري، وجعفر الكذّاب، ومحمّد، والحسين لا عقب له، وموسى لاُمّ ولد لا عقب له)، ثمّ قال في موضع آخر: (وأما محمّد بن علي فينتهي عقبه إلى جعفر بن علي النازوك بن محمّد الأصفر بن عبد الله بن جعفر بن محمّد) واكتفى بذلك في ذكر أعقاب محمّد بن علي. والمحكي عن ابن عنبة في عمدة الطالب أنه ذكر أن الإمام الهادي أعقب من رجلين ولم يذكر السيد محمّد بشيء. ويحكى عن السيد المخزومي الرفاعي في صحاح الأخبار متحدّثاً عن الإمام الهادي: (وكان له خمسة أولاد: الإمام الحسن العسكري، والحسين، ومحمّد، وجعفر، وعائشة، فالحسن العسكري أعقب صاحب السرداب الحجة المنتظر ولي الله الإمام (م ح م د) المهدي، وأما محمّد فلم يذكر له ذيل طويل، ويقال _ وهو الصحيح _ بعدم العقب في آل علي الهادي إلاّ من جعفر، والحسن العسكري ليس له إلاَّ الإمام (م ح م د) المهدي عليه السلام). انتهى مجمل محكي باسل وهو في سنبله. الهوامش: (1) ذكرها جملة من المؤرّخين كالطبراني وابن الأثير وابن خلدون.. وغيرهم. (2) سُمِعت اُمّ المعتز العبّاسي تدعو بمكّة على صالح بن وصيف وتقول: هتك ستري، وقتل ولدي، وأخذ مالي، وغرّبني عن بلدي، وركب الفاحشة منّي..! (تاريخ أبي الفتوح أحداث سنة 255هـ). (3) كان هارون العبّاسي قد ترك ابنه المعتصم من دون تربية أو تعليم لمجرَّد أنَّه تذَّمر من الكتاب.. فنشأ لا يقرأ ولا يكتب حتّى تولّى الملك وأمر الناس، ووافاه حتفه وهو على حاله، وهذا المعنى مشهور في التاريخ، وقد كان سبب بزوغ نجم ابن الزيّات... وللمعتصم كلمة ردَّد مضمونها في عدّة مجالس حتّى اشتهرت وخلّدته: (خليفة اُمّي وكاتب عامي لا يجتمعان) قالها حينما سئل عن معنى الكلأ الوارد في كتاب الوالي، وقالها يوم حار قصر بني العبّاس في جواب قيصر الروم، فراجع أخبار الدول ووفيات الأعيان وغيرهما، وتاريخ ملوك المسلمين وخلفائهم مشحون بنماذج هذه الظاهرة منذ البدء، فالحاكم الأوّل حار في ميراث الجدّ، والأوّل والثاني لم يعرفا معنى كلمة الأبّ.. وغيرهما الكثير من الوقائع والأحداث، وليست غريبة هذه الحالة، فلقد ألهاهم الصفق بالأسواق عن طلب الفقه في الدين، وضعفت همّتهم عن السؤال حتّى كانوا يتمنّون أن يأتي الأعرابي فيسأل النبي، الأمر الذي أوجب تعدُّد مشاربهم فظهر المتهوّكون الذين واجههم رسول الله صلى الله عليه وآله حتّى بان على وجهه الغضب وهو نبي الرحمة، الأمر الذي يفصح عن شدّة الانحراف عمّا جاء به النبي صلى الله عليه وآله.. (4) يذكر التاريخ قضية لأحد الطالبيين أمر المعتصم بإلقائه في بركة السباع لحادثة يصفها التاريخ أنَّه غضب لله ورسوله، إذ كان والي منطقته يفعل المنكرات وينصر الباطل، فسرى ذلك في فساد الشريعة وهدم التوحيد، فعمد إليه بعد انعدام الناصر وقتله. (بحار الأنوار 50: 219). (5) آل عمران: 33 و34. (6) البقرة: 132. (7) إبراهيم: 35. (8) النمل: 59. (9) تحفة الأزهار وزلال الأنهار 2: 461. (10) تحفة الأزهار وزلال الأنهار 3: 429. (11) الإرشاد: 295. (12) منتهى الآمال 2: 569 و575. (13) تحفة الأزهار 3: 463. (14) بحار الأنوار 50: 231، أقول: من المستبعد جدّاً أن يكون اسمها هذا؛ لاقتران هذا الاسم بشخصية نادت يوم منعت من دفن الحسن عند جدّه.. بقولتها المشهورة: (لا تدفنوا في بيتي من لا أحبّ) رغم أنَّها عاشت بينهم ورتعت في مراحهم، شخصيةٌ تظاهرت على رسوله، فنزل بشأنها آي من الذكر، ولها وقائع وأيام جرَّت الويلات على المسلمين. ولو فرض صدور هذا الاسم عن مثل أهل بيت العصمة فهو يدلُّ على شدّة الوقت الذي كانوا فيه، أو أنَّ سبيله سبيل اسم بعض أولاد أمير المؤمنين عليه السلام فقد سُمّي أحدهم باسم من وجدت عليه الزهراء عليها السلام ولكن لم يسمَّه بذلك الاسم أمير المؤمنين عليه السلام بل سمَّاه بذلك الحاكم الثاني نفسه، فلعلَّ هذا الاسم سمّيت به من غير أهل البيت عليهم السلام وعرفت به من دون أن يكونوا هم الذين سمَّوها به. (15) الكلام حول عقب السيد بالشكل الذي تراه يدخل ضمن السياق العام لترجمة السيد، ويفيد في معرفة ما جرى على البيت العلوي، فإنَّه وإن جرت العادة بذكر أعقاب المترجم له بعد ترجمته، إلاّ أنَّ المقام ليس مقام ترجمة بالمعنى الحرفي لها وإنما الغرض التعرّف على ملابسات المترجم له قبل الدخول في ترجمته. (16) وهو حديث متواتر. (17) سيأتي قريباً طرف من التهافت فيما يقرّرون. (18) كمثال على ذلك لاحظ قصة تكفّل ابنة حمزة عمَّ النبي صلى الله عليه وآله وكيف هبَّ لها عدّة أفراد من قراباتها. ****************** وأما السيد ضامن بن شدقم فقال في تحفة الأزهار: (فالإمام أبو الحسن علي الهادي عليه السلام خلَّف أربعة بنين: الإمام أبا (م ح م د) الحسن العسكري اُمّه اُمّ ولد، والحسين، وأبا علي محمّداً، وأبا كرين جعفراً... وعقبهم أربعة أصول. الأصل الأوّل: عقب أبي علي محمّد: فأبو علي محمّد خلَّف علياً، ثمّ علي خلَّف محمّداً، ثمّ محمّد خلَّف حسيناً، ثمّ حسين خلَّف محمّداً، ثمّ محمّد خلَّف علياً، ثمّ علي خلَّف شمس الدين محمّداً الشهير بمير سلطان البخاري، ولد ونشأ في بخارى ويقال لأولاده البخاريون وكان شمس الدين سيداً ورعاً عابداً صالحاً زاهداً صاحب العلماء الكبار واقتبس من فضائلهم وذهب من بخارى إلى الروم وسكن في مدينة (بروساء)، وحكيت عنه كرامات كثيرة وتوفي في تلك المدينة سنة (832هـ) أو (833هـ) وقبره معروف هناك ومزار للناس ومحل نذورهم)(1). وحكي عن السيد حسن البرقي قوله: (إنَّ عقب السيد محمّد من شمس الدين، وله سلالة وذرية منتشرة في الأطراف والأكناف، ومن أولاده علاء الدين إبراهيم، وابنه علي، وابنه يوسف، وابنه حمزة، وابنه السيد محمّد البعّاج)(2) وبه تعرف (آل البعاج) في العراق، وهم يرجعون بنسبهم إلى المؤيّد بالله يحيى بن محمّد البعّاج، وكان من أكابر سادات العراق وأعيانهم في القرن الحادي عشر الهجري(3)، وقد يذكر هذا اللقب لنفس السيد محمّد سبع الدجيل. وفي كتاب تاريخ المشاهد المشرّفة للسيد حسين أبو سعيدة انتهاء آل البعّاج إليه، وتابعه على ذلك الجلالي في جريدة النسب. وقال أبو سعيدة: إنَّ أحمد بن المهنا العبيدلي المتوفى (632هـ) ذكر في تذكرة الأنساب المعروف بشجرة ابن المهنا أن لمحمّد بن علي الهادي عقباً. وهذا مخالف لما ذكره الدكتور الحوت في الدرر البهية، حيث قال: وقال أحمد بن علي بن المهنا: محمّد الثاني أبو جعفر بن الإمام الهادي لا عقب له. وحكي عن كتاب (النفحة العنبرية في انساب خير البرية للعلامة النسّابة محمّد كاظم الموسوي): ذكر ولد علي بن محمّد النقي، قال: (وله من الولد... وأبو جعفر محمّد... وقال أحمد بن علي المهنا: قد زرته، فقال: لا عقب له). وقد حكيت تعليقة على هذه العبارة للسيد مهدي الرجائي قائلاً: (لم أعثر على هذه العبارة في عمدة الطالب). ومحكي في تذكرة الأنساب طبعة المرعشي ذكر بنتين فقط للسيد محمّد بن علي الهادي ولم يذكر له بنين. وقيل: ذكر ابن فندق البيهقي في كتابه لباب الأنساب عقباً للرضوية فقال: (ومن هذا الرهط سادات مرو، ومنهم إسحاق بن أحمد بن علي بن محمّد بن علي بن زيد بن الحسين بن محمّد بن علي النقي بن محمّد التقي بن علي بن موسى الرضا). وعلَّق السيد الرجائي محقّق الكتاب على ذلك أنَّه سأل السيد النسّابة عن عقب محمّد فكان ردّه: (الحق عندي أنه معقّب)، ثمّ ذكر جمعاً من أعقابه.. والمنقول عن الرجائي: أنَّ الأنساب المنتهية للسيد محمّد بالتحقيق تنتهي إلى جعفر الزكي. هذا إجمال المحكي في المقام وليست غربلته محلاً للبحث. وإلى هنا يتّضح: 1 _ أنَّ الأنساب لها أهمية في الشريعة سيّما نسب البيت النبوي. 2 _ أنَّ هنالك ظروفاً قاهرة وقاسية جعلت الأنساب متوارية عن نظارها. 3 _ أنَّ أهل الأنساب ليست لهم تلك الدقة وذاك التحري في إثبات ما تصدّوا له سيّما المتأخّرون منهم. 4 _ تلقيب محمّد بن علي الهادي بلقب سبع الدجيل لم يكن في حياته أو لا أقل لا أثر له في الكتب السابقة فضامن ابن شدقم لم يعرّفه ولم يذكره بهذا اللقب، ولم يذكر في ضمن ألقابه (البعّاج). 5 - قيل: إنَّ السيد مئناث ولم يكن له ولد. * * * المحور الثالث: سبع الدجيل في التاريخ والوجدان اسمه وكنيته: سيد محمّد بن الإمام علي الهادي بن الإمام محمّد الجواد بن الإمام علي الرضا بن الإمام موسى الكاظم بن الإمام جعفر الصادق بن الإمام محمّد الباقر بن الإمام علي زين العابدين بن الإمام الحسين السبط الشهيد بن أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب عليهم السلام وصي رسول الله صلى الله عليه وآله وابن فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليهما وآلهما الحوراء الإنسية التي أجلَّها الله في كتابه العزيز ونصَّ على طهارتها وباهلت النصارى مع أبيها وبعلها وبنيها دفاعاً عن التوحيد فكانت مظهر الحق وحجته دون نساء العالمين(4). ويكنّى بأبي جعفر، ويعرف بالبعّاج(5)، ومُشْتَهر بسبع الدُّجَيْل. ويذكر له عدّة ألقاب معروفة في نواحيه منها: السيد، أبو جاسم، أبو البرهان، أبو الشارة، سبع الدجيل، أسد الدجيل، البعّاج، سبع الجزيرة، أخو العبّاس، البطّاش، اليصيح بالرأس، الطفاي(6). تحليل الكنى: اشتهرت الكنى بين العرب حتّى قيل: إنَّها مما اختصَّ به العرب وشاعت الألقاب بين العجم حتّى قيل: إنَّها مما اختصَّ بها العجم. ولكل من الكنية واللقب مجاله وخصائصه وفلسفة توظيفه ودلائله التي تجمّل منهج التخاطب وتلطّف أسلوب الحوار، وهذه الفلسفة بعمومها تحتوي على منظور مدرك مشوب بمعرفة وثقافة المستعمل لتلك الكنية أو هذا اللقب، فهما ينمّان عن عدّة أمور، وما يرتبط منها بالمقام: أوّلاً: ما يحمل المتكلّم تجاه الشخص الموصوف ولو بمستوى الأحلام والآمال عند الإنسان. وثانياً: لفت الانتباه لجنبة في الموصوف تمنَّاها أو ارتضاها الواصف. وإذا صدرت تلك الصفة من الباري تبارك وتعالى فلا بدَّ وأن تكون كاشفة ومبينة لشيء في الموصوف؛ لأن الحكيم العالم لا يطلق الكلام جزافاً. وإذا صدرت من الإنسان فلا بدَّ من تحديد حيثية صدورها لنعرف هل هي أمنية وحلم أو هي وصف لواقع أو هي مجرد لفظ أريد به تفريغ ما يجيش في صدر المتكلّم تجاه المتكلّم عنه. وإذا شاع الوصف بين الناس وبلغ حدَّ الاشتهار والشيوع وتسليم الناس بمضمونه فالأمر يدور بين احتمالين، إما أن شيوعه بين الناس بسبب الإعلام ومسايرة بعضهم البعض من دون رويَّة أو تأمّل، وهذا يفقد اللقب والكنية اعتبارهما، أو أنَّ شيوعه وتسليم الناس به ناشئان عن درك وتصديق بواقعية ذلك الوصف، وهذا الفرض له اعتبار كبير ويعدّ منجماً من الذكريات الثرّة ومنبعاً متدفّقاً لسيرة الموصوف وتاريخه، وعلى هذا السبيل تشرق الكلمات في هذا البحث حاكية عن معاني الكنى والألقاب والتي تكشف عمّا يتحلّى به صاحبها، فيتمكّن القارئ من خلالها معرفة بعض جوانب شخصية صاحب الكنية واللقب، وإليك إطلالة سريعة على سمات السيد من خلال الأسماء(7) التي عرّفته بها الأجيال والتي بقيت مناشدة لوجدانهم وماثلة في حياتهم: 1 _ سبع الدجيل: أشهر ألقابه، ولا يعرف غيره به، فمرقده الشريف في برية قفرة تعرف بالدجيل، وقبل مئات السنين كان السائرون فيها يتزلزلون خوفاً ووجلاً من قطّاع الطرق، إلاَّ أن زوّاره كانوا يشاهدون سبعاً ضارياً يجوب الأرض التي حول القبر الشريف ولا يدع معتدياً يدنو لزائريه، فلا ترى في ذاكرة الأجيال أو عند نقل الأحداث أيّ ذكر لحادثة اعتداء في تلك الأيام، ولهذا السبع ذكر ووجود حتّى أربعينات القرن العشرين، قال الشاعر(8): ينام قريراً عندك الوفد إنَّه يهاب فلا يدنو إلى ضيفك اللص لعمرك قد خافوك حياً وميتاً وهل قبل هذا خيف في رمسه شخص وقد يعبَّر عنه بـ (سبع الجزيرة)، وأهالي المنطقة يكسرون الجيم، والجزيرة عندهم: أرض مقفرة. أو بـ (أسد الدجيل) قال عبد الغني الخضري: يا أسد الدجيل كم حسرة تعبث بالأحشاء والترائب وقال السيد مير علي طبيخ النجفي: أسد أطلَّ على الدجيل فأقعصت منه ليوث تهائم ونجاد وهذه الأسماء مترادفات. 2 _ البعّاج: القتّال لمن تجاوز الحدَّ على زائريه وعليه كرامة من الله عز وجل له، ويشابهه لقب البطّاش، وقد نسب السيد ضامن بن شدقم هذا اللقب إلى أحد أحفاده عند ذكره أعقاب السيد. 3 _ أبو جاسم: المعروف عند أهل العراق وغيرهم أن من اسمه محمّد فكنيته (أبو جاسم) وهنا وجه آخر لتسميته بهذا وهو كثرة من قصم، حيث يوجد في اللفظ تحارف وظيفي ببركة لهجة العراقيين، فقصم = كصم = جسم وهذه الكنية من المشهورات في محيط مدينة بلد، وربما اشتهر القسم والحلف به. 4 _ أبو البرهان: وقد يطلق لفظ الأب في لهجة العراق الدارجة على أصل الشيء كما هو حال لفظ الاُمّ في اللغة، فهذه الكنية تدلُّ على أنَّه راع للبرهان وأصله وقت التحاكم إليه، وسيأتي حكاية مشهد عام لأثره في حياة الناس اليومية تحت عنوان _ وصف عام لمكانة السيد سبع الدجيل عند الأجيال _ اعتماد بعض المحاكم المحلية للقسم به في حل بعض الخلافات. 5 _ أبو الشارة: فسَّرت الشارة بالعلامة الواضحة الدالّة على سرعة استجابة الدعاء عنده، فهي مرادف قريب من الكنية المتقدّمة. وهنا معنى آخر خلاصته: أنَّ اللفظ أصله من شوَّر به: فعل به فعلاً يستحيى منه فتشوَّر، يقال: شوَّرت الرجل وبالرجل فتشوَّر إذا خجَّلته فخجل، أي أنَّه أصل وسبب يسم المبطل بما يستحي منه. وهذا فيه جمع بين المعنيين لاسيّما وأنَّ الشارة بمعنى الحُسْن والهيأة، ويمكن إرجاعها إلى أصل الشَّوْر وهو عرض الشيء وإظهاره، فكأنَّها اُخذت منه(9). 6 _ أخو العبّاس: آخى النبي الأكرم صلى الله عليه وآله بين أصحابه، واتخذ علياً أخاً له في الدنيا والآخرة، وأثبت له صفاته كلَّها ما عدا النبوة بقوله: ((أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاَّ أنه لا نبي بعدي))(10) فارتسمت معاني الأخوّة في وجدان المتديّن، فكلّما تشاكل شخصان في الخصائص والمميزات تجلَّت بينهما الأخوّة. ولأبي الفضل _ وهو البطل الذي خط الوفاء والنبل في جبين البشرية _ مكانة سامية في القلوب ومنزلة عالية في السماء، حباه الله بكرامات تظهر فضله، فجعله باباً من أبواب رحمته، يقصده المؤمَّل والمضطر فتقضى الحوائج وتحقَّق الأماني، ووجد الناس السيد سبع الدجيل عديل العبّاس في هذه السمة فسمَّوه بأخي العبّاس تثبيتاً لما حبي من الباري تبارك وتعالى. وأمَّا لقب اليصيح بالرأس، والطفّاي، فلم أظفر بما يؤكّد شيوع استعمالهما في حق السيد. حياته ومماته في سطور: لم تحدَّد المصادر تاريخ ولادته ولا مكانها، والظاهر أنَّه ولد بالحجاز، وخلّفه أبو الحسن عليه السلام بالحجاز طفلاً، فقدم عليه مشيداً، فلازم أخاه لا يفارقه على ما وصفه الكلاني في المحكي عنه. وبالنظر إلى سنة وفاته وعمره يمكن القول بأنه ولد حوالي سنة (236هـ) أو (238هـ). وقد رآهما غير واحد وهما يدخلان على أبيهما معاً حتّى أنَّ بعض أصحاب الإمام الهادي عليه السلام أشكل عليهم أمر الإمامة. والذي يكشف عن العلاقة الوطيدة بين الإمام العسكري وبين أخيه أبي جعفر شقه ثوبه عليه حين وفاته. حكي عن الكلاني ما نصّه: (صحبت أبا جعفر محمّد بن علي الرضا وهو حدث السن، فما رأيت أوقر ولا أزكى ولا أجلّ منه، وكان خلّفه أبو الحسن العسكري بالحجاز طفلاً فقدم عليه مشيداً، وكان ملازماً لأخيه أبي محمّد عليه السلام لا يفارقه)(11). وفي بعض المدوّنات قول مفاده: أنَّ المهدي هو محمّد بن علي الهادي، وهو حي باقٍ لم يمت على ما بُثَّ في مدوّنات الفِرَق والأديان، واندثار هذا القول _ لو كان موجوداً _ شاهدٌ على زيفه وضلاله. الهوامش: (1) تحفة الأزهار وزلال الأنهار 2: 461. (2) منتهى الآمال: 639. (3) راجع: سبع الدجيل للسيد موسى الهندي/ ودراسة وتحقيق د. جودت القزويني: 56. (4) تمَّ ذلك في يوم المباهلة، وأصلها في اللغة من البهلة وهو التضرّع والخلوص في الدعاء وتقريب معناها: أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شيء فيلعنوا ويدعوا على المبطل منهم ولها صفة خاصة تؤخذ من مظانها، ومن مباهلة الرسول الأكرم بعترته دون سواهم يعلم أن لا يدانيهم في الفضل والشرف والمنزلة عند الله أحد من الخليقة، مهما تقمَّص من أوصاف إذ برز بخاصته دفاعاً عن التوحيد وصار المسلمون وغيرهم إلى موقف المتفرّج ينظرون إلى مظاهر عزّة الله ورسوله. (5) مراقد المعارف في تعيين مراقد العلويين والصحابة والتابعين والرواة والعلماء والأدباء والشعراء للشيخ محمّد حرز الدين 2: 262. (6) شعراء سبع الدجيل لحسين البلداوي: 40؛ وسبع الدجيل لبرهان البلداوي: 34 - 38. (7) تطلق (الأسماء) ويراد بها الأعم من الكنى والألقاب وأسماء الأعلام. (8) نسبها برهان البلداوي في كتابه سبع الدجيل للشيخ محمّد حسين المظفر المولود (1312هـ). (9) راجع لسان العرب والقاموس المحيط. (10) الخصال: 311؛ بحار الأنوار 5: 69. (11) حكاه عنه الشيخ محمّد جواد الطبسي في حياة الإمام العسكري عليه السلام: 69. ****************** مماته: كانت وفاته في حدود سنة (252) للهجرة(1)، وقيل: إنَّها في آخر جمادى الآخرة، والظاهر أنَّها ليست خارجة عن طرائق موت آبائه عليهم السلام فلم يكن مماته حتف الأنف إن صحَّ التعبير. ومن المهم هنا الالتفات إلى أنَّ بني العبّاس على علم بتسلسل الإمامة، فكانوا يسعون في القضاء على الأئمّة ورجالات أهل البيت وهم بعد في ريعان الشباب، فمن المثير للاهتمام قصر أعمار أبناء الرضا عليه السلام: فالإمام الجواد توفي وعمره بحدود (24) سنة. والإمام الهادي توفي وعمره بحدود (40) سنة. والإمام الحسن العسكري توفي وعمره بحدود (28) سنة. قال الشيخ الطوسي: (إنَّ النبي والأئمّة ما ماتوا إلاَّ بالسيف أو السم وقد ذكر عن الرضا عليه السلام أنه سُم، وكذلك ولده وولد ولده)(2). وكذا حال السيد محمّد سبع الدجيل فقد توفي وعمره بحدود (24) سنة. وقد ذكر خبر موته دون التعرّض لكيفية الوفاة، قال في المجدي عند ذكر أبي محمّد العسكري عليه السلام: (وأخوه محمّد أبو جعفر أراد النهضة إلى الحجاز فسافر في حياة أخيه حتّى بلغ بلداً وهي قرية فوق الموصل بسبعة فراسخ(3)، فمات بالسواد، فقبره هناك عليه مشهد يزار)(4). ويروى أنَّ للإمام أبي الحسن الثالث عليه السلام صدقات ووقوفاً من ضياع وأراضٍ بمقربة من بلد، وكان الذي يتولّى أمرها ابنه أبو جعفر وفي إحدى وفداته للنظر في شؤونها فاجأه المرض واشتدَّ به الحال. وعوداً على بدء أقول: الميل إلى القول بقتله لا أتفرَّد به، فلغيري كلمات في المقام، قال الشيخ القرشي: (... ومرض أبو جعفر مرضاً شديداً واشتدَّت به العلّة، ولا نعلم سبب مرضه، هل أنَّه سقي سماً من قبل أعدائه وحسَّاده من العبّاسيين الذين عزَّ عليهم أن يروا تعظيم الجماهير وإكبارهم إيّاه...)(5). وقال السيد محمّد كاظم القزويني: (... لا نعلم سبب وفاة السيد محمّد في تلك السن، ونعتبر موته حتف أنفه مشكوكاً فيه؛ لأن الأعداء كانوا ينتهزون كل فرصة لقطع خط الإمامة في أهل البيت عليهم السلام فلعلَّهم لما عرفوا أن السيد محمّد هو أكبر أولاد أبيه وهو المرشح للإمامة بعد أبيه قتلوه كما قتلوا أسلافه من قبل...)(6). قرائن تستبعد الموت الطبيعي: 1 _ صغر سنه وعنفوان شبابه؛ إذ عمره الشريف (24) سنة. 2 _ صحة بدنه وقوة جسده، فقد زار أباه وقد اشتدّ بدنه وخرج من عند أبيه معافىً وبعد قطع مسافة قصيرة وعلى مقربة من دار أبيه مرض واشتدَّت به العلَّة، ولا خبر يذكر عن علم أهل بيته بحاله إلاَّ بعد موته؟! 3 _ انصراف وجوه الناس إلى أهل البيت وقول شطر الأمّة بإمامتهم وشيوع أنَّه الإمام بعد أبيه مع علم بني العبّاس بذلك، الأمر الذي يهدُّ كيان دولتهم وصولتهم. 4 _ اضطراب الوضع العام في مختلف أرجاء الدولة العبّاسية سيّما منطقة الحجاز. 5 _ كثرة حركات العلَّويين والشيعة بما أقضَّ مضجع سلاطين البلاط العبّاسي وقادته. 6 _ ظهور جيوب في كيان الدولة العبّاسية يوالي أهل البيت ويعظِّمونهم، ويقفون سدّاً مانعاً في بعض الأحيان من إيذائهم. وحيث إنَّ المقدم والمعروف من ولد الإمام الهادي هو أبو جعفر فاتجهت الأنظار إليه، كما سيأتي ذكره في بحث البداء أنَّ التقية لم تكن تجدي نفعاً ولا تدفع ضيراً عن ولي الله في مسألة تعيين الإمام لعلم بني العبّاس بمسالكها، وأيضاً هم يعلمون أن لا تقية في الإمامة بمعنى أنَّه ليس للإمام أن ينفي الإمامة عن نفسه ولا محيص من النصّ على خليفته، وهذا لا يتقاطع مع استعمال التقية في النصّ على الإمام بنحو يعرف الحقَّ أهله. 7 _ الإقامة الجبرية المفروضة على أهل البيت آنذاك والتي لم يكن ليجرؤ أحد معها على الالتقاء بهم حتّى النصارى فإنهم كانوا يخشون من أعين السلطان، لاحظ قضية الطبيب النصراني لترى شدّة البلاء ووطأته وشمول الرصد لجميع وجملة رجالات أهل البيت الطاهر، وإلاَّ لتمكّن طلابهم من لقياهم، ولا أقل من تمكّن النصارى من الالتقاء بهم حيث لا تخشاهم الدولة، وهذا الأمر ابتلي به أهل البيت من بدايات الدولة العبّاسية. والرصد _ بطبيعة الحال _ يوجب اطلاع الدولة بشكل جيد على مقام سبع الدجيل بين الناس، فإذا رأت اتّجاه الأنظار إليه وإلى أبيه في معسكرهم وهو بعد في عنفوان شبابه فلا بدَّ وأن تأخذ بالشدّة كي لا تذهب ليالي السمر من أيامها. ولاسيّما وأنهم يرون تمسُّك الشيعة بمسألة البداء _ وهي تقتضي التغيير في النظم الكونية وعدم ثباتها القهري _ ولعلَّهم في غفلة من عدم مساس البداء بقضية الإمامة، الأمر الذي جعل بني العبّاس قلقين من شأن الخلافة. وببالي أنَّ دعوى موته بالسم مبثوثة في مدوَّنات التاريخ. هذا مجمل القرائن التي تقف في صف احتمال الاغتيال. ومقابل هذا الاحتمال هنالك احتمال آخر وهو احتمال الموت الطبيعي، وله مجموعة من التصوّرات والشواهد التي تقف إلى جنبه، ويمكن تلخيصها في أمرين: الأوّل: علم بني العبّاس بأنَّه ليس الإمام من بعد أبيه لعدم توافره على خصائص الإمام؛ إذ لم يكن سمته سمت الأئمّة ولم يكن منطقه منطقهم وإن كان عالماً قد التفَّ الناس حوله، فلقد كان بنو العبّاس يرصدون أهل البيت في كل مكان وزمان حتّى أنَّهم عرَّضوهم للتفتيش الشخصي من أجل الاطلاع على ختم الإمامة. الثاني: عدم تعرّضه للسجن مع أبيه وإن تعرَّض للمضايقة من قبل السلطة لكنها مضايقة بعيدة من حيث الشكل والمضمون بالنظر لما تعرَّض له أئمّة الهدى. المحور الرابع: السيد في وجدان الأمّة وعند قادته(7) بانوراما سبع الدجيل: تسري لفظة (سبع الدجيل) في عروق الناس، ويحمل استعمالها تاريخ صاحبها ومآثره ومواعظه وإرشاده وحمَّيته على الناس وأخلاقهم، فهي كلمة رأى الملأ بين جوانبها سلطة الحق ومجده وظلال الانتماء ونسائمه. وهذه كلمة رأيتها تشير إلى تاريخ حيّ وفاعل بين ظهراني الناس فآثرت قرآءتها معك عزيزي القارئ(8): لستُ أشكّ بأنَّك سمعت أو ستسمع الحلف بـ (سبع الدجيل) في بعض مناطق العراق كأيّ واحد من الأيمان الغليظة التي يلجأ إليها صاحب الحق لإثبات (حقه) عند خصمه، فاليمين على ضريح (سبع الدجيل) بين المتخاصمين _ مهما بلغت درجة الخصومة _ كفيلة بأن تمحو كلَّ الشبهات، وتمحق كلَّ الإحن، وتغسل القلوب من أوضار الأحقاد والكراهية بين العشائر المتخاصمة والقبائل المتعادية، فالحلف عند مرقده الشريف هو القول الفصل والحكم العدل الذي ترتضيه الأطراف المتنازعة، حتّى أقرَّته بعض المحاكم الرسمية في تلك المناطق كحل للخصومات التي يمكن حلُّها عن هذه الطريق. وحتّى الشعراء في الأزمنة المتأخّرة _ الذين مدحوا هذا الشخص الجليل بقصائدهم وأثنوا عليه _ وصفوه بسبع الدجيل لشيوع ذلك بين العامة والخاصة. و(محروسة سبع الدجيل) جملة تعارف عليها سائقو سيارات النقل حتّى أصبحت مألوفة لا في منطقة دجيل أو بغداد، ولكن في معظم مناطق العراق، فكتبوها على سياراتهم بحروف بارزة وملوّنة تيمّناً بها وتبرّكاً، ولتكون لهم حرزاً من طوارق الطرق وحوادث الزمان. فمن هو هذا الأسد الضرغام الذي يهيمن عرينه على صحارى (دجيل) وبواديه لا في الآكام والآجام؟ إنَّه أبو جعفر... ولهذا السيد الجليل من القدسية والعظمة ما بلغ به منتهى مدارج الكمال، فليس هناك أحد من المسلمين الذين يؤمُّون مرقده ويزورون مشهده إلاَّ وهو موقن بجلالة قدره ومؤمن بسمو مقامه. وأستطيع الجزم بأنَّ قبره الشريف كان عرضة لغارات الأعراب ونهبهم وسلبهم لما فيه من نفائس وتحف لو لم يكن له في قلوبهم رغبة ورهبة برغم أنَّ معظم العشائر المتوطّنة حوالي مرقده ليست من المؤمنة بمذهب آبائه وأجداده الطاهرين(9). من شهادات الأعلام والكتّاب في حقَّ سبع الدجيل: قال السيد محسن الأمين: (جليل القدر عظيم الشأن كانت الشيعة تظن أنَّه الإمام بعد أبيه عليه السلام فلمّا توفي نصَّ أبوه على أخيه أبي (م ح م د) الحسن الزكي عليه السلام)(10). وقال الشيخ عبّاس القمي: (وأمّا السيد محمّد المكنّى بأبي جعفر فهو المعروف بجلالة القدر وعظم الشأن، وكفى في فضله قابليته وصلاحه للإمامة وكونه أكبر ولد الإمام علي الهادي عليه السلام وزعم الشيعة أنَّه الإمام بعد أبيه لكنّه توفي قبل أبيه)(11). وحكى شيخنا القمي عن كتاب النجم الثاقب: (ومزار السيد محمّد في ثمان فراسخ عن سر من رأى قرب قرية بلد، وهو من أجلاء السادة وصاحب كرامات متواترة حتّى عند أهل السُنّة والأعراب، فهم يخشونه كثيراً، ولا يحلفون به يميناً كاذبة، ويجلبون النذور إلى قبره، بل يقسم الناس بحقّه في سامراء لفصل الدعاوي والشكايات، ولقد رأينا مراراً أنَّ المنكر لأموال شخص _ مثلاً _ إذا طلبوا منه القسم بأبي جعفر كان يرد المال ولا يقسم، وذلك لتجربتهم أنَّ الكاذب لو حلف به يصيبه الضرّ، ورأينا منه في أيامنا هذه كرامات باهرة ولقد عزم بعض العلماء أن يجمع تلك الكرامات ويدوّنها حتّى تصير كتاباً يحتوي على فضائله)(12). وقال محمّد رضا سيبويه: (جلالته وعظم شأنه أكثر من أن يذكر، وقد ذكروا في باب النصوص على إمامة أبي (م ح م د) عليهما السلام ما ينبئ عن علوَّ مقامه وترشيحه لمقام الإمامة، وقبره مزار معروف في بلد. والعامّة والخاصة يعظّمون مشهده الشريف، ويقطعون خصوماتهم التي تقع بينهم بالحلف به والحضور في مشهده، ويعبَّرون عنه بـ (سبع الدجيل) ويقومون إليه بالنذورات الكثيرة عندما تقضى حوائجهم)(13). وقال محمّد رضا عبّاس الدبّاغ: (وكان فقيهاً عالماً عابداً زكياً، أراد النهضة إلى الحجاز فسافر في حياة أخيه حتّى بلغ (بلد).. فمات بالسواد، فدفن هناك، وعليه مشهد، وهو الذي يعرف بـ (السيد) و(سبع الدجيل))(14). واقع مقام السيد وشأنه: بين بغداد وسامراء تقع (بلد)، وبين الجوادين والنقيين يرقدُ سيدٌ دنا من مرتبة الإمامة وكاد أن يصل إلى مقامها؛ وهو ذلك المقام الذي لم يصل إليه الكثير ممن فضَّل الله عز وجل واجتبى، مقامٌ لم ينحَّه عنه ظلم، ولم يقف دونه سوى القدر الذي لا مردَّ له، ولم يقيله عن الإمامة قصور في سيرته أو تقصير من همّته، لكنه وعاء.. دون أمر الله، وأيضاً الإمامة وعاء لا يُوضع فيه أحدٌ دون أمر الله، وما كان لمؤمنٍ الخيرة في ذلك. إنَّه سيّدٌ تميَّز بين أهل بيته _ ممن بدا لله عز وجل فيهم _ بشيءٍ لم يكن له فيه مطمع، حيث تطاولت إليه الأعناق بالإمامة من بعد أبيه عليه السلام ولم يكن صيت تقلّده الإمامة يقف عند مستوى الاعتقاد والظن، بل تجاوز ذلك إلى دعوى تهمس الشفاه بها وتدلُّ عليه، فمنَّ الله عليه بأن لم يجعله مثار اختلافٍ بين المؤمنين، بل كشف الحق وأظهر رفيع مقامه وسمو رتبته، فالبداء أزاح الغطاء عن مقامين: مقام الإمامة حيث تبيّن لمن تكون الإمامة، ومقام سبع الدجيل؛ إذ أنَّه بمحل رأى فيه المؤمنون أهلية الإمامة ورأى أعداء الله فيه ذلك، فكانوا ناظرين إليه، حائمين حوله، ذاهلين عمّن سواه، فكان به حفظ الإمام وحفظ الدين(15) كل ذلك بما لابسه من أمر الإمامة. وكي يُظْفَر ببعض جوانب عظمة هذا الفتى لا بدَّ من كلمات مستندة إلى مسألة الإمامة ومسألة البداء علَّه يتّضح في طيَّات البحث نبأ عن هذا السيد الجليل. ولك القول: إنَّ الهبات الربانية أعطت السيد أبا جعفر ما فتح له أبواب القرب من المراتب العلى التي لا يقترب من سوحها إلاَّ النادر من المُخْلَصِين، فنال من شرفها مكانة غير متشابهة، وقد صُيّر بمكانة أخيه الإمام الحسن العسكري عليه السلام في أعين المؤمنين، ولله الأمر من قبل ومن بعد. * * * المحور الخامس: كرامات سبع الدجيل قال المحدّث القمي: (مزار مشهور هناك، مطاف للفريقين، وتجبى إليه النذور والهدايا، وله ما لا يحصى كثرة من الكرامات وخوارق العادات...) وإحدى كراماته سبَّبت خطَّ هذه الأسطر عن حياته، ولقد سمعت الكثير كما سمع غيري عن كراماته، وشاهد أهل بلد منها ما صيَّر الأمر كالشمس في رابعة النهار، ومن تلك الأحداث دفع الضرّ والبلاء عن المستجيرين به من دون تفريق بين معتنق الحق القائل بإمامة أهل البيت عليهم السلام وبين منكرها، فالكل لديه ضيوف وجيران لهم حق الضيافة والجوار، فكم من كرامة أعادت الضالَّ إلى رشده، وتركت الظالم يعضُّ على يديه، وكم من كرامة جعلت الموالي فرحاً جذلاً بما نال من مراد وممّا رأى من تحف الكرامة لأولياء الله تبارك وتعالى. وبين يديَّ الكثير من القصص الحق التي تنبئ عن سموَّ ورفعة السيد، منها ما سمعته من ذي العلاقة بلا واسطة، ومنها ما نقله الثقة الثبت، وهي هبات لمحبٍ تارة، ولمجاور تارة أخرى، ولمستجير ثالثة، ومن بينها قضية لرجل أرمني قضى شطراً من حياته في مدينة (بلد) اسمه (سيمون) أصابه الفلج، ولم يكن يملك شيئاً من متاع الدنيا، وقد عجز من حوله من أطباء وأقرباء عن مدَّ يد العون له، وفي عصر يوم، وهو جالس أمام مسكنه كان يرقب قبّة سبع الدجيل فتمتم بآهات اللوعة التي أثارت دموع عينه وصارت نظراته تحمل الرجاء والأمل صوب الحرم الشريف، فما ارتدَّ إليه طرفه إلاَّ بسلامةِ البدن، فقفز فرحاً وتعجَّب من حوله والمارة، فسعى إليه أهله قائلين: ما بك يا سيمون؟!. فأجابهم بكلماته المندهشة ودموع الفرح تعرب عن امتنانه وهو يلوَّح نحو القبّة الشريفة. فببركة هذه البقعة المباركة تلاشى الضرّ والبلاء، ولا أدري اهتدى أم بقي على سابق معتقده. وسوى هذه القضية الكثير... الكثير من الكرامات التي تتناقلها الأجيال، وقد اتّفقت كلمة النقلة من بلدان ودول مختلفة أن لا أحد يجرؤ على خلسة أو سرقة في محضره، ومن كثرة ما ينذر له من ذبائح يوجد في الصحن الشريف زاوية خاصة لذبح الذبائح التي يوزَّع لحمها على زوّاره والفقراء، ويصل ما يذبح إلى عشر ذبائح يومياً، وآثرت عدم ذكر كل ما سمعت، وأن لا أذكر إلاًّ ما هو مثبت في الكتب لأمر يعرفه من زاول روايات الفضائل، وكابد رواتها ومستمعيها المحبّ منهم، والمبغض ومن هذه الكرامات(16): الأولى: تبرئة امرأة من التهمة: الهوامش: (1) أعيان الشيعة 10: 5. (2) الغيبة: 388. (3) في أعيان الشيعة أنَّها على بعد تسعة فراسخ من سامراء 10: 5، وفيها أنَّه مرض. (4) حاشية في منتهى الآمال 2: 637. (5) عن حياة الإمام الحسن العسكري: 24 - 26. (6) عن الإمام العسكري من المهد إلى اللحد: 23. (7) وصف عام لمكانة سبع الدجيل عند الأجيال. (8) أخذت هذه الكلمة الواصفة لمقام وشخص السيد من كتاب سبع الدجيل للسيد موسى الموسوي الهندي: 29/ بيروت/ دار الرافدين (1427هـ)، وهي تاريخ غير مدوَّن؛ إذ كان المؤرِّخ آنذاك لا يعقل هكذا صفحات وإن مثلت بين يديه، وهي شاهد صدق على ما أدّعي في عنوان متقدّم. (9) بمعنى أنهم لا يأخذون عن آل البيت أمور دينهم، وغير ملتفتين إلى مقامهم عند الله عز وجل ومع ذلك لهم رغبة قوية بحب أهل البيت، يرونهم الملجأ الآمن والكهف الحصين، وهم كذلك، لذا ترى العالم والجاهل والمثقّف يلوذون بهم وفي قلوبهم جلالة وتعظيم لأهل بيت النبوة صلوات الله عليهم أجمعين. (10) أعيان الشيعة 10: 5. (11) منتهى الآمال 2: 637، وله كلمات أخرى في جلالة شأنه وكراماته. (12) منتهى الآمال 2: 639. (13) لمحات من حياة الإمام الهادي عليه السلام/ محمّد رضا سيبويه/ نشر مجمع البحوث الإسلاميّة. مشهد/ إيران. (14) محكي عن عمدة الطالب هامش 199 عن المجدي. (15) قد يشعر بذلك خبر دسّ السم إليه وهو في ريعان شبابه ومعاجلته بمجرد خروجه عن سامراء. (16) النصوص مذكورة في كتاب مآثر الكبراء في تاريخ سامراء 2: 321.
/ 1