إمام المهدي (عليه السلام) و الظواهر القرآنية نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

إمام المهدي (عليه السلام) و الظواهر القرآنية - نسخه متنی

محمد سند

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید
الإمام المهدي (عليه السلام) والظواهر القرآنية
دراسة تستعرض الحركات الإصلاحية عبر التاريخ من خلال الرؤية القرآنية وتقارنها مع حركة الإمام المهدي (عليه السلام)
تأليف: سماحة الشيخ محمّد السند
تقديم وتحقيق: مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عليه السلام)
تفهرست الموضوعات
1مقدّمة المركز
2مقدّمة المؤلّف
3التمهيد: الاستدلال بالظواهر القرآنية المستعرضة لسيرة الأنبياء (عليهم السلام)
4الظاهرة الأولى: الإمام المهدي والنبيّ موسى (عليهما السلام)
5أوجه الشبه بين الإمام المهدي والنبيّ موسى (عليهما السلام)
6علّة اختفاء النبيّ موسى (عليه السلام) عن قومه
7الخفاء أدلّ على الحجّية
8العنف والاضطهاد ضدّ الإمامين العسكريين (عليهما السلام)
9الوحي الإلهي لاُمّ موسى (عليه السلام)
10سرّ استعراض القرآن الكريم عبراً اعتقادية ذات مغزى عظيم
11سرّ استعراض تفاصيل خفاء ولادة موسى (عليه السلام)
12خفاء النبيّ موسى (عليه السلام) بعد نبوّته في بني إسرائيل
13إيجابية صفة الخوف عند الأنبياء (عليهم السلام)
14الغيبة الثانية لموسى (عليه السلام)
15لقاء موسى بشعيب (عليهما السلام)
16تلاؤم حجّية النبيّ موسى (عليه السلام) نبيّاً مع غيبته
17إعلان الدعوة الموسوية
18ظاهرة اختفاء وغيبة الأنبياء (عليهم السلام) سُنّة إلهية
19الخوف والترقّب عند موسى (عليه السلام)
20الظاهرة الثانية: الإمام المهدي والنبيّ يوسف (عليهما السلام)
21ظاهرة النبيّ يوسف (عليه السلام) وارتباطها بالمصلح الإلهي
22ظاهرة النبيّ يوسف (عليه السلام) وشبهها بغيبة الإمام المهدي (عليه السلام)
23حجّية الإمام مع غيبة شخصه
24الجهل بالغيبة على مستوى النظرية والتطبيق
25اللقاء بين يوسف (عليه السلام) وأخيه
26معنى التشرّف برؤية الإمام الغائب (عليه السلام)
27هل يفيد اللقاء بالإمام نوعاً من الحجّية؟
28عرض الأعمال على وليّ الله
29الغيبة والتدبير الإلهي
30طول الغيبة مدعاة لليأس عند ضعاف القلوب
31دروس تربوية من سورة يوسف
32الظهور بعد الغيبة للنبيّ يوسف (عليه السلام)
33الأسباب الملكوتية
34الظواهر القرآنية وسنن الله عز وجل في الغيبة
35الظاهرة الثالثة: الإمام المهدي والخضر (عليهما السلام)
36ضمان بقاء الدين
37ظاهرة الخضر (عليه السلام) وصلتها بضمان ظهور الدين وبقائه
38خلاصة ما سبق
39ظاهرة رجال الغيب
40هوية رجال الغيب
41لقاء موسى بالخضر (عليهما السلام)
42ما هو العلم اللدنّي؟
43العلم اللدنّي وارتباطه بغيبة أولياء الله
44دور الإمام المهدي (عليه السلام) ليس فردياً في الغيبة
45هل يمكن ادّعاء شخص أنَّه من رجال الغيب؟
46الأدوار الثلاثة للخضر
47طبيعة الأدوار في ظاهرة الخضر ومجموعته الخفيّة
48الحسين (عليه السلام) وأصحاب الكهف
49حقيقة العلم اللدنّي والشريعة الباطنة
50العلم اللدنّي وعلم التأويل عند الإمام المهدي (عليه السلام)
51الراسخون وعلم التأويل
52العلم اللدنّي وعلم التأويل في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)
53التطبيق الإلهي للشريعة
54صلة الأمّة الإسلاميّة بالعلم اللدنّي
55الظاهرة الرابعة: الإمام المهدي (عليه السلام) وأصحاب الكهف
56المهمّة الأولى: الثبات والإيمان
57المهمّة الثانية: الغيبة والخفاء
58وجود الخليفة في الأرض
59لماذا تكابد البشرية المصائب وبيد الخليفة إصلاحها؟
60الانقطاع عن الخليفة وأثره في الإيمان
61عاقبة أصحاب الحقّ والإيمان
62الثبات على الإيمان والفيض الإلهي
63الاعتزال عن المجتمع الظالم
64العناية الإلهية في الحفاظ على حجج الله
65التشابه بين غيبة أصحاب الكهف والإمام الحجّة (عليه السلام)
66إنكار الغيبة أسباب ونتائج
67الأسباب الكونية في خفاء الحجج
68التقيّة ودورها في الحفاظ على أولياء الله
69البناء على القبور
70ظاهرة أصحاب الكهف ودورها في حفظ الدين
71الإيمان بالحقيقة المهدوية من مصاديق الغيب
72ظاهرة أصحاب الكهف والإيمان بالحقيقة المهدوية
73حقيقة الرجعة بين القبول والرفض
74الوعد القرآني في ظهور الإمام الحجّة (عليه السلام)
75المتّقون والإيمان بالغيب
76الظاهرة الخامسة: الإمام المهدي (عليه السلام) وذو القرنين
77التوحيد والحاكمية السياسية في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)
78كيفية الخفاء والاستتار مع المحافظة على الدين
79أنواع الحكومة الخفيّة والمعلنة
80الظاهرة السادسة: الإمام المهدي والنبيّ عيسى (عليهما السلام)
81دور عيسى المسيح في الإصلاح العالمي
82المحطّة الأولى: إنكار البراهين اليقينية يستلزم انتكاس القلوب
83المحطّة الثانية: مفارقات في الغيبة
84المحطّة الثالثة: الحراسة الإلهية لوليّ الله
85المحطّة الرابعة: التأكيد على بقاء عيسى (عليه السلام) حيّاً
86هل يدعو القرآن للسفسطة؟
87الأدلّة والمعطيات الحسّية في ولادة الإمام المهدي (عليه السلام)
88المحطّة الخامسة: الهجرة عن الفساد
89الظاهرة السابعة: الإمام المهدي (عليه السلام) وهجرة الأنبياء وغيبتهم
90الهجرة والغياب الحسّي عن المجتمعات الفاسدة
91جهة الاشتراك بين الهجرة والغيبة
92الفوارق بين الهجرة والغيبة
93الفترة بين الأنبياء والحجج
94تأخّر إنجاز الوعد الإلهي
95الخاتمة
96مصادر التحقيق
******************
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدّمة المركز:
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطاهرين.
إنَّ المنهج العقلي في إرفاد الفكر الإنساني ثقافياً وعقائدياً وسلوكياً وإن كان صحيحاً وضرورياً إلاَّ أنَّ قاعدة الاستقطاب عنده محدودة إلاَّ للثلّة القليلة من الناس، وهذه لا تشكّل أساساً اجتماعياً عريضاً ومع ذلك فقد دعى إلى هذا المنهج القرآن الكريم حيث قال: (قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) (سبأ: 46)، وذلك لتأسيس أدلّة عقلية وأسس برهانية على كلّ مطالبه الاعتقادية.
ولكن القرآن لم يكتف بهذا، بل استخدم أساليب أخرى أجدى نفعاً وأكثر شمولية فبدلاً من تحميل الفكرة على الذات الإنسانية من خلال استعمال القياسات المنطقية والأرسطية بادر القرآن إلى استنطاق الوجدان الإنساني ومحاولة خلق الفكرة في الذات الإنسانية عبر فتح المنافذ لتحرّك الوجدان وتعبيد الطريق من أجل بيان المسار الصحيح، فلا يبقى للإنسان إلاَّ الالتفات إلى نداء الوجدان ليرى الحقيقة ساطعة أمامه سطوع الشمس في رابعة النهار.
ومن الواضح أنَّ الوصول والانفتاح إلى عالم الوجدان أسرع وأيسر من الوصول إلى عالم العقول والاستنتاجات الأرسطية التي قد تكبو وتنحرف في مقدّماتها بتأثير العقل الجمعي ومحاكات الآخرين، ولهذا فقد أكثر القرآن الكريم من استعمال هذا الأسلوب لأنَّه الأقدر على الإمساك بزمام الأمور والأقدر على التأثير على النفس الإنسانية، فالأسلوب القرآني المتَّبع _ ونستطيع أن نصطلح عليه بالأسلوب الوجداني _ هو من أنجح الأساليب في استحكام العقيدة في النفوس البشرية.
ومن هنا يمكن أن ننفتح على العقيدة المهدوية وكيفية الاستدلال عليها في القرآن الكريم، حيث يجد القارئ الكريم في هذا المؤلَّف واحدة من أروع صور المنهج الوجداني في القرآن الكريم، فاستطاع المؤلّف سماحة الفقيه المتضلّع الشيخ محمّد السند أن يُحكم رباط الآيات بعضها ببعض مع استجلاء واستكشاف من التاريخ والمأثور الديني الروائي لتكوين صياغة استدلالية وجدانية رائعة تُبين العقيدة المهدوية وأنَّها أمر قد تصادقت وتعارفت عليه الأمم السابقة.
وبالاختصار فالكتاب طرح بكر ورؤية قرآنية جديدة محكمة، ودراسة موضوعية في الفهم المجموعي للآيات واستنطاق الظواهر القرآنية في سيرة المصلحين والحجج الإلهيين، للتدليل على واحدة من أهمّ مفاصل العقيدة الإسلاميّة، بل الإنسانية ألا وهي إمامة الحجّة ابن الحسن (عليه السلام) وغيبته وظهوره المشرق الذي يملأها قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً.
والمركز إذ يشكر المؤلّف على هذا العطاء الفذّ والجديد في نوعه فإنَّه يعتزّ بما يقدّمه للمكتبة العقائدية وللقارئ الكريم، سائلين المولى تعالى أن يجعلنا وإيّاهم من أنصار الإمام وأعوانه والمستشهدين بين يديه.
مدير المركز
السيّد محمّد القبانچي
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدّمة المؤلّف:
الحمد لله الذي لا يخلف وعده وهو ناصر رسله ومضت إرادته أن يمنَّ على الذين استضعفوا في الأرض ويجعلهم أئمّة ويجعلهم الوارثين، ثمّ الصلاة والسلام على الرسول الشاهد على خلقه المبشّر بأنَّ المهدي من ذرّيته، وعلى خلفائه من أهل بيته الموعودين باستخلافهم في الأرض وتمكين الدين ليظهروه رغم كره الكافرين الجاحدين لهم.
وبعد..
فإنَّه تعالى قال: (وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً) (الإسراء: 89)، فلا يخلو الكتاب العزيز من الإجابة عن أيّ سؤال تحتاجه البشرية في مسير هدايتها إلاَّ وقد ذكره وبيَّنه من خلال مثل لكنَّه تعالى أشار أنَّ تلك الأمثال تحتاج إلى قراءة عقلية بأداة علمية لتظهر الإجابة حيث قال عزَّ اسمه: (وَتِلْكَ الأَْمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ) (العنكبوت: 43)، وقال: (وَتِلْكَ الأَْمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الحشر: 21)، فالأمثال القرآنية جواب يُقرأ بالتفكّر، ومن تلك الأمثال قصص الأنبياء (عليهم السلام) فهي (عِبْرَةٌ لأُِولِي الأَْلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (يوسف: 111)، ففي قصصهم عبر وأمثال يفصَّل منها الإجابة على كلّ شيء.
ومن تلك الأسئلة المطروحة على ساحة العقيدة الإيمانية غيبة المهدي (عليه السلام) وما يلفُّ حولها من تداعيات لاسيّما وأنَّها العقيدة الركن في راهن الإيمان الحاضر بالإمامة الإلهية، فكانت الإجابة عن التساؤلات الدائرة حولها لا محالة نجدها في الأمثال والقصص القرآنية المستعرضة لحال الأنبياء والأولياء المصطفين السابقين.
فكانت هذه السلسلة حول الظواهر القرآنية وارتباطها بالغيبة للمهدي (عليه السلام)، كيف لا وها هو القرآن ينادينا بأنَّ قصصهم لا يتوقَّف عندها كسطح ظاهر في أشخاص الأنبياء والأصفياء، بل يعبر منها عبور مثل للوصول إلى حقائق أخرى، فصحَّ أنَّه لم يستعرض القرآن قصَّة لنبيّ من السابقين إلاَّ مثلاً وعبرةً لعقيدة وحكمة راهنة أرادها من المسلمين والبشر أن يعقلوها في ظرفهم الحاضر من دين الإسلام.
فكان هذا البحث خطوات في هذا الطريق والمنهاج الذي دعانا إليه القرآن، لاستخراج أجوبة القرآن عن تساؤلات غيبة المهدي (عليه السلام) وموقف الكتاب تجاه هذه العقيدة والحقيقة الراهنة.
وأقدّم جزيل شكري لسماحة الفهّامة البحّاث ابن بجدة هذا الباب السيّد محمّد القبانچي دام توفيقه في هذا الميدان مدير مركز الدراسات التخصّصية في الإمام المهدي (عليه السلام) على ما بذله وفريق مساعديه من جهود في تنقيح وتقويم متن هذا الكتاب، داعياً المولى سبحانه أن يوفّق للمزيد ويجعل الجميع أهلاً لنصرة وليّه المنتظر عجَّل الله تعالى فرجه المبارك لإسعاد البشر.
محمّد السند/ النجف الأشرف
(28 جمادى الأوّل/ 1431هـ)
التمهيد: الاستدلال بالظواهر القرآنية المستعرضة لسيرة الأنبياء (عليهم السلام)
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين محمّد وآل بيته الطيّبين الطاهرين وعجَّل الله فرجهم وفرجنا بهم، اللّهمّ اكشف هذه الغمّة عن هذه الأمّة بظهور الحجّة (عليه السلام).
في الحقيقة إنَّ الاستدلال بسير الأنبياء السابقين التي استعرضها لنا القرآن الكريم في دعواتهم الإصلاحية ونهوضهم بالبرنامج الإلهي، وكون سلسلة منهم من الموعود بهم وبشَّر بهم، للقيام بعملية الإصلاح، هو ممَّا يستعرضه لنا القرآن الكريم من سيرهم، وفيه أبعاد عديدة، وممَّا لا ريب فيه أنَّ أحد تلك الأبعاد هو الإيمان بهم وبما جرى عليهم وبما ذكره القرآن من سيرتهم، وهذا بلا ريب هو من الإيمان بكتب الله ورسله وملائكته.
والبعد الآخر وهو الذي يعنينا أيضاً فيما يتَّصل بعقيدتنا بخلفاء النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) والأوصياء الاثني عشر لاسيّما الثاني عشر منهم الإمام المهدي (عليه السلام) وحالة الغيبة، أو حالة الخفاء هي عقيدة قرآنية، إسلاميّة، وإيمانية أصيلة.
البعد الثاني في سير الأنبياء هو كون ما جرى عليهم من مواقف ومحطّات وتقادير وأقضية إلهية بمثابة عِبر وعظات عقائدية، وأمثال ضربها الله في القرآن الكريم، كي نبصر ونستبصر ونُبصّر بها في مجال المحاور العقائدية التي كُلِّفنا بها، وافتُرض علينا الإيمان والتصديق بها في دين الإسلام.
ها نحن نقرأ في القرآن الكريم في موارد عديدة حول الأنبياء، مثلاً: ما في آخر سورة يوسف عندما يستعرض لنا القرآن الكريم السنن والتقادير والأقضية الإلهية التي جرت على يعقوب ويوسف، ويخبرنا القرآن الكريم: (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ) بصورة الجمع، أي إنَّها لجميع الأنبياء، بل هذا في الحقيقة قالب ومعادلة قرآنية عامة لكلّ الأنبياء (عليهم السلام)، (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ) (يوسف: 111)، إذن ليس هو الإيمان والتصديق بالأنبياء فقط وفقط، بل هناك بُعد آخر مهمّ جدَّاً، وهو أن نعتبر بما استعرضه لنا القرآن الكريم من قصصهم، وسيرهم وأحوالهم، وسنن الله عز وجل فيهم، أن نعتبر ونتَّعظ فيما يفترضه علينا القرآن الكريم، وتفترضه علينا الديانة الإسلاميّة من عقائد، لأنَّ المفروض أنَّ الذي استعرضه لنا القرآن الكريم هو محطّات عقائدية في الأنبياء، حيث نريد أن نستخلص منها عبرة، هي ليست عبرة في فروع الدين، وإنَّما هي عبرة في أصول الدين، وعبرة في عقائد الدين.
إذن معنى العِبرة أن يُعتبر من هذه العقيدة كَمَثَل لعقيدة أخرى راهنة إسلاميّة معاصرة. وهي آخر الأمم مبعثاً. فالعبرة في الواقع عبور من شيء إلى آخر موازٍ ومكافئ ومعادل له، حيث إنَّ ما جرى في الأنبياء عموماً وغالباً، وجُلَّ ما يستعرضه لنا القرآن الكريم من الجانب العقدي والاعتقادي،(1) هي مواقف ومحطّات عقائدية واعتقادية في الأنبياء وهي ليست محلّ نسخ بين الشرائع، لأنَّ العقيدة واحدة، والدين واحد، وهو دين الإسلام المتقوّم بحوزة ودائرة أصول الدين، هذه الدائرة يستعرضها لنا القرآن الكريم مؤكّداً في جملة من السور وجملة من الآيات أنَّ هذه المحطّات يجب أن نعتقد بها، مثل كتب الله ورسله وأنبيائه وملائكته، إلى جانب كونها عِبَراً يعبر المكلَّف من هذه المحطّة العقائدية إلى محطّة عقائدية أخرى راهنة، ثمّ ينتقل بها إلى المحور العقائدي الاعتقادي الراهن في الأمّة الإسلاميّة. فهناك قاعدة قرآنية محكمة أصيلة شريفة مفادها ومؤدّاها (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ)، في قصص الأنبياء والرسل والحجج الإلهية السابقة (عِبْرَةٌ)، أي مضافاً إلى وجوب الإيمان والتصديق بهم هناك عبرة، أي إلى جانب كونه ذا بصمةٍ ولون ومسحة عقائدية هو أيضاً عبرة لأمرٍ عقائدي آخر.
فهنا نستلهم من القرآن الكريم ونستبصر منه أنَّ كلّ ما جرى في الأنبياء السابقين سيجري في محاور اعتقادية عقدية في هذه الأمّة. اُنظر هذا البيان النيّر من القرآن الكريم وهو بصائر لأولي الألباب (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُِولِي الأَْلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ)، إذن ليست هي مسودّة قلمية كتابية مكتوبة لرواية رومانسية يسردها وينسجها الخيال والوهم والتحليق في عالم الأوهام وعالم دعابة المخيَّلة، كلاَّ، إنَّما هي حقائق قد جرت في أنبياء الله السابقين، وستجري في الحجج والأوصياء في هذه الأمّة.
إذن قصصهم فيها تفصيل كلّ شيء، وبالتالي ستبتلى به الأمّة، ولا ريب في أنَّه من البنى الركنية المحورية الأساسية فيما استعرضه لنا القرآن الكريم من قصص الأنبياء السابقين، ومواقفهم ومحطّاتهم ومقاماتهم العقائدية والسنن.
فالقرآن الكريم يؤسّس لنا عقائد معرفية معارفية اعتقادية، وهي: أنَّ ما جرى في الأنبياء والرسل السابقين مضافاً إلى وجوب الاعتقاد والتصديق به، هو أيضاً معبر يعبرون منه، وينتقلون منه، ليكن الانعكاس منه كمرآة لِما يجري عليكم ولِما يفترض عليكم في هذا الدين وفي هذه الشريعة الخاتمة الخالدة الباقية.
هذا تعليم قرآني اعتقادي أصيل، بأن نستلهم الأجوبة لما نبتلى به من أسئلة عقائدية في هذه الأمّة، وفي هذه الشريعة، نستلهمه ممَّا قد جرى في قصص الأنبياء السابقين، فهي دعوة من القرآن الكريم لاتّخاذ هذا المنهج لحلّ معضلات الحياة فكرياً وعقائدياً.
ونحن نعيش في ظلّ هذا العهد الراهن وهو عهد الاعتقاد بالإمام المهدي وطول حياته وغيبته، فكما أنَّه محور وركن عقدي واعتقادي هو أيضاً محلّ حديث واسع فسيح بين الفِرَق الإسلاميّة، مضافاً إلى أنَّ سُنّة الله التي جرت في الحجج السابقين لن تتبدَّل (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً) (فاطر: 43)، والتاريخ يُعيد نفسه كما تفيدنا آيات أخر من القرآن الكريم، فبالتالي هذه إضاءة أخرى من القرآن الكريم تدفعنا وتحثّنا لمتابعة الجواب عن أكبر عقيدة احتدم حولها السؤال في الساحة الإسلاميّة، بل وفي الساحة البشرية، ألا وهي العقيدة بالإمام المهدي (عليه السلام) وغيبته وحياته وإعداده للظهور والإصلاح الشامل، وهل نجد إجابة عن الإثارات التي تدور حول هذا الموضوع في القصص والسنن التي جرت في أنبياء الله عز وجل وأوصياء الأنبياء، وفي حجج الله، فإنَّها سوف لن تتحوَّل، وهي سُنّة جارية إلى يوم القيامة، زد على ذلك ما ثبت في الحديث النبوي الذي روي عن الفريقين من أنَّ ما جرى في الأمم السابقة سيجري في هذه الأمّة. قال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): (لتركبنَّ سُنّة من كان قبلكم حذو النعل بالنعل، والقذّة بالقذّة، ولا تخطؤون طريقتهم، شبر بشبر، وذراع بذراع، وباع بباع، حتَّى أن لو كان من قبلكم دخل جحر ضبّ لدخلتموه)(2)، فالسنن إذن جارية في اللاحق كما جرت في السابق.
هنا قد نتساءل: هل هذه القراءة للآيات القرآنية وظواهر القرآن الكريم تُعدّ من التأويل، أو من الاستظهار والتمسّك بمؤدّيات الألفاظ؟
فنقول: في الحقيقة إنَّ هذا الاستظهار يدعو إليه نفس القرآن الكريم في توصيات عديدة كقوله تعالى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (القمر: 17)، (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) (محمّد: 24)، فنجد الحثّ على التدبّر والتذكّر وعلى الاتّعاظ والعبرة.
هناك أوامر وتوصيات مشدَّدة من القرآن الكريم للبشرية بالقيام بالتأمّل والتبصّر في خضم وغمرات هذا القرآن الكريم، وإلاَّ فليس هدف نزوله أن نقرأه للبركة، ولقلقة تتردَّد نغماته على الحناجر، بل آياته في الحقيقة مرتّبة ومعدّة ومقدّمة لأجل أن نغوص في بحار معانيها. فقد دعانا القرآن الكريم لأن تكون هناك عبرة (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ...)، أي يجب الاعتبار ويجب الاتّعاظ، ولا ريب أنَّ المعاني لا تظهر من ظواهر الألفاظ بمجرَّد الاسترسال العفوي، وبنظرة أولى فاحصة تظهر غزارة معاني الآيات الكريمة من طافح الآيات، وإلاَّ لو كانت درر المعاني تظهر بمجرَّد الاسترسال في القراءة لما احتاج القرآن الكريم أن يوصينا ويأمرنا بالتدبّر، فالتدبّر يعني نوعاً من الاتّعاظ والتأمّل والتمعّن والتحليل والنظر والأخذ والإحاطة بالمعنى وتقليبه في جهات عديدة، إلى أن يتنفَّس ويحصحص نور المعنى.
لذا احتاج المسلمون في كلّ عصر إلى مفسّرين متخصّصين في أحد العلوم الإسلاميّة الشامخة، وهو علم التفسير، وهناك جمهرة كبيرة من علماء المسلمين في كلّ الفِرَق الإسلاميّة انبروا للتخصّص وإلى اعتلاء مدارج هذا العلم، بما يدلّل على أنَّ تفسير القرآن يحتاج إلى موازين وإلى قواعد يجب أن يستلهمها ويحيط بها المسلم عندما يريد أن يتدبَّر القرآن الكريم.
إنَّ تفسير معاني القرآن الكريم في حين أنَّه لا بدَّ أن يستند إلى أصول اللغة العربية وأصول القواعد الاستظهارية، إلاَّ أنَّ إعمال هذه القواعد والاستفادة منها لا يظهر في الوهلة الأولى بشكل عفوي، وإنَّما يحتاج إلى نوع من الإمعان ونوع من الدراية العلمية، ونوع من التحليل العلمي، ونوع من التجارب العلمية، ونوع من الأخذ والعطاء العلمي، وبالتالي تكون النتيجة موزونة إذا استندت إلى شواهد وإلى دلالات تقرّها قواعد علوم اللغة العربية وقواعد الشريعة والقواعد العقلية الفطرية البديهية، فتظهر وتتَّضح النتيجة. ولربَّما كانت النتيجة للسامعين في البادئ نظرية أو متوّغلة في النظرية وليست بديهية، ولكنَّنا بالتأمّل والتدبّر إلى حلقات القواعد وتراميها وتوليدها للنتيجة سوف تظهر لنا النتيجة ناصعة يانعة بيّنة شعشعانية ظاهرة، وأمَّا النتيجة المبنيّة على الهوس والقريحة والذوق والتخرّص فلا يُعوَّل عليها، ولا هي بنافعة أيّ قارئ يتدبَّر القرآن الكريم إذا أراد أن يستبصر هداه ونوره.
فلا تكون النتيجة صحيحة ومثمرة إلاَّ إذا استندت إلى سلسلة شواهد وحلقات، نظير أيّ استنتاج رياضي، فلربَّما تتوقَّف المعادلة على مرحلة من إجراء المعادلات، أو مرحلتين، أو ثلاث، أو أربع، أو عشر، لكنَّها تصل بعدئذٍ إلى النتيجة السليمة، مستندة إلى هذه الحلقات، فالعمدة إذن وجود سلسلة قواعد وشواهد توصلك إلى النتيجة الصحيحة، والقرآن الكريم في الحقيقة ينبئ عن تدريجية المعاني فيه وتراتبيّتها، وإلاَّ فلو كان المعنى يتلقَّفه القرّاء للقرآن الكريم من طفح السطح الظاهر لما احتاج القرآن الكريم إلى التأكيد على التدبّر وعلى أخذ العبر والاتّعاظ، وأن يعبر الإنسان من معنىً إلى معنى.
القرآن الكريم يحثّ على عدم الوقوف والجمود، ويحثّ على الاتّعاظ والعبور من معنى إلى آخر ومن محطّة إلى أخرى بشكل موزون على سكّة مقرَّرة مشروعة رسمية، هذا هو معنى العبور (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ...)، أي لا تقِفوا عندها، بل تجاوزوها إلى محطّة أخرى، وإلى محور وركن عقدي واعتقادي آخر، وقد ورد في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) أنَّ كلّ ما استعرضه القرآن الكريم ممَّا جرى على الأنبياء السابقين هو مثال لما يجري على محمّد وآل محمّد (عليهم السلام).
وقد نتسائل: هل هذه القراءة بمنأى عن سُنّة النبيّ وأهل بيته (عليهم السلام)، وهل هو من باب تفسير القرآن بالقرآن، أم تفسير القرآن بالسُنّة؟
فنقول: في الحقيقة لن يكون هذا من القراءة القرآنية البعيدة عن الثقل الثاني، لأنَّنا اُمرنا بأن نتمسَّك بالثقلين، ومن غير الصحيح حينئذٍ أن نقول: (حسبنا كتاب الله)(3)، بل القرآن الكريم يقول: (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) (آل عمران: 7)، فالآية تدعو إلى معيّة الثقلين، كما هو الحال في سورة (الواقعة: 77 _ 79): (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ)، والمطهَّرون هم أهل آية التطهير(4)، فهناك آيات عديدة في القرآن الكريم هي آيات الثِقْلَين في الواقع، ومعيّة الثقلين، أمَّا هذه الدعوة التي ربَّما تطالعنا في الآونة الأخيرة (تفسير القرآن بالقرآن) فهي ليست تفسير القرآن بالقرآن، بل هي تفسير القرآن باجتهاد المجتهد في القرآن، بمنأى عن الروايات، وهي تفسير بجهد بشري بالاستعانة بالقرآن، وإلاَّ فالقرآن إنَّما يفسّر نفسه على لسان القرآن الناطق، وهم النبيّ وأهل بيته (عليهم السلام).
في الحقيقة (تفسير القرآن بالقرآن) قد يكون عبارة عن شعار مخادع، إذ لا تعني هذه المقولة تفسير القرآن بنفسه من دون الحاجة إلى السُنّة، إذ أنَّ السُنّة هي تفسير القرآن بالقرآن وسُنّة المعصومين، وأمَّا تفسير المجتهد أو الفقيه أو العالم فهو في الواقع جهد بشري لتفسير القرآن بالاستعانة بالقرآن ولكن بقدرة بشرية محدودة لا يمكن أن تحيط بمنظومة القرآن التي لا تنفد بمنأى عن السُنّة، والاقتصار على هذا المنهج خطأ واضح.
وقد يرفع هذا الشعار في كثير من الموسوعات التفسيرية ويجعل عنواناً للتفسير وهو عنوان مخادع من الناحية العلمية، لأنَّه ليس تفسيراً للقرآن بالمنظومة الهائلة للقرآن، بل بنتاج جهد بشري في فهم القرآن، ولا ينطبق على حقيقة المنهج الصحيح.
* * *
الظاهرة الأولى: الإمام المهدي والنبيّ موسى (عليهما السلام)
اهتمَّ القرآن الكريم باستعراض عدّة من الحُجج والمصلحين الإلهيين المنصوبين من قبله تعالى، وقد تضمَّنت حالاتهم وخصائصهم ما تتضمَّن خصائص وحالات الإمام المهدي (عليه السلام) نظير ما استعرضه لنا القرآن الكريم في النبيّ موسى (عليه السلام)، والنبيّ عيسى (عليه السلام)، والنبيّ يوسف (عليه السلام)، وكذلك صفي الله الخضر، وغير ذلك من نماذج.
إنَّ هذا الاستعراض من القرآن الكريم لخصائص حجج الله المنصوبين والمبعوثين لنجاة البشرية، وللإصلاح البشري وإصلاح الفساد في الأرض له مغزىً وحكمة إلهية باهرة وبارعة، ليدلّ المسلم والمؤمن المعتقد بالقرآن الكريم إلى أنَّ شؤون الحجّة الإلهية تمرُّ بمثل هذه الحالات، وتمرُّ بمثل هذه الأدوار. وهو من باب (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُِولِي الأَْلْبابِ) (يوسف: 111)، كما في ذيل سورة النبيّ يوسف.
إنَّ قصص الأنبياء والأوصياء والحجج الذين استعرضهم القرآن الكريم ليس لأجل الإثراء في الخيال، ودعابة الحسّ للذاكرة وما شابه ذلك، بل هو عبرة، فإن كان الأمر الذي استُعرض أمراً عقدياً اعتقادياً، فهو عبرة للمسلمين وللمؤمنين في أبعاد عقيدتهم ومسائلهم العقائدية، وإن كان في بُعد الآداب والأخلاق في السنن فهو أيضاً عبرة، لاسيّما وإنَّ العقائد في بعثات الأنبياء لا تنسخ، والذي ينسخ هو فروع المسائل وفروع تفاصيل الشريعة، وأمَّا العقائد والمعارف فهي على نسق واحد، وما يرتبط بالحجج والأنبياء فهو أمر واحد ومتَّفق عليه، لأنَّ (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِْسْلامُ) (آل عمران: 19)، بُعث عليه آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى وسيّد الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)، نعم تنسخ شريعة النبيّ بشريعة نبيّ آخر (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) (المائدة: 48)، وأمَّا الدين فهو في دائرة العقائد والمعارف وأركان الفروع فتلك ثوابت مستمرّة.
فبهذه المقدّمة وهي التي تختصّ بالقرآن الكريم، فهي تشكّل حقائق يعتبر بها _ حينئذٍ _ المؤمن والمسلم القارئ للقرآن الكريم، وما نشاهده من شجون في هؤلاء الحجج يكوّن داعياً واضحاً من الله عز وجل لأبناء هذه الأمّة، ليتخطّوا هذه الشاكلة والسُنّة الإلهية في الحجج.
أوجه الشبه بين الإمام المهدي والنبيّ موسى (عليهما السلام):
هناك عدّة سور قرآنية تناولت حياة النبيّ موسى (عليه السلام) بدءاً من ولادته، وحتَّى قبل ولادته وخفاء ولادته، ثمّ ترعرعه ونشأته في الخفاء، ثمّ غيبته عن بني إسرائيل، وفي الحقيقة فإنَّه غاب عن بني إسرائيل منذ ولادته، وكان قومه يتطلَّعون إليه كمنج ومغيث لهم من الفراعنة حيث إنَّهم قاموا باستعباد بني إسرائيل. فقد كانوا يقتلون أبناءهم ويستحيون نساءهم، كما في قوله تعالى: (وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) (الأعراف: 141)، فتطلّع بني إسرائيل وانتظارهم للنبيّ موسى كنبيّ وكإمام مُنج ومصلح لهذا الفساد والظلم والضيم الذي يعيشون فيه هو محلّ عِظة وعبرة يسطّرها لنا القرآن الكريم، وهو أنَّ في أدوار تفشّي الظلم والفساد تأتي سُنّة الله عز وجل، وهي بعثُ المصلح وربَّما تغيب وتخفى ولادة المنجي والمصلح الذي هو حجّة من الله، بل حتَّى ما بعد الولادة يمكن أن تخفى حاله، كما جرى في النبيّ موسى وغيبته، ثمّ مجيئه بعد الغيبة، وإنجائه لبني إسرائيل وما رافق ذلك، فهنالك في الواقع عدّة محاور يمكن استعراضها بشكل تفصيلي، وإنَّما ذكرت ذلك إجمالاً الآن في حياة النبيّ موسى، لأنَّها مشابهة جدَّاً لما مرَّ به الإمام المهدي (عليه السلام)، وهو الثاني عشر من الخلفاء الذين وعد بهم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، أنَّهم (كلّهم من قريش)(5)، أو (من بني هاشم)(6)، كما روى ذلك جمهور المحدّثين، ولا يخفى على القارئ الكريم أنَّ هناك آيات عديدة تناولت موضوع إمامة أهل البيت، ولكن نحن في صدد بحث الخصائص الخاصّة بحالات وشؤون العقيدة بالإمام المهدي (عليه السلام).
علّة اختفاء النبيّ موسى (عليه السلام) عن قومه:
عند قراءة سورة القصص، وهي إحدى السور التي تستعرض حياة النبيّ موسى بدءاً وانتهاءاً، يقول تعالى: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * طسم * تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ * نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (القصص: 1 _ 3)، نجد أنَّ الله عز وجل قد قصَّ قصّة حُجّةٍ من حُججه، وليس هو نبيّ ومرسل من آحاد أو أوساط المرسلين، بل هو نبيّ من أولي العزم، فما يتلوه القرآن وينبئنا به من حديث النبيّ موسى وفرعون هو إنباء بالحقّ وليس إنباءاً بالكذب والباطل، فكلّ ما يستعرضه لنا القرآن الكريم هو حقّ (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)، وهذه التلاوة والإنباء من الله عز وجل عن ظاهرة النبيّ موسى وفرعون هي ظاهرة يتلوها وينبؤها القرآن الكريم لقوم يؤمنون بوجود مثل هذه السنن الإلهية في حججه، ويؤمنون بهذه السنن الإلهية في الحُجج المنصوبين لنجاة البشرية ولإصلاح الوضع البشري. إنَّ فرعون هو الظاهرة الأولية التي استدعت بعثة النبيّ موسى كمنج ومصلح، (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَْرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (القصص: 4).
وفي الحديث: ذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بلاءاً يصيب هذه الأمّة، حتَّى لا يجد الرجل ملجأ يلجأ إليه من الظلم، (فيبعث الله رجلاً من عترتي من أهل بيتي فيملأ الأرض قسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً).(7)
أنظر وقع السنن الإلهية، هي نفس السنن، الظهور بالعدل والقسط بعد ما تمتلئ الأرض ظلماً وجوراً، هنا القرآن الكريم أيضاً يذكر لك قاطرة هذه السنن يتلو بعضها بعضاً، هذه الحلقة الأولى، فالظلم والفساد تفشّى في الأرض في حقبة الفراعنة، وفي حقبة فرعون أو فرعون الفراعنة، حينئذٍ تأتي السنن الإلهية، وذلك عندما يتفشّى الفساد وينتشر الظلم. ولنا وقفة مليّة عند هذه السنن الإلهية إن شاء الله تعالى باستعراض أبعادٍ عديدة، ولكن إلى أن نصل إلى خفاء ولادة النبيّ موسى، (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَْرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) (القصص: 5)، فهل هذه الإرادة الإلهية هي إرادة جزئية خاصّة استثنائية ببني إسرائيل أو ما واكب تلك الحقبة، أو أنَّها في الحقيقة سُنّة إلهية دائمة؟
هذه في الواقع محطّة يجب على المؤمن والمسلم عند قراءته القرآن الكريم أن يتمعَّن فيه، إذ هي في الواقع إرادة مستمرّة وسُنّة دائمة، (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً) (فاطر: 43)، سنن الله عز وجل هي سنن واحدة، على إرادة واحدة، على شاكلة واحدة، فلذلك جاءت الإرادة الإلهية في جعل المستضعفين أئمّة وهذه سُنّة دائمة، وسنخوض فيها مليّاً ونُشبعها لأجل تبيان هذه المشاكلة في الظاهرة القرآنية مع الإمام المهدي (عليه السلام)، في الدعاء: (حَتَّى تُسْكِنَهُ أرْضَكَ طَوْعاً وَتُمَتّعَهُ _ أو في بعض ألفاظ الدعاء: وتمكّنه _ فِيهَا طَويلاً)(8)، (وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَْرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ) يعني النهج الفرعوني نهج الظلم نهج الاستعباد نهج الاستعمار، (وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) (القصص: 6)، وهنا تبدأ البيئة التي بُعث فيها النبيّ موسى لأجل الإنجاء والإصلاح، وهي بيئة تفشّى الظلم والفساد فيها، وبالمقابل تأتي السُنّة الإلهية، لكي تكون العاقبة للإصلاح.
نعم، ظاهرة خفاء ولادة النبيّ موسى (عليه السلام) الذي كان يترقَّبه بنو إسرائيل كمنج ومصلح لهم، وإن كنّا لم نستوف تمام الكلام عن سُنّة الله في الإصلاح بعد تفشّي الفساد والظلم كما تشير إليه الآية السابقة، ففي كلّ زمان ومكان بعد تفشّي الفساد والظلم فيه، هناك إرادة وسُنّة إلهية في جعل المستضعفين أو من المستضعفين أئمّة وارثين متمكّنين في إدارة وتدبير الأرض.
لكن في البدء المستهل في خفاء ولادة النبيّ موسى (عليه السلام) أنظر كيف يستعرضها لنا القرآن الكريم، وما هي أسباب خفاء ولادة هذا المنجي، كأنَّ تلك السُنّة أو تلك السنن تتكرَّر وتعاود الوقوع الفينة بعد الأخرى، وهذا هو مغزى استعراض القرآن الكريم لذلك. فالنبيّ موسى رغم أنَّه هو المنجي الموعود لبني إسرائيل في تلك الحقبة، وهو المصلح لهم، وهو المنقذ لهم من استعباد الفراعنة وإفسادهم في الأرض، جعل الله ولادة هذا المنجي وهذا المصلح في خفاء وغيبة وسرّية، ليس فقط عن فرعون والفراعنة والجهاز الحاكم على البلاد الباطش في العبيد والبشر، بل في خفاء حتَّى عن مريدي النبيّ موسى والمؤمنين به والمتوقّعين لظهوره وإنجائه وإصلاحه، فجعل ولادته في خفاء، ورغم هذا الخفاء لم يخل ذلك باعتقاد المؤمنين من بني إسرائيل في كون النبيّ موسى هو حجّة من قِبَل الله تعالى موعود منصوب لنجاتهم وإنقاذهم من براثن الفساد والظلم الفرعوني.
إذن هذه أوّل أدبيّة قرآنية، أو حقيقة قرآنية يستعرضها لنا القرآن الكريم، وهي أنَّ خفاء ولادة الحُجج لا يتصادم ولا يتقاطع مع الاعتقاد بحجّيتهم، وبحجّية ذلك المنجي المتوقَّع ظهوره أبداً.
الهوامش:
(1) وإن كان يستعرض أيضاً جانباً من الأعمال وسنن الفروع، ولكن في الدرجة الأولى - سيّما الذي هو ليس محلّ النسخ - هي المحطّات العقائدية في الأنبياء.
(2) أنظر: تفسير القمي 2: 413؛ بحار الأنوار 9: 249.
(3) القولة المشهورة التي أطلقها عمر بن الخطّاب في أخطر مرحلة مرَّت بها الدعوة الإسلاميّة، ألا وهي انتقال النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الرفيق الأعلى، فقد روى معظم محدّثي العامّة والخاصّة عن ابن عبّاس، قال: لمَّا احتضر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي البيت رجال منهم عمر بن الخطّاب، قال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): (هلمَّ أكتب لكم كتاباً لا تضلّون بعده) فقال عمر: إنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن (حسبنا كتاب الله). فاختلف القوم واختصمو، فمنهم من يقول: قرّبوا إليه يكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده، ومنهم من يقول: القول ما قاله عمر، فلمَّا أكثروا اللغو والاختلاف عنده (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لهم: (قوموا)، فقاموا فكان ابن عبّاس يقول: إنَّ الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين أن يكتب لكم ذلك الكتاب. (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2: 55).
وفي رواية أنَّه قال: (إنَّ النبيّ يهجر!!). (أضواء على السُنة المحمّدية/ محمود أبو رية: 55).
يقول السيّد شرف الدين: وهذا الحديث ممَّا لا كلام في صحَّته ولا في صدوره، وقد أورده البخاري في عدّة مواضع من صحيحه، وأخرجه مسلم في آخر الوصايا من صحيحه أيضاً، ورواه أحمد من حديث ابن عبّاس في مسنده، وسائر أصحاب السنن والأخبار، وقد تصرَّفوا فيه إذ نقلوه بالمعنى، لأنَّ لفظه الثابت: (إنَّ النبيّ يهجر)، لكنَّهم ذكروا أنَّه قال: إنَّ النبيّ قد غلب عليه الوجه تهذيباً للعبارة، وتقليلاً لما يُستهجن منها. راجع: (المراجعات: 353).
(4) وهي قوله تعالى: (إِنَّما يُريدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهيراً) (الأحزاب: 33).
(5) من ذلك ما روي عن جابر بن سمرة السوائي، قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول في حجة الوداع: (إنَّ هذا الدين لن يزال ظاهراً على من ناواه لا يضرّه مخالف ولا مفارق حتَّى يمضي من أمّتي اثنا عشر خليفة)، قال: ثمّ تكلَّم بشيء لم أفهمه، فقلت لأبي: ما قال؟ قال: (كلّهم من قريش)؛ وفي حديث آخر عنه، قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول في حجة الوداع: (لا يزال هذا الدين ظاهراً على من ناواه لا يضرّه مخالف ولا مفارق حتَّى يمضي من أمّتي اثنا عشر أميراً كلّهم...)، ثمّ خفي من قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: وكان أبي أقرب إلى راحلة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منّي، فقلت: يا أبتاه ما الذي خفي من قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قال: يقول: (كلّهم من قريش).
أنظر: مسند أحمد 5: 87؛ صحيح البخاري 8: 127؛ صحيح مسلم 6: 3 و4؛ سنن أبي داود 2: 309؛ سنن الترمذي 3: 340؛ مستدرك الحاكم 3: 617، رووه بألفاظ مختلفة ومعناها واحد.
ومن ذلك ما روي عن عون ابن أبي جحيفة، عن أبيه، قال: كنت مع عمّي عند النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: (لا يزال أمر أمّتي صالحاً حتَّى يمضي اثنا عشر خليفة)، ثمّ قال كلمة وخفض بها صوته، فقلت لعمّي وكان أمامي: ما قال يا عمّ؟ قال: قال: يا بني (كلّهم من قريش). (مستدرك الحاكم 3: 618؛ المعجم الكبير 22: 120).
(6) روي عن عبد الملك بن عمير، عن جابر بن سمرة، قال: كنت مع أبي عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فسمعته يقول: (بعدي اثنا عشر خليفة)، ثمّ أخفى صوته، فقلت لأبي: ما الذي قال؟ قال: قال: (كلّهم من بني هاشم). (ينابيع المودّة 2: 315).
(7) العمدة: 436/ ح 918؛ بحار الأنوار 51: 104.
(8) مصباح المتهجّد: 631/ ح (709/85).
******************
الخفاء أدلّ على الحجّية:
بل هذا الخفاء أدلُّ برهانٍ على حجّية الموعود للإنجاء، لماذا؟
لأنَّ الحجّة بطبيعته سيصطدم مع قوى الظلم ومع سطوة وسلطات المفسدين في الأرض، ومن الواضح أنَّهم سوف يقعون في معترك وتصادم معه، ومن الطبيعي أنَّهم سيضعون برنامجاً لتصفية ذلك المصلح. وعليه فمن الطبيعي أن يكون في برنامج العناية الإلهية ومخطَّط القدرة الربّانية إخفاؤه بدءاً من الولادة، أنظر ماذا يقول لنا القرآن الكريم في ظاهرة النبيّ موسى (عليه السلام): (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)، حيث يكشف لنا من خلال هذه الآية عن جوّ مليئ بالإرهاب والخوف، وأنَّ المصلح ومنذ بدوّ تولّده ولأنَّه موعود بإصلاح قومه ونجاتهم من براثن الفساد والظلم، ومن ثَمَّ فإنَّ قوى الظلم وقوى البطش تريد أن تحيق به عن طريق الإعدام والإبادة من بدء الولادة، ومن ثَمَّ تكون هناك عناية إلهية في خفاء الولادة.
فإخفاء الولادة ليس أمراً أسطورياً في الحجج، بل هو حقيقة يستعرضها لنا القرآن الكريم، وهي أنَّه قد يكون نبيّ مرسل من أولي العزم موعوداً بكونه هو المنجي وهو المصلح وهو المنقذ لبني إسرائيل من براثن الظلم والفساد في الأرض، ومع ذلك تُخفى ولادته، لماذا؟
لأنَّ ذلك أمر طبيعي يتعقّله العقل الإنساني في أنَّ بشائر ذلك المصلح الموعود المنجي الذي تنتظره قلوب المؤمنين في تلك الحقبة، سوف تُعبّأ ضدّه إرادة الظلمة والأنظمة.
العنف والاضطهاد ضدّ الإمامين العسكريين (عليهما السلام):
أنظر إلى حياة الإمام علي الهادي والإمام الحسن العسكري (عليهما السلام)، حيث استُدعيا من المدينة المنوَّرة مدينة جدّهما من قِبَل أكبر دولة عظمى آنذاك في الكرة الأرضية وفي البشرية وهي الدولة العبّاسية، وجُعلا سجينين عسكريين، إذ كانت سامراء والتي تسمّى بـ (سُرَّ من رأى) أكبر قاعدة عسكرية ربَّما في الكرة الأرضية لدولة عظمى لما يقارب من ثلاثين أو أربعين دولة في الوضع الراهن من ناحية المساحة، إذن هي دولة بهذا الاتّساع وبهذه القوّة وبهذا البطش وهذه السطوة، والقاعدة العسكرية لهذه الدولة كانت سُرَّ من رأى، ولمَّا يُسجن الإمام الهادي والإمام الحسن العسكري (عليهما السلام) في مدينة عسكرية ذات أهمّية كهذه يتَّضح جلياً أنَّ النظام العبّاسي كان عنده تعبئة واستنفار وخوف خاصّ واصلٌ إلى درجة تعبوية قصوى يجعل من ذلك الطرف ليس سجيناً مدنياً وليس سجيناً سياسياً فحسب، بل يجعله سجيناً عسكري، وهذا خوف مسلَّم به من ذلك الشخص، والمحاكمة التي يحاكم بها محاكمة عسكرية وليست محاكمة سياسية ولا محاكمة مدنية، لأنَّها لا تخضع لقوانين ولا لأصول، ما السبب في ذلك؟
وهذا أوّل دليل وأكبر شاهد تاريخي في سيرة المسلمين عرفه المسلمون عن تخوّف السلطة العبّاسية من ولادة المهدي (عليه السلام). وهو أنَّ الإمام علي الهادي والإمام الحسن العسكري سُجنا في أكبر معسكر على وجه الأرض في ذلك الوقت، وجُعلا سجينين عسكريين تحت رقابة الحكم العسكري، وإنَّ هذا الاستنفار التعبوي في درجته القصوى يشبه إلى حدّ التطابق تلك التعبئة التي اتّخذها فرعون تجاه المصلح وهو النبيّ موسى (عليه السلام)، هنا تشاكلت السنن بين حجج الله.
إذن خفاء ولادة الإمام المهدي (عليه السلام) وما أنـِسَه وعرفه المسلمون والمؤمنون من أمرها في ظلّ تلك الظروف التي استدعي فيها الإمام الهادي وهو الإمام العاشر من أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، وما كان ذلك إلاَّ لِتَحسُّب الدولة العبّاسية آنذاك من ظهور هذا المصلح الموعود الذي روى الفريقان فيه ما يقرب من اثني عشر ألف حديث، كما رصدته إحدى المؤسسات التحقيقية العلمية في الحوزة العلمية عندنا.(1)
إذن الحديث متواتر في ذهنية المسلمين، في أنَّ هناك مظهراً مصلحاً منجياً منقذاً للبشرية عموماً، وهذا محور آخر عسى أن نوفَّق لنستعرض الوعود القرآنية الدالّة على ظهور الإمام المهدي (عليه السلام) وأنَّه هو الذي يُظهر الدين على أرجاء الكرة الأرضية كافّة.
الوحي الإلهي لاُمّ موسى (عليه السلام):
هنا الآية الكريمة تقول: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى...) وهذا مقطع لطيف، فما معنى هذا الوحي؟ فاُمّ موسى ليست بنبيّ وليست برسول، هذه ظاهرة قرآنية واضحة، وهو أنَّ هناك من الأوصياء ومن الحجج الإلهيين غير الأنبياء وغير الرسل يوحى إليهم، هذه الظاهرة القرآنية لا تفسّرها غير مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، فإنَّ اُمّ موسى أوحي إليها (أَنْ أَرْضِعيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافي‏ وَلا تَحْزَني‏ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلينَ) (القصص: 7)، هذا ليس وحياً _ كما يقال _ تكوينياً أو غريزة تكوينية، كلاَّ، وإنَّما أمر (أَنْ أَرْضِعيهِ)، والأمر يعني وحياً إنشائياً، لكن ليس وحي نبوّة، وليس وحي شريعة، وإنَّما هو وحي إنشائي في الحجج الإلهية، وسنستعرض فيما يأتي بقيّة تفاصيل خفاء ولادة الإمام المهدي (عليه السلام)، وبقيّة تفاصيل ولادة النبيّ موسى المشاكلة والمشابهة لخفاء ولادة الإمام المهدي (عليه السلام) وأنَّها عِظة وعِبرة قرآنية كبرى سطّرها القرآن الكريم للمسلمين وللبشرية إلى يوم القيامة عند تلاوتهم لسورة القصص والسور القرآنية الأخرى.
سرّ استعراض القرآن الكريم عبراً اعتقادية ذات مغزى عظيم:
إنَّ ما يستعرضه القرآن الكريم لنا من قصص الأنبياء هي عِبر كما نصَّ عليه القرآن الكريم في ذيل سورة النبيّ يوسف: (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُِولِي الأَْلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) (يوسف: 111)، فهي في الواقع سنن إلهية تُستعرض لكي يتَّعظ بها المسلمون والمؤمنون، لاسيّما في الجانب العقدي والاعتقادي، وقد ورد أيضاً في القرآن الكريم أنَّ سُنّة الله لا تتحوَّل ولا تتبدَّل، وهي سنن دائمة متكرّرة في الأدوار والحقب البشرية إلى يوم القيامة، مع ما ورد عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) من أنَّ هذه الأمّة ستنتهج ما نهج في الأمم السابق تحذو حذوهم حذو القذّة بالقذّة والنعل بالنعل(2)، وما شابه ذلك، وربَّما فيه إشارة إلى بعض الآيات الكريمة حيث تؤكّد (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) (الانشقاق: 19).
إذن هذه السنن التي تُستعرض في القرآن الكريم للمصلحين والمنجين المبعوثين لإصلاح ونجاة البشرية، والبشرية في تلك الحقب والأدوار تتوقّع وتنتظر ظهورهم، وما يستعرضه القرآن الكريم من تفصيلات متشعّبة عن أحوالهم، إنَّما هو بيان وتذكرة لسنن اعتقادية عقدية للمسلمين وللمؤمنين فيما تكون فيه السنن الإلهية في هذه الأمّة أيضاً.
نعود إلى خفاء النبيّ موسى (عليه السلام) هذا النبيّ الذي كانت تتوقَّعه بنو إسرائيل وتنتظره كمصلح ومنج، وقد انتشرت بشائره إلى أسماع السلطة الحاكمة الباطشة آنذاك وهي سلطة الفراعنة، فحاولت تصفية نسل بني إسرائيل للحيلولة دون تولّد هذا المصلح، وشاكل ذلك ما مارسته السلطة في الدولة العبّاسية في تلك الحقبة من استقدام الإمام الهادي علي بن محمّد النقي العسكري (عليه السلام) إلى القاعدة العسكرية آنذاك، وتحت رقابة عسكرية في مدينة عسكرية مدجَّجة بالفِرَق العسكرية، فكأنَّما هم في حالة استنفار وتعبئة عسكرية، وليست حالة تعبوية سياسية، وكأنَّما هناك نوعاً من التيّار الجارف الذي يُمهَّد له الإمام الهادي والإمام الحسن العسكري (عليهما السلام) لظهور ابنهم الإمام الثاني عشر، سيّما وقد نصَّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) على أنَّ الأئمّة الخلفاء من بعده اثنا عشر وكلّهم من قريش، وفي بعض الروايات: من هذا البطن من بني هاشم _ كما مرَّ سابقاً _، وقد سمعوا بتلك الأحاديث المتواترة، حينئذٍ هذه الذاكرة المليئة بالأحاديث النبوية والبشائر النبوية، بل والقرآنية تجعل السلطة في حالة استنفار تعبوي عسكري، هذا الذي شوهد في التاريخ بنحو قطعي واستعرضته كلّ كتب المسلمين من سجن الإمام الهادي والإمام الحسن العسكري في تلك القاعدة العسكرية التي تدعى بـ (سُرَّ من رأى) والتي تدعى الآن: (سامراء) وهي مثوى الإمامين الشريفين (عليهما السلام) هناك.
نعم، هذه هي الحالة التي واكبت ولادة الإمام المهدي (عليه السلام) بالضبط، وهي التي يستعرضها لنا القرآن الكريم عندما واكبت مصلحاً سابقاً في الأدوار والأحقاب البشرية السابقة، بنفس الشاكلة، أنَّ ولادته كانت بالخفاء من السلطة وإرهاب السلطة وبرنامجها التصفوي، حيث يقول القرآن الكريم: (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ...).
إذن كانت هنالك حالة خوف ورعب عند ولادة هذا المصلح (فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)، وهذه الآية الكريمة فيها محطّة بيّنة لطيفة تصبّ في بيان ما تنتهجه مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، وهو نهج أصيل قرآني، من تقرير أنَّ هناك حججاً إلهيين ليسوا بأنبياء وليسوا بمرسلين، ولكن لديهم وحي وعلم لدنّي وإن لم يكن وحياً نبويّاً، وإن لم يكن وحي الرسالة، وإنَّما هو علم لدني، (آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) (الكهف: 65)، فالعلم من لدن الله عز وجل، وكذلك قوله تعالى: (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى)، إذن اُمّ موسى صدّيقة ومصطفاة كمريم (عليها السلام) وانتخبت لولادة هذا النبيّ المرسل من أولي العزم، ومن ثَمَّ كانت الرابطة والارتباط بينها وبين السماء، حيث قالت الآية: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ) وهذا أمر وليس إيعازاً وإلهاماً تكوينياً، (فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ) وهذا أمر آخر، (وَلا تَخَافِي) وهذا طلب ثالث، (وَلا تَحْزَنِي) طلب رابع، (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ) إخبار عمَّا سيقع، وإنباء بالمستقبل، إذن هناك حجج من الله ليسوا بأنبياء ولا رسلاً يأمرهم بأوامر خاصّة تطبيقاً للشرائع السابقة، وينفّذون برامج من قِبَل الباري تعالى، يزقّون العلم اللدنّي، وأنباء المستقبل (وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) إنباء عن مقام عقدي مستقبلي وهو رسالة للنبيّ موسى (عليه السلام).
إذن ستّة أمور في هذا الوحي استعرضها لنا القرآن الكريم في مضامين الوحي وطيّاته التي ذكرت في الآية الكريمة، في الوحي الذي كان على ارتباط واتّصال باُمّ موسى.
إنَّ الظاهرة القرآنية في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) يُفهم منها أنَّ مقام الحجج لا يقتصر على الرسل والأنبياء، بل هناك الأئمّة، وهناك الحجج الذين هم أيضاً ليسوا بأئمّة ولا أنبياء ولا مرسلين كمريم (عليها السلام)، فمريم لم تكن إماماً، ولم تكن نبيّاً، ولم تكن رسولاً، ولكنَّها كانت مصطفاة مطهَّرة معصومة من الزلل والخلل، وكان بينها وبين السماء ارتباط، ثمّ إنَّ ظاهرة مريم واُمّ موسى ليستا استثنائيتين، بل هما سُنّتان إلهيتان دائمتان لا تجد لهما تفسيراً عقدياً واعتقادياً في مناهج الاعتقاد في مدرسة من مدارس أهل السُنّة وغيرها، إلاَّ في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، حيث الاعتقاد بمقام النبوّة ومقام الرسالة بالإضافة إلى الاعتقاد بمقام الإمامة ومقام الحجّية، وأيضاً مقام الاصطفاء والطهارة والعصمة، كما هو الحال في فاطمة الزهراء (عليها السلام).
إذن هذه ظاهرة مهمّة يركّز عليها القرآن الكريم، وهي ظاهرة خفاء ولادة النبيّ موسى الذي كان مصلحاً ومنقذاً ومنجياً تنتظره البشرية الأكثرية في تلك الحقبة، وفيها أمر عجيب وهو أنَّ قدرة الله ليست محدودة ولا متناهية، ويستطيع سبحانه وتعالى أن يحفظ وليّه وحجّته في أحضان عدوّه، إذ قال تعالى: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ) (القصص: 8).
إذن ما الذي تستبعده البشرية في ولادة الإمام المهدي (عليه السلام) في حين كان أبوه وجدّه (عليهما السلام) محاصَرَين في قاعدة عسكرية تدعى بـ (سُرَّ من رأى) سجنوهما كسجينين عسكريين، أي إنَّ الدولة متّخذة ضدّهما التعبئة والاستنفار العسكري، والنظام إذا كان يتوجَّس من انقلاب عسكري فإنَّه سيعلن حالة الطوارئ العسكرية والاستنفار العسكري، والدولة العبّاسية طيلة حياة الإمام علي الهادي الذي هو جدّ الإمام المهدي (عليه السلام)، وطيلة حياة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) كانت تعيش حالة تعبئة واستنفار عسكري، هذا ما سجَّله لنا التاريخ وكتب الروايات إذ أنَّ خلفاء بني العبّاس كانوا آنذاك يستعرضون العسكر والجيوش أمام الإمام الهادي (عليه السلام)(3)، ليقولوا له: ليكن في حسبانك أنَّ أيّ انقضاض على نظام الدولة العبّاسية فسيكون أمامك أرتال وفِرَق تملأ الأفق من العسكر، وهم يظنّون أنَّ هذه هي القدرة وهذه هي القوّة، لأنَّ المنطق عندهم هو منطق القوّة المادّية الظاهرية لا غير.
إذن التعبئة العسكرية كانت موجودة كما هو في حالة النبيّ موسى، وأنَّ آل فرعون رغم تعبئتهم ورغم استنفارهم لاستئصال وذبح كلّ نسل بني إسرائيل إلاَّ أنَّ آل فرعون التقطوه ليكون لهم عدوّاً وحزن، (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ) (القصص: 8)، لأنَّ قدرة الله تحفظ وليّه وحجّته والمبعوث مصلحاً ومنجياً في أحضان عدوّه بحماية الله، النبيّ موسى كان يترعرع وينمو وينشأ في أحضان العدوّ وعلى بساط النظام الغاشم الظالم، لكن مع ذلك لم يكن يعرف هوية النبيّ موسى، هذه الغيبة من النبيّ موسى وخفاء ولادته ونشوئه وترعرعه ليست غيبة مقابل حضور، بل هو حاضر لديهم، إنَّما هي غيبة هوية، غيبة معرفة، غيبة تشخّص.
سرّ استعراض تفاصيل خفاء ولادة موسى (عليه السلام):
إنَّ لهذه القصّة وتفاصيلها حول خفاء ولادة موسى (عليه السلام) مغزى عظيم وحكمة يتَّعظ بها المسلمون في قراءتهم للقرآن الكريم، نعم، هو محطّة جيّدة للتأمّل والتدبّر والتمعّن، فإنَّ هذه التفاصيل التي تستعرضها سورة القصص بمفردها، فضلاً عن السور الأخرى بتفاصيل وملابسات وشؤون وشجون خفاء الولادة والرعب الذي لابسها، والمراحل التي ترعرع فيها النبيّ موسى (عليه السلام)، كلّ ذلك لتبيان القرآن بشكل واضح على أنَّ خفاء ولادة المصلح الموعود المنجي وكيفية ترعرعه ونشأته عن المؤمنين به، وعن المستضعفين في الأرض كما هو الحال مع النبيّ موسى وذلك بعد تفشّي الظلم وفساد الفراعنة والنظام الفرعوني في أرجاء الأرض لا تتنافى مع حجّيته، لأنَّ هذه سُنّة إلهية في الحجج المبشّرين والموعود بهم من قِبَل الله تعالى في البشائر السماوية، لأنَّهم مصلحون ومنتظرون للإصلاح ونجاة البشرية، ومن الطبيعي أنَّ تلابس نشأتهم وولادتهم وترعرعهم حالةٌ من الخفاء يتسنّى لهم من خلالها ممارسة دورهم وبسط نفوذهم وقدرتهم، وفي الحقيقة أنَّ الخفاء الذي يستعرضه القرآن الكريم في ولادة النبيّ موسى (عليه السلام) والذي فيه نماذج تأتي من الظواهر القرآنية ليست أسطورة، وليست خرافة، ففي هذا العصر توصَّلت البشرية إلى أنَّ من أسرار ورموز القوّة هو السرّية، أنظر إلى أيّ نظام من أنظمة الدول العصرية الآن إذا لم يتسلَّح بسلاح السرّية والخفاء فماذا سيحدث؟ إذن أدبية السرّية والخفاء وفكرة الغيبة والاستتار ظاهرة متقدّمة منظورة متمدّنة في علم إنشاء القدرة، لاسيّما في سبيل الإصلاح، أي إنَّ أيّة قدرة تريد أن تترعرع أو تتكوَّن أو تريد أن تبسط أرضيتها وقاعدتها لا بدَّ لها من استعمال عامل الخفاء، وعامل السرّية.
فهذه ليست هي عقيدة أو فكرة محضة، بل هي ممارسة عملية عبر التاريخ. والكثير كان يهرّج ويوظّف الأقلام الوضيعة والألسن الساقطة لادّعاء أنَّ هذه خرافة وأسطورة وأنَّ من يعتقد بها يعيش في خيال وما شابه ذلك، فتبيَّن من خلال ما سبق: إنَّ هذه حقيقة قرآنية، وهذه الحقيقة تقرّرها البشرية في إدارة نظم الدول ونظم القدرات، فليس الإعلام ولا حتَّى السلاح النووي أو غيره له قدرة توازي قدرة الخفاء السرّي، فربَّما دولة من الدول ليست لديها تلك الأسلحة والأجهزة والآليات اللوجستيكية، ولكن لديها العمل الخفي السرّي في العمل والنفوذ والاختراق لخصومها أنفذ من بقيّة الدول التي تكون ظاهرياً أكثر سيطرة وأكثر قوّة.
فعنصر الخفاء وعنصر الغيبة وعنصر السرّية ليس عنصراً _ كما يروق للبعض _ أن يعبّر عنه بـ (عقيدة باطنية) أو ما شابه ذلك ممَّا تلهج به الألسن الرخيصة، بل هو مفهوم حضاري قرآني يستعرضه لنا القرآن الكريم في المصلحين الإلهيين والحجج الموعود ببعثهم لإنقاذ البشرية من ملابسات تلك الظروف، وهذا أمر وتسلسل وتكوّن طبيعي واضح، أنَّه لا بدَّ من طبيعة المناجزة والمصادمة بين القوى على الصعيد الكائن الموجود للاجتماع البشري.
ويمكن أن نحسبها سُنّة إلهية وسُنّة طبيعية. فطبيعة البشرية الاحتماء من الأخطار بالالتجاء إلى علوم الأمن وعلوم السرّية وعلوم الخفاء وعلوم المخابرات وعلوم عديدة، بل هناك علوم عديدة تضاهي العلوم المعلَن عنها من العلوم التجريبية والعلوم الإنسانية وغيرها، فعلم الأمن يدخل في صلب الإدارة وفي صلب القيادة وفي صلب التدبير، وتقارن السرّية والخفاء مع التدبير والقيادة والإدارة والنظم والنظام، وهذه في الواقع عناوين تحمل معنى الإمامة، أي القيادة، أي التدبير، أي الإدارة، أي النظم، أي رئاسة النظم، لا بدَّ أن تقترن ملفّاتها وفي حقب فاعليتها وفعاليتها بجانب الخفاء، فلنواكب بقيّة التفاصيل التي تستعرضها لنا سورة القصص بتفاصيل متعدّدة متكثّرة مبسوطة عن خفاء وملابسات ولادة النبيّ موسى (عليه السلام) وهو إمام من الأئمّة الذين جعلهم الله تعالى أئمّة للبشر في تلك الحقب، وهو من أولي العزم، تقول الآية الكريمة: (وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (القصص: 9)، إذن معنى الغيبة هنا الذي تستعرضه لنا الآية الكريمة للنبيّ موسى ليست غيبة وجود ولا مزايلة حضور، وإنَّما غيبة هوية، وللأسف هذه المفردة لم تتبلور بشكل واضح في غيبة الإمام المهدي، فإنَّه ليس من أمر استعرضه القرآن إلاَّ لأجل عبرة في هذه الأمّة، أنَّه سيجري في هذه الأمّة من السُّنَن السابقة في الأمم الماضية وفي الحجج الإلهيين ما سيجري في هذه الأمّة.
فمفهوم الغيبة ليس المراد منه غياب حضور، وإن كان كثر في الكتابات والألسن أنَّ الغيبة في مقابل الحضور، وهذه في الواقع مفهومة مغلوطة، الغيبة مقابل الظهور وليست مقابل الحضور، فالإمام حاضر، والحجّة الإلهية حاضرة، النبيّ موسى الذي استعرض لنا القرآن الكريم أمره كان حاضراً، غاية الأمر أنَّه كان مخفيّاً خفاء هوية، غائباً عن معرفة أولئك به، لا غائباً وجوداً، وإلاَّ فهو في كبد الحدث، وفي صلب الحدث، أنظر التعبير في الآية الكريمة: (وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً)، إنَّما غيبته عدم معرفتهم به وهو موجود بين أيديهم حاضر عندهم، هذا معنى الغيبة، أي عدم الشعور بالموجود، عدم الشعور بالحاضر، كما قال تعالى: (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ) (القصص: 9 و10)، (لَتُبْدِي بِهِ) أي: تُظهر هويته، ليس التعبير في الآية الكريمة: (كادت لتأتي به)، هو لم يغب وجوداً كي تأتي به، بل هو حاضر لكن ليس بظاهر، فالغيبة في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) هي غيبة مقابل الظهور وليست في مقابل الحضور، حضور لكنَّه بالخفاء، وفي الظهور حضور لكنَّه بـِعلَن وعلانية، ففي كلّ من الغيبة والظهور حضور في ساحة الحدث، ومجريات الحدث البشري تدبيراً وإدارة من الله العلي العظيم، ولكنَّه في حالة الغيبة في الخفاء والسرّية وعدم الشعور به، وفي حالة الظهور حضور مع شعور به، ومعرفة به، والتعبير القرآني دقيق، وكلّ كلمات القرآن الكريم فيها حكمة ومغازي.
وأنَّ هناك ثلّة من الحجج ومن شابههم، يعرفون بموضع المصلح والمنجي والمنقذ، لكن هناك حصانة وحراسة إلهية ضاربة لتأمين حياة وجود هذا المصلح وهذا الموعود، وهناك تأمين وضمانة إلهية لحراسة هذا المنقذ في ترعرعه وفي نشأته وفي استمرار حياته وفي تكوين قاعدته، ونفوذه وقدرته، (وَقالَتْ لأُِخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ).
فبعض المؤمنين آنذاك كانوا يعرفون هذا المنقذ المنجي الموعود المصلح الذي أنبأت به البشائر السماوية، بعض المؤمنين الخُلَّص ككلثم أخت النبيّ موسى التي _ كما ذكر في الروايات _ تكون في الآخرة من النسوة الأربع زوجات لسيّد الأنبياء،(4) (وَقالَتْ لأُِخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ...) (القصص: 11 و12)، إنَّ تفاصيل هاتين الآيتين تصبّ في هذا المغزى، وهو أنَّ وليّ الله وحجّته الموعود بكونه منقذاً ومصلحاً للبشرية تحوطه العناية الربّانية والحراسة الإلهية في كبد أحضان العدوّ، وفي متناول مخالب العدوّ، من دون أن يشعروا أو يعلموا به أو يعرفوه، كما يتَّضح أنَّ عامل الخفاء يكون من أقوى المؤثّرات، وأقوى القدرات، وأنَّ العلم أكبر سلاح، والشعور بالشيء علم به، والغيبة والخفاء عدم الشعور به، إذ أنَّ أكبر سلاح لدى البشرية هو العلم، فإذا سُلب هذا السلاح من يد العدوّ أي الشعور واستكشاف ذلك المصلح الذي تترقَّبه السماء سوف يكون حينئذٍ أكبر نقطة ضعف لدى العدوّ.
هناك وقفة أخّاذة جدَّاً بمجامع الفكر والعقل، تتَّضح لنا في خضم هذا الاستعراض من القرآن الكريم وما أكَّد وركَّز ونبَّه من خلال لسان الآيات الكريمة على أنَّ هذا المصلح بطبيعة ما يترقَّب ويتوجَّس منه بشرياً من الإصلاح العامّ، سوف تكون قوى الشرّ وقوى الظلام دوماً في تحسّب من مواجهته، وهذه معادلة طبيعية، معادلة قوى الخير وقوى الشرّ، قوى الحقّ وقوى الباطل، فمن ثَمَّ يكون هناك تعبئة عامّة واستنفار عامّ في صفوف الأنظمة الظالمة وقوى الفساد في وجه هذا المصلح الآتية بشائره، إذن فهذه سنن إلهية موجودة.
وفي خضم تعرّض القرآن الكريم لأوّل محطّة من ظاهرة النبيّ موسى المصلح المنجي الموعود في تلك الحقبة الزمنية لتبيانه، لاسيّما في سورة القصص وفيها ما لابس خفاء ولادة النبيّ موسى، هنا نشاهد أنَّ القرآن الكريم يعطي وقفة نورية خلاّبة جدَّاً أخّاذة بمجامع القلوب، وهي تجليل لوالدة موسى، وأنَّها موحى إليها، وإن لم يكن وحياً نبويّاً ولم يكن وحي شريعة، ولا وحي رسالة، ولكن وحي لوليّ من أولياء الله، وصفي من أصفياء الله، كيف لا وهي قد استودعت أمانة النبوّة عن عدوّه. قال تعالى: (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (القصص: 7).
إذن هي اُنبئت واُخبرت بأنَّ موسى سوف يكون نبيّاً مرسلاً، مع أنَّه إلى ذلك الوقت لم يُبعث النبيّ موسى بشريعته كي تعتنقها، ولكن كانت على شريعة الأنبياء السابقين، واُنبئت ببعثة نبيّ من أولي العزم ناسخ للشريعة السابقة ومكمّل لسلسلة من النبوّات، فأودعت هذه الأمانة العظيمة وحفظتها، ولو لم تكن هي أمينة الله ومستودع الله لحفظ كليم الله ولحفظ نبيّ من أنبياء أولي العزم، ولو لم تكن بهذه المنزلة لما أنبأها الله عز وجل بأنَّ هذا الموعود سوف يكون نبيّاً وأنَّه من المرسلين، إذن هي بحدّ من الأمانة عند الله عز وجل وصدّيقة وصفية من أصفياء الله اصطفاها عز وجل بحيث يُجلّلها ويودعها هذه الأمانة، وإلاَّ لو لم تكن بتلك الدرجة من الأمانة لكشفت عن الأمر، ولربَّما انقطع الطريق وسُدَّ عن البرنامج الإلهي من بعثة نبيّ من أنبياء أولي العزم.
إنَّه أمر عظيم وهو استحفاظ اُمّ موسى نبوّة النبيّ موسى، إنَّه أمر ليس بالهيّن، ويظهر من القرآن الكريم أنَّ اُمّهات الأنبياء جميعهنَّ مؤمنات مصطفيات مستودعات للسرّ الإلهي صدّيقات حاملات لأكبر أمانة إلهية، فكيف بك بوالدة سيّد الأنبياء، وهي آمنة بنت وهب، وعجباً من هذه الألسن التي تلوك زوراً باطلاً كيف يتجرَّأون بالقول بكفر وشرك والدة سيّد الأنبياء أو والده أو آبائه عموماً الذين كانوا كلّهم أمناء مستودعين لنور النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان نور النبيّ في جبينهم يخفق ويسطع، وكان من القبائل ومن الأمم من اليهود والنصارى من حاول مباغتة جدود النبيّ وقتلهم واستئصالهم حسداً للقضاء على نور النبوّة في جبينهم وفي صلبهم، هؤلاء الذين استودعوا مثل هذا النور نور سيّد الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكيف حينئذٍ تتجرَّأ تلك الألسن وتلوك باطناً وتتجرَّأ على الساحة النبوية وعلى الساحة الإلهية في الوقيعة بأولئك الآباء الطاهرين والأجداد المطهَّرين للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم).
يعلّمنا القرآن هنا درساً بأنَّ اُمّهات الأنبياء وآباء الأنبياء هم بهذه المنزلة، أنظر هذا التعبير القرآني: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى)، فكيف يكون المقام مع اُمّ محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو سيّد الأنبياء، نعم فإذا كان النبيّ موسى قد ترعرع في هذا الحضن الطاهر والبطن الطاهر والرحم الطاهر والصدر الطاهر فكيف بك بسيّد الأنبياء، نعم هناك ضغينة وشنشنة قديمة مع النبيّ وأهل بيته (عليهم السلام)، يحملها أناس ولا زالت تنفث، كما كانت قريش تعادي النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم).
فاُمّ موسى صدّيقة وصفية من الأصفياء، هكذا شأنها كما كان شأن والدة النبيّ عيسى أيضاً، حيث استودعت نبوّة النبيّ عيسى، وأوعز إليها أن تقوم بدور إبلاغ بني إسرائيل بأنَّ هذا نبيّ من الأنبياء، قالوا: (يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشارَتْ إِلَيْهِ) (مريم: 28 و29)، يعني جلبت انتباه الملأ من بني إسرائيل، وعلم بنو إسرائيل أنَّ الذي كلَّموه هو نبيّ من الأنبياء، هذه البشارات التي أودعت واُنبئت بها مريم، وهي والدة أحد الأنبياء من أولي العزم، فكيف بوالدة سيّد الأنبياء وبوالد سيّد الأنبياء؟ إنَّ القرآن الكريم يعلّمنا درساً بالغ الأهمّية، درساً عقدياً ومسألة عقدية ومحطّة عقائدية مهمّة، وهي أنَّ والدات الأنبياء وآباء الأنبياء لهم مكانة إلهية ومقام إلهي مثّل هذا الشأن، كما هو الحال في اُمّ موسى وفي اُمّ عيسى (عليهما السلام).
خفاء النبيّ موسى (عليه السلام) بعد نبوّته في بني إسرائيل:
المحطّة الثانية التي يستعرضها لنا القرآن الكريم في قصَّة النبيّ موسى (عليه السلام) كمصلح للبشرية كما ستشير إليه سورة القصص، وباعتباره نبيّاً مترقّباً من قِبَل المؤمنين من بني إسرائيل الذين كانوا يعانون أشدّ الضيم والويل من الفراعنة، تقول الآيات الكريمة في سورة القصص: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (القصص: 14)، وفي الآية إثارة جميلة وهي: إنَّ مقام عطاء الحكم والعلم لا لنبوّة النبيّ موسى وإنَّما لمقام الإحسان ومقام المحسن من الأصفياء والحجج، سواء أكان نبيّاً أو كان رسولاً أو كان وصيّاً وإماماً أو كان حجّة من الحجج، لأنَّ القرآن الكريم يستعرض لنا أربعة أقسام رئيسية، وإلاَّ فهناك أقسام أخرى، وتلك الأقسام الأربعة الرئيسية تشير إليها سور عديدة، وستمرُّ بنا في ظواهر القرآن الكريم، فهناك حجّة وإن لم يكن نبيّاً ولا رسولاً ولا وصيّاً كمريم واُمّ موسى، فقد أنبأنا القرآن الكريم بأنَّهم مصطفون ومطهَّرون.
نعم، بعدما ذكر القرآن الكريم ولادة النبيّ موسى وما قد رافقها من المخاطر والاستتار الشديد جدَّاً بحراسة إلهية قصوى، وتقدير وضمانة إلهية لوالدة النبيّ موسى (عليه السلام) ولأخته ولذويه بأن يحفظ الله عز وجل هذا المصلح الذي تترقّبه القلوب وتنتظره أفئدة المؤمنين، وتتوجَّس منه خيفة قلوب الفراعنة لكونه يقوّض أنظمتهم، بعد ذلك يواصل لنا القرآن حالات النبيّ موسى (عليه السلام) باعتباره مُصلحاً ومُنجياً للبشرية في تلك الحقبة، حيث نجد في السور القرآنية أنَّ هناك مقارنة متلازمة بين اسم النبيّ موسى وفرعون، تقارن الإصلاح مع الظلم، أو تقارن الظالم مع المصلح، هذا التقارن مع عاقبة الإصلاح في الحقيقة يدلّل على أنَّ النظام الفرعوني هو نظام البطش والظلم الإفساد في الأرض، رغم تقدّمه المدني في الجانب المادي، فهذه الأهرامات التي تُشاهد الآن تدلُّ على الحضارة الفرعونية، والحضارة المادية التي وصلت إلى تقنيّة لم تستطع التقنيّة الحديثة العصرية أن تفسّرها أو تدرك حقيقة حالها، ومع ذلك فإنَّ هذا التحضّر أو التمدّن في البُعد المادي خيّم عليه انتشار الفساد والظلم، وبالتالي اسم فرعون قُرن باسم الظلم والفساد والبطش، ويشير القرآن الكريم إلى فرعون ذي الأوتاد كيف كان يبطش بالبشر، وقُرن به اسم مصلح وهو النبيّ موسى.
إذن تكرّر في عدّة سور قرآنية اسم النبيّ موسى في مواجهة فرعون والسِمة البارزة في النبيّ موسى أنَّه دكدك عروش الفراعنة، وباعتباره مصلحاً ومنجياً بسط العدل في زمانه بحدود معيّنة في بعض بقاع الأرض.
تواصل لنا سورة القصص وبقيّة السور القرآنية ما جرى على هذا المصلح بعد خفاء ولادته وحراسة السماء بشدّة له والحيطة عليه، قالت الآية الكريمة: (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها)، دائماً في حالة خفاء، ترعرعه، نشوؤه، ولادته، خفاؤه واستتاره قبل ساعات الظهور، وقبل ساعة إعلانه الإصلاح العامّ كان في حالة سرّية كمبعوث إلهي، (فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ)، مع عدم علمه به (عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) (القصص: 15)، يعني العراك الذي جرى بين ذاك الذي كان قد عرف النبيّ موسى وبين ذلك الذي لم يكن يعرفه.
ويظهر من الآية أنَّ النبيّ موسى كان يتحرَّك مع عدم علم واطلاع الفراعنة ولا بني إسرائيل بشخصيته وهويته، كانوا يرونه ولا يعرفون أنَّه هو ذلك المنتظر الموعود المنجي لهم، كان في كبد ساحة الحدث، يتفاعل معه، أي إنَّ النبيّ موسى (عليه السلام) كان يرعى ويشرف ويُهيمن على مجريات حال ومصير بني إسرائيل، لكن مع ذلك لم يكونوا يعرفونه.
الهوامش:
(1) أنظر: كتاب معجم أحاديث الإمام المهدي (عليه السلام)، الصادر عن الهيأة العلمية في مؤسسة المعارف الإسلاميّة.
(2) وهو قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (لتسلكنَّ طريق من كان قبلكم حذو القذّة بالقذّة، وحذو النعل بالنعل لا تخطئون طريقهم). (مستدرك الحاكم 4: 469).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: (إنَّ سنن الأنبياء (عليهم السلام) بما وقع بهم من الغيبات حادثة في القائم منّا أهل البيت حذو النعل بالنعل والقذّة بالقذّة). (كمال الدين: 345/ باب 33/ ح 31).
(3) من ذلك ما روي أنَّ المتوكّل - وقيل: الواثق - أمر العسكر وهم تسعون ألف فارس من الأتراك الساكنين بسُرَّ من رأى أن يملأ كلّ واحد مخلاة فرسه (أي: ما يجعل فيه العلف ويعلَّق في عنق الدابة) من الطين الأحمر، ويجعلوا بعضه على بعض في وسط برية واسعة هناك، ففعلوا. فلمَّا صار مثل جبل عظيم صعد فوقه، واستدعى أبا الحسن (عليه السلام) واستصعده، وقال: استحضرك لنظارة خيولي، وقد كان أمرهم أن يلبسوا التجافيف (وهو شيء يترك على الفرس يقيه الأذى، وقد يلبسه الإنسان) ويحملوا الأسلحة وقد عرضوا بأحسن زينة، وأتمّ عدّة، وأعظم هيبة، وكان غرضه أن يكسر قلب كلّ من يخرج عليه، وكان خوفه من أبي الحسن (عليه السلام) أن يأمر أحداً من أهل بيته أن يخرج على الخليفة. فقال له أبو الحسن (عليه السلام): (وهل تريد أن أعرض عليك عسكري؟)، قال: نعم. فدعا الله سبحانه فإذا بين السماء والأرض من المشرق إلى المغرب ملائكة مدجَّجون، فغشي على الخليفة، فلمَّا أفاق قال أبو الحسن (عليه السلام): (نحن لا ننافسكم في الدني، نحن مشتغلون بأمر الآخرة، فلا عليك شيء ممَّا تظنّ). (الخرائج والجرائح 1: 414/ باب 11/ ح 19).
(4) في الرواية: (دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على خديجة وهي لما بها، فقال لها: بالرغم منّا ما نرى بك يا خديجة، فإذا قدمت على ضرائرك فاقرئيهنَّ السلام، فقالت: من هنَّ يا رسول الله؟ قال: مريم ابنة عمران، وكلثم أخت موسى، وآسية امرأة فرعون، قالت: بالرفاء يا رسول الله). (من لا يحضره الفقيه 1: 139/ ح 383).
******************
إذن كان يؤثّر في مجمل أوضاعهم في حدود معيّنة مقدَّرة من قِبَل الله تعالى من دون أن يشعروا به ومن دون أن يعرفوه، هذه محطّة أخرى يذكرها لنا القرآن الكريم في ظاهرة النبيّ موسى، وهي أنَّه كان يتفاعل مع مجمل الأحداث التي تجري على بني إسرائيل، لكن من وراء ستار غياب الهوية، من وراء ستار خفاء الشخصية، مع كونه موجوداً بين أيديهم.
بعد ذلك تواصل الآيات: (قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) (القصص: 17)، فهو ظهير للمستضعفين، وهو في حين لم تأتِ ساعة الصفر لظهوره، أو إعلان دعوة إصلاحه وإنجائه لبني إسرائيل وللمؤمنين من براثن الفراعنة، كان مع ذلك يزاول تدبير الحدث في خضم وفي وسط هذا الخفاء وفي وسط هذا الستار، فهو لم يكن معطّلاً قبل ظهوره، بل كان متفاعلاً مع الحدث، (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالأَْمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) (القصص: 18)، فهاهنا في خضم تفاعل النبيّ موسى مع الأحداث وتأثيره في الحدث العامّ الذي يجري على بني إسرائيل كان في حال خوف، وستر وسرّية لئلاَّ ينكشف.
إيجابية صفة الخوف عند الأنبياء (عليهم السلام):
إنَّ هذا الخوف ليس صفة شخصية أو خوفاً على شخصه، فالنبيّ موسى والأنبياء (عليهم السلام) إنَّما كانوا يخافون على عدم استتمام المهمّة التي أوكلت إليهم، ويخافون على التقصير أو عدم الوصول إلى الغرض فيما اُوعز إليهم من رسالة وإصلاح وإنجاء، سيّما في البرنامج الموسوي الذي اُودع إليه من قِبل الله تعالى. فهذا الخوف في الواقع خوف على الهدف، فلم يكن لموسى خوف شخصي على نفسه، (فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَْمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً) (القصص: 19).
الغيبة الثانية لموسى (عليه السلام):
ثمّ قال تعالى: (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلأََ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) (القصص: 20)، وهنا تبدأ الغيبة الثانية للنبيّ موسى، (فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (القصص: 21)، فهذا الخوف في المصلحين هو بسبب ستار الغيبة والخفاء والسرّية لهم، والحركة تحت سطح السرّية، وليس خوفاً شخصياً على أنفسهم، وكيف وهم بُسلاء الشهادة وروّاد البشرية اختارهم الله عز وجل وأصفاهم وهم أولياؤه، وإنَّما هو خوف على عدم إنجاز المهمّة الإلهية، وعدم إيصال هذه المهمّة إلى نهايتها. فلا ريب حينئذٍ أن يستدعي الأمر منه نوعاً من الغيبة، وأن يكون تحت ستار الخفاء، وما ذلك إلاَّ لأجل المثابرة في أداء المسؤولية العظيمة الموكلة إليه من قِبَل الله تعالى، وكما يحدُّثنا القرآن الكريم في المصلحين السابقين المبعوثين من قِبَل الله، كان الاقتضاء أن يكونوا في فترات في ستار الخفاء والغيبة ليؤمّن لهم حرّية الحركة، وحرّية الانطلاق وحرّية التفاعل مع الحدث والتأثير من دون أن تصل أيدي الظالمين إليهم، لأنَّ طبيعة الأنظمة الظالمة أنَّها إذا شعرت بعنصر الإصلاح ولاسيّما عنصر الإصلاح الإلهي تباغته بالتصفية والإعدام والإزالة، لا ريب في ذلك، فلذا يكون الستار الأمني الحافظ لهم من استئصال وتصفية وإبادة قوى الظلم وقوى الظلام والشرّ والأنظمة الفاسدة لهم.
فستار الخفاء يعطي كمال الحيوية وكمال الحرّية في الحركة والنشاط والقيام بأتمّ ما يمكن من المسؤولية، فكما يحدّثنا القرآن الكريم هنا عن ظاهرة النبيّ موسى في تلك الحقبة، كان يحدّثنا أيضاً أنَّ الخوف كان برنامجه للإيفاء بدوره الفاعل، وكانت السرّية هي غطاء لتأمين أداء دوره الفاعل وتأثيره في ذلك الحدث.
لقاء موسى بشعيب (عليهما السلام):
ومن هنا تواصل الآيات الكريمة وتقصُّ لنا الغيبة الثانية والخفاء الثاني للنبيّ موسى، (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) (القصص: 22)، إلى أن تصل إلى لقاء موسى بالنبيّ شعيب (عليه السلام).
وهنا محطّة أخرى، وهي أنَّ هذا المصلح المنجي الموعود يلتقي مع حجج آخرين لله، فهناك نوع من الشبكة المتّصلة بين أولياء الله، هناك نوع من المجموعات المرتبطة مع بعضها البعض، وكلّ محطّة في ظاهرة النبيّ موسى والظواهر الأخرى التي سنأتي على استعراضها إن شاء الله فيها وقفات تستدعي الانتباه بإمعان، منها هذه المحطّة التي هي غيبة ثانية تستعرضها لنا سورة القصص في ظاهرة النبيّ موسى (عليه السلام).
وهذا الخفاء وهذه الغيبة تأتي بجانب ما أوتي النبيّ موسى من بدء ولادته من الخفاء والسرّية إلى ترعرعه وبلوغ أشدّه واستوائه، بعد ذلك تأتي مرحلة أخرى امتدَّت أكثر من عشر سنين عندما استأجره النبيّ شعيب، (قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَْجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ * فَلَمَّا قَضى مُوسَى الأَْجَلَ) (القصص: 27 _ 29)، حيث إنَّه أتمَّ عشراً كما ورد في الروايات(1)، فيتَّضح أنَّ هناك غيبة أخرى ثانية طالت أكثر من عشر سنين، من ذهابه إلى مدين، ثمّ مكثه عشر سنين أو أكثر عند النبيّ شعيب.
تلاؤم حجّية النبيّ موسى (عليه السلام) نبيّاً مع غيبته:
ولسائلٍ أن يسأل: هل هناك تنافٍ وتقاطع بين نصب الله عز وجل حجّة من حججه مصلحاً ومنجياً وموعوداً منتظراً في تلك الحقبة وبين غيبته؟ سيّما أنَّ هذه الغيبة الثانية _ كما مرَّ بنا الحديث _ بيَّنت ومن خلال سورة القصص أنَّه لمَّا توجَّه تلقاء مدين مكث ما يربو ويزيد على العشرة، وكان ذلك أجلاً ثانياً في غيبة النبيّ موسى، والتقى فيها مع النبيّ شعيب، وكانت محطّة لقاء حجج الله ومجموعة من أصفياء الله مع بعضهم البعض في تدبير الأمور الإلهية، النبيّ موسى هو من أولي العزم ورسول مبعوث وصاحب شريعة، وهو أيضاً في البشارات الإلهية موعود به المنجي والمنقذ لبني إسرائيل من براثن أنظمة الفراعنة، فكيف يتلائم هذا مع الغيبة؟! أليس هناك تقاطع؟ أليس هناك تدافع؟
هذه الإثارات والتساؤلات ناجمة ومنبعثة من فهم خاطئ لمعنى الغيبة، وقد مرَّ بنا أنَّ معنى الغيبة ليست هي عدم وجود النبيّ موسى في ساحة الحدث، وليس معنى الغيبة مزايلة النبيّ موسى عن موقعيته في التأثير في الأحداث، ولا نأيه ولا ابتعاده عن التصدّي لمجمل الأمور، فهذا معنى خاطئ للغيبة، وهكذا معنى الغيبة للإمام المهدي (عليه السلام)، فالبعض _ وربَّما من أتباع مدرسة أهل البيت فضلاً عن المدارس الإسلاميّة والملل والنحل الأخرى _ ربَّما ينساق إليهم معنى الغيبة بمعنى النأي والابتعاد عن مجمل المسؤولية أو التدبير أو الاضطلاع بكامل البرنامج الإلهي.
فنقول: ليس ذلك هو معنى الغيبة، فتارةً تكون الغيبة في مقابل الحضور كقولنا: غاب وحضر، وتارةً الغيبة تكون مقابل الظهور، وهي التي تتَّخذ معنى الخفاء والسرّية والستار، فإنَّ موسى ترعرع في أحضانهم وبين أيديهم لكنَّهم لا يشعرون به، فهي إذن غيبة خفاء، غيبة هوية، غيبة ستر وستار، لا غيبة انعدام ومزايلة عن الحضور، فلو فُسّرت الغيبة بمعناها الصحيح كما في غيبة النبيّ موسى فهو في مدين يستنبئ أنباءهم، وربَّما يقرب من ذلك كيفية إيعازه لجملة من البرامج الإلهية في المجتمع الفرعوني ومجتمع بني إسرائيل والأقباط هناك، فإذن ليست هي ابتعاد ومزايلة عن التأثير في ساحة الحدث، بالعكس هو نوع من الخفاء والسرّية في العمل والنشاط فلا يكون هناك أيّ تقاطع أو أيّ تصادم بين الحجّية و المسؤولية التي توكل إلى ذلك الوليّ والحجّة من حجج الله، بل يكون هناك تمام الملائمة وتمام النسق والتأثير المتبادل، وستكون حينئذٍ مسؤولية الخفاء هي أفضل فرصة لقيام ذلك الحجّة بما يُعهد إليه من مسؤولية ومن برامج إصلاح وما شابه ذلك، وسيكون الخفاء والغيبة أنشط لدوره، وأكثر فاعلية وتأثيراً، بخلاف ما لو فسَّرناها بأيّ معنى خاطئ، وللأسف أنَّه قد استشرى هذا المعنى الخاطئ في أذهان الكثيرين، وهو أنَّ معنى الغيبة النأي والمزايلة والابتعاد والجمود وعدم التصدّي للأحداث وتدبير الأمور، وكيف يلائم هذا المعنى الخاطئ للغيبة الحجّة الفعلية للنبيّ موسى؟ وهو من أولي العزم، وحجّة لله، وموعود بأنَّه هو المنتظر المصلح المنقذ للبشرية من الأنظمة الفرعونية، فكيف يكون حينئذٍ معطّلاً؟!
فالتعابير القرآنية السابقة تظهر مجمل حركة النبيّ موسى قبل إعلان دعوته في العلن، أنَّها كانت دوماً في حالة خفاء، دخوله، خروجه، ترعرعه، نشوؤه، نموّه، وهذا ليس من الأسطوريات؟! حاشا لأفعال الله تعالى ولرسل الله تعالى عن ذلك، وإنَّما هي في صلب خضم التدبير الإلهي الحكيم النافذ البالغ الحكمة، لأجل حيويةٍ أكثر ونشاطٍ أكثر لقيام ذلك المصلح بدوره في مرحلة الخفاء والسرّية إلى أن تُستكمل قدراته ونفوذه، وتتهيَّأ الأرضية له، حينئذٍ تأتي ساعة الصفر وساعة الظهور والإعلان.
إعلان الدعوة الموسوية:
ثمّ تأتي الآيات تزف لنا نهاية المطاف، عندما أعلن النبيّ موسى دعوته وظهر باعتباره مصلحاً ومنجي، وهذا هو المقطع الثالث من حياة النبيّ موسى (عليه السلام).
كيف بدأ ظهور النبيّ موسى مصلحاً ومنجياً أمام الفراعنة وأمام الأقباط، وأمام المجتمع من بني إسرائيل؟ قال تعالى: (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الأَْجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لأَِهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الأَْيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (القصص: 29 و30)، وتواصل الآيات: (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلاَئِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) (القصص: 32)، هنا بدأ المسؤولية في الإعلان والظهور، في سورة طه: (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) (طه: 24)، هذا النظام الجاثم على كبد البشرية في تلك الحقبة التي تصفها الآية الكريمة في سورة القصص: (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَْرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (القصص: 3 و4)، ظلم وفساد ملأ أرجاء الأرض من النظام الفرعوني، تأتي هنا حينئذٍ نهاية المطاف، وهي إعلان الظهور وبدء المأمورية، بأمر إلهي بظهور النبيّ موسى للإصلاح، يتلقّى موسى (عليه السلام) الأمر فيقول: (رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) (القصص: 33)، يعني ربَّما لن أوفَّق لأداء تمام المسؤولية، فإنَّه لا خوف شخصي كما مرَّ سابقاً، بل إنَّ الخوف الذي ينتاب المصلحين الإلهيين والمنجين، ليس خوفاً شخصياً من نزعة ذاتية وحبّ الذات وحبّ البقاء، كيف وهم روّاد الشهود على البشرية، كنماذج بشرية اصطفاها الله عز وجل للإصلاح، وإنَّما خوف من عدم إتمام وإكمال البرنامج الإلهي، وعدم التوفيق في الاضطلاع بأداء المهمّة الإلهية كالإصلاح والإنجاء للمستضعفين والمظلومين في الأرض، وقلع الفساد الذي يتفشّى في أرجاء الأرض. نعم (وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما...) (القصص: 33 _ 35)، أنظروا قوله تعالى: (وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً)، أي إنَّ الحراسة الإلهية والضمانة الإلهية للمصلحين والمُنجين موجودة، في حين لا تواكل ولا جبر ولا تفويض، وإنَّما أمر بين أمرين، التوكّل يعني أن يقوم المصلح بأدواره، ومن وراء ذلك الحراسة الإلهية، والضمانة الإلهية موجودة.
ظاهرة اختفاء وغيبة الأنبياء (عليهم السلام) سُنّة إلهية:
بعد أن استكملنا ظاهرة النبيّ موسى (عليه السلام) باعتباره مصلحاً ومنجياً إلهياً وهادماً لعروش الفراعنة والظالمين وما رافق ذلك من خفاء ولادته (عليه السلام) وغيبته في فترة ترعرعه ونموّه ونشوئه، ثمّ غيبته الثانية في بلاد مدين، ثمّ قيامه بالإعلان والظهور للإصلاح وإنقاذ بني إسرائيل والبشرية من مخالب الظالمين والمفسدين، نواجه هنا هذا السؤال، وهو:
هل ما جرى في ظاهرة النبيّ موسى (عليه السلام) المصلح المنجي الإلهي هو سُنّة إلهية دائمة، أم حالة استثنائية خاصّة بالنبيّ موسى (عليه السلام)؟
والجواب: بعد ما مرَّ بنا باقتضاب من ظاهرة النبيّ موسى (عليه السلام) كمبعوث إلهي مصلح ليُقوّض عروش الظالمين، ويُقوّض براثن الفساد وينجي وينقذ البشرية في تلك الحقبة، نقول: ليس ما استعرضه لنا القرآن الكريم في كلّ هذا الخضم هو لإشباع رغبة الخيال، بل إنَّها محطّات عقدية اعتقادية، وسنن إلهية دائمة في المصلحين والمنجين للبشرية.
هناك طائفة من الآيات القرآنية تبيّن وتدلّل على أنَّ هذه السنن الإلهية سنن دائمة وليست سنناً مؤقّتة، قال تعالى: (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً) (الأحزاب: 62)، وقوله: (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً) (فاطر: 43).
فسننه في الرسل والمصلحين والمنجين والمنقذين المبعوثين من قبله تعالى تتكرّر، سيّما مع طبايع البشر ونظامهم الاجتماعي، ونظام قوى الظلم والشرّ في قِبال قوى الإصلاح الإلهي.
إذن العبرة في مجريات الأحداث التي مرَّ بها الأنبياء والرسل والتوقّف عندها لأنَّها محطّات اعتقادية معرفية وليست محطّات عملية لأجل عمل جوارح الإنسان.
قال تعالى: (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ)، ليس قصَّة إسحاق ويعقوب ويوسف فقط، ففي ذيل سورة يوسف (قَصَصِهِمْ)، الضمير يعود إلى كلّ الأنبياء والمرسلين السابقين والمصلحين المبعوثين من قبل السماء لإنقاذ وإنجاء البشرية، سيّما مثل هذا الإصلاح الذي قام به النبيّ موسى، وما رافق ذلك من خفاء ولادته وغيبته الأولى والثانية، وهذا نظير وشبيه ما هو في مدرسة أهل البيت في إمامها الإمام المهدي من خفاء الولادة والغيبة الأولى والغيبة الثانية، هذا عبرة لكم أنتم أيّها المسلمون، أنتم أيّها التالون لكتاب الله، لا تتلوا كتاب الله تلاوة لقلقة لسان من دون أن تتدبّروا معانيه، (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (القمر: 17)، (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) (محمّد: 24).
إذن القرآن مفتوح بابه على مصراعيه للتدبّر وللتذكّر، فقصص الأنبياء و المرسلين السابقين والأمم السابقة عبرة، عقدية واعتقادية، لأنَّ العقيدة كما مرَّ بنا هي واحدة في كلّ بعثات الأنبياء، والذي يُنسخ إنَّما هو الشرايع في الفروع، في الأحكام التفصيلية العملية في فروع الدين، وأمَّا أصل أركان الفروع فضلاً عن الأمور العقدية والاعتقادية فهذه لا نسخ فيها، وهل يمكن أن يتصوَّر في توحيد الله النسخ بين نبيّ وآخر والعياذ بالله!، كلاَّ وحاشا!، أو في الاعتقاد بالمعاد نسخ!، بل (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِْسْلامُ) (آل عمران: 19)، من يوم خلق السموات والأرض، دين الإسلام كعقائد بعثت بها جميع الأنبياء منذ آدم إلى سيّد الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكلّ هذه الأمور الاعتقادية هي عبرة (لأُِولِي الأَْلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى)، إذن ليست هي ثرثرة قصص أو دعابة سمر ليلي يدغدغ الإنسان مشاعر خياله بها، بل هي في الواقع عِبَر سطّرها القرآن لنتّعظ بها، وسنن ستقع في هذه الأمّة، وهذا بنفسه دليل وبرهان عظيم على أنَّ ما وقع في الأمم السابقة سيقع في هذه الأمّة، كما في روايات عن الفريقين وكما مرَّ سابقاً.
فقصصهم فيها تفاصيل عقدية واعتقادية، (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)، الذين يؤمنون بالسنن الإلهية يؤمنون بهذه المواقع الإلهية وسنن الله تعالى في أوليائه وحججه المصلحين للبشرية، فعليكم أنتم أيّها الأمّة الأتباع لسيّد الرسل وآخر الأمم أن لا تجهلوا ذلك، وعليكم التصديق والإيمان بما يجري على حجج الله تعالى والأئمّة الاثني عشر المستخلَفين من قِبَل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأنَّ الثاني عشر منهم له غيبتان، وله خفاء ولادة، ومن قبل ولادته استدعي وسجن أبوه وجدّه في قاعدة عسكرية تُدعى (سُرَّ من رأى). فمن الطبيعي إذن خفاء ولادته وليس من المنطق التكذيب بها خصوصاً بعد أن بشَّر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) به في متواتر الروايات، من أنَّ المهدي من ولده يُبعث مصلحاً منجياً منقذاً.(2)
فمن خلال كلّ ذلك اتَّضح أنَّ ظاهرة نبيّ الله موسى ليست خاصّة به، بل هي سُنّة إلهية حاصلة أيضاً في أمّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، مضافاً إلى ذلك طائفة من الآيات القرآنية التي تنبئنا بذلك، منها قوله تعالى:
(سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً) (الأحزاب: 62).
وقوله تعالى: (سُنَّتَ اللَّهِ الَّتي‏ قَدْ خَلَتْ في‏ عِبادِهِ) (غافر: 85).
وقوله تعالى: (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأَْوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً) (فاطر: 43).
وقوله تعالى: (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً) (الفتح: 23).
فهناك سنن الله في عباده تتكرّر دواليك في الأمم أيض، وليس فيها تبديل، بل دوام واستمرار.
والتعبير القرآني الآخر: (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً) (الأحزاب: 38).
فهذه محاسبات في التقدير والقدر والقضاء الإلهي، كما وقعت في الأمم التي خلت ستقع في هذه الأمّة، فليكن ذلك عِبرةً وعِظةً لكم، ولا تكونوا من طائفة المكذّبين، بل كونوا من طائفة المؤمنين، ولا تكونوا من طائفة الجاهلين، بل كونوا من طائفة العالمين.
قال تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (النساء: 26).
وقال أيضاً: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَْرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (آل عمران: 137)، اعتبروا واتّعظوا لتجدوا أجوبة شافية لأسئلتكم، ولا تكونوا مفترين ومكذّبين، فهناك سنن إلهية تتكرّر دواليك، فكلَّما وجدت حالة تفشّي فساد وظلم يؤدّي إلى ما ذكرته الآية الكريمة في سورة القصص: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَْرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (القصص: 4).
تأتي حينئذٍ السنن الإلهية: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَْرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) (القصص: 5)، ونريد هذه إرادة كسُنّة إلهية تتكرّر دوماً وتستمرّ، كما تذكر لنا ذلك الآيات القرآنية: (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَْرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً * سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً) (الإسراء: 76 و77).
هذه هي الطائفة الأولى الدالّة على أنَّ ما كان في ظاهرة النبيّ موسى (عليه السلام) المصلح والمنجي والمنقذ للبشرية هي سُنّة إلهية تتكرّر دواليك، وليست سُنّة عابرة استثنائية خاصّة بالنبيّ موسى وانقضت، وهناك طوائف أخرى من الآيات أيضاً تُحدّثنا عن كون هذه السنن الإلهية سنناً متواصلة.
الخوف والترقّب عند موسى (عليه السلام):
في ظاهرة النبيّ موسى (عليه السلام) هناك صفة يكرّرها القرآن الكريم في جملة من السور، ألا وهي صفة الخوف والترقّب في قوله تعالى: (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ) (القصص: 18)، وقوله تعالى: (فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ) (القصص: 21)، وقد مرَّ أنَّ هذا الخوف ليس خوفاً شخصياً، وإنَّما خوف على أداء الرسالة وأداء البرنامج الإلهي في إنجاء بني إسرائيل من أنظمة الظالمين والمفسدين، والتعبير بـ (خائِفاً يَتَرَقَّبُ) يوحي بأنَّ النبيّ موسى (عليه السلام) كان دوماً في حالة استنفار وتوجّس وتحسّب أمني منذ بدء نشأته، إلى أن أدّى ذلك الدور في الظهور المعلن وتقويضه للأنظمة الفرعونية وأنظمة الفساد والظلم يعني حالة التعبئة والاستنفار الأمني في أثناء حركته في الخفاء وفي الغيبة، وحالة الترقّب هذه هي في الواقع صفة مهمّة موجودة في برامج المصلحين الإلهيين، فالذين يُعدّون لبرامج إصلاحية إلهيّة عظيمة مؤثّرة في مسير ومصير تاريخ البشر يكون الملف الأمني نُصبَ أعينهم بشكل دائم، وهذا ما نشاهده في الواقع في العقيدة بالإمام المهدي (عليه السلام)، وهو أنَّ غيبته هي نوع من حالة التحسّب الصاعد إلى درجته القصوى في البرنامج الأمني، لكي تستتمّ له المواصلة في مسير برنامج الوصول إلى درجة الصفر في الإصلاح وهي ساعة الظهور، فهذه صفة أخرى أكَّدها القرآن الكريم في أوليائه الحجج المصلحين المنقذين، يجب أن نلتفت إليها، مضافاً إلى صفة الخوف التي هي هنا بمعنى الحيطة على البرنامج الإلهي المسند إليه والمكلّف به، وأنَّه في مدّة خفاء ولادة النبيّ موسى وغيبته كانت هناك تعبئة لشيعته المؤمنين به وبالإصلاح على يديه، حيث قال لهم كما في الآية: (قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَْرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (الأعراف: 128)، ممَّا يدلّل على أنَّ شيعة النبيّ موسى لاقوا من الأذى والهوان إلى درجة بلغ بها السيل الزبا، وقد حدَّثنا القرآن الكريم في سور عديدة أنَّ شيعة النبيّ موسى قبل ظهوره بالإصلاح وانتصاره على أنظمة الظلم وأنظمة الفراعنة، لاقوا من الظالمين والمفسدين ما لاقوا من الظلم والاضطهاد والذبح، وإسالة الدماء وقطع وإبادة النسل كما في قوله عز وجل: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَْرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (القصص: 4).
فالمحنة كانت شديدة، ولها في الواقع وجه شَبَه أيضاً مع المؤمنين بالإمام المهدي (عليه السلام) ممَّن يكنُّ مودَّته ومشايعته، فيوطّن نفسه على مثل هذا الامتحان قبل ظهور الحجّة، وهذه عِظة يقف عندها المؤمن والمسلم القارئ للقرآن الكريم كي يتَّعظ من هذه المشاهد في حجج الله المصلحين، ويأخذها عِظة وعِبرة ودرساً عقائدياً عقدياً فيما يعتقده بالإمام المهدي (عليه السلام)، وإجابة لهذه التساؤلات والإثارات الكثيرة حول العقيدة بالإمام المهدي (عليه السلام).
* * *
الهوامش:
(1) في الرواية عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام): قول شعيب (عليه السلام): (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ) أيّ الأجلين قضى؟ قال: (الوفاء منهما أبعدهما عشر سنين...)، (الكافي 5: 414/ باب التزويج بالإجارة/ ح 1).
وعن ابن عبّاس قال: سُئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أيّ الأجلين قضى موسى؟ قال: (أوفاهما وأبطأهما).
وبالإسناد عن أبي ذر، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إذا سئلت أيّ الأجلين قضى موسى؟ فقل: خيرهما وأبرّهما). (تفسير مجمع البيان 7: 432).
(2) فممَّا جاء عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) من ذلك:
ما رواه الصدوق بسنده إلى جابر بن يزيد الجعفي، عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (المهدي من ولدي اسمه اسمي، وكنيته كنيتي، أشبه الناس بي خَلقاً وخُلقاً، يكون له غيبة وحيرة تضلُّ فيها الاُمم، ثمّ يقبل كالشهاب الثاقب، يملأها عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً). (كمال الدين: 286/ باب ما أخبر به النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) من وقوع الغيبة بالقائم (عليه السلام)/ ح 1).
وبسنده إلى أبي بصير، عن أبي عبد الله، عن أبيه، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (المهدي من ولدي اسمه اسمي وكنيته كنيتي، أشبه الناس بي خَلقاً وخُلقاً، يكون له غيبة وحيرة حتَّى يظلّ الخلق عن أديانهم، فعند ذلك يقبل كالشهاب الثاقب، فيملأها عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً). (كمال الدين: 287/ باب ما أخبر به النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) من وقوع الغيبة بالقائم (عليه السلام)/ ح 4).
وبسنده إلى صالح بن عقبة، عن أبيه، عن أبي جعفر، عن أبيه، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (المهدي من ولدي، يكون له غيبة وحيرة تضلُّ فيها الاُمم، يأتي بذخيرة الأنبياء فيملؤها عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً). (كمال الدين: 287/ باب ما أخبر به النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) من وقوع الغيبة بالقائم (عليه السلام)/ ح 5).
وروى الشيخ الطوسي بسنده إلى عبد الله بن مسعود، عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا تذهب الدنيا حتَّى يلي أمّتي رجل من أهل بيتي يقال له: المهدي). (الغيبة للطوسي: 182/ ح 141).
وبسنده إلى أبي هريرة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): (لو لم يبقَ من الدنيا إلاَّ يوم واحد لطوَّل الله ذلك اليوم حتَّى يخرج رجل من أهل بيتي يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً). (الغيبة للطوسي: 180/ ح 139).
وروى النعماني بسنده عن الصادق (عليه السلام)، عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أنَّه قال لعلي (عليه السلام): (ألا اُبشّرك؟ ألا أحبوك؟)، قال: (بلى يا رسول الله)، فقال: (كان عندي جبرئيل آنف، وأخبرني أنَّ القائم الذي يخرج في آخر الزمان فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً من ذرّيتك من ولد الحسين). (الغيبة للنعماني: 255/ باب 14/ ح 1).
أمَّا ما ورد من طريق العامّة فنورد هنا جملة ممَّا رواه القوم، فمن ذلك:
ما رواه أحمد بن حنبل بسنده إلى أبي الطفيل، قال حجاج: سمعت علياً (رضي الله عنه) يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (لو لم يبقَ من الدنيا إلاَّ يوم لبعث الله عز وجل رجلاً منّا يملأها عدلاً كما ملئت جوراً). (مسند أحمد 1: 99).
وما رواه ابن ماجة بسنده إلى أبي هريرة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (لو لم يبقَ من الدنيا إلاَّ يوم، لطوَّله الله عز وجل حتَّى يملك رجل من أهل بيتي، يملك جبل الديلم والقسطنطينية). (سنن ابن ماجة 2: 928).
وما رواه أبو داود بسنده إلى سعيد بن المسيب، عن اُمّ سَلَمة، قالت: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: (المهدى من عترتي من ولد فاطمة).
وبسنده إلى أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (المهدى منّى أجلى الجبهة، أقنى الانف، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، يملك سبع سنين). (سنن أبي داود 2: 310/ ح 4284 و4285).
والأخبار في ذلك من طريق العامّة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن طريق الخاصّة عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) كثيرة يضيق عنها المقام، ومن أراد الاستقصاء فليطلبها من مظانّها.
******************
الظاهرة الثانية: الإمام المهدي والنبيّ يوسف (عليهما السلام)
الظاهرة الثانية التي نستوحيها من القرآن الكريم، هي ظاهرة النبيّ يوسف (عليه السلام)، قال تعالى: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ) (يوسف: 1 _ 3).
وفي ذيل السورة نفسها: (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُِولِي الأَْلْبابِ) (يوسف: 111)، إذن يجب أن نعتبر، ولا يكون ذلك عبور غفلة من دون تفكّر، يجب أن نتَّعظ بما فيه من محاور ووقفات اعتقادية وعقدية.
ظاهرة النبيّ يوسف (عليه السلام) وارتباطها بالمصلح الإلهي:
تحمل ظاهرة النبيّ يوسف الكثير من المعالم لظاهرة المصلح المنجي المنقذ، وهنا وقفات تستحقّ وتسترعي التأمّل والتدبّر، قال تعالى: (إِذْ قالَ يُوسُفُ لأَِبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) (يوسف: 4)، وهذا نوع من الفتح الربّاني يُبشّر به النبيّ يوسف(عليه السلام)، نوع من التمكين والسلطة والقدرة، هذه فاتحة قصَّة النبيّ يوسف، وهو أنَّ هناك وعداً بالفتح، وعداً بالظهور، وعداً بالتمكين في الأرض، (قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلإِْنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (يوسف: 5)، يعني هذه النبوءة الإلهية بأنَّ يوسف سوف يظهر، وسوف يمكّن له الله عز وجل في الأرض، هذه البشارة الإلهية بنفسها تستدعي الحسد والمكيدة من الأقرباء للنبيّ يوسف فضلاً عن البُعداء من الأصدقاء، وفضلاً عن الأعداء. فإذا كان هذا حال الإخوة وحال الأصدقاء، فكيف بحال البُعداء والأعداء؟! لأنَّهم أولى لأن يكيدوه، فإن طالعت ظاهرة النبيّ يوسف التي يحدّثنا عنها القرآن الكريم تجد البشارة بظهوره وبتمكينه في الأرض، وأنَّ هذه البشارة بنفسها تستدعي لأن تتحسَّب القوى لتدبير مكائد للحيلولة دون تحقّق تلك البشارة الإلهية، وللوقوف دون وصوله إلى مثل تلك المكانة وذلك الاجتباء والتمكين في الأرض، (وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) (يوسف: 6)، كما هو الحال فيما ورد في الإمام المهدي (عليه السلام) أنَّه يملأ الله به الأرض قسطاً وعدلاً بعدما مُلئت ظلماً وجوراً.
البشارة هنا كانت ليوسف (عليه السلام)، وهناك بشارة للنبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) بشَّره الله عز وجل بها، أنَّه مهما تقدَّم الزمن وطال فسيُظهر الله هذا الدين على يدي رجل من ذرّية النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو المهدي (عليه السلام)، (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ)، للأرجاء كافّة، هذا الوعد وهو خاتمة الدين الإسلامي سوف يطبَّق على أرجاء الكرة الأرضية، ولم يتحقَّق إلى الآن، ولم يتسنَّ لأحد أن يحقّقه على يديه. وفي الواقع إنَّ أهل البيت (عليهم السلام) بهم فتح الله وبهم يختم.(1)
نشاهد في ظاهرة النبيّ يوسف (عليه السلام) أنَّ هناك بشارة إلهية لتمكينه وظهوره للإصلاح، وهي تُعبّر عن نوع من الظهور والغلبة والتمكين، وإن كان لها تأويل خاصّ ذُكر في روايات أهل البيت (عليهم السلام)(2)، وقد ذُكر في ذيل هذه السورة.(3)
وفي القرآن الكريم أيضاً هناك بشارة خالدة ذكرها في ثلاث سور هي سورة (الفتح: 28)، وسورة (التوبة: 33)، وسورة (الصفّ: 9): (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ)، نعم هذه البشارة الإلهية قد أنبأ القرآن الكريم به، وأنَّها ستتحقَّق لنبيّ الإسلام ولدين الإسلام على يد رجل من ذرّية هذا النبيّ يدعى المهدي (عليه السلام)، وهذه ملحمة عظيمة في القرآن، وهو أنَّ هذا الدين بدءاً بالنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وبنصرة علي بن أبي طالب (عليه السلام) للنبيّ، فقد قام الدين بسيف علي ونصرته للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وسيختم له في الانتشار في الأرض والتمكين في الأرض على يد أهل البيت، فبهم بُدئ الدين وبهم سيُختَم في أرجاء الكرة الأرضية، هذه بشارة قرآنية عظيمة أكَّدها القرآن الكريم، وفي الواقع تتناغم مع كثير من السور القرآنية، كقوله تعالى: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَْرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) (القصص: 5)، فإنَّ هذه آيات تنادي بأعلى صوتها خفّاقة وترنّ في اُذن البشرية واُذن القارئ للقرآن الكريم أنَّ هناك بشارة وعد بها سيّد الأنبياء، ووعد بها المسلمون، أنَّ هناك ظهوراً لهذا الدين على يد رجل من ذرّية سيّد الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهذه إشارة إلى ظاهرة النبيّ يوسف وتشابهها مع ظاهرة الإمام المهدي (عليه السلام).
إذن هناك اجتباء للظهور والتمكين في الأرض، وكما اجتُبي النبيّ يوسف لذلك. فكذلك اجتُبي الإمام المهدي بنصّ حديث النبيّ المتواتر، وقال تعالى: (لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ) (يوسف: 7)، يعني هناك عِظات وعبر تمرُّ عليكم في ظاهرة النبيّ يوسف يجب أن لا تعبروها بغفلةٍ.
إنَّها ظاهرة تستدعي الإمعان والتدبّر بعمق، وفي الحقيقة إنَّ هذه التوصية من القرآن الكريم بأن نقف مليّاً متدبّرين ظاهرة النبيّ يوسف، ليس ذلك إلاَّ لظاهرة الغيبة فيها، فالنبيّ يوسف الذي وُعد بالظهور والتمكين في الأرض يطالعنا القرآن الكريم أنَّ له غيبة ابتدأت من الجبّ كما ستأتي بقيّة الآيات، وفيها إجابات للأسئلة التي لديهم، وعلامات يهتدون بها، وتشفي غليل صدورهم.
أيضاً ما في قوله الله تعالى في هذه السورة: (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ) (يوسف: 9)، هذه ظاهرة موجودة في حياة النبيّ يوسف، حيث أنَّه (عليه السلام) وعد بأنَّه سيُقلَّد مسؤولية في الأرض، وظهوراً وإصلاحاً وتمكيناً، فبدأ الخصم يتربَّص به ومن حواليه كما مرَّ بنا في النبيّ موسى.
من الطبيعي أنَّ قوى البشرية سواء أكانت معتدلة أم غاشمة ظالمة يؤرقها في الواقع بروز قوّة جديدة ستسيطر وتقتدر وتتمكَّن في الأرض، وقد طالعنا التاريخ أنَّ آباء النبيّ تعرَّضوا لمحاولات غيلة واغتيال من اليهود الذين هاجروا من الشام إلى خيبر، إلى المدينة إلى أطراف مكّة مرَّات وكرَّات من الكهنة، أو حتَّى ربَّما من قريش، نعم حاولوا الغيلة والاغتيال والتصفية لآباء النبيّ لعلمهم _ بتوسط الكهنة والبشائر الإلهية في الديانات السابقة في الإنجيل والتوراة _ أنَّ هناك سيّد الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيظهر ويمكّن له الله في الأرض، ومن طبيعي يكون هناك من يتطلَّع إلى ظهوره، إلى غلبته، إلى مقام التمكين له في القدرة والسيطرة لإصلاح شؤون البشر في الأرض، فتحدق به حينئذٍ القوى المنافسة أو القوى المعادية لتصفيته وإبادته، وهذا في الواقع أوّل طالع ينبّهنا ويذكّرنا به القرآن الكريم في شخصية النبيّ يوسف، وكما مرَّ بنا أيضاً في شخصية النبيّ موسى (عليه السلام).
بعد ذلك يواصل القرآن الكريم سرد ظاهرة النبيّ يوسف، ونستعرض تلك المواقف التي لها صلة بالإمام المهدي (عليه السلام):
(فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ) (يوسف: 15)، هنا نوع من المؤامرة، أرادوا أن يدبّروها وينفذوها لإبادة النبيّ يوسف.
قد يسأل السائل: لماذا يستعرض القرآن الكريم هنا بدء غيبة النبيّ يوسف عن ذويه وأهله، بل غيبته حتَّى عن أبيه النبيّ يعقوب (عليه السلام)، الذي هو نبيّ من الأنبياء وإمام من الأئمّة كما ذكر ذلك القرآن الكريم: (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) (الأنبياء: 73)، إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فيعقوب مع كونه نبيّاً من أنبياء الله غُيّب عنه ابنه النبيّ يوسف، إذن غيبة حجّة من حجج الله قد تحصل حتَّى عن الخاصّة فضلاً عن عامّة الناس، فإذا تأكَّد الخطر المحدق بوليّ الله الذي وُعد أن يكون مصلحاً متمكّناً في الأرض يدبّر ويدير الإصلاح في الأرض، هذا الوليّ والحجّة لله قد يُغيّب استتاراً أمنياً من الله حراسة له وضمانة له، حتَّى عن خاصّته وذويه، فضلاً عن العامّة، ولا تكون غيبته مبطلة لحجّته ولا تبطل تلك البشارة التي وعدَ بها لتُنفّذ على يديه من قِبَل الله عز وجل.
هناك نوع من التشابه في تغييب يوسف (عليه السلام) في الجُبّ مع غيبة الإمام المهدي (عليه السلام) في سرداب الغيبة.
كثير من الأقلام الرخيصة والألسن الخفيفة تستهزئ بغيبة الإمام المهدي في السرداب (سرداب الغيبة)، في الواقع هذا السؤال كأنَّما يسأله نفس السائل القارئ للقرآن فيقول: ما صلة غيبة النبيّ يوسف عن أبيه وذويه إلى أن ظهر للإصلاح في الأرض، بالجُبّ والبئر؟ وهل النبيّ يوسف (عليه السلام) عندما غاب عن ذويه بقي في الجُبّ والبئر؟
كل، بل هي في الواقع حدث تاريخي حدث للنبيّ يوسف في الجُبّ والبئر، وقد بدأت غيبته من محاولة تصفيته في الجُبّ، ومن ثَمَّ ذكرها القرآن الكريم كأوّل محطّة لبدء الغيبة، وهكذا الحال جرى في شأن الإمام المهدي (عليه السلام)، حيث إنَّ بيت أبيه وجدّه كان هناك وكانت تُبنى السراديب للبرودة في الصيف، ولا زال في كثير من البلدان كالعراق وإيران وبلدان كثيرة تُبنى السراديب تحت البيوت وقاية من الحرّ الشديد ولأجل البرودة، فجلاوزة النظام العبّاسي وصلت إليهم الأنباء أنَّ ولد الإمام الحسن العسكري وهو المهدي في سرداب بيت أبيه، فكبسوا ذلك السرداب لتصفية الإمام المهدي (عليه السلام) كما صنع أولئك الظالمون للنبيّ يوسف، إلاَّ أنَّ الله عز وجل كما أحبط مخطَّط إخوة يوسف في يوسف وجعل كيدهم هباءً منثوراً، كذلك جعل الله عز وجل كيد جلاوزة النظام العبّاسي في مداهمة الإمام المهدي في سرداب بيت أبيه، حيث أعمى الله وأغشى أبصارهم كما في خروج النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما أرادت قريش أن تداهم النبيّ وتقتله في بدء الهجرة من مكّة إلى المدينة، فخرج النبيّ من بين أيديهم بغشاوة من الله على أبصارهم فلم يبصروه، كذلك خروج الإمام في ذلك الوقت عندما كبسوا السرداب في بيت أبيه وكان هو فيه، فأغشى الله أبصارهم، فخرج وبدأت غيبته، ففي الحقيقة هذه محطّة أخرى بارزة ظاهرة ناصعة في حياة النبيّ يوسف، أنَّ بدء غيبته بدأت من الجُبّ.
ظاهرة النبيّ يوسف (عليه السلام) وشبهها بغيبة الإمام المهدي (عليه السلام):
للنبيّ يوسف غيبة مع كونه حجّة من الله مبعوثاً للإصلاح في الأرض، له غيبة يستعرضها لنا القرآن الكريم، وقد اشتدَّت وتوغَّلت في الخفاء إلى درجة أن يخفى النبيّ يوسف (عليه السلام) حتَّى عن أبيه وعن ذويه وإخوته وأهله، فهذه شدّة المحنة، فالغيبة من وليّ الله وحجّته تتناول وتشمل حتَّى الخاصّة فضلاً عن العامّة، لِمَ؟ ذلك لأنَّ هذا المصلح يُعدّ لدور مهمّ خطير، فمن ثَمَّ يكون البرنامج الأمني الإلهي في حراسة له وضمانة خاصّة، لكي لا تصل إليه يد الطامعين ويد الأعداء، فيستهلُّ القرآن الكريم في بدء غيبة النبيّ عن أبيه وذويه وأهله وخاصّته بذكر المؤامرة التي دُبّرت وكيدت له من قِبَل إخوته الطامعين في إبادته وتصفيته، بما سوَّلت لهم أنفسهم في المخطَّط الذي دبَّروه، وهو جعله في البئر وغيابت الجُبّ. فلا يأتي آتٍ ويقول: ما صلة الجُبّ وغيابت الجُبّ ووضع يوسف فيه والتآمر عليه وهو في الجُبّ بعقيدة الإمام المهدي (عليه السلام)، ويروق لهم استرخاصاً لذهنيتهم التشنيع والهَرْج بالسرداب.
بدأ مسلسل غيبة النبيّ يوسف عن ذويه بالجُبّ كمشهد تاريخي عندما حصلت المؤامرة والتواطؤ لتصفيته وإبادته، لذلك يذكرها القرآن كمشهد، هي مؤامرة كابدت النبيّ يوسف وبدأت في تلك الحقبة بدتوفي ذلك المشهد. وقد ذكرها القرآن، هكذا الحال فيما يشاهد في سرداب الغيبة الموجود في حرم العسكريين (عليهما السلام) والذي تطاولت الأيدي الآثمة المجرمة المبغضة للنبيّ وأهل بيته بتفجيره وتخريبه،(4) فإنَّ جلاوزة النظام العبّاسي قد كبسوا الإمام المهدي في سرداب بيت أبيه في تلك الآونة، فوصل إليهم الخبر أنَّ الإمام المهدي (عليه السلام) ابن الإمام الحسن العسكري في بيت أبيه في السرداب، فكبسوه بُغية تصفيته، كما أراد إخوة يوسف أن يبيدوا ويُصفّوا النبيّ يوسف في البئر، وهو نوع من الحفرة في الأرض، وكما أرادت قريش تصفية سيّد الأنبياء قبل هجرته فخرج النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) من بين أيديهم بعد أن أغشى الله أبصارهم، فقد خرج الإمام المهدي من سرداب بيت أبيه أمام جلاوزة النظام العبّاسي وهم لا يرونه.(5)
المشكلة في الكثير من هذه الأذهان التي لا تريد أن تبحث عن الحقيقة، وشغلها الشاغل التكذيب بآيات الله وحقائق الدين، وحقائق القرآن الكريم بدل أن تتفهَّم معنى الغيبة، هنا غيبة النبيّ يوسف ليس معناها انطماس وانطمار النبيّ يوسف في الأرض، كلاَّ إنَّما هي مؤامرة جرت له بوضعه في البئر، بعد ذلك أتت سيّارة، (وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ) (يوسف: 19)، تدبير الله عز وجل، يُدبّر حينئذٍ وليّه المصلح الموعود كما يحدّثنا القرآن الكريم: (وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَْرْضِ) (يوسف: 21)، إذن هذا نوع من التمكين التدريجي من الله تعالى، يكيد كيد الكائدين ومكر الماكرين.
ومؤامرة المتواطئين هي بنفسها حلقات متدرّجة لتدبير الله عز وجل كما يقول: (وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (يوسف: 21)، يعني هذه المكائد وهذه المؤامرات وهذه التواطؤات لتصفية وليّ الله المصلح المنقذ تبوء بالفشل، بل تصبّ في مسيرة وبرنامج دبّره الله عز وجل لوصول وليه إلى منصّة الظهور ومنصّة الاستخلاف في الأرض، وضعه في الجُبّ كان محطّة انطلاق لغيبته، وكذلك كان السرداب في بيت الإمام الحسن العسكري في سامراء وهي أكبر قاعدة عسكرية في العالم آنذاك، حيث حصلت تعبئة عسكرية واستنفار من الدولة العبّاسية العظمى تخوّفاً وتحسّباً من ظهور الإمام المهدي واستيلائه على مقدّرات الأمور؛ فكبست ذلك السرداب، هذا هو المراد من سرداب الغيبة للإمام المهدي (عليه السلام).
هناك من التشابه بين ظاهرة النبيّ يوسف والإمام المهدي حتَّى في بدء الغيبة، فقد بدأت غيبة النبيّ يوسف (عليه السلام) عندما (ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (يوسف: 15)، هنا إلتفاتة جميلة (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ) إلى النبيّ يوسف: (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) ماذا يعني؟ يعني هذه الغيبة التي ستبدأ للنبيّ يوسف من البئر، ويغيب عن إخوته وعن أبيه، ليست انطماراً في الأرض، وإنَّما يخفى على شعورهم، الغيبة ليست غيبة وجود ولا غيبة حضور، إنَّما غيبة شعور، يعني الأطراف الأخرى لا يشعرون به، غيبة هوية، غيبة خفاء، واستتار وسرّية، لذلك رُكّز أيضاً في غيبة النبيّ يوسف التي فيها تشابه مع غيبة الإمام المهدي، بقوله: (وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ)، كما مرَّ في غيبة النبيّ موسى (عليه السلام): (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) (القصص: 8)، ثمّ بعد ذلك تواصل الآية وتقول: (وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ) (القصص: 9)، فإذن الغيبة في المصطلح القرآني والمفهوم القرآني وفي الحقيقة القرآنية التي تتكرّر في ظواهر القرآن المتّصلة بالعقيدة بالإمام المهدي هي أنَّ الغيبة بمعنى عدم الشعور بالغائب، لا عدم وجود الغائب، عدم الشعور بوليّ الله المصلح، عدم المعرفة بوليّ الله المنقذ المنجي مع كونه حاضراً في ساحة الحدث، إذن الغيبة يتابعها القرآن بإمعان وعمق ودقّة ليُفهمها المسلمين ويفهمها القرّاء للقرآن الكريم، أنَّ معنى الغيبة لأولياء الله والحجج بمعنى عدم شعوركم بهم، عدم معرفتكم بهويتهم، لا عدم وجودهم، لا مزايلتهم لساحة الحدث، لا مزايلتهم لتدبير الأمور، هم حاضرون، لكن أنتم لا تشعرون بهم، لا تشعرون بهويتهم، ثمّ تواصل الآيات الكريمة: (وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ * قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ * وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) (يوسف: 16 _ 18)، يعني أنَّهم أشاعوا الخبر أنَّ يوسف قد صفّي، أو قد مات أو قُتل، أي ليس له وجود كما قد أشيع الخبر في الدولة العبّاسية آنذاك، هذا الخبر هو حارس للإمام المهدي، وهو أن لا خلف للإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، أو أنَّ السلطة العبّاسية كبست على السرداب وصفّته وقتلته، ولم يستطع أن يخرج من بين أيديهم ولم يغشَ الله عز وجل أبصارهم بغشاوة، فهنا إذن وقفة تأمّل جيّدة وهي أنَّه أشيع الخبر في غيبة النبيّ يوسف أنَّه قد اُبيدَ وقُتِل.
ثمّ يأتي التعبير القرآني: (وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ... وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) (يوسف: 19 و20)، لا يدرون من هو، أنظر تعامل البشر هن، هو في حالة تفاعل وفي حالة تعاطي مع النبيّ يوسف، وهذا هو المصلح لهم، لكن لا يدرون ولا يشعرون كما مرَّ بنا في عامل الخفاء، (وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَْرْضِ) (يوسف: 21)، تمكين من الله ليوسف في الأرض، يفتح له السبل للتدرج في نفوذ القدرة، وفي أن يتبوَّأ مقاماً ومكانة في البشر ليصير نافذ اليد مبسوط القدرة، فهذا برنامج في الواقع تدريجي، تمكين تدريجي من الله عز وجل لقدرة يوسف في الأرض بشكل خفي ومستتر، وهذه سُنّة الله، إنَّه غالب على أمر يوسف ليسوسه وليدبّره وليحيطه، (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَْحادِيثِ)، أي تأويل الرؤيا (6) أو الإخبار عن حوادث الزمان التي تؤدّي إلى العلم بما يحتاج إليه،(7) (وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ)، أي تدبير الله قضاءه وقدره يمضي بلا عائق رغم كيد الكائدين ورغم مكر الماكرين. نعم، ما يقدّره الله للمصلح وللمنقذ هو كائن ولن يعوقه شيء ولن يقف أمامه حائل بتاتاً، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) بذلك التدبير الإلهي.
ويوسف حصلت له الغيبة وهو في صغره، قبل أن يبلغ أشدّه، وهي كما مرَّت بنا في النبيّ موسى (عليه السلام) أيضاً فقد حصل له الخفاء والغيبة في صغره، وهذا ما حصل للإمام المهدي (عليه السلام)، وهذا تدبير الله لوليّه المصلح المنقذ الذي يريد أن يظهره الله على الدين كلّه ولو كره المشركون.
(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (يوسف: 22)، و(المحسن) مقام عالٍ يأتي من الإحسان فوق مقام التقوى والورع وقريب من الاصطفاء في حجج الله، يأتيهم الله عز وجل بالعلم والحكمة وهو غير وحي النبوّة ووحي الشريعة والرسالة، فإذن هناك قناة غير النبوّة وغير قناة الرسالة، قناة أخرى يؤكّدها القرآن الكريم في فقرات ومحطّات عديدة وتسمّى بـ (العلم اللدنّي) العلم الإيتائي من الله عز وجل، الحكمة التي يؤتيها الله عز وجل كما آتاها لقمان، إذ لم يكن نبيّاً ولا رسولاً ولا إماماً، وإنَّما كان حجّة من الحجج آتاه الله الحكمة، هذه المفردات وهي المقامات الاعتقادية لا تجد لها تفسيراً في غير مدرسة أهل البيت من بين المدارس الإسلاميّة، مدرسة أهل البيت تقول: إنَّ لله حججاً أنبياء كانوا أو رسلاً أو أئمّة، أو قد يكون النبيّ رسولاً وإماماً أيضاً، أو حجّة من حجج الله وليس بإمام ولا رسول ولا نبيّ، وإن كانت الحجّية ثابتة أيضاً للمقامات الثلاثة الاُوَل أيضاً كما كان الحال في مريم، وكما مرَّ بنا في ظاهرة اُمّ النبيّ موسى، حيث اُوحي إليها ولم يكن وحياً نبوياً ولا وحي رسالة، وإنَّما هو الوحي اللدنّي والإيعاز لهذا البرنامج الخاصّ، كما أوحي لمريم ببرنامج خاصّ سيطالعنا به الحديث لاحقاً إن شاء الله تعالى.
بعد ذلك يطالعنا القرآن الكريم بمجمل مسلسل أحداث للنبيّ يوسف تجري عليه في غيبته، غيبة خفاء وسرّية، غيبة عدم معرفة البشر بهويته، وعدم معرفة بشخصيته، عدم الشعور بنسبه وحسبه، ولكن يتعاطون معه. فيحدّثنا القرآن الكريم بمسلسل من الأحداث الأخرى التي تجري على النبيّ يوسف، إلى أن تصل إلى هذا الموضع في القرآن الكريم أنَّه قال: (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) (يوسف: 33)، وهنا تعاطي وتفاعل مع الأحداث للنبيّ يوسف في ظلّ غيبته، لا أنَّه ناءٍ، وهذه النقطة لها صلة بالعقيدة بالإمام المهدي وغيبته، غيبة خفاء هيأة وعدم الشعور بوليّ الله المصلح المنقذ الموعود المنتظر، لا أنَّه نائي، لا أنَّه مقصي، وليست هي مزايلة عن ساحة الحدث وعن مسرح الحياة، بل هو موجود يتفاعل مع الأحداث من دون شعور البشر به، ومن دون شعور بكيفية التدبير الإلهي الذي يوصله درجة فدرجة، محطّة فمحطّة إلى منصّة الظهور، إلاَّ أن يكذّب الناس بذلك، أو يُكذّبوا النبيّ يعقوب الذي بشّر بظهور ابنه يوسف في الأرض وبالتمكين له، أو يُكذّبوا بغيبة النبيّ يوسف ويقولون: لن يكون هناك يوسف موعود سيظهر ويمكَّن له في الأرض ويتغلَّب على الفساد، لكن (وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)، يكذّبون بما لا يعلمون، فهنا يؤكّد القرآن الكريم على أنَّ الغيبة والخفاء لا تنافي مقتضى قضاء الله وقدره للوصول إلى ظهور موعوده المبشّر به لإصلاح الأرض.
(وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الآْخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (يوسف: 36)، إذن تفاعل وليّ الله الموعود في تلك الحقبة أن يجري عليه ما يجري على البقيّة حتَّى من دخول السجن، مع أنَّ وليّ الله موعود بالظفر والتمكين في الأرض تصل به حياته إلى أن يقبع في أرض السجن، لكن هذا لا ينافي تدبير الله عز وجل، بل هذا يصبُّ في مسلسل تدبير الله النافذ الغالب على أمره، فهذه إذن محطّات شاهدة تدلّل على أنَّ وليّ الله في غيبته وخفائه لا ينافي وجوده في مسرح الحياة وتفاعله مع مجريات الحياة.
بعد ذلك أنظر كيف تجري الأحداث، (نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)، أنظر بثّه للعلوم أيضاً: (قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ) (يوسف: 36 و37). الآن يطالعنا القرآن الكريم أيضاً فيما سيجري للملك، (وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ) (يوسف: 43)، إذن أزمة اقتصادية ستحلُّ بالبشرية يُراد لها تدبير نافذ، يُراد لها نظام اقتصادي صارم، يُراد لها نوع من البرمجة والتقشف الاقتصادي كي يواجهوا الأزمة الاقتصادية الحادّة التي ستعصف بهم، من الذي سينجي البشرية من هذه الأزمة؟ من الذي أعدَّه الله عز وجل للحيلولة دون وقوع هذه الأزمة التي ستجتاح البلاد؟
الجواب: النبيّ يوسف (عليه السلام) هو الذي ينقذ البشرية في منعطفات حادّة يمرُّ بها النظام البشري وهو خفي عنهم، وهم لا يشعرون به، وهم لا يشعرون بأنَّ هذا التدبير الصالح إنَّما انبثق من هذا النبيّ، من هذا الموعود بظهوره وبتمكينه.
بعد ذلك تطالعنا الآيات الكريمة: (قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَْحْلامِ بِعالِمِينَ) (يوسف: 44)، أنظر إلى تدبير البشر الذي لم يكن بالمستوى المطلوب أمام هذه الأزمة التي تواجههم لولا وجود وليّ الله الذي يدبّر الأمور وهو في حالة خفاء. وهذا هو الذي نعتقده بالإمام المهدي (عليه السلام) في غيبته، أل وهي غيبة خفاء هوية، لا مزايلة عن ساحة الحدث كما مرَّ، فهو يدبّر وينجي البشرية في حقبة تمتلئ بالأزمات الحادّة التي تعصف بها.
كما حصل الحال كذلك في الإمام المهدي (عليه السلام)، فقد ذكر الذهبي في (تاريخ الإسلام) في ترجمة الإمام الحسن العسكري ولادة الإمام المهدي محمّد بن الحسن، ولكنَّه عقَّب بعد ذلك وقال: إنَّه عُدم،(8) أو كأنَّما صفَّته الدولة العبّاسية، ولكن الحقيقة ليست كذلك، بل هو محروس بضمانة وحراسة إلهية كما حرس الله النبيّ يوسف وحرس النبيّ موسى في الظاهرة السابقة التي ذكرها لنا القرآن الكريم، وهو الموعود المبشَّر به بإظهار الدين على أرجاء الكرة الأرضية كافّة، وهو من نسل الرسول ومن ذرّية فاطمة في نصّ الفريقين المتواتر.
وتواصل الآيات سرد تعاطي النبيّ يوسف التفاعل مع الحياة العامّة، وأبرز ذلك ما تُبيّنه لنا السورة نفسها أنَّه في تلك الأزمة العصيبة التي عصفت بمصر وكانت هي مركزاً لتموين ما حواليها من البلدان في التموين الغذائي والأزمة الاقتصادية الحادّة التي مرَّت به، كان من النبيّ يوسف حينذاك ذلك التدبير المهمّ المبني على اُسس علمية بتوسّط ما للنبيّ يوسف من علم لدنّي، حيث ذكر برنامجاً مهمّاً لتفاديهم تلك الأزمة، فقال: (قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ) (يوسف: 47)، لاحظ البرنامج الوقائي والتدبير الاقتصادي، ثمّ كيفية الحفاظ على بقاء التموين الغذائي، (فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ)، فلا بدَّ أن تكون هناك سياسة تقشّف، برمجة وتدبير واضح لتفادي الأزمة المحدقة الحادّة التي سيواجهها المجتمع البشري آنذاك، (ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ) (يوسف: 48)، إنَّ للأولياء الحجج المبعوثين لإصلاح البشرية علماً قديماً، وعلوم الأئمّة المنصوبين من قبل الله تعالى ليست علوماً نسبية، وليست وليدة التجربة لتتأثَّر حينئذٍ زيادةً ونقصاناً أو صواباً وخطئاً أو تردّداً وحيرة بالمعلومات المكتسبة التي قد تكون محيطة وقد لا تكون محيطة في زوايا عديدة، بل هو علم لدنّي بما يؤتيهم الله عز وجل من ذلك العلم، فيه تدبير لا يخطئ الواقع.
الآن البشرية تتطلَّع إلى نظام اقتصادي عادل، بعد أن طُرحت عدّة نُظم، كالنظام الشيوعي، والنظام الرأسمالي، فوجدت أنَّها لا تتكفّل ولا توجِد العدالة، في النظام الاقتصادي، أو النظام القضائي، أو النظام الاجتماعي، أو النظام السياسي، بل رأت أنَّ غاية ما وصلت إليه تلك النظم إنَّما هو إلى حرّية نسبية أو عدالة نسبية أو حقوق نسبية، أمَّا الحقوق الكاملة والعدالة الكاملة والحرّية الكاملة _ بالمعنى الصحيح للحرّية _ فإلى الآن تتطلَّع البشرية إلى ذلك.
البشرية في أزمة تنظير فضلاً عن مرحلة التطبيق، وتلك إذن مرحلة دهياء مدلهمة فيها ما فيها من عدم الأمانة وعدم الكفاءة، بينما النظم الإلهية والتدبير الإلهي لمن يبعثهم الله أولياء تكفل حماية البشرية عمَّا ينتابها من عواصف، وهذا معنى ضرورة لزوم الإمامة بعد النبوّة، نعم إنَّه لا بدَّ من تدبير إلهي للبشر يكفل لهم الحياة ويحوطهم عن الوقوع في الهاوية والأخطار وما يحيط بهم من مآزق وأزمات ومنعطفات حادّة جدَّاً.
وفي الحقيقة هذا معنى أنَّ المهدي (عليه السلام) عندما يظهر (يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً)، وكما أنبأ بذلك القرآن الكريم في سورة الحشر: (مَّا أَفَاء الله عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ)، تدبيرها بيد الله ثمّ بعد ذلك ولاية ذوي القربى من أهل البيت، (فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى)، يستعرض القرآن الكريم مصرف هذه الثروات في الأرض بتدبير الله والرسول وذوي القربى أوّل، ثمّ يقول تعالى: (وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (الحشر: 7)، وهي الطبقات المحرومة، فبسط الثروات بشكل عادل على الطبقات المحرومة إنَّما يتمّ بتدبير الله وإدارة رسوله ثمّ ذوي القربى.
وفي قصَّة يوسف نشاهد هذا التدبير الاقتصادي الذي يؤمّن البشرية من الفساد ومن الظلم، في الحقيقة إنَّ هناك نارين نار الفساد ونار الظلم، الفساد قد يكون عن سبب الجهل في التنظيم، والجهل بالموضوع أو التطبيق، أمَّا صاحب العلم اللدنّي الوليّ من أولياء الله الذي يُبعث حجّة من قِبَل الله عز وجل بما يؤتى من علم لدنّي يتفادى ذلك الخطر، ولا يستدعي أزمة في التنظيم ولا أزمة في التطبيق ولا في العلم والإحاطة بالبيئة الموضوعية وتداعياتها، أنظر ماذا يقول النبيّ يوسف كما في الآية الكريمة: (قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ) (يوسف: 47)، أي السبع سنين الأولى، ثمّ يعطي برنامجاً للسبع سنين الثانية، وبرنامجاً للسنة الخامسة عشرة، بملاحظة تداعيات كلّ تدبير، وهذه من خصائص التدبير الإلهي، وليس صلاحية الحكم في جنب التشريع. التشريع فقط لله، بل صلاحية الحكم في كلّ مدياته السياسية والنظمية والتدبيرية بيد الله عز وجل، وهذا هو المفهوم الذي تتبناه المدرسة الوحيدة مدرسة أهل البيت، إذ لديها لون من التوحيد لا يُلمس بهذه الكثافة وبهذه الشمولية وبهذا التركيز في غيرها كما هو فيها، التوحيد في الحكم أيضاً فلا يقصرون على التشريع بأن يقال: إنَّ التشريع لله وأمَّا التطبيق والتدبير فهو بيد البشر، أي إنَّ يد الله معزولة عن ذلك، حاشا لله والعياذ بالله أن تقصر الربّانية عن التدبير، بل التدبير ليس في جانبه الكوني والقضاء والقدر فقط، بل حتَّى في جانبه التشريعي، وفي الدرجة الأولى أنَّ الحكم لله بما ينزل على أوليائه من أوامر.
نعم هذا موقف ونقطة مهمّة في ظاهرة النبيّ يوسف يستعرضها لنا القرآن الكريم في سورة يوسف، من أنَّ وليّ الله والإمام على البشر الخليفة لله في الأرض (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة: 30)، ولم يُعبّر القرآن الكريم بالقول: إنّي جاعل في الأرض نبيّاً، أو إنّي جاعل في الأرض رسولاً، أو إنّي جاعل آدم خليفة، بل قال ما له عمومية وشمولية لكلّ الأزمان من بدء خليقة البشر إلى منتهاها: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)، الخليفة استخلاف قدرة وتدبير وإمامة، وهو عنوان من عناوين الإمامة، فالإمامة سُنّة دائمة من الله تعالى، سواء أكان الإمام نبيّاً أم رسولاً، كما في سنن الرسل فهو نبيّ ورسول وإمام، وإمام الأئمّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكما في إبراهيم فهو نبيّ ورسول وإمام، قال تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي) (البقرة: 124)، وكذلك في إسحاق ويعقوب: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة: 24)، فالإمام موقع ومنصب قد يشغله ويحتلّه النبيّ والإمام، وقد يقوم به غير النبيّ والرسول، لكن هذا الموقع لا يمكن أن يكون شاغراً، لا يمكن أن يكون غير مُفعَّل في زمن الأزمان، وهذه نكته مهمّة في حياة الرسل، (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرَا) (المؤمنون: 44)، يعني متعاضدة يعضد بعضها البعض، وبينها أزمنة وفترات، وبعد رسول الله (لا نبيّ بعدي)(9)، أي لا رسول بعدي، ولم يقل سيّد الرسل: لا إمام بعدي، ولم يقل: لا خليفة لله بعدي، بل قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنَّ بعده (اثنا عشر خليفة _ أو أميراً _ كلّهم من قريش)، وفي بعض الروايات: (من هذا البطن بني هاشم)، والمقصود هنا أنَّ ما تقدَّم من الآيات أنَّ النبيّ يوسف الموعود بكونه المصلح والمبشّر بالتمكين في الأرض، يزاول دوره في إنقاذ البشرية وإصلاح المجتمع البشري قبل ظهوره، وقبل وعي الناس ومعرفتهم وشعورهم بهويته، وقبل إعلان شخصيته، لكنَّه موجود في ساحة الحدث، موجود في مركز تدبير الأمور، ينتشل البشرية من تلك الأزمات، ويرتفع بها إلى قُلل الكمال من دون أن يشعروا بأنَّ هذا التدبير من خليفة الله تعالى، هذا التدبير من وليّ الله وحجّته، هذا التدبير من الموعود المُبشّر به بأنَّه رأى (أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) (يوسف: 4)، نعم مبشّر بأنَّه يظهر ويمكّن في الأرض، لكن مع ذلك لم يشعر به ذووه ولم يشعر به إخوته ولم يشعر به النظام الذي كان سائداً، لكن مع ذلك هو يقوم بدوره.
إذن القيام بالدور الحساس المصيري من قِبَل خليفة الله، من قِبَل الإمام الذي يستخلف في تدبير الأمور، على أنَّه خليفة الله، وقيام الإمام قيام من هو غائب في هويته وليس غائباً في وجوده، وحضوره، وتدبيره، وتصدّيه للأمور، إذ أنَّ قيامه بهذا الدور لا يستلزم شعور البشر بهويته إذ أنَّهم كانوا يرونه ولا يعرفونه، يدبّر لهم، يتعاطى معهم، يؤثّر في مصير البشرية، يحفظها من المنزلقات من دون أن تشعر البشرية به، ومن دون أن تنسب البشرية هذا الإنجاز الإصلاحي لوليّ الله ولخليفة الله، ربَّما نعرفه بأسماء أخرى ولا نعرفه باسم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل مثلاً، المهمّ أنَّه أخذ يد البشرية عن الوقوع في مجاعات، أو الوقوع في الموت، أو الوقوع في قطع النسل البشري والأزمات الكثيرة، وربَّما يتفشّى نتيجة لذلك الفساد والقتل وعواصف ومفاسد تفتّ بالنظام الاجتماعي والسياسي والأسري وكثير من تداعياته، لكن بعد أن قام بهذا الدور المصيري في تلك الحلقات المركزية في النظام الاجتماعي السياسي، وكما في النبيّ موسى الذي قام بأدوار كثيرة من ربط الأمل والجأش على قلوب بني إسرائيل دون أن يشعروا به أنَّه موسى قبل ظهوره، وكان على صلة بأخيه هارون، بل ولم يشعروا حتَّى بنبوّة هارون.
فالسؤال القائل: أيّ معنى للإمام عندما يكون غائباً نابع عن فهم مغلوط للغيبة والغياب على أنَّه بمعنى مقابلٍ للحضور وليس عدم حضور، الغيبة عدم ظهور مع كون الحضور فعلياً، يقوم بكلّ حيوية بالمسؤولية الإلهية الخطيرة في منعطفات المسير البشرية، ينقذها وينتشلها من السقوط إلى الهاوية، وهذا إذن مقطع ثمين جدَّاً في ظاهرة النبيّ يوسف (عليه السلام)، وهو أنَّه غاب وخفيت هويته ولم يخفَ وجوده، ولم تعدم البشرية حضوره وخيره وتدبيره وما شابه ذلك، وهذه نكتة مهمّة جدَّاً بالغة العبرة يسطّرها لنا القرآن الكريم.
فإذا كانت عندكم أسئلة عقائدية اقرؤوها من هذه الإجابات الموجودة في سورة يوسف، ولا تمرّوا عليها مرور عبور غفلة، (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) (القمر: 17)، (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) (النساء: 82)، أنظر كيف يحثّ القرآن على التدبّر، استنطق القرآن الكريم لتلتفت إلى تلك الإجابات على أسئلتك، فهو يجيبنا بأنَّ خليفة الله ووليّ الله غائب غيبة هوية وعدم شعور، لا غيبة وجود، نعم يزاول تمام دوره في عصب النظام البشري، ولولاه لفُصِمَ وقُصِم، يعني يقوم به لكن من دون أن يُعزى هذا الإصلاح والتدبير له.
الهوامش:
(1) في الرواية عن الحارث بن نوفل، قال: قال علي (عليه السلام) لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (يا رسول الله أمنّا الهداة أم من غيرنا؟)، قال: (بل منّا الهداة إلى الله إلى يوم القيامة، بنا استنقذهم الله عز وجل من ضلالة الشرك، وبنا يستنقذهم من ضلالة الفتنة، وبنا يُصبحون إخواناً بعد ضلالة الفتنة كما بنا أصبحوا إخواناً بعد ضلالة الشرك، وبنا يختم الله كما بنا فتح الله). (كمال الدين: 230/ باب 22/ ح 31).
وفي رواية عن الإمام الباقر (عليه السلام)، قال: (نحن جنب الله، ونحن حبل الله، ونحن من رحمة الله على خلقه، ونحن الذين بنا يفتح الله وبنا يختم الله، نحن أئمّة الهدى ومصابيح الدجى، ونحن الهدى، ونحن العلم المرفوع لأهل الدني، ونحن السابقون، ونحن الآخرون، من تمسَّك بنا لحق ومن تخلَّف عنّا غرق...). (مناقب آل أبي طالب 3: 336).
(2) كما في رواية أبي الجارود، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: (تأويل هذه الرؤيا أنَّه سيملك مصر ويدخل عليه أبواه وإخوته، أمَّا الشمس فاُمّ يوسف راحيل، والقمر يعقوب، وأمَّا أحد عشر كوكباً فإخوته، فلمَّا دخلوا عليه سجدوا شكراً لله وحده حين نظروا إليه وكان ذلك السجود لله). قال علي بن إبراهيم: فحدَّثني أبي، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام): (إنَّه كان من خبر يوسف (عليه السلام) أنَّه كان له أحد عشر أخ، فكان له من اُمّه أخ واحد يسمّى: بنيامين، وكان يعقوب إسرائيل الله...، فرأى يوسف هذه الرؤيا وله تسع سنين فقصَّها على أبيه...). (تفسير القمي 1: 339).
(3) وهو قوله تعالى: (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَْحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالأَْرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالآْخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (يوسف: 100 و101).
(4) حدثت تلك الفاجعة بتاريخ (23/ محرَّم الحرام/ 1427هـ).
(5) روى الراوندي في (الخرائج والجرائح 2: 942 و943): أنَّ صاحب الأمر (عليه السلام) بعد وفاة أبيه (عليه السلام) ودفنه، خرج جعفر الكذّاب إلى بني العبّاس وأنهى خبره إليهم، فبعثوا عسكراً إلى سُرَّ من رأى ليهجموا داره ويقتلوا من يجدونه فيها، ويأتوه برأسه، فلمَّا دخلوها وجدوه (عليه السلام) في آخر السرداب قائماً يصلّي على حصير على الماء، وقدامهم أيضاً كأنَّه بحر لكثرة الماء في السرداب، فلمَّا رأوا ذلك يئسوا من الوصول إليه، وانصرفوا مدهوشين إلى الخليفة، فأمرهم بكتمان ذلك. ثمّ بعث بعد ذلك عسكراً أكثر من الأوّل، فلمَّا دخلوا الدار سمعوا من السرداب قراءة القرآن، فاجتمعوا على بابه حتَّى لا يصعد، فخرج من حيث الآن عليه شبكة، وخرج وأميرهم قائم. فلمَّا غاب قال: أنزلوا وخذوه. فقالوا: إنَّه مرَّ عليك وما أمرت بأخذه. فقال: ما رأيته. فانصرفوا خائبين. وخرج إليه العسكر مرَّة أخرى، فوجدوه في آخر السرداب، فوضع يده (عليه السلام) على الجدار وشقّه، وخرج منه، وأثر الشقّ بعد ظاهر فيه.
(6) أنظر: تفسير مجمع البيان 5: 360 و460.
(7) أنظر: تفسير التبيان 6: 199.
(8) قال الذهبي في (تاريخ الإسلام 19: 113) في ترجمة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) ما نصّه: (الحسن بن علي بن محمّد بن علي الرضا بن موسى بن جعفر الصادق. أبو محمّد الهاشمي الحسيني أحد أئمّة الشيعة الذين تدعي الشيعة عصمتهم. ويقال له: الحسن العسكري لكونه سكن سامراء، فإنَّها يقال لها: العسكر. وهو والد منتظر الرافضة. توفّي إلى رضوان الله بسامراء في ثامن ربيع الأوّل سنة ستّين، وله تسع وعشرون سنة. ودفن إلى جانب والده. واُمُّه أمَة. وأمَّا ابنه محمّد بن الحسن الذي يدّعوه الرافضة: القائم الخلف الحجّة، فولد سنة ثمان وخمسين، وقيل: سنة ستّ وخمسين. عاش بعد أبيه سنتين ثمّ عُدم، ولم يعلم كيف مات. واُمّه اُمّ ولد. وهم يدَّعون بقاءه في السرداب من أربعمائة وخمسين سنة، وأنَّه صاحب الزمان، وأنَّه حيّ يعلم علم الأوّلين والآخرين...).
(9) قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام): (أنت - أو إنَّك، أو أمَا ترضى أن تكون - منّي بمنزلة هارون من موسى، إلاَّ أنَّه لا نبيّ بعدي). رواه جمهور المحدّثين من الفريقين، أنظر: (كمال الدين: 278/ باب 24/ ح 25؛ أمالي الصدوق: 238/ المجلس 32/ ح (252/8)؛ أمالي الطوسي: 156/ المجلس 26/ ح (150/1)؛ مسند أحمد 1: 184، و3: 32؛ صحيح مسلم 7: 120؛ سنن الترمذي 5: 304/ ح 3814).
******************
ولا يخفى على القارئ الكريم أنَّ الإصلاح الذي قام به يوسف (عليه السلام) هو إصلاح نسبي في غيبة أولياء الله، بخلاف ما كان بعد ظهور يوسف وبعد معرفتهم وشعورهم به، (أَإِنَّكَ لأََنْتَ يُوسُفُ) (يوسف: 90)، نعم إنَّه لمَّا ظهر أفشى فيهم التوحيد، وأفشى فيهم ديانة الإسلام، ولكن قبل الظهور كانت تلك الإصلاحات نسبية مصيرية في حفظ النظام البشري يقوم بها وليّ الله، وإن كان في ستار وسرّية وخفاء في حركته، لذلك يُلفت القرآن الكريم إلى ذلك في قوله تعالى: (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَْرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة: 30)، وأوّل مفاد قرآني له صلة بمعنى الخليفة، بطرح القرآن الكريم تساؤل الملائكة: (قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) (البقرة: 30)، وكأنَّما أراد الله عز وجل أن يبيّن لنا أهمّ دور يقوم به الخليفة، وأنَّه لولا وجوده لوقع المحذور الذي ذكرته الملائكة وهو الفساد في الأرض، أو سفك الدماء وقطع النسل البشري، فالذي يكون ضمانة إلهية يحول دون وقوع سفك الدماء أي قطع النسل البشري هو الخليفة، عَلِم به البشر أو لم يعلموا به، خفيت هويته عليهم أو علموا بها، استجابوا له أو لم يستجيبوا له، فإنَّه قادر على أن ينفذ في نظمهم ويؤثّر فيها وإن لم يستجيبوا له باسمه وبمعرفة هويته، فهذه إذن محطّة ووقفة قرآنية عظيمة جدَّاً يجب أن ننتهل منها نهلاً نميراً عميقاً عذباً سائغاً، ويجب أن نلتفت إليها بجدّ.
وبعد هذا يصبح من السفه القول: إنَّه كيف جعله الله إماماً على البشر والبشر لا يعرفه؟ فنقول: من قال: إنَّ المقامات الإلهية والمناصب الإلهية تستدعي أن يعرف البشر صاحب المقام والمنصب بنعت المقام والمنصب؟ هاهنا النبيّ يوسف (عليه السلام) قد عاش وترعرع وجرى ما جرى وغاب عن ذويه وأهله قبل أن يبلغ، بدءاً من الجُبّ حيث رموه فيه، ثمّ ترعرع ونما، ومن ثَمَّ كان نبيّاً مرسلاً موعوداً ومنقذاً ومصلحاً ومنجي، وُعد في نعومة أظفاره وبداية حياته بالبشارة بالتمكين في الأرض، وقام بهذه الأدوار.
فهذه حقيقة قرآنية لا يستطيع أحد من المدارس الإسلاميّة الأخرى غير مدرسة أهل البيت أن تفسّر هذه الظاهرة وهذه الحقيقة القرآنية، أنظر كيف أنَّ ثوابت العقيدة الاعتقادية في مدرسة أهل البيت كلّها ذات شواهد، وتشاهد مع حقائق القرآن كلَّما ذكر حجج الله السابقين من الأنبياء والرسل والأئمّة، هي في الواقع عِظات وعِبر اعتقادية للأمّة الإسلاميّة في حقبة زمانها ولأئمّة زمانها وللخلفاء المنصوبين من قِبَل الله ورسوله على المسلمين في زمنهم، فهذه محطّة عظيمة جدَّاً ينبئنا بها القرآن الكريم وهي: أنَّ الغيبة لا تتنافى مع القيام بدور النبوّة ومسؤولياتها، ويضطلع بمسؤولياتها وبمهامها ووظائفها النبيّ مع كون الناس يجهلون نعته، بل يجهلون اسمه، ويعرفونه ربَّما باسم آخر، ومع ذلك يقوم بدوره.
أوَلم يقل النبيّ يوسف لصاحبيه في السجن: (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ * ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ) (يوسف: 39 و40)؟ أنظر إلى هذه الدروس التوحيدية الثبوتية، فليس الحكم في التشريع فقط، بل حتَّى في التدبير، حتَّى في التنفيذ، حتَّى في القضاء، هذا اللون من التوحيد وما مرَّ بنا ليس له وجود إلاَّ في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)؛ لأنَّهم يقودوننا إلى مؤدّيات وثوابت العقيدة الاعتقادية لمدرسة أهل البيت، إنَّ التدبير في الحكم القضائي صلاحيته أوّلاً لله حيث يشرف عليه الله تعالى، لا أنَّ الله عز وجل معزول عن الإشراف في القضاء التشريعي وفي نظام القضاء وفصل الخصومات وفي نظام التنفيذ والقوّة والسلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، حاشا لله أن يكون معزولاً عن الإشراف والهيمنة، فالحكم لله حتَّى في حكومة الرسول والحاكم الثاني هو الرسول، هذه هي الأدبيات العقائدية لمدرسة أهل البيت، وهكذا في حكومة علي بن أبي طالب (عليه السلام) فإنَّ الحاكم الأوّل في سلطة التشريع وسلطة القضاء وسلطة التنفيذ هو الله عز وجل، والحاكم الثاني هو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإن انتقل إلى الدار الآخرة فإنَّه يشرف ويُطاع ممَّن بعده وهو أمير المؤمنين بما يتَّصل بالعلم اللدنّي بالله ورسوله، وكذلك الحاكم الثالث في حكومة أمير المؤمنين (عليه السلام) هو أمير المؤمنين.
فالحاكم الأوّل هو الله، ليس فقط على صعيد التشريع، بل حتَّى على صعيد التنفيذ، ففي السلطة القضائية، وسلطة العسكر، وسلطة الثقافة، وسلطة الاقتصاد، وكذلك الإشراف والهيمنة على جميع التفاصيل الجزئية الخطيرة هي لله عز وجل، ويبلغ الله إرادته ومشيئته حتَّى الجزئية التنفيذية التطبيقية لوليّه وخليفته في الأرض، وهذه الصلاحية التي هي لله _ للأسف _ في غير مدرسة أهل البيت تراها كأنَّها مزواة عن الساحة الإلهية، مزواة عن الباري تعالى، والعياذ بالله، وكأنَّهم شابهوا اليهود في قولهم كما حكاه عنهم الله عز وجل بقوله: (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا) (المائدة: 64)، هيهاتَ، بل تنبسط وتشمل جميع السلطات، وكما يُحدّثنا القرآن الكريم في حكومة الرسول، أوَليست سيرة حكومة الرسول في القرآن مسطورة في منعطفات السياسة والحرب والسلم والقضاء، أوَلم يكن ينزل أمر إلهي خاصّ، وإن كان تشريعاً عامّاً أيضاً ولكنَّه أيضاً تطبيق خاصّ، في موارد النزول إعمال الولاية من الله، وإرادة من الله لا من رسوله في تلك الموارد، هاهنا مثلاً ابدأوا حرباً مع المعتدين، وهاهنا اعقدوا صلحاً، وهكذا في موارد عديدة يتعرَّض لها القرآن الكريم حتَّى في إقامة الحدود والعقوبات الجنائية. صحيح إنَّ مفاد تلك الآيات تشريع عامّ، لكن تطبيقه من الله عبارة عن تنفيذ خاصّ.
أنظر إلى هذا التوحيد الذي هو بلون مركّز وشديد وشمولي والذي لا يوجد إلاَّ في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، والذي يُنبئ عنه النبيّ يوسف في قوله تعالى على لسانه: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ) (يوسف: 40)، ليس فقط في التشريع، بل في كلّ مجالات الحكم.
وإذا نظرنا إلى مدارس بقيّة المسلمين نجد حاكمية الله تُزوى، لماذا؟ ذلك لأنَّهم لا يعتقدون أنَّ الإمام منصوب من الله عز وجل، ولا أنَّ هناك ارتباطاً بين فرد بشري معصوم وبين الله تتنزّل عليه الحكمة الإلهية والتدبير الإلهي.
حجّية الإمام مع غيبة شخصه:
مرَّ بنا أنَّ القرآن الكريم في سورة يوسف يذكّر المسلمين والمؤمنين بأنَّ جهل البشرية بوجود النبيّ يوسف لم يزعزع ولم يزلزل عنوان نبوّته، ولم يبعده عن الاضطلاع بمسؤولية الرسالة وبمسؤولية الإمامة، وأنَّه معدّ مصلحاً ومنقذاً بشرياً في تلك الحقبة.
وكلّ هذه المقامات كان يزاولها النبيّ يوسف في غيبته، ويقوم بتلك الأدوار الخطيرة في مسار البشرية التي تعصف بالنظام البشري، والتي ربَّما تؤدّي به إلى سحيق الهاوية، وهو ينتشلها ويقوم بهذا الدور الإلهي من دون أن يعرفوا نبوّته ولا رسالته ولا حجّيته، ولا كونه الموعود المُبشّر من قبل الله، ولا إمامته ولا كونه خليفة لله في أرضه، لكن ذلك لم يُبطل حجّيته ولا إمامته ولا نبوّته ولا رسالته كما أسلفن، ولم يكن هناك أيّ شرطية وأيّ توقّف بين معرفة الناس له بنعت الحجّة ونعت النبيّ ونعت الرسول بالنبوّة والرسالة والحجّية والإمامة والخلافة، وقيامه بتلك الأدوار من قبل الله تعالى.
وفي الحقيقة فإنَّ هناك مغالطة في قول البعض: إنَّه ليس هناك ارتباط، بل الارتباط قائم بين النبيّ يوسف وأهل زمانه حيث يتفاعل مع ساحة الحدث الأساسي الرئيس عندهم من دون أن يشعروا بذلك الارتباط. فعدم معرفتهم به لا يعني عدم ارتباطهم به، ولا يعني عدم قيامه بالدور، فالإنسان الآن في وجوده يتعاطى مع كثير من الأشياء المحيطة به من المادة لكن لا يشعر بها، فهل يعني ذلك عدم وجودها؟
فالأمر هنا بيّن، ففي حالة النبيّ يوسف نرى أنَّه لم يكن معروفاً إلاَّ لذويه وإخوته وأبيه النبيّ يعقوب، وإلاَّ فإنَّ أهل مصر وعزيزها وملكها، والبلدان المجاورة لم يعرفوا شخصاً بهذا الاسم، وبعبارة أخرى هناك الخفاء في النبيّ يوسف أشدّ ممَّا هو عليه الحال في الإمام المهدي، الإمام المهدي يُعرف بشخصه الذي هو الثاني عشر من ذرّية النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) من ولد علي وفاطمة (عليهم السلام)، وهو ابن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، واعترف كثير من علماء المسلمين بولادته، ومنهم الذهبي في (تاريخ الإسلام) كما تقدَّم، وغيره من علماء الجمهور ممَّن اعترفوا وسلَّموا بولادته (عليه السلام).(1)
ويعرفونه باسمه وشخصه، وأنَّه المرشّح لأن يكون مصلحاً إلهي، وأنَّه الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، وهو الذي على يديه يظهر الدين على الأرجاء كافّة، والموعود ببشارة سيّد الأنبياء، يعرفون هذه المواصفات، ولكن لا يعرفونه بتشخّص وجوده، ولا يميّزون من هو المنعوت بهذه المواصفات، لذا كانت حال الإمام المهدي أهون في الخفاء، أمَّا في النبيّ يوسف كما يحدّثنا القرآن الكريم فإنَّ أهل مصر وكثيراً من البشر آنذاك كانوا يتعاطون مع النبيّ يوسف ومرتبطين به لكن لا يشعرون به، لا يعرفون الاسم حتَّى على مستوى النظرية، فضلاً على مستوى التطبيق، يعني ليس على مستوى الفكرة فضلاً عن مستوى تشخيص الفكرة على وجود خارجي، فالخفاء في ظاهرة النبيّ يوسف أشدّ، ومع ذلك لم تبطل نبوّة النبيّ يوسف وحجّيته وإمامته وخلافته ومُصلحيته، فهذا درس اعتقادي عظيم يسطّره لنا القرآن الكريم في سورة يوسف، وليس سمراً ولا ثرثرة، بل عِظَة وعبرة عقدية واعتقادية قبل أن تكون عبرة أخلاقية أو أدبية، (مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى) (يوسف: 111)، ليست هذه مفتريات، بل (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ) (الطارق: 13 و14)، هو قول الله عز وجل، فإنَّ هذا درس عقائدي عظيم يجابه به القرآن الكريم ويصدّ اُكذوبة المكذّبين بالإمام المهدي ودعواهم في المنافات بعدم شعور البشر بالارتباط وبالتالي تبطل حجّيته، فأيّ معنى لمثل هذه المقولة الزائفة؟
وبقيّة الآيات التي تسرد لنا ظاهرة النبيّ يوسف تقول: (وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ * قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الأَْرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) (يوسف: 54 و55).
أنظر بماذا علَّل النبيّ يوسف إمامته في التدبير لذلك النظام، قال: (إِنِّي حَفِيظٌ)، يعني الأمانة العامّة التي هي بدرجة العصمة، والتي تعني العصمة العملية في درجاتها العالية، والعلم يعني العصمة العلمية، وهذا الذي تذهب إليه مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) في أنَّ الإمام يجب أن يتوفَّر فيه شرطا العصمة العلمية والعصمة العملية.
البشرية تعيش الآن أزمة التنظير وتطبيق التنظير في العصمة العلمية، أزمة في تنظير النظام الاقتصادي العادل وأيّ نظام من النظم سواء النظام الرأسمالي أو النظام الشيوعي أو النظام الاشتراكي لم يؤمّن العدالة الكاملة، ولا زال التفاوت والفارق الطبقي الفاحش المجحف للبشرية موجوداً ومتمثّلاً بالفقر البشري، والنظام المصرفي الربوي لا زال يقصم ظهر البشرية، فالبشرية تحتاج إلى تزويدها علماً من السماء على مستوى التنظير، أي العصمة العلمية، والأمانة في التطبيق، وهي العصمة العملية.
وهنا النبيّ يوسف (عليه السلام) عندما يقول: (إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ)، تُثار حول قوله عدّة تساؤلات: فهل أنَّ علم النبيّ يوسف هو تجريبي كسبي، أم علمه لدنّي؟ هل حفظ النبيّ يوسف (عليه السلام) للأمانة في التطبيق حفظ كسبه من رياضة، أم هو حفظ نابع من عصمته في العمل؟ قال تعالى: (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) (يوسف: 24)، إذن هو مخلص من قبل الله تعالى توجد فيه العصمة العلمية والعملية، وهذا التعليم للنبيّ يوسف والتدبير في الأرض بماذا يُعبّر عنه النبيّ يوسف؟ يقول: (إِنِّي حَفِيظٌ)، يعني بما هو عليه من مستوى درجة الحفظ والعلم، وهي العصمة العملية والعصمة العلمية، هذا الحفظ الخاص وهذا العلم الخاصّ في النبيّ يوسف هو الذي يؤهّله لإمامة الأرض ولإمامة البشر، وكذلك يقال: إنَّ القرآن معجز وفيه آيات للسائلين، هذه سورة يوسف كما ابتدأ صدرها بقوله تعالى: (لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ) (يوسف: 7)، أيّ سؤال عقدي تطرحه على سورة يوسف ستجد _ إن شاء الله _ أنت أيّها المسلم أيّها القارئ إجابة شافية وافية فيها، شريطة التدبّر، لا تقرأ القرآن بأهازيج فقط وتغفل التدبّر، حفظ معنى القرآن أعظم من حفظ لفظ القرآن، وإن كان حفظ لفظ القرآن ممدوحاً ومطلوب، لكن ما هو أشدّ طلباً وأشدّ رجحاناً حفظ معنى القرآن، وحفظ بصائر القرآن.
(وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَْرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَْحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (يوسف: 21)، هذا بيان وافٍ من القرآن الكريم حيث مكَّنه الله من القدرة، أنظر كيف يتدرَّج القرآن في تهيئة الأرضية له مهما طال الزمن: مكرهم بيوسف، وإلقاؤه في غيابت الجُبّ، ذلك المكر يجعله الله عز وجل تدبيراً في وصوله إلى البشارة الموعودة من كونه مصلحاً ومنجياً والذي بشَّر بها الله عز وجل النبيّ يوسف في رؤياه: (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً...)، فرغم كيد الكائدين وحسد الحاسدين ومكر الماكرين يجعل الله مكرهم تدبيراً له ويوصله إلى الوعد الموعود، وهذه عبرة من القرآن، لأن لا يفقد المؤمن والمسلم أمله بما وعد به القرآن، (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة: 33)، فنحن نشاهد قوى عظمى متسلّطة فنقول: أيّ إمام وعد به رسول الله، وأيّ وعد وعدنا به القرآن الكريم بقوله عز وجل: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) ونحن مغلوبون على أمرنا؟! كل، لا بدَّ من بقاء هذا الأمر؛ لأنَّ الله غالب على أمره، كما يبشّرنا بهذا الإمام الذي يقوم بإفشاء الصلح وإنشاء العدل والقسط (ليملأها قسطاً وعدلاً)، ويظهر دين جدّه.
نعم، يُمكّن الله له كما مكَّن ليوسف، وقد ضرب لنا القرآن مثلاً وعظة ودرساً ليتّعظ بها المسلمون، (وَلأََجْرُ الآْخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ * وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) (يوسف: 57 و58)، أنظر هذه المحطّة من سورة يوسف، يوسف عرف إخوته، لكنَّهم لا يعرفونه! أخوهم في الصغر لا يعرفونه في الكبر، إذا كان الحال في إخوة يوسف هكذا إذ تعاطوا مع يوسف ودبَّر شؤونهم وتأثّروا به وأثَّر فيهم، وقام بدوره ومسؤوليته فلم يشعروا به، فهل هذا يعدم وجوده؟ كل، فالقرآن الكريم ضرب لنا مثلاً عظيماً يريد به أن يبيّن لنا أنَّ أقرب المقرَّبين لذلك الحجّة الوليّ الغائب وهم إخوته قد رأوه في صغره ولكنَّهم لم يعرفوه في كبره، مثل عظيم جدَّاً يعرضه لنا القرآن الكريم، يقول: إنَّ إخوة يوسف كانوا عقلاء، كما جاء في لسان صادق آل محمّد لبيان هذه العبرة في السورة، قال (عليه السلام):
(إنَّ في صاحب هذا الأمر لشبهاً من يوسف... إنَّ إخوة يوسف كانوا عقلاء ألبّاء أسباطاً أولاد أنبياء دخلوا عليه فكلَّموه وخاطبوه وتاجروه وراودوه وكانوا إخوته وهو أخوهم لم يعرفوه حتَّى عرَّفهم نفسه، وقال لهم: (أَنَا يُوسُفُ)، فعرفوه حينئذٍ، فما تنكر هذه الأمّة المتحيّرة أن يكون الله عز وجل يريد في وقت من الأوقات أن يستر حجّته عنهم، لقد كان يوسف النبيّ ملك مصر، وكان بينه وبين أبيه مسيرة ثمانية عشر يوماً، فلو أراد أن يعلمه بمكانه لقدر على ذلك، والله لقد سار يعقوب وولده عند البشارة تسعة أيّام من بدوهم إلى مصر، فما تنكر هذه الأمّة أن يكون الله يفعل بحجّته ما فعل بيوسف، وأن يكون صاحبكم المظلوم المجحود حقّه صاحبَ هذا الأمر يتردَّد بينهم، ويمشي في أسواقهم، ويطأ فرشهم ولا يعرفونه حتَّى يأذن الله له أن يعرّفهم نفسه كما أذن ليوسف حين قال له إخوته: (أَإِنَّكَ لأََنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ) (يوسف: 90)).(2)
إذن المهدي (عليه السلام) يتردَّد فيما بين الناس ويتصدّى للأحداث ولمصير البشرية ولا نعرفه حتَّى يأذن الله له أن يعرّف نفسه لن، كما أذن ليوسف أن يعرّف نفسه لإخوته.
تلك عِبَر، كلّ لقطة في هذه الآيات القرآنية تقول: إنَّ هناك عِظة وعبرة بالدرجة الأولى عقائدية واعتقادية، فتدبَّروا فيها.
الجهل بالغيبة على مستوى النظرية والتطبيق:
هذه المحطّة التي وصلنا إليها من ظاهرة النبيّ يوسف (عليه السلام) وصلتنا بالعقيدة بالإمام المهدي (عليه السلام)، وهي من أهمّ المحطّات في تلك الظاهرة، حيث إنَّ النبيّ يوسف رغم نبوّته ورسالته وإمامته وخلافته لله في الأرض، وكونه الموعود المصلح المنقذ المنجي، إلاَّ أنَّ من كان يحيط به لم يكن يعرفه لا بنعت النبوّة ولا بنعت الرسالة، ولا بنعت الإمامة ولا بنعت الخلافة، ولا بنعت الموعود والمصلح والمنقذ والمنجي للبشرية في تلك الحقبة، حتَّى أنَّهم كانوا يجهلون تلك النعوت على مستوى النظرية ويجهلونها على مستوى التطبيق، يعني لا يعرفون أنَّ هناك نبيّاً باسم يوسف، فضلاً عن أن يعرفوا أنَّ هذا الشخص الذي يتعاطى معهم ويدبّر عصب الحياة في النظام البشري آنذاك هو النبيّ يوسف، مع ذلك لم تبطل نبوّة النبيّ يوسف ولم تبطل حجّيته ولم يبطل دوره المضطلع به من المسؤولية الإلهية، وكان يتعاطى مع الأحداث المصيرية في تاريخ النظام البشري آنذاك ويتصدّى لها.
هذه وقفة قرآنية تستحقّ النظر جلياً وإمعان الفكر كثير، ولا نتابع هذه القصص وهذه الأحداث إلاَّ بعبر، يجب على قارئ القرآن الكريم أن يستشف من عدسة ومجهر القرآن الكريم بأنَّه حينما يُسلّط الضوء على زاوية من زوايا حياة النبيّ يوسف يجد أنَّه قد يكون غائب، ومع ذلك يقوم بدوره في غيبته ولا تعرفه الناس لا على مستوى النظرية ولا على مستوى التطبيق، يعني لا يعرفونه على مستوى الفكرة ولا يعرفونه على مستوى التعاطي الخارجي، ومع ذلك لا تبطل مناصبه ولا يبطل دوره ولا تبطل حجّيته، ولا ينحسر الناس عن ثمار دوره، بل ينفعهم من حيث لا يشعرون، لذلك نرى القرآن الكريم في بدء ظاهرة النبيّ يوسف عند بدء غيبته عبَّر بهذا التعبير وذلك عندما جعلوه في غيابت الجُبّ: (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (يوسف: 15)، يعني هو يشعر بهم ولا يشعرون به، ومن ثَمَّ نصل إلى هذا المقطع من السورة بعد دهر طويل وأحداث جسيمة مرَّت في حياة يوسف: (وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) (يوسف: 58)، هو إذن يعرف الناس لكنَّهم لا يعرفونه، لكن هذا لا يوجب عدم التعاطي مع دور النبيّ يوسف، فقد كان في صلب الحدث والتصدّي الفعلي وكان يتعاطى مع الناس ويرتبط بهم من دون أن يشعروا بهوية الذي يرتبطون به.
فلا انقطاع بين الناس وبين النبيّ يوسف في غيبته، لأنَّها غيبة شعور به، غيبة معرفة به، لا غيبة وجود، ولا غيبة دور، ولا غيبة التعاطي والارتباط معه، هذا هو المعنى الصحيح لغيبة الحجج وأولياء الله تعالى، وهذا هو من أوّليات البرنامج الأمني الإلهي، وقد أصبح ذلك متّبعاً أيضاً حتَّى في البرامج الأمنية لنظم الدول الحديثة.
(وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) (يوسف: 59)، أنظر كيف هو يعرف أمورهم وأحوالهم ومع ذلك هم لا يفطنون لذلك، هذا الحجاب من الله عز وجل حجاب العلم لا حجاب الوجود، الحجاب الذي يُضرب على وليّ الله الغائب، سواء النبيّ يوسف في غيبته أو النبيّ موسى في غيبته، ليس حجاب عدم رؤية جسمه ووجوده ودوره، بل هو حجاب عن معرفته، وحجاب عن هويته، فهو حجاب العلم، وحجاب المعرفة، وحجاب الشعور، لا الاحتجاب عن أصل وجوده.
وقد يقع الكثير في هذا الخطأ وهو عدم التمييز والتفرقة بين الاحتجاب عن أصل وجوده أو الاحتجاب عن معرفة من هو الموجود ومن لديه ذلك الدور الخطير الذي يقوم ويضطلع بمسؤوليته.
اللقاء بين يوسف (عليه السلام) وأخيه:
(قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ)، فانظر كم بلغ من الرتبة وموقعية التأثير وهو في مقام من الفضل والرفعة البشرية ومع ذلك لا يعرفوه بهويته، (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ * قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ)، بعد ذلك يحدّثنا القرآن الكريم فيقول: (وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا) (يوسف: 59 _ 62)، أنظر إلى ذلك التدبير، فإنَّه يوصل الخير للبشر من دون أن يشعروا به، من دون أن يعرفوا ممَّن وصلهم، كما قيل: (أبى الله أن يجري الأمور إلاَّ بأسبابها)، و(إذا أراد الله شيئاً هيَّأ أسبابه)، فوصول الخيرات للناس له أسباب، وسُنّة الله اقتضت بأن تجري هذه الخيرات عبر الأسباب التي وضعها الله، ومن ضمن تلك الأسباب شبكة وليّ الله في غيبته، حيث يوصل الخيرات للناس عبرها من دون أن يشعروا ممَّن وصلهم هذا الخير، مع أنَّ الرزق والخير كلّه من الله، لكن الله جعل لتلك الخيرات ووصولها قنوات وأسباب، كما جعل المطر والماء لإحياء الأرض، (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) (الأنبياء: 30)، فأصل الخير كلّه من الله عز وجل، ولكن الله يجري الخير على أيدي أوليائه.
ثمّ يأتي قوله تعالى: (اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (يوسف: 62 و63)، إلى أن جاذبوا أباهم يعقوب لأخذ شقيق يوسف من اُمّه، بعد ذلك توصية النبيّ يعقوب بأن لا يدخلوا من باب واحد: (وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) (يوسف: 67)، ثمّ تواصل الآيات: (وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (يوسف: 69)، قد يكون هنا نوع من رفع لستار الغيبة النسبي، يعني قد يتشرَّف بعض المؤمنين بمن هو غائب، فالنبيّ يوسف كان غائباً عن أبيه وعن إخوته وعن كلّ أهل مصر وعن كلّ من يحيط به، وممَّن يأتمر بتدبيره وقيادته، ولكنَّه رفع ستار الغيبة فقط عن أخيه، فتشرّف أخوه بعد رفع الستار عنه، وهذا ممَّا قد وقع طبعاً لجملة من علمائنا الأعلام والأبرار والأخيار الصالحين.(3)
معنى التشرّف برؤية الإمام الغائب (عليه السلام):
تتعرَّض الآية القرآنية في سورة يوسف إلى ستار الغيبة للنبيّ يوسف باعتبار أنَّ موقعية الموعود المصلح ومقامه فرض عليه أن يغيب حتَّى عن أبيه، ويختفي عنه اختفاء علم في تلك البرهة من الغيبة، وقد أذن الله للنبيّ يوسف أن يشرّف أخاه بمعرفته فقط، ممَّا يدلُّ على أنَّ في السُنّة الإلهية يمكن أن يؤذن لوليّ الله وللإمام ولحجّة الله الغائب في تعريف شخصه إلى البعض، قال تعالى: (وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ)، وهذا الإعلام بأنَّه يوسف الغائب الموعود وكونه المصلح المنجي المنقذ الذي كان من قِبَل النبيّ يوسف، إنَّما هو ممَّا أذن الله له، ولم يكن بمعرفة سابقة، وإنَّما تشرّف، (قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (يوسف: 69).
وهذا التشرّف حصل لأخيه من دون بقيّة الناس، حتَّى من دون النبيّ يعقوب (عليه السلام).
هل يفيد اللقاء بالإمام نوعاً من الحجّية؟
من الواضح التشرّف لبعض المؤمنين أو لبعض العلماء والصالحين لا يدوم، وإنَّما يكون مقدار لقاء وفترة وجيزة، فهل هذا بالنسبة إلى بقيّة الناس له مؤدّى اعتبار وحجّية كأن يقوم بدعوى الوساطة مثلاً بين وليّ الله الغائب وبين بقيّة الناس؟
كل، فهذا الأمر منفي، يعني لا حجّية ولا موقعية وساطة بين وليّ الله الغائب وبين بقيّة البشر؛ لأنَّ سُنّة الله جرت، _ كما حدَّثتنا الآيات القرآنية عن غيبة حجج الله وأكَّدت عليها روايات أهل البيت حول غيبة الإمام المهدي (عليه السلام) _ من نفي أيّ صلاحية سفارة أو وساطة أو تمثيل أو نيابة خاصّة، لأنَّ هذه الغيبة ستارها الأمني مستفحل، وهذه الوساطة من وإلى الحجّة لا يدّعيها إلاَّ مفترٍ كذّاب، لأنَّه لا يُخوّل لتلك الموقعية أحد، لاسيّما بعد تصرّم الغيبة الصغرى ودخولنا في الغيبة الكبرى إلى أن يأذن الله بالظهور، والآيات القرآنية في تجويز هذا التشرّف ليس نطاقها إلاَّ إمكان حصول التشرّف، أمَّا أن يكون للمتشرّف برؤية الغائب دور الوساطة فهذا ممَّا لا تثبته الآيات القرآنية، بل وينفيه متواتر روايات أهل البيت (عليهم السلام) في أنَّ من ادّعى الرؤية في زمن الغيبة الكبرى فهو كذّاب مفتر،(4) والمقصود من الرؤية ليس أصل التشرّف المقصود؛ لأنَّ الذي يدّعي الرؤية يريد أن يدّعي الوساطة، ويريد أن يدّعي أنَّه جسر، أو أنَّه سفير، أو أنَّه نائب خاصّ، وما شابه ذلك. فهذه كلّها دعاوى وأكاذيب ليس أمامها إلاَّ الأدلّة المبطلة لها.
بعد ذلك تتابع الآيات الكريمة في ظاهرة النبيّ يوسف: (فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ) (يوسف: 70)، وهنا محطّة لطيفة أخرى أيضاً: (ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ * قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ * قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ * قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الأَْرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ * قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ * قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ * فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) (يوسف: 70 _ 76).
أنظر كيف يكرّر القرآن المرّة بعد الأخرى الإشارة إلى التدبير الأمني الذي يودعه الله لوليّه الغائب والذي هو أرقى من تدبير نظم البشر، فقد تكون تلك النظم فائقة القدرة أمنياً وتدبيرياً وإدارياً وإحاطة بالمعلومات وبالأحداث وبتداعياته، إلاَّ أنَّها تبقى دون مستوى التدبير الإلهي، هذا ما يؤكّده القرآن، حيث يسدّد الله عز وجل وليّه الغائب في اضطلاعه بالمسؤولية وضمان حراسة تدبيره وأدائه لمسؤولية الحجّة، ليكون مصلحاً ومنقذاً للبشرية في غيبته وفي ظهوره، فالتدبير الإلهي نافذ ثابت لا تصل إليه علمية البشر ولا إحاطتهم، لذلك يُعبّر القرآن الكريم: (كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (يوسف: 76).
إذن لا يمكن التساؤل أنَّه كيف يقوم إمام غائب بأدواره ونحن لا نلمسها؟ فهاهي القوى العظمى مع امتلاكها أحدث التقنيات من أقمار صناعية وأشعة فوق البنفسجية، تحت الحمراء وأجهزة تجسّس وتنصّت وشبكات من الغرف والدوائر الأمنية المافيوية العجيبة الداهية الدهياء لا تعرف أين موطنه ولا تقف على وجوده.
وقوله عز وجل: (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (يوسف: 76)، أي إنَّ الله تعالى يرفعه في درجة التدبير وفي درجة الإدارة وفي درجة الحيطة الأمنية، بحيث لا تصل إليه البشرية، فهي أنظمة فائقة على قدرات وتصوّر وتطوّر البشر.
الإنسان عندما يجهل شيئاً عليه أن يقف ويفحص ويتدبَّر، لا أنَّ ينكر ما لا يعلم، وخصيصة المكذّب أنَّه يبني على أنَّ الحقائق هي بقدر علمه، وأنَّ كلَّ شيء تخطّى دائرة علمه فهو باطل، والحال أنَّ أكثر الحقّ في ما يجهله الناس وما ينكرونه، فإنَّ ما لا يعلم الناس بالقياس إلى ما يعلمونه أكثر، بل لا نسبة هناك حتَّى ننسب ما يجهلون بالإضافة إلى ما يعلمون.
هنا القرآن الكريم يؤكّد على أنَّ درجات العلم لا تقف عند حدّ، وأنَّ ما لا يعلمه الناس لا يُسوغ لهم إنكاره، كيف والله عز وجل عنده ما لا يتناهى مع درجة العلم والتدبير والنظم، كيف ينكرون ويكذّبون ما يجهلون، شأنهم شأن من كان قبلهم من الأمم السابقة من إنكار أنبيائهم، والحال أنَّ الإنسان يجب عليه أن يتثبَّت عندما لا يعلم بشيء، فهناك نظم وتدبيرات أمنية واقتصادية وإدارية وقيادية لإدارة البشر من دون أن تصل إليها قافلة العلم البشري، لكن مع ذلك يزوّد الله بها أولياءه.
عرض الأعمال على وليّ الله:
قال تعالى: (قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ) (يوسف: 77)، إذن يتفاعل وليّ الله الغائب في غيبته وحجّته ودوره محوري مع الأمور والأحداث، يصله ما يحزنه وما يفرحه، لا أنَّه قاصي متفرّج لا يتفاعل مع الأحداث ولا يتأثّر بها سلباً وإيجاباً، فقد ورد الخبر بأنَّ أعمالنا تُعرض على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيحزنه إذا رآى اقتراف الطالح منه، ويسرّه إذا رأى الصالح منه،(5) فكيف بوليّ الله الحيّ، أي في دار الدنيا، وإلاَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيّ عند ربّه، فالحال هنا كذلك.
وقوله تعالى: (فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ)، إي إنَّ نبيّ الله ووليّ الله الإمام والخليفة في غيبته يتفاعل مع الأحداث، يتأثّر ويؤثّر، لا أنَّه نائي غارب عازب عن الأمور، حاشا لوليّ الله أن يكون كذلك.
الغيبة والتدبير الإلهي:
بما أنَّ تدبير الله عز وجل يفوق تدبير البشر، حيث إنَّه تعالى يزوّد البشر بالعلم والإحساس والشعور والإدراك، فخالق الإدراك والإحساس والشعور يحيط بتلك الأمور بما لا تحيطه يد البشر، ومن هذا المنطلق فإنَّ التدبير الإلهي ومن خلال رجال الغيب يقوم بإصلاح وإدارة البشر في ظلّ ستار غيبة الشعور بهم وستار حجاب العلم بهم من دون أن يكون هناك ستار عن أصل وجود الحاضر، فالإمام يتعاطى الحدث وإدارة وتدبير البشر والنظام البشري، وهو معنا من دون علم أو معرفة به لكن بهويته وبكيفية دوره، هذا الأمر يؤكّد عليه القرآن دائماً كما مرَّ بنا في سورة القصص وسور أخرى حول ظاهرة النبيّ موسى، وكذلك في سورة النبيّ يوسف (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَْرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَْحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (يوسف: 21)، فأكثر الناس لا يعلمون بكيفية غلبة الله في تدبير الأمور ويقيسون قدرة الله بقدرتهم، أو قدرتهم بقدرة الله، ومن ثَمَّ يجهلون، ومن ثَمَّ ينكرون، ومن ثَمَّ يكذّبون بآيات الله وبحججه، وهذا أمر يجب أن يتوقَّف عنده المسلمون وأن لا يسارعوا إلى الإنكار بمجرَّد إثارة بعض الجاهلين لقدرات الله وآياته.
بعد ذلك تواصل سورة يوسف قصّ حدث غيبة النبيّ يوسف عندما استخلص أخاه، وأذن في أن يتعرَّف عليه دون بقيّة الناس حتَّى أبيه النبيّ يعقوب، (مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ * فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا)، أي إخوة يوسف من أخذ أخيهم الذي كان معهم، الذي هو شقيق يوسف (خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَْرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ * ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ * وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ * قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (يوسف: 79 _ 83)، أنظر هذا المقطع في ظاهرة غيبة النبيّ يوسف الذي يسجّله لنا القرآن الكريم في موقف النبيّ يعقوب، وهو أنَّ النبيّ يعقوب لم ييأس من روح الله، عن ظهور المصلح المنجي المنقذ الموعود وهو ابنه، رغم طول الغيبة، رغم يأس إخوته وذويه وأهله، ويأس الناس ممَّن يعرفونه فضلاً عمَّن لم يعرفه ويجهل أمره، أنَّه سيظهر ويكون له موقعية الإصلاح في الأرض في تلك الحقبة الزمنية، فهذا درس اعتقادي وعقدي يسطّره لنا القرآن الكريم بأنَّه مهما طالت غيبة وليّ الله المصلح الموعود لإنقاذ البشرية لا يدعو ذلك المؤمن والمسلم لليأس من روح الله (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) (يوسف: 87)، (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) (يوسف: 83 و84)، بعد ذلك في آية أخرى يقول: (يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) (يوسف: 87).
الهوامش:
(1) منهم: العلاّمة الشيخ شمس الدين محمّد بن طولون الدمشقي الحنفي في (الشذرات الذهبية في تراجم الأئمّة الإثنى عشرية/ ص 117/ ط بيروت)، قال: (ثاني عشرهم ابنه - أي العسكري (عليه السلام)- محمّد بن الحسن وهو أبو القاسم محمّد بن الحسن بن علي الهادي إلى آخر الأئمّة الاثني عشرية، وكانت ولادته (رضي الله عنه) يوم الجمعة منتصف شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين، ولمَّا توفّي أبوه المتقدّم ذكره رضي الله عنهما كان عمره خمس سنين).
ومنهم: العلاّمة كمال الدين محمّد بن طلحة الشامي الشافعي في (مطالب السؤول/ ص 89/ ط طهران)، قال: (الباب الثاني عشر في أبي القاسم محمّد بن الحسن الخالص بن علي المتوكّل بن محمّد القانع بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمّد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين الزكي بن علي المرتضى بن أبي طالب المهدي الحجّة الخلف الصالح المنتظر عليهم السلام ورحمة الله وبركاته...، إلى أن قال: فأمَّا مولده فبسُرَّ من رأى في ثالث وعشرين شهر رمضان سنة ثمان وخمسين ومائتين للهجرة، وأمَّا نسبه أباً واُمّاً فأبوه محمّد الحسن الخالص بن علي المتوكّل بن محمّد القانع ابن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمّد الباقر بن علي زين العابدين ابن الحسين الزكي بن علي المرتضى أمير المؤمنين. واُمّه اُمّ ولد تسمّى: صقيل، وقيل: حكيمة، وقيل غير ذلك. وأمَّا اسمه محمّد وكنيته أبو القاسم، ولقبه الحجّة والخلف الصالح، وقيل: المنتظر).
ومنهم: العلاّمة ابن خلكان في (وفيات الأعيان/ ج 1/ ص 571/ ط بولاق بمصر)، قال: (في ذكر محمّد بن الحسن المهدي: وكانت ولادته يوم الجمعة منتصف شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين، وذكر ابن الأزرق في (تاريخ ميافارقين) أنَّ الحجّة المذكور ولد تاسع عشر ربيع الأوّل سنة ثمان وخمسين ومأتين، وقيل: في ثامن شعبان سنة ستّ وخمسين، وهو الأصحّ).
ومنهم: العلاّمة سبط ابن الجوزي في (تذكرة الخواص/ ص 204/ ط طهران)، قال: (محمّد بن الحسن بن علي بن محمّد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وكنيته أبو عبد الله وأبو القاسم، وهو الخلف الحجّة صاحب الزمان القائم والمنتظر والتالي، وهو آخر الأئمّة. وقال: ويقال له: ذو الاسمين محمّد وأبو القاسم، قالوا: اُمّه اُمّ ولد يقال لها: صقيل).
ومنهم: العلاّمة ابن الصباغ المصري في (الفصول المهمّة/ ص 274/ ط الغري)، قال: (ولد أبو القاسم محمّد الحجّة بن الحسن الخالص بسُرَّ من رأى ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين للهجرة. وأمَّا نسبه أباً واُمّاً فهو أبو القاسم محمّد الحجّة بن الحسن الخالص بن علي الهادي بن محمّد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمّد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم أجمعين. وأمَّا اُمّه فاُمّ ولد يقال لها: نرجس خير أمَة، وقيل اسمها غير ذلك. وأمَّا كنيته فأبو القاسم. وأمَّا لقبه فالحجّة والمهدي والخلف الصالح والقائم والمنتظر وصاحب الزمان وأشهرها المهدي).
ومنهم: العلاّمة ابن حجر الهيتمي في (الصواعق/ ص 124/ ط مصر)، قال: (ولم يخلف غير ولده أبي القاسم محمّد الحجّة، وعمره عند وفاة أبيه خمس سنين لكن آتاه الله فيها الحكمة، ويسمّى: القاسم المنتظر، قيل: لأنَّه ستر بالمدينة وغاب، فلم يعرف أين ذهب).
ومنهم: العلاّمة الشيخ عبد الله بن محمّد بن عامر الشبراوي الشافعي المصري في كتابه (الاتحاف بحبّ الأشراف/ ص 68/ ط مصر)، قال: (ولد الإمام محمّد الحجّة ابن الإمام الحسن الخالص (رضي الله عنه) بسُرَّ من رأى ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين قبل موت أبيه بخمس سنين، وكان أبوه قد أخفاه حين ولد وستر أمره لصعوبة الوقت وخوفه من الخلفاء، فإنَّهم كانوا في ذلك الوقت يتطلَّبون الهاشميين ويقصدونهم بالحبس والقتل ويريدون إعدامهم. وكان الإمام محمّد الحجّة يلقَّب أيضاً بالمهدي والقائم والمنتظر والخلف الصالح وصاحب الزمان وأشهرها المهدي).
وغيرهم من أعلام العامّة ممَّن يضيق المقام هنا بذكرهم جميع، ولمن أراد المزيد فليراجع: شرح إحقاق الحقّ 13: 87 - 97.
(2) الغيبة للنعماني: 167/ ح 4.
(3) للإمام (عليه السلام) غيبتان: صغرى، وكبرى، كما جاءت بذلك الأخبار عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، أمَّا الغيبة الصغرى فمن ابتداء إمامته إلى انقطاع السفارة بينه وبين شيعته بوفاة السفراء الأربعة رضي الله عنهم وعدم نصب غيرهم، ففي هذه الفترة كان السفراء يرونه وربَّما رآه غيرهم ويصلون إلى خدمته وتخرج على أيديهم توقيعات منه إلى شيعته في أمور شتّى. وقد رويت في معنى ذلك روايات تضمَّنتها مصادرن، كما أفردوا لذلك أبواب، كما في: (الكافي 1: 329/ باب في تسمية من رآه/ ح 1 - 15؛ وكمال الدين: 434/ باب 43: ذكر من شاهد القائم (عليه السلام) ورآه وكلَّمه/ ح 1 - 26).
وأمَّا الغيبة الكبرى فهي بعد الأولى إلى أن يقوم بإذن الله تعالى. وقد تشرَّف برؤيته لفيف من علمائنا الأبرار، أو من الصلحاء الثقات الذين بلغوا من الزهد والتقوى والسداد محلاً لا يحتمل فيهم عادةً تعمّد الكذب والخط، وقد اُلّفت في ذلك كتب أشهرها كتاب (جنّة المأوى في ذكر من فاز بلقاء الحجّة (عليه السلام)) للعلاّمة الميرزا حسين النوري الطبرسي (قدس سره).
(4) لمَّا دنا أجل السفير الرابع الشيخ علي بن محمّد السمري (قدس سره)، قيل له: إلى من توصي؟ فأخرج لهم توقيعاً نسخته: (بسم الله الرحمن الرحيم، يا علي بن محمّد السمري، أعظم الله أجر إخوانك فيك، فإنَّك ميّت ما بينك وبين ستّة أيّام، فاجمع أمرك ولا توص إلى أحد يقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة الثانية فلا ظهور إلاَّ بعد إذن الله عز وجل، وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب، وامتلاء الأرض جوراً، وسيأتي شيعتي من يدّعي المشاهدة، ألا فمن ادّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كاذب مفتر، ولا حول ولا قوّة إلاَّ بالله العلي العظيم). (كمال الدين: 516؛ الاحتجاج 2: 297).
(5) روى سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: (ما لكم تسوؤن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!)، فقال له رجل: كيف نسوؤه؟ فقال: (أمَا تعلمون أنَّ أعمالكم تُعرض عليه، فإذا رأى فيها معصية ساءه ذلك، فلا تسوؤا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسرّوه). (الكافي 1: 219/ باب عرض الأعمال على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة (عليهم السلام)/ ح 3).
وعن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأصحابه: (حياتي خير لكم تحدّثون ونحدّث لكم، ومماتي خير لكم تعرض عليَّ أعمالكم فإن رأيت حسناً جميلاً حمدت الله على ذلك، وإن رأيت غير ذلك استغفرت الله لكم). (بصائر الدرجات: 464/ باب 13/ ح 4).
******************
طول الغيبة مدعاة لليأس عند ضعاف القلوب:
في هذه السورة محطّة أخرى مهمّة وهي أنَّ تطاول غيبة وليّ الله الموعود بالبشارة لكونه مصلحاً ومنقذاً للبشرية، هذا التطاول في الغيبة مدعاة لليأس عند ضعاف الإيمان أو ضعاف العقول التي لا تدرك مدى قدرة الله، ولا تستيقن بحقيقة المعرفة والإدراك من أنَّ الله غالب على أمره مهما تطاولت الدهور والعصور، فيحصل لهم اليأس، لذا تؤكّد هذه الآية أنَّه من عظائم الإيمان الانتظار والأمل بمجيء الفرج، لأنَّ اليأس من روح الله جعل في لسان هذه الآية على لسان النبيّ يعقوب في مصاف الكافرين، فإذن تطاول المدّة لا يعني بأنَّ الله عز وجل في تدبيره على يد وليّه الغائب جعل الأمور أو الحبل على الغارب، بل كلَّما كان هنالك تدبير كانت هناك خطوات متناسقة متّسقة لا يطلع الله عباده على تدبيره ولا على تنسيقه، ونحن نشاهد في هذه الأزمنة الآن أنَّ البشرية ترفع وتنادي بشعارات وأدبيات لا تنسجم مع الإنجيل المحرّف، ولا تنسجم مع التوراة المحرَّفة، ولا تنسجم مع البوذية ولا تنسجم مع الفلسفة المادّية الرأسمالية، وإنَّما تنسجم مع أدبيات وعقائد الإسلام، لاسيّما من رؤية مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، فالنظام العالمي الواحد يعني أنَّ البشرية تتساوى في الحقوق، وأنَّ العدالة يجب أن تعمّ البشر، وأنَّ الحرّية يجب أن تكون عميمة في سائر أرجاء الأرض و...، وهذه في الواقع ثوابت العقيدة المهدوية أصلاً، والرؤية والعقيدة بالإمام المهدي أنَّه يؤسّس نظاماً عالمياً واحداً تستوي فيه حقوق الناس لا يحكمه العرق ولا القومية ولا أيّ شيء آخر يكون موجباً للتفريق بين البشر (يملأها قسطاً وعدلاً)، أنظر هذه الأدبية، فهي من أربعة عشر قرناً يردّدها المسلمون في رواياتهم حول المهدي (عليه السلام).
وحتَّى الدول الغربية التي لو راجعنا فلسفاتهم في الإنجيل المحرّف أو التوراة المحرّفة، تلك الأدبيات التي لا تنسجم ولا تتناغم حتَّى مع أعرافهم التي هم يتعايشون ويبنون عليها أعرافاً قانونية لا تتناغم مع هذه الشعارات التي تطلق الآن، وهي جذّابة أخّاذة بقلوب البشر وبكلّ الجوامع والمجتمعات البشرية. إنَّما هذه في الواقع رؤى وأدبيات العقيدة المهدوية، فهناك حلقات يديرها الله عز وجل تترى ويتلو بعضها البعض، وهذه محطّة مهمّة تدعونا إلى التوقّف عندها، ومن ثَمَّ ورد عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أنَّ: (انتظار الفرج من الفرج)(1)، و(أفضل أعمال أمّتي انتظار الفرج من الله عز وجل)(2)، لماذا؟
لأنَّ انتظار الفرج يحمل في طيّاته تمام الاعتقاد بقدرة الله عز وجل وبغابر تدبيره وثاقب أمره، ونافذ قضائه الذي لا يحيط به البشر، في الحقيقة يعني نوعاً من التعايش التوحيدي لقدرة الله تعالى، أمَّا الذي يكذّب وينكر تدبير وجود وليّ الله (عليه السلام) وأنَّه في كبد الحدث والتصدّي لهذه الأدوار، وأنَّ الله سيظهره في حلقة نهائية، فهو انقطاع عن الحالة التوحيدية بالدرجة المشبعة التي يتعايش بها قلب الإنسان.
إنَّ الإنسان إذا استطاع أن يتعايش مع جوّ توحيدي مفعم كما تعبّر عنه وتربّينا عليه هذه الآيات الكريمة في ظاهرة غيبة النبيّ يوسف، كقوله تعالى: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (يوسف: 83)، وقوله: (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ * يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) (يوسف: 86 و87)، فالصبر تارة يكون جميلاً وتارة يكون غير جميل، الصبر الجميل الذي يكون مع وقار وطمأنينة واستبشار، ولربَّما هناك صبر مع معان اُخر، فرغم غيبته وطولها إلاَّ أنَّه موعود بالبشارة.
فهذه محطّة مهمّة توجب على الأمّة أن لا تيأس ولا يصيبها الهوان إذا غاب عنها وليّها، بل مهما طالت غيبة حجج الله المبشَّرين بأنَّهم سيكونون المصلحين والمنقذين للبشر، لأنَّ غيبتهم غيبة الشعور بهم، غيبة المعرفة بهم، سواء قصرت هذه الغيبة أم طالت فلا بدَّ أن يأتي ذلك اليوم الذي يأخذ به الأولياء المغيَّبون دورهم الطبيعي العلني وبشكل شامل يعمّ البشرية.
هذه وقفة مهمّة في غيبة النبيّ يوسف يعظنا بها القرآن الكريم، وهي غيبة عقائدية وممارسة أخلاقية وأدبية هامّة جدَّاً، وأيضاً الآيات الأخرى، يقول تعالى: (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ) (يوسف: 84 و85)، يخاطبون يعقوب ألا زلت إلى الآن تذكر يوسف الموعود؟ إلى الآن متعلّق قلبك بهذا الغائب المبشّر بأن يكون مصلحاً وموعوداً وممكّناً في الأرض؟ إلى الآن مع طول هذه المدّة؟ هذا أمر مهمّ يجب أن نلتفت إليه، حيث قصَّ لنا القرآن الكريم موقف النبيّ يعقوب: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً)، (يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ)، كما يعلّمنا النبيّ يعقوب (عليه السلام) وظيفة المؤمن تجاه حجّة الله الغائب، ووليّ الله الموعود بأنَّه المصلح المنقذ للبشرية، لا بدَّ أن تكون هناك شدّة تعلّق وشدّة تذكّر وشدّة ندبة للحقّ والإيمان؛ لأنَّ هذا الإيمان بوليّ الله الغائب ومعرفتنا به لا يبقى ولا يستمرّ إلاَّ في ظلّ التشديد والتركيز من التعلّق والأمل، لذلك نرى هنا الآيات الكريمة تركّز على هذه النقطة من مواقف النبيّ يعقوب (عليه السلام) في ظلّ غيبة النبيّ يوسف، وهنا يعلّمنا القرآن الكريم الموقف تجاه وليّ الله الغائب ومعرفتنا به، الغائب شعورنا به وبهويته، أنَّه لا يدعونَّكم ذلك إلى الانقطاع والفتور عن ذكره والتعلّق به والدعاء له بالفرج، فلا بدَّ من كلّ ذلك، فقد ورد عن مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) دعاء الندبة الذي يستحبّ قراءته كلّ جمعة، بل كلّ عيد، بل كلّ يوم، لماذا؟ لأنَّ الندبة دعاء وشكوى وتعلّق. وإذا كان لكلّ إمام من الأئمّة (عليهم السلام) مجلس عزاء لما انتابه من مصائب وقتل وظلم وتشريد وأنواع المصائب، فإنَّ مجلس مصاب الحجّة (عليه السلام) هو شدّة معاناة الغيبة، فدعاء الندبة يحمل عدّة معانٍ في طيّاته، فهو مجلس عزاء لهذه المصائب التي ابتلي بها إمامنا المهدي الحجّة ابن الحسن (عليه السلام)، فيجب أن نقيم مثل هذا العزاء في الواقع.
أوَلا نرى ماذا يحدّثنا القرآن الكريم وكيف يربّينا على التعلّق بمن نعتقد ونؤمن به، إذ لا تخلو الأرض من خليفة لله، بنصّ القرآن الكريم حيث يقول: (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) (آل عمران: 7)، وأهل البيت هم الراسخون في العلم الذين يعلمون تأويل الكتاب، وهم قرناء القرآن دائماً وأبداً بنصّ قوله تعالى: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ) (الواقعة: 77 _ 79)، وهم المطهَّرون لقوله تعالى: (إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (الأحزاب: 33)، فإذن أهل البيت مقرونون بالقرآن، ولا بدَّ من وجود فرد منهم مع البشرية إلى يوم القيامة ويبقى ما بقي القرآن الكريم.
فالاعتقاد بهذه الحقائق والعقائد القرآنية لا بدَّ أن يرتسم ويتجسَّد في سلوكنا، وذلك من خلال التعاطي مع هذه الحقائق الإيمانية القرآنية من وجود خليفة لله في الأرض على مرّ الزمان من بدء الخليقة إلى منتهاها يُزوّد بالعلم اللدنّي وهو علم الأسماء، وكثير ممَّا تطالعنا به الآيات القرآنية (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) (الرعد: 7)، فلكلّ قوم هادٍ من الله يهديهم، (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) (الفاتحة: 6 و7)، أولئك هم الهداة المبعوثون المنصوبون من قِبَل الله تعالى لهداية البشرية، هذه حقائق وعقائد قرآنية لا نتخلّى عنها، بل نستمسك بها، وهي في أهل بيت نبيّه الذين طهَّرهم وجعلهم قرناء في سورة الواقعة مع الكتاب المكنون: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ)، هذه العقائد كيف تترجم في سلوكنا العملي؟ يعلمنا القرآن الكريم هنا ما قام به النبيّ يعقوب تجاه النبيّ يوسف الغائب: (قَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ)، يظهر التحسّر، كما نقرأ في دعاء الندبة من إظهار الشكوى وإظهار التأسف: (هَلْ قَذِيَتْ عَيْنٌ فَسَاعَدَتْهَا عَيْني عَلَى الْقَذَى، هَلْ إِلَيْكَ يَا ابْنَ أحْمَدَ سَبِيلٌ فَتُلْقَى)، أنظر هذه التربية من مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، هي سُنّة من القرآن الكريم، من النبيّ يعقوب تجاه النبيّ يوسف، هذه السنن الإلهية (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُِولِي الأَْلْبابِ) للمؤمنين وليس للمكذّبين اليائسين القانطين من قدرة الله ومن روح الله، سنن إلهية نتَّعظ بها ونتدبّره، (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) (محمّد: 24)، (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (القمر: 17)، أنظر إلى موقف النبيّ يعقوب المؤمن بوعد الله وبإنجاز ذلك الوعد في المصلح، لا يُحبـِط من إيمانه استهزاءُ المستهزئين، ولا يضعف من يقينه ولا من أمله تكذيبُ المكذّبين واستهزائهم، (وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) (يوسف: 84)، لاحظ هنا التشوّق إلى أن عميت عيناه.
الغريب أنَّ البعض يأخذ علينا إظهارنا لمودّة أهل البيت والعزاء على مصائبهم، ويتناسون أنَّ القرآن أمرنا بهذه الفريضة العظيمة: (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (الشورى: 23)، وفسَّر القرآن الكريم المودّة في سورة التوبة بأنَّها في مقابل العداوة، لتعرف الأشياء بأضداده، فعندما يفسّر العداوة يكون القرآن قد فسَّر لنا المودّة، (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ) (التوبة: 50)، فإذا كان يعادي النبيّ وأهل بيته فهو يفرح عند مصابهم، ويستاء عندما تصيبهم حسنة.
فالمودّة هي: (يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا)(3)، وهذه فريضة عظيمة قد أمرنا بها القرآن الكريم، فانظر مودّة النبيّ يعقوب للغائب ابنه الذي هو الموعود المُنجي للبشر، حيث بلغ منه الحزن والتعلّق والتشوّق إلى وليّ الله إلى أن تبيضّ عيناه ويعمى. فهل نستكثر البكاء والرثاء على سيّد الشهداء (عليه السلام) سبط المصطفى وريحانة النبيّ وسيّد شباب أهل الجنّة، أو نستكثر عليه اللطم وإظهار الجزع!؟ فهذا النبيّ يعقوب هكذا فعل بنفسه تجاه ولده، وهم كذلك يستكثرون علينا أن نتعلَّق بشدّة بالإمام المهدي وإظهار الندبة والحزن لفقده، فمع علم يعقوب بأنَّ ابنه الغائب يقوم بتلك الأمور والأدوار المفصلية في نظام البشر، إلاَّ أنَّه قال: (يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ)، ولكنَّ المستهزئين والمهرّجين قالوا: (تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ)، يعني أنت إلى الآن متعلّق به! إلى الآن مؤمن به! إلى الآن لك أمل به! (حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ * قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ)، أعلم من الله بأنَّ هذا الوعد بعلم من الله، ورؤيا الأنبياء وحي، والوحي من الله لا يكذب ولا يكذّب أنبياءه، (يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ).
فهذا موقف مهمّ لوظائف المؤمنين بحجّة الله الغائب في زمن الغيبة، أن لا يضعف إيمانهم ولا يضعف تعلّقهم ما داموا على برهان وبيّنة من ربّهم، وأنَّ هذا الأمر وهذا التعلّق وهذا الانشداد إلى وليّهم الغائب لا يؤثّر فيه استهزاء المستهزئين أو تهريج المكذّبين الذين لا يعون آيات الله وبيّناته وحقائقه القرآنية.
دروس تربوية من سورة يوسف:
النبيّ يعقوب (عليه السلام) كان أمله وطيداً وشديد، وذلك ليقينه بروح الله وبقدرته وأنَّه لا يخلف وعده.
هذه كلّها دروس في إثبات انتظار الفرج، وأنَّ انتظار الفرج أفضل أعمال هذه الأمّة كما ورد في الحديث النبوي، وأيضاً نلاحظ هناك درساً تربوياً آخر يذكره القرآن الكريم في مواقف النبيّ يعقوب، ألا وهو شدّة تعلّقه وانشداده بابنه الغائب الموعود بكونه المصلح المنجي المنقذ للبشرية، فمن شدّة تعلّقه به أن وصل به الأمر إلى كثرة البكاء، وكثرة البكاء جرَّت إلى ابيضاض العين وهو عمى العين، ممَّا يدلّل على أنَّه يُفتدى في حبّ الأولياء والحجج، ويُسترخَص في سبيل الفضيلة كلّ غالٍ ونفيس.
بل ويعظم ويكرم من شأنه أن يبذل في سبيل الفضيلة، فكيف بمن حثَّ الله على مودّتهم وهم قربى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وجعَلَها عدل أجر الرسالة كما مرَّت بنا الآية الكريمة، ممَّا يدلّل على أنَّ هذه الشدّة من التعلّق مؤكّدة وموطّد لها كما في سنن الأنبياء هو هذا التعلّق من النبيّ يعقوب بالنبيّ يوسف ليس تعلّقاً لمجرَّد قدرة الخيال ومراحل الواهمة أو إسطورية الخيال وما شابه ذلك، بل هذه عبر وسنن أرادها الله عز وجل أن يستنّ بها الآخرون، إذ هو أن نقتدي بها من النبيّ يعقوب في كيفية تعلّقه وحبّه بالوليّ الغائب الموعود وهو وليّ الله وحجّته في ذلك الزمن وفي تلك الحقبة لإنجاء البشرية، وهذا درس تربوي، وهو أنَّ هذا الإنشداد ولو بلغ إلى ابيضاض العين فهو محمود وهذه فضيلة وهذه مكرمة وكرامة، فكيف بالمودّة التي قد أعظم الله في بيانها حيث جعلها عدل الرسالة التي فيها التوحيد وفيها النبوّة وفيها المعاد وفيها أصول الدين حيث جعلها في كفّة وجعل مودّة أهل البيت (عليهم السلام) في كفّة.
وهذا بيان وتعظيم كبير للمودّة، فهي فريضة لا تعدلها بقيّة الفرائض بعد التوحيد والنبوة والمعاد، فريضة المودّة لذي القربى وهم أهل البيت، وهذا نوع من التشديد في بيانها وفي اقترانها، وقد بيَّن القرآن أنَّ من شواكل المودّة اشتداده، كالذي جرى بين النبيّ يعقوب والنبيّ يوسف، فإنَّ من يريد أن يفهم سنن الله في أنبيائه والعبر التي يوحي بها القرآن الكريم ليعلم بأنَّ هذا الدرب محمود العاقبة رفيع الفضيلة وهو الذي أوصى به القرآن الكريم، فليس عليه من ذمّ الذامّين أو شنئ الحاقدين والمبغضين بعد ذلك من غضاضة، وهذه الوظيفة في الواقع هي التعلّق بالإمام المهدي الغائب (عليه السلام)، كيف لا وهو آخر العترة من ذوي القربى، المأمورون نحن بمودّتهم وبالتعلّق بهم والاعتقاد بهم.
الظهور بعد الغيبة للنبيّ يوسف (عليه السلام):
بعد ذلك تتواصل ظاهرة النبيّ يوسف، قال تعالى: (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ * قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ * قالُوا أَإِنَّكَ لأََنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (يوسف: 88 _ 90)، هذه المحطّة من ظاهرة النبيّ يوسف التي هي نهاية الغيبة وبداية الظهور المعلن واكبت مرفقاً مهمّاً جرى بين النبيّ يوسف وإخوته والملأ العامّ، حيث إنَّ النبيّ يوسف استهلَّ ظهوره وابتدأه بتذكير إخوته بالذي جرى منهم من قبل، هذا التعبير يشاكل ما ورد في الروايات عن ظهور المهدي (عليه السلام)، حيث يذكّر الأمّة بما قد جرى على سيّد الشهداء وما جرى على أهل البيت (عليهم السلام) من ظلامات وجرائم ونهب حقوق وجرأة على مقامهم ودفعهم عن المقامات التي رتَّبها الله لهم، واستعراض لمصائب وظلامات أهل البيت (عليهم السلام).(4)
هذا الواقع يسطّره لنا القرآن الكريم عن يوسف وعن الإمام المهدي، وما ورد في الروايات هو نوع من بيان أنَّ الاستحقاقات تستوفى في ظلّ ظهور المصلح المنجي المنقذ.
(قالُوا أَإِنَّكَ لأََنْتَ يُوسُفُ)، فهم لم يكونوا ليعرفوا أنَّه يوسف، رغم تعاطيهم معه ومداولة الحديث معه وتأثّرهم بتدبيره ودوره العصيب الخطير المهمّ، ومع ذلك لم يكونوا ليعرفوه لولا أن عرَّفهم هو بنفسه وبشخصيته وهويته، فكانت غيبة ظهور لشخصيته، غيبة ظهور لهويته، بالنسبة إليهم هو حاضر بين أيديهم يمارس دوره، لكنَّهم لم يكونوا يعرفونه، فهويته لهم كانت غائبة.
نلاحظ أنَّهم ابتدأوا: (أَإِنَّكَ لأََنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ)، فإنَّ بداهة حضور النبيّ يوسف الغائب عليهم أكثر بياناً ووضوحاً وبداهة لهم ممَّا يحملونه من مرتكزات سابقة، ممَّا يدلّل على أنَّ مثل هذه الغيبة في الحضور هي بنحو واضح بيّن فاعل مع كلّ الأمور، غاية الأمر تطبيقهم لمن هو حاضر لهم ومتفاعل معهم وهم متفاعلون مع ما يحملونه من اعتقاد نظري، هذا الانفراج بالمعرفة لا يحصل إلاَّ عند الظهور، فهنا وصل المطاف إلى إعلان ظهور النبيّ يوسف (عليه السلام)، وظهوره كما نشاهده تدريجي، حيث إنَّ أوّل ما بدأ ظهور النبيّ يوسف كان في دائرة إخوته الحاضرين من الملأ من البشر عنده في مصر، ثمّ بعد ذلك تنامى هذا الظهور وتسامع به الناس ومن ثَمَّ أبوه النبيّ يعقوب، وهذا يدلُّ على أنَّ الغيبة كما كانت في النبيّ يوسف تدريجية كذلك يكون ظهوره تدريجي، وهنا جاء تعبير النبيّ يوسف (عليه السلام) في الصبر على طول مدّة الاضطهاد فإنَّ أجره عند الله تعالى لن يضيع، (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ * قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (يوسف: 90 _ 92)، وهذا ما قد قاله سيّد الرسل عندما فتح مكّة، نعم كان منه الصفح والعفو، وهذا ما سيكون عليه الإمام المهدي (عليه السلام) إذ يسير بسيرة جدّه المصطفى في العفو، ومن أصرَّ من الأعداء المعاندين في اللجاج والخصومة فتكون سيرته معهم بشكل آخر، وإلاَّ فالأصل في سيرة المهدي (عليه السلام) أنَّه يسير بسيرة جدّه المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإن كان قد ورد أنَّ المصطفى بُعث رحمة والمهدي بُعث نقمة،(5) فالمقصود من ذلك أنَّه يسير بسيرة جدّه يعفو ويصفح، لكن من يركب رأسه اللجاج والعناد ينتقم منه ولا يكون له مهلة كما قد كان في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
الأسباب الملكوتية:
قال تعالى: (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) (يوسف: 93)، يبيّن القرآن الكريم هنا أيضاً أنَّ النبيّ يوسف وأولياء الله يقومون بتدبير أدوارهم في جملة من المواقع بالأسباب الطبيعية، لكنَّه بتدبير نظمي ربّاني يفوق وعي البشر وعلمهم، ولكنَّه بأسباب طبيعية وبأسباب مجريات كما قيل: (أبى الله أن يجري الأمور إلاَّ بأسبابها)، ولكن لهم أيضاً في جملة تدبيرهم من الأسباب الخفية أو ربَّما يطلق عليها بأسباب الملكوت، فهنا ليست بمقام الإعجاز أو في مقام الاحتجاج، بل هي كرامة، لكنَّها كرامة تدبيرية في أدوار النبيّ يوسف خارجة عن ظاهر الأسباب الطبيعية.
(وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأََجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) (يوسف: 94)، يستعظم أكثر من يخلد إلى الحسّ وسجن الحسّ وأصالة الحسّ والمادة مثل هذه الظواهر أو يتنكَّر لمثل هذه الموارد، وربَّما يصعب عليه الإذعان به، (قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ * فَلَمَّا أَنْ جاءَ) (يوسف: 95 و96)، لاحظ أنَّه لا زال الذين يستهزئون بالانتظار للفرج في خصومتهم ومشادتهم ومواجهتهم لعقيدة الانتظار للفرج التي كان رسَّخها وسنَّها النبيّ يعقوب، عقيدة الانتظار والأمل بوليّ الله المصلح الغائب ظهوراً وليس الغائب حضور، فهم يعتبرونه ضلالاً، وهذه دروس قرآنية عظيمة تعطى للمؤمنين. مفادها أنَّ رغم استهزاء وتهريج المكذّبين والمنكرين لآيات الله ولحقائق القرآن في وجود المصلح المنقذ المنجي للبشرية الذي (يُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ)، هذا الوعد الإلهي والإيمان به لا يزلزله ذلك التهريج وذلك الاستنكار وتلك الخصومة وتلك المعاداة عن هذه العقيدة القرآنية بظهور المصلح المنجي المنقذ الموعود الذي يملأها قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً.
بعد ذلك تسرد لنا الآيات: (فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (يوسف: 96)، هذا تذكير من المنتظرين للفرج بظهور الوليّ المصلح الحجّة لأولئك الناكرين الجاحدين المستهزئين، (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ)، هنا يأتي دور إخفاق المكذّبين، (قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ * قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ * وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ) التي هي البشارة بالتمكين والظهور بعد الغيبة والتمكين لإصلاح الأرض من الفساد الذي كان ربَّما يعصف بالبشرية لولا تدبير النبيّ يوسف (عليه السلام)، (مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَْحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالأَْرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالآْخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (يوسف: 97 _ 101)، الآيات الكريمة تواصل أخذ العبر من ظاهرة النبيّ يوسف وتأتي إلى هذا المقطع: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَْرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الآْخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ) (يوسف: 109)، تطرح آخر الآيات من سورة النبيّ يوسف مقطعاً مهمّاً جدَّاً وهو: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا)، أنظر السُنّة الإلهية أنَّه قد يطول الأمد في تحقيق الأمل الإلهي الموعود، ولكن لا يوجب ذلك الأياس ولا اليأس من روح الله، لماذا؟ لأنَّه في النهاية (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ) إذا انقطعت القدرة البشرية يكون هناك رحمة من الله عز وجل.
مجمل سيرة النبيّ يوسف وظاهرة المصلح المنجي الذي غاب في بدء حياته وترعرع إلى أن ظهر للتمكّن في الأرض، تريد أن تعطي هذا الدرس، وهو أنَّ الأمل الموعود من قِبَل الله في بشائره، كما هو بشارة لهذه الأمّة الإسلاميّة أن يظهر هذا الدين على الكرة الأرضية كافّة، ولن يتحقَّق هذا الوعد على يد أحدٍ غير أهل البيت، حيث إنَّ الدين بدأ بأهل البيت (عليهم السلام) بالنبيّ ونصرة علي، وتدبير النبيّ وابن عمّه علي، بهم بدأ الإسلام وبهم يختم، هذا الوعد الإلهي لأن يظهر دينه على الدين كلّه ولو كره المشركون مهما طال الأمد، هذه سُنّة يريد أن يركّز مفهومَها القرآن الكريم في مجمل سيرة النبيّ يوسف، من ظاهرة غيبة المصلح وظهوره بعد ذلك، ثمّ بعد ذلك عند الظهور يأتي كلّ البأس الإلهي على المجرمين المعاندين المكابرين المكذّبين المفسدين الظالمين، يأتي البأس الإلهي ويطهّر الأرض من بأسهم ويعمّ ربوعها الإصلاحُ والعدل والقسط، فهذه سُنّة إلهية إذن، وما دام الإنسان يؤمن بالله لا ييأس من روح الله، وأنَّ الإيمان بالفرج وبالأمل الموعود وبالبشارة الإلهية هو من الإيمان بالله تعالى، وبالإيمان بصدق قول الله وصدق وعده، فهذه سُنّة مهمّة يؤكّدها القرآن الكريم في غياب المصلحين الموعود بظهورهم، والمبشّر بإصلاحهم للأرض وإنقاذهم البشرية، أن يكون الإيمان بهم في امتداد الإيمان بقول الله ووعده ونصره، فهذا إذن من ثوابت وأركان الإيمان بما كان يؤكّده القرآن الكريم.
واعلم _ عزيزي القارئ _ أنَّ هذه الآية الأخيرة في هذه السورة ليست مخصوصة بهذه السورة، بل هي من الآيات المحكمات كقاعدة عامّة وكأصل عامّ قرآني في كلّ القرآن في قصص وسنن الله في أنبيائه: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ) (يوسف: 111)، لا ثرثرة ولا دعابة سمر ولا أساطير، وإنَّما عبرة وعبر عقائدية في الأصول وليست عبر في الفروع؛ لأنَّ الشرائع ينسخ بعضها البعض، ولكن ليس ذلك في العقائد، ومجمل ما ذكر من الإيمان بالمصلح وغيبته ثمّ ظهوره محطّات عقائدية، (لأُِولِي الأَْلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ)، هذه العقيدة عقيدة المصلح والبشارة الإلهية بإظهار الدين على الدين كلّه على أرجاء الكرة الأرضية كافّة، هذه العقيدة التي بشَّركم بها القرآن الكريم اتَّعظوا بها ممَّا قد جرى من البشارة الإلهية للنبيّ يوسف، لأنَّه غاب وظهر وحقَّق ذلك الأمل والبشارة الإلهية، ففيها تفصيل: (لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ) (يوسف: 7)، وهذا التعبير أيضاً: (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (يوسف: 111).
الظواهر القرآنية وسنن الله عز وجل في الغيبة:
هنا ظواهر قرآنية أخرى دالّة على ظاهرة غياب حجج الله، وهي كما أكَّدنا سابقاً غياب ظهور لا غياب حضور، وهم يظهرون بعد مضي أمد مقدَّر من الله عز وجل، وستأتينا ظاهرة النبيّ عيسى (عليه السلام)، ولكن قبل الاستمرار في ذلك نؤكّد أنَّ ما استعرضه القرآن من ظواهر عديدة، ركَّز على جانب من جوانب الحجج الموعودين بالظهور وإنقاذ البشرية، وإحدى الزوايا المهمّة التي تركّز عليها العدسة القرآنية هي ظاهرة غيبتهم وقيامهم بالأدوار في ظلّ الغيبة، الأدوار الخطيرة العصيبة المهمّة في مصير البشرية، رغم عدم معرفة البشرية بهويتهم، وبعد ذلك يصل قدر الله المقدور حين أوان ظهورهم.
نعم هذه الظواهر التي يستعرضها القرآن دواليك لا يفتأ يركّز عليها، ممَّا يدلّل على أنَّ الظاهرة المهدوية والغيبة _ غيبة المهدي في هذه الأمّة _ من السنن الإلهية المهمّة التي تحدث في هذه الأمّة على نسق ووتيرة ما حدث من هذه السُنّة الإلهية في الأمم السابقة، فحينئذٍ ليس من المصادفة وليس من عدم الحسبان في التقدير الإلهي أن يكرّر ويركّز في السور القرآنية العديدة على هذه الظاهرة _ ظاهرة غيبة الحجج _ لاسيّما المبشّرين الموعودين بالظهور، وأنَّهم في ظلّ هذه الغيبة يقومون بأدوار ثمّ يظهرون، هذا التركيز من القرآن الكريم ليس مصادفة، بل عبرة كما مرَّ بنا في قوله تعالى في آخر سورة يوسف عندما استعرض القرآن الكريم ظاهرة البشارة للنبيّ يوسف بأنَّه يظهره الله في الأرض ويمكّن له ليكون مصلحاً وقد غاب غيبة طويلة الأمد إلى أن ظهر.
فهو تقدير ضمن محاسبات إلهية مقدّرة محسوبة، (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) (النساء: 26)، السنن السابقة يبيّنها الباري تعالى لأنَّها ستقع في هذه الأمّة، (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَْرْضِ فَانْظُروا)، تلك السنن، (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (آل عمران: 137)، فهذه وغيرها من الآيات العديدة الدالّة على أنَّ سنن الله تتكرَّر أيضاً، هذه حقيقة من الحقائق القرآنية نعهدها في السور القرآنية، مضافاً إلى ذلك ما مرَّ بنا في قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ).
وهي عبرة أيضاً ووعد لنا على نفاذ هذا الأمر: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ) قد ذكر ذلك القرآن الكريم _ الوعد الإلهي _ في ثلاثة سور في سورة الفتح، وسورة التوبة، وسورة الصفّ، وهذه بشارة محتّمة من الله عز وجل لهذه الأمّة، بأن يظهر الدين دين سيّد الأنبياء على أرجاء الكرة الأرضية كافّة، وقد ورد في روايات متواترة عند الفريقين أنَّ ذلك على يد رجل يواطئ اسمه اسم النبيّ من ذرّية فاطمة وعلي وذرّية النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم).
نعم، هذا الوعد الإلهي محتم في القرآني الكريم، وهذا أيضاً لسان رابع في الآية القرآنية، وهو الذي مرَّ بنا أيضاً في بداية سورة القصص: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَْرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَْرْضِ) (القصص: 5 و6).
إذن هناك سُنّة إلهية دائمة تتكرَّر في الأمم هي: أنَّ المستضعفين الصالحين يستخلفهم الله ويجعلهم الوارثين، هذا لسان رابع نجده في القرآن الكريم يدلّل على الظاهرة المهدوية، وأيضاً من الآيات الأخرى التي نشاهدها لسان خامس، وهو: (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ)، وهو بيان للسنن الألهية الدائمة في الإصلاح في الأرض، وأنَّ هناك مصلحين منقذين للبشرية من الظلم والفساد، في سورة (الأنبياء: 105): (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَْرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ)، وهذه كتابة ثانية دائمة حتمية، كالتعبير الذي مرَّ في اللسان الرابع، إرادة إلهية وكتابة لا معدل لها ولا محوَ لها، أوَليست هي كتابة الله، وقد فسّر ذلك المفسّرون أنَّ الزبور ليس المراد منه زبور داود، بل زبر الأنبياء أجمع، وهذه الآية سنقف عندها ملياً بتوفيق من الله تعالى للتدليل على أنَّ المهدي مبشّر في لسان جميع الأنبياء، كما أنَّ المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) بشّر به لإفشاء العدل والقسط في الكرة الأرضية، وقرن اسمه باسمه في البشارة به، (إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ) (الأنبياء: 106).
وبيان سادس في القرآن الكريم متكرّر أيضاً بكثرة بأنَّ العاقبة للمتّقين، وليس المراد منها فقط العاقبة الأخروية، بل المراد منها العاقبة في الدنيا أيضاً، فقد جاء في سورة الأعراف: (إِنَّ الأَْرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (الأعراف: 128)، ونفس وراثة الأرض والتمكين فيها لإقامة الإصلاح والعدل والقسط فيها سُنّة إلهية، كذلك في سورة الأعراف: (وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (الأعراف: 86)، أي إنَّ المفسدين والمجرمين والظالمين مقطوع دابرهم بظهور المصلح المنقذ المنجي، هذه سنن إلهية.
كذلك في سورة (يونس: 39)، وسورة (القصص: 40): (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ).
قد كتب الله أنَّ الظلم والفساد لا يدوم، بأمد ظهور المصلح المنجي، (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) (يونس: 73)، والملفت أنَّ في هذه السنن الإلهية تبيانَ نكتة مهمّة جدَّاً فيها، وهي أنَّ النهاية هي الصلاح والإصلاح في الأرض، وحتمية الصلاح والقسط وتفشّي العدل، وأنَّ من السنن الإلهية أنَّ المراحل المتوسّطة من عهود وأزمنة الأمم دوماً يكون المتغلّب فيها كفّة الظالمين والمفسدين، ولكن العقبى تكون للمصلح المنجي، وهذه سُنّة فيها بصائر قرآنية جمّة، على أنَّ العهود الوسطى المتخلّلة تكون فترات الظلم والفساد وغلبة الظالمين والمفسدين، إلاَّ أنَّ العاقبة تكون بظهور المصلح المنجي، إذن هذه سُنّة دائمة إلهية، بدء الأمم بأنبيائها وهدايتها بالرسل، وتتلوها الفترات المتوسّطة والطويلة الأمد بيد الظالمين المفسدين ومكابدة المستضعفين الصالحين، ولكن العقبى بظهور المصلح المنقذ المنجي، إذن هذه سُنّة إلهية دائمة موجودة، فتأكيد القرآن الكريم على عدم الاغترار بالمرحلة المتوسّطة الآنية الحاضرة، بل لا بدَّ من الاعتقاد بالعاقبة والمآل لظهور الحقّ، وعاقبة المتّقين بظهور المصلح المنجي.
وهذه آيات عديدة من نفس هذه الحقيقة السادسة التي كرَّرها القرآن الكريم في سورة (آل عمران: 137)، وأيضاً في سورة (النحل: 36): (فَسِيرُوا فِي الأَْرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ). ولا استمرار ولا دوام للمكذّب بالحقائق الإلهية وبالغيب الإلهي وبالوعد الإلهي بظهور الصلاح والإصلاح، وإن طالت مدّته، فإنَّ الله يمهل ولا يهمل، (وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) (طه: 132)، (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (الأعراف: 128)، وكذلك: (رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) (القصص: 37).
* * *
الهوامش:
(1) الغيبة للطوسي: 459/ ح 471.
(2) كمال الدين: 644/ باب 55/ ح 3.
(3) بحار الأنوار 44: 278.
(4) راجع ما ورد من حديث الإمام الصادق (عليه السلام) للمفضَّل بن عمر، بطوله في: مختصر بصائر الدرجات: 179 - 183؛ بحار الأنوار 53: 14.
(5) من ذلك ما ورد في الرواية عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: (إذا تمنّى أحدكم القائم فليتمنّه في عافية، فإنَّ الله بعث محمّداً (صلى الله عليه وآله وسلم) رحمة، ويبعث القائم نقمة). (الكافي 8: 233/ ح 306).
******************
الظاهرة الثالثة: الإمام المهدي والخضر (عليهما السلام)
ظاهرة ثالثة يستعرضها لنا القرآن الكريم في سورة الكهف، وهي ظاهرة الخضر (عليه السلام) في مطلع سورة الكهف، ومطلع كلّ سورة يحدّد المسار في تلك السورة، كما ذكر ذلك جملة من المحقّقين المفسّرين لاسيّما من الإمامية من مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، إنَّ بدايات سورة الكهف كما في هذه الآية: (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) (الكهف: 6)، قد تضمّن تأثّر واغتمام واهتمام النبيّ الشديد بمصير الرسالة والإيمان بهذا الدين الذي بُعث به، فمطلع السورة هو المحور الأصلي الذي تدور حوله مقاطع السورة الكريمة سورة الكهف كافّة، وربَّما يقال: إنَّ سورة الكهف فيها من الأسرار والمعارف ما هو حري بالإمعان والتدبّر المليء الطويل المديد المستغرق فيها، فإنَّ مطلع السورة حول مصير الرسالة واهتمام واغتمام النبيّ حول مصير رسالته، التي وعد الله بأن يظهرها على الدين كلّه، إلاَّ أنَّ النبيّ أشفق على مصير هذا الدين وعلى مصير هذه الرسالة نتيجة وجود المنافقين والمناوئين والأعداء، ووجود متزلزلي الإيمان وضعاف النفوس، وقد مرَّ بنا في الحديث عن السنن الإلهية أنَّ العاقبة تكون للمتّقين، وإلاَّ فإنَّ المراحل المتوسّطة دوماً في السنن الإلهية مؤهّلة للظلم وللفساد، حينئذٍ يكون مصير هذا الدين مع الموعود أيضاً بإظهاره وغلبته على الدين كلّه، هذا هو المحور الأصلي في هذه السورة، اهتمام واغتمام النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بمصير الدين.
ضمان بقاء الدين:
أوّلاً: الفطرة:
لكن الباري تعالى يذكر عدّة نماذج لطمأنة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) حول مصير الدين، فذكر نموذج أصحاب الكهف، ثمّ استعرض استخلاف آدم من باب النموذج الأولي في خليفة الله في الأرض، ثمّ استعرض لقاء النبيّ موسى مع الخضر، وهذه الصلة الوطيدة الوثيقة بين استخلاف الله تعالى لخليفة في الأرض: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة: 30)، حيث ذكر هذا في هذه السورة بعد قصّة أصحاب الكهف، وقصَّتهم تمثّل الهداية الفطرية من الله عز وجل للأمم وللبشرية، (كلّ مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه)(1)، كما ورد في الحديث الشريف، فإذن الهداية الفطرية أحد ضمانات بقاء الرسالة، وهي ما استعرضه لنا القرآن الكريم في سورة الكهف حول أصحاب الكهف، وهذا نموذج أوّل يذكره القرآن الكريم لطمأنة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) حول مصير الرسالة.
ثانياً: وجود خليفة الله في الأرض:
الضمانة الثانية التي تستعرضها سورة الكهف هي وجود خليفة لله في الأرض وعدم انقطاعه، بل هو سُنّة دائمة إلهية من بدء خليقة البشر إلى يوم القيامة، أي ما دام البشر موجوداً على وجه البسيطة، كما قال تعالى: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) فلم يكن التعبير القرآني: إنّي جاعل في الأرض رسولاً، أو إنّي جاعل في الأرض نبيّاً، أو إنّي جاعل في الأرض آدم خليفة ليخصّص ذلك بخصوص النبيّ آدم، كل، إنَّما هي معادلة دائمة، سُنّة إلهية دائمة دائبة مستمرّة لا تقويض لها، ومن ثَمَّ يأتي بعد ذلك تساؤل الملائكة: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء) (البقرة: 30)، يعني مع وجود الطبيعة البشرية، تقرن الطبيعة البشرية على وجه الأرض بالخليفة، خليفته الذي يستخلفه الله للتدبير والقدرة.
فوجود الخليفة في الأرض وسُنّة استخلاف الله ضمانة ثانية لبقاء الدين، ومن ثَمَّ لم يقل النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): لا خليفة بعدي، وإنَّما قال: (لا نبيّ بعدي)، إنَّما هو انقطاع النبوّة لا انقطاع للخلافة الإلهية، لأنَّها سُنّة دائمة دائبة مستمرّة إلى يوم القيامة، بل أكَّد ذلك في الحديث النبوي أنَّ (الخلفاء من بعدي اثنا عشر كلّهم من قريش)، وفي بعض ألفاظ الحديث: (من هذا البطن من بني هاشم).
ثالثاً: لقاء موسى والخضر (عليهما السلام):
ويذكر ضمانة ثالثة لها صلة بوجود الخليفة في الأرض، وهي لقاء موسى والخضر، وهنا نستعرض هذه الظاهرة.
(وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً * فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً) (الكهف: 60 و61)، فقد ورد في روايات الفريقين في تفسير المفسّرين تبيان وتفسير لهذه الظاهرة، (فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً) (الكهف: 62)، كان فتاه يوشع وصيّ النبيّ موسى، (قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً * قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً * فَوَجَدا عَبْداً) (الكهف: 63 _ 65)، هنا بداية اللقاء، في مطلع هذه الآيات ما يدلُّ على ذلك كما ذكر ذلك في روايات الفريقين والمفسّرون من الفريقين، أنَّ مجمع البحرين وانسياب الحوت وهو السمك الذي كان غداء للنبيّ موسى ووصيّه يوشع بن نون وهذه الحادثة كانت علامة لموضع لقاء النبيّ موسى (عليه السلام) بالخضر، علامة من الله.(2)
أنظر هذا التدبير الأمني الخفي، إنَّ لقاء النبيّ موسى وهو نبيّ من أولي العزم ورسول مع الخضر قد اُحيط بتمام السرّية والخفاء والبرمجة الأمنية، بحيث وضعت شفرة خاصّة بين الله والنبيّ موسى والخضر، يلقى فيها الخضر من دون أن يعلم حتَّى وصيّ النبيّ موسى وهو فتاه يوشع بن نون الذي كان معه، أجواء أمنية شديدة السرّية، هذا جانب من جوانب الغيبة وهو الستار الأمني، الغيبة التي يطرحها القرآن الكريم في الواقع في أوليائه هي عبارة عن حفاظ وحراسة أمنية لأولياء الله الذين عهد إليهم الأدوار الخاصّة، إذن هذه الظاهرة الآن نراها مطوية ومشحونة بشفرة أمنية خاصّة، لاسيّما من لديه مزاولة في علوم الإدارة الأمنية والتدبير الاستراتيجي الأمني، يلتفتون إلى أنَّ مثل هذه اللقطات كلّها عبارة عن شفرات ومصطلحات رمزية، إنَّه الوعد الإلهي في لقاء النبيّ موسى والخضر عند مجمع البحرين، ثمّ لا بدَّ أن تحدث علامة أخرى تنظمّ إلى مجمع البحرين، وهو انسياب السمك في البحر، هذه علامة أخرى كما يقال، أو رؤية النبيّ موسى (عليه السلام) لرجل مستلقي على قفاه قد تغطّى بردائه، تشفير أمني لا يستطيع أن يطَّلع عليها الأغيار، لا يستطيع الاطلاع عليها من لا يُراد إطّلاعه.
إذن الخضر قد أحيط بسياج شديد من الستار، إنَّ تغييب الله لأوليائه لا يعني أنَّ ذلك كما هو في نهج البشر قد تتخلَّله خروقات أمنية، بل هو سياج وحفاظ وحراسة إلهية لا يمكن أن تُخترق إلاَّ بإيعاز ربّاني من الله عز وجل، نعم بعد ذلك تواصل الآية الكريمة: (قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً * فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) (الكهف: 64 و65)، هنا بدء اللقاء بين الخضر والنبيّ موسى، وهنا يعرّف القرآن الكريم الخضر، ما هي الهوية الشخصية والبطاقة الشخصية التي يعرّف بها القرآن الكريم الخضر؟ لم يعبّر عن الخضر بالنبيّ أو بالرسول، ولم يعبّر عنه بإمام، ولكن عبَّر عنه بما يقرب من الاصطفاء والحجّية، (فَوَجَدَا) أي موسى ويوشع بن نون (عَبْداً مِنْ عِبادِنا)، هي صفة العبودية الكاملة لديه، وهي صفة الطاعة والطهارة والاصطفاء، أي نوع من العصمة، لأنَّه وصف بهذا الوصف وهو من قمم الأوصاف للفرد البشري، أن يبلغ مرتبة العبودية الكاملة لله، ومن ثَمَّ كان من أوصاف القممية لسيّد الأنبياء: (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى) (الإسراء: 1)، وهذا مقام عبودية للمصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يبلغه بشر لأنَّه اُضيف إلى ضمير (هو) الذي يمثّل غيب الغيوب.
وهنا لم تعرّف التحديدات القرآنية البطاقة الشخصية للخضر بأنَّه نبيّ أو رسول، وإنَّما عرَّفته بـ (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا)، فهل هذا العبد نظير بقيّة البشر؟ كلاَّ، وإنَّما (آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً)، فلديه علم لدنّي، وهو اصطلاح قرآني، ليس نبوّة وليس رسالة، وإنَّما هو حجّية بتزويد ذلك العبد العلم اللدنّي.
ظاهرة الخضر (عليه السلام) وصلتها بضمان ظهور الدين وبقائه:
قصَّة الخضر التي سطّرها لنا القرآن الكريم في سورة الكهف لها صلة وثيقة بديمومة هذا الدين في هذه الأمّة، وفي هذه الحُقب البشرية وفي أرجاء الأرض إلى يوم الظهور الموعود للإمام المهدي (عليه السلام)، حيث يُبسط الدين على أرجاء الكرة الأرضية كافّة.
إذن لا بدَّ أن يلتفت القارئ الكريم والمسلم والمؤمن إلى هذه القصَّة حينما يقرأها في سورة الكهف، إنَّها ذات صلة بالمحور الأصلي في سورة الكهف، وهو كيفية تأمين انتشار هذا الدين وبقائه إلى اليوم الموعود لظهور دين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على يد أحد ذراريه من ذراري فاطمة وعلي (عليهما السلام) وهو الإمام المهدي (عليه السلام).
إذن ما يكتشف من تركيز القرآن الكريم في ظاهرة الخضر أنَّها ذات صلة وثيقة جدَّاً وخطيرة ومهمّة، وبالغة الأهمّية يجب أن يتفطَّن إليها قارئ القرآن الكريم، وهي أنَّ ما يستعرضه القرآن من ظاهرة ثالثة في سورة الكهف، بل عدّة ظواهر من أصحاب الكهف ومن استخلاف الخليفة وما له صلة بوجود الخليفة في الأرض من كونه مصدر ديمومة وبقاء هذا الدين، حيث استعرض لنا القرآن في سورة الكهف هنا استخلاف آدم كنموذج أوّل لقافلة خلفاء الله في الأرض، ممَّا يدلّل على استخلاف الله بعد نبيّه سيّد الأنبياء خلفاء من الله ومن رسوله وهم الذين أنبأ عنهم النبيّ في حديثه المعروف بين الفريقين: (لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً ينصرون على من ناواهم إلى اثنى عشر خليفة)(3)؛ وإنَّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أفاض به وألقاه إلى المسلمين في مواطن عديدة، فمن الألفاظ التي ورد بها هذا الحديث النبوي الشريف قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إنَّ هذا الدين لن يزال ظاهراً على من ناواه لا يضرّه مخالف ولا مفارق حتَّى يمضي من أمّتي اثنا عشر خليفة)(4)، مفاد هذا الحديث النبوي الشريف في الخلفاء الاثني عشر في بعض ألفاظه التي وردت من طرق متطابقة عيناً مع مفاد سورة الكهف، إذ يقول تعالى: (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً)، هو حديث الدين، فوجوب بقاء الدين وحراسته تكون باستخلاف الله عز وجل خليفة له بعد نبيّه في الأرض، وهم الخلفاء الاثنا عشر كما حدَّثتنا بذلك سورة الكهف قبل استعراضها لظاهرة الخضر.
وكذلك في ظاهرة أصحاب الكهف تجد الهداية الفطرية من الله عز وجل، هذا النبض الدائم الموجود في الفطرة البشرية، وحتَّى في الشعوب الغربية والشعوب الآسيوية تجد أنَّ الفطرة تنبض، فرغم هذا السيل من التثقيف القالِب للحقائق تبقى الفطرة تنبض وترفض وتأبى سياسة أنظمتها الغاشمة، فهداية الفطرة هذه من ضمانات بقاء الدين والإسلام وهو دين الفطرة، (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) (الروم: 30).
فأوّل ضمانة استعرضتها سورة الكهف هي الهداية الفطرية كما حصلت لأصحاب الكهف.
أمَّا الهداية الثانية أو الضمانة الثانية التي استعرضتها سورة الكهف لبقاء الدين الحنيف هو وجود الخليفة، ولذلك استعرضت استخلاف آدم قبل استعراضها لظاهرة الخضر، والتسلسل الذي في سورة الكهف تسلسل إعجازي في الضمانات لبقاء الدين، فالضمانة الأولى التي ذكرت في سورة الكهف لوجَل النبيّ في بقاء الدين هي حراسته بالهداية الفطرية في نفوس عامّة البشر والتي ألهمها الله عز وجل في كلّ البشر ومنهم أصحاب الكهف، فإنَّهم لم يُبعث فيهم رسول ولا نبيّ ولا إمام ولا صفي ولا حجّة لله، ولكن هدايتهم كانت عبر نفس فطرهم، (كلّ مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه).
وهنا لا يزال التبيان للدين الإسلامي لاسيّما من مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، والتي هي الرؤيا الواسعة العميقة لدين الإسلام ينافس أي خطاب بشري آخر في التنظير.
رابعاً: ذو القرنين ظاهرة الحكم العلني:
الضمانة الرابعة التي تطرحها هي ظاهرة ذي القرنين، ظاهرة ذي القرنين هي الوصول إلى منصّة الحكومة في العلن واستتباب القدرة المهيمنة على أرجاء الأرض، وهو ظهور المهدي، فهذا رمز في الظاهرة الرابعة، رمز قرآني، وبيان قرآني بيّن عن مرحلة الظهور، إذن سورة الكهف هي طمأنة لهذا الوجل النبوي، وهذا المحور الأصلي من بقاء الدين، وقد صرَّح ابن كثير صاحب التفسير عندما وصل إلى تفسير هذه الآية في سورة (المائدة: 12): (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً)، قال بعد أن أورد حديث: (الخلفاء الاثني عشر)، وأقرّ بأنَّه الثاني عشر: (والظاهر أنَّ منهم المهدي المبشَّر به في الأحاديث الواردة بذكره، فذكر أنَّه يواطئ اسمه اسم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم))(5)، وليس ابن كثير فقط ذكر ذلك، بل عشرات من علماء أهل السُنّة أقرّوا بأنَّ الثاني عشر من الخلفاء ينطبق على المهدي الموعود (عليه السلام).
خلاصة ما سبق:
ونذكر أنَّ بقاء الدين له أربع دعامات:
الدعامة الأولى: هي من أهمّ الدعامات، وهي الهداية الفطرية، كما ورد في حديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): (كلّ مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه).
الدعامة الثانية: وجود الخليفة، وهي الهداية من الخارج، خارج أفراد البشر كنصب الإمام، لذلك استعرضت سوره الكهف قصَّة استخلاف آدم كنموذج لخلفاء الله بعد استعراضها لنموذج أصحاب الكهف، وهذه الدعامة الثانية قد مرَّت كما في الحديث النبوي.(6)
الدعامة الثالثة: ظاهرة الخضر، والتي سنخوض فيها بشكل مفصَّل إن شاء الله والتي عنوانها: رجال الغيب، أي الرجال الذين هم أولياء لله ضمن مجموعة ومنظومة وشبكة تقوم بأدوار قطبها خليفة الله في الأرض وهو الإمام المهدي (عليه السلام)، هذه المجموعة تلتفّ في منظومة حول خليفة الله في الأرض كظاهرة ثالثة تقوم بأدوار وبرامج إلهية تقع في المفاصل المهمّة لمسير البشر من حيث لا يشعر البشر بأدوارهم، وهذه بيعة الخفاء الذي هم فيه، هذه الظاهرة الثالثة حالياً سنخوض فيها بشكل مفصَّل.
الدعامة الرابعة: هي مرحلة الظهور لذي القرنين، وكما ورد في الروايات أنَّه قد مَلَك الأرض،(7) اثنان صالحان واثنان ظالمان، ظالمان كنمرود وفرعون، وصالحان كسليمان وذي القرنين، وهم نماذج لملك التدبير الذي سيولّيه الله عز وجل في العلن للإمام المهدي (عليه السلام) في الظهور، فظاهرة ذي القرنين كدعامة رابعة تبيّن نهاية المطاف والذي ذكرت في السورة رابعة الظواهر.
ظاهرة رجال الغيب:
الظاهرة الثالثة التي نتكلَّم فيها حالياً هي وجود مجموعة ومنظومة تقوم بأعمال خفيّة وفي ستار الغيب وتسمّى برجال الغيب، (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا)، إذن ليس هو عبد واحد له هذه البطاقة القرآنية الخاصّة في تعريفه، بل هو من ضمن مجموعة هويّتها القرآنية حسب ما يبيّن القرآن الكريم: (آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا)، إذن لديه رحمة لدنّية من عند الله عز وجل (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) (الكهف: 65)، هذه المجموعة ليست أدواتها العلمية عبر الأدوات والأسباب الطبيعية في تحصيلها للعلم وفي استخدامها لسلاح العلم كأداة تدبيرية كما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (العلم سلطان من وجده صال ومن فقده صيل عليه)(8)، فهذا العلم الذي لديهم ضمن هذه المجموعة كما يحدّثنا القرآن الكريم في هذه السورة في الدعامة الثالثة هو وجود مجموعة لها هذه المواصفات تعيش في ستار الخفاء والسرّية، ومن ثَمَّ ورد في التعابير الروائية أنَّها قد يعبّر عنها كثير من كتب العلوم الإسلاميّة بـ (رجال الغيب)، وهي ظاهرة مهمّة جدَّاً ولها صلة وثيقة بالإمام المهدي (عليه السلام) وغيبته. إذ هذه المعادلة (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة: 30)، كما مرَّ بنا معادلة ذكرها القرآن الكريم في سبع سور، ومنها سورة الكهف، استخلاف الله لخليفة، ليست بنبوّة، ولا رسالة، بل تلك مقامات إلهية ومناصب إلهية ولكن ليست دائمة، بل قُطعت وختمت بسيّد الرسل (لا نبيّ بعدي)، ولكن لم يرد في الحديث النبوي أنَّه لا خليفة بعدي، بل ورد: (الخلفاء بعدي اثنى عشر)، وهم الخلفاء الذين حدَّثنا القرآن الكريم في قوله الله تعالى: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)، فحينئذٍ هذه المجموعة لها صلة بالخليفة كدعامة ثالثة ذكرها القرآن الكريم في سورة الكهف بعد الدعامة الثانية (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا)، لماذا لم يقتصر القرآن الكريم في قوله تعالى هنا في هذه الآية: (فوجدا عبداً آتيناه...)؟ ولماذا ركَّز القرآن الكريم في بيان أنَّ هذا العبد هو ضمن مجموعة أفراد بشرية وصلوا إلى درجة العبودية والطاعة والتقوى بدرجة فائقة حيث أهّلوا لمثل هذه البرامج والمأموريات الإلهية الخاصّة الخفيّة، إذن القرآن الكريم يريد أن يركّز في هذه الآية على أنَّ هذا فرد من مجموعة وليس هو فرداً واحداً.
والظريف أنَّ ما سيأتي في إجابات الخضر للنبيّ موسى فيما قد خفي سرّه وغايته وهدفه وعاقبته على النبيّ موسى ممَّا ينبئه الخضر ردَّد التعبير وكرَّره بقوله فيما سيأتي: (فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما) (الكهف: 81)، لم يقل: (فأردت)، لو كان يريد بهذه الإرادة إرادة عن نفسه فمن غير المناسب مع الخضر وهو بذلك المقام الذي عرَّفه الله أنَّه آتاه رحمة من عنده وعلَّمه من لدنه علماً أن يتبجَّح بتعظيم وتفخيم نفسه فيقول: (فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا)، بل هو يتكلَّم عن إرادة مجموعية ضمن نفس مجموعة هذه المنظومة، هذه الشبكة الخفيّة التي ينبئنا بها القرآن الكريم، هذه الظاهرة ظاهرة الخضر مع مجموعته ومنظومته التي تدور حول خليفة الله في الأرض وذكرها القرآن الكريم لطمأنة نبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) أنَّ دينه باقٍ بهذه المجموعة، باقٍ بهذه الشبكة، التي تدور في حلقات دائرية حول قطبها، وهو خليفة الله في الأرض، كما حدَّثتنا بذلك أيضاً سورة الكهف في الدعامة الثانية لبقاء دين النبيّ.
فهنا تقصُّد واضح من ربّ العزّة في هذه العبارة الشريفة من الآية الكريمة: (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا)، إذن هي مجموعة، وأنَّ الخضر هو واحد ضمن مجموعة ومنظومة من رجال الغيب يقومون بأدوار.
هوية رجال الغيب:
والبطاقة والهوية الشخصية لهذه المجموعة ولهذه المنظومة أنَّ لديها علماً لدنّياً تتَّصل مع بعضها البعض وتقوم بالأدوار بالتنسيق فيما بين بعضها البعض بواسطة العلم اللدنّي، وليس هو علم عبر الآلات وعبر الإنترنت أو عبر الأقمار الصناعية أو عبر ذبذبات الأثير في الهواء التي يمكن التغلّب عليها واختراقه، وإنَّما عبر العلم اللدنّي، هذا الذي لا يصل إليه البشر، وهو الذي يوحّد أدوار هذه المجموعة وهذه المنظومة بحسب نصّ القرآن الكريم، ومن ثَمَّ تكون هذه في تمام الخفاء والسرّية وممَّا لا يمكن اختراقه أو ما لا يمكن التغلّب عليه. وهذه المجموعة هي حراسة ضمانية لبقاء الدين بأيدٍ بشرية، هذا الذي نذكره كلّه من إفادات وجواهر روايات أهل البيت (عليهم السلام)، فهم الذين نبّهونا وأرشدونا إلى مثل هذه الحقائق العلمية الموجودة في ظهور القرآن الكريم، وطريقة اللقاء بين النبيّ موسى وهو المستأمن من الله على خلقه وصاحب شريعة، مع فرد من تلك المجموعة كان عبر تشفير علامة أمنية خاصّة لم يفشها النبيّ موسى حتَّى إلى يوشع بن نون فتاه ووصيّه، أنظر السرّية، هكذا يحدّثنا القرآن الكريم، أنَّ تلك العلامتين وهما: مجمع البحرين ونسيان الحوت لم يكن يدري بها حتَّى فتى موسى، وكان موسى هو وحده الذي أعلمه الله تعالى بهما، هذه كلّها مؤدّيات ومفادات يبرزها لنا القرآن الكريم، ويبيّنها لنا ويلوّح بها. فهذه تعطي بصمات ودلالات على أنَّ هذه المجموعة هي في تمام الخفاء والحراسة الإلهية من جهة التخفّي ومن جهة استتار الخلفاء، والغيب المقصود هنا هو غيب المعرفة بهم، غيب الشعور بهم، وهو بهذا المعنى غائب عن علم البشر، غائب عن معرفة البشر.
يبيّن لنا القرآن الكريم أنَّ هذه المجموعة تزاول أدواراً مهمّة عصيبة مفصلية في مسار البشر في ظلّ ستار الخفاء. ومن هنا يتَّضح أنَّ قيام أيّ مولى من أولياء الله وحجّة من حجج الله بالمسؤولية الإلهية ودوره في حفظ النظام البشري ليس مشروطاً بأن يكون ظاهراً مشهوراً شخصه، بل ولو كان خفيّاً مستوراً فإنَّه يتحرَّك بسرّية ويقوم بأدواره بالتنسيق مع هذه المجموعة، فإنَّ هذا هو نوع من الاضطلاع والأداء للمسؤولية، هذا هو منطق القرآن، هذا هو بيان القرآن بعدم التلازم بين قيام الإمام بأدواره وكونه ظاهراً في العلن، وكونه مشهوراً أو معروفاً. وهناك ظواهر عديدة مرَّت بنا وستمرّ أيضاً تدلُّ على ذلك كما في ظاهرة النبيّ موسى وغيبته. وهذه الدعامة الثالثة لحفظ الدين تابعة وتلحق بالدعامة الثانية وهي أنَّ لله خليفة في الأرض، إذن هذه المجموعة تدور في تنسيق شبكي مع خليفة الله في الأرض، كما هو مقتضى سياق السورة بعد أن ذكرت الهداية الفطرية؛ لأنَّ اللطف من الخارج للإنسان لا ينفع الإنسان ما لم يكن في داخله وفي ذاته فطرة تهديه، ثمّ تكمّل هذه الفطرة الهداية من الخارج، فما لم يكن عقل مطبوع، فلا ينفع العقل المستفاد والمكتسب.(9)
إذن علاقة هذه الظاهرة بالإمام المهدي (عليه السلام) لكونه خليفة لله عز وجل بضرورة جملة من الآيات الكريمة الدالّة على بقاء أهل البيت (عليهم السلام) كحجّة للبشر _ ربَّما نستعرض أكثرها لاحقاً _ وأنَّهم المبيّنون للقرآن الراسخون في العلم: (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) (آل عمران: 7)، (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ) (الواقعة: 77 _ 79)، وأهل آية التطهير هم أهل البيت (عليهم السلام)، يدلُّ على أنَّ هذين عِدْلان ثِقْلان مقترنان مع بعضهما البعض إلى يوم القيامة بنحو ثابت مستمرّ، (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة: 30).
فهذه المجموعة لها صلة بخليفة الله، لأنَّ الآية في صدد بيان الضمانات الإلهية لحراسة وبقاء الدين، وهذا لا يتحقَّق إلاَّ بوجود الخليفة وهو الإمام المهدي (عليه السلام) مع هذه المجموعة المباركة.
وبيان آخر لهذه الصلة وهو الذي مرَّ بنا أيضاً أنَّ هناك حججاً لله وأولياء وأصفياء يقومون بأدوار، لكن في ظلّ الستار والخفاء، في ظلّ ستار غيبة الشعور بهم، فالقرآن الكريم من استعراضه لهذه الظاهرة يريد أن يثبّت منطقاً مهمّاً، هذا المنطق هو الذي توصَّلت إليه البشرية في القرون الأخيرة، من أنَّ القيام بأدوار يمكن أن يتمّ في ظلّ الخفاء، ويتمّ في ظلّ السرّية، وليس هناك أيّ ضرورة تلازم بين القيام بالأدوار المهمّة المصيرية وبين الانكشاف والظهور في العلن، بل يمكن أن يقوم الحجّة بهذه الأدوار في الخفاء، وهذا ينكشف من خلال الصلة بين ظاهرة الخضر ومجموعته، مع الإمام المهدي وغيبته.
لقاء موسى بالخضر (عليهما السلام):
كم هي سطحية وخاوية تلك الإشكالات وذلك التهريج الذي يواجه بها الخصوم مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) والتي مفادها: كيف يكون الإمام مع كونه إماماً معيّناً من الله غائباً أكثر من ألف سنة؟ وفهمهم للغيبة بمعناها الخاطئ طبع، وهو أنَّه المبتعد عن ساحة التدبير، المنكفئ عن التصدّي لإدارة الأمن، في حين أنَّ الغيبة تعني الخفاء، وأنَّه يقوم بأدوار خفيّة مهمّة في مسير البشر من دون أن يعلم به الآخرون؟ ومن دون أن يعلم به حتَّى الكثير من النخبة البشرية، بل هاهنا النبيّ موسى (عليه السلام) لم يتوصَّل إلى الالتقاء بفرد من هذه المجموعة إلاَّ عبر شفرات أمنية نصبها وأخطرها الله وأشار بها إلى موسى كي يصل إلى ذلك الفرد البشري، يعني أن يصل إلى لقائه ويتعرَّف عليه.
إذن قضيّة الخفاء والغيبة إذا كانت خرافة هلامية وفكرة باطنية وما أشبه ذلك من الكلمات والمهاترات التي يهرّج بها الكثير ممَّن لا يريد أن يتَّبع الحقائق القرآنية، فماذا يُصنع مع ظاهرة الخضر ومجموعته البشرية، هل هذه أسطورة هلامية؟ (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) (البقرة: 85)، بل يجب الإيمان بجميع الكتاب، هذا صرح مشيّد قرآني يعلّمنا درساً بأنَّ الحجّة لله والمنصوب والمضطلع بأدوار مهمّة وخطيرة يقوم بتمام تلك الأدوار والحركة والفاعلية والنشاط في ظلّ ستار الخفاء، ليكون أفسح مجالاً للقيام بتلك الأدوار وأبعد عن أيدي المشاغبين والظالمين والمفسدين، وقوى الشرّ. وهذا منطق قرآني أصيل، فعلى هؤلاء أن يراجعوا عقولهم ويراجعوا خلفياتهم الدينية ومحاسباتهم، ويرجعوا إلى أصولهم الدينية حيالَ منطق القرآن الكريم فضلاً عن المنطق البشري الراهن الذي يعي من السرّية والخفاء أنَّه أسلوب نظام قوّة وزيادة قدرة على إدارة وتدبير للأمور بسلامة عن معاوقة الأعداء والخصوم.
أخي القارئ الكريم بعد هذا نستعرض هذه الآية الكريمة: (قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) (الكهف: 66)، ففي هذه الآية ملحمة عظيمة، ويمكن أن نلمس فيها أنَّ نبيّاً من أنبياء الله ورسولاً من رسل الله من أولي العزم الخمسة يطلب اتّباع حجّة لله آخر، ووليّ لم يعرّفه القرآن الكريم وهو الخضر بالنبوّة أو الرسالة فضلاً عن أن يكون من أولي العزم، إنَّما عرَّفه القرآن الكريم بأنَّه مصطفىً، (عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا) مزوّد بالعلم اللدنّي وبلطف من الرحمة الإلهية الخفيّة الخاصّة، هذا الذي له هذا المقام يريد النبيّ موسى أن يكون له تابعاً، طبعاً في هذا الجانب، وإلاَّ فهو صاحب شريعة ويكون الخضر تابعاً للنبيّ موسى في شريعته، ولكن في العلم اللدنّي وعلم الولاية يريد النبيّ موسى أن يتَّبع ويتعلَّم ممَّا قد عُلّم الخضر علماً إلهياً لدنّياً.
هنا محطّة مهمّة يجب أن يلتفت إليها المسلمون، أنَّ هذه الظاهرة وهذه الملحمة القرآنية ليس لها تفسير في غير مدرسة أهل البيت؛ وذلك لأنَّ في المدارس الإسلاميّة الأخرى لم تفسّر ولم تبيّن المقامات والمناصب الإلهية إلاَّ النبوّة والرسالة، أمَّا مناصب ومقامات أخرى فلم تذكر في منهاجهم العقائدي، بينما المنهج العقائدي لمدرسة أهل البيت (عليهم السلام) يبيّن أنَّ هناك قنوات ارتباط بين الباري تعالى، وبين بعض الأفراد المصطفين المطهّرين، وهو غير وحي النبوّة وغير ارتباط وحي الرسالة، بل هو ارتباط العلم اللدنّي، كما في الإمام، وكما في الحجّة المصطفى الذي ربَّما يكون غير إمام كفاطمة الزهراء، وكمريم بنت عمران، حيث تتَّبع سيّدتها فاطمة الزهراء، لأنَّها كما ورد في نصوص المسلمين المتواترة أنَّها (سيّدة نساء أهل الجنّة)(10)، ومريم من رعايا الجنّة، فسيّدة مريم هي فاطمة (عليها السلام)، بل وفي نصوص القرآن إشارات على رفعة مقام فاطمة (عليها السلام) على مقام مريم، فمريم التابعة لفاطمة (عليها السلام) مقامها ليس نبوّة ولا رسالة ولا إمامة ولكن مقام حجّية، (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) (آل عمران: 42)، هذا المقام لا تجد له تفسيراً في غير مدرسة أهل البيت، الذي هو نظام عقائد القرآن الكريم بعمق وأصالة.
إذن لا يفتأ القرآن الكريم يبيّن العلم اللدنّي، وينبّه ويؤكّد أنَّ هناك مجموعة وسلسلة من أفراد البشر ليسوا بأنبياء ولا رسل ولكن حجج مصطفون أئمّة أو غير أئمّة لهم ارتباط مع الغيب، ولهم ارتباط مع الله بعلم لدنّي يعني من لدن الله تعالى غيبي.
فلماذا يهرّج أولئك الذين يقفون أمام هذه البيّنات الباهرة لمدرسة أهل البيت، كأنَّما يحصرون الارتباط بالغيب بالنبوّة والرسالة؟ كل، فهناك ارتباطات بالغيب أصيلة في منطق القرآن وفي سور كثيرة يبيّنها القرآن الكريم، وهو ارتباط بالغيب ليس عبر قناة الوحي النبوي أو وحي الرسالة، وإنَّما هو علم لدنّي، وإن كان صاحب هذا العلم اللدنّي تابعاً لرسول الله أو تابعاً لصاحب الشريعة، ولكنَّ ارتباطه بالغيب من خلال العلم اللدّني وراثة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
ما هو العلم اللدنّي؟
الآيات القرآنية تقول: (عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً)، وهذا العلم من الدرجة والمقام بحيث أنَّ نبيّ الله موسى الرسول أراد أن يتَّبعه، وطبعاً في مدرسة أهل البيت فإنَّ أفضل الخلق على الإطلاق سيّد الرسل محمّد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو إمام الأئمّة، وهو إمام للأئمّة الاثني عشر وسيّدهم وأفضلهم، وهم تابعون له، وقد ورد في روايات المسلمين من الفريقين أنَّ النبيّ عيسى عند نزوله يتبع الإمام المهدي، وقد أقرَّ بذلك علماء الفِرَق الإسلاميّة أنَّ النبيّ عيسى عندما ينزل يصلّي خلف المهدي، ويكون تابعاً له وهو نبيّ من أولي العزم، وربَّما لا يروق ذلك لمن لا يُكنُّ المودّة لأهل البيت، ويغمطهم فضائلهم ومقاماتهم التي حباها الله إيّاهم، ويغيضه أيضاً أن يقرأ من هذه الأحاديث التي رواها محدّثو الفريقين أجمع القائلة بأنَّ النبيّ عيسى يصلّي خلف الإمام المهدي، ويكون تابعاً له.
ولرُبَّ أحد يقول: هذا مضمون لا أقبله، أو أنَّ هذا مضمون منكر.
فنقول: لكن القرآن الكريم هاهنا قد حدَّثنا بأنَّ النبيّ موسى (عليه السلام) قد أراد اتّباع الخضر لما للخضر من علم لدنّي، فهذه سُنّة بيَّنها القرآن وليست سُنّة منكرة، وأنَّ هذا المضمون له صلة وثيقة ووطيدة بظاهرة الإمام المهدي (عليه السلام) وغيبته وظهوره، وهو أنَّه عند ظهور الإمام المهدي (عليه السلام) فإنَّ النبيّ عيسى (عليه السلام) مع أنَّه نبيّ مرسل من أولي العزم يأتمّ به ويصلّي خلفه، وقد قال بذلك جمهرة من علماء الفريقين.(11)
العلم اللدنّي وارتباطه بغيبة أولياء الله:
هذا العلم اللدنّي يؤهّل الخضر ومجموعته من الاطّلاع على الإرادات التفصيلية الإلهيّة، والتدبيرات التفصيلية الجزئية في كلّ مراحل التطبيق لإصلاح النظام البشري، ويؤهّلهم للاطلاع على برنامج تلك الإرادات؛ لأنَّ في الشريعة قوانين عامّة كلّية في أفق التنظير، وعندما يراد لهذه المنظومة من التشريعات التنفيذ والتطبيق والإجراء لا محال هنا يكون معترك تزاحم ومعترك أولويات ومعترك فحص موضوعي، فإذا كان بنحو التدبير الإلهي الذي لا يخطئ فحينئذٍ يحتاج إلى التزوّد بالعلم اللدنّي، ولننظر كيف ينبئنا القرآن الكريم عن تأهيل الخضر ليطّلع على الإرادة الإلهية بتوسّط هذا العلم، وماذا يعبّر عنه في الآيات الكريمة في ذيل هذه القصَّة، وهي الظاهرة التي يستعرضها لنا القرآن الكريم مع النبيّ موسى: (وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ)، هنا يريد الخضر أن يخبر النبيّ موسى (عليه السلام) بإرادة تفصيلية وليست إرادة تشريعية كلّية عامّة، إرادة تفصيلية تطبيقية لتشريعات الشريعة، (فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) (الكهف: 82)، والمجموعة التي معه تمتلك أنشطة وبرامج مفصلية مصيرية للنظام البشري، ليست من قريحة اقتدار لأنفسهم، وإنَّما طبق أوامر جزئية تفصيلية تطبيقية إلهية، فالخضر في أجوبته كما سنقرأها تفصيلاً، وما جرى بينه وبين النبيّ موسى من أحداث شاهدها النبيّ موسى أمام عينه قد فسَّرها الخضر طبقاً لما هو مشرَّع في شريعة النبيّ موسى، ومن ثَمَّ قنع وارتبط مع النبيّ موسى، فالخضر لم يكن في تطبيقه وتنفيذه متخطّياً لشريعة النبيّ موسى، بل مطبّقاً ومنفّذاً لها، ولكن هذا التنفيذ أيضاً يحتاج إلى أوامر إلهية، يحتاج إلى أحكام سياسية إلهية، إلى أحكام قضائية إلهية، إلى أحكام تدبيرية إلهية.
هذا هو الفرق بين مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ومدارس المسلمين الأخرى، بل بين مدرسة أهل البيت وكلّ الأديان الأخرى من النصارى واليهود أو غيرهم، حيث إنَّ أغلب الملل والنحل الآن من غير مدرسة أهل البيت تقول بانقطاع الاتّصال بين الأرض والسماء، وأنَّ الارتباط بين البشر وبين السماء بختم النبوّة والرسالة، بينما مدرسة أهل البيت هي المدرسة الوحيدة التي تشهد بحقّانية هذا الصرح العقائدي، القرآن يشهد بأنَّ حاكمية الله تعالى ليست على صعيد التنظير فقط وإرسال الشريعة المباركة المقدَّسة، بل لله عز وجل أيضاً برامج ومنظومات وأحكام وأوامر لتطبيق تلك الشريعة، وليس لتشريع جديد، ففي شريعة النبيّ موسى مثلاً كانت هناك مجموعة أوامر إلهية تصل لأولياء الله الحجج الذين لم يكونوا أنبياء ولا رسلاً، وذلك من خلال العلم اللدنّي لبسط حاكمية الله السياسية وليست فقط حاكمية الله في التشريع، (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ) (يوسف: 67)، التوحيد في حاكمية الله، التوحيد في الحاكم الأوّل هو الله وحده لا شريك له، وليس في عرضه أحد، هذه الحاكمية والتوحيد في الحاكمية لله لا تقتصر مدرسة أهل البيت فيها على نظام السلطة التشريعية والتشريع فقط، بل على نطاق التطبيق أيضاً، ويعني أنَّ التوحيد في حاكمية الله ليس فقط في التشريع، بل على مستوى التطبيق أيضاً، وعلى مستوى الحاكمية السياسية والقضائية والعسكرية والإدارية، وعلى كلّ نطاق تلك المجالات والحقول والبيئات أيضاً، فالحاكم الأوّل فيها هو الله وحده لا شريك له، ليس في عرضه أحد، هذا اللون من التوحيد لا يوجد في غير مدرسة أهل البيت (عليهم السلام).
الهوامش:
(1) بحار الأنوار 58: 187؛ مسند أحمد 2: 410.
(2) راجع: تفسير مجمع البيان 6: 360؛ تفسير الرازي 21: 143.
(3) الخصال: 470/ ح 17؛ مسند أحمد 5: 98.
(4) مسند أحمد 5: 87.
(5) تفسير ابن كثير 2: 34.
(6) أي حديث النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنَّ الخلفاء من بعده اثنا عشر، وقد تقدَّم.
(7) من ذلك ما ورد في الرواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) في حديث طويل قال: (ثمّ ذو القرنين عبد أحبّ الله فأحبّه الله وطوى له الأسباب وملَّكه مشارق الأرض ومغاربها وكان يقول الحقّ ويعمل به...)، (الكافي 5: 70 / باب معنى الزهد/ ح1).
(8) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 20: 319/ ح 660.
(9) قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (العلم علمان: مطبوع ومسموع، ولا ينفع المسموع إذا لم يكن المطبوع). (نهج البلاغة 4: 79/ ح 338).
(10) روى الشيخ الصدوق في أماليه (ص 187/ ح 196/7): بسنده إلى الحسن بن زياد العطّار، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (فاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة)، أسيّدة نساء عالمها؟ قال: (ذاك مريم، وفاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة من الأوّلين والآخرين).
وروى البخاري في صحيحه (ج 4/ ص 183): بسنده إلى عائشة، قالت: أقبلت فاطمة تمشى كأنَّ مشيتها مشى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): (مرحباً يا بنتي)، ثمّ أجلسها عن يمينه أو عن شماله ثمّ أسرَّ إليها حديثاً فبكت، فقلت لها: لم تبكين، ثمّ أسرَّ إليها حديثاً فضحكت، فقلت: ما رأيت كاليوم فرحاً أقرب من حزن، فسألتها عمَّا قال؟ فقالت: ما كنت لأفشي سرّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، حتَّى قبض النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فسألته، فقالت: (أسرَّ إليَّ أنَّ جبريل كان يعارضني القرآن كلّ سنة مرَّة، وإنَّه عارضني العام مرَّتين، ولا أراه إلاَّ حضر أجلي وإنَّك أوّل أهل بيتي لحاقاً بي)، فبكيت، فقال: (أمَا ترضين أن تكوني سيّدة نساء أهل الجنّة - أو نساء المؤمنين -؟)، روى نحوه الترمذي في سننه (ج 5/ ص 368/ ح 3985).
وروى الحاكم في مستدركه (ج 3/ ص 151): بسنده إلى حذيفة (رضي الله عنه)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (نزل ملك من السماء فاستأذن الله أن يسلّم عليَّ لم ينزل قبله، فبشَّرني أنَّ فاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة).
(11) رواه جمهور الخاصّة والعامّة بألفاظ عدّة والمعنى واحد، راجع - لا على الحصر -: الكافي 8: 49/ ح 10؛ كمال الدين: 78؛ الغيبة للنعماني: 65/ باب 4/ ح 1؛ مسند أحمد 2: 336؛ صحيح البخاري 4: 143؛ صحيح مسلم 1: 94؛ المعجم الكبير 9: 60؛ كنز العمّال 14: 266/ ح 38673؛ تاريخ مدينة دمشق 47: 501؛... وغيرهم.
******************
حيث تصرُّ هذه المدرسة على أنَّ الارتباط بين الأرض والسماء لن يقطع، وإن انقطعت النبوّة والرسالة، إلاَّ أنَّ بقيّة ألوان الارتباط بين الأرض والسماء وهي نظير ظاهرة العلم اللدنّي التي تؤمّن تفسير حاكمية الله السياسية ونزول الأوامر السياسية لله ونزول الأوامر القضائية في منعطفات خطيرة في مسيرة النظام البشري ونزول الأوامر العسكرية ونزول الأوامر التنفيذية ليست فقط أوامر تشريعية عامّة، كلاَّ فهناك أوامر تفصيلية له تعالى في كلّ حقبة بشرية وهناك من يقوم بها، كهذه المجموعة البشرية في حكومتهم الخفيّة، لأنَّهم يديرون ويدبّرون الأمر في خفاء من اختراقهم للنظم البشرية الأخرى، ويدبّرون ويديرون كلّ ما يملى عليهم من الله تعالى، لذلك ترى الخضر عندما وصفه القرآن: (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) يعني بهذا الوصف تأهَّل الخضر أن يخبر عن إرادة الربّ التفصيلية التنفيذية في الحاكمية، حيث قال: (فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا)، يخبر النبيّ موسى بأنَّ ما قام به من أدوار ليست اقتداراً منه أو من مجموعته في الشبكة البشرية الخفيّة (عَبْداً مِنْ عِبادِنا) والمأمورة بأوامر الله تعالى، بل: (فَأَرادَ رَبُّكَ)، فالإرادة التفصيلية غير الإرادة العامّة الكلّية في التشريع كقانون كلّي عامّ، فهناك إرادات تفصيلية تتنزَّل تطبيقاً لتلك الإرادات التشريعية العامّة بخصوص الموارد المهمّة، (فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) (الكهف: 82)، فـ (ما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) هو عن أمر الله عز وجل.
إذن هذه السورة تثبت وجود مجموعة أوامر لله تفصيلية تنفيذية تطبيقية لشرائع الأنبياء أولي العزم في كلّ عصر، وفي عصرنا الحاضر من الذي تتنزَّل عليه أوامر الله التنفيذية التطبيقية كما تنبئنا بذلك سورة الكهف؟ وعند أيّ مدرسة إسلاميّة تفسَّر هذه الظاهرة؟ هذه الحقيقة القرآنية بأنَّ هناك تنزُّلاً على أفراد مبشّرين حججاً مزوّدين بالعلم اللدنّي وليسوا بأنبياء ولا رسل تتنزَّل عليهم الأوامر الإلهية لتنفيذ تدبيرات مهمّة، أوَليس هذا القرآن قرآننا؟ أوَليس هذا الدين ديننا؟ أوَلا يجب علينا أن نؤمن بما يقوله القرآن الكريم؟ أوَليس ظاهرة الخضر ذكرها القرآن الكريم إجابة لما قد حصل من وجل واهتمام من النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في مطلع السورة على بقاء الدين، فكانت هذه إجابة وضمانة وبيان من الله لكيفية بقاء الدين.
فما يُذكر في قصَّة الخضر يتعلَّق بهذا الدين الخاتم، يتعلَّق بهذه الحقبة البشرية من بعد الرسول إلى يوم القيامة، فهناك إذن من تتنزَّل عليه الأوامر الإلهية التفصيلية التنفيذية التطبيقية، ولا يستطيع أحد أن يجيب عن حقيقة هذا الإنسان غير مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) القائلة ببقاء الاتّصال بالغيب بقناة غير قناة النبوّة وغير قناة الرسالة وغير الوحي النبوي ووحي الرسالة، لكنَّه علم لدنّي كما يثبته القرآن ليس في هذه السورة فحسب، بل في سور عديدة أخرى.
فهذه الظاهرة تتَّضح صلتها بالإمام المهدي (عليه السلام) وغيبته من خلال أنَّ الإمام المهدي (عليه السلام) هو ذو علم لدنّي، لأنَّه من هذه الأمّة، وقد أنبأ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) به وأخبر بأنَّ خلفاءه اثنا عشر، تتنزَّل عليه الأوامر الإلهية والبرامج الإلهية لنظم وإدارة البشر والأخذ بأيديهم من المنزلقات في المنعطفات الحادّة في أيّ بيئة من البيئات سواء الاقتصادية أو التجارية أو الخلقية أو الزراعية أو العقائدية أو الفكرية أو الروحية أو السياسية أو العسكرية، نعم تتنزَّل عليه أوامر إلهية ليقوم بأداء كلّ تلك الأوامر الحساسة، ويعضده وينصره ويؤازره مجموعة بشرية حكاها لنا القرآن الكريم، مجموعة عباد، والخضر واحد من أولئك العباد موصوفون بأنَّ عندهم رحمة بلطف خاصّ من عند الله عز وجل ولديهم علم لدنّي يخضع ضمن سلسلة مراتب القيادة الإلهية، فالخليفة هو المركز، ومَن دونَه يتبعه ويتلوه.
وهذا هو الذي قالت به مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، أي إنَّ الإمامة يجب أن تكون أيضاً منصباً إلهياً على ارتباط بالغيب، على ارتباط مع السماء، وإن كانت الإمامة تبعاً للرسالة، وإن كانت الإمامة تطبيقاً لشريعة النبيّ المرسل الخاتم، ولكن في التطبيق تحتاج إلى نظارة السماء وحاكمية الله عز وجل.
هذا اللون من التوحيد من اتّساع حاكمية الله ليس على صعيد التشريع فقط، بل على صعيد التطبيق في مظهر الاعتقاد والإيمان بأنَّ الإمام هو مهبط ومحطّة لهبوط الأوامر الإلهية التفصيلية التنفيذية، وبتزويده بالعلم اللدنّي يتأهَّل لهبوط ونزول الأوامر التفصيلية، ما هو إلاَّ إشعاع من مدرسة أهل البيت (عليهم السلام).
فما يُهرّج به رخصاء الكلام من أنَّ الشيعة يقولون في أئمّتهم بالنبوّات يريدون أن يتعاموا عمَّا يبيّنه القرآن الكريم عندما ذكر الخضر وشبكته البشرية المزوّدة بالعلم اللدنّي، فإنَّه لا يقول بأنَّ الخضر بُعث بشريعة تنافس شريعة النبيّ موسى، أو بشريعة تضاد شريعة النبيّ موسى، بل على العكس، الخضر (عليه السلام) وضَّح بعد ذلك للنبيّ موسى (عليه السلام) أنَّ كلّ ما قام به هو تطبيق لنفس شريعة النبيّ موسى، ومن ثَمَّ قنع بذلك، لذلك تقول الآية: (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) (الكهف: 78)، بأنَّه تطبيق لنفس الشريعة، ولكنَّه تطبيق خفي بتدبير من الله، ولا يمكن أن يكون من تدبير البشر. فإنَّ الشريعة الإلهية يراد لها تطبيق إلهي وليس على مستوى النظرية فقط، وهذا ما لا يوجد في غير مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، فهذا إذن محور مهمّ تعلّمنا وتربّينا عليه سورة الكهف وظاهرة الخضر هذه الظاهرة المشيّدة.
بعد ذلك تواصل الآيات سردها لظاهرة الخضر: (قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) (الكهف: 66)، وهنا يبيّن القرآن الكريم أنَّ نبيّاً مرسلاً من أولي العزم يتَّبع من يكون مزوَّداً بالعلم اللدنّي، فإذن لا يمكن أن يستنكر أحدهم تبعية النبيّ عيسى (عليه السلام) للإمام المهدي (عليه السلام)، فها هو القرآن يبيّن لنا هذا النموذج، ثمَّ إنَّ هذا الاستنكار مِن ماذا؟ ألأنَّ المهدي من ذوي القربى من أهل البيت أفلا يكنّ له محبّة وقد عظَّم القرآن من شأنه؟!، بل هو الخليفة على الخضر، فإن كان النبيّ موسى قد تبع الخضر مع أنَّ القرآن الكريم لم يصفه بأنَّه خليفة، بل وصفه بأنَّه حجّة مصطفاة، وفي ضمن مجموعة بشرية، ولكن هذه المجموعة البشرية هي تبع للخليفة الذي ذكرته سورة الكهف كضمانة له، وذكرت الخضر كضمانة ثالثة لبقاء الدين، فمجموعة الخضر وشبكته تدور في دوائر مرتبطة متّصلة بالمركز، وهو الخليفة، فهذه حقيقة عقائدية عقدية قرآنية بيّنة بائنة برهانية لا يستطيع الإنسان المسلم والمؤمن التنصّل منها أو التجاوز عليها.
الكثيرون وربَّما في سطحية من التفكير يتبادر إليهم أنَّ الحكومة التي يديرها ويدبّرها الإمام المهدي (عليه السلام) يجب أن تكون معلنة مكشوفة الأوراق والأدوات والأجهزة، بينما القرآن الكريم مذ نزل على النبيّ الخاتم الأمين (صلى الله عليه وآله وسلم) بيَّن لنا أنَّ السُنّة الإلهية التي هي ليست خاصّة بهذه الأمّة، بل سُنّة إلهية من زمن النبيّ موسى فضلاً عن هذه الأمّة هي أنَّ هناك مجموعة بشرية (عَبْداً مِنْ عِبادِنا) تمثّل وتجسّد حكومة إلهية خفيّة في كلّ الأزمان، وظاهر هذا البيان القرآني أنَّ هذه الحكومة موجودة لدى كلّ الحجج والأنبياء والمرسلين السابقين من لدن آدم إلى نوح إلى إبراهيم(1)، وكذلك في حقبة النبيّ موسى وعيسى وفي عهد خاتم النبيّين (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو إمام الأئمّة وإمام البشر وسيّد الكائنات، إلى حقبة ما بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) من الأئمّة الخلفاء الاثني عشر من أهل بيته، إلى هذه الحقبة التي نعيش نحن فيها، حقبة غيبة وخفاء وتكتّم وسرّية، فهناك حكومة خفيّة، ألا ترى أنَّ الله عز وجل أخبر إبراهيم في سورة البقرة فقال: (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً)، فقال إبراهيم بعد ذلك: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة: 124)، يعني أنَّ غير الظالمين من ذرّيته ينال ذلك، وقد وصف القرآن الكريم إسحاق ويعقوب وبقيّة ذوي وذراري إبراهيم بأنَّهم أئمّة: (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ) (الأنبياء: 73)، أو في آية أخرى: (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) (السجدة: 24)، وفي سورة النساء: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) (النساء: 54)، فالقرآن يخبر بأنَّه قد جعل إبراهيم وآل إبراهيم أئمّة: (وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً)، مع أنَّ التاريخ البشري لا يحدّثنا أنَّ النبيّ إبراهيم أو ذرّية من آله رغم كونهم أئمّة من قِبَل الله للناس، أنَّهم قد أسَّسوا حكومات معلنة أو ملكاً معلناً، لكن القرآن الكريم هو أصدق القائلين: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً) (النساء: 122)، ينبئنا ويخبرنا أنَّه آتى آل إبراهيم ملكاً عظيماً، فأيُّ ملك هذا؟
الملك هو الإمامة منهم، المصطفون منهم، المجتبون منهم، ولملكهم بُعد في الملكوت من إطاعة الملائكة لخليفة الله الإمام بنصّ سورة البقرة وغيرها من السور بأنَّ الخليفة مطاع، فالملائكة كلّهم جند مجنَّدة وأعوان لخليفة الله في الأرض.
ومن صلاحيات ذلك الخليفة الموجود والمستمرّ إلى يوم القيامة _ كما يعرّف ذلك لنا القرآن الكريم _ هو السجود له من قِبَل الملائكة: (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا) (الإسراء: 61)، وهو هنا كناية عن مطلق الطاعة والخضوع والانقياد والمتابعة، وفي آية أخرى: (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) (ص: 71 _ 73)، أنظر التعبير في القرآن الكريم فـ (أل) صيغة جمع تعميم، صيغة استيعاب وشمول، وكذلك الواو والنون في (أَجْمَعُونَ) يدلُّ كذلك على أنَّ القرآن الكريم لم يستثن تجنيد أيّ مَلَكٍ من الملائكة حتَّى الملائكة المقرَّبين عن طاعة وعون خليفة الله في الأرض، وهذا طبعاً مُلك عظيم، وصف بالملك العظيم إذا كان كلّ درجات الملائكة وكلّ مقامات الملائكة طوّعت وأخضِعَت وأمرت بالانقياد والمتابعة لخليفة الله في الأرض، فلا ريب من أنَّ هذا مُلك عظيم يتجاوز مُلك وقدرات البشر، وحتَّى في سورة الكهف وفي سبع سور قرآنية أنَّ الخليفة من صلاحياته وقدراته وسلطته وسطوته طوعانية وإطاعة جميع الملائكة له كحكومة ملكوتية.
قد يقول القائل: إذا كان الإمام والخليفة عنده هذه القدرة، فلماذا لا يصلح الأرض في ليلة وضحاها؟ هذا ما يقوله الكثيرون ممَّن يسترخصون الفكر ويسترخصون الكلام ويحبّون المشاغبة بأيّ إثارة ولو كانت رخيصة أو خاوية، وهذا السؤال لا يوجّه لقضيّة الإمام المهدي فقط، بل يوجّه للنبيّ إبراهيم حيث كان إماماً من قبل الله، فلماذا لم يسحق نمرود بالملائكة، فيأتي جناح جبرائيل فيجعل سافلها عاليها؟ وهذا حينئذٍ يكون خلاف البرنامج الإلهي من امتحان البشر، وخلاف الحكمة الإلهية لامتحان البشر، فلا تفويض للبشر لجعل زمام أمورهم بيدهم، ولا جبر، وإنَّما أمر بين أمرين، فلو كان قسراً وإلجاءً إلى الله في كلّ الأمور لكان جبراً، وبذلك تبطل حكمة الامتحان والاختيار، ولو كان انعزالٌ للإرادة الإلهية في التنفيذ أو انعزالٌ للحاكمية الإلهية في التنفيذ، لكان نفوذاً للبشر وتفويضاً باطلاً، فنحن لا نقرأ بطلان التفويض على صعيد الفعل الفردي فقط، بل نقرأ بطلان نظرية التفويض على صعيد النظام الاجتماعي والنظام السياسي والنظام البشري، فليس البشر مفوّضين إلى أمرهم أو موكّلين إلى إرادتهم البشرية، ولا مجبرين بالقسر، وإنَّما أمر بين أمرين، إرادة بشرية وإرادة إلهية تمتزجان وبالتالي تكون جادة الامتحان وجادة الاختبار الإلهي والحكمة الإلهية (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) (الأنفال: 42).
فنظرية الاختيار تتجلّى على صعيد الرؤية الاجتماعية وعلى صعيد النظام الاجتماعي والسياسي، أي إنَّه لا جبر ولا تفويض في النظرية الاجتماعية والنظرية السياسية، وهذا يتمثَّل بعقيدة الإمامة الإلهية، بعقيدة أنَّ هناك خليفة من الله منصوب، حكومة خفيّة، وكما مرَّ بنا فإنَّ إبراهيم وآل إبراهيم آتاهم الله ملكاً عظيم، توصف هذه القدرة وهذا التدبير بالملك العظيم لأنَّه كما حدَّثنا القرآن الكريم أنَّه يطوّع الله عز وجل للخليفة كلّ ملائكته بلا استثناء حتَّى الملائكة المقرَّبين في حكومته الملكوتية، نعم الكثير يظنّ في محاسباته الفكرية على أدبيات ربَّما سياسية قديمة أكل الدهر عليها وشرب من أنَّ الحكومة لا يقرّ بوجودها إلاَّ إذا كانت معلنة مكشوفة في العلن إلى منصّة الظاهر ومنصّة العلم البشري والمعرفة البشرية، وهذا طبعاً منهج وفكر خاطئ في الأدبيات السياسية والإدارية والأمنية والنظمية، فقد بات واضحاً بديهياً في الأدبيات الأكاديمية حتَّى السياسية والعلوم الاجتماعية السياسية أنَّ هناك أشكالاً وألواناً متعدّدة من الحكومات، فالكثير من قوى النفوذ الحكومية في الدول ليست هي في الحقيقة عبر ما يشاهد من وزارات رسمية معلنة معروفة أو آليات وأدوات عسكرية إدارية رسمية، بل إنَّ الحكومات الخفيّة هي في الواقع مصدر القدرة النافذ للدول وباتت الآن أمراً واضحاً بديهياً لديهم.
وهذه النظرية والرؤية في العلوم الاجتماعية السياسية وفي معرفة معنى الحكومة وتنوّعها قد بيَّنها القرآن الكريم في الواقع في سور عديدة قبل أربعة عشر قرن وقبل أن يهتدي إليها البشر في القرون الأخيرة، حيث إنَّ القرآن الكريم _ كما مرَّ بنا _ يصف إمامة إبراهيم وآل إبراهيم أنَّها إمامة فعلية للناس، نصبوا من قبل الله عز وجل، وهذا منصب إلهي _ كما مرَّ بنا غير منصب النبوّة والرسالة _ لا تجد له تفسيراً عقدياً اعتقادياً في غير مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، فهناك منصب الرسالة، ومنصب النبوّة، وهناك منصب الإمامة وهو منصب الخلافة الإلهية، والإمامة من المناصب التي صرَّح ونادى بها القرآن الكريم: (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً)، والخلافة اسم آخر لنفس المسمّى وهي الإمامة، ولم يقل النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): لا خليفة بعدي، بل قال: (الخلفاء بعدي اثنا عشر)، نعم هذه الإمامة وهذه الخلافة وصفها القرآن الكريم بأنَّها ملك عظيم، ولم يحدّثنا التاريخ البشري _ كما قلنا _ بأنَّ إبراهيم استولى على حكومة ظاهرية معلنة معروفة المعالم، أو رسمية رسمت وعرفت من قبل العرف البشري، ولكن مع ذلك قام بأدوار تعجز عنها أكبر الحكومات، ففي عهد وظلّ إمامته نجح في هداية البشرية من عبادة غير الله من الأصنام أو النجوم أو الكواكب إلى الملّة الحنيفة وعبادة الله الواحد الخالق، إذ أنَّ شعوب الشرق الأوسط اهتدت على يديه، وهي ما يعادل الآن ثلاثين دولة أو أكثر، شعوب ثلاثين دولة استطاع النبيّ إبراهيم أن ينشر تعاليم رسالته بما لا تستطيع أن تقوم به دول عظمى في عصرنا الحاضر، لأنَّ التبديل العقائدي أصعب أنواع التبديل والتغيير، إذ ربَّما يحدث تغيير سياسي أو تغيير عسكري أو تغيير اقتصادي، أو تغيير في الأخلاق الاجتماعية، لكن التغيير العقدي الاعتقادي فهذا لا تستطيع أن تقوم به دول، ومع ذلك قام به إبراهيم كفرد أو في ضمن مجموعة أو شبكة بشرية خفيّة، حيث تتشكَّل الحكومة الخفيّة للنبيّ إبراهيم في بُعدها الملكي وفي بُعدها البشري وفي بُعدها من ناحية الأسباب المادية مضافاً إلى الحكومة الملكوتية من طاعة الملائكة عبر برمجة البرنامج الإلهي والأوامر الإلهية، وهذه الحكومة التي يصفها القرآن بالمُلك العظيم في سورة النساء توجد في هذه الأمّة الإسلاميّة مثلها حيث إنَّ هناك ثلّة قد آتاهم الله منصب الإمامة: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) (النساء: 54)، هذا الملك العظيم الذي يصفه القرآن الكريم لآل إبراهيم يتجسَّد في هذه الأمّة أيضاً من خلال وجود الخلافة، وهو طاعة الملائكة وغيرهم وتجنيدها بما فيهم المقرَّبون، وهنا أيضاً تطالعنا ظاهرة الخضر، فهذه الحكومة مفعّلة من قبل الله عز وجل من لدن آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى إلى نبيّنا الأكرم سيّد الرسل وسيّد الكائنات، ثمّ الخلفاء من بعده التابعين له المنقادين له.
فمن السذاجة أو من الغفلة أن يظنّ الظانّ أو القارئ للقرآن الكريم أو المسلم أو المؤمن أنَّ حكومة المهدي (عليه السلام) تتشكَّل فقط في عصر الظهور، بل هي مشكّلة الآن من هذه الشبكة البشرية: (فَوَجَدَا عَبْداً)، من مجموعة (مِنْ عِبَادِنَا)، هنا يعزي لهم القرآن الكريم أدواراً خطيرة في مصير البشرية، هذه نكتة ونقطة مهمّة وحساسة وهي أنَّ القرآن الكريم ينبئنا في إجابته عن الضمانات لوجل النبيّ في بقاء الدين وانتشاره وظهوره على الدين كلّه، ليس من عمل المصادفة تحقّق الوعد الإلهي، وليس من الفجأة، وليس أيضاً من الإلجاء الإلهي، فإنَّ سُنّة الله أن تجري الأمور بأسبابها (لا جبر ولا تفويض)، هذا الدور الذي يقوم به الحجّة ليس دوراً فردي، وإنَّما هو دور منظومي ومجموعي، دور في ظلّ حكومة خفيّة وفي ظلّ مجموعة بشريّة وشبكة بشرية منتشرة في أرجاء الأرض، كما ينبئنا بذلك القرآن الكريم، حتَّى في أوّل اللقاء بين موسى والخضر في مجمع البحرين، فهذه الشبكة موجودة في بقاع الأرض وأرجاء الأرض كافّة، ولكن لم يفصّل لنا القرآن الكريم إلاَّ بهذا القدر، هذا درس وصرح عقائدي يبرزه لنا القرآن الكريم في سورة الكهف لهذه الأمّة لهذه الحقبة الزمنية إلى موعد الظهور والإنجاز الإلهي من إظهار الدين على أرجاء الأرض كافّة.
هناك إذن حكومة حقبة بشرية، غاية الأمر أنَّ البشر لا بدَّ أن يقوموا بالمسؤولية التي على عاتقهم من النصرة لدين الله والنصرة لإنجاز وعد الله.
دور الإمام المهدي (عليه السلام) ليس فردياً في الغيبة:
هناك شاهد قرآني عظيم على حقيقة الإمام المهدي (عليه السلام)، لأنَّ طول عمر الخضر متسالم عليه باتّفاق كلمة المفسّرين واتّفاق كلمة فِرَق المسلمين، إلاَّ من شذَّ وندر، وطول العمر هذا مقارن لقيامه واضطلاعه بأعباء المسؤولية التي توكل إليه من ربّ العالمين، من خلال العلم اللدنّي الذي زوَّده به الله تعالى، والقرآن لم يحدّثنا كثيراً عن مجموعة الخضر إلاَّ أنَّه عرَّفهم بأنَّ عندهم رحمة ولطف خاصّ من الله: (آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) (الكهف: 65)، فعبودية الخضر ومجموعته تتَّصف بمثل هذا المقام، وهو مقام العلم اللدنّي، وفي الواقع فإنَّ هذه الأدوار التي سنخوض فيها شيئاً فشيئاً نرى أنَّها ليست أدوار فعل فردي، بل أدواراً ترتبط بالفعل النظامي والنظمي والفعل الاجتماعي والظاهرة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وبعبارة أخرى الفعل بالظاهرة النظمية فعل في النظم وفي التدبير، وفي الإدارة والمس والمسيس بمجمل النظام البشري، مثلاً في بداية هذه الأنشطة التي يحدّثنا بها القرآن الكريم عن الخضر ومجموعته، تواصل الآيات: (قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) (الكهف: 66)، تبيّن الآية هنا الرشد مقابل الغيّ، وهي هداية مقابل هواية، إذ لم يعبّر النبيّ موسى بالقول: هل أتبعك على أن تعلّمني ممَّا علّمت شريعة، أو ممَّا علّمت منهاج، أو ممَّا علّمت من الدين الإلهي وإنَّما: (مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً)، والرشد هو الصواب في تطبيق الشريعة وإقامة الشريعة في النظام الاجتماعي، وهذا أيضاً تدليل آخر دالٌّ على أنَّ دائرة وحومة وحوزة البرنامج الذي يقوم به الخضر والشبكة البشرية هي في مجال إقامة الشريعة، وفي مجال إقامة النظام للشريعة وتطبيقها، (قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ)، فقال له موسى (عليه السلام): (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً).
قال الشهيد الثاني (قدس سره)(2):
(إنَّ قول موسى (عليه السلام): (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً)، دلَّت على اثنتي عشرة فائدة من فوائد الأدب)(3)، ولا ريب أنَّ هذه الآداب آداب إلهية علَّمها الله عز وجل أنبياءه، ممَّا يدلُّ على خطورة الأمور وواقعية هذه الشبكة والمجموعة البشرية التي تقوم بهذه الأدوار، بعد ذلك تواصل الآيات: (قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) (الكهف: 67 و68)، هنا يبيّن الخضر قاعدة معرفية أو ضابطة فيها معارف جمّة يستنير منها الإنسان، وهي أنَّ طبيعة الإنسان أنَّه لا يصبر على ما لم يحط به علماً دوم، باعتبار أنَّ العلم يوسّع أفق الإنسان ويشرح صدره وبالتالي يزيد في صبره ومقاومته وقوّته، ومن ثَمَّ فإنَّ الذي ييأس من بصيص الأمل تكون حصيلة صبره لا ريب ضعيفة وقليلة، بخلاف الذي يفتح له الأمل والاحتمال الذي هو عبارة عن اتّساع الأفق، والنظر إلى ما وراء، وعدم الاحتجاب بحجاب قاصر، بل رمي البصر والبصيرة إلى أبعاد وسيعة، ومن ثَمَّ يعلم ضرورة الاعتقاد والإيمان بالمنجي والمصلح، وأنَّه لماذا (أفضل أعمال أمّتي انتظار الفرج من الله عز وجل)؟ كما ورد في الحديث النبوي؛ لأنَّ انتظار الفرج باعث على الحيوية وباعث على الأمل وباعث على عدم الركوع والخنوع والانكسار والسقوط، بل في الواقع يضخّ في الإرادة الإنسانية أو في إرادة المجتمع الإسلامي مزيد القوّة ومزيد الإرادة، لأنَّ الأمل يوسّع ويتَّسع ويفتح ويفرج ولذلك سمّي الفرج فرجاً، لأنَّه يفرج في الواقع من ضيق الأفق إلى آفاق أوسع وأوسع، ومن ثَمَّ تكون حينئذٍ إرادة المجتمع الإسلامي إرادة قوّية حديدية لا تنكسر أمام الخصوم وأمام ضغوطات الأعداء، مهما كانت تلك الضغوطات وتلك المخطّطات الهدّامة التي تفت في العضد، ولكن مع وجود بارقة الأمل تجعل الثبات والصبر وطيداً.
أنقل هنا عبارة لخبير أمني استراتيجي فرنسي يُدعى (فرانسوا توال) كتب كتابه (الجغرافيا السياسية للشيعة) بعد سقوط الطاغية صدام ونشر في مراكز الدراسات الغربية حيث يذكر فيه أنَّ الاعتقاد بالإمام المهدي يضخّ وينبض بالأمل وبالإرادة وبالثبات وبقوّة الاستقامة وقوّة الشخصية لأتباع أهل البيت، لأنَّ وجود الأمل يجعلهم لا ينكسرون ولا ييأسون ولا يستيئسون، بل حينئذٍ يدوم ثباتهم وغايتهم وقوّتهم، وكذلك ذكر في كتابه أنَّ معنى الغيبة للإمام المهدي (عليه السلام) يعني فيما يعنيه الخفاء في الحركة والنشاط وحيوية الحركة في أفق واسع متّسع في الغيبة.
فهو باعتباره خبيراً أمنياً فَهـِم والتقط الشفرة العقائدية المهمّة في معنى الغيبة، وأنَّها ليست بمعنى أسطورة وخرافات، وإنَّما الغيبة تعني خفاء وسرّية الحركة في ظلّ نشاط وأدوار في النظام البشري، هذا الذي استوحاه من معنى عقيدة الغيبة للإمام المهدي (عليه السلام)، بل الملفت للنظر في كلامه أنَّه لا يتعرَّض لغيبة المهدي (عليه السلام) تحت عنوان أنَّ الشيعة تزعم ذلك، بل يتعاطى مع غيبته كحقيقة راهنة مفروغ عنها وأنَّها سرّ قوّة التشيّع والشيعة.
كما قال أيضاً حول العقيدة بالعدالة المهدوية: (هذه العقيدة مرشّحة لأن تعتنقها المجتمعات البشرية أجمع بين ليلة وضحاها، وبأسرع ممَّا انتشرت فيه الشيوعية)، هذا نصّ عبارته، ومن ثَمَّ يكتب عن هذه الحقيقة فيقول: (أنا أهيب بالساسة الدوليين والمراقبين الدوليين أن يتعرَّفوا على نظرية وعقيدة العدالة المهدوية، لأنَّها هي الأطروحة المستقبلية التي لا بدَّ أن يتصدّى في قبالها نظم وأنظمة الغرب)، ومن ثَمَّ هو يهيب بالمراقبين الدوليين والساسة العالميين أن يولوا العناية والتفكير بدراسة مثل هذه الأطروحة لأجل التصدّي، وما شابه ذلك حسبما هو يذكره.
وهناك جملة من الباحثين في علم الاجتماع يذهبون إلى أنَّ الغرب وحتَّى شرق آسيا قد ينعم بنسبة من الحرّية ونسبة من العدالة، ولكن إلى الآن لم ينعم هؤلاء بالعدالة، وهم يتطَّلعون إلى العدالة الكاملة ومن ثَمَّ الأطروحة التي تحقّق مثل هذا الأمل، أو هذه الأنشودة التي تخفق بها قلوب البشر، سرعان ما تنجذب البشرية إليها بشكل خفّاق وسريع وأخّاذ بمجامع القلوب والعقول.
والحاصل إنَّ أدنى منصف نخبوي يفهم لغة الأمن الاستراتيجي، ولغة الأدوار النظمية يفسّر معنى الغيبة للإمام المهدي (عليه السلام) أنَّها عبارة عن هذا المنهاج وهذا التقدير الإلهي الذي هو في الواقع نوع من التوطيد الأكثر دقّةً لقيام الإمام المهدي (عليه السلام) مع الشبكة التي تحيط به، وهي ظاهرة الخضر ومجموعته المزوَّدون بالعلم اللدنّي بقيامهم بدور الحكومة الخفيّة.
وهنا يحضرني كلام لوزير الدفاع الأمريكي كتبه في مجلة اسمها ما ترجمته (الشؤون الخارجية الأمريكية) في عددها الصادر في (2002م) لعدد شهر مايو الشهر الخامس والسادس الميلادي، حيث تحدَّث عن التحوّلات العسكرية في المنطقة وفي العالم، قال: (إنَّ التحدّي الذي يواجهنا في القرن الجديد تحدٍّ مختلف، علينا الدفاع عن أمّتنا ضدّ المجهول غير المعلوم غير المرئي وغير المتوقّع).
لماذا وصف العدوّ في زعمه أنَّه عدوّ (مجهول) علينا الدفاع عن أمّتنا ضدّ المجهول؟، ويا ليته ينتشل أمّته من الفقر ومن الحرمان الذي يفرضه واقع الطبقة الاقطاعية، لأنَّه كما تحدَّثت منظّمة الأمم المتّحدة قبل سنين في تقرير لها: أنَّ ما يقرب من تسعين بالمائة من ثروات أمريكا هي بحوزة ما يقرب من أربعة بالمائة من الشعب الأمريكي. وبقيّة الشعوب الأمريكية من الطبقات المتوسّطة أو المحرومة المسحوقة، وهنا يدّعي الدفاع عن أمّته، والحال أنَّ الإمام المهدي (عليه السلام) يبعثه الله لإفشاء ونشر العدالة والقسط في الأرض. فذكر أربع صفات: المجهول، غير المعلوم، غير المرئي، غير المتوقّع. هذا يكتبه في مقالة تصدر في مجلة رسمية تصدرها وزارة الخارجية الأمريكية، بعد ذلك يواصل عبارته:
(ممكن أن يبدو ذلك مهمّة مستحيلة، لكن هذا هو الحلّ للقيام به، علينا أن نضع جانباً الطُرق المريحة للتفكير والتخطيط، وأن نأخذ المخاطر ونجرّب أشياء جديدة)، يقول هو حسب زعمه: (هكذا يمكننا مواجهة وهزيمة الخصوم الذين لم يبرزوا بعد ليتحدّونا)، خصوم وصفهم بأنَّهم لم يبرزوا بعد، ولا يشير هذا الوصف إلى القاعدة فإنَّها إن صحَّ مواجهتها للدول الغربية وما شابه ذلك، فهي الآن أصبحت معلومة، وبرزت في ميدان مع الغرب على حسب السيناريو الظاهر المطروح.
فالمقصود بتعبيره: (الذين لم يبرزوا بعد ليتحدّونا)، وتعبيره: (ضدّ المجهول، غير المعلوم، غير المرئي، غير المتوقّع) أنَّهم يقرأون من هذه الأدبيات أنَّ غيبة الإمام المهدي (عليه السلام) هي غيبة خفاء وليست غيبة مزايلة عن ساحة الحدث وابتعاد عن مجريات الأمّة، بل هو في كبد شؤون الأمّة، وتحيطه مجموعة من خلالها يقوم بأدوار يعيى ويعجز البشر بالرغم ممَّا أعدّوا من أسلحة عملية وقنوات استخباراتية وآليات ضخّ المعلومات؛ لأنَّهم لا يستطيعون إلى الآن أن يكتشفوا مثل هذه المجموعة المؤثّرة التي نقرأها في أدبيات المسلمين وأحاديث النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) والقرآن وأحاديث أهل البيت (عليهم السلام) حول الإمام المهدي (عليه السلام)، وأيّما خبير أمني استراتيجي تعطيه سورة الكهف أو ظاهرة الخضر ليقرأها فإنَّه يستنبط منها أنَّها عملية مجموعة أو منظومة تقوم بأدوار حكومة في الأرض، أو تقوم بمثل هذه الأدوار في ظلّ خفاء مطبق؛ لأنَّ أدواتها العلمية ليست عن طريق الأثير ولا عن طريق الأسباب المادية، بل عن طريق العلم اللدنّي الذي زوّدت به، وهو رحمة ولطف إلهي خاصّ، فهو يفوق أفق البشر.
نعم تواصل الآيات في قول الخضر للنبيّ موسى: (قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) (الكهف: 67 و68)، فالأزمة في البشرية هي المعرفة، أي إنَّها تجحد ما وراء علمها، وهذا هو منهج: (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) (يونس: 39)، وهذه توصية من القرآن أنَّ الإنسان عندما لا يحيط بشيء علماً أو خبراً فلا يجحده، بل يسعى ويجري إلى الفحص عن حقيقته؛ فإذا كان شعار الإنسان التصديق بما يحيط به علماً، والإنكار بما لا يحيط به علماً، فهذا شعار تفشّي الجهل، والجهل عدوّ، لأنَّ قوافل العلم في العلوم المختلفة عند هؤلاء البشر هو اكتشاف المجهول، ولو لم يكن حرص البشر وأمل النخبة المتخصّصة من البشرية في أيّ علم من العلوم لأجل اكتشاف المجهول والرغبة في كشف الستار عن علم خفي عن حدود إحاطة البشر، فلو لم تكن لديهم تلك الرغبة، ولو لم يكن لهم ذلك الأمل لوقفت قوافل العلوم البشرية، فالنهج العلمي هو عدم إنكار المجهول، وذلك بالسعي والبحث عنه، إذ له أعيان وعينية تكوينية في الخارج.
وإنكار ما لا يعلمه الإنسان ليس قاعدة ولا منهجاً علمي، وإنَّما هو منهج جهالة، لاسيّما مع عدم الإحاطة الحسّية بالأشياء، وقد تكون أمور كثيرة يعلمها الإنسان الآن، كالكهرباء إذ لا يشاهدها بالحسّ ولكن يعلمها عن طريق استخدامه، وكثير من الأمور المغيبة عن حسّ الإنسان، فهل من الصحيح أن يبادر الإنسان بالتكذيب والجحود بها؟ هذا منهج الجهلاء وطريقة الأميين، فشعار العلم هو الفحص والتحرّي والتنقيب عمَّا لا يعلمه الإنسان، لا المبادرة والمسارعة بالإنكار والجحود للذي لا يعلمه، هذا ما يوصي به الخضر: (قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً)، هذه هي طبيعة الإنسان، (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً)، ما لا يعلمه الإنسان من ضيق أفقها في طبيعتها _ وإن كان الأنبياء منزّهين طبعاً عن ذلك _ وإنَّما هي طبيعة الخلقة البشرية، الأنبياء بما زوّدوا من كمالات لا ينحازون لمثل هذا النقص البشري، ولكن هذا النقص موجود عند الإنسان عندما لا يحيط بشيء يتأكّده، ويثقل على كاهله التفتيش والتنقيب والتعلّم عمَّا لا يعلم، فيبادر بالإنكار والجحود، كما ورد عن الباقر (عليه السلام): (لو أنَّ العباد إذ جهلوا وقفو، لم يجحدوا ولم يكفروا).(4)
الهوامش:
(1) عن محمّد بن عبد الله بن محمّد طيفور قال في قول إبراهيم (عليه السلام): (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى...) الآية (البقرة: 260): إنَّ الله عز وجل أمر إبراهيم أن يزور عبداً من عباده الصالحين، فزاره فلمَّا كلَّمه قال له: إنَّ لله تبارك وتعالى في الدنيا عبداً يقال له: إبراهيم اتَّخذه خليلاً، قال إبراهيم: وما علامة ذلك العبد؟ قال: يحيى له الموتى، فوقع لإبراهيم أنَّه هو فسأله أن يحيى له الموتى، (قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) يعنى على الخلّة، ويقال: إنَّه أراد أن تكون له في ذلك معجزة كما كانت للرسل، وإنَّ إبراهيم سأل ربَّه عز وجل أن يحيى له الميّت فأمره الله عز وجل أن يميت لأجله الحيّ سواء بسواء وهو لمَّا أمره بذبح ابنه إسماعيل، وأنَّ الله عز وجل أمر إبراهيم (عليه السلام) بذبح أربعة من الطير، طاووساً ونسراً وديكاً وبطاً، فالطاووس يريد به زينة الدنيا، والنسر يريد به الأمل الطويل، والبط يريد به الحرص، والديك يريد به الشهوة، يقول الله عز وجل: إن أحببت أن يحيى قلبك ويطمئن معي فاخرج عن هذا الأشياء الأربعة، فإذا كانت هذه الأشياء في قلب (عبدي) فإنَّه لا يطمئن معي، وسألته: كيف؟ قال: أوَلم تؤمن؟ مع علمه بسرّه وحاله، فقال: إنَّه لمَّا قال: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى)، كان ظاهر هذه اللفظة يوهم أنَّه لم يكن بيقين فقرَّره الله عز وجل بسؤاله عنه، إسقاطاً للتهمة عنه وتنزيهاً له من الشكّ. (علل الشرائع 1: 36/ باب 32/ ح 8).
(2) هو الشيخ الشهيد السعيد زين الدين بن نور الدين علي بن أحمد العاملي الشامي الجبعي المعروف بالشهيد الثاني، من مشاهير الفقهاء المتبحّرين العظام، ومن الوجوه المشرقة في التاريخ الدموي للإسلام، ولد في (13) شوال سنة (911هـ) في جبع، ختم القرآن وعمره تسع سنوات، درس على والده ثمّ سافر إلى ميس ودرس فيها، ثمّ ارتحل إلى الشام ودرس فيها على عدّة من علمائها، ثمّ ذهب إلى مصر ودرس فيها عند أفاضل علمائها، له من الآثار (79) مصنَّفاً، أشهرها الروضة البهية ومسالك الأفهام، واستشهد (رحمه الله) سنة (965هـ) في قصَّة مفصَّلة كما حكاها السيّد الأمين في أعيان الشيعة 7: 143 - 158/ الرقم 493، فراجع.
(3) قال الشهيد الثاني (قدس سره) في كتابه (منية المريد: 235 - 237): (وفي قوله: (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) جملة جليلة من الآداب الواقعة من المتعلّم لمعلّمه، مع جلالة قدر موسى (عليه السلام) وعظم شأنه، وكونه من أولي العزم من الرسل، ثمّ لم يمنعه ذلك من استعمال الآداب اللائقة بالمعلّم، وإن كان المتعلّم أكمل منه من جهات أخرى... نشير إلى ما يتعلَّق بالكلمة الأولى، وهي قوله: (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً). فقد دلَّت على اثنتي عشرة فائدة من فوائد الأدب:
الأولى: جعل نفسه تبعاً له، المقتضي لانحطاط المنزلة في جانب المتبوع.
الثانية: الاستيذان ب‍ (هَلْ)، أي هل تأذن لي في اتّباعك، وهو مبالغة عظيمة في التواضع.
الثالثة: تجهيل نفسه والاعتراف لمعلّمه بالعلم بقوله: (عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ).
الرابعة: الاعتراف له بعظيم النعمة بالتعليم، لأنَّه طلب منه أن يعامله بمثل ما عامله الله تعالى به، أي يكون إنعامك عليَّ كإنعام الله عليك. ولهذا المعنى قيل: (أنا عبد من تعلَّمت منه). و(من علَّم إنساناً مسألة ملك رقّه).
الخامسة: أنَّ المتابعة عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير، لكونه فعله لا لوجه آخر، ودلَّ ذلك على أنَّ المتعلّم يجب عليه من أوّل الأمر التسليم، وترك المنازعة.
السادسة: الإتيان بالمتابعة من غير تقييد بشيء، بل اتّباعاً مطلقاً، لا يقيّد عليه فيه بقيد، وهو غاية التواضع.
السابعة: الابتداء بالاتّباع، ثمّ بالتعليم، ثمّ بالخدمة، ثمّ بطلب العلم.
الثامنة: أنَّه قال: (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ)، أي: لم أطلب على تلك المتابعة إلاَّ التعليم، كأنَّه قال: لا أطلب منك على تلك المتابعة مالاً ولا جاهاً.
التاسعة: (مِمَّا عُلِّمْتَ) إشارة إلى بعض ما علم، أي لا أطلب منك المساواة، بل بعض ما علمت، فأنت أبداً مرتفع علي زائد القدر.
العاشرة: قوله: (مِمَّا عُلِّمْتَ) اعتراف بأنَّ الله علَّمه، وفيه تعظيم للمعلّم والعلم وتفخيم لشأنهما.
الحادية عشرة: قوله: (رُشْداً) طلب الإرشاد، وهو ما لولا حصوله لغوي وضلَّ، وفيه اعتراف بشدّة الحاجة إلى التعلّم، وهضم عظيم لنفسه، واحتياج بيّن لعلمه.
الثانية عشرة: ورد أنَّ الخضر (عليه السلام) علم أوّلاً أنَّه نبيّ بني إسرائيل، موسى (عليه السلام) صاحب التوراة الذي كلَّمه الله عز وجل بغير واسطة، وخصَّه بالمعجزات، وقد أتى - مع هذا المنصب - بهذا التواضع العظيم بأعظم أبواب المبالغة، فدلَّ على أنَّ هذا هو الأليق، لأنَّ من كانت إحاطته بالعلوم أكثر كان علمه بما فيها من البهجة والسعادة أكثر، فيشتدّ طلبه لها، ويكون تعظيمه لأهل العلم أكمل).
(4) المحاسن للبرقي 1: 216/ ح 103.
******************
هل يمكن ادّعاء شخص أنَّه من رجال الغيب؟
سؤال: هل يمكن أن يدّعي أحد أنَّه من عناصر الشبكة التي عرفناها في القرآن الكريم من خلال سورة الكهف في قوله تعالى: (عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا)؟
الجواب: لا يمكن أن يدّعي أحد هذا الادّعاء، وإن ادّعى هذه الدعوى فهذه علامة الكذب والدجل والافتراء، لأنَّ من خاصّية هذه الشبكة هي السرّية التامّة والخفاء التامّ، إذ كان لقاء النبيّ موسى مع الخضر محاطاً بهالة من السرّية والتعتيم والتكتّم الإلهي بعلامتين (مجمع البحرين) و(ضياع الحوت) ضياع السمك الذي لديهم وانسيابه في عمق البحر. علامتان خفيّتان جدَّاً لم يعلم بهما حتَّى صاحب موسى وفتاه ووصيّه يوشع بن نون، وإنَّما علم بهما النبيّ موسى ممَّا يدلُّ على أنَّ هذه المجموعة يحيطها الله بهالة من الخفاء والسرّية وعدم الانكشاف من أيّ عنصر من عناصر الدليل.
نعم دور الإمام والشبكة الخفيّة التي تحيط به متفاعل مع البشر من دون أن يشعر به كما مرَّ بنا في قصَّة يوسف وفي قصَّة موسى وغيبتهم، هذان النبيّان حينما كانت لهما أدوار مهمّة مصيرية متفاعلة مع النظام البشري يتعاطون معهم من دون أن يشعر أحد منهم، فما نقوله بانقطاع الواسطة لا يعني ذلك أنَّ هناك انقطاعاً في التفاعل، لكن من طرف واحدٍ لا من طرفين، التفاعل من طرف الإمام المهدي ومجموعته مع البشر ونظامه الاجتماعي السياسي من دون شعور الطرف الآخر به، فهذه محطّة بالغة الأهمية لكي لا ينفتح باب النصب والاحتيال والدجل والافتراء والكذب. فمن الأدبيات الجليّات في علم الأمن البشري فضلاً عن علم الأمن الإلهي، إنَّ عناصر الخفاء يجب أن تبقى في الخفاء، وما إن تظهر إلى منصّة الظهور فهذا هو موتها وزوالها.
فالبروز والظهور والانكشاف والانفضاح والاشتهار منافٍ لأوّليات صرح وجودها وتأسسها من قبل البرنامج الإلهي، ومن ثَمَّ فإنّ هذه المجموعة _ كما تحدّثنا الكثير من الروايات الواردة عن بعض حالات أصحاب عناصر هذه المجموعة _ ما أن يكتشف أحد عناصرها أنَّه من الأبدال وما شابه ذلك تعاجله رصاصة الموت، ويعاجله الأجل من الله عز وجل، لأنَّ المقدَّر لهذه المجموعة أن لا تكشف ولا تبدي ولا تبرز عناصرها، ومن ثَمَّ ما أن يحين انكشاف عنصر من عناصرها وواحد من أفرادها حيث يعرف بالتقى وبالصلاح وبأنَّ له نحو من الأدوار الغيبية يعاجل بمجيء الأجل الإلهي، ومجيء الأجل نوع من التصفية لوجوده العلني، كي لا يصبح وجوده مخلاً ومربكاً لدور تلك المجموعة، وهذا شبيه ما يعتمد الآن في المجموعات الأمنية أنَّه إذا عُرف تورّط عنصر في الدول العصرية مثلاً في جهاز معيَّن أو ما شابه ذلك يصفّى من قبل نفس ذلك الجهاز كي لا يكون نافذاً لتسرّب واختراق العدوّ في ذلك الجهاز، وإن كانت هذه تصفية تنتهجها أجهزة الظالمين وأجهزة دول الطغيان، ولكن هذا النهج موجود أيضاً في التقدير والقضاء الإلهي وليس من باب الغشومة والعدوان، ولكنَّ أصل برنامج ونظام الخفاء الأمني يستدعي مثل هذه الإحاطة وهي عدم بروز العناصر وانكشافها، وإلاَّ لوافاها الأجل، فإذن ما يرى بين الفينة والأخرى من ظهور مدّعين أو متشدّقين بمثل هذه المقامات في العلن والاشتهار، فهو في الحقيقة نوع من النصب والدجل والحيلة والافتراء لأجل جذب ضعاف العقول أو قليلي المعلومات أو الأميّين ومن هم على شاكلتهم، لحرف مسيرة المؤمنين عمَّا هي عليه من الاستقامة، ولقد بات ضرورياً في مذهب الإماميّة حتَّى عرفته عنهم المذاهب الإسلاميّة كافّة، أنَّ الإمام المهدي (عليه السلام) في غيبة وخفاء عن شعورنا به وبوجوده وخفاء إحساسنا به، لأنَّنا في معرض التفاعل مع أدوارهم من حيث لا نشعر، وهو يقوم مع المجموعات الإلهية بتلك الأدوار الحساسة الخطيرة من حيث لا نشعر ولا نعرف تلك الأدوار وطبيعتها وآثارها القريبة، وإن كنّا نشعر بالآثار العامّة التي يقومون بها، ومن ثَمَّ فقد اتَّفقت مدرسة أهل البيت وأتباعها أنَّ من ادّعى الرؤية فهو كاذب، والمقصود من الرؤية ليس أصل التشرّف بالإمام المهدي (عليه السلام)، وقد بيّنا أنَّه يمكن أن تصبح هناك حالات من التشرّفات، كما في ظاهرة النبيّ يوسف وغيبته أو حتَّى ظاهرة الخضر، وإنَّما المقصود هو أن من يدّعي الرؤية لا يدّعي بها إلاَّ لأجل غرض احتلال موقعية الوساطة بين الإمام الغائب وبين البشرية، وهذه الدعوى وإن لم تُدَّعَ صريحاً من قِبَل أصحاب النصب والاحتيال والدجل والفرية، إلاَّ أنَّها ادُّعيَت على مستوى الوصول والالتقاء بالإمام الغائب أو برجال الغيب الذين هم من هذه المجموعة التي يستعرضها لنا القرآن الكريم.
فمثل هذه الدعاوى تغلّف الدعوة الأصلية التي يريد صاحب النصب والاحتيال ادّعاءه، وهو أنَّه سفير أو نائب خاصّ أو كونه واسطة أو كونه من موالي الإمام الغائب الحجّة مع بقيّة الدوائر البشرية، وللأسف فإنَّ هذا نوع من الافتراءات والأكاذيب تنطلي على ضعاف العقول وعلى قليلي المعرفة، وإلاَّ فقد بات الأمر ضرورياً كما تؤكّد سورة الكهف لهذه المجموعة أن تكون في الخفاء، ومن ثَمَّ نشاهد في بدء لقاء النبيّ موسى مع الخضر أنَّ الله وضع لموسى من دون علم وصيّه يوشع بن نون _ الذي عبَّر عنه في الآية بفتاه _ علامتين هما: مجمع البحرين، وانسياب السمكة أو الحوت إلى الماء، فتلك العلامتان رمزيتان خفيّتان وضع، إذا افترضنا أنَّه سوف يشاهد الخضر من تلك المجموعة، وحتَّى بعد اللقاء فإنَّ النبيّ موسى يطلب وبالتماس من الخضر أن يواصل لقاءه وبقاءه معه، (قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) (الكهف: 66)، يستجيز الخضر ليبقى معه، فأجابه الخضر: (قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) (الكهف: 67 و68)، إلاَّ أن الفترة كانت وجيزة، وكان اللقاء متواصلاً بين النبيّ موسى والخضر حتَّى وصل إلى ساعة الافتراق (قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) (الكهف: 78).
فنبيّ الله موسى المرسل وهو من أولي العزم لم يدم وصاله واتّصاله بهذه المجموعة، فكيف بغيره؟! على أنَّ نفس الآيات تعطينا زوايا عديدة وملامح كثيرة على سرّية وخفاء هذه المجموعة وأنَّها لا تتَّصل في المكشوف مع علم البشرية، وإن كانت تقوم بأدوار في خضم المجموعة البشرية وفي خضم النظم البشرية، ولكن ليس هناك معرفة بهم وبهويتهم وبحقيقة ما يقومون به من أدوار، هذه التعبيرات ليست عبطاً وإنَّما هي تعبيرات لها مؤدّيات أمنية إستراتيجية في الخطّة الإلهية لإصلاح البشر، حيث إنَّ ظاهرة الخضر كما تعرَّضنا لها مراراً استعرضت لأجل طمأنة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في بدء سورة الكهف عن وجله حول بقاء الدين وتحقيق الوعد الإلهي بإظهار الدين على الدين كلّه ولو كره المشركون كما في الآية: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة: 33)، حيث استعرضت المحور الأصلي في هذه السورة: (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) (الكهف: 6)، حينئذٍ تواصل السورة بيان ضمانات إلهية لطمأنة النبيّ بإبقاء الدين من الحالة الفطرية للبشر كما في مثال أصحاب الكهف والرقيم، ومنها استخلاف الخليفة وهو الإمام الذي له ملك عظيم يعني ملك التدبير وملك القدرة، وطاعة كلّ ملائكة الله بكلّ طبقاتهم له، كما استعرض ذلك القرآن الكريم في سور عديدة، ومنها إحاطة هذا الخليفة بضمانة ثالثة وهي المجموعة البشرية: (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) (الكهف: 65)، مجموعة عباد مزوَّدين بالعلم اللدنّي ومزوَّدين برحمة ولطف إلهي خاصّ يقومون بهذه الأدوار، فالسيرة التي شاهدها النبيّ موسى من الخضر هي أدوار مفصلية مصيرية خطيرة عصيبة جدَّاً وحساسة في النظام البشري مشحونة بالجوّ الرمزي وجوّ الخفاء الأمني في التعامل بين النبيّ موسى والخضر في اللحظة الأولى: (قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) (الكهف: 70)؛ لأنَّ عملية الأخذ والعطاء الحواري والكلامي تسبّب كشف القناع عن تلك الأوامر والمسؤوليات والأدوار التي أوعزت إلى تلك المجموعة والتي تقتضي الخفاء في كيفية التنفيذ وفي كيفية القيام بها وفي كيفية مواصلتها، ومن ثَمَّ فالآية الكريمة توحي بالأجواء الأمنية بشكل واضح، وإنَّ من شرائط صحبة النبيّ موسى للخضر فيما يقوم به من أدوار أن يكون هناك نوع من الصرامة في الإجراء وفي التنفيذ من دون أيّ عائق وأيّ تلجلج وأيّ تلكّؤ. وطبيعة الأدوار الخفيّة سواء أكانت بيئتها اقتصادية أم أمنية أم سياسية أم اجتماعية خيرية محضة تتطلَّب أن تنجز في ظلّ الأجواء السرّية والحكومة الخفيّة، وطبيعتها تتطلَّب نوعاً من الصرامة والسرعة في الإنجاز والإنفاذ، ومن دون أيّ معوّق واعتراض وما شابه ذلك، يعني ليست طبيعة أداء تلك الأدوار أن تأخذ لوناً وطابعاً كما هي أدوار الحكومة في العلن وعلى المكشوف من مداولة الأمور وبترسّل وأخذ ونقاش ومصادقة مجلس نيابة أو ما شابه ذلك من أمور معيّنة، بل تلك الأمور في حالة الخفاء تتَّخذ جانب السرعة والإنفاذ والبتّ والصرامة وعدم المعوّقات، فهذه آية أخرى من الآيات في ظاهرة النبيّ موسى مع الخضر (عليهما السلام) ومجموعته وشبكته البشرية تدلّل على أنَّ الأدوار في أيّ حقل من الحقول التي هي أدوار في الخفاء تمتاز بهذا الطابع وبهذه المعالم.
الأدوار الثلاثة للخضر:
نعم بعد ذلك تواصل الآيات استعراض مثل هذه الأدوار التي يقوم بها الخضر (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً * قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً * فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً * قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً * فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً * قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) (الكهف: 71 _ 78)، فطبيعة هذه الأدوار الثلاثة التي هي نموذج لما شاهده النبيّ موسى مع الخضر غير معلومة الوجه، يعني حتَّى الدور ونفس الفعل الذي يقوم به الخضر ومجموعته هو غير واضح بالنسبة للناظر من بعد أو من قرب، حيث لا يكون هو في ضمن تلك الشبكة الإلهية والمجموعة الإلهية المسندة لها تلك الأدوار والبرامج، ويا له من خفاء، ويا له من غموض في السرّية وتوغّل في الاستتار الشديد، حتَّى إنَّ أفعالهم وحركاتهم غير معلومة الوجهة وغير معلومة الغاية والحكمة والهدف الظاهر، تلك الأفعال ربَّما لا يستطيع الناظر حتَّى من قرب أن يترجمها وإن كان نبيّاً من أنبياء الله كموسى الذي هو من أولي العزم ومرسل، فكيف بغيره؟
بعد ذلك يقول له الخضر: (هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ)، الاعتراض أو التلكّؤ أو التلجلج أو البطء في إنفاذ المأموريات ممَّا لا يتحمَّله مقام ووضعية وبيئة هذه المجموعة التي اعتادت على الإنجاز والحتمية مع صرامة الأمر الإلهي، فلا يقبل أيّ نوع من البطء والعوائق والتأخّر، مع أنَّ الخضر من أولياء الله وأصفياء الله، وأدبه مع النبيّ موسى أيضاً كان أدباً إلهياً عالياً، كما أنَّ النبيّ موسى كان في تعامله مع الخضر يبدي ذلك الأدب الرائع الإلهي النبوي، ويتوضَّح أدب الخضر في حديثه مع النبيّ موسى، قال: (فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي)، ولم يقل له: اتّبعني، هذا نوع من الأدب، حيث جعل الخيار بيد موسى، (فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي)، لكن هنا أتى نوع من الحسم؛ لأنَّ طبيعة هذه المجموعة لا تقبل _ كما مرَّ بنا _ البطء ولا التراخي ولا التلكّؤ ولا التلجلج، لأنَّه لا بدَّ من القيام بمسؤولية عالية.
طبيعة الأدوار في ظاهرة الخضر ومجموعته الخفيّة:
وتتجلّى أهمّية هذه الأدوار بما يوضّحه الخضر نفسه بقوله: (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً * أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) (الكهف: 78 و79)، فخرْقُ السفينة في ظاهره تجاوز وعدوان على ملك أصحاب السفينة، ولذلك اعترض النبيّ موسى: (قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها) (الكهف: 71)، لأنَّ ذلك في ظاهره أمر مشين، أو فعل فيه إفساد، ولكن هذا الفعل بلحاظ عاقبته فيه تمام المصلحة، وهذا الفعل يمثّل في طبيعته أنَّ هذه المجموعة البشرية لها دور في الوضع الاقتصادي والوضع التجاري والوضع المالي والوضع المعيشي للبشرية، يعني تقوم بأدوار مهمّة لإنجاء البشرية في وضعها المعاشي والغذائي والاقتصادي والمالي والتجاري عن فساد الاقطاعيين وإفساد الأغنياء الذين يبطرون في غناهم ويمتصّون ثروات الطبقات المحرومة، فلهم هذا الدور من إيجاد العدالة النسبية المالية في المجتمعات البشرية، في قبال وإزاء طبقة الإقطاع وطبقة المستشرين في امتصاص ثروات وحقوق الطبقات المحرومة المسحوقة، فهذا الفعل له هذا الطابع، ويدلُّ على أنَّه من أدوار هذه المجموعة البشرية وهو إرساء العدالة ولو بدرجة نسبية، لئلاَّ يعمَّ الفساد الاقتصادي والمالي والتجاري والفساد في معاش البشر إلى ذروته، فهم يقفون حائلاً دون استشراء الفساد المالي، وإن كانت العدالة المطلقة المالية هي عند ظهور الإمام المهدي (عليه السلام)، وهذا مثلٌ ضربه الله في سورة الكهف لطمأنة النبيّ في بقاء الدين، والنظام الاجتماعي وصلاحه، وعدالته في بُعده المالي وبُعده المعاشي، وهذا دور مهمّ، وهذا النموذج الذي استعرضته لنا الآية الشريفة من ظاهرة فعل النبيّ موسى مع الخضر أو ظاهرة الخضر مع الشبكة الخفيّة البشرية.
الحقل الثاني الذي تنبئنا به ظاهرة الخضر أيضاً وسورة الكهف عن أدوار مجموعة الخضر وشبكته الخفيّة قضيّة الغلام: (وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً * فَأَرَدْنا) (الكهف: 80 و81)، فتعبير (أردنا) بدلاً من (أردت) يدلُّ على أنَّه ضمن مجموعته، وتأكيد على أنَّ هذه الأدوار تقوم بها هذه المجموعة والشبكة الخفيّة من أبدال وأوتاد وسيّاح والمعروفين أيضاً في اصطلاح علماء المسلمين برجال الغيب، (فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً) (الكهف: 81)، ورد في روايات أهل البيت (عليهم السلام) وربَّما أيضاً في روايات مذاهب المسلمين الأخرى _ وأهل البيت أدرى بما في البيت _ أنَّ هذا الابن الذي قضى عليه الخضر (قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) (الكهف: 74)، لو قدّر بقاؤه لكان يحول دون تولّد سبعين نبيّاً.(1)
أنظر! ضخّ سبعين نبيّاً في المجتمعات البشرية كم هو مؤثّر في صلاح البشرية! وماذا يُحدث حذفُ هذا الرقم من المصلحين الإلهيين والحجج الإلهيين، وماذا ينجم عنه من انحطاط البشرية وانحدارها. فهذا الدور الثاني وله طابع آخر.
سؤال:
ربَّما يعنُّ سؤال وهو أنَّه إذا كانوا يحولون دون الفساد والظلم في الأرض، إذن كيف أنبأتنا الروايات المتواترة عند الفريقين عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أنَّ المهدي (عليه السلام) بعد طول غيبته وقيامه بالأدوار الخفيّة يظهر بعد ما تملأ الأرض ظلماً وجوراً فيملأها قسطاً وعدلاً؟!
فكيف يكون الخليفة وهذه المجموعات من رجال الغيب التي تنبئنا بحقيقتهم وظاهرتهم سورة الكهف يحولون دون استشراء الفساد والظلم والجور؟
الجواب:
إنَّ المقصود من هذا الشرط للظهور المذكور في الأحاديث النبويّة شرط بيئي، وإلاَّ فمسؤولية الإصلاح ملقاة على عاتق الجميع، كلّهم مكلَّفون بالحيلولة دون الفساد والظلم والجور ومجابهته، والمقصود امتلاؤها ظلماً وجوراً بحيث لا يمكن حتَّى لهذه المجموعة البشرية والشبكة الإلهية أن تقوم بأدوارها من الإصلاح في ظلّ الخفاء مع قطب رحاهم وهو الإمام المهدي (عليه السلام)، فإذا كانت بيئة الخفاء لا تفسح المجال ولا تمكّن من الحيلولة دون الفساد في الأرض وسفك الدماء، يأتي حينئذٍ موعد الظهور ليبرز رجال الغيب وأمامهم الإمام المهدي على منصّة ومسرح الظهور لينفذ حينئذٍ وعد الله عز وجل بنشر القسط والعدل في الأرض، وإلاَّ فدائماً وجود الإمام ووجود الخليفة مع هذه المجموعة التي تحيط به، هو للحيلولة دون استشراء وامتلاء الأرض بالفساد والظلم والطغيان والجور وسفك الدماء وقطع النسل البشري.
وهذه المجموعة التي تستعرضها لنا سورة الكهف هي الضمانة الثالثة لإبقاء وحماية الدين، وتحوط خليفة الله في الأرض وتأزره في القيام بأدواره، وكما مرَّ بنا أنَّ دور الإمام المهدي في الغيبة ليس دوراً ذا طابع فردي، وإنَّما هو دور ذو طابع نظمي وحكومي في ظلّ حكومة خفيّة وأعوان مسندون يخترقون النظم البشرية ويعيقون سياسات الظلم والإجحاف والإفساد في الأرض، ويصلحون ما قُدّر لهم وما خطّ وحدّد لهم من قِبَل السياسة الإلهية في أوامر الله عز وجل التي تتنزَّل عليهم في العلم اللدنّي، ويحولون دون استشراء الفساد والظلم والجور وسفك الدماء.
والملاحظة المهمّة الأخرى في طبيعة هذه المجموعة أنَّها لا تقتصر في سياساتها وأدوارها المحسوبة على أفق قصير المدى، أو على تداعيات مقطعية، وكيف وهي سياسات قد أرسيت من قِبَل الله تعالى، وهي أمور وبرامج قد خُطّط لها من قِبَل خالق البشر، فلا يقدّر لها أن تكون تداعياتها مقطعية حالية تقتصر على أفق قصير المدى كما هو الحال في النظم البشرية ذات سياسات الخمسين سنة أو العشرين سنة أو العشر سنين استراتيجيات يبنونها ويقدّر لها أن تصيب عقوداً من السنين، أمَّا في السياسات الإلهية وفي البرامج الإلهية فهناك تدبيرات وسياسات يقدّر لها أن تتجاوز الحدود والآفاق القصيرة، بل إلى حدود وأمواج تبرز تداعياتها في البحر البشري إلى يوم القيامة، لو تصوَّرنا هذا الدور كحجر يلقى في ذلك البحر فكيف أنَّ أمواجه تصل إلى نهاية ذلك البحر ونهاية ساحل ذلك البحر، هكذا يحسب في التخطيط والبرنامج الإلهي الذي يعزى ويوكل لتلك المجموعة البشرية الخفيّة فيما تقوم به من أدوار، لأنَّ محاسبة أن التنسيل البشري تضخّ فيه سبعين نبيّاً أو لا يضخّ فيه، هذه محاسبات ليست بالسهلة، وإلى الآن فإنَّ أفق العلم البشري حتَّى في علم الأحياء وعلم التنسيل البشري وعلم الدين وعلم الوراثة والهندسة الوراثية يريدون أن يتوصّلوا إلى كيفية تخصيب وتحسين النسل البشري ضمن محاسبات حدسية وليست محاسبات قطعية، ضمن محاسبات إعدادية وليست محاسبات باتّة، وإلى الآن لم يصلوا، بينما في السياسة الإلهية والأدوار والبرامج الموكولة والمأمور بها تلك المجموعة قد حسب وحسم فيها مثل هذه المحاسبات.
فهذا الدور الثاني لهذه المجموعة ذو طابعين: طابع في الحقل الاجتماعي والتنسيل البشري، ومسار صلاح وإصلاح النظام البشري وتنسيله وهدايته، وهو طابع اجتماعي وعقائدي محض. والطابع الثاني في هذا الدور الثاني الذي يبرز أنَّ محاسبات هذه الأدوار ليست في نطاق سياسات قزمة وقتية مقطعية، بل هي في سياسات واسعة النطاق، في سياسات بعيدة المدى، آثارها ونتاجها يصل إلى آفاق لا يمكن حسبانها في الذهن والعلم البشري الحالي، وهذا أمر مهمّ، ممَّا يدلّل على أنَّ خطورة دور هذه المجموعة البشرية حساس وخطير وفي موقع عصيب يقع في مفاصل خطيرة في العمود الفقري للأجيال البشرية، وليس للجيل الحاضر فقط، وهذا ما تعجز عنه نظم البشر الحالية، إلاَّ من المحاسبات الحدسية اليسيرة لم تحسم نتائجها ودرجة الإدراك العلمي فيها.
هذا الطابع الثاني في الدور الثاني الذي قام به الخضر أمام مشهد النبيّ موسى كعيّنة يسيرة.
الدور الثالث الذي قام به الخضر (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ) (الكهف: 77)، هذه الآيات، هذه المقاطع، هذه الحالات التي تستعرضها لنا سورة الكهف تركّز في الفكر أنَّ الحكومة الخفيّة لرجال الغيب لا يقومون بالتفرّج فقط على الوضع الراهن وما سيأتي من مستقبل، بل تجري في محاسبات أدوارهم وبرامجهم وخططهم آثار الماضي وترابطها مع الوضع الراهن، وارتباطهم مع حلقات المستقبل، ولربَّما هذا لا نجده في سياسات الدول، الربط بين تاريخ الماضي وحالات الوضع الراهن وبيئته الفعلية وحلقات المستقبل.
وفي الحقيقة إنَّ هذا الدور الثالث معطوف على الدور الأوّل والدور الثاني من أنَّ السياسات الإلهية التي هي مبرمجة لأدوار هذه الشبكة الخفيّة البشرية تلاحظ وتراعي حلقات الماضي وحلقات الوضع الراهن، وحلقات المستقبل في ضمن نظم نسيجي إعجازي باهر، وهذا ما لا تستطيع أن تؤمّنه النظم البشرية في ذلك.
ومن نافلة القول أنَّ العناية التامّة الكاملة ستكون عند الظهور، عندما يملأها الإمام المهدي مع هذه المجموعات من أعوانه ووزرائه قسطاً وعدل، ولكن قبل ذلك تكون بقدر نسبي كما قال الباري تعالى: (إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَْرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) (البقرة: 30)، يعني إنَّ أبرز شيء في الخليفة أنَّه دارئ للفساد المطبق في الأرض، هو دارئ وحائل دون سفك الدماء وقطع التنسيل البشري، لكن الإصلاح التّام (يملأها قسطاً وعدلاً) هذا يكون عند ساعة الظهور، ودولة الظهور، ومهما يكن فإنَّ الباري تعالى ينبئنا ويحدّثنا أنَّه لا يضيع أجر عامل، ليس فقط في الجزاء الأخروي، وليس فقط في ضمن دائرة وسُنّة القضاء والقدر التكويني الإلهي، بل ضمن النظام الإلهي السياسي والنظام البشري، ولكن هو جهاز بتأسيس ربّاني وإلهي أعضاؤه وعناصره مزوَّدون بالعلم اللدنّي واللطف الخاصّ، والباري تعالى يجازي عبر الحكومة التي أسّست من قبله تعالى، هذه الحكومة التي من الظاهر أنَّها ليست مختصّة بحقبة النبيّ موسى ولا مختصّة أيضاً بحقبتنا نحن الأمّة الإسلاميّة، باعتبار أنّها ذُكرت نموذجاً كإجابة للوجل حول بقاء الدين الذي استعرض في مطلع سورة الكهف، إنَّما ذكر هذا أنموذجاً إيجابياً وضمانة ثالثة لبقاء الدين في هذه الأمّة الإسلاميّة، وفي هذا العصر أيضاً هذه السُنّة الإلهية ليست سُنّة خاصّة بحقبة النبيّ موسى إلى أمّتنا هذه، بل كانت من عهد آدم إلى يومنا هذا، لأنَّه كما مرَّ بنا أنَّ الله عز وجل جعل إبراهيم إماماً وجعل من ذرّيته أئمّة كيعقوب وإسحاق ونسل إسماعيل (آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) (النساء: 54)، كما تحدّثنا بذلك سورة النساء، ولكن لم يكن له في الظاهر مُلك مكشوف، أو ولاية مكشوفة، ولم يحدّثنا أيّ مصدر تاريخي عن ذلك، لكن مع ذلك فالنبيّ إبراهيم (عليه السلام) قد أنجز العجائب، حوَّل أكثر مجتمعات الشرق الأوسط من عبدة أوثان أو كواكب أو نيران وغيرها إلى الملّة الحنيفية، فتغيير مجتمعات لاسيّما في عقيدتهم أمر ليس يسيراً كما مرَّ، فلم يكن عمله عملاً فردياً، وإنَّما هو عمل ضمن نظام وجهاز إلهي كما تحدّثنا بذلك روايات الفريقين من التقاء النبيّ إبراهيم بالأبدال وشبكة الأوتاد وما شابه ذلك كأعوان ووزراء له، وكذلك بنوه الذين وصفوا بأنَّهم أئمّة واُوتوا الملك العظيم، فهو جهاز بشري حكومي مؤسّس من قبل ربّ العالمين يقوم بنظم معيّنة وطبق خطط تتجاوز التخطيط البشري إلى آفاق بوسع حدود علم الله (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك: 14)، علم الله الذي لا تخفى عليه خافية في السماء ولا في الأرض ولا أكبر من ذلك ولا أصغر، (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) (الأنعام: 38)، (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) (يس: 12)، وتداعيات كلّ دور وكلّ حدث وارتباطها بالبيئات المختلفة هذا ممَّا يعجز ويثقل بكاهله حتَّى أكثر التمدّنات البشرية، ولو فرضناها بعد قرون بمثل هذه الشبكة من المعلومات والعلوم، وهذا الجهاز الإلهي الذي يحدّثنا القرآن الكريم عنه موجود على قدم وساق باعتباره أنموذجاً ضُرب من عهد النبيّ موسى، بل ذكرنا بعض الشواهد التي تدلُّ على أنَّه من عهد آدم، إنَّه أيضاً كان يحول دون الفساد في الأرض، ولا بدَّ أنَّه لم يكن بعمل فردي، وإنَّما بالأسباب الطبيعية بنظام إلهي وأدوات وآليات إلهية، وكذلك في عهد نوح، وكذلك في عهد إبراهيم وموسى وعيسى، وكذلك في عهد سيّد الأنبياء وإمام الأئمّة خاتم النبيّين (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكذلك في عهد الأئمّة الاثني عشر (عليهم السلام)، وكذلك في عهد الإمام المهدي وفي ظلّ غيبته غيبة الخفاء والسرّية والتستّر، فهذا مثل عظيم ضربه لنا القرآن الكريم أنَّ أدوار هذه الحكومة متنوّعة متعدّدة لإرساء العدالة في الحقول المختلفة، نعم القرآن الكريم ينبئنا بهذا الجهاز البشري المزوّد بالعلم اللدنّي والذي يحوط الخليفة المستخلف من قبل الله كجهاز وأذرع بعد أن ذكر استخلاف الخليفة كسُنّة دائمة أيضاً في سورة الكهف والتي هي مرصودة إلى الإجابة عن كيفية بقاء الدين.
الحسين (عليه السلام) وأصحاب الكهف:
في الحقيقة أودُّ هنا أن أذكر هذه النكتة التي ترتبط بسيّد الشهداء مع سورة الكهف، فالمعروف في كتب التاريخ والمقاتل والرواية أنَّ رأس سيّد الشهداء (عليه السلام) _ عندما حُوّلت الرؤوس إلى الطاغية عبيد الله بن زياد وإلى الطاغية يزيد بن معاوية _ كان يردّد هذه الآية: (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) (الكهف: 9)، بعد تلك الآية: (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) (الكهف: 6)، وربَّما يتساءل المؤمن والمسلم عن الصلة والمناسبة بين استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) وترديده لهذه الآية، ترديد الرأس الشريف كمظهر إعجازي لهذه الآية، في الحقيقة إنَّ صلة استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) وقراءته لهذه الآية هي مناسبة تظهر بأدنى تأمّل وتدبّر، وهو أنَّ القضاء على حياة سيّد الشهداء (عليه السلام) بالقتل هو إماتة لعمود الدين الذي كان يشيد أركانه سيّد الشهداء، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (حسين منّي وأنا من حسين)(2)، بقاء دين النبيّ من إنجازات سيّد الشهداء (عليه السلام)، فما عملته الطغمة الطاغية الأموية من استئصال شجرة النبيّ في أهل بيته لأنَّهم يحسبون أنَّهم يقضون على الدين، والحال أنَّ الله عز وجل ضرب مثلاً في أصحاب الكهف والرقيم أنَّهم كانوا مستضعفين وكانوا يعيشون في حالة من التقيّة والوجل والخوف ولا يظهرون دين التوحيد أمام ذلك الملك (دقيانوس) الذي كانوا يعيشون في وزارته، وكانوا وزراء له في القصر الملكي، وكانوا موحّدين ولكن لم يكونوا يجرؤون ليظهروا التوحيد، فكانوا مستضعفين إلى حدّ ألجأهم الأمر إلى أن يفرّوا من ديوان الملك إلى الصحراء وآووا إلى الكهف بعد أن فُضح أمرهم وكُشف، وبعد أن ذهب شرّ (دقيانوس) واندثرت مملكته واندثر زمانه عاود الله إحياءهم ليثبت الباري تعالى للبشرية: (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) (الكهف: 21).
فإحياء الله لأصحاب الكهف والرقيم بعد اندثار (دقيانوس) وتفشّي التوحيد ليدلّل الله عز وجل على أنَّ العاقبة للمتّقين، وأنَّ المستضعفين يعودون وارثين للأرض، ويرجعهم الله للدنيا وهم الذين يكونون آيات حقّ وآيات هدى، وكذلك الحال في سيّد الشهداء (عليه السلام) فإنَّه رغم استشهاده (عليه السلام) وتصفية الطغمة الأموية له إلاَّ أنَّهم لم يبيدوا الدين، بل كما نشاهد الآن أنَّ اسم سيّد الشهداء واسم جدّه المصطفى واسم دين المصطفى لا زال يرفرف خفّاقاً في أرجاء العالم وسينشر في أرجاء العالم على يد ابنه وولده المهدي، وأين ذكر يزيد؟ إنَّه في مزبلة التأريخ وأصبح مورد لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وبقي سيّد الشهداء اسماً خالداً ونبراساً ينير البشرية ضياءً وهدايةً.
فهناك صلة وثيقة بين ما جرى لأصحاب الكهف وما جرى لسيّد الشهداء، لاسيّما وإنَّنا نؤمن برجعة أئمّة أهل البيت بعد دولة ابنهم الإمام المهدي (عليه السلام) وأنَّهم سيحكمون في الأرض، وعقيدة الرجعة عقيدة أصيلة قرآنية لها حديثها الخاصّ، فهذه صلة واضحة بين سورة الكهف وما جرى لسيّد الشهداء، سيّما وأنَّ ذكر قصَّة وظاهرة أصحاب الكهف ذكرت في سورة الكهف للدلالة على ضمانة: (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) (الكهف: 6)، يعني أنَّ المحور الأصلي لسورة الكهف هو بقاء الدين وعدم زوال الدين، ولاستشهاد سيّد الشهداء صلة وثيقة جدَّاً وطيدة بإبقاء الدين وضمان بقاء الدين.
الضمانات الأخرى التي ذكرها القرآن الكريم في سورة الكهف: استخلاف الخليفة كضمانة ثانية محورية، والضمانة الثالثة هي هذا الجهاز الخفيّ والشبكة الخفيّة الإلهية التي هي حكومة بشرية مؤسّسة من قبل الله تعالى، ونظمه مزوَّد بعلوم خاصّة ونظام حاسم وخطط ومخطّطات مرسومة ومهندسة على الضوء العلمي الإلهي الذي لا يحدّده أفق، ولا يقف في الإحاطة بالأمور بدوائر قصيرة أو مقطعية أو حلقات قصيرة، بل يحسب فيه حساب التداعيات والحلقات كلّها، حلقات الماضي والحاضر والمستقبل، حلقات البيئة المالية والاجتماعية والإصلاحية من الضمان والكفالة الاجتماعية، نظم تفوق قدرة البشر، كما ستوافينا بحوث أخرى في الظواهر القرآنية أنَّ هذا النظم الإلهي يعتمد على معلومات وإحصائيات لا تخطئ، وكمًّ هائل بالمعلومات تقصر عنها بحوث الدراسات الاستراتيجية العصرية في الدول الكبرى ولا تجدها في أيّ مركز من مراكز البحوث والاستراتيجيات لصناعة الخطط والسياسات للدول المعاصرة، فلا يقاس علم الله بعلم المخلوقات، فإذا كان جهازاً مبنياً نظمه وخططه وسياساته ورموزه على علم الله فكيف ظنّك به، لا بدَّ حينئذٍ أن يحسب فيه كلّ هذه الحلقات وكلّ هذه التداعيات وكلّ هذا النسيج والتنسيق المترابط فيما بين بعضها البعض، ومن ثَمَّ أبرز القرآن الكريم عيّنة يسيرة من الفترة اليسيرة التي اصطحب فيها النبيّ موسى للخضر وأعطانا ثلاثة أدوار متنوّعة في حقول وبيئات مختلفة وفي منعطفات بشرية حسّاسة.
حقيقة العلم اللدنّي والشريعة الباطنة:
في ختام هذه الظّاهرة هناك محطّة أخيرة مهمّة جدَّاً يجب أن نتريّث بها ونتدبّرها بعمق، فالنبيّ موسى صاحب شريعة والخضر صاحب علم لدنّي، وهنا تأويل قد ورد ربَّما في جملة من كلمات المفسّرين، أنَّ النبيّ موسى صاحب الشريعة الظاهرة، وأنَّ الخضر صاحب الشريعة الباطنة.
في الحقيقة وحسب ما يُستفاد من روايات وتعاليم أهل البيت، وعلومهم وبحسب ما استفدته واستظهرته من تعاليمهم (عليهم السلام) أنَّ الشريعة هي واحدة، ليست لدينا شريعة ظاهرة وشريعة باطنة، لكن الشريعة الكلّية العامّة إذا أريد لها التطبيق الحرفي الدقّي الذي لا يخطئ في الحكم والمصالح التي شُرّعت الشريعة من أجلها ترافقها آليات تطبق بعلم لدنّي يراد لها سياسات في التطبيق تُرسم بالعلم اللدنّي المحيط بالبيئات الموضوعية، وموضوع البيئات بشكل مستقصى لا يعزب عنه ظاهرة موضوعية ولا بيئيّة ولا تداعياته، وطبعاً على علم خاصّ، فليس يكفي فيه العلم بالوحي وهي الشريعة ووحي النبوّة، بل احتاج إلى علم التأويل، خاتم الأنبياء وسيّد الرسل وهو إمام الخلق وإمام الأئمّة فإنَّه في عقيدة مدرسة أهل البيت هو إمام الأئمّة الاثنا عشر، فإنَّهم (عليهم السلام) أيضاً لهم إمام وهو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو أعظم درجةً ومقام، وهم الوارثون لعلومه، وهو (صلى الله عليه وآله وسلم) لديه علم الشريعة وعلم التأويل. وقد ورث أهل بيته منه علم التأويل، الذي يعبّر عنه القرآن الكريم أيضاً بالعلم اللدنّي، أنظر هنا في مطلع السورة يحدّثنا القرآن الكريم عن ظاهرة الخضر: (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) (الكهف: 65)، لطف خاصّ وقدرة خاصّة، فما آثار هذا العلم اللدنّي الذي أراد النبيّ موسى صاحب الوحي النبوي أن يتعلَّم منه، كما يحدّثنا بذلك القرآن الكريم (قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) (الكهف: 66)، هذا جُمع بأكمله وبأقاصي درجاته لسيّد الأنبياء وخاتم الرسل، فقد كان لديه علم التأويل وعلم التنزيل والعلم اللدنّي، إلاَّ أنَّه في ظاهرة النبيّ موسى لا يحدّثنا القرآن الكريم أنَّه لم يكن للنبيّ موسى شيء من علم التأويل، ولكن كأنَّما الدرجة التي كانت لدى الخضر من علم التأويل والعلم اللدنّي لم تكن لدى النبيّ موسى، على رغم أنَّه ما كان لديه وحي الشريعة ووحي النبوّة، والنبيّ موسى (عليه السلام) كان من أولي العزم وشريعته ناسخة للشرائع التي قبله.
العلم اللدنّي وعلم التأويل عند الإمام المهدي (عليه السلام):
إنَّ النبيّ موسى رغم كونه صاحب شريعة ناسخة للشرائع السابقة إلاَّ أنَّ هذا الوحي وهذا العلم بالشريعة الوحياني النبوي مغاير للعلم اللدنّي وعلم التأويل، وقد حار المفسّرون في كيفية تفسير هذه الظاهرة، حيث إنَّ في مطلعها قول النبيّ موسى (عليه السلام) للخضر (عليه السلام): (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) (الكهف: 66)، فالعلم اللدنّي يغاير العلم بالشريعة.
وتُستخلص حقيقة عظيمة من هذه السورة، ويجب أن يفهمها كلّ مسلم، وهي أنَّ كلّ شريعة لها تأويل في مقام التطبيق والإقامة، ولا يستطيع أن يطبّقها بحقيقة تأويلها إلاَّ حاكم زوّد بالعلم اللدنّي الإلهي. وهذه السورة تبرز لنا ضرورة عقائدية وهي أنَّه كلّ شريعة لا بدَّ لها من حاكم إلهي، حاكم منصوب من قبل الله، إمام منصوب من قبل الله تعالى مزوّد بالعلم اللدنّي، فهو الذي يستطيع أن يطبّق هذه الشريعة بتطبيق لدنّي إلهي لا يخطي الحقائق والصواب قيد شعرة.
أنظر هنا صاحب الشريعة النبيّ موسى كيف قد تفاجأ واستغرب واستنكر تطبيقات يقوم بها الخضر، وربَّما حسبها أنَّها تتنافى مع ضوابط الشريعة، لكن بعد أن أوَّل له الخضر: (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) (الكهف: 78)، زال استنكار النبيّ موسى، أي إنَّه قد رأى أنَّ كلّ هذه الأدوار قد روعي فيها ضوابط الشريعة الظاهرة، لكن رعاية هذه الضوابط الشرعية في الشريعة الموسوية بأدوات علم التأويل والعلم اللدنّي وتطبيقه لم يكن في علم البشر ولا قدرتهم الوصول إلى ذلك التطبيق الهائل العظيم لإقامة الشريعة، إلى أن يقول: (فَأَرَادَ رَبُّكَ)، أخبر عن الإرادة الإلهية.
إذن كما أنَّ هناك إرادة في الشريعة عامّة، فهناك إرادات خاصّة متنزّلة لتطبيق تلك الإرادة العامّة، متنزّلة لتطبيق الشريعة بتوسّط العلم اللدنّي، (فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) (الكهف: 82).
وما يدلُّك على أنَّ علم التأويل له كامل الصلة، وأنَّه ركن الأركان في إقامة الحكم الإلهي وفي إقامة الشريعة، وبفصيح القول وبعالي الصوت تخاطبنا سورة الكهف: أيّها المسلمون أيّها القرّاء للقرآن الكريم انتبهوا وعوا واستيقظوا فإنَّ الشريعة واحدة في الظاهر والباطن، وأنَّ لها حاكماً إماماً يعلم بالتأويل بتوسّط علم لدنّي، لأنَّه هو الذي يستطيع أن يقيم الشريعة بلا اخترام مورد من الموارد، وبلا إخفاق بيئة من البيئات. هو الذي يستطيع أن يشيّد ويقيم أركان الدين بوصاية ربّانية وبهداية ربّانية، وإرشاد ربّاني يصيب الأشياء والحقائق ولا يخطئها، إذ كلّ شريعة لا بدَّ لها من علم تأويل، وهذا ليس خاصّاً بحقيقة شريعة النبيّ موسى، كيف وشريعة سيّد الرسل هي من أبلغ الشرائع.
وحينما ننظر في عصرنا الحاضر نتسائل من هو المزوّد بالعلم اللدنّي؟ وأيّ مدرسة إسلامية اشترطت في الحاكم والإمام أن يكون مزوّداً بعلم لدنّي يغاير مقام النبوّة ويغاير مقام الرسالة، وهو مقام اصطفائي إلهي كما يحدّثنا القرآن الكريم عن الخضر، إذ لم يعرّفه بالنبوّة أو بالرسالة كبطاقة شخصية لتعريف هويته، وإنَّما عرَّفه أن لديه أدواراً حكومية ضمن جهاز يقوم بأنشطة مفصلية لمسار النظام البشري وذلك بتزويدهم بالعلم اللدنّي وعلم التأويل، فمن هو حينئذٍ الخليفة المزوّد بعلم التأويل؟ أو أيّ مدرسة من المدارس الإسلاميّة اشترطت أن يكون الإمام الحاكم المنصوب من قبل الله تعالى مزوّداً بعلم لدنّي مرتبطاً بالغيب يؤهّله لأن يطَّلع على إرادات الله وبرامجه التفصيلية لإقامة الشريعة؟ أيّ مدرسة تلك التي اشترطت ذلك؟ فإنَّنا لا نجد غير مدرسة أهل البيت (عليهم السلام).
الهوامش:
(1) في الرواية عن الحسين بن سعيد اللخمي، قال: ولد لرجل من أصحابنا جارية، فدخل على أبي عبد الله (عليه السلام)، فرآه متسخّط، فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): (أرأيت لو أنَّ الله تبارك وتعالى أوحى إليك أن أختار لك أو تختار لنفسك ما كنت تقول؟)، قال: كنت أقول: يا ربّ تختار لي، قال: (فإنَّ الله قد اختار لك)، قال: ثمّ قال: (إنَّ الغلام الذي قتله العالم الذي كان مع موسى (عليه السلام) وهو قول الله عز وجل: (فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً) أبدلهما الله به جارية ولدت سبعين نبيّاً) (الكافي 6: 6/ باب الدعاء في طلب الولد/ ح 11؛ تفسير القرطبي 11: 37).
(2) بحار الأنوار 43: 261؛ مسند أحمد 4: 172.
******************
الراسخون وعلم التأويل:
ولا نجد القرآن الكريم أيضاً يصرّح بأنَّ من هذه الأمّة من زوّد بعلم لدنّي وهو علم التأويل غير أهل البيت (عليهم السلام). فإنَّ سورة الكهف تفصح لنا أنَّ العلم اللدنّي هو علم التأويل، كما نقرأ في سورة (آل عمران: 7): (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا)، البعض من مفسّري المدارس الإسلاميّة الأخرى قالوا: إنَّ (الواو) هنا استئنافية وليست عاطفة، يعني أنَّ الذي يعلم تأويل القرآن هو الله فقط، أمَّا الراسخون في العلم فلا يعلمون، وإنَّما الراسخون في العلم (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا)، يعني نؤمن بالمحكم والمتشابه، وطبعاً (يَقُولُونَ) هي صفة أو خبر آخر للراسخين في العلم.(1)
لكن الواو هنا هي عاطفة وليست استئنافية، وذلك لعدّة أدلّة وبراهين وشواهد، منها:
أنَّ سورة الكهف تبيّن أنَّ كلّ شريعة لها علم تأويل يزوّد الله به ثُلّة من أفراد البشرية يستطيعون بذلك أن يقيموا الشريعة كما يريدها الربّ، ويرضاها بتلك الإقامة وتلك الشاكلة من بناء الصرح، ونصّ القرآن الكريم هكذا يقول في حال الخضر: (آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً) (الكهف: 65)، وقول النبيّ موسى: (قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً * قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً * قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً * قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) (الكهف: 66 _ 70)، ثمّ قول الخضر أيضاً: (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) (الكهف: 78)، ويقول أيضاً في نهاية تلك القصَّة والحادثة التي يرويها لنا القرآن الكريم على لسان الخضر: (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) (الكهف: 82).
إذن الخضر صاحب علم لدنّي وتأويل، فإذا كان الله عز وجل جعل إقامة كلّ شريعة بحقيقة الإقامة وإنجازها بحقيقة الإنجاز في الوعد الإلهي والحكمة الإلهية والغاية الإلهية هي بتوسّط علم التأويل، أليس للشريعة الإسلاميّة التي هي أكبر الشرائع أن يكون من هذه الأمّة من يزوّدهم الله بالعلم اللدنّي، أي علم التأويل؟! فلا بدَّ أن تكون تلك الواو عاطفة في سورة آل عمران.
العلم اللدنّي وعلم التأويل في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام):
العلم اللدنّي وعلم التأويل في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) لهما ترجمان ولهما تفسير ولهما موضع في منظومة عقائد أهل البيت (عليهم السلام)، فإنَّه علم التدبير نفسه، وقد بيَّنته سورة الكهف بشكل واضح جدَّاً في ظاهرة الخضر، وهو أنَّه مرتبط بقيامه بأدوار في النظام الاجتماعي، أدوار نظمية مرتبطة بالإدارة والتدبير، أي بالقيادة، أي بالإمامة، فسورة الكهف هنا تبيّن وتفصح بشكل طافح لائح غير غامض أنَّ العلم اللدنّي وعلم التأويل مرتبط بتدبير نظام البشر، أي مرتبط بالإمامة وبالخلافة وبالحاكمية، فهي موقعيّة إلهية ومنصب إلهي تدعى وتسمّى بالخلافة الإلهية، (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة: 30)، هذا المقام لا يبتر ولا ينقطع عن هذه السُنّة الإلهية المستمرّة من بدو الخليقة البشرية إلى نهايتها.
فسُنّة الله عز وجل _ كما يعلّمنا القرآن من حقائق العقائد التي يجب أن نلتزم بها _ أنَّ الخلافة الإلهية لم ولن تكون منقطعة، بل مستمرّة، نعم النبوّة والخلافة والرسالة ختمت بسيّد الأنبياء، وكان بين كلّ نبوّة ونبوّة وكلّ رسالة ورسالة فترات، ولكن الخلافة ليس فيها فتور؛ لأنَّ حلقاتها متَّصلة دائماً من بدء الخليقة ابتداءاً بآدم إلى المهدي الثاني عشر خاتم الأوصياء، فللنبيّ خلفاء اثنا عشر كما ورد في الحديث النبوي المتواتر بين الفريقين، وهو مطابق لأصول القرآن والسُنّة القطعية.
سؤال:
وهنا يطرح هذا السؤال وهو: هل هناك وجه اشتراك ووجه اختلاف بين الشبكة الإنسانية الخفيّة في الحكومة الإلهية المزوّدة بالعلم اللدنّي وبين الإمامة والخليفة لله تعالى في أرضه المزوّدة أيضاً بالعلم اللدنّي؟
الجواب:
في الحقيقة إنَّ بيانات القرآن وبراهينه ونوره وهداه وبصائره الاعتقادية والعقدية جليّة واضحة، بأنَّ الاصطفاء الإلهي لا ينحصر بالنبوّة والرسالة، بل الاصطفاء الإلهي جعل الفرد البشري المصطفى والمجتبى من قبل الله تعالى خليفة لله في الأرض وإمام، كما في قوله تعالى: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة: 30)، وقوله في شأن إبراهيم: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً) (البقرة: 124)، ومن الواضح أنَّ هذا الجعل يفترق عن التعبير فيما لو ورد: إنّي جاعلك للناس نبيّاً، أو إنّي جاعلك للناس رسول، فقول الله تعالى كما ورد في شأن إبراهيم: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً) هذا التعبير وهذه النغمة اللفظية النورية القرآنية هي على نفس وتيرة: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)، فالاصطفاء الإلهي لا ينحصر بالنبوّة والرسالة، بل يعمّ، كما أنَّ هناك أنبياءً وليسوا برسل فهناك خلفاء لله وأئمّة وليسوا بأنبياء ولا رسل، وقد يكون الأئمّة المنصوبون من قبل الله تعالى أيضاً أنبياء ورسل، فتجمع في بعض الأفراد كما في إبراهيم، فإنَّه نبيّ ورسول وإمام وخليفة لله تعالى في أرضه، لكن هذه مقامات متعدّدة في الاصطفاء الإلهي، قد تتفرَّق في أفراد، وقد تجتمع في فرد ينال أوسمة ومقامات إلهية متعدّدة، ولكن المهمّ على المسلم في تبرئة ذمّته وما يدين الله عز وجل به لينجو يوم القيامة هو أن يلتفت ويعتقد بما يقرّره له القرآن الكريم في حقائقه وبصائره، من أنَّ هناك مقاماً يسمّى مقام الإمامة الإلهية ومقام الخلافة الإلهية، له دور تدبير البشر ويزوّد بالعلم اللدنّي، وهو يغاير مقام النبوّة والرسالة من حيث المقام ومن حيث الإنسان، وإن كان قد يجتمع في شخص كما اجتمع في إبراهيم واجتمع كذلك في سيّد الرسل وخاتم الأنبياء بشكل أجلى وأتمّ، وكذلك هناك مقام رابع يقصّه ويبيّنه لنا القرآن الكريم كما في شأن مريم وفي شأن فاطمة الزهراء، حيث ورد نصّ القرآن الكريم بتطهير كلّ من فاطمة ومريم: (إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (الأحزاب: 33)، وقال تعالى في خصوص مريم: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) (آل عمران: 42)، وكانت فاطمة الزهراء (عليها السلام) من ضمن أهل البيت الخمسة، كما ورد نظير ذلك أيضاً في مريم (عليها السلام) وإن كان دون درجة الطهارة في فاطمة؛ لأنَّ درجة الطهارة التي في فاطمة كانت من نمط ونوعية الطهارة لسيّد الأنبياء، وإن كانت هي تابعة لسيّد الأنبياء في الفضل، لكن أشرك الله عز وجل نمط طهارة خاتم الأنبياء مع طهارة فاطمة (عليها السلام)، بينما الطهارة التي ذكرها القرآن الكريم في مريم لا تساوي أو تشاكل بينها وبين طهارة سيّد الأنبياء، ممَّا يعلم بأنَّ طهارة فاطمة (عليها السلام) هي بدرجة أرقى وأعلى وأعظم شأناً من طهارة مريم، حيث ورد أيضاً في شأنها أنَّها مصطفاة وأنَّها مطهّرة، وتسمّى: صفية لله؛ وهي ليست بنبيّة ولا برسولة ولا بإمام ولا خليفة، ولكنَّها حجّة من حجج الله، ويجب على المسلم أن يتدبَّر هذه الحقائق العقائدية في القرآن ويستلهم عقيدته من القرآن الكريم.
وعلى طبق ذلك العلم الإلهي الذي زوّدت به مريم بقناة غيبية خاصّة أمرت مريم ببرنامج إلهي خاصّ: (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا * فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ) (مريم: 26 و27)، إلى أن قامت بأداء ما عليها من وظيفة إلهية، وقد أوحي إليها بذلك، وليس هذا وحي شريعة ولا نبوّة ولا وحي رسالة، ولكن وحي حجّية، وكذلك في اُمّ موسى، أمَّا فاطمة الزهراء (عليها السلام) فهي في درجة الطهارة والاصطفاء أعلى من مريم، ومن ثَمَّ فإنَّ ما ورد في روايات الفريقين عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وبشكل متواتر، حتَّى في كتاب البخاري وغيره من الكتب الصحيحة عند المدارس الإسلاميّة الأخرى، أنَّ (فاطمة سيّد نساء أهل الجنّة)، ومن أهل الجنّة مريم، واُمّ موسى، وامرأة فرعون الصالحة أيضاً التي كانت ذات مقام معيَّن خاصّ، وفاطمة (عليها السلام) سيّدة نساء أهل الجنّة أجمع، لها السؤدد لمكانها ودرجة طهارتها وارتفاعها العلوي الذي تشارك في طهارتها طهارة أبيها خاتم الرسل.
ومن الواضح أنَّ هناك درجات في العلم اللدنّي، كما في النبوّة والرسالة والأنبياء والرسل، وكيف أنَّ الله تعالى فضَّل بعضهم على بعض: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ...) (البقرة: 253)، ممَّا يدلّل على أنَّ في كلّ مقام من هذه المقامات الأربعة: النبوّة، والرسالة، والإمامة، والحجّية درجات ومفاضلة، فمريم حجّة ومصطفاة، واُمّ موسى حجّة ومصطفاة، وفاطمة (عليها السلام) مطهّرة وحجّة ومصطفاة اصطفاها الله للطهارة، ولكن نمط طهارة فاطمة تعلو درجة عن نمط طهارة مريم، مع كون كلّ من النموذجين أو النماذج هذه هي في مقام الحجّية والاصطفاء، ولكن فيها درجات.
إذن هناك درجات ومفاضلة، فالعلم اللدنّي الذي تزوّد به الشبكة الخفيّة والحجج يكون دون العلم اللدنّي الذي عند الخليفة، وكذلك ورد في الروايات في ذيل ظاهرة الخضر أنَّه بعد ما انتهى وأزف الوقت في الفراق بين النبيّ موسى والخضر، أتى طائر وهو ملك بصورة طائر وألقى قطرات من البحر جانباً يميناً وشمال، وشرقاً وغرب، فأوحى الله إلى النبيّ موسى والخضر أنَّ علمهما كقطرة من علم خاتم الأنبياء وأهل بيته.(2) وهذا طبعاً تشهد له آيات قرآنية أخرى سنتعرَّض لها.
التطبيق الإلهي للشريعة:
في سورة الكهف تبيّن لنا أنَّ كلّ شريعة لا بدَّ أن تقترن بتطبيق إلهي أيض، كما أنَّ جهاز التطبيق وجهاز التنفيذ والجهاز الحاكم والحكومة لا بدَّ أن يكون أيضاً تعيينه وبرامجه وأوامره من الله عز وجل، وإليك _ عزيزي القارئ _ هذا المثال ربَّما نشاهد دولة مركزية، وحكومة مركزية، وهناك حكومات محلّية لمحافظات ومقاطعات، لكن يبقى الدور الرئيسي للحكومة المركزية، فإذا أردنا أن نقايس بينها وبين الحكومة الإلهية في وجه الأرض الذي أحد أشكالها وأنماطها دائماً هو الحكومة الخفيّة كما تستعرضه لنا سورة الكهف، هذه الحكومة هي الحكومة المركزية على وجه الأرض، وبقيّة نظم البشر أشبه ما يمكن أن يقول القائل فيها: إنَّها حكومة محافظات أو مقاطعات ليس بيدها الحلّ والعقد في الأمور المركزية والفصل المركزي، نعم لها مساحات وصلاحيات محدّدة لا تتجاوزها.
وإليك مثالاً آخراً أيض، ربَّما نشاهد في عصرنا دولاً عظمى ذات نفوذ وهيمنة على دول أخرى ضعيفة، فالدولة العظمى ذات النفوذ قد تسمح للدول التي تحت هيمنتها وسيطرتها بأن تشكّل مجالس نيابية أو حكومات أو أموراً أخرى ليست خطيرة، لكن ما أن يصل الأمر إلى قضيّة خطيرة سواء في الجانب الاقتصادي أو العسكري أو السياسي عندها يكون التدخّل والإملاء من تلك الدولة العظمى على تلك الدول الصغيرة، أي إنَّ المسار الأصلي الذي حدّد في المنعطفات المهمّة ينطلق من الدول العظمى على الدول الصغيرة، أمَّا التفاصيل ذات الشأن غير الاستراتيجي بالنسبة للدول العظمى، توكله إلى الدول المتوسّطة أو الدول الصغيرة أو الدول الضعيفة حتَّى يخيّل أنَّ فيها ديمقراطية وفيها حرّية نسبية أو سطحية، وأمَّا اللبّ والجوهر فهو بيد الدول الغنية التي يُصطلح عليها بالدول العظمى ذات النفوذ، والمسار الأصلي يبقى بيدها بالضغط وبالترغيب وبالترهيب، ونحن دائماً نشاهد في ظلّ الأنظمة البشرية هناك مساحات في النفوذ ومساحات في الحكم، دوائر في القدرة لا تتقاطع، بل هي كما يقال دوائر مركزية، وفيها دوائر فرعية جانبية. والحكومة الإلهية لخليفة الله في الأرض مع أنظمة البشر نستطيع أن نمثّل لها بهذا المثال القريب، وإن كان المثال يقرّب من جهة ويبعّد ربَّما من عشرات الجهات، لكن كتقريب إلى هذه العلاقة بين حكومة الله السياسية التي أحد أشكالها حكومة خفيّة تسطرها لنا سورة الكهف في ظاهرة الخضر كضمانة رابعة لبقاء الدين، وهو الموضوع الأصلي المركزي لسورة الكهف حيث تفيدنا هذه السورة: أنَّ هذه الحكومة الإلهية بالجهاز الإلهي المزوّد بالعلم اللدنّي وبالبرامج والأدوار العصيبة المهمّة في البيئات المختلفة أنَّ الحكم والحسم والفصل له، أمَّا فيما تدنّى من أدوار أخرى متوسّطة في البرنامج الإلهي فيمكن فسح المجال لتلك الأنظمة والحكومات الوقتية البشرية، وهي تظنّ أنَّ كلّ المقدّرات بيده، والحال أنَّه ليس كلّ المقدّرات بيدها كما يظنّ كثير من الشعوب في العالم الثالث أنَّه إذا أسّس لها مجالس نيابية ودوائر انتخابية وما شابه ذلك فإنَّ زمام الأمور كلّه بيده، والحال أنَّ كثيراً من المساحات الحساسة مفروضة عليها بهيمنة الدول الكبرى، ففي الحقيقة هذا التغافل أو هذا التخيّل موجود لدى دول العالم الثالث أو الدول الصغيرة أو الدول المتوسّطة بالقياس إلى هيمنة وقدرة نفوذ الدول الكبرى.
إذن الأمور الحساسة التي تقف حائلاً وسدّاً دون الفساد المنتشر ودون كثير من المخاطر المحيطة بالبشر وبالنظام البشري يقوم بها هذا الجهاز الخفي الذي تنبئنا به سورة الكهف، كما ورد لدينا في النصّ عنهم (عليهم السلام) أنَّه: (لو لا الحجّة لساخت الأرض بأهلها)(3)، وأحد تفاسير ومعاني هذا الحديث الشريف هو عين مفاد الآية الكريمة: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء) (البقرة: 30)، هي نوع من سوخ الأرض وقطع النسل البشري، وقد أورد الباري تعالى هذا الحديث على الملائكة لأجل أن يبيّن أنَّ الدور المركزي المحوري لخليفة الله هو المحافظة على عمارة الأرض وحياة البشر في الأرض، وأنَّه لولاه لانفرط عقد ونظم الحياة.
فهاهنا محور مركزي مصيري تبيّنه لنا تعاليم القرآن الكريم وبياناته وبصائره، وهو أنَّ السُنّة الإلهية في جعل الخليفة والإمام (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) الذي هو على نسق (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) (البقرة: 124)، في شأن النبيّ إبراهيم، هذا الجعل للخليفة والإمام في الحقيقة ليس منصباً تشريفياً ووساماً إلهي، بل هو حقيقة الدور العميق الذي يشرحه لنا القرآن الكريم في سورة (البقرة: 30): (قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء)، أي إنَّ الخليفة والإمام في الأرض بتدبيره يحول دون الإفساد في الأرض ودون سفك الدماء ودون قطع النسل البشري، فطبيعة البشر تقتضي وتستلزم استئصال النسل البشري وسفك الدماء: (اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) (البقرة: 36)، طبيعة البشر تقتضي الإفساد في الأرض، ولولا تلك الحكومة الخفيّة لما سلم الكثير من البشر، والنظم البشرية تستعمل تجارب في شتّى المجالات والبيئات، وتلك التجارب أو تلك كثيراً ما تكون فاتكة بالصلاح البشري وببقاء النسل البشري سواء على الصعيد الصحّي أو الأمني أو البيئي أو الغذائي أو غيرها من المجالات حيث يفاجئون بعد فترة وبرهة أنَّ هذا النظام المالي أو النظام الصناعي يعصف ويحدق بالخطر على البشرية في تلك الفترة. فمن الذي حال دون وقوع المخاطر قبل أن يفيق البشر وتفيق القافلة العلمية للبشر من غفلتهم فيما يستعملونه من برامج ونظم تكون قاتلة لهم وللصلاح البشري في تلك الفترة والغفلة؟ من الذي حفظهم ودبَّر أمرهم؟ هناك قوى ما وراء معرفتهم، قوّة ما وراء شعورهم، قوّة موجودة بين أيديهم وظهرانيهم يحدّثنا عنها القرآن الكريم، وهي من أمثال شبكة الخضر تقوم بتلك الأدوار بالتنسيق مع المركز وهو خليفة الله في الأرض.
صلة الأمّة الإسلاميّة بالعلم اللدنّي:
هنا نقطة أخيرة في ظاهرة الخضر، تظهر عندما نسأل أنفسنا: هل أنَّ العلم اللدنّي وعلم التأويل في خليفة الله له صلة بهذه الأمّة الإسلاميّة، وأنَّ سورة الكهف تعالج شأن الأمّة الإسلاميّة؟ هل القرآن الكريم ينبئنا عن ثلّة في هذه الأمّة لديها هذا العلم اللدنّي وعلم التأويل؟
وقد مرَّ بنا الحديث في ذلك بشكل مقتضب، أنَّ القرآن الكريم في سورة آل عمران وفي سور عديدة يحدّثنا بحديث الثقلين، وكما مرَّ بنا فحديث الثقلين قبل أن يكون حديثاً نبويّاً هو حديث قرآني، وفي عدّة سور تمَّ استعراضه نظير قوله تعالى: (هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذينَ في‏ قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْويلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الأَلْبابِ) (آل عمران: 7).
إذن للقرآن تأويل لا يعلمه فقهاء الأمّة وعلماؤه، وإنَّما: (وَما يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)، فمن في هذه الأمّة ادّعى علم التأويل بالقرآن كلّه؟ ليس من أحد استطاع أن يدّعي ذلك غير أهل البيت (عليهم السلام)، فهم الراسخون في العلم، وهم الثقل الثاني في هذه الأمّة بعد الثقل الأوّل وهو كتاب الله، وهذه الآية في سورة آل عمران تبيّن أنَّ هناك ثِقْلَين مقرونين، وكما ورد الخبر المتواتر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (يا أيّها الناس، إنّي فرطكم، وإنَّكم واردون عليَّ الحوض، حوض أعرض ممَّا بين بصرى إلى صنعاء، فيه عدد النجوم قدحان من فضّة، وإنّي سائلكم حين تردون عليَّ عن الثقلين، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، الثقل الأكبر كتاب الله عز وجل سبب طرفه بيد الله وطرف بأيديكم، فاستمسكوا به لا تضلّوا ولا تبدلّوا، وعترتي أهل بيتي، فإنَّه قد نبَّأني اللطيف الخبير أنَّهما لن ينقضيا حتَّى يردا عليَّ الحوض)(4)، والواو في (وعترتي) عاطفة كما مرَّ بن، فهل كان تأويل القرآن غير معلوم لأحد من البشر ويكون مجهولاً ومعطَّلاً! حاشا لكتاب الله أن يكون معطَّل، هذا قول المعطّلة _ والعياذ بالله _ الذين يعطّلون أحكام القرآن والمعرفة بالشريعة والمعرفة بالمعارف الإلهية، وأمَّا المثبّتين لهذه الحقائق المعتقدين لها يعلمون بأنَّ الواو عاطفة، فللقرآن الكريم تنزيل وتأويل كما ورد في الحديث النبوي الذي رواه الفريقان: أنَّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أخبر أمير المؤمنين (عليه السلام) بأنَّه سيقاتل على تأويل القرآن كما قاتل هو على تنزيله،(5) ومن الواضح أنَّ سيّد الأنبياء وخاتم الأنبياء كان معلّم سيّد الأوصياء من أهل بيته، وقد ورَّث علياً علم التنزيل والتأويل الحقّ للقرآن الكريم، وبذلك يكون خلفاء النبيّ من أهل بيته هم أصحاب علم التأويل، أي العلم اللدنّي.
وقد اقترن علم التأويل بالعلم اللدنّي وبأدوار الحكومة الإلهية، أي دور الإمام ومقام الإمامة والحكومة الإلهية الخفيّة في الأرض، وأحد أشكالها يكون في الخفاء، وبعض من أشكالها يكون في العلن.
السورة الأخرى التي تحدّثنا بحديث الثقلين في القرآن الكريم هي سورة الواقعة: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) (الواقعة: 77 و78)، هنا الثقل الأوّل والأكبر هو كتاب مكنون، يعني في لوح محفوظ، يعجز البشر أن يصل إلى أعماقه ودرجاته وبواطنه، (لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ) (الواقعة: 79)، الثقل الثاني المطهّرون، وهم من عرَّفهم القرآن في سورة الأحزاب: (إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (الأحزاب: 33)، إذن أهل البيت هم المطهّرون في هذه الأمّة الذين اصطفاهم الله عز وجل لعلم تأويل الكتاب، فهم أصحاب مقام الإمامة.
* * *
الظاهرة الرابعة: الإمام المهدي (عليه السلام) وأصحاب الكهف
قال الله تعالى: (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً * فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً * ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً) (الكهف: 10 _ 12).
كان عند أصحاب الكهف تمام التوجّه إلى الباري تعالى واستمدّوا منه الرشاد في مقابل طغيان النظام العاتي الدقيانوسي الذي كانوا يعيشون في ظلّه حيث يذكر القرآن الكريم ملخَّص القصَّة في ثلاث آيات بعد أن فرّوا من ذلك المجتمع الفاسد الظالم، وبعدما انقرض وباد ملك دقيانوس وبادت معالم المجتمع الكافر وتبدَّل إلى مجتمع موحّد، فكان البقاء والعاقبة للموحّدين وللمتّقين، وهم الذين يورثهم الله العاقبة، وهذه سُنّة الله أنَّ العاقبة للمتّقين، العاقبة لأهل التقوى واليقين، وليست العاقبة للجاحدين والمكذّبين والمنكرين والمفسدين والظالمين، ثمّ تستعرض الآيات الأخرى بشكل مفصَّل تلك الواقعة. هذه الظاهرة نفسُها فيها أبعاد كثيرة، فأوّل بُعد فيها يتراءى للنظّار وللقارئ لهذه الآيات أنَّ القرآن الكريم يتعرَّض إلى نمط الإرهاصات الغيبية غير المألوفة لدى البشر من وجود ثلّة فتية مؤمنة رشيدة تستمدّ من الله الهداية والرشاد، وأنَّهم مجموعة أو طائفة من بين المجتمع كانت على هدى من ربّها على رغم أنَّ غالبية المجتمع كانت على نهج الضلال. ورغم هذا التفاوت والمفارقة في النسبة والقوّة والعدّة والعدد لم يُثنهم عن الثبات على نهج الحقّ، هذه خصلة مهمّة يُطلعنا عليها القرآن الكريم وهذا درس للمؤمنين في وعد الله بإظهار هذا الدين على الدين كلّه ولو كره المشركون، على يد المهدي من ولد رسول الله وذرّية فاطمة وعلي، والمؤمنون بهذه العقيدة والحقيقة القرآنية يجب أن لا تضيرهم ولا تبئسهم القلّة في مقابل كثرة ممَّن لا يعتقد بالإسلام أو لا يعتقد ولا يؤمن بظهور الإمام المهدي الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً أو يكذب بهذه العقيدة.
المهمّة الأولى: الثبات والإيمان:
والمسؤولية والمهمّة الأولى التي تقع على حزب المؤمنين، هي الثبات والإيمان وهم حزب علي ابن أبي طالب، وحزب إمامة ولده المهدي (عليه السلام) وأنَّه سيظهره الله لإصلاح الأرض ليملأها قسطاً وعدل، هذه الثلّة المؤمنة يجب أن لا يثنيها قلّتها في مقابل كثرة المكذّبين أو المنكرين أو الجاحدين أو الظالمين أو المفسدين؛ لأنَّ نهج الحقّ يبقى والعاقبة لأهل التقوى ولأهل اليقين، وهذا مثل الفتية في كيفية قيامهم بمسؤولية الثبات على الدين رغم أنَّهم ليسوا بحجج، وإنَّما هم ثلّة مؤمنة من أهل الإيمان، فهذه خصلة مهمّة أولى.
المهمّة الثانية: الغيبة والخفاء:
هناك المحور الثاني والعِظة والعبرة الثانية التي يسطرها لنا القرآن الكريم في أصحاب الكهف، حيث يبيّن لنا نوعاً من الإرهاصات الخاصّة الغيبية التي لم يألف ويأنس بها البشر، وربَّما يستنكرونها ويجحدونه، وهي أنَّ الله عز وجل قد يغيّب ثلّة بشرية سنين ومئات السنين ثمّ يظهرها لهم، وهذه ليست أسطوريات، وحاشا للقرآن هذا العبث، فهو ذكر وليس بشعر، (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) (يس: 69)، (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (القمر: 17)، هو ذكرى وذكر لمن يريد أن يبصر ويطَّلع على الحقيقة، فسورة الكهف هي في الواقع _ كما يعبّر بعض المحقّقين _ كهف الأسرار وكهف المعارف، اسم على مسمّى، وهي شديدة الصلة بغيبة الإمام المهدي (عليه السلام)، وكما مرَّ بنا أنَّ المصادر التاريخية تنقل قراءة سيّد الشهداء لمطلع آية في هذه السورة: (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) (الكهف: 9)، إذ أنَّ صلة وطيدة ببقاء الدين والحفاظ على الدين، كما قام به سيّد الشهداء، وبإمامة أهل البيت (عليهم السلام) وكيفية مآل الأمور إلى ظفرهم بوراثة الأرض وتدبير زمام أمورها في العلن بيدهم، وإلاَّ فإنَّ الجهاز الإلهي والحكومة الإلهية في الخفاء بيدهم، كما يقول الإمام الصادق (عليه السلام) للمفضَّل بن عمر:
(مقصرة شيعتنا تقول: إنَّ معنى الرجعة أن يرد الله إلينا ملك الدنيا فيجعله للمهدي. ويحهم! متى سلبنا الملك حتَّى يرد علينا؟). قال المفضَّل: لا والله يا مولاي ما سلبتموه ولا تسلبونه لأنَّه ملك النبوّة والرسالة والوصيّة والإمامة. قال الصادق (عليه السلام): (يا مفضَّل لو تدبَّر القرآن شيعتنا لما شكّوا في فضلنا...).(6)
وكأنَّ الإمام الصادق (عليه السلام) يشير إلى ما أشار إليه القرآن الكريم في آل إبراهيم الذين أوتوا الإمامة: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) (النساء: 54)، الملك العظيم هو الخلافة الإلهية التي يُطوع الله عز وجل عليها كلَّ الملائكة، وأيضاً ملك في الجانب المادي وهو الذي استعرضته لنا سورة الكهف مثل وجود جهاز خفي وشبكة خفية تقوم بأدوار مفصلية هي أقوى الحكومات بالقياس إلى الحكومات البشرية الأخرى؛ لأنَّها تخترق تلك الحكومات.
وجود الخليفة في الأرض:
إنَّ المُلك والحكومة للخليفة في الأرض تترافق مع طاعة جميع الملائكة، وخلفاء الله في الأرض هم خلفاء النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) الاثني عشر، وثاني عشرهم الإمام المهدي، هذه الطاعة هي قدرة ونفوذ يصوّرها لنا القرآن الكريم كحقائق قرآنية في سورٍ قرآنية سبع عن شأن الخلافة الإلهية والاستخلاف الإلهي،(7) وجعل ثلّة من البشر المستضعفين أئمّة، كما في قوله تعالى لإبراهيم: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً) (البقرة: 124)، وقوله تعالى في شأن يعقوب وإسحاق من ذرّية إبراهيم: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة: 24)، مع أنَّ التاريخ لم يحدّثنا بأنَّ آل إبراهيم ملكوا ملكاً أو حكموا حكماً ظاهري، ورغم ذلك تصف سورة النساء أنَّ آل إبراهيم اُوتوا إلى جانب الكتاب والحكمة وهي النبوّة اُوتوا الملك العظيم: (فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظيماً) (النساء: 54)، فأيّ ملك عظيم هذا؟ في بُعده الملكوتي وفي بعده المادي والملكي، في بعده الملكوتي: (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ)، أي أطيعوا واخضعو، (فَسَجَدُوا) (البقرة: 34)، كلّ الملائكة بكلّ طبقاتهم من مقرّبين ومن ملائكة السماء ومن ملائكة الأرض وما شابه ذلك، لما فضَّل الله وزوَّد به خليفته في الأرض من علم يتقاصر عنه علم جميع الملائكة، ومن ثَمَّ هو الذي علَّمهم الأسماء كلّه، فالخليفة يعلّم الملائكة تلك الأسماء وهم يتَّبعونه في ذلك: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَْسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ * قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالأَْرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) (البقرة: 31 _ 33)، هذا بعد وجناح وذراع من أذرع الحكومة التي يتولاّها ويتصدّى لها خلفاء الله في الأرض المنصوبون أئمّة على الخلائق، وهو مقام ومنصب إلهي. وما تذكره لنا سورة الكهف من وجود شبكة بشرية كما في مثال الخضر وظاهرة الخضر مزودون بالعلم اللدني، ويقومون بأدوار مفصلية حساسة في مسار النظام البشري، وتهيمن هذه الحكومة الخفيّة على أدوار الأنظمة البشرية الأخرى، وتكون تلك الأنظمة والحكومات البشرية الأخرى وحتَّى الكبرى أو العظمى منها حكومات صغيرة بالقياس وبالمقارنة إلى نفوذ ونفاذ وقدرة تلك الحكومة والجهاز الإلهي الخفي.
فهذا هو الملك الذي لا يسلب من خلفاء الله في الأرض، وإن سُلب في السطح المكشوف الظاهر غير العميق في إبصار ورؤية حقيقة مسلسل الأحداث في النظام البشري، ففي ظاهر الحال الدول العظمى الموجودة ودول العالم الثاني ودول العالم الثالث كلّها تدبّر وتدير شؤون أرجاء الكرة الأرضية، هذا في ظاهر الحال في النظرة غير الثاقبة، أمَّا النظرة القرآنية فتقول: كل، إنَّما هناك جهاز إلهي حكومي بيد خليفة الله يتغلغل في الأنظمة الأخرى، وله أدوار حاسمة في درء الفساد ولو في درجة السقف الأدنى أي الحدّ الخطير من الفساد، ويبثون العدالة والقسط بدرجة السقف الأدنى، ويحولون دون قطع النسل البشري بسبب نزوات تلك الأنظمة التي تحكم الأرض، ويحولون دون ذلك إلى أدنى درجة من الصلاحية إلى أن يحين الوقت المعلوم للظهور، أي للبروز على المكشوف لإرساء تلك الحكومة الإلهية في العلن، بدلاً من أن تكون في مرحلة الخفاء.
نعم هذا هو الملك الذي يقول عنه صادق آل محمّد (عليه السلام): (متى سُلبنا الملك حتَّى يرد علينا؟).
الهوامش:
(1) للاستزادة راجع: تفسير الرازي 2: 4.
(2) روي أنَّه لمَّا وقع ما وقع بين موسى بن عمران والخضر (عليهم السلام) في قصَّة السفينة والغلام والجدار، ورجع إلى قومه، سأله أخوه هارون عمَّا استعلمه من الخضر، فقال: علم لا يضرّ جهله، ولكن كان ما هو أعجب من ذلك، قال: وما أعجب من ذلك؟ قال: بينما نحن على شاطئ البحر وقوف إذا قد أقبل طائر على هيأة الخطاف، فنزل على البحر فأخذ بمنقاره فرمى به إلى الشرق، ثمّ أخذ ثانية فرمى به إلى الغرب، ثمّ أخذ ثالثة فرمى به إلى الجنوب، ثمّ أخذ رابعة فرمى به إلى الشمال، ثمّ أخذ فرمى به إلى السماء، ثمّ أخذ فرمى به إلى الأرض، ثمّ أخذ مرَّة أخرى فرمى به إلى البحر، ثمّ جعل يرفرف وطار، فبقينا متحيّرين لا نعلم ما أراد الطائر بفعله، فبينما نحن كذلك إذ بعث الله علينا ملكاً في صورة آدمي، فقال: ما لي أراكم متحيّرين؟ قلنا: فيما أراد الطائر بفعله؟ قال: ما تعلمان ما أراد؟ قلنا: الله أعلم، قال: إنَّه يقول: وحقّ من شرق الشرق وغرب الغرب ورفع السماء ودحا الأرض ليبعثنَّ الله في آخر الزمان نبيّاً اسمه محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) له وصيّ اسمه علي (عليه السلام)، علمكما جميعاً في علمهما مثل هذه القطرة في هذا البحر. (بحار الأنوار 40: 177).
وفي الرواية عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (لمَّا لقى موسى العالم وكلَّمه وسائله نظر إلى خطاف يصفر ويرتفع في السماء ويتسفَّل في البحر، فقال العالم لموسى: أتدري ما يقول هذا الخطاف؟ قال: وما يقول؟ قال: يقول: وربّ السماء وربّ الأرض، ما علمكما في علم ربّكما إلاَّ مثل ما أخذت بمنقاري من هذا البحر)، قال: فقال أبو جعفر (عليه السلام): (أمَّا لو كنت عندهما لسألتهما عن مسألة لا يكون عندهما فيها علم). (بصائر الدرجات: 250/ باب 6/ ح 2).
(3) أنظر: الكافي 1: 179/ باب أنَّ الأرض لا تخلو من حجّة؛ علل الشرائع 1: 197/ باب العلّة التي من أجلها أنَّ الأرض لا تخلو من حجّة.
(4) رواه الهيثمي في: مجمع الزوائد 10: 363؛ والطبراني في معجمه الكبير 3: 67/ ح 2683؛ والمتّقي الهندي في كنز العمّال 1: 189/ ح 958، وقد روى الحديث جمهور الخاصّة والعامّة بألفاظ عدّة لا تخرجه عن المعنى، فراجع.
(5) عن أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه)، قال: كنّا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فانقطعت نعله، فتخلَّف علي يخصفه، فمشى قليلاً ثمّ قال: (إنَّ منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله)، فاستشرف لها القوم وفيهم أبو بكر وعمر، قال أبو بكر: أنا هو؟ قال: (لا)، قال عمر: أنا هو؟ قال: (لا، ولكن خاصف النعل)، يعنى علي، فأتيناه فبشّرناه، فلم يرفع به رأسه، كأنَّه قد كان سمعه من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). أنظر: (ذخائر العقبى: 66؛ مسند أحمد 3: 33؛ مستدرك الحاكم 3: 122).
(6) الهداية الكبرى: 419؛ بحار الأنوار 53: 25 و26.
(7) کقوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَْرْضِ...) (الأنعام: 165)، (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الأَْرْضِ...) (يونس: 14)، (وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ...) (يونس: 73)، (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَْرْضِ...) (فاطر: 39)، (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الأَْرْضِ...) (النمل: 62)، (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ...) (الأعراف: 69)، (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ...) (الأعراف: 74)، (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً...) (ص: 26)، (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَْرْضِ...) (النور: 55).
******************
لماذا تكابد البشرية المصائب وبيد الخليفة إصلاحها؟
ربَّما يقول قائل: إذا كان هذا المُلك بهذه العظمة، وأنَّ الخليفة لله في الأرض والإمام هو منصوب من قِبَل الله تعالى: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً) (البقرة: 124)، كما هو في شأن إبراهيم وشأن أهل البيت (عليهم السلام)، فلماذا لا يصلحون الأرض في ليلة وضحاها وفي ساعة وفي لمح البصر، ولماذا تكابد البشرية هذه المحن والامتحانات؟
هذا السؤال في الحقيقة يغفل عن أوّليات حكمة القضاء والقدر والسنن الإلهية، من أنَّ الله أبى أن يجري الأمور بالجبر والإرجاء، كما أبى أن يجري الأمور بالتفويض والإيكال إلى مشيئة البشر يعيثون في الأرض كما يشاءون فساداً وإفساداً وظلم، بل سُنّة الله جرت على أن يكون الحال أمراً بين أمرين، لا جبر ولا تفويض، لا بنحو قهر وإلجاء وجبر، ولا بنحو إيكال وانعزال لليد الإلهية ولقدرة التصرّف الإلهية، بل أمر بين أمرين.
إذن سُنّة الله في الظاهرة الاجتماعية والظاهرة البشرية والظاهرة الخلقية أن تجري الأمور بالاختيار والامتحان، لأنَّ ذلك هو سرُّ الخلقة، ليفوز الفائزون بالتقوى في مرابح أخروية وتجارة لن تبور في الدار الآخرة، ومن ثَمَّ يكون هذا الجهاز وهذا الملك الذي بيد خليفة الله، لا يجبر البشرية على الإصلاح، كما أنَّه لا يترك الأمور ويلقي الحبل على الغارب، وإنَّما أمر بين أمرين.
وهذه فلسفة اجتماعية وسُنّة إلهية وحقائق قرآنية أنَّ الأمور تجري بأسبابه، أمر بين أمرين، لا هو تفويض ولا هو جبر، وإنَّما هو اختيار وامتحان، وهنا يكون تشاطر في المسؤولية، بين لطف إلهي بإقامة خليفة وإمام للبشر وجهاز خفي يدبّر ويكون يداً حاسمة أمام الإفساد والظلم وقطع النسل البشري _ كسقف أدنى طبعاً _ وفي غيبة الخفاء في الأدوار، وبين شطر آخر تقع المسؤولية والعاتق عليه من البشر.
الظاهرة الأولى في أصحاب الكهف تبيّن لنا دروساً وعظاةً عقائدية مهمّة حساسة، هذا البعد الأوّل هو ثبات أصحاب الكهف والرقيم الفتية المؤمنة رغم قلّتهم في مجتمع الضلال، إلاَّ أنَّهم مع ذلك ثبتوا على نهج الحقّ، وهذه عظة للأمّة الإسلاميّة، أنَّه رغم وجود أهل الضلالة والمكذّبين وهم الأكثرية المكذّبون بعقيدة وجود خليفة الله في الأرض والإمام، وأنَّ الدين سيظهر ويُظهره الله على يده ليملأ الأرض قسطاً وعدل، لم يثنهم تكذيب المكذّبين وجحود الجاحدين وإنكار المنكرين والمفسدين والظالمين عن الثبات على عقيدتهم.
الانقطاع عن الخليفة وأثره في الإيمان:
البعد الثاني في أصحاب الكهف والرقيم أنَّ القرآن الكريم يستعرض لنا ظاهرة غيابهم وغيبتهم عن البشرية التي هي ليست غيبة زوال عن وجه الأرض، ولكن هي نوع من الغيبة كانت مدّتها مئات السنين ثلاثمائة. لأنَّه لم يحدّد لنا القرآن الكريم هنا العدد المرصود لغيبة أصحاب الكهف، هذه الظاهرة من غيبة أصحاب الكهف ثمّ بعث الله عز وجل لهم وإظهارهم للبشر، رغم وجود تلك الثلّة البشرية بين أيدي وظهراني المجتمع، ولم يزايلوا موقعهم من مواقع قريبة من مجتمعهم في الكهف الذي أووا إليه، لكن رغم ذلك كانوا غائبين عن معرفة البشر لهم وعن الشعور بهم، بعد ذلك أظهرهم الله عز وجل، هذه الظاهرة يذكرها لنا القرآن الكريم لتكون عبرة وعظة، يقول القرآن الكريم: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً) (الكهف: 13)، وليس أسطورة أو خرافة والعياذ بالله أو ثرثرة قصص أو سحر وخيال، القرآن ذكر حقّ وبصيرة وبصائر، هذا الحقّ والحقيقة الموجودة في غيبة أصحاب الكهف ثمّ عودهم إلى البشرية وظهورهم وتعرّف البشر عليهم، يريد القرآن الكريم أن يرمز أو يومئ أو يلوح كما يقول هو عن مغزى ذلك وحكمة ذلك: (وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ) (الكهف: 21)، كانوا موجودين، لكن لم تتفطَّن الأجيال البشرية المعاصرة لولادة أصحاب الكهف ولا الأجيال التي أتت بعد ذلك ولا الأجيال بعده، كم ظهر من النسل والجيل البشري حتَّى أصبحت قصَّة أصحاب الكهف ومناوءة الملك دقيانوس الظالم لهم واستضعافه لهم قصَّة فيما غبر في التاريخ بالنسبة للأجيال البشرية.
هذا الدرس القرآني في السُنّة الإلهية يريد من الإمّة الإسلاميّة أن تتَّعظ وأن لا تكذب ولا تجحد ولا تنكر وجود الإمام الخليفة الثاني عشر للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) من ذرّية فاطمة وذرّية علي (عليهما السلام)، وأنَّ عقيدة الحقّ والحقيقة يجب أن يثبت عليها أهل الحقّ، وأنَّ غياب الإمام المهدي بالرغم من تطاول الأمد والسنين لا يدعوننا إلى التكذيب بآيات الله، لأنَّ وعد الله حقّ. وسيظهر الدين على يد الإمام المهدي فيملأها قسطاً وعدلاً.
إذن المغزى الثاني الذي ينوّه ويركّز عليه القرآن الكريم في قصَّة أصحاب الكهف هو: (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى‏ لِما لَبِثُوا أَمَداً) (الكهف: 12)، من هو الذي تكون العاقبة له؟ العاقبة هي لأهل التقوى.
عاقبة أصحاب الحقّ والإيمان:
إنَّ جملة من المنكرين والجاحدين لعقيدة الإمام المهدي يوصمون أهل الحقّ المعتقدين والمتيقّنين بحياة الإمام المهدي، والمؤمنين بأنَّ غيبته غيبة خفاء بأنَّهم (كهوفيون)، نعم نحن من الذين نعتقد بسورة الكهف وبما فيها من حقائق وعقائد قرآنية، فسورة الكهف تتعرَّض إلى إرهاص غريب بالنسبة للبشر، لكنَّه ليس غريباً في السُنّة الإلهية من إخفاء جماعة الحقّ الذين رغم زوال أجيال وأجيال لم يُبادوا وأعثر الله عليهم وبعثهم لينجزوا الوعد الإلهي الذي هو وعد الحقّ، و(إِنَّ الأَْرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (الأعراف: 128)، و(وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَْرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) (الأنبياء: 105)، هذا وعد الله الحقّ، وإنَّ الذي يظهر الدين يجعله الله إماماً كما ذكرت لنا سورة القصص: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَْرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) (القصص: 5).
إذن سُنّة الله أن يجعل المستضعفين أهل الحقّ الذين هم دائماً في حالة استضعاف من قِبَل الظالمين والمفسدين، المنكرين والجاحدين، وهم فئة قليلة في قبال الفئة الكثيرة من أهل الضلال والعتو والفساد، لكن الله يأبى إلاَّ أن تكون سُنّته بأن يظهر هذا الدين ويجعل العاقبة لأهل التقوى، ولأهل اليقين وأهل الحقّ، ويجعل منهم الإمام للأرض.
وقد ورد في الروايات الإسلاميّة أنَّ أصحاب الكهف سيكونون من أصحاب المهدي (عليه السلام) يبعثهم الله لينصروه.(1)
فهذه العبرة والدرس الكبير الذي يريد أن يبيّنه لنا القرآن الكريم هو أنَّه سيجري في هذه الأمّة ما جرى لمن سبقهم من الأمم، وذلك بأن يغيَّب جماعة من أهل الحقّ عن معرفتنا وشعورنا وفيما يقومون به من أدوار، ولكن لا يدعوَنَّكم ذلك إلى إنكارهم وجحودهم، أو إنكار القدرة الإلهية في ذلك، وأنَّ الله عز وجل سيبعثهم أو يظهرهم لكم ولو بعد أجيال وأجيال من الأمّة الإسلاميّة.
بحقّ لو تسمّى سورة الكهف بأنَّها سورة الإمام المهدي لكانت جديرة بهذه التسمية، بعد ذلك في الحقيقة تستعرض الآيات الكريمة تفصيل هذين البعدين، بالإضافة إلى أبعاد أخرى، فالحري بنا أن نتابع بقيّة الآيات لنتعرَّف على ظاهرة أصحاب الكهف والرقيم.(2)
الثبات على الإيمان والفيض الإلهي:
الثبات على الإيمان أوجد من قبل الباري زيادةَ فيض الهدى منه تعالى على الفتية المؤمنة والثلّة المؤمنة، رغم عيشها في غربة، بلحاظ الأكثرية المخالفة لهم من أهل الضلال، ولكن ثباتهم ورباطة جأشهم، وإن لم يلتقوا بنبيّ زمانهم أو برسول زمانهم أو بخليفة الله في الأرض، ولم يتعرَّفوا عليه، ولم يرتبطوا به، إلاَّ أنَّه كان على علم بهم، فإنَّ لله عز وجل خليفة في الأرض في كلّ زمان، وهذا درس لأهل الإيمان، أنَّهم رغم احتجاب معرفتهم وشعورهم بشخص ومصداق من يعتقدونه بحقائق القرآن وحقائق السُنّة القطعية بأنَّه إمام للبشرية ومنصوب من قبل الله وهو الإمام المهدي الثاني عشر من خلفاء خاتم الأنبياء، هذا لا يزلزلهم عن ثباتهم. ولا يزلزلهم عن الاستقامة في طريق الحقّ. اتّعاظاً بما يذكره لنا القرآن الكريم من أصحاب الكهف: (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً * وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ) (الكهف: 13 و14).
وعندما يستقيم الإنسان يفرغ الله عليه صبراً ورباط، (وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا) (الكهف: 14)، قاموا من براثن الضلال، استيقظوا من غفلة الانحراف إلى طريق الاستقامة والهداية؛ لأنَّ التعبير بالقيام في القرآن الكريم: (قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) (سبأ: 46)، ليس المراد منه القيام البدني بقدر ما يراد منه الصحوة واليقظة وعدم الغفلة وسبات الضلالة، (إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالأَْرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً * هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ) (الكهف: 14 و15).
فالوسيط بين الله عز وجل وبين البشر لا بدَّ أن يكون منصوباً من قبل الله، والنصب عليه بيّنات شرعية وبيّنات إلهية وآيات ربّانية، وهو معنى السلطان، فكلّ من نتَّخذه وسيلة ووسيطاً بين البشر وبين الله عز وجل لا بدَّ أن يكون عليه سلطان بيّن، أنظر هذه المعرفة الفطرية الصائبة المستقيمة عند أصحاب الكهف، (لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ)، لا بدَّ من سلطان بيّن، ومن يتَّخذه البشر واسطة بينهم وبين ربّهم خليفة وباباً يتوجَّهون به إلى الباري تعالى لا بدَّ أن تقوم عليه البيّنات والبراهين الإلهية على جعله ونصبه وسيلة بين الله وخلقه (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً) (الكهف: 15)، فلا يمكن جعل شخصية وجعل أشخاص بشريين وسطاء ووسائل توجّه إلى الله عز وجل إلاَّ بنصب من الله، كما يقول الباري تعالى لإبراهيم: (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) (البقرة: 124)، وكما في قوله تعالى لخاتم المرسلين: (وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (الأنبياء: 107)، وكما في قوله تعالى أيضاً في شأن خاتم النبيّين وأهل بيته: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ)، يعني توجَّهوا بك ولاذوا بحضرتك أوّل، ثمّ: (فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ)، لا بدَّ أن يضمّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) شفاعتهم إلى عبادة العباد واستغفار العباد وتوبتهم، (لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً) (النساء: 64)، وكما في قوله تعالى في شأن خاتم المرسلين: (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا) يعني إلى رسول الله، (يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ) (المنافقون: 5)، اجعلوه وسيلة، اجعلوه واسطة، فهذا منصوب من قبل الله، وهو المبعوث رحمة، وأنتم تنفرون عن من نصبه الله رحمة للعالمين! تبتعدون عنه! تتنكَّرون عن التوسّل به! تتنكَّرون عن التوجّه به! يا للجاحد من الحظّ الأوكس،(3) ومن السقوط ومن سلب التوفيق، لماذا؟ لأنَّ الله عز وجل جعله باب رحمة للعالمين، وهو خاتم الأنبياء، فأنت تأنف عن التوسّل به والتوجّه به إلى الله، هذا على أيّة حال من _ كما يقال _ سلْب التوفيق، وانتكاس الفطرة، يتنكَّرون للتوجّه والتوسّل بسيّد الأنبياء وأهل بيته (عليهم السلام) الذين جعلهم وسيلة أيضاً في قوله تعالى: (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (الشورى: 23)، وفي قوله الآخر: (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (سبأ: 47)، فيستنتج المسلم من هذه الآيات المتعدّدة أنَّ مودّة أهل البيت هي السبيل إلى الله عز وجل بنصّ القرآن الكريم.
الاعتزال عن المجتمع الظالم:
(وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ)، الاعتزال هنا اعتزال المسار واعتزال المنهاج، وقد كان نهج التقيّة واضحاً فيهم، والتقيّة تعني البرنامج الأمني لأهل الحقّ لأن يحافظوا على أنفسهم في قِبال أهل الضلال، فسُنّة التقيّة هي سُنّة إخفاء، والمسايرة في الظاهر مع أهل الضلال، هذه سُنّة قرآنية يستعرضها لنا القرآن الكريم في أصحاب الكهف، وهو عبارة عن البرنامج الأمني للحفاظ على إيمانهم وثباتهم على الحقّ، فالتقيّة في الواقع على طرف النقيض مع النفاق، النفاق هو إضمار الباطل وإظهار الحقّ، وأمَّا التقيّة فهي إضمار الحقّ خوفاً من الظالمين والمفسدين والعتاة، وإظهار مسايرتهم ومداهنتهم مع ما عليه الظالمون من الباطل.
العناية الإلهية في الحفاظ على حجج الله:
بعد ذلك يستعرض لنا القرآن الكريم بقيّة ظاهرتهم: (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) (الكهف: 17).
وفيها تفاصيل مكث أصحاب الكهف في خفائهم، وكيف أنَّ الله عز وجل يبيّن ويهيّئ ويمكّن لهم من أسباب العيش مدّة طويلة في خفاء من شعور الناس وعدم معرفتهم بموضعهم، لماذا؟ ما هو المغزى وما هي الحكمة من هذه التفاصيل؟ ليبيّن الله عز وجل أنَّ تغيّب ثُلّة بشرية عن معرفة البشر وعن الشعور بهم، هذا من سنن الله الجارية، فإذا كان أهل الصلاح يغيّبهم الله عن الشعور البشري بهم، فكيف بك بالحجج المنصوبين من قبله ليكونوا في فسحة وأمان وسعة نشاط، وحيوية في الحركة من دون أن يحول بين قيامهم بالأدوار والمسؤولية، فالذي يحول بينهم وبين تلك الأدوار والمسؤولية هم قوى الظلم وقوى الظلام والشرّ، فهذا إذن أمر معهود في القرآن وهو سُنّة إلهية وليس بدعاً.
التشابه بين غيبة أصحاب الكهف والإمام الحجّة (عليه السلام):
وقوع الغيبة في هذه الأمّة الإسلاميّة وهي غيبة خفاء لتتسنّى للإمام المهدي (عليه السلام) الحركة بشكل أوسع ممَّا لو كان معروفاً مكانه ومعروفاً شخصه ومعروفة هويّته، فمن ثَمَّ حينئذٍ تصل إليه أيدي البطش وأيدي الظالمين لتصفيته وإبادته، فهذه سُنّة إلهية من وجود برنامج أمني إلهي تؤكّد وتشدّد عليه سورة الكهف، أو يمكّن للبشر أن يتَّخذ مثل هذه النظم كأسباب قوّة، والباري تعالى الذي زوَّدهم بهذا العلم لا يخفى عليه استخدام هذه الآلية بنحو يفوق البشر. والإمام المهدي منصوب من قِبَل الله تعالى إماماً ليدير البشرية ويأخذ بيدها إلى سبيل الإصلاح والعدل والقسط، ولو بنحو السقف الأدنى، في ظلّ غيبته (عليه السلام) يمنع به سقوط البشرية في سحيق الهاوية، سحيق الإبادة، سحيق الظلم والفساد الأخلاقي والانحلال، أو الفساد البيئوي.
إنكار الغيبة أسباب ونتائج:
بعد اتّضاح أنَّ غيبة الإمام المنصوب من قبل الله تعالى تمثّل العقيدة الحقّة قرآنياً قبل أن تكون عقيدة مأخوذة من السُنّة القطعية، فيكون الهجوم والعداء والجحود لهذه العقيدة بهذه الألفاظ الخاوية الرخيصة تنكّراً من هذه الجماعات المكذّبة والجاحدة والمنكرة لحقائق قرآنية عديدة، فالقرآن يؤكّد كما مرَّ بنا في ظاهرة النبيّ موسى في غيبته وفي خفاء ولادته ثمّ ظهوره للإصلاح والمجابهة للأنظمة الفرعونية، وكذلك في غيبة النبيّ يوسف ومن ثَمَّ ظهوره وإصلاحه للنظام البشري والقيام بما يحفظ أمن البشرية من الجانب الاقتصادي، حيث عصفت بهم حالات المجاعة والقحط الشديد، فلولا النبيّ يوسف الذي كان حجّة من قبل الله وفي ظلّ غيبته، لعصف بالبشرية حينئذٍ ذلك القحط الشديد ويكون الإقليم المهمّ من أرجاء الأرض يعيش حالة قطع النسل البشري والإبادة، فتشبّ حينئذٍ الجرائم، ويشبّ الفساد الخلقي، وإنَّ الفقر أينما حلَّ يقول للكفر: خذني معك، وبالتالي يسبّب نوعاً من الوباء الفسادي في شتّى المجالات، وبالتالي إلى سفك الدماء، وهذا هو المحذور الذي خافت منه الملائكة، وطمأن الله مخافة الملائكة من خلق الطبيعة البشرية بجعل خليفة له في الأرض: (إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَْرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة: 30)، فالخليفة يحول دون سوخ الأرض بالفساد، ودون سوخ الأرض وتفشّي ظاهرة قطع النسل البشري عبر مجالات الفساد المختلفة.
إذن إخفاء الخليفة فيما يقوم به من أدوار ومسؤوليات وغيبته هي ظاهرة متكرّرة في الظواهر القرآنية بتأكيد قرآني وإصرار قرآني في سور عديدة جدَّ، وفي أمثلة ونماذج عديدة جدَّ، عظةً وعبرةً لهذه الأمّة بما سيجري عليها في تاريخها الأخير وفي عمرها الأكبر الآن من غياب أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) وخفاء الإمام المهدي عن ظهراني المسلمين، وإن كان حاضراً بين أيديهم ولكن لا يشعرون به ولا يعرفونه، أي غيبة شعور وغيبة خفاء أكثر من عشرة قرون، ودخلنا في القرن الثاني عشر.
وحقّ لمن يسائل: أين الآيات حول ظاهرة الإمام المهدي وغيبته؟
نقول له: هذا سؤال حقّ وحري أن يُجاب عنه، فعندما كانت هذه العقيدة حقّة، فلا بدَّ أن يتكفَّل القرآن لمعالجة شؤونها وشجونها في سور عديدة وببيانات عديدة وبنماذج وبزوايا مختلفة ومتنوّعة، وهذا الذي نجده في القرآن الكريم، من غيبة لأولياء الله وحججه يستعرضها ويسطرها القرآن الكريم ويبيّن زوايا عديدة وجهات أخرى مختلفة ومتنوّعة ومتعدّدة، لتصحيح عقائد المسلمين، وجذبهم نحو مسار ومنهاج الحقّ، وهو منهاج القرآن ومنهاج النبيّ وأهل بيته، فلذلك نراه هنا يستعرض قدرة الله في تغييب أهل الكهف عن البشرية، تغييبهم وليس استئصالهم من وجه الأرض، بل هم كانوا على صعيد البسيطة والنشأة الأرضية، ولكن البشرية لم تشعر بهم ولم تعرف موضعهم.
الأسباب الكونية في خفاء الحجج:
يستعرض القرآن الكريم تفاصيل فترة الخفاء لهم، وكيف أنَّ الأسباب التكوينية التي هيَّأها الله والتي هي خفيّة وخافية على البشر مهَّدها الله وهيَّأها ليعيشوا ويبقوا قروناً من دون أن تشعر بهم البشرية، (وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ) (الكهف: 14)، كما يقول القرآن الكريم في دعاء أهل الكهف: (وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً) (الكهف: 10)، فهيَّأ لهم عز وجل رحمة ومرفقاً للعيش، (يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً) (الكهف: 16)، بيئات للعيش ترفق بهم وتحول دون بطش الظالمين بهم، (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ) اعتزلوا أهل الضلال، وهم أكثرية البشرية آنذاك، حينئذٍ (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ)، كهف الخفاء، (يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً) (الكهف: 16)، لذلك يستعرض القرآن الكريم تفاصيل هذه الظاهرة وهذه الحالة، ويؤكّد ويبيّن بصريح البيان للمسلمين وللمؤمنين أنَّ هذه سُنّة إلهية في التغييب، أي الإخفاء، والتغييب بمعنى الخفاء، لا الإبادة والاستئصال والإبعاد عن وجه الأرض وعن الكرة الأرضية مدّة قرون لأهل الكهف، أهل الكهف عاشوا فيها بقدرة من الله، والقرآن يستعرض تفاصيل هذه الأحاديث، (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ)، لأسباب العيش وحاجة الإنسان إلى العيش في ظلّ الأجواء الطبيعية، (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ) (الكهف: 17)، ذلك من سنن الله وآياته التي يجب أن يعتقد بها المسلمون والمؤمنون في إبصار هدى القرآن لعقائدهم التي سيعيشون فيه، فليس من الاعتباط وليس من المصادفة والاتّفاق تكرار القرآن في سورة بعد سورة غيبة أولياء الله التي هي بمعنى الخفاء، ذلك لكي لا يحيدوا عن مسار الحقّ، ولكي لا يحيدوا ولا يعطّلوا عن المسؤولية؛ لأنَّ الباري تعالى يعلم أنَّ الأمّة الإسلاميّة ستعيش قروناً من عدم الشعور بإمامها وبالخليفة المنصوب من قبله تعالى، رغم قيامه بالأدوار والمسؤولية بنحو فاعل حيوي، لكن البشرية لا تشعر به لظروف ولمكايدة ومصارعة الظالمين، إلى أن تتأهَّل البشرية إلى النضج الكامل فيما يقوم به خليفة الله من تربية البشرية على ذلك بنحو خفي مستتر ليهيّئها إلى ساعة الصفر من ساعات الظهور.
فليس من العبط أو الصدفة أو الاتّفاق غير المحسوب أن يستعرض القرآن الكريم عدّة ظواهر في الغيبة، فالغيبة هي ظاهرة قرآنية متكرّرة متعدّدة؛ لأجل أن يبيّن الباري تعالى أنَّ هذا من سُنّة الله، (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأَْوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً) (فاطر: 43)، إنَّ إخفاءهم وتمكين الله عز وجل وتهيئته لهم مرفقاً من العيش ليعيشوا في ظلّه من دون أن يحتاجوا إلى الظهور على المكشوف والعلن ذلك من آيات الله ومن هدى الله؛ لأنَّ هذه هداية، فإذا آمنت بهذه الآية آمنت بهذه السُنّة الإلهية من الحفاظ وبناء السياج الحفاظي وضمانة الحراسة الإلهية لأوليائه من قِبَل الله، وليس ذلك بعزيز على الله لذلك. وسوف تهتدي إلى العقيدة الحقّة أنت أيّها المسلم، أنت أيّها القاري للقرآن، (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (القمر: 17)، (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) (محمّد: 24).
التقيّة ودورها في الحفاظ على أولياء الله:
وهم موجودون بين أيدي البشر في الأجيال اللاحقة، وانقرضت تلك الأجيال التي عاصرتهم سابق، ورغم ذلك هم يتعاطون مع تلك الأجيال اللاحقة بعد قرون بنحو خفي، أصحاب الكهف يشعرون بالآخرين، والآخرون لا يشعرون بهوية أصحاب الكهف، (وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً)، هذا هو معنى التقيّة أو معنى الخفاء أو معنى البرنامج الإلهي، (إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ)، هنا تبيّن الآية على لسان أصحاب الكهف فلسفة التقيّة وفلسفة الخفاء والغيبة، يستعرضها لنا القرآن الكريم على لسان أهل الكهف، (إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ)، أو يلجئوكم على الضلالة، (أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً) (الكهف: 20)، هذه هي فلسفة تشريع التقيّة، التي يهرّج بها الجاحدون والمنكرون له، وكأنَّهم لا يتفطَّنون إلى مثل هذه التعاليم القرآنية، (إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ)، (يَظْهَرُوا) أي يطَّلعوا، يعلموا، يشعروا بكم، هذا هو الغيب.
إذن غيبة الإمام المهدي تعني غيبة شعورنا به، لا غيبة وجوده، غيبة علمنا به، لا غيبة بدنه الشريف، غيبة معرفتنا به، لا غيبة دوره ووجوده بين أيدينا وأداء ما عليه من مسؤوليات آلية، (إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً)، هذه فلسفة الخفاء والغيبة التي يعرضها القرآن على لسان أهل الكهف، ليبيّن لنا أنَّه ستكون غيبة لإمامكم التي هي غيبة شعوركم أنتم أيّتها الأمّة الإسلاميّة، شعوركم بإمامكم، معرفتكم بإمامكم بشخصه وهويَّته، وإن كان موجوداً بين ظهرانيكم وبين أيديكم ويمارس دوره الملقى عليه من قبل الله تعالى، وذلك لكي لا تعاوقه قوى الشرّ والضلال والبطش عن أداء مسؤوليته وأدواره الإلهية، لكنَّه هنا حانت ساعة ظهور أصحاب الكهف، وانظر لهذا الظهور كيف يعبّر عنه القرآن الكريم، يقول: (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) (الكهف: 21).
هو وعد من الله عز وجل لنصرة أوليائه، (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَْرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) (القصص: 5)، (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (الأعراف: 128).
فالوعد الإلهي في الظهور والغلبة للمصلحين يأتي بعد دور خفاء، هذه سُنّة إلهية، (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا)، يعني بعد ما يئس الناس من وجودهم وقالوا: إنَّ أصحاب الكهف بادوا أو ماتوا أو انقرضوا لا يُدرى في أيّ وادٍ هم، (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ) يعني أطلع الله البشر عليهم في ساعة ظهورهم، (لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ)، وهذه سُنّة الله، أن يظهر المصلحين في نهاية المطاف، (لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها)، لماذا ذكره القرآن الكريم لنا في سورة نتلوها دائماً في ختمات القرآن؟ لأنَّ هذا ما سوف تبتلي وتمتحن به الأمّة الإسلاميّة، وكي لا تنكر وعد الله، ولا تعجل وعد الله، ولا تكذّب بعقيدة الإيمان بخليفة الله في الأرض، (إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَْرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة: 30)، هذا الدين بدأ بأهل البيت وسيختم بأهل البيت (عليهم السلام)، مضافاً إلى أنَّ هذا مثل ضربه الله أيضاً حتَّى للمعاد، وأنَّ انطباق الساعة يأتي أيضاً بمعنى ساعة الوعد الإلهي، فهناك عدّة تفسيرات كلّها تتلائم مع سياق الآية، بأنَّ المراد من الساعة سواء ساعة القيامة الكبرى أو الساعة الموعودة فيها بإنجاز الوعد الإلهي والضمانة الإلهية.
البناء على القبور:
(وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) (الكهف: 21)، هنا محطّة لطيفة يذكرها القرآن الكريم، أنَّ المساجد تتَّخذ على قبور أولياء الله، وهذه سُنّة يستعرضها القرآن ويقرّها، (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً)، اتّخاذ المساجد لعبادة الله وذكر الله عند قبور أوليائه أمر قد ورد في القرآن الكريم وشرّع في نصّ القرآن الكريم لأصحاب هدى، فهذا الذي يُمارس من قبل فِرَق المسلمين كافّة عدا الذين يجحدون مثل هذه الشعيرة الإسلاميّة الأصيلة، أو هذا الشعار القرآني الأصيل، ففِرَق المسلمين كافّة هي على هذا النهج؛ لأنَّها مواضع لعبادة الله، وأقرب لاستجابة الدعاء، كما ورد في نصّ الحديث النبوي المتواتر: (ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنّة)(4)، أي عند قبره الشريف يتَّخذ مصلّى وعبادة لله ويستجاب الدعاء تحت قبّته، كيف والقرآن الكريم قد أخبرنا بذلك أيضاً: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ)، لاذوا بحضرة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبعد ذلك يتأهَّلون ويستعدّون لاستغفار الله، (فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً) (النساء: 64)، وكذلك في قوله تعالى: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) (البقرة: 125)، آيات عديدة تدلّل على هذا الأصل القرآني، يبثّ القرآن الكريم هذه التعاليم لمن هم أصحاب هدى، هم أصحاب الكهف الذين مدحهم القرآن الكريم أيّ مديح، والحرّ وذو اللبّ تكفيه الإشارة، (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) (الكهف: 22)، لا يعرفون هذه المجموعة، إنَّما هم مجموعة رجال الغيب، مجموعة شبكة الغيب، شبكة ظاهرة الخضر، الأبدال والأوتاد والسيّاح والأركان، مجموعة الخضر التي تحوط خليفة الله الإمام المهدي، والله تعالى أعلم بعدَّتهم.
ظاهرة أصحاب الكهف ودورها في حفظ الدين:
دأبت السُنّة الإلهية على إخفاء أولياء الله ومجموعاتهم المجهولة عدَّتُهم، هؤلاء الذين يخفي الله عز وجل عن شعور البشر أشخاصهم أو معرفة شخصياتهم ومعرفتهم بالهوية، تلك المجاميع والمجموعات البشرية التي تعدّ للقيام بمسؤوليات إلهية خفيّة في العدد والعدّة، فهذه سُنّة من الله عز وجل، ولا يوجب ذلك اللحود والإنكار والاستهزاء بسنن الله تعالى في أوليائه، لاسيّما المصلحين، وفي هذه الآية الكريمة تعبير رائع جدَّاً وذو مغزى عميق، حيث تقول الآية: (رَجْماً بِالْغَيْبِ)، أطلق عليهم القرآن الغيب، ممَّا يدلّل على أنَّ المراد من كلمة الغيب في استعمال القرآن الكريم هو كلّ ما كان خافياً شعوره ومعرفته وعلمه عن البشر، ويساعده المعنى اللغوي أيضاً حيث يعبّر عنه بالغيب، ومن ثَمَّ ورد في جملة من الروايات عن أهل البيت (عليهم السلام) تعبير بالغيب عنه (عليه السلام).
الإيمان بالحقيقة المهدوية من مصاديق الغيب:
إنَّ أحد مصاديق الغيب هو الإيمان بالإمام المهدي (عليه السلام) وظهوره فربَّما يتقاصر ذهن الكثير عن الالتفات إلى معنى الغيب، ويظنّ أنَّ المراد من كلمة الغيب هو ما وراء الموت من النشأة الآخرة مثلاً كالبرزخ، والقيامة، أو ما شابه ذلك من العوالم العلوية السماوية وغيره، والحال أنَّ القرآن الكريم لا يقصر ولا يحبس استعمال الغيب على ذلك فقط، بل كلّ ما غاب عن شعور البشر وعن معرفتهم ودرايتهم، وإن كان في دار الدنيا فإنَّه يكون غيباً بالنسبة إليهم لأنَّه تحت تنفيذ قدرة الله وقضائه، هذه القدرة الفائقة على قدرة البشر ومُكنتهم، فمن ثَمَّ يُسمّى غيب، قال تعالى: (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) (البقرة: 2)، وتتابع الآيات: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) (البقرة: 3)، الغيب فُسّر أيضاً بالإمام المهدي (عليه السلام)، وهذا التفسير معهود ويؤنسنا به نفس القرآن الكريم، أنَّ الغيب كلّ ما كان بتدبير وقضاء وقدرة من الله عز وجل وتتصاعد وتتعالى على قدرة البشر ومكنتهم ومعرفتهم وشعورهم، يكون حينئذٍ في دائرة الغيب عن البشر، وبالتالي فالغيب غيبة وليّ الله وغيبة أولياء الله وغيبة المصلحين عن شعور البشر ومعرفتهم بهم بتقدير من الله يكون غيباً ومن الأمور الغيبية التي افترض الله الإيمان بها على المؤمنين، فهنا تطبيق واضح من القرآن الكريم على غيبة أصحاب الكهف، غيبة شعور البشر بأصحاب الكهف، غيبة معرفة البشر بأصحاب الكهف، مع وجودهم في دار الدنيا وعبَّر عنه القرآن بالغيب.
ظاهرة أصحاب الكهف والإيمان بالحقيقة المهدوية:
هناك نوع من التشابه الوطيد الصلة جدَّاً بين ظاهرة أصحاب الكهف من جانب، والإمام المهدي وغيبته من جانب آخر، فقد ابتلي أصحاب الكهف بالملك دقيانوس رأس الضلالة وقومه وأصحابه، وكانوا هم ثلّة مستضعفة، فحماها الله وحرسها بالخفاء والغيبة، هكذا نجد في عهد الإمام الهادي والإمام العسكري (عليهما السلام)، كانوا مسجونين في قاعدة عسكرية تدعى بـ (سُرَّ من رأى) وهي سامراء حالي، وكانت أكبر قاعدة عسكرية في العالم الإسلامي حينذاك، بل حتَّى ربَّما على وجه الأرض، وسجن فيها الإمام الهادي والإمام العسكري كسجينين عسكريين تخوّفاً من دور الإمامين (عليهما السلام) ومن تولّد ابنهم الموعود على لسان النبيّ ولسان جميع الأنبياء بأن يكون المصلح المنقذ المنجي للبشرية والذي يملأها قسطاً وعدل، فالبشارة بالإمام المهدي لم تقتصر على القرآن الكريم فقط: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة: 33)، (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَْرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) (القصص: 5)، إلى غيرها من الآيات العديدة التي مرَّت بن، وأنَّ القرآن وعد بأنَّ الإصلاح سيكون على يد من نصَّبهم الله أئمّة يرثون الأرض، وإن كانوا في فترة طويلة جدَّاً متطاولة مستضعفين من قبل الظالمين المفسدين، بل هذا قد ورد في الزبور والتوراة والإنجيل وكتب السماء السابقة: (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَْرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) (الأنبياء: 105)، وقد فسّر الزبور هنا بزبر الكتب السماوية. فجملة الكتب السماوية قد تعرَّضت إلى البشارة بسيّد الأنبياء وبالأئمّة الاثني عشر، وكذلك بالبشارة بالإمام المهدي (عليه السلام) وظهوره وإصلاح الأرض على يديه، وكأنَّه هو خاتمة وثمرة سلسلة مسار الأنبياء والمرسلين أجمع والأئمّة في كلّ حقبة، فمن ثَمَّ وردت البشارة به وبغيبته في الصحف الأولى.
هنا نلاحظ أنَّ ظاهرة أصحاب الكهف قد وردت فيها جملة من العناوين العقائدية استعملها القرآن الكريم مشاكلة ومشابهة للعقيدة بالإمام المهدي وغيبته الواردة في آيات أخر وسور أخر، فضلاً عن الأحاديث النبوية الواردة، مثلاً التعبير: (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) (الكهف: 21)، أنَّ هناك وعداً من الله عز وجل، وهذا الوعد قد فُسّر من قِبَل المفسّرين بالمعاد والبعث، ولا ضير في هذا التفسير، لكنَّه لا ينحصر في ذلك، ففي الحقيقة أنَّ الإعادة والوعد كما استعملها القرآن الكريم في القيامة الكبرى والمعاد الأكبر، استعملها أيضاً على ما وعد به الله عز وجل البشرية من وعود أخرى قطعها الباري تعالى في القرآن على نفسه، مثلاً إظهار هذا الدين كلّه على جميع أجزاء الأرض، هذا وعد أيضاً ومعاد، وليس المعاد المصطلح المراد منه الآخرة، فذلك هو المعاد الأكبر، وذلك هو القيامة الكبرى، ولكن قد عبَّر القرآن الكريم أيضاً عن كلّ وعد بيوم معيَّن فيه من ظهور الآيات الربّانية وآيات القضاء والقدر الإلهي والحكمة الإلهية البارزة العظيمة، هو ذاك اليوم، يوم العدل، يوم وعد يتحقَّق فيه إنجاز الوعد الإلهي، وبالتالي فكلّ وعود الله حقّ.
حقيقة الرجعة بين القبول والرفض:
إنَّ ظاهرة أصحاب الكهف ظاهرة خفاء وغيبة ورجعة، والرجوع ليس كما يقوله التناسخية وبعض الفِرَق الباطلة من حلول روح في بدن آخر، وما شابه ذلك من هذه الأمور الباطلة الواهية، وإنَّما هي رجوع هذه الأرواح إلى نفس هذه الأبدان الدنيوية، كما هو في النوم، فالنوم كما ورد في الحديث الشريف وكما ورد في الآية الكريم: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَْنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) (الزمر: 42)، فعبَّر عن النوم أيضاً بأنَّه نوع توفّي للأنفس، فهو صنف شبيه يشاكل الموت، فرجوع أصحاب الكهف في الحقيقة ظاهرة بيّنة على عقيدة الرجعة التي تؤمن بها مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، من رجوع الأئمّة الاثني عشر إلى دار الدني، طبعاً في أبدانهم لا في أبدان أخرى، كي يكون هنا فرز وتمييز بين قول الرجعة وأقوال باطلة أخرى من أقوال التناسخية والمخمّسة وغيرهما من الفِرَق الباطلة، بل هو رجوع الأرواح إلى نفس أبدانه، كما في النفس البشرية عندما تنام، هي نوع توفًّ للأنفس شبيه للموت، فالاستيقاظ نوع من الرجوع، لكن هذه في فترة قصيرة ستّ ساعات أو ثماني ساعات، أمَّا في نوع أصحاب الكهف فكان قرون، ثمّ بعثهم الله كما عبَّر القرآن الكريم في قصَّة أصحاب الكهف: (وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ) (الكهف: 19)، لكنَّه ليس هو البعث الأكبر، فذلك في يوم القيامة، وإنَّما هذا بعث آخر، كما ورد أيضاً أنَّ الإيقاظ من النوم وإيلاج الروح بعد مفارقتها للبدن في المقام ليس مفارقة كلّية طبعاً هو نوع من البعث الإلهي، (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ) (الأنعام: 60)، فإذن عنوان البعث ورد في القرآن الكريم لليقظة من المنام، وكذلك ورد في أصحاب الكهف، وهذا غير التناسخ الباطل، أو ما تقوله الفِرَق الباطلة، وإنَّما هو في نفس بدنه وليس في بدن آخر، علقة بين الروح ونفس البدن، كما هي في الآخرة حيث تُبعث الأرواح في أبدانهم وليس بأبدان أخرى، ولا صلة له بالمقولة التناسخية الباطلة.
إذن هناك بعث أكبر ومعاد أكبر وقيامة كبرى، ويبيّن لنا القرآن الكريم أنَّ هناك عدّة حقب من البعث أيضاً، ورجعة الأرواح إلى الأبدان نفسها لا أبدان غيرها في دار الدنيا مهما تطاولت القرون، هذه ظاهرة موجودة في أصحاب الكهف، وتقع في هذه الأمّة، وهي عقيدة الرجعة التي تشيّدها مدرسة أهل البيت (عليهم السلام).
والجانب المهمّ في مقام حديثنا الذي نحن فيه هو ظاهرة غيبة الإمام المهدي (عليه السلام)، وأنَّها قد استُعمل فيها عناوين في القرآن الكريم وفي الحديث النبوي، ووردت بنفسها أيضاً في ظاهرة أصحاب الكهف، إنَّما هي ظاهرة خفاء مجموعة طالت عدّة قرون، وأنَّ الله وعدهم بأن يظفرهم ولو بإلهام الفطرة وبيقين الفطرة، أو أنَّ الله وعد في منشور كتبه بأنَّ العاقبة تكون للمتّقين، وهؤلاء متّقون، فأنجز الله هذا الوعد، كما أنَّ هناك وعداً إلهياً أيضاً في الآخرة بالمعاد والقيامة الكبرى، فهاهنا استعمل الظهور كمصداق من مصاديق تحقّق الوعد الإلهي.
الوعد القرآني في ظهور الإمام الحجّة (عليه السلام):
كذلك الحال في ظاهرة الإمام المهدي وغيبته، هناك وعد قرآني لإظهاره، وعود في آيات قرآنية وبألسن مختلفة وببيانات قرآنية متنوّعة، وببيانات في الحديث النبوي المتواتر متعدّدة، أن يظهر الله المهدي من ذرّية الرسول وذرّية فاطمة وعلي (عليهم السلام) ليملأها قسطاً وعدلاً.
والتعبير الآخر الثاني المشاكل لما ورد في العقيدة بالإمام المهدي وغيبته بالساعة، مع أنَّ الساعة هنا أريد بها الساعة الكبرى، وهي يوم القيامة الكبرى، ولكن في سياق آخر طبق على ساعة ظهور أصحاب الكهف، حيث إنَّ هناك نوعاً من المشاكلة بين إظهار الله عز وجل لأصحاب الكهف حيث هو مقدَّر في القضاء الإلهي مع تلك الساعة الكبرى، وهذا هو الذي ورد أيضاً، أنَّ أحد معاني الساعة ظهور المهدي، وإن كان هذا لا ينافي الساعة الكبرى وهي القيامة الكبرى، وربَّما أطلق على ظهور المهدي القيامة الصغرى، والرجعة القيامة الوسطى، وهي رجعة أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) إلى الدنيا.
المتّقون والإيمان بالغيب:
(ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) (البقرة: 2)، من هم المتّقون؟ أوّل صفة بارزة في المتّقين أنَّهم يؤمنون بالغيب، يدركونه بحقيقة عقولهم وبإيمان قلوبهم، وعندما نقول: من أبرز صفاتهم الإيمان بالغيب إنَّما نريد ما قامت عليها البراهين والأدلّة، كما أنَّ مجرَّد غيبية الحقيقة عن الشعور وعن المعرفة البشرية ليس مدعاة وسبباً للجحود وللإنكار وللاستهزاء وللتهريج، فهذا أمر عامّ يشمل الإيمان بالله تعالى والإيمان بالنشأة الآخرة وبالمعاد وبأمور غائبة عن شعور وإدراك الإنسان الحسّي وهي كثيرة جدَّاً، فمن ضمن تلك الأمور التي قام عليها البرهان القرآني وبرهان السُنّة القطعية النبوية والبراهين العقلية قوله تعالى: (إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَْرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة: 30)، إنَّ الاعتقاد بإمامة أهل البيت وبانتهاء هذه الإمامة بالإمام المهدي قامت عليه الأدلّة العامّة القرآنية والأدلّة في الأحاديث النبوية بعنوان عامّ عموم العترة أو بعنوان عامّ عموم جعل الخليفة في الأرض، وبعنوان خاصّ خصوص الإمام المهدي الثاني عشر، وما شابه ذلك، فالأدلّة متنوّعة ومتعدّدة، وعندما يعجز الشعور والإدراك الحسّي البشري عن الوصول إلى مثل هذا الإمام مع وجوده ما بين أيدينا، وما بين ظهرانينا ومع ما يقوم به من أدوار عصيبة حساسة في نظام البشر، ومع قيام البراهين القرآنية والبراهين النبوية على وجوده وعلى قيامه بالمسؤولية.
مع كلّ ذلك لا تكون غيبته عن الشعور الحسّي البشري مدعاة للإنكار والجحود، فأبرز صفة في المتّقين عقيدتهم بالأدلّة التي تقوم على الحقائق العقائدية، وإن كانت غائبة عن قوّة وقدرة شعورهم الحسّي، وليس المراد خصوص الإمام المهدي وغيبته، ولكن من ضمن ثوابت الغيب التي يؤمن بها المتّقون، هو الاعتقاد بإمامة الإمام المهدي وغيبته، هذا التعبير مشاكلته كما مرَّ بنا في القرآن الكريم في ظاهرة أصحاب الكهف والرقيم، فقد كانت لهم غيبة قرون متطاولة، ثمّ بعثهم الله وأظهرهم إلى البشرية بعد مرور أجيال وأجيال وقرون.
فنرى استعمال القرآن الكريم عن أمر موجود في نشأة دار الدنيا وعلى وجه الأرض، إلاَّ أنَّه لكونه غائباً عن شعور البشر وقدرة إحساسهم فقد سمّاه القرآن الغيب، لكن قامت عليه الحقيقة البرهانية القرآنية والأديانية، ومن ثَمَّ عبَّر عنه بالغيب كما في هذه الآية الكريمة: (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ) (الكهف: 22)، التعبير إذن ورد: (رَجْماً بِالْغَيْبِ)، قد عبَّر عن هذه الظاهرة بأنَّها غيب، كذلك في الآيات اللاحقة عندما يقول الباري تعالى: (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً * قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالأَْرْضِ) (الكهف: 25 و26).
* * *
الهوامش:
(1) من ذلك ما روي عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)، قال: (إذا قام قائم آل محمّد استخرج من ظهر الكعبة سبعة وعشرين رجلاً خمسة عشر من قوم موسى الذين يقضون بالحقّ وبه يعدلون، وسبعة من أصحاب الكهف، ويوشع وصىّ موسى، ومؤمن آل فرعون، وسلمان الفارسي، وأبا دجانة الأنصاري، ومالك الأشتر)، (تفسير العياشي 2: 32).
ومن ذلك ما ذكره الثعلبي في تفسيره (ص 157)، في قصَّة أصحاب الكهف، وفيه:... وأخذوا مضاجعهم، فصاروا إلى رقدتهم إلى آخر الزمان عند خروج المهدي (عليه السلام)، يقال: إنَّ المهدي يسلّم عليهم فيحييهم الله عز وجل، ثمّ يرجعون إلى رقدتهم فلا يقومون إلى يوم القيامة.
(2) الرقيم، قيل: هو القرية، وقيل: هو الوادي الذي فيه أصحاب الكهف، وقيل: هو لوح من حجارة كتبوا فيه قصص أصحاب الكهف ثمّ وضعوه على باب الكهف، وقيل: هو الجبل الذي فيه الكهف. راجع: (تفسير الطبري 15: 247 - 249).
(3) الوكس: النقص، (الصحاح 3: 989/ وكس).
(4) معاني الأخبار: 267/ ح 1؛ من لا يحضره الفقيه 2: 568/ ح 3158.
******************
الظاهرة الخامسة: الإمام المهدي (عليه السلام) وذو القرنين
الظاهرة الخامسة وهي الثالثة في سورة الكهف، ولكنَّها خامسة فيما استعرضناه من ظواهر قرآنية متَّصلة بعقيدة الإمام المهدي وغيبته، ألا وهي ظاهرة ذي القرنين.(1)
وليس هذا التكرير والإكثار والتعديد من البيانات القرآنية إلاَّ لأجل أنَّه سيقع في هذه الأمّة أمر عصيب تفتتن فيه الأمّة وتمتحن وتبتلى بمثل هذه العقيدة الحقّة، كي يصبر، ويهتدي، ويثبت على الهدى، و(لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) (الأنفال: 42).
فليس من العبط ولا من المصادفة ولا من عدم الحسبان أن تكرّر لنا السور القرآنية الأخرى بعد الأخرى والثانية بعد الأولى ظاهرة غيبة حجج وأولياء الله في الأرض، ثمّ ظهورهم وقيامهم بأدوار في الغيبة، ثمّ قيامهم بعد ظهورهم بالأدوار المعلنة على المكشوف، إلاَّ لبيان أنَّ في هذه الأمّة ستقع مثل هذه السُنّة الإلهية، فظاهرة ذي القرنين هي أيضاً كظاهرة خامسة متَّصلة بظهور الإمام المهدي، حيث إنَّ ذا القرنين كالنبيّ سليمان هما مَلِكان قد أوعز إليهما وفوّض إليهما ومُكّنا من قبل الله تعالى ونصّبا للحكم العامّ الشامل في أرجاء الكرة الأرضية، كما ورد في الروايات أنَّ أربعة من الملوك حكموا غالب أرجاء الكرة الأرضية، اثنان صالحان وهما الملك سليمان وقبله ذو القرنين، واثنان طالحان وهما نمرود وبختنصر.(2)
وهذا أيضاً من السنن الإلهية التي يوليها الله عز وجل لأوليائه وحججه، (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً) (الكهف: 83)، هنا تبتدئ الآيات ببيان البطاقة الشخصية التي يسردها لنا القرآن الكريم عن شخصية ذي القرنين، شخص صالح اصطفي للتمكين في ملك الأرض، وهو على أيّة حال يضاهي ما ستشهده البشرية من إرهاص عظيم مزلزل مجلجل في أرجاء الأرض ويدوي في أجواء السماء وهو ظهور الإمام المهدي (عليه السلام)، بل لن تشهد البشرية جلجلة وزلزلة وزلزالاً وإرهاصاً أعظم ممَّا ستشهده في ظهور الإمام المهدي، وهو أعظم ممَّا أوتي ذو القرنين، أو أوتي النبيّ سليمان (عليه السلام).
أنظر هاهنا التعبير: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَْرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) (الكهف: 84)، هكذا عرَّف القرآن الكريم ذا القرنين، ولم يعرّفه بأنَّه نبيّ أو مرسل، هذا هو التعريف الذي اقتصر عليه القرآن الكريم في تعريف ذي القرنين، نظير ما مرَّ من تعريف للخضر في نفس سورة الكهف، وهي ظاهرة أيضاً متَّصلة بغيبة الإمام المهدي (عليه السلام).
تصل سورة الكهف بتعريف نهاية المطاف، نهاية حفظ الدين، وبقاء الدين ألا وهي ظاهرة ذي القرنين في سورة الكهف، لأنَّه نهاية حفظ هذا الدين في هذه الأمّة هو ظهور المهدي ليظهر الله عز وجل الدين على أرجاء الأرض كافّة على يده فيملأها قسطاً وعدلاً، (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)، وهذا التناسق البديع في سورة الكهف قد رصد في ترتيبه بشكل ظريف بديع ينطبق تماماً على ملحمة العقيدة بالإمام المهدي وغيبته.
عرَّف القرآن ذا القرنين بأنَّه عبد مصطفى ولم يكن نبيّاً (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَْرْضِ) (الكهف: 84)، فهو تمكين إلهي وقدرة تفوق قدرات الأسباب الطبيعية في البشر، بل هي بأسباب طبيعية، ولكن هذه الأسباب الطبيعية لا يمكن للقدرة البشرية تناوله، وإنَّما هي بتمكين فقط من الله عز وجل.
الطبيعة البشرية فيها أسباب ولكن هذه الأسباب لا يمكن نيلها بتمامها أو بجملة وافرة منها أو بجملة مهمّة إلاَّ بتمكين من الله، نظير ما ورد في الخضر: (آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) (الكهف: 65)، أي هنا تمكين إيتائي ولدنّي من الله، (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَْرْضِ)، وهذا التمكين تمكين خاصّ (وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) (الكهف: 84)، إيتاء لدنّي، كما أنَّ في القرآن الكريم بياناً واضحاً أنَّ هناك غير مقام النبوّة ومقام الرسالة، هناك مقام صاحب العلم اللدنّي، وهو صاحب تأويل كما مرَّ في الخضر، وهنا صاحب تمكين في الأرض وقدرة وولاية تكوينية، (وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً).
وهناك قدرة علمية خاصّة لدنّية، كما أنَّ هناك قدرة تكوينية خاصّة لدنّية من الله، وهذا مقام آخر يستعرضه لنا القرآن الكريم، هذا المقام ليس مقام نبوّة ولا رسالة، وإنَّما مقام الملك والإمامة في الأرض بأن يمكّن الإمام والخليفة في الأرض، من القدرة التي تتقاصر وتعجز عنها وعن التطاول إليها القدرة البشرية مهما تقدَّمت ومضت قدماً في الحضارة والتمدّن.
بعد ذلك يعرّفنا القرآن الكريم: (فَأَتْبَعَ سَبَباً * حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا)، خطاب من الله عز وجل إلى ذي القرنين، (يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) (الكهف: 85 و86)، هنا حوار ووحي خاصّ بين الباري تعالى وذي القرنين، مع أنَّ القرآن الكريم لم يعرّف لنا ذا القرنين بأنَّه نبيّ ولا رسول، ولكنَّه وليّ مصطفى ومجتبى قد مُكّن واختير واصطفي لمقام الإمامة والخلافة في الأرض، الملك ملك التدبير والتصرّف، وهو إمام ومستخلف في الأرض وأحد مصاديق سُنّة الله، (قُلْنا) خطاب من الله لذي القرنين (يا ذَا الْقَرْنَيْنِ) خطاب خاصّ، وحي خاصّ، كما في الوحي لـ (اُمّ موسى)، وكما استعرض لنا القرآن الكريم في الوحي لـ (مريم)، فلم تكن نبيّة ولا رسولة ولا إمام، ولكن كانت مصطفاة وحجّة مطهَّرة.
تصل سورة الكهف إلى ظاهرة ذي القرنين حيث تمثّل نهاية المطاف لحفظ بقاء الدين من ظهور الملك الإلهي والخلافة الإلهية بشكل مكشوف وعلني على أرجاء الأرض كافّة، وهو ظهور الإمام المهدي (عليه السلام)، فصحَّ إذن أنَّ هذه الضمانات الأربعة، سيّما الرابعة كمثل ضربه الله للإمام المهدي (عليه السلام)، وهو غلبة واستيلاء وتمكين ذي القرنين في الأرض، ومن ثَمَّ ورد في روايات أهل البيت (عليهم السلام) أنَّ ذا القرنين أوتي السحاب، وأنَّ الإمام المهدي (عليه السلام) يؤتى ذلك أيضاً،(3) إلاَّ أنَّ الأسباب الأكثر والأشدّ قوّة ونفوذاً أخّرت للإمام المهدي (عليه السلام)، والنمط النازل المتوسّط من الأسباب، طبعاً هي فوق قدرة البشر، لكن من الأسباب اللدنّية أعطيت لذي القرنين، فأوّل مجتمع واجهه ذو القرنين وانخرط فيه: (وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) (الكهف: 86)، هذا الحوار والخطاب الإلهي مع ذي القرنين ليس مفاده وحي شريعة ولا وحي رسالة، ولكنَّه وحي من علم لدنّي للتدبير في الأرض، كما مرَّ في الخضر، إذن فهذا العلم اللدنّي الذي أعطاه الله للخضر، كذلك إعطاء الإيتاء اللدنّي لذي القرنين يؤهّل أن يكون هناك ارتباط بين الخضر وذي القرنين بوحي علم لدنّي، وليست هذه القناة نبويّة ولا قناة رسالة، وإنَّما ارتباط إمامة ووحي لدنّي.
هذه الظاهرة صريحة في القرآن الكريم، أنَّ هناك أولياء لله أصفياء مصطفون نصَّبهم الله حججاً وأئمّة للخلق مزوَّدون بالعلم اللدنّي، أو بإيتاء الأسباب، يوحي إليهم ليس وحي شريعة ولا وحي رسالة ولا وحي نبوّة، وإنَّما يوحي إليهم العلم اللدنّي، يطلعون عبره على إرادات الله وأوامره الخاصّة التفصيلية في تدبير الأرض وفي تطبيق شرائع الأنبياء التي هي شرائع إلهية، ومحطّة عقائدية متكرّرة في السور القرآنية، لا نجد لها تفسيراً عند المدارس الإسلاميّة غير مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، ففي منهاج العقائد لمدرستهم (عليهم السلام) أنَّ هذه الظاهرة القرآنية وأمثالها هي موقعية ومنصب ومقام الإمام، بخلاف المدارس الأخرى التي حصر فيها الارتباط بالغيب بقناة النبوّة والرسالة فقط، وليس هناك مقام ومنصب إلهي آخر عندهم، فلا يستطيعون أن يفسّروا ظاهرة ذي القرنين ولا ظاهرة الخضر ولا ظاهرة مريم ولا ظاهرة طالوت ولا ظواهر عديدة في القرآن الكريم كصاحب سليمان الذي عنده علم من الكتاب مثلاً.
وإنَّما استعرض القرآن هذه الحقيقة لحِكم ومغازي عديدة، منها تبيان أنَّ بقاء هذا الدين وحفظه سيكلّل في النهاية إلى ظهور المصلح الإلهي المزوَّد بالتمكين من السماء والمزوَّد بأسباب القدرة التكوينية بإيتاء من الباري تعالى، وهذا طبعاً مغزى وغاية مهمّة لاستعراض ظاهرة ذي القرنين في سورة الكهف في حفظ وبقاء الدين، وإظهار الدين على أرجاء الأرض كافّة، فالتشابه كبير بين الوعد الإلهي كوعد قطعه الله عز وجل على نفسه بإظهار هذا الدين وتمكين هذا الدين، وبين ما تستعرضه سورة الكهف في أوّل مطلع الآيات؟ فهناك الوجل حول حفظ وبقاء هذا الدين (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً)، وتذكر أيضاً أنَّ خاتمة الضمانات لبقاء حفظ الدين هي ظاهرة ذي القرنين، يعني أنَّ الدين يحفظ بمجيء شخص نظير ذي القرنين يمكّنه الله ويعطيه أسباب القدرة والنفوذ، ومن ثَمَّ سيعمر أرجاء الأرض كافّة بإظهار ونشر هذا الدين الحنيف، هذا مغزى مهمّ وعظيم.
ومغزى آخر من استعراض ظاهرة ذي القرنين وهو أنَّ الذي يمكّنه الله تمكيناً لدنّياً، ويؤتيه من أسباب القدرة إيتاءاً لدنّياً يكون متّصلاً بالغيب، يكون لديه سبب متّصل، قناة اتّصال مع الله عز وجل، ليس هذه القناة نبوّة ولا رسالة، ومن ثَمَّ ينقل لنا القرآن حواراً ليس حوار وحي نبوّة ولا وحي رسالة، وإنَّما ينقل لنا وحي برامج إلهية لتدبير الأرض وقيادة الأرض، أي برامج الإمامة الإلهية في منصب ذي القرنين، حيث يقول القرآن الكريم: (قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً * قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ) (الكهف: 86 و87)، فهنا إذن حوار إلهي وَحْياني بين الباري تعالى وبين ذي القرنين؛ لأنَّه استخلف في الأرض وجُعل خليفة يدبّر، ويقود الأرض، وأوتي القدرة اللدنّية من الله الإيتائية وليست الاكتسابية، هذا المقام يؤهّله لأن يطَّلع على الإرادة الإلهية التفصيلية الخاصّة في التدبير وفي الحكم السياسي والقضائي والتنفيذي.
التوحيد والحاكمية السياسية في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام):
إنَّها حقّاً الملحمة عظيمة أن يشاهد المسلم والمؤمن من يتشدَّد في عقيدة التوحيد توحيد الله عز وجل، ورغم ذلك لا يستطيع أن يرسم لوناً من التوحيد في الحاكمية السياسية لله تعالى، بينما نجد هذا اللون المركَّز في التوحيد في حاكمية الله في الحقيقة في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، حيث نجد (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ) (الأنعام: 57)، أنَّ الحاكمية السياسية أو الحاكم السياسي الأوّل هو الله عز وجل، عبر ما ينزّله الله عز وجل من إرادات وأوامر خاصّة تنفيذية وتطبيقية للإمام المعصوم، حيث يزوَّد بالعلم اللدنّي، ففي الحقيقة هذا اللون المركَّز من التوحيد لا نجده في المدارس الإسلاميّة الأخرى، يعني على صعيد الحكومة السياسية والحكومة التنفيذية أين هي يد الله عز وجل؟ وأين هو تصرّف الله تعالى؟ وأين هي حاكمية الله؟ للأسف في غير مدرسة أهل البيت التي تشدّد وتؤكّد على أنَّ الإمام يجب أن يكون منصوباً من قِبَل الله لكي يكون سفيراً لله في خلقه، لا سفارة نبوّة ولا سفارة رسالة، وإنَّما سفارة إمامة وسفارة إبلاغ البشر والإقامة في البشر، لإرادات الله السياسية وإرادات الله القضائية، فهناك إرادات تشريعية عامّة هي علم النبوّة والشريعة، لكن الإرادات الإلهية التفصيلية التطبيقية التنفيذية والإرادات السياسية كيف تتنزَّل؟ من الذي يطَّلع عليها؟ ومن ينفّذها؟ ومن يتلقّاها ويقيمها؟ فالنبوّة والرسالة عبارة عن توحيد لله في النبوّة والرسالة، وتوحيد لله في التشريع، فنفس العقيدة بالنبوّة والرسالة عبارة عن عقيدة التوحيد؛ لأنَّها توحيد لله في التشريع، فهناك من يتلقّى تشريعات الله، وهي النبوّة والرسالة والرسول، أوَليس لا بدَّ أن نعتقد بتوحيد الله في الحكومة السياسية وبتوحيد الله في الحكومة التنفيذية وفي الإجراء العسكري وفي الإجراء القضائي، فمن يتلقّى إرادات الله السياسية؟ من يتلقّى الإرادات الإلهية في المنعطفات في مسار النظام البشري؟ من يتلقّى إرادات الله العسكرية القضائية الثقافية؟ وهلمَّ جرّاً في الحكومة التنفيذية، وليس في مدارس المسلمين ومذاهب المسلمين من يصوّر هذا اللون وهذا الركن من التوحيد إلاَّ مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، فما ينقضي العجب ممَّن يتشدَّق بعقيدة التوحيد كيف لا يبصر هذا التوحيد المركَّز في مدرسة أهل البيت، ويتَّبع سبيل الهدى في مدرسة أهل البيت من كون الإمام المنصوب من قبل الله عز وجل هو الذي يتلقّى. هذا توحيد لله في الولاية، وهذا ما تسلّط الضوء عليه بشكل مركَّز ظاهرة ذي القرنين في سورة الكهف، إذ يتلقّى إرادات الله السياسية: (قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) (الكهف: 86).
إذن لا يفتأ القرآن الكريم يصرّح أنَّ لله تعالى إرادات سياسية غير الإرادات العامّة التشريعية وهي مغايرة علم الخضر وعلم النبيّ موسى، مغايرة الإمامة الإلهية عن النبوّة والرسالة واللتان اجتمعتا في خاتم النبيّين (صلى الله عليه وآله وسلم). هذه الإرادات التفصيلية تتنزَّل على من ينصبه الله عز وجل إماماً في الأرض وخليفة له يستخلفه لتدبير المجتمعات ولنظم المجتمعات، أين هذا الركن العقائدي؟ أين هذا المفصل العقائدي؟ أين هذه الحقيقة العقائدية القرآنية في مذاهب المسلمين؟ لا نجدها إلاَّ في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام).
فظاهرة ذي القرنين في سورة الكهف تبيّن لنا أنَّ الإمام الذي يمكّنه الله لإظهار الدين على أرجاء الأرض كافّة ويملأها قسطاً وعدل، هذا يؤهّل لأن يكون بينه وبين الله قناة ارتباط ليست قناة نبويّة ولا قناة رسالة، ولكن قناة تؤهّله لأن يعلم وأن يتزوَّد وأن يتلقّى إرادات الله السياسية في تدبير الباري تعالى لنظام البشر الاجتماعي، وهي إرادات سياسية، وهذا لون من التوحيد في الحاكمية السياسية.
نعم، بعد ذلك تواصل لنا ظاهرة ذي القرنين في الآيات، فتبيّن لنا ملامح واضحة بأنَّ الإمام كالإمام المهدي الذي يصطفيه الله لنشر الدين على أرجاء الأرض كافّة ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً يتحقَّق على يديه إنجاز الوعد الإلهي (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ)، وكما بدأ من بيت النبوّة وأهل البيت، وبعدما وقف انتشاره فإنَّه ينتشر مرَّة أخرى على يد أهل البيت أيضاً.
ولو كانت الأمور بيد أهل البيت لتمَّ إنجاز هذا الوعد الإلهي سريع، ولكن سوء تصرّف الأمّة أخَّر إنجاز هذا الوعد على يد ابنهم المهدي، فهذا الإمام الذي ينجز الله على يده هذا الوعد الإلهي ويمكّنه في أرجاء الأرض يكون كذي القرنين بينه وبين الباري تعالى ارتباط يؤهّله أن يخاطبه الربّ لا بوحي نبوّة ولا بوحي رسالة ولا بوحي شريعة جديدة والعياذ بالله، كلاَّ وإنَّما هي نفس الشريعة المحمّدية الخالدة، ولكن لتطبيقها ولتطبيق هذا الدستور وهذه الشريعة الخالدة العظيمة على صعيد الحكومة التنفيذية فإنَّه يحتاج إلى إرادات تفصيلية من الله عز وجل في المنعطفات الخطيرة المهمّة، بأن يخاطب (قلنا: يا مهدي) هكذا كما في ظاهرة ذي القرنين، (إمَّا أن تعذّب وإمَّا أن تتَّخذ فيهم حسناً) يعني كما يخاطب ذو القرنين في قول الله تعالى: (قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ) (الكهف: 86)، فأيضاً يخاطب الإمام المهدي (عليه السلام) في إمامته وفي حكومته بذلك.
ثمّ يقول تعالى: (حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً) (الكهف: 93)، فما معنى السدّين؟ هل هما سدّان في أجواء السماء بين المجال المغناطيسي والمجال غير المغناطيسي؟ أو شيء آخر، أو السدّان على وجه الأرض؟ فالعبارة قابلة لاحتمال هذه المحتملات، المهمّ أنَّه أوتي مثل هذه القدرات المتعدّدة، هذا مجتمع ثالث يخوض فيه ذو القرنين لإصلاحه وإقامة العدل فيه، (قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَْرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) (الكهف: 94 _ 95)، يعني أنَّ الإمام الذي ينصَّب من قبل الله تعالى في الأرض على البشر لا يتقاضى أجره وجزاءه من البشر، بل من الله عز وجل، فلا يتقايض ذو القرنين مع هذا المجتمع الثالث الذي يخوض فيه على الإصلاح وإقامة العدل فيه ومناهضة الفساد كما هو واضح هنا. وهذا حقيقة الأمانة والنزاهة في قيادة الإمامة الإلهية أنَّها لا تنظر إلى القيادة كسلطة وجسر للمآرب الذاتية، بل كطريق لخدمة البشر خدمة مجّانية ووظيفة إلهية، إلى أن تتمّ الآية فتقول: (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) (الكهف: 95 و96)، هذه محطّة مهمّة أخرى في الغاية تبيّنها لنا ظاهرة ذي القرنين.
وبعد ذلك تطالعنا هذه الآيات حول ظاهرة ذي القرنين، إنَّها محطّة أخرى مهمّة في الإمامة، وهي _ في الواقع _ حول إمامة الإمام المهدي وغيبته وظهوره، وحول إمامة أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، أيضاً يقول الباري تعالى في شأن ذي القرنين: (قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَْرْضِ) (الكهف: 94)، فها هو يردع الفساد، الخليفة في الأرض والإمام كما مرَّ في سورة البقرة: (إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَْرْضِ خَلِيفَةً)، هو سُنّة إلهية دائمة، (قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) (البقرة: 30)، يعني الخليفة يصدّ ما اعترضت به الملائكة من أنَّه يحول بينه وبين الإفساد في الأرض، فيكون سدّاً حائلاً عن قطع النسل البشري، فذو القرنين الذي هو خليفة في الأرض يخوض في المجتمعات لقطع مادة الفساد في الأرض، (قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ)، مع كون ذي القرنين أوتي الأسباب اللدنّية من الله والتمكين في الأرض، مع ذلك يقول: (فَأَعِينُونِي)، فأعينوني بماذا؟ (بِقُوَّةٍ)، ويقول: (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ)، ويقول: (انْفُخُوا)، ويقول: (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً)، ماذا يدلُّ استمداد العون من البشر؟ هذا المطلب يدلُّ بوضوح على أنَّ من يجعله الله إماماً للناس من قبله وخليفة في الأرض لا يعني ذلك أنَّه جبر (كن فيكون) في إصلاح الأرض وإقامة الإصلاح ودرء الفساد، ولا هو تفويض للناس، وإنَّما هي نفس نظرية القرآن (أمر بين أمرين) في الإصلاح الاجتماعي وفي حكومة المجتمع، فليست الحكومة الإلهية على البشر، والحكومة السياسية الإلهية الدينية على البشر جبراً وإلجاء، ولا تفويضاً للبشر، ولا استبداداً إلهي، ولا هو تفويض مطلق بشيء، إنَّما هو طريق وسط في رائعة التصوير الإمتحاني، وهي صورة ذات جمال خلاّب تحافظ على إرادة البشرية في الحركة الحيوية، وتحافظ على عناية السماء وهداية السماء ولطفها بالبشر في نظرية الاختيار والامتحان في الإصلاح وإقامة الحكم السياسي، وهذه هي نظرية وعقيدة مدرسة أهل البيت، عقدية أصلية من متن القرآن الكريم.
فالإمامة الإلهية والخليفة من قبل الله عندما يريد أن يقيم الإصلاح ودرء الفساد في الأرض لا بدَّ له من إعانة البشر بقوّة، وحينئذٍ يتمكَّن مع ما زوّد بأسباب لدنية، وهذا أمر ملحمي مهمّ في عقيدتنا بالإمام المهدي وغيبته وظهوره، إذ أنَّ وعد الله عز وجل بإنجاز وإظهار هذا الدين ومَلء الأرض قسطاً وعدلاً على يدي الإمام المهدي لا يعني إلجاء البشر، بل لا بدَّ أنَّ تقوم البشرية بدور ما من الإعانة لوليّ الله وللإمام، سواء في غيبته يعني في غيبة الخفاء فيما يقوم به من أدوار فيجب على المؤمنين أن يقوموا بمسؤوليتهم تجاه منهاج الحقّ وتجاه منهاج الرسالة، لا بدَّ أن يقوموا بمسؤوليتهم في الإعانة بقوّة، إذن دائماً يستمدّ العون من المجتمع، من الرعيّة ومن التابعين له، وليس يعني أنَّه منصوب من قبل الله عز وجل فتكون الأشياء (كن فيكون)، وليس وظيفة المسلمين أن يتفرَّجو، بل يجب عليهم حينئذٍ القيام بالمسؤولية من نشر هذه العقيدة الحقّة.
قال تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَْرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) (الأنبياء: 105)، إنَّ القرآن يدلّل على أنَّ كلّ زبر الأنبياء السابقين وكلّ كتبهم بشَّرت كما بشَّر خاتم الأنبياء بأنَّ الله يكلّل مسيرة الأنبياء بالنجاح والظفر بالإمام المهدي (عليه السلام)، وهو الذي ينجز مواعيد السماء على لسان سيّد الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن هنا يجب على المسلمين أن يقوموا بدور هذه المسؤولية وهي نشر هذه العقيدة الحقّة، وأنَّ الدين الإسلامي يبشّر برجل وفرد من عترة النبيّ من ولد فاطمة وولد علي يملأ الله الأرض قسطاً وعدل، كي تنجذب البشرية لمثل هذا المشروع من الدين ولمثل هذه البشارة في هذا الدين، هذا واجب على كلّ المسلمين أجمع، من غير فرق بين أتباع مدرسة أهل البيت أو بقيّة المسلمين؛ لأنَّ العقيدة بظهور الإمام المهدي عقيدة إسلاميّة يعتنقها الكلّ، والواجب فيه كما علَّمنا القرآن: (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ) (الكهف: 95).
كيفية الخفاء والاستتار مع المحافظة على الدين:
الإمامة باقية إلى يوم القيامة، وهي في عدد الاثني عشر كما أوضحه القرآن الكريم في جملة من الآيات التي استعرضه، كقوله تعالى في سورة المائدة: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) (المائدة: 12)، هي بعثة إلهية إذن، هذه الإمامة هي نقابة إلهية وقيادة إلهية للمجتمعات وسُنّة قرآنية أصيلة، العقيدة بهذه الإمامة الإلهية وهذا المقام الإلهي تشرحه لنا سورة الكهف، بأنَّ قيام الإمام والخليفة بأدواره لا ينحصر بالحكومة الرسمية المعلنة، وهذا الأمر الذي ينبغي أن تركّز الإضاءة عليه هنا؛ لأنَّ سورة الكهف تنبئنا عن وجود الخليفة كضمانة ثانية ذكرتها في الترتيب للوجل حول بقاء الدين: (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً).
فهي تعطينا قاعدة عقائدية مهمّة جدَّاً في الإمام، وهي أنَّ الإمامة لها أذرع وأشكال وصور عديدة من الحكومة، يتصرَّف فيها فيما استخلفه الله في إدارة البشر والحيلولة عن الفساد وقطع النسل البشري، وبطبيعة الحال على درجات، سقف نازل، وسقف أعلى، وسقف متوسّط، نعم السقف الأعلى عند الامتلاء عندما يظهره الله ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً، وهذه معلومة علمية منظورة متمدّنة ينبئنا بها القرآن الكريم في أشكال الحكومة، وهذا ما يجب أن ينتبه إليه المسلمون والمؤمنون في قراءتهم لسورة الكهف، فهو أمر مهمّ _ وللأسف _ مغيَّب في ثقافة المسلمين أو في ثقافة المؤمنين بالنحو العقدي والاعتقادي، ولربَّما إن لم يكن مغيَّباً لديهم فثقافتهم عنه سطحية في أمورهم العادية والمعتادة من أنَّ الحكومة التي يقودها خليفة الله والإمام في الأرض من قبل الله ليست حكومة ذات شكل وصورة واحدة وذات هيأة واحدة، بل هي ذات كيانات متعدّدة، فللإمام والخليفة في الأرض عدّة أساليب في الحكم، منها الحكومة الخفية والمستترة بأعضائها وكياناتها.
وهذا أمر بالغ الأهمّية يجب على عموم المسلمين والمؤمنين الالتفات إليه، من هذا البيان الناصع العقائدي الذي تطلعنا عليه سورة الكهف، أنَّ الخليفة في الأرض والإمام الذي يستخلف من قبل الله تعالى له أنماط من الأدوار وله أساليب متنوّعة ومتعدّدة وعلى درجات مختلفة، وله أيضاً أجهزة وليس جهازاً واحداً لحكومات وليست حكومة واحدة، فالحكومة المعلنة على المكشوف البادية بأعضائها ومرافقها وكياناته، تلك تمثّل فقط أحد أساليب الحكومة والحكم، نظير ما لـ (ذي القرنين)، وهو نظير ما يكون للإمام المهدي (عليه السلام) عند الظهور، ونظير ما كان لأمير المؤمنين (عليه السلام) بعد أن بويع وانشدَّت إليه قاعدة عموم المسلمين، وكانت بيعته بيعة فريدة في العالم وفي تاريخ الإسلام، فعدا البيعة التي حصلت للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لم تحصل بيعة بهذا الوفور وبهذه السعة في القاعدة الشعبية الإسلاميّة كما حصلت لأمير المؤمنين، وكما حصلت لبيعة الإمام الحسن (عليه السلام)، وكما حصلت أيضاً إلى حدًّ ما في مبايعة أهل العراق وبعض أهل الشام وأهالي الحرمين للإمام الحسين (عليه السلام) طواعية بلا جبر ولا فلتة ولا انتهاز فرصة ولا ما شابه ذلك.
هذه البيعة التي حصلت لأئمّة أهل البيت والحكومة الظاهرية، هي في الحقيقة إحدى أساليب الحكم، وإحدى أجهزة الحكم، وإلاَّ فإنَّ هناك أيضاً جهاز حكم آخر وحكومة أخرى وأسلوب آخر من الحكومة استعرضته أيضاً سورة الكهف، وهي ظاهرة الخضر.
فلكلّ عنصر من هذه المجموعة العبادية دوائر بشرية تقوم بأدوار اختراق النظم، وإرساء العدالة، تلك المجموعات البشرية التي هي جهاز إلهي خفي مستتر وسرّي.
فللّه في الأرض حكومة من نمط آخر، بل حكومات وأجهزة حكومية من نمط آخر تكون خفية، كما كان للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو في مكّة المكرَّمة، حيث كان له أيضاً هذا الجهاز حتَّى في معيّة الحكومة المعلنة للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلا تقاطع بين وجود جهاز الحكم الخفي والجهاز الحكومي المعلن؛ لأنَّ جهاز الحكم الخفي كما تدلُّ عليه سورة الكهف، هو جهاز ليس فيه انقطاع أو انبتار، وليس فيه فترة وفتور وجزر ومدّ، بل هو مدّ دائم، مدّ إلهي آبد؛ لأنَّه كما بيَّنت سورة الكهف في قصَّة أصحاب الخضر أنَّ هناك أوامر تفصيلية إلهية تتنزَّل وتنزل، (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي)، (فَأَرادَ رَبُّكَ)، والإرادة الإلهية والسياسية دوماً موجودة، فتدلّل إذن ظاهرة الخضر وسورة الكهف على أنَّ الجهاز الخفي للحكومة الإلهية هو نمط من حكومة لا يفتر ولا ينقطع ولا يبتر ولا يكون فيه جزر، وإنَّما هو مدّ دائم موجود قائم، وليس تابعاً لطبيعة البشر واختيارهم، وليس تابعاً لإقبال أو إدبار البشر، بل تابع لوجود ثُلّة من أصفياء الله وهم هذه العناصر.
وقد ورد بشكل مستفيض في روايات الفريقين تسمية هذه العناصر البشرية التي هي جهاز إلهي خفي بالأبدال، والأركان، والسيّاح، هذه التعبيرات متواترة في كتب المسلمين، سواء في كتب التاريخ، أو في كتب التراجم، أو في كتب الرجال، حتَّى أصبحت من نواميس الشريعة المحمّدية عند كلّ مذاهب المسلمين في كتبهم، فالذهنية الإسلاميّة مأنوسة بهذا التعبير كبديهة في الشريعة الإسلاميّة، من أنَّ هناك أبدال، وأوتاد، وسيّاح، وأركان، وهلمَّ جرّاً، وقد بات واضحاً أنَّ أشكال الحكومة وأنماط الحكومة وكيانات الحكومة هو بأساليب مختلفة في الحقيقة أيضاً، كما تطالعنا السور القرآنية الأخرى، وحتَّى سورة الكهف، أنَّ جهاز الحكم وكيفية إقامة الأهداف الإلهية لا ينحصر حتَّى بنمطين نمط خفي ونمط معلن ظاهر، بل فيه أنماط أخرى، مثل التيّار الاجتماعي، كما تبيّن لنا سورة الكهف في ظاهرة أصحاب الكهف والرقيم، فظاهرتهم في الواقع هذه وليدة للتيّار الاجتماعي الذي يقوم به خليفة الله، حيث سمعوا بشرائع الأنبياء وبأديان الأنبياء، فمن ثَمَّ استجابوا لهذه الدعوة، ففي الواقع إنَّ أصحاب الكهف تأثّروا بامتداد أمواج شرائع الأنبياء وأديان الأنبياء وبما يقوم به خليفة الله في الأرض من أدوار اجتماعية، وهذا أسلوب آخر تستعرضه لنا سورة الكهف وسور أخرى.
أنواع الحكومة الخفيّة والمعلنة:
هناك جملة من الآيات فيها بيانات مختلفة دالّة على أنَّ دولة الحقّ تكون في آخر الزمان، مثلاً التعبير القرآني الذي مرَّ بنا مراراً: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَْرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَْرْضِ) (القصص: 5 و6)، فيدلُّ هذا التعبير القرآني على أنَّ المستضعفين هم من أهل الحقّ وروّاد الحقّ، هؤلاء يكونون وارثين، أي في مآل الأمر وعاقبته تكون دولتهم التي يظهرهم الله ويمكّنهم فيه، والتعبير القرآني الوارد بكثرة: (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَْرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) (الأنبياء: 105)، فالتعبير بالوارثين يدلُّ على أنَّه ستكون الأرض للصالحين في نهاية المطاف والمآل والخاتمة، وكذلك ما ورد في سورة الأعراف: (إِنَّ الأَْرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (الأعراف: 128)، وهذا العنوان: (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)، والتوريث الإلهي للمتّقين في العاقبة ورد متواتراً متكرّراً في آيات القرآن الكريم، في العاقبة للتقوى، فالعاقبة يعني المآل والخاتمة، وكذلك في آيات أخرى يحدّثنا القرآن الكريم، ويدلّل مثلاً أنَّ عاقبة المفسدين والظالمين والمجرمين والمكذّبين مقطوعة، أي ليست نهاية الأمر لهم: (وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (الأعراف: 86)، (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) (يونس: 39)، أي إنَّ دابرهم مقطوع وأنَّه ليس لهم مآل ولا خاتمة في الفترات المتوسّطة.
فدائماً العاقبة تكون بيد أهل الحقّ، أمَّا الفترات المتوسّطة بيد المكذّبين والمنكرين، كما يبيّن لنا: (فَسِيرُوا فِي الأَْرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (آل عمران: 137)، العاقبة تكون للصادقين، ويقطع دابر المكذّبين للفترات المتوسّطة بعد الأنبياء، فالأنبياء هم ظاهرة الحقّ ومسار الحقّ، وتتوسَّط ما بعدهم من الفترات تغلّب المفسدين حسب ما يبيّن لنا القرآن الكريم، لكن العاقبة تكون في نهاية المطاف لأهل الحقّ والمتّقين. فإذن كون دولة الحقّ في أمم الأنبياء هي في آخر عمر الأمم التابعة للأنبياء بات أمراً واضحاً ناصعاً عياناً طافحاً بشكل لا تلابسه ريبة في الهداية القرآنية، وهذا ممَّا يدلّل على أنَّ أحد الحجج من أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) الذين استضعفوا واُزووا من مراكز القدرة المعلنة ومقاماتهم ورتبهم التي رتَّبهم الله عز وجل وجعلها لهم، ستكون العاقبة لهم ولدولتهم في آخر الزمان: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة: 33).
وكما أنَّ لحكومة أولياء الله أنماطاً مختلفة حيث ذكرنا النمط المعلن والخفي، فهناك نمط ثالث وهو أسلوب بناء التيّار الاجتماعي، وهو أسلوب متوسّط، لا هو أسلوب معلن مكشوف على الظاهر كالحكومات الرسمية، ولا هو خفي سرّي، بل هو متوسّط، وهناك أنماط أخرى في كيفية النفوذ والحكومة والقدرة يستعرضها لنا القرآن الكريم لخليفة الله في الأرض، وهذه ثلاثة نماذج ذكرتها سورة الكهف، بل إنَّ سورة الكهف ذكرت نموذجاً رابعاً لحكومة وليّ الله وخليفة الله في الأرض، وهو طاعة جميع الملائكة لخليفة الله، كما ذكرت ذلك سورة البقرة وسور قرآنية أخرى، أمَّا النبيّ والرسول في مقام النبوّة والرسالة فهذا مقام لا يكفل طاعة جميع الملائكة كما ينبئنا القرآن الكريم، وإنَّما هذه الخصيصة وهذه القدرة في ملكوت السماوات والأرض من شؤون وصلاحيات مقام الإمام سواء أكان نبيّاً ورسولاً أيضاً أم ل، كما ينبئنا عن ذلك القرآن الكريم في سور عديدة، فمن شؤون وصلاحيات جعل الخليفة في الأرض أن يطلع الله عز وجل جميع الملائكة المقرَّبين في السماوات والأرضين، ومن يكون في جوّ الهواء والسماء، يطلعهم جميعهم على طاعة خليفة الله في الأرض، وهو إنَّما ذكر في آدم، لأنَّه نموذج لأوّل السلسلة كما مرَّ بنا وليس منحصراً بآدم، وإنَّما إطاعة الملائكة لآدم بما هو متقلّد مقام الخلافة الإلهية.
إذن هذا من شؤون مقام الخلافة الإلهية، وهذا نمط من القدرة والحكم والحكومة الملكوتية، وهو نمط رابع تذكره سورة الكهف، وهذا النمط ليس فيه فتور، وليس فيه إقبال وإدبار، وليس فيه انقطاع، وليس فيه جزر ومدّ، بل دائم آبد، فتدلّل لنا سورة الكهف على أنَّ الإمامة والخلافة الإلهية لها أجهزة وأنماط عديدة ومختلفة عن أنماط القدرة والحكومة والحكم، وليس فقط الحكومة المعلنة المكشوفة هي الأسلوب الوحيد لمقام الخليفة والإمام من قبل الله للقيام بأدواره في النظام البشري، وهذا الحصر للأسف غفلت عنه جملة غفيرة من الكتب الكلامية في مذاهب المسلمين، وهو أنَّها حصرت أسلوب قيام واضطلاع الإمام الخليفة بأدواره بالحكومة الرسمية المعلنة على المكشوف، والحال أنَّ هذه أدبية ضيّقة الأفق قاصرة، ومن ثَمَّ ما جرى من نقض وإبرام في مقام الإمام في بحث الخلافة الإسلاميّة وجعله مقصوراً على الحكومة الظاهرية هو من ضمن ضيق الأفق وضيق البصيرة في الوعي السياسي أو في أسلوب نظم الحكم، وبعبارة أخرى هو أيضاً مجانب ومجافي وبعيد عن بصائر أنوار القرآن الكريم فيما يطرحه من أساليب وأجهزة حكم يقوم بها خليفة الله والإمام المنصوب في الأرض، وفي الحقيقة هذه الأنماط والأشكال والأساليب من القدرة والنفوذ والحكم والقيام بالأدوار النظمية في المجتمعات البشرية ذكرها القرآن الكريم قبل أربعة عشر قرن، وللتو في القرون الأخيرة توصَّلت البحوث الأدبية الأكاديمية السياسية والعلوم الاجتماعية إلى أنَّ هناك صياغات عديدة وأشكالاً عديدة، وأساليب عديدة للحكومة والنفوذ، والحكومة السرّية هي إحداها. فإذن من الخطأ بمكان في نهج التفكير الإسلامي أن يناقش إذا كان الإمام إماماً فلماذا هو عازب ضارب صفحاً عن مجريات الأمور الإسلاميّة، وتارك الحبل على الغارب طيلة هذه السنين! وهو ظنٌّ في أنَّ أسلوب القيام بالأدوار في النظام الاجتماعي منحصر فقط بالحكومة المعلنة الرسمية، كفرضية مسبقة خاطئة جدَّاً موجودة، ولربَّما لو أردت أن أذكر لك كلمات كثيرة لطال المقام من الكتّاب وعلماء المذاهب الإسلاميّة الأخرى في انتقادهم أو التشكيك في العقيدة بالإمام المهدي وغيبته، وأنَّه كيف يكون إماماً منصوباً من قبل الله تعالى وهو غائب كلّ هذه الفترة؟!
على أيّ حالٍ فإنَّ هناك أنماطاً لا تنحصر حتَّى في هذه الأشكال والأنماط الأربعة، فهناك أدوار متعدّدة، وعلى أيّ تقدير فمن المهمّ جدَّاً في بطاقة البحث على الطاولة الإسلاميّة وفي الفكر الإسلامي وفي العقل الإسلامي عندما يُراد بحث الإمامة وبحث خليفة الله في الأرض يجب أن تتوسَّع ذهنية العقول والأفكار في آفاق وسيعة رحبة وتستوعب ما يطرحه القرآن الكريم من نماذج وبصائر ومن أشكال وأمثال ومن هيئات وأساليب متعدّدة. ونحن فقط قد تدبَّرنا شيئاً ممَّا في سورة الكهف فقط، فما بالك في السور الأخرى التي تستعرض أنماطاً ونماذج عديدة وكثيرة جدَّ، فالحري إذن بالبحث في موضوع الإمامة والخلافة أن يكون مبتنياً على هذه العقلية التي ترى بأنَّ القدرة لها أشكال، وأنَّ النفوذ له أشكال، وأنَّ أجهزة القيام بأدوار في النظام الاجتماعي السياسي يتّخذ قنوات وأبواباً عديدة، وأنَّه بات أمراً بديهياً الآن في الأدبيات الأكاديمية السياسية، فعجيب من اجترار أفكار بالية وضيّقة الأفق وقاصرة النظر من أن تستوعب ما يذكره القرآن الكريم.
حينئذٍ نصل إلى هذه النقطة وهي أنَّ الحكومة الإلهية عندما تكون أمراً بين أمرين لا جبر ولا تفويض، وأنَّه ليس إلجاء، وأنَّه لا بدَّ من تعاون وتفاعل ومناصرة وتعاطي القاعدة الشعبية والأمّة الإسلاميّة والمجتمع البشري مع الحكومة الإلهية، هذا في الحقيقة في أسلوب الحكومة الرسمية المعلنة على المكشوف، وأمَّا أساليب الحكومة الأخرى فهي في الواقع لا تتوقَّف ولا تتأثّر ولا تعلّق فعّاليتها ونشاطها وحيويتها ودوامها على تفاعل البشر ولا على تعاطي البشر ولا على مبايعة الناس ولا على تجاوب الناس مع تلك الحكومة، وأساليب الحكومة الأخرى وأدوارها يقوم بها الأئمّة والخلفاء من قبل الله تعالى أقبل البشر عليهم أم أدبروا، بايعوهم أم قاطعوهم، ناصروهم أم خذلوهم، فازعوهم أم قتلوهم، ومن ثَمَّ نرى القرآن الكريم يفصح لنا عن ذلك ببديع بيانه: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) (النساء: 54)، فالآية تخاطب حقبة العهد الإسلاميّة، والناس المحسودون كما في بيان بعض الروايات هم آل محمّد (عليهم السلام)(4)، وفي بيان نصوص قرآنية عديدة: (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (الشورى: 23)، وهم آل محمّد أيضاً، وآية الخمس، حيث قال تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (الأنفال: 41)، (لِلَّهِ) يعني تدبيره، فالله عز وجل ليس محتاجاً للأموال، وإنَّما هو خالق كلّ شيء، اللام لام لملك الولاية في التدبير، ومن ثَمَّ تكرَّرت اللام في لله والرسول وذي القربى، ولم تتكرَّر في الطبقات المحرومة واليتامى والمساكين وابن السبيل، للدلالة على أنَّ الطبقات المحرومة ليس لها صلاحية الحكم.
فهم أهل البيت (عليهم السلام) وآل محمّد، فلم يحدّثنا التاريخ عن أنَّ آل إبراهيم أو إبراهيم عندما قال له الباري تعالى: (إِنِّي جاعِلُكَ) يعني بالفعل (لِلنَّاسِ إِماماً) (البقرة: 124)، وقال عن إسحاق ويعقوب: (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) (السجدة: 24)، أو آية أخرى: (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) (الأنبياء: 73)، هنا أخبر القرآن الكريم بأن آتاهم ملكاً عظيم، وجعلهم أئمّة بالفعل، ومع ذلك لم يحدّثنا أيّ كتاب تاريخي أنَّهم باشروا الحكومة الرسمية المعلنة الظاهرة. فأيّ ملك عظيم أوتيه آل إبراهيم وإبراهيم؟ أوَلا يحدّث المسلم نفسه عن هذه النبوءة القرآنية وعن هذا الوحي والحقيقة القرآنية؟!
إذن التصرّف والقدرة في الحكم السياسي والحاكمية السياسية والإرادة السياسية الأولى هي لله عز وجل، وهي غير الإرادة التشريعية، وهي الملك العظيم الذي أخبرنا القرآن الكريم، أنَّه قد أوتيه آل إبراهيم.
* * *
الهوامش:
(1) عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إنَّ ذا القرنين لم يكن نبيّ، ولكنَّه كان عبداً صالحاً أحبّ الله فأحبّه الله، وناصح لله فناصحه الله، أمر قومه بتقوى الله فضربوه على قرنه، فغاب عنهم زماناً، ثمّ رجع إليهم فضربوه على قرنه الآخر، وفيكم من هو على سُنّته)، (كمال الدين: 393/ ما روي من حديث ذي القرنين/ ح 1).
(2) في الرواية عن ابن مسعود: إنَّ أوّل مَلِك مَلَك في الأرض شرقها وغربها نمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح، وكانت الملوك الذين ملكوا الأرض كلّها أربعة: نمرود بن كنعان، وسليمان بن داود، وذو القرنين، وبخت نصر، مؤمنان، وكافران. (تاريخ الطبري 1: 163).
(3) عن الباقر (عليه السلام)، قال: (إنَّ ذا القرنين كان عبداً صالحاً، ناصح الله سبحانه، فناصحه، فسخّر له السحاب، وطويت له الأرض، وبسط له في النور، وكان يبصر بالليل كما يبصر بالنهار، وإنَّ أئمّة الحقّ كلّهم قد سخَّر الله تعالى لهم السحاب، وكان يحملهم إلى المشرق والمغرب لمصالح المسلمين ولإصلاح ذات البين. وعلى هذا حال المهدي (عليه السلام)، ولذلك يسمّى: (صاحب المرأى والمسمع)، فله نور يرى به الأشياء من بعيد كما يرى من قريب، ويسمع من بعيد كما يسمع من قريب، وإنَّه يسيح في الدنيا كلّها على السحاب مرَّة، وعلى الريح أخرى، وتطوى له الأرض مرَّة، فيدفع البلايا عن العباد والبلاد شرقاً وغرباً)، (الخرائج والجرائح 2: 930).
(4) راجع: الكافي 1: 205/ باب أنَّ الأئمّة (عليهم السلام) ولاة الأمر وهم المحسودون/ ح 1 - 5.
******************
الظاهرة السادسة: الإمام المهدي والنبيّ عيسى (عليهما السلام)
الظاهرة السادسة، وهي ظاهرة النبيّ عيسى (عليه السلام) وصلتها الوطيدة جدَّاً بظاهرة الاعتقاد والعقيدة بالإمام المهدي وغيبته، يذكرها القرآن الكريم في جملة من السور، منها ما في سورة النساء، حيث يقول الباري تعالى عن اليهود: (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَْنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً) (النساء: 155)، هنا تمهّد الآيات في سورة النساء إلى مطلع هذه الآية، (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً) (النساء: 156)، حيث لم يؤمنوا بأنَّ عيسى بن مريم قد ولد بإعجاز من الله تعالى، بل قذفوا مريم بالبهتان والفاحشة العظيمة عندما ولدت عيسى من غير أب ومن غير زواج.
فطبع الله على قلوبهم بسبب كفرهم وبسبب قولهم بهتاناً على مريم، لماذا يطبع الله على القلوب ولا يجعلها مؤمنة ولا يجعلها راشدة ولا يجعلها مهتدية؟ هنا يبيّن القرآن الكريم، أنَّه بسبب قولهم: (إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ)، فلم يعبّر القرآن أنَّه بسبب قتلهم المسيح، أو محاولتهم قتل المسيح، فالتعبير القرآني ظريف ودقيق، وهو نفس دعواهم بأنّا قد أبدنا المسيح، أو إنّا قد أبعدناه عن الوجود، فهذا أحد أسباب الطبع على قلوبهم.
فهنا يبيّن القرآن لنا أنَّ المقولة والزعم بأنَّ النبيّ عيسى قُتل وليس بحيّ، هذه المقولة تسبّب فقد الإيمان، وهذه المقالة تسبّب طبع الله على قلوبهم فلا يؤمنون، فالقول بعدم حياة حجّة الله التي ضمنت السماء والرسالة السماوية حفظه وإبقاءه، يتصادم مع قدرة الله تعالى، (إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) (الطلاق: 3)، إذ قام الدليل من الوحي الإلهي على وجود حجّة من حجج الله في أرضه، ثمّ حصلت شبهة من قِبَل الظالمين حول استئصال ذلك الحجّة، فترك تلك البراهين والحجج الإلهية القائمة على أنَّ الحجّة حيّ، وأنَّ الخليفة حيّ باقٍ، مقابل بعض الأحداث المشبهة والموهمة أنَّ الظالمين استطاعوا أن يستأصلوا خليفة الله في الأرض أو استطاعوا أن يبيدوا حجّة الله في الأرض، هذا هو السبب لأن يطبع الله على قلب الفرد الإنساني فلا يؤمن، فإذا أنبئنا القرآن الكريم أنَّ لله عز وجل في كلّ زمن خليفة له في الأرض كمعادلة دائمة من أوّل بدء الخليقة البشرية إلى آخر حياة البشر، (إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَْرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة: 30)، هذا الخليفة لا بدَّ أن يكون موجوداً دائم، كما ينبئنا القرآن الكريم أيضاً في ذرّية آل إبراهيم بأنَّ الإمامة لن تعدم فيهم إلى يوم القيامة في قوله تعالى: (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً)، فليس التعبير في الآية الكريمة أو اللفظ في الآية الكريمة: إنّي جاعلك للناس نبيّاً، أو رسولاً، ذاك مقام آخر، وهذا مقام ثالث: (قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة: 124)، أي إنَّ الإمامة تبقى في غير الظالمين من ذرّيته، وإبراهيم مستجاب الدعوة، وهو نبيّ من أنبياء أولي العزم، وقد استجاب الله دعوته، ومن ذرّيته إسماعيل وآل إسماعيل، وهم النبيّ وأهل بيته (عليهم السلام)، كما في آخر الآية من سورة الحجّ: (هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا)، يعني في الاجتهاد والاصطفاء من الله لكم بالإمامة، وهي دعوة إبراهيم في ذلك، (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) (الحجّ: 78)، إذن أنبأنا القرآن الكريم على أنَّ الإمامة بهذا المقام باقية في آل إبراهيم وذرّية إسماعيل، وقوله تعالى: (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ)، دعوة إبراهيم وإسماعيل عندما كانا يبنيان قواعد البيت، (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا)، ذرّية إسماعيل التي فيها الإمامة وليس ذرّية إسحاق، (أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ)، يعني نفس درجة الإسلام والتسليم لله عز وجل التي طلبها إبراهيم وإسماعيل بعد أن كانا نبيّين فهي درجة تسليم من درجات العصمة العالية، وهي درجة تضاهي الإمامة، (وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (البقرة: 128 و129)، وهو خاتم النبيّين، وكذلك تدلُّ آخر آية من سورة الحجّ: (هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) حيث يخاطب ثلّة من هذه الأمّة، (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ)، فهم من نسل إبراهيم، مجتبَون، لهم صلة بسيّد الأنبياء، وهو الذي دعا أن تكون الإمامة في ذرّيته وفي آل إسماعيل، (مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ)، على أهل البيت، وتكونوا شهداء على الناس، وهو مقام الإمامة.
وهناك الكثير من الآيات التي تدلُّ على إمامة أهل البيت، وأنَّ الإمامة لن تقطع ولن تبتر في أهل البيت الذين وصفهم الله بالتطهير في هذه الأمّة، واُعزي إليهم مقدرات الأرض، حيث قال تعالى في سورة (الحشر: 6): (ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ)، الفيء في تعبير القرآن الكريم وحتَّى في فقه مذاهب المسلمين يمثّل كلّ ثروات الأرض وعائدات الأرض، فإدارتها وتدبيرها وولاية تدبيرها لصرفها في الطبقات المحرومة من البشرية ولصرفها وتوزيعها العادل لترسو العدالة، (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَْغْنِياءِ مِنْكُمْ)، أي كي لا يكون هناك فارق طبقي فاحش أو إقطاع كما عليه البشرية اليوم، فالشيوعية فشلت في معالجة الإقطاع والرأسمالية كذلك، وتجارب بشرية كثيرة فشلت، ولا زالت الأطروحة الإسلاميّة خالدة، وهي التي تستطيع أن تؤهّل من يملأها قسطاً وعدل، وهو ولد من ذرّية الرسول ومن ذرّية فاطمة وعلي (عليهم السلام)، وهو المهدي (عليه السلام) يظهره الله ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً.
والآيات كثيرة في القرآن الكريم تدلّل على بقاء إمامة أهل البيت وحياة صاحب العترة الإمام في أهل البيت دائم، فمن يقول بعدم وجود إمام حيّ من العترة، وهو صاحب الأمر وإمام المسلمين تضاهي مقولته مقولة اليهود التي استعرضها لنا القرآن الكريم، بأنَّ الله تعالى طبع على قلوبهم بسبب قولهم: (إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ). وللأسف هناك الكثير من الكتابات الإسلاميّة تقول بأنَّ محمّد بن الحسن المهدي قد قُتل.
دور عيسى المسيح في الإصلاح العالمي:
ظاهرة النبيّ عيسى (عليه السلام) ظاهرة وطيدة الصلة جدَّاً وقريبة جدَّاً في بدئها وختمها بقضيّة الإمام المهدي (عليه السلام)؛ لأنَّه قد بات واضحاً لدى المسلمين ولدى حتَّى أتباع الديانات السماوية أنَّه (عليه السلام) ينزل لتكون له مساهمة ما ومشاركة ودور ما في تلك الدولة الإلهية التي ستقام على الأرض لإصلاحها، وقد بات واضحاً لدى المسلمين في أحاديثهم المتواترة أنَّ النبيّ عيسى (عليه السلام) إنَّما ينزل في ذلك الحين لإقامة الإصلاح في الأرض في دولة الإمام المهدي (عليه السلام)، تلك الدولة التي يصلّي فيها خلف الإمام المهدي (عليه السلام). فنزوله فصل من العقيدة بظهور الإمام المهدي، أي شقّان لعقيدةٍ واحدة، وحقيقة بيّنة ثابتة يعتقد بها المسلمون ويعتقد بشطر منها النصارى واليهود، وبالتالي فإنَّ استعراض هذه الظاهرة في القرآن الكريم ذو صلة وثيقة وأكيدة بظهور الإمام المهدي (عليه السلام) وبحياة الإمام المهدي في الغيبة؛ لأنَّه قرن اسم عيسى باسم المهدي في بيانات القرآن الكريم وبيانات بصائر الحديث النبوي المتواتر مستفيضاً عند فِرَق المسلمين. ومن ثَمَّ يسلّط القرآن الكريم الضوء على ظاهرة النبيّ عيسى ويبيّن أنَّ بني إسرائيل ورغم وجود براهين الوحي الإلهي لديهم بالبشارة بدور النبيّ عيسى، وأنَّه لن يُقتل حتَّى يشارك في ثلّة تُعيَّن من قبل السماء في الأرض بشكل معلن للإصلاح واستتباب وانتشار العدالة ودين الحقّ في أرجاء الأرض كافّة، رغم وجود هذه البراهين لديهم كيف يزعمون ويقولون بهذه المقالة بأنَّهم قد قتلوه، وأنَّه ليس بحيّ الآن، ولأجل ذلك طبع الله على قلوبهم.
(وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ) (النساء: 159)، هذه الآية تبيّن أنَّ النبيّ عيسى سوف يكون له نزول بعد ما رُفع إلى السماء، وأنَّه سيشارك في بسط ونشر الإيمان الحقّ في الأرض، فهناك اقتران وثيق ووطيد الصلة في نفس بيانات القرآن الكريم بين ما سبق في شأن نزول النبيّ عيسى وبين وعد الله تعالى في قوله: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة: 33)، أي إظهار دين الإسلام على أرجاء الأرض كافّة وملؤها قسطاً وعدل، وأنَّ المهدي من ذرّية فاطمة وذرّية الرسول وذرّية علي، هاتان الحقيقتان القرآنيتان هي حقيقة واحدة متطابقة.
إذن هنا ظاهرتان تبثّهما عدسة القرآن الكريم كبصائر للبشرية.
المحطّة الأولى: إنكار البراهين اليقينية يستلزم انتكاس القلوب:
وفي أوّل محطّة من ظاهرة النبيّ عيسى يؤكّد القرآن الكريم على أنَّ من قامت لديهم البراهين على حياة النبيّ عيسى وأنَّه حيّ وأنَّه سيبعث في دولة الإمام المهدي ليكون له دور في تلك الدولة وبإمامة الإمام المهدي وهو رجل من عترة النبيّ، فالقول إذن بعدم حياته وبأنَّه قد قتل وبأنَّ قوى الشرّ في ذلك الزمن قبل أكثر من عشرين قرناً قد استأصلته، هذه المقالة والتكذيب في الواقع تتسبَّب بأن يطبع الله على تلك القلوب ويسلبها الإيمان، هذا الدرس القرآني يعطينا هذه النتيجة: بأنَّ البشارة بالنبيّ عيسى قبل أن يولد وأنَّه سوف يأتي ليكون له دور، واليهود في الحقيقة وبنو إسرائيل لا زالوا حتَّى في العهد القديم يؤمنون بمجيء النبيّ عيسى، وإن كانوا يجحدون النبيّ عيسى الذي ولد من غير أب، ويتَّهمونه بالسحر، وأنَّ كلّ ما قام به من أمور هي من السحر، ويبهتون ويفترون على مريم بهتاناً عظيم، ولكن رغم ذلك وإلى جانب جحودهم وتكذيبهم بالنبيّ عيسى يقولون بمقالة عودته إلى الأرض لما ورد عندهم من البشارات بأنَّ النبيّ عيسى سوف يكون له دور مشاركة ومساهمة مهمّة، وفي أسفار العهد القديم، وهي التوراة رغم أنَّها حُرّفت، إلاَّ أنَّ فيها تلك المقطوعات التي تدلّل على دور النبيّ عيسى في الدولة الإلهية التي ستقام في الأرض، حينئذٍ يقول لهم القرآن الكريم: رغم إيمانكم بهذه البشارة وهذه البراهين التي أتتكم فلِمَ تجحدون حياة النبيّ عيسى إلى الآن!؟ هذه الوقفة القرآنية العظيمة في الواقع هي تنبيه للمسلمين على أنَّ الكتاب العزيز قد بشَّرهم بأنَّ الدين سوف يظهر على الأرض، وأنَّ رجلاً من العترة هو الذي يملأها قسطاً وعدلاً.
قد يقول القائل بأنَّ هذا جاء في الحديث النبوي! فنقول: نعم، وهو متواتر، بأنَّ المهدي من ولد وذرّية النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وذرّية فاطمة (عليها السلام)، يظهره الله ليملأ الأرض قسطاً وعدل، ويحقّق على يديه الإنجاز الإلهي العظيم من نشر الدين والعدل والقسط من أرجاء الأرض كافّة، وهي الدولة التي يقيمه، ولكن القرآن الكريم أيضاً يبشّرنا بهذه البشارة عن رجل من العترة أيضاً، حيث يقول في سورة (الحشر: 7): (ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى)، إذ أنَّ الفيء وثروات الأرض تكون صلاحية إدارتها وولاية تدبيرها في التشريع الإلهي بيد القربى وعترة النبيّ، وهم الذين يؤهّلون للتوزيع العادل للفيء وهو ثروات الأرض، في اليتامى والمساكين وابن السبيل، أي الطبقات المحرومة.
إذن البراهين القرآنية قائمة أيضاً على أنَّ المصلح هو من العترة، والذي يقيم العدالة في الأرض هو من العترة، وغيرها من الآيات القرآنية الدالّة على بقاء رجل من العترة في طيلة الأزمان، يقوم بأدوار الإمامة والخلافة والإصلاح في الأرض، فالتكذيب بحياته وببقائه هو تكذيب بالوعد الإلهي، وتكذيب بهذا الميثاق الإلهي والوعد الإلهي الذي أكَّده وضمَّنه الباري تعالى من الإصلاح.
إذن هناك حلقات عديدة تربط وتوثّق الصلة بين العقيدة بحياة النبيّ عيسى (عليه السلام)، وبنزوله للمشاركة والمساهمة في دولة الحقّ لإقامة وإرساء العدالة الإلهية وإظهار دين الحقّ على أرجاء الأرض كافّة. صلة وطيدة تبيّنها آيات القرآن الكريم فضلاً عن الأحاديث النبوية القطعية المتواترة بين فِرَق المسلمين على هذا الارتباط وهذا الاقتران. فالقرآن الكريم _ كما مرَّ بنا في سورة الحشر _ يؤكّد على أنَّ العدالة لم ولن تستتب في الأرض إلاَّ بيد ذوي القربى من أهل البيت (عليهم السلام)، فلينظر المسلم إلى قول النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): (لو لم يبقَ من الدنيا إلاَّ يوم لطوَّل الله ذلك اليوم حتَّى يبعث فيه رجلاً من ولدي يواطئ اسمه اسمي، يملأها قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلما)(1)، المهدي الذي أخبر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عنه في أحاديثه المتواترة عند المسلمين بأنَّه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً ويظهر الدين في أرجاء الأرض كافّة، ويحقّق إنجاز الوعد الإلهي للنبيّ في ثلاث سور من القرآن الكريم.
هذا النصّ النبوي المقطعي العقيدي عند المسلمين متطابق مع البشارة الإلهية في القرآن الكريم، بأنَّ العدل لا ينشر إلاَّ بيد ذوي قربى النبيّ، لماذا، وما الحكمة في ذلك؟ لكي يديرها ويوزّعها على اليتامى والمساكين وابن السبيل، أي الطبقات المحرومة؟ ويعلّل القرآن ذلك بقوله تعالى: (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَْغْنِياءِ مِنْكُمْ) (الحشر: 7)، أي أنتم أيّها البشر، أيّها المسلمون، إذا أردتم أن لا تحتكر الأموال في طبقات غنية، وأن لا يكون الفارق الطبقي بينها وبين الطبقات المحرومة فارقاً فاحشاً استئثارياً احتكاري، فلن تنجو البشرية من الإقطاعات ومن استئثار الأموال إلاَّ على يد إدارة وإمامة وحاكمية ودولة ذوي القربى، فإذا أوعزت وأسندت إدارة وتدبير أمور النظام البشري ونظام المعيشة الأرضية في العلن وعلى المكشوف إلى العترة وذوي القربى من أهل بيت النبيّ، حينئذٍ سوف لن تكون الأموال دولة بين الأغنياء، وحينئذٍ سوف تنقطع وتنبتر الرأسمالية، ويستأصل الإقطاع والاستئثار والاحتكار البشري، وهذه نبوءة قرآنية تدلّل على أنَّ الذي يدير دولة الإصلاح الإلهي في الأرض لاستتباب العدالة وبسط العدالة والقسط والعدل هو رجل من عترة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وليس النبيّ عيسى، وإنَّما النبيّ عيسى سوف يكون له دور مساهمة ومعين ومؤازر للمهدي (عليه السلام) فالبراهين القرآنية متطابقة على أنَّه سيكون لعيسى دور في نزوله، وإسهام ومؤازرة ومناصرة للدور الرئيسي والمركزي الذي يقوم به رجل من ذوي قربى النبيّ ليفشي العدل والقسط في الأرض وهو المهدي (عليه السلام)، لأنَّ الآيات القرآنية أيضاً دلَّت على أنَّ هناك بقاءً دائماً لخليفة الله في الأرض، وهو رجل من العترة، وهو الذي يبسط العدل والقسط في الأرض، وتكون الإمامة دائماً في ذرّية آل إبراهيم وآل إسماعيل، وبراهين وآيات قرآنية غفيرة دالّة على إمامة العترة وأنَّها باقية لا تنقطع، فالتكذيب بهذه البراهين القرآنية يُنذرنا عنه القرآن الكريم ويحذّرنا منه لكي لا نكون كاليهود وبني إسرائيل الذين طبع الله على قلوبهم وسلب الإيمان من قلوبهم بسبب مقالتهم وجحودهم للبشارة الإلهية، وذلك بأن أنكروا حياة عيسى، فإنكار حياة النبيّ عيسى يمثّل إنكار البشارة الإلهية، فهذا إنذار بمن اقترن اسمه باسم عيسى وهو المهدي (عليه السلام) الذي دلَّت البراهين القرآنية والإلهية على حياته وبقائه.
وما أجمل ما تفصّله وتبيّنه هذه الآية، وهو أنَّ هناك ثلاثة أنماط في المجتمع من لا يقوى بنفسه على تحصيل المعيشة والمكسب كاليتامى الصغار، والمساكين الذين هم من الطبقات المسحوقة، وأيضاً من أوتي القدرة على تحصيل المعيشة والمكسب ولكن طرأت عليه الطوارئ كسفر وإفلاس وغيره، فهذه نماذج مهمّة لطيفة تذكرها الآية، على أنَّها مصرف لتوزيع الثروة العادلة، والظريف في الآية الكريمة أنَّه مع كون القرآن الكريم يبشّر بنزول عيسى، إلاَّ أنَّه لا يسند التوزيع العادل للثروات للنبيّ عيسى، وإنَّما إلى رجل من عترة النبيّ، فالآية الكريمة في سورة الحشر كما مرَّ بنا تعطي البشارة للمسلمين بأنَّ العدالة لن تستتب على وجه الأرض بتوزيع الثروات بنحو عادل إلاَّ على يد رجل من عترة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): (ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ)، ولذلك يقول الإمام الصادق: إنَّ في آية الفيء والأنفال جذع الأنف، يعني أنَّها تطوّع الجاحدين والمنكرين لمقام أهل البيت (عليهم السلام) لكي يسلّموا بمفاد هذه الآية الكريمة، إذ إسناد هذا التصرّف لله يعني حاكمية الله عز وجل، ومن ثَمَّ حاكمية الرسول، وتصرّفه يكون امتداداً لحاكمية الله، وثمّ لذي قربى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) حاكمية، وهي امتداد لحاكمية الرسول ممَّا يدلّل على أنَّ الحقّ في تدبير الأمور في الأمّة الإسلاميّة هو لأهل البيت (عليهم السلام)، وليس ذلك عصبية قبلية يروّجها القرآن الكريم، وليس هي نظرية أو دعوة عرقية وقومية يدعو إليها القرآن الكريم، حاشا وكل، تعالى ربّ العزّة عن ذلك، بل يعلّلها أنَّه كي تصرف هذه الثروات في اليتامى والمساكين وابن السبيل، أي الطبقات المحرومة في الأرض، ولا تكون دولة بين الأغنياء، يعني أنَّ كلّ من يتنصَّب ويتولّى سدّة الحكم من غير عترة النبيّ المطهّرة سوف يكون معرضاًَ للأثرة والاستئثار والاحتكار والطبقية والتفرقة في العطاء، إلى أن ينقض المسلمون على خليفتهم ويقتلوه كما حدث في التاريخ مرَّات وكرّات.
فالقرآن الكريم كما يبشّر بنزول النبيّ عيسى ودوره في بثّ الإيمان وفي قمع الجحود والإنكار لرسالة سيّد الرسل الذي ابتلي به النصارى واليهود وبنو إسرائيل، يبشّر كذلك بأنَّه سيظهر هذا الدين على أرجاء الأرض كافّة، لكن القرآن أسند الإمامة والخلافة للمهدي دون النبيّ عيسى؛ لأنَّه لا نبيّ يأتي بشريعة جديدة بعد سيّد الرسل، فيكون النبيّ عيسى (عليه السلام) تابعاً لسيّد الأنبياء وتابعاً لأئمّة الدين في هذه الشريعة، وقد ذكر الكثير من الروايات في كتب الحديث عند فِرَق المسلمين أنَّ عيسى يصلّي خلف المهدي. ومنه ما رواه ابن حجر في الصواعق المحرقة، وابن الأبري المتوفّى في القرن الرابع، وأيضاً ابن قيم الجوزية، وأيضاً الشيخ ملاَّ علي القاري الهروي، والسيوطي، في كون عيسى يصلّي خلف المهدي، فهذه أمور كثيرة ذكرت في هذا المضمار.(2)
ومن ثَمَّ أكَّدت الروايات النبوية كما أكَّد القرآن الكريم أنَّ الخلافة والإمامة والقيادة تكون بيد الإمام المهدي، وهو الذي يملأها قسطاً وعدل، ويكون النبيّ عيسى مؤازراً ومناصراً ومعاضداً للإمام المهدي ضمن بقيّة أصحاب الإمام المهدي في نصرته، ويبثّ وينشر ويبسط راية العدل في أرجاء الأرض كافّة.
إذن أوّل محطّة يستعرضها لنا القرآن الكريم في ظاهرة النبيّ عيسى أنَّ الله عز وجل قد طبع على قلوب اليهود بكفرهم وببهتانهم لمريم وقولهم بأنَّهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم رسول الله، وأنَّ الله طبع عليهم بسبب هذه المقالة، وإصرارهم على جحود بقائه وعلى التمرّد، ولكن سياق الآية يدلُّ على أنَّ ذمّ القرآن لمقالتهم هذه ليس فقط من جهة التمرّد على الله عز وجل، بل لأجل أنَّ نفس الاعتقاد بهذه المقالة وهو كون النبيّ عيسى ليس على قيد الحياة يكون سبباً لسلب الإيمان من قلوب بني إسرائيل، ولطبع الله على قلوبهم بالكفر، ومن ثَمَّ فالقرآن الكريم يتابع هذه المقالة المنكرة في قوله تعالى: (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ) (النساء: 157)، بنفي وإنكار هذه المقالة، فيقول: (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) (النساء: 157)، ويصرّ القرآن الكريم على إبطال هذه المقالة، ليس فقط من جهة تمرّدهم على الله، بل من جهة أنَّ هذه المقالة زيف وباطل، أنظر كيف يكرّر القرآن الكريم جملة: (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ)، وجملة: (وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ)، وجملة ثالثة: (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ)، وجملة رابعة: (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ)، وجملة خامسة: (إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ)، وجملة سادسة: (وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً)، ستّ جمل يركّز ويؤكّد عليها القرآن الكريم، ويوثّق على زيف هذه المقالة، لا من جهة تمرّدهم فقط، كل، بل النقطة المركزية التي يشدّد ويؤكّد عليها القرآن الكريم بشكل أكثر هي زيف هذه المقالة، بأنَّ النبيّ عيسى ليس بحيّ، هذا التركيز من القرآن الكريم يهدف إلى أن يبصرنا وأن ينبّهنا وأن يوقظ اليهود ويوقظ النصارى ويوقظ البشرية كافّة إلى أنَّ إنكار حياة حجج الله الذين ادّخرهم الله عز وجل لوعده الإلهي بنشر العدل والقسط والعدالة والإيمان وإظهار الدين، وحياة وبقاء هؤلاء الحجج في ظلّ خفائهم واستتارهم، هذا الإنكار يؤدّي إلى سلب الإيمان ويطبع الله بسببه على القلوب.
وقد اتَّفقت اليهود والنصارى على دعوى وزعم قتل وصلب النبيّ عيسى، غاية الأمر أنَّ النصارى كانوا يعتقدون بنبوّته ويعتقدون بأنَّ اليهود قد قتلوه، لكن الله محييه مرَّة أخرى وسيعيد إنزاله إلى الأرض ليساهم في بسط دولة العدل، وأمَّا اليهود فهم على اعتقاد ببشارة مجيء النبيّ عيسى، ولكنَّهم يدَّعون أنَّ الذي قتلوه كان يزعم أنَّه النبيّ عيسى، واتّهموا نبيّ الله بتهم، منها أنَّه ساحر وابن ساحرة، ورموا مريم بالبهتان والفاحشة والعياذ بالله، فأيّاً ما كان فكلٌّ من اليهود على اختلاف معتقدهم في النبيّ عيسى ومن النصارى متَّفقون على أنَّه قد قتل، وأنَّه قد صلب ومات، إلاَّ أنَّ القرآن الكريم يؤكّد أنَّ هذه المزعمة باطلة، حيث في قوله تعالى: (وَمَكَرُوا) يعني بني إسرائيل واليهود، (وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ * إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) (آل عمران: 54 و55)، وقال تعالى: (وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً) (النساء: 155)، يعني طبع الله على قلوب بني إسرائيل، الجملة السابعة: (بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ)، والجملة الثامنة: (وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (النساء: 157 و158)، وهذه الجملة الثامنة في الواقع للتأكيد على عزّة وقدرة الله، فهناك ثمانية جمل في سورة النساء تؤكّد وتدحض مزعمة اليهود والنصارى، وبالذات مزعمة بني إسرائيل في عدم بقاء النبيّ عيسى (عليه السلام) على قيد الحياة، وكذلك في سورة آل عمران.
وهنا يطرح هذا السؤال الذي يطرحه الكثير من الناكرين والجاحدين لحياة وبقاء الإمام المهدي من عترة النبيّ المطهّر المدَّخر الذي يملأ الأرض قسطاً وعدل، الكثيرون يجحدون حياته وبقاءه، يقولون: ما فائدة إبقاء حياة إمام مدَّخر طول هذه المدّة لينشر ويبسط العدل في الأرض؟ وهذا السؤال يقال حتَّى عن هذه العقيدة، وهو السؤال المنكِر الجاحد لعقيدة حياة وبقاء الإمام المهدي الذي نبَّأنا القرآن الكريم في سورة الحشر وفي سور أخرى بأنَّه هو المصلح من عترة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنَّه رجل يبثّ الله على يديه العدل ويملأ الأرض على يديه قسطاً وعدلاً ويظهر الدين على أرجاء الأرض كافّة، هذا السؤال في الواقع يُثار أيضاً على هذه العقيدة القرآنية الأصيلة التي تدلّل على أنَّ النبيّ عيسى سينزل: (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) (النساء: 159)، ويبثّ الإيمان ويزيل ويبيد انحراف النصارى في إنكارهم وجحودهم لرسالة سيّد الرسل ولدين الإسلام، وجحود اليهود وإنكارهم بقاء هذا المصلح الإلهي المدَّخر من قبل الله.
هذه المحطّة وهذا الموقف العقائدي المهمّ هو في الواقع أوّل المواقف وأولى المحطّات المهمّة التي يركّز ويؤكّد عليه القرآن الكريم في ظاهرة النبيّ عيسى (عليه السلام) التي هي مقترنة بظاهرة الإمام المهدي؛ لأنَّ أتباع الديانات السماوية سواء اليهود أو النصارى أو المسلمين، يتطَّلعون إلى نزوله للمساهمة والمشاركة في دولة الإصلاح التي يقودها _ كما في عقيدة المسلمين _ الإمام المهدي (عليه السلام)، ويكون خليفة البشرية في الأرض، رغم وجود نبيّ من أولي العزم، لأنَّه لا نبيّ صاحب شريعة بعد سيّد الأنبياء، فيكون تابعاً لشريعة سيّد المرسلين وللإمام المنصوب في هذه الشريعة وهو الإمام المهدي (عليه السلام) الثاني عشر من خلفاء النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما اعترف بذلك (ابن كثير) في تفسيره في سورة المائدة في ذيل قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) (المائدة: 12).(3)
ومن الجدير بالذكر أنَّ القرآن الكريم حينما يذكر الخلافة الإلهية يكون العدد اثنا عشر فيها رمزاً مقدَّساً في السنن الإلهية، ويذكر (ابن كثير) في ذيل ذلك في تفسيره الأحاديث المعتبرة التي رواها المسلمون رغم اختلاف فِرَقهم أنَّ خلفاء النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) اثنا عشر، فالقرآن الكريم إذن يؤكّد على هذه الحقيقة المهمّة التي يجب أن يتَّعظ بها المسلمون والمؤمنون من أنَّ المدَّخرين للإصلاح الإلهي والمُعدّين من قبل الله تعالى لإرساء العدالة في الأرض كالنبيّ عيسى، وكالمهدي الذي هو رجل من عترة النبيّ، ومن ثَمَّ أكَّد القرآن الكريم على مرتبة القلب لا مرتبة اللسان، فهم وإن كانوا أهل الكتاب، وإن كان المسلم في ظاهر الإسلام من أتباع الديانة الإسلاميّة ولا ينفي عنه هذا الانتماء ولا يسلب القرآن الكريم عنه هذا الانتماء، ولكن يسلب عنه الإيمان، والكفر في مقابل الإيمان؛ لأنَّ الكفر يطلق في القرآن الكريم على معاني عديدة، فهناك كفر مقابل ظاهر الإسلام، وفي مقابل ظاهر أتباع الكتاب، وهناك كفر مقابل الإيمان: (قالَتِ الأَْعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِْيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (الحجرات: 14)، ففرَّق القرآن الكريم بين الإيمان والإسلام، فظاهر الإسلام بالإقرار بالشهادتين، ولكن الإيمان يحتاج إلى الاعتقاد بأصول متعدّدة، فظاهر الإسلام هو بالإقرار بالشهادتين ليدخل الفرد في حظيرة وبيئة الإسلام، ولكن إذا أراد أن يدخل في حظيرة وبيئة الإيمان التي هي أرفع درجة فلا بدَّ أن يقرّ بأصول الإيمان، وهناك يؤكّد القرآن الكريم أنَّ الاعتقاد ببقاء حياة المصلح الإلهي المدَّخر من قبل الله تعالى لبثّ الإصلاح في الأرض هو من أصول الإيمان، وإن لم يكن من أصول ظاهر الإسلام أو من أصول ظاهر اتّباع الكتاب في أهل الكتاب.
وهذه المحطّة الأولى التي نشاهدها في ظاهرة النبيّ عيسى وغيبته مهمّة جدَّاً. والذي نستوحيه من إفادات القرآن العظيم وبياناته البيّنة أنَّه يجب الاعتقاد بعد قيام الدليل والبراهين القرآنية على ادّخار مصلحين إلهيين وحجج إلهيين ادَّخرهم الله ليقيم بهم دولة العدل ودولة الإصلاح، ويجب الاعتقاد ببقاء حياتهم في ظلّ غيبتهم وظلّ خفائهم، فهذه عبرة مهمّة نستفيدها من ظاهرة الاعتقاد بالنبيّ عيسى التي يأمرنا القرآن الكريم بالإيمان به، وأن لا نحذوا حذو اليهود والنصارى في إنكار وجحد بقاء حياة النبيّ عيسى رغم خفائه ورغم غيبته ورغم عدم وصول عقولنا لفوائد وثمار هذا الخفاء وهذه الغيبة، وهذا الإعداد الإلهي العظيم لساعة الظهور ولساعة الإصلاح رغم عدم وصول عقولنا لذلك رغم كلّ ذلك إلاَّ أنَّه يجب أن نعتقد _ لكي نكون مؤمنين _ ببقاء حياة هذا المصلح عند الله عز وجل في السماء للإعداد للإصلاح، فهذه نقطة مهمّة.
المحطّة الثانية: مفارقات في الغيبة:
ومع أنَّ كلا الغيبتين غيبة خفاء وليست غيبة زوال وجود، إلاَّ أنَّ هناك مفارقة واضحة بين غيبة النبيّ عيسى وغيبة الإمام المهدي (عليه السلام)، حيث إنَّ غيبة النبيّ عيسى كما يصرّح القرآن الكريم هي الرفع، كما قال تعالى: (يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) (آل عمران: 55)، والمقصود بذلك أنَّ النبيّ عيسى لا زال على قيد الحياة ولكنَّه في السماء عند الله عز وجل، إلاَّ أنَّ غيبة الإمام المهدي ليست في السماء، وليست خفاءاً واستتاراً في السماء، وإنَّما هي استتار في الأرض، وليس استتاراً في بقعة خاصّة عن بقيّة البقاع، وإنَّما المراد منها خفاء هويّته، خفاء الشعور به، فهي ليست غيبة نأي ولا ابتعاد ولا مزايلة عن ساحة الحدث، بخلاف غيبة النبيّ عيسى، فهي استتار في السماء.
وهذا فارق آخر بين غيبة النبيّ عيسى وغيبة الإمام المهدي (عليه السلام)، وهو أنَّ الإمام المهدي في ظلّ غيبته هو الإمام الذي يضطلع ويقوم بأدوار ومسؤولية الإمامة والخلافة في الأرض عبر ما حدَّثنا القرآن الكريم من نماذج كما في غيبة النبيّ يوسف والنبيّ موسى والخضر (عليهم السلام)، فهناك أجهزة متعدّدة يقوم بها الإمام المهدي في أدواره في النظام البشري وفي الأدوار السياسية للنظام البشري بنحو خفي، والدوائر التي تحيط به من أولياء الله ورجال الغيب، أي رجال الخفاء والسرّية من أولياء الله وأصفيائه، كالخضر ومجموعته ومجاميع أخرى من الدوائر والأبدال والسيّاح والأركان والأوتاد وما شابه ذلك، هؤلاء في الواقع يقومون بأدوار متعدّدة. ورغم هذا التخفيف في غيبة الإمام المهدي والشدّة في الطرف الآخر في غيبة النبيّ عيسى (عليه السلام)، مع ذلك يطالبنا القرآن بأن نعتقد ونؤمن بحياة وبحجّية النبيّ عيسى وبنبوّته وبدوره المساهم في دولة الإصلاح، دولة الإمام المهدي، هذه الحجّية لم يأتِ آتٍ من المسلمين وينكرها ويقول: كيف أعتقد بحجّية النبيّ عيسى وهو في السماء ولا يمارس دوراً؟ وهو إذن مبتعد عنّا! رغم كلّ ذلك نشاهد الاعتقاد ببقاء حياة وحجّية النبيّ عيسى وبالإيمان بأنَّه سينزله الله ليبسط العدل ويُعين الإمام المهدي في نشر الدين ومؤازرته على بسط القسط والعدل.
وهناك مفارقة ثالثة بين غيبة النبيّ عيسى وغيبة الإمام المهدي، ففي ظلّ غيبة النبيّ عيسى في السماء ربَّما يعسر تصوّر ممارسته لدور في النظام البشري طيلة حقبة غيبته وهي أطول من غيبة الإمام المهدي، فقد تمادت وتطاولت غيبة النبيّ عيسى (عليه السلام) وإعداد الله وادّخار الله له لينزل ويظهر في دولة الإمام المهدي، فهناك نوع من المفارقة الموجودة في المدّة الزمانية، وهذه مفارقة ثالثة وهي طول مدّة غيبة النبيّ عيسى وقصر مدّة غيبة الإمام المهدي بالقياس لها.
وقد أثبت القرآن الكريم أنَّ للحجّية معنى يتلاءم ولا يتنافى مع الغيبة.
هذه محطّة ثانية مهمّة استفدناها من ظاهرة النبيّ عيسى المقرون اسمه باسم الإمام المهدي غيبةً وظهوراً ونزولاً وإصلاحاً.
المحطّة الثالثة: الحراسة الإلهية لوليّ الله:
المحطّة الثالثة التي يستعرضها لنا القرآن الكريم أيضاً في ظاهرة النبيّ عيسى وهي محطّة خلاّبة وأخّاذة في نور البصائر القرآنية الاعتقادية، وهي قوله تعالى: (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) (النساء: 157)، يريد القرآن الكريم إثبات أنَّ في قدرة الله وعزّة الباري تعالى أن يحفظ أولياءه، وأن يحفظ حجّته رغم محاولة إقدام سلطات الوقت على تصفيته جسدي، فقد كان الملك الطاغية في بني إسرائيل يلاحق عيسى للإعدام والاستئصال بتحريك من بني إسرائيل ومن اليهود في عداوتهم له، كما يحدّثنا القرآن الكريم إخباراً من الله للنبيّ عيسى: (وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ) (المائدة: 110)، فأبدوا له العداوة ومحاولة التصفية والإبادة كما يقول القرآن أيضاً: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ * إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ)، طبعاً هذا التوفّي ليس بمعنى الإماتة، وسنأتي إلى شرح معناه: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) (آل عمران: 54 و55)، فيبيّن لنا القرآن الكريم أنَّ ما حاول بنو إسرائيل واليهود ارتكابه من قتل وصلب النبيّ عيسى، هو جحود لوجود الحراسة والضمانة الإلهية، وهذا درس مهمّ. وهذا بنفسه جرى في ظاهرة الإمام المهدي، وهي ظاهرة عامّة أنَّ سلطات الشرّ وأنظمة الشرّ وحكومة الظلم عندما تتوجَّس خيفة من مصلح، وسيّما أنَّ النبيّ عيسى عندهم مبشّر وأنَّه يساهم في إقامة دولة الإصلاح، ولذلك فإنَّ ملوك الشرّ وملوك الظلم وملوك الاستبداد يتوجَّسون خيفة من ظهور هذا المصلح، ولذلك تنبري قوّة الشرّ لتصفية النبيّ عيسى وقتله، كما هو الحال في العبّاسيين، حيث سجنوا الإمام الهادي جدّ الإمام المهدي وسجنوا والد الإمام المهدي وهاجموا بيت الإمام الحسن العسكري مرَّات وكرّات ليقتلوه.
فالقرآن الكريم يحدّثنا عن محطّات عديدة فيها كبس الظالمون على أولياء الله وحججه الذين بُشّروا بأن يكونوا مصلحين. فكم من درس قرآني يُتّعظ به تجاه أولياء الله، فهذا درس ثالث ومحطّة ثالثة.
ويحدّثنا التاريخ أنَّ الإمام الحسن العسكري كان يقطن بيته المحاصر في سُرَّ من رأى التي كانت قاعدة عسكرية خمسة فقهاء من فقهاء البلاط العبّاسي من وعّاظ السلاطين ليراقبوا الإمام الحسن العسكري. هكذا كانت الرقابة شديدة جداًّ، وكانت نسوة وجواري وبعض إماء الإمام الحسن العسكري يراقب حملهنَّ، كما فعل فرعون مع نسوة بني إسرائيل كي يقتل كلّ ولد ذكر يولد في عصره، ومع ذلك حقَّق الله عز وجل الإنجاز بوعده لتولّد النبيّ موسى وظهوره وإصلاحه وغيبته ثمّ ظهوره ثمّ دكدكته وإطاحته بعروش الفراعنة وهي أكبر عروش ظالمة آنذاك في الحقبة البشرية.
ولا يخفى أنَّ هناك من يروقه المسلك العلماني لإنكار الأحاديث النبويّة والتمرّد على دلالات القرآن الكريم في حقائق الوعد الإلهي، وهذا أمر آخر، ولكن الظالمين والأنظمة والعروش تتحسَّب كامل التحسّب؛ لأنَّ هذا أمر يمسّ عروشه، فكان لدى العبّاسيين توجّس وخيفة شاملة، ولذلك كان عندهم تعبئة مهمّة للحيلولة دون تولّد الإمام المهدي، أو إذا تولّد يكبسونه بالتصفية والإبادة، كما فعل بنو إسرائيل بالنبيّ عيسى المبشّر بالإصلاح، والإنجيل في اللغة العبرية يعني البشارة الملكوتية.
الهوامش:
(1) رواه العامّة والخاصّة على اختلاف في اللفظ واتّحاد في المعنى، راجع: كمال الدين: 318/ باب 31 / ح 4؛ روضة الواعظين: 261؛ سنن أبي داود 2: 31؛ سنن الترمذي 3: 343.
(2) للاستزادة راجع كتاب شرح إحقاق الحقّ 13: 195، و29: 302، وفيه سرد لعلماء ومحدّثي القوم ممَّن روى ذلك وأقرَّ به، مع ذكر أسماء تصانيفهم وطبعاتها وأرقام الصفحات.
(3) قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً)، وبعد أن أورد حديث: (الخلفاء الاثني عشر)، وأقرَّ بأنَّه الثاني عشر: (والظاهر أنَّ منهم المهدي المبشَّر به في الأحاديث الواردة بذكره فذكر أنَّه يواطئ اسمه اسم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)). أنظر: (تفسير ابن كثير 2: 34).
******************
المحطّة الرابعة: التأكيد على بقاء عيسى (عليه السلام) حيّاً:
المحطّة الرابعة التي تطالعنا فيها الآيات من ظاهرة النبيّ عيسى هي: (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ)، إذن لا زال باقياً على قيد الحياة، (وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) (النساء: 157)، هذه ملحمة قرآنية مهمّة احتدمت فيها آراء المفسّرين وأقوالهم في قوله تعالى: (شُبِّهَ لَهُمْ)؟ وكيف يحصل التشبيه؟
إجمال ما يستعرضه لنا القرآن الكريم وما استعرضته الروايات لا سيّما روايات أهل البيت (عليهم السلام) والتي أخذ وانتهل منها بقيّة المفسّرين من الفِرَق الإسلاميّة كما يحدّثنا الإمام الباقر (عليه السلام): أنَّ الجلاوزة حاصروا عيسى وكان مع حواريّيه الاثني عشر في بستان وفي دار، وكان بإيعاز من بني إسرائيل واليهود، وتقلقل الملك الذي كان مستبدّاً وغاشماً من بشارة كون النبيّ عيسى مصلحاً وأنَّه سوف يكون هو مبشّراً بالإصلاح وإقامة دولة الإصلاح والمساهمة فيه، وما بثّه عنه اليهود، فحوصر النبيّ عيسى، وكان قد أخبره الله عز وجل بهذا الأمر وبكيد الكائدين، كما تحدّثنا بذلك سورة آل عمران: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ * إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) (آل عمران: 54 و55)، والتوفّي ليس الإماتة كما سنذكر وذكرته روايات أهل البيت (عليهم السلام) في تفسير بيان ظاهر هذه الآية، حينها أخبر النبيّ عيسى حوارييه بما سيجري وأنَّ الله رافعه، فمن منهم يضحّي ويفدي نفسه بأن يلقى عليه شبه عيسى ويقتل ويصلب ولكي يكون في درجة النبيّ عيسى في الآخرة؟ فبادر أحدهم إلى ذلك، وقال له النبيّ عيسى: كن أنت ذلك، أي الذي يضحّي ويفدي نفسه ويلقى عليه شبه النبيّ عيسى ليحسبه اليهود هو، فحينئذٍ أتى جلاوزة ذلك النظام ودهموا تلك الدار لقتل النبيّ عيسى، إلاَّ أنَّ النبيّ عيسى رفعه جبرئيل من روزنة الدار إلى السماء.(1)
وفي روايات أهل البيت أنَّ وفاة النبيّ عيسى ليس بمعنى الإماتة، وإنَّما قُبضت روحه في أثناء عملية الرفع، ثمّ أعيدت له في السماء، كما يتوفّى الله الأنفس في المنام، فهي شبه الحالة المنامية، كما تحدّثنا الآية الكريمة: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَْنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) (الزمر: 42).
فاستعمل القرآن الكريم التوفّي في المنام، كما استعمله في حالة نزع الروح، فكلّ منهما يعبّر عنه القرآن الكريم بـ (التوفّي)؛ لأنَّه يتمّ نوع ودرجة من نزع الروح، وهنا التعبير بالتوفّي (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) ليس معنى وفاة الموت، وإنَّما هو وفاة شبه الحالة المنامية أو غيره، ولمَّا رفع إلى السماء، أعيدت إليه الروح كما يستيقظ النائم مثل، وهو حيّ باقٍ في سماء ربّ العالمين، إلى أن ينزله الله لإصلاح الأرض، كما تحدّثنا بذلك سورة النساء.
كما دهمت جلاوزة بني العبّاس عدّة مرَّات بيت الإمام العسكري لكبس وقتل الإمام المهدي، وأحد المرَّات التي دهموا فيها بيت الإمام الحسن العسكري الذي كان مشتملاً على طابق سفلي تحت سطح الأرض كما هو متَّخذ في جملة من البلدان في العراق وإيران لأجل التبريد من حرارة الشمس ومتّصل ببقيّة طبقات المبنى والذي يدعى الآن بـ (سرداب الغيبة)، والمراد منه أنَّه كان (عليه السلام) موجوداً في ذلك البيت، وقام جلاوزة بني العبّاس بكبس ومداهمة البيت، إلاَّ أنَّ الله أعماهم كما أعمى قريشاً عندما دهمت بيت النبيّ ليلة مبيت علي في فراش النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهم قد دهموا بيت النبيّ، إلاَّ أنَّه خرج من بين أيديهم فعمى الله أبصارهم، هكذا حصل، وعندنا في روايات أهل البيت مداهمة جلاوزة بني العبّاس لبيت الإمام الحسن العسكري المشتمل على الطابق الذي يُدعى بالسرداب، إلاَّ أنَّ الله غيّب شعورهم بالإمام المهدي، فسمّي هذا السرداب بـ (سرداب الغيبة)، وليس معنى سرداب الغيبة اختفاء الإمام المهدي فيه، وإنَّما إخفاء وخفاء الشعور به، كما أخفى الله شعور قريش الحاقدة المعاندة للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، عندما خرج من بين أيديهم في ليلة المبيت، ثمّ هاجر وغاب في غار الثور ثلاثة أيّام ثمّ هاجر إلى المدينة المنوَّرة، هكذا صنع الله، وهكذا يخبرنا القرآن الكريم بأنَّ ذلك ليس عزيزاً على قدرة الله، حيث إنَّ النبيّ عيسى عندما دهمه وكبسه جلاوزة الملك الظالم في ذلك الحين لتصفيته وإبادته حال الله دون أن يصلوا إلى ذلك، ورفعه إليه وحرسه عن أن يصل إليه مكر الماكرين وكيد الكائدين، وصنع الباري تعالى في ذلك أن ألقى شبه عيسى على أحد حوارييه الذي كان مفدّياً نفسه، كما فدّى عليٌّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بنفسه ليلة المبيت، فألقى الله شبه عيسى على ذلك الحواري، فأخذه جلاوزة النظام ظنّاً منهم بأنَّه عيسى، فقتلوه وصلبوه، وهنا تتبيَّن القدرة الإلهية، فهذه محطّة مهمّة جدَّاً مرتبطة بغيبة النبيّ عيسى.
وهي قدرة الله تعالى في تغييب وإخفاء الحجج والأولياء بأن يعطّل الباري تعالى قدرات البشر في الإحساس والشعور والإدراك عن درك الحقيقة، هذا هو الذي تحدّثنا به هذه الآية: (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) (النساء: 157)، فهل هذه خرافة والعياذ بالله! هل هذا خيال داعب خيال البشر!؟ حاشا للقرآن عن ذلك، إذن ما هو الواقع؟
الواقع أنَّ هناك سُنّة إلهية وقدرة إلهية تفوق قدرة البشر رغم ما أوتوا من قدرة، قدرة الله عز وجل على سلب البشر إدراكهم، وهو الإدراك بالحسّ، حيث يستطيع الله عز وجل أن يعطّله وأن يغيّبه عن الفاعلية والنشاط.
فماذا ينكر هؤلاء المنكرون والجاحدون لوجود الإمام المهدي (عليه السلام) وبقاء حياته، ووجود مثل الخضر ومجموعته التي يحدّثنا القرآن الكريم عنها؟! ماذا ينكرون في قدرة الله؟ وماذا ينكرون في سُنّة الله؟ فهذه سُنّة إلهية يخبرنا وينبئنا بها القرآن الكريم، أنَّ في قدرة الله حفظ وحراسة أوليائه، وتعطيل وإعجاز إدراك البشر وقدرتهم على الإحساس، وهذا ليس هو الموضوع الوحيد الذي يحدّثنا به القرآن الكريم، وهذه محطّة رابعة وملحمة ذات إثارات عقائدية عديدة، فلينظر القرّاء الأعزّاء التفاسير في ذيل سورة النساء الآية مائة وسبعة وخمسون(2)، وفي سورة آل عمران الآية خمسة وخمسون(3)، هذا التشبيه من الله عز وجل على بني إسرائيل وعلى الظالمين هو حيلولة منه تعالى عن أن ينالوا وليّ الله وحجّته، يُري الله المسلمين أنَّ الكافرين قِلَّة، فقد كانوا يناهزون الألف، ولكن قدَّر الله أن يُري المسلمين الكافرين قليل، وأن يقلّل الكافرين في عيون المسلمين: (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ)، أيضاً قلَّل الباري تعالى المسلمين في عين الكافرين، لماذا؟ وما الحكمة في ذلك؟ الجواب: (لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُْمُورُ) (الأنفال: 44).
هل يدعو القرآن للسفسطة؟
هل يدعو القرآن الكريم للتشكيك في الحسّ والسوق إلى السفسطة؟
وهل يشكّك القرآن الكريم في الأخبار الحسّية والخبر الحسّي؟
وهل يسقط القرآن الكريم حجّية الخبر المتواتر، وهذا ينجم عنه الطعن في مصادر نقل الشريعة للبشرية؟
في هذا البحث من الظواهر القرآنية والعقيدة بالإمام المهدي وغيبته، ونحن لا زلنا في الظاهرة السادسة وهي ظاهرة النبيّ عيسى (عليه السلام)، هنا يؤكّد القرآن الكريم أنَّ يد اليهود ويد الظالمين انحسرت عن أن تصل بسوء أو بإيذاء إلى النبيّ عيسى وهو النبيّ المدَّخر في الوعد الإلهي والبشارة الإلهية عند اليهود وعند النصارى، وكذلك عند المسلمين، ويؤكّد لنا القرآن الكريم أنَّ أحد نماذج القدرة الإلهية والعزّة الإلهية المنيعة هو أن تُزوي الإدراك الحسّي البشري عن أن يكون فاعلاً، أو أن يكون نشيطاً مع المحيط الخارجي الذي يعيش فيه، هذا الإدراك الحسّي المتمثّل بالحواس الخمسة قد يُعطَّل في قدرة الله، أو يُزوى عن أن ينفذ الظالمون وقوى الشرّ مكرهم للحيلولة دون بلوغ التدبير الإلهي للغايات، (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) (آل عمران: 54)، لأنَّ هذه القدرات من الله عز وجل ينعم بها على عباده، ويزوّد بها عباده، فإذا حجب هذه النعم فإنَّها تتعطَّل.
ففي عزّة الله وقدرته أن يحفظ أولياءه، ويُعجِز قدرة البشر عن أن تصل إلى أوليائه بسوء، حينئذٍ تُطرح هذه الأسئلة: أنَّه إذا كان زعم النصارى واليهود أنَّ عندهم خبراً حسّياً متواتراً بقتل اليهود للنبيّ عيسى (عليه السلام)، وصلبه فكيف إذن يخطَّأ ويفنَّد هذا الخبر المتواتر؟ وإذا فنّدت الأخبار المتواترة والحسّ، فهل هذه سفسطة؟ وبالتالي يكون طعناً فيما ينقل من تراث الشرائع السماوية إلى الأجيال اللاحقة، فهل القرآن يدعو إلى كلّ ذلك؟ حاشا للقرآن عن ذلك، فإذن ما مغزى طعن القرآن الكريم فيما يدَّعيه اليهود والنصارى من إدراكهم الحسّي لقتل وصلب النبيّ عيسى: (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) (النساء: 157)؟
والجواب أنَّ هناك حقائق في فعل الله بأن يزوي الحسّ عن أن يبصر كلّ شيء، وعن أن يدرك؛ لأنَّ قدرة الإحساس هي في سبيل إفاضة إنعام من الله على البشر، فإذا قطع الله سببه فإنَّ السبيل ينضب، لا أنَّه يشكل لهم شيئاً آخر، كتخييل السحر والتلاعب في الخيال لحجب الواقع عن حقيقة البصر، كلاَّ فليس الحال كذلك في قدرة الله، وإنَّما في قدرة الله ينضبها ويعجزها ويفترها ويحجب عن إعماله، فهل هذا حينئذٍ دعوى من القرآن إلى التشكيك بالحسّ أو السفسطة؟ كل، وإلى ماذا يريد أن يشير لنا القرآن الكريم؟
في الحقيقة هذه الأسئلة المحتدمة ذكرها المفسّرون في هذه الآية: (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُْمُورُ) (الأنفال: 44)، وحتَّى أصحاب السير حول حجب الله أبصار قريش والقبائل العربية عن أن تنال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بسوء يوم خرج للهجرة، حيث كانوا متواطئين ومتآمرين ليقتلوا النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أو يحبسوه ويسيطروا عليه، فالسُنّة الإلهية هنا تريد أن تعطي للمؤمن وللمسلم مغزى ودرساً تبرزه لن، ويريد القرآن الكريم أن يقول: إنَّ عقائد الشريعة وأصول الإيمان بالشريعة ليست كلّها بمقتضى الحسّ، أو أن تحبس في هذا المنبع الضيّق فقط، نعم الحسّ يعوَّل عليه وهو منبع ومصدر، ولكنَّه ليس كلّ شيء، وبعبارة أخرى يريد القرآن الكريم أن يفنّد أصالة الحسّ، لأنَّ القائلين بأصالة الحسّ يذهبون إلى أنَّ ما أوصلنا إليه الحسّ نؤمن به، وما غاب عن الحسّ لا نؤمن به، وهذا يؤدّي إلى الكفر، مع أنَّ الغيب ليس من الضروري أن يكون في عوالم أخرى غير عالم الدنيا وعالم الأرض، فكلَّما يغيب عن حسّ الإنسان يكون غيب، وكلَّما يغيب عن حسّ البشر وإن كان موجوداً في كينونة الأرض يكون غيباً بالنسبة إليه، فإذا عوَّل البشر في مصادر المعارف الدينية على حكر وحصر المصادر في الحسّ فهنا تكون الطامة الكبرى وهنا تكون الرزيّة كلّ الرزيّة وهنا الداهية الدهياء.
والقرآن الكريم في هذه الحقيقة الثانية يريد أن يسلّط الضوء ويدقّ الجرس للتنبيه والإنذار للمؤمنين والمسلمين واليهود والنصارى ولكلّ أتباع الديانات السماوية، أنَّ الحسّ ليس هو الأمر والمصدر الأوّل والأخير والوحيد للمعرفة، فإنَّ ذلك يسبّب أزمة في المعرفة الدينية وغيرها. نعم هنا حيث يؤكّد القرآن الكريم تخطئة اليهود والنصارى فيما ادّعوه من الخبر المتواتر الحسّي من قتل النبيّ عيسى وصلبه، وطبعاً اختلف بعد ذلك اليهود والنصارى في أنَّ النبيّ عيسى أحيي بعد ذلك وهو على قيد الحياة كما يذهب إلى ذلك النصارى، أو كما يذهب إلى غير ذلك اليهود، حيث يقولون: إنَّ الذي زعم أنَّ هذا هو النبيّ عيسى فإنَّه قد مات، وأمَّا النبيّ عيسى الموعود بالبشارة الإلهية الذي يساهم في دولة الإصلاح في آخر الزمان فإنَّه سينزل ويبعث بعد ذلك، فهم يتَّفقون في بعض النقاط ويختلفون في جملة منه، يتَّفقون في أنَّ النبيّ عيسى سيظهر في آخر الزمان وينزله الله عز وجل للمساهمة في دولة الإصلاح الإلهي الشامل، ويتَّفقون أيضاً في أنَّ الذي أنبأ الناس بنبوّته هو عيسى بن مريم وقد قتل وصلب، نعم يختلفون بأنَّ الذي قُتل وصُلب هل هو النبيّ عيسى حقيقة كما تؤمن بذلك النصارى وتكفر بذلك اليهود، وأنَّ هذا الذي قُتل وصُلب هو باقٍ على قيد الحياة، فهذه موارد ونقاط اختلاف بينهم كما أنَّ هناك موارد ونقاط وفاق أيضاً. على أيّ تقدير فالقرآن يخطّئهم فيما زعموه من الخبر المتواتر والخبر الحسّي بأنَّ النبيّ عيسى قتل أو صلب: (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ)، ألقى شبهه على أحد حوارييه فظنّوا أنَّه عيسى، (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ) (النساء: 157 و158).
هنا يأتي هذا السؤال: هل أنَّ القرآن يطعن في الحسّ بكونه مصدراً من مصادر المعرفة، ومصدراً من مصادر نقل الشريعة إلى الأجيال الأخرى؟
كل، فالقرآن الكريم ليس في صدد الطعن في الحسّ، بل في صدد الطعن في مذهب أصالة الحسّ، يعني المذهب الذي يقول بأنَّ ما يؤدّي إليه حسّنا فهو حقّ، وما لا يؤدّي إليه حسّنا فهو باطل، هذا المذهب الحسّي يقف القرآن الكريم في صدد إبطاله وتخطئته، أي إنَّ الحسّ ليس هو المصدر الأوّل والآخِر في المعرفة الإيمانية الدينية. والحقيقة الثانية أيضاً التي يؤكّدها ويشيّدها القرآن الكريم من خلال هذه الملحمة أنَّ هناك حججاً وبراهين تعلو حجّية الحسّ، فليس للحسّ المرتبة الأولى وأنَّ ما يكون من حجج أخرى هي في المراتب الدني، بل هناك جملة من الحجج والبراهين تفوق وتعلو الحسّ، فإذا أدَّت تلك الحجج إلى غير ما يؤدّي إليها الحسّ، فيجب أن يؤمن الفرد البشري مؤمناً كان أو مسلماً بما تؤدّي إليه تلك الحجج، لا أنَّه يُنكر ويجحد ما تقوم به البراهين ذات الحجج الأعلى والمراتب الأعلى، كأن ينكرها لأجل نوع من المشاغبة الحسّية لتلك الحجج مثلاً، ولو نظر الإنسان وبصر إلى طرفي شارع ممتد طولاً إلى الأفق يرى الواقف في الحقيقة أن طرفي الشارع وجنبتيه في نهاية امتداده في الأفق قد التقتا وكأنَّما أصبح كالمثلث، ولكن هل العقل يصدّق هذه الصورة البصرية التي يلتقطها الحسّ؟ بالتأكيد لا يمكن أن يصدّقها العقل؛ وذلك لأنَّ البرهان قد قام لدى العقل على خلاف ما يتراءى في الحسّ، فهذا لا يعني أنَّ الحسّ لا يعوَّل عليه، لكن إذا قام البرهان الذي يفوق حجّية الحسّ فإنَّه يعوّل على ذلك البرهان، فالتعويل على الحسّ محدود لا مطلق ولا منحصر فيه.
مثال آخر نضربه في الحسّ: أنَّه لو مسك شخص شعلة من النار وأدار تلك الشعلة بقوّة، فماذا سيبصر الإنسان الناظر لذلك المحرّك والحامل للشعلة، سيرى أنَّ الشعلة من بعيد كحلقة نارية، لكن هل العقل يصدّق أنَّ هناك حلقة نارية؟ كل، لا يصدّقها العقل؛ لأنَّه يعلم بأنَّ هذه الشعلة هي واحدة كنقطة، لكن بسرعة دورانها تكون في خلايا شبكية العين والبصر بنحو تعاقبي صوراً متعدّدة للنار فتلتئم فيتراءى في خداع البصر لدى الإنسان أنَّ هناك حلقة نارية. هذه ليست تشكيكات في الحسّ تؤدّي إلى السفسطة، كلاَّ، فهذه الأمور ليست ظواهر ولا شواهد للطعن في الحسّ مطلق، ولا إسقاط الحسّ عن المعرفة ومصدر المعرفة من رأس بالمرَّة، كلاَّ وليس الحال كذلك كما يقول السفسطائيون، وإنَّما هذه الظواهر وهذه البيانات من القرآن الكريم ومن تجربة عقل البشر تبيّن وتبرز أنَّ الحسّ ليس المصدر الوحيد للمعرفة، بل المعرفة البشرية في الحقيقة لها مصادر ومنابع متعدّدة أخرى، هذه حقيقة.
وحقيقة ثانية هي أنَّ تلك المصادر للمعرفة قد تعلو الحسّ رتبةً، ولا توافق حجّية الحسّ عندما تتصادم مؤدّيات ونتائج تلك الحجج مع الحسّ فيعوَّل عليها دون الحسّ، وهذا درس عقائدي معرفي عظيم يكشفه القرآن الكريم في ظاهرة النبيّ عيسى وغيبته، وهو أنَّه قد وصلكم من سيّد الأنبياء وسيّد الأنام أنَّ خلفاءه اثنا عشر، وأنَّ الأرض لا تخلو من حجّة، وأنَّ الله عز وجل أخبركم أنَّه جاعل في الأرض خليفة.
هناك بيّنات وبراهين عديدة لدى اليهود والنصارى من التوراة ومن قول وإنباءات النبيّ موسى على أنَّ النبيّ عيسى هو الذي سيساهم في دولة الإصلاح الشامل ومؤازرة الإمام المهدي، وإنَّما يزعم اليهود أنَّ عيسى بن مريم كان يدَّعي ذلك المقام وأنَّه ليس هو النبيّ عيسى، فمن ثَمَّ برَّروا لأنفسهم الإقدام على قتله وصلبه واتّهموه بأنَّه ساحر كذّاب _ والعياذ بالله _ هكذا قذفوا النبيّ عيسى، وإلاَّ فهم متَّفقون مع النصارى بأنَّ الله سيظهره، فقد كان كل من اليهود والنصارى على إيمان بهذا الوعد الإلهي الذي قد تلقّوه على لسان النبيّ موسى، وأيضاً على لسان النبيّ عيسى بالنسبة للنصارى حيث يعتقدون بنبوّته، وكانوا هم على بيّنة ويقين من هذا الوحي الإلهي، فكيف يتركونه ويركنون إلى الحسّ، وإن كان أمام أعينهم كأنَّما النبيّ عيسى قتل وصلب، لكن كيف يستندون ويركنون إلى الحسّ ويتركون الوحي الذي هو فوقه؟
فهنا يعالج القرآن الكريم هذه الجدلية ويعالج هذه المجاذبة ويرسم هذه الموازنة الخطيرة جدَّاً في معركة المعرفة البشرية وفي المعركة الدينية ويقدّمها عبرة للمسلمين وللمؤمنين القارئين للقرآن الكريم، أنَّه إذا كانت لديكم هناك براهين من الوحي الإلهي على أمر ما عقدي واعتقادي فيجب أن تتمسَّكوا بمثل هذا البرهان الوحياني، ومن غير الصحيح الركون إلى الحسّ ومشاغبات الحسّ التي تؤول نتيجة لزلزلة الإيمان، وإنَّما يجب الاعتقاد بتلك البراهين الوحيانية التي هي أقوى درجة.
من هنا احتدم الاختلاف في أقوال المفسّرين من كلّ المذاهب الإسلاميّة حول تفسير هذه الآية: (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) (النساء: 157)، وما هو مراد القرآن الكريم؟ وما هي حكمة الله عز وجل في إلقاء هذا التشبيه؟ فقد حاصوا وباصوا وتشتَّتت وتكثَّرت أقوالهم في تفسير هذه الآية؟ وما هو تفسير هذه الظاهرة، بأن يلقي الله سبحانه وتعالى شَبَه النبيّ عيسى على فرد آخر، وبالتالي يفنّد مزعمة اليهود والنصارى بقوله عز وجل: (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً)؟ فالقرآن الكريم يعبّر عن الركون إلى الحسّ أنَّه ركون إلى الظنّ في مقابل يقين الحسّ، فكيف يمكن أن يكون ظنّاً ولا يكون يقيناً؟(4) هذه إضاءة هامّة شديدة في القرآن الكريم لبيان أنَّ الاستناد إلى الحجّة الدنيا وترك الحجّة العليا والركون إلى مستند أضعف ومتاركة المستند الأقوى هو نوع من اتّباع الظنّ وترك اليقين، رغم أنَّه في حدّ نفسه ذو درجة محدودة من اليقين، ولكن هناك ما هو أشدّ درجة وأوسع في اليقين وهي المستندات الفطرية والعقلية والوحيانية الشرعية، فمتاركة تلك المستندات والحجج الأقوى والانتقال إلى ما هو دونها يعتبر اتّباعاً للظنّ؛ لأنَّه دائماً حيطة المستند والحجّية الأدنى هي دون حيطة ودائرة وهيمنة وقدرة المستند الأعلى، وإلاَّ فترتيب المستندات والحجج والبراهين كما مرَّ بنا منتظمة والمغزى فيها أنَّ الحجج والبراهين حيطتها محدودة، ودائرتها ليست واسعة، وقدرة الإبصار والاستكشاف بها والاستطلاع بها محدودة، فلا تجعلوه غير محدود، ولا تغالوا في الحسّ، وليست هذه دعوة من القرآن بالتفريط بالحسّ، ولكن لا تعطوا الحسّ فوق قدره ولا فوق شأوه. فالحسّ له درجات محدودة ومنظار يمكن النظر به إلى بقعة محدودة، وإذا أردتم أن تنظروا بمنظار إلى بقاع أوسع وحدود أشمل فعليكم الاستناد إلى حجج أخرى أعلى شأن، كالأمور الفطرية في الإنسان، وكالرجوع إلى معرفة نفسه، وكالرجوع إلى البراهين والحجج الوحيانية، فالإنسان المؤمن الموحّد يؤمن بالله، مع أنَّ الإيمان بالله، وكثيراً من المعارف ليس في متناول آلية الحسّ ولا قدرة الحسّ ولا محدودة الحسّ، ومع ذلك يشير القرآن الكريم كما مرَّ في سورة البقرة: (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) (البقرة: 2)، أوّل صفة بارزة فيهم هو الإيمان بالغيب، والقرآن كتاب هداية لمن يؤسّس المعرفة لديه، لا على أساس الحصر في الحسّ، فإذا أريد أن يؤسّس العقل الإسلامي، وهيكل العقل الإسلامي ونظامه على الحسّ حينئذٍ سوف تنحسر آفاق في المعرفة كثيرة، فالإنسان العارف والإنسان الواعد هو الذي يستند إلى العلم، فمن مدائح القرآن العظيم هي المدائح العلمية، والإنسان قد يمدح بصفات علمية، ويمدح بفضائل علمية. ومن مدائح القرآن العظيم الكبيرة للمتّقين الذين يستطيعون أن ينهلوا من هدى الكتاب، في أوّل مطلع سورة البقرة، أوّل صفة بارزة علمية أنَّهم: (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)، يعني أنَّهم لا يجعلون تمام مستند معرفتهم ولا يحصرون حصراً حكرياً منبع معرفتهم في الحسّ، فالإنسان الذي يقبع في سجن الحسّ هو دون البهيمة؛ لأنَّنا نرى في الحيوانات بعض الصفات التي تدلُّ على أنَّها تشعر بكثير من ما وراء الحسّ، كما في بعض الحالات التي رصدت في علم الأحياء. فالمقصود أنَّ أبرز صفة في تكامل الإنسان هو الإيمان بالغيب، أي إنَّ منبع المعرفة أصلاً، والأجهزة التي زوّد بها الإنسان تكويناً في ذاته هي في الواقع تتخطّى الحسّ، فكيف يسجن الإنسان نفسه في الحسّ ويقبع فيه مع أنَّه مصدر كأحد المصادر للمعرفة وليس هذا محلّ طعن من الآيات الكريمة في ذلك، وإنَّما المراد أنَّه ليس من الصحيح إعطاء الحسّ فوق دوره وفوق درجته، فإذا أراد الإنسان أن يوسّع دائرة إدراكه ودائرة إطلاعه يجب أن يتزوَّد بآليات أقوى من الحسّ، كالروح، القلب، الضمير، الوجدان، فيدرك العقل ما لا يدرك الحسّ، والآن في العلوم التجربية الحديثة يدركون أشياء لا يدركها الحسّ، فالذرّة مثلاً إلى الآن ورغم وجود الانشطار النووي والمفاعل النووي والدمج النووي إلاَّ أنَّ علماء الذرّة والبحوث النووية يعترفون أنَّهم لم يتوصَّلوا إلى إدراك الذرّة ونواة الذرّة بأجهزة حسّية كالميكروسكوب أو المجاهر المتطوّرة، وإنَّما يتعاطون مع الذرّة من خلال آثارها وتداعياتها ونتائجه، ولم يستطع الإنسان أن يبصر الذرّة بالحسّ، فكيف وصل إلى استثمار هذه النتائج الكبيرة من البحوث النووية العلمية؟ أليس ذلك كان بإدراك عقله حيث يرى آثاراً وتداعيات يستنتج العقل بها أنَّ هناك شيئاً. كذلك نجد كثيراً من بحوث الطاقة وكثيراً من بحوث البيئة وبحوث الطبيعة حتَّى المادية لا تكون متناولاً ليد وقدرة الحسّ وآلية الحسّ وإنَّما هي متناول لآلة العقل.
فمن الظلم أن يجعل الإنسان الحسّ هو الأمير والكبير والرئيس في مصدر المعرفة، وإنَّما الحسّ خادم من خدم مَلِك المعرفة، والعقل له درجات من الوجدان والقلب والروح، فهنا نجد القرآن الكريم يؤكّد على هذه الظاهرة، وهي أنَّ الاستناد إلى الحسّ كمصدر أصلي ومركزي وعمومي للمعرفة يؤدّي إلى الغواية والضلال، ومن ثَمَّ يعيب على النصارى واليهود أنَّهم رغم وجود المعاجز والبراهين الوحيانية لديهم على لسان النبيّ موسى ولسان النبيّ عيسى بأنَّ النبيّ عيسى سوف يبقى ويشارك في دولة الإصلاح ويبقيه الله حيّاً ويدَّخره لذلك، رغم كلّ هذه البراهين والمعاجز الوحيانية استندوا إلى الحسّ، وقالوا بأنَّ الذي قُتل في صورة النبيّ عيسى هو الذي قُتل، ولم يحتملوا أنَّ الحسّ يمكن أن يشتبه فيه، وأنَّه إذا جُعلت المحورية للحسّ فسوف يدبُّ التشكيك فيه وسوف يعطى حجماً أكبر من حجمه، بخلاف ما لو جعل العقل مهيمناً عليه واستند العقل إلى براهين بيّنة.
وقد رصد العلماء ما يقارب من أربعمائة أو خمسمائة مورداً للحسّ يخطئ فيه ويصحّح له العقل، وليس هذا تهاوناً أو استهانة بالحسّ، وليس هذا تشكيكاً بالحسّ، ففرق بين المنهج السفسطي والمنهج الإيماني، والمنهج العقلاني، فالمنهج السفسطي يريد أن ينسب الحسّ إليه، أمَّا المنهج العقلاني والمنهج القرآني فيريد أن يعطي الحسّ مساحة محدودة. والصحيح أن لا يغالي فيه ولا أن يفرط فيه، فالجادّة الوسطى هي الاعتدال، الحسّ له قيمته لكن بقدره الذي لا يجعل من الحس ملك المعرفة، وإلاَّ سوف يؤدّي به إلى إنكار نتائج هي فوق طاقته وقدرته، وهذا ما لا يستطيع حتَّى علماء العلوم الحديثة التجريبية الركون إليه، لأنَّ كثيراً من النتائج التي يتوصَّلون إليها ويبنون عليها بعض النظريات ليست في متناول يد الحسّ، وإنَّما هي في متناول يد العقل والاستنتاج العقلي.
فهناك وسطية، وهي أنَّ الحسّ لا يفرّط فيه كالسفسطة حيث تنسفه نسف، ولا يغالى فيه، بل يعطى درجته ويعطى للعقل هيمنة فوقه، وللروح وللوجدان وللعيان الغيبي والإعجازي الذي يدركه الإنسان بتوسّط أجهزة يزوّد بها الإنسان بذاته تكويناً وخلقة، وهذا يحلُّ المشكلة حينئذٍ، فأحد الإشكالات التي يترنَّم بها الكثيرون الجاحدون للعقيدة بالإمام المهدي وحياته وغيبته أنَّه لِمَ لا يرى؟ وكيف لا يرى وهو إمام؟ وكيف؟ وكيف؟ كلّها استناد إلى الحسّ، وأمَّا إذا قامت لديك البراهين من القرآن الكريم على أنَّ إمامة أهل البيت باقية، وأنَّ للقرآن عِدلاً وشريكاً أمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتمسّك بهما: (إنّي تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، فإنَّهما لن يفترقا حتَّى يردا علىَّ الحوض)(5)، يعلمون كلّ تأويل الكتاب، وإلاَّ لكان بعض الكتاب معطَّل، وحاشا للقرآن أن ينزل ويكون معطَّلاً.
وهناك آيات وبيّنات عديدة تبيّن استمرار بقاء العترة النبوية، وكذلك آيات الإمامة في ذرّية إسماعيل _ وقد مرَّ استعراضها _ دالّة على بقاء الإمامة في عترة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وبقاء إمامتهم، فكيف يتَّجه الإنسان إلى مشاغبات الحسّ وينكر ويجحد عقيدة قرآنية أصيلة وهي بقاء العترة قرينة وعدلاً للقرآن الكريم ومفسّرة لتأويل الكتاب.
القرآن لا يفتأ يؤكّد على أنَّ الذي لا ينتظم إليه المخروط الهرمي لنظام المعرفة، سوف تأخذه دلالات بعض المصادر في المعرفة يميناً وشمال، وتأخذه في سوح التيه وبحار الظُلمة، وأنَّه لا بدَّ أن يكون نظام المعرفة لدى الإنسان أو لدى المؤمن رتيباً منتظماً منظومي، لذلك يخطّئ القرآن الكريم هنا ويضلّل اليهود والنصارى في استنادهم للحسّ ومتاركتهم للبيّنات السابقة، وقد مرَّ بنا أنَّ اليهود لا زالت تعتقد أنَّه سوف يظهر النبيّ عيسى، وأنَّ الذي ادّعى أنَّه النبيّ عيسى في السابق هو ساحر كذّاب دجّال والعياذ بالله، هكذا يقذفون النبيّ عيسى، مع أنَّ لديهم البشائر الوحيانية الإلهية ببقاء النبيّ عيسى باعتباره مشاركاً مهمّاً وكبيراً في دولة الإصلاح للإمام المهدي (عليه السلام)، كما نقل عن بعض نصوص الإنجيل التي فيها البشائر بخلق الله اثني عشر عظيماً من سلالة إسماعيل، ويكون عليهم سيّدٌ وهو سيّد الأنبياء محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وشريعته لأرجاء الأرض كافّة، فالخلاصة أنَّهم لديهم بشارات متعدّدة وبيّنات وحي، وكيف تترك ويعرض عن بيّنات الوحي إذا كانت بيّنة وبرهانية وإعجازية مع مسرح حسّي قد تدخل في الالتباس أو قد يدخل في الستار أو قد يسدل عليه بشيء من الإبهام والهلامية، كما نرى المشاهد الحسّية البعيدة جدَّاً كأنَّها صغيرة، كالمجرّات العظيمة تُرى صغيرة الحجم، فهل هي في الواقع بهذا الحجم الصغير؟ كلاَّ هذه في الواقع معطيات الحسّ، فإذا أراد الإنسان أن يستنتج ويقصر استنتاجه عليها، وليس على بصيرة العقل ومحاسبة المعادلات الرياضية والهندسية فسوف يخطئ حينئذٍ في النتيجة.
إذن لا يمكن الركون والاتّكال على معطيات الحسّ بما هي، لأنَّ هذه المعطيات لها أفق معيَّن هو بالنسبة إلى أفق معرفة الإنسان يعتبر أفقاً قزمياً؛ لأنَّ أفق معرفة الإنسان ذو شموخ علياوي، وله منابع أكثر ثروة في مصدر المعرفة، فالذي يريد أن يؤكّده القرآن الكريم، هو أنَّ الالتباسات الحسّية لا توجب زعزعة إيمانكم بحجّة الله وببقائه وبادّخاره وبحياته.
إذن في هذا المقطع وهذا المحور من ظاهرة النبيّ عيسى يشدّد القرآن من نكيره وتخطئته وتضليله لمقالة اليهود والنصارى في تصفيته وإبادته؛ لاستنادهم إلى الحسّ، مع أنَّه قد تبيَّنت لهم معطيات حياتية وعقلانية من معاجز النبيّ عيسى، ومعاجز النبيّ موسى أنَّه سوف يدَّخره الله حيّاً باقياً لدولة الإصلاح، فكيف يستندون إلى حسّ قابل للتأويل العقلي، وهذا ليس من تلاعب العقل بالحسّ، بل هذا من ترشيد العقل للحسّ، وكما ذكرنا أنَّ المجرّات تُرى من بعيد كأنَّها صغيرة، فلا بدَّ أن تعطي تفسيراً عقلياً رياضياً يدلّل بأنَّها ليست من الصغر كما يشاهدها الإنسان حسّ، وإنَّما هذا الحسّ يحكم لدى الإنسان، ولكن بسبب تفسير العقل وترشيد العقل لمعطيات الحسّ هنا تصبح المعلومات أدقّ تفسيراً. يريد القرآن الكريم أن يؤكّد لنا على ابتلائنا بمحنة وعقيدة تستمرّ قرون، ألا وهي بقاء رجل من العترة صاحب القرآن وقرين القرآن وعدل القرآن، كلّ هذه البينات الكثيرة التي لسنا بصدد التفصيل فيها عندما يلتقي بها المسلم، نشاهد كثيراً من كبار أصحاب الأسماء اللامعة من المذاهب الإسلاميّة الأخرى ذوي الكتابات العريضة الطويلة يشكّك في مثل هذه المصادر الوحيانية والبيّنات العقلية بسبب التباس حسّي لديه كابن خلدون، وتنظر صاحب كتاب (تاريخ الإسلام) وغيره يقولون: إنَّ ابن الحسن العسكري قد قتل أو عدم. وأنَّه قد داهمت جلاوزة بني العبّاس بيت الإمام الحسن العسكري وصفّوا من فيه، وكان الإمام الحسن العسكري تحت المراقبة الشديدة من السلطة العبّاسية، فكيف يمكن أن يفرّ منهم ابن الإمام الحسن العسكري؟ وكيف يمكن أن يبقى سالماً؟ وكيف يمكن أن يكون هو المهدي؟ فلا بدَّ أن ننساق مع ما أشيع آنذاك من الدولة العبّاسية أنَّهم قد صفّوا ابن الإمام الحسن العسكري وكبسوه في البيت وأعدموه واغتالوه، وهل يمكن أن يفلت إنسان من هذه المراقبة الشديدة التي تقيمها دولة عظمى تمثّل أكبر دولة عظمى آنذاك والتي تساوي مساحتها مساحة أربعين أو خمسين دولة الآن، والحال أنَّ الإمام الحسن العسكري كان مسجوناً عسكرياً تحت قبضة بني العبّاس، وكذلك أبوه الإمام الهادي، تحسّباً من تولّد ابنهم الموعود بأن يكون مهدي هذه الأمّة وعلى يده ينتشر القسط والعدل، فترى ابن خلدون يقول عبارته التي قرأناها فيصف أتباع مدرسة أهل البيت _ وإن كان الوصف في الحقيقة لائق به لا بهم _ بقوله: (وهؤلاء من الجهل بحيث ينتظرون من يقطع بموته)(6)، هكذا يبرز لديه القطع المستند إلى مثل هذه العناصر الحسّية، هذا هو الذي يخطّئه، فبيّنات إمامة أهل البيت (عليهم السلام) في القرآن الكريم كثيرة، وزعزعة التمسّك بهذه البيّنات والتنكّر لهذه البيّنات الوحيانية في الأحاديث النبوية المتواترة مقابل دعوة حسّية رصدها المؤرّخون أو رصدتها الدولة العبّاسية بأنَّها كبست بيت الإمام الحسن العسكري وصفَّت من فيه وقتلت إحدى جواري الإمام الحسن العسكري التي كانت حاملاً وأسقطت الحمل أو أعدم أو غير ذلك، هذه ملحمة في الحقيقة، فإذا استندنا إلى الحسّ وركنّا إليه ونبذنا آيات الكتاب في القرآن الكريم ونبذنا الأحاديث النبوية سنكون قد وقعنا فيما قد وقع فيه نفس اليهود والنصارى الذين ضلَّلهم القرآن الكريم في هذا الفعل الخاطئ، حيث استندوا في المعرفة إلى الحسّ الملتبس وتركوا بيّنات الوحي، وتركوا بيّنات العقل وتركوا بيّنات الفطرة، وتركوا منابع المعرفة والعقيدة والإيمان، وهذه طامّة كبرى، وكان أحدهم يقول: إنَّ اعتقادي بالإمام المهدي لا بدَّ أن يكون مستنداً إلى الحسّ، فإن لم يكن هناك أيّ معطية حسّية _ مع أنَّها موجودة بحمد الله فيما روته الإماميّة من مدرسة أهل البيت من بيّنات كثيرة على ولادته حسّاً واختفائه (عليه السلام) وما شابه ذلك _ ولكنَّنا نجاري هذا القائل حيث يقول: إن لم تتكوَّن لدي معطيات حسّية فلا أؤمن به!، أنظر لهذه المقالة التي يفنّدها القرآن أشدّ تفنيد، إنَّ المستند للإيمان والمعرفة بحجج الله وبقائهم هؤلاء المدَّخرون للإصلاح في الوعد الإلهي يجب أن لا يكون حبيس الحسّ.
الهوامش:
(1) في الرواية عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: (إنَّ عيسى (عليه السلام) وعد أصحابه ليلة رفعه الله إليه، فاجتمعوا إليه عند المساء وهم اثنا عشر رجل، فأدخلهم بيتاً ثمّ خرج عليهم من عين في زاوية البيت وهو ينقض رأسه من الماء، فقال: إنَّ الله أوحى إليَّ أنَّه رافعي إليه الساعة ومطهّري من اليهود، فأيّكم يلقى عليه شبحي فيقتل ويصلب ويكون معي في درجتي، فقال شاب منهم: أنا يا روح الله، قال: فأنت هوذ، فقال لهم عيسى (عليه السلام): أمَا إنَّ منكم لمن يكفر بي قبل أن يصبح اثنتي عشرة كفرة، فقال له رجل منهم: أنا هو يا نبيّ الله؟ فقال عيسى: إن تحسّ بذلك في نفسك فلتكن هو، ثمّ قال لهم عيسى (عليه السلام): أمَا إنَّكم ستفترقون بعدي على ثلاث فِرَق فرقتين مفتريتين على الله في النار وفرقة تتَّبع شمعون صادقة على الله في الجنّة، ثمّ رفع الله عيسى إليه من زاوية البيت وهم ينظرون إليه).
ثمّ قال أبو جعفر (عليه السلام): (إنَّ اليهود جاءت في طلب عيسى (عليه السلام) من ليلتهم، فأخذوا الرجل الذي قال له عيسى (عليه السلام): إنَّ منكم لمن يكفر بي من قبل أن يصبح اثنتي عشرة كفرة، وأخذوا الشاب الذي ألقي عليه شبح عيسى فقتل وصلب، وكفر الذي قال له عيسى (عليه السلام): تكفر قبل أن تصبح اثنتي عشرة كفرة)، (تفسير القمي 1: 103).
(2) وهي قوله تعالى: (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً).
(3) وهي قوله تعالى: (إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ).
(4) من ذلك ما أورده الطبرسي في تفسيره (مجمع البيان 3: 232 - 235) بعد تفسيره لقوله تعالى: (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ)، وبعد أن ذكر ما روي في حادثة إلقاء الشبه والاختلاف في كيفية التشبيه، قال في تفسير قوله تعالى: (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ): (قيل: يعني بذلك عامّتهم، لأنَّ علماءهم علموا أنَّه غير مقتول، عن الجبائي. وقيل: أراد بذلك جماعة اختلفوا، فقال بعضهم: قتلناه، وقال بعضهم: لم نقتله.
(ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ) أي: لم يكن لهم بمن قتلوه علم، لكنَّهم اتَّبعوا ظنّهم، فقتلوه ظنّاً منهم أنَّه عيسى، ولم يكن به، وإنَّما شكّوا في ذلك، لأنَّهم عرفوا عدّة من في البيت، فلمَّا دخلوا عليهم وفقدوا واحداً منهم التبس عليهم أمر عيسى، وقتلوا من قتلوه على شكّ منهم في أمر عيسى، هذا على قول من قال: لم يتفرَّق أصحابه، حتَّى دخل عليهم اليهود. وأمَّا من قال: تفرَّق أصحابه عنه، فإنَّه يقول: كان اختلافهم في أنَّ عيسى هل كان فيمن بقي، أو كان فيمن خرج، اشتبه الأمر عليهم. وقال الحسن: معناه فاختلفوا في عيسى، فقالوا مرَّة: هو عبد الله، ومرَّة: هو ابن الله، ومرَّة: هو الله. وقال الزجّاج: معنى اختلاف النصارى فيه أنَّ منهم من ادّعى أنَّه إله لم يقتل، ومنهم من قال: قتل.
(وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً) اختلف في الهاء في (قَتَلُوهُ) فقيل: إنَّه يعود إلى الظنّ، أي: ما قتلوا ظنّهم يقيناً، كما يقال: ما قتله علماً، عن ابن عبّاس، وجويبر. ومعناه: ما قتلوا ظنّهم الذي اتَّبعوه في المقتول الذي قتلوه، وهم يحسبونه عيسى، يقيناً أنَّه عيسى، ولا أنَّه غيره، لكنَّهم كانوا منه على شبهة. وقيل: إنَّ الهاء عائد إلى عيسى، يعني: ما قتلوه يقيناً، أي: حقّاً، فهو من باب تأكيد الخبر، عن الحسن: أراد أنَّ الله تعالى نفى عن عيسى القتل على وجه التحقيق واليقين.
(بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ) يعني: بل رفع الله عيسى إليه، ولم يصلبوه، ولم يقتلوه...
(إلى أن قال): وما مرَّ في تفسير هذه الآية من أنَّ الله ألقى شبه عيسى على غيره، فإنَّ ذلك من مقدور الله بلا خلاف بين المسلمين فيه، ويجوز أن يفعله الله سبحانه على وجه التغليظ للمحنة، والتشديد في التكليف، وإن كان ذلك خارقاً للعادة، فإنَّه يكون معجزاً للمسيح، كما روي أنَّ جبرائيل كان يأتي نبيّنا في صورة دحية الكلبي.
وممَّا يسأل عن هذه الآية أن يقال: قد تواترت اليهود والنصارى مع كثرتهم وأجمعت على أنَّ المسيح قد قتل وصلب، فكيف يجوز عليهم أن يخبروا عن الشيء بخلاف ما هو به؟ ولو جاز ذلك، فكيف يوثق بشيء من الأخبار؟
والجواب: إنَّ هؤلاء دخلت عليهم الشبهة، كما أخبر الله سبحانه عنهم بذلك، فلم يكن اليهود يعرفون عيسى بعينه، وإنَّما أخبروا أنَّهم قتلوا رجلاً. قيل لهم: إنَّه عيسى، فهم في خبرهم صادقون، وإن لم يكن المقتول عيسى، وإنَّما اشتبه الأمر على النصارى؛ لأنَّ شبه عيسى ألقي على غيره، فرأوا من هو على صورته مقتولاً مصلوباً، فلم يخبر أحد من الفريقين إلاَّ عمَّا رآه، وظنَّ أنَّ الأمر على ما أخبر به، فلا يؤدّي ذلك إلى بطلان الأخبار بحال).
(5) أنظر: كمال الدين: 240/ باب 22/ ح 61؛ مسند أحمد 3: 14.
(6) يقول ابن خلدون في تاريخه (ج 4/ ص 29 و30): (ويزعمون (أي الشيعة) أنَّ الإمام بعده (أي: الإمام علي الهادي) ابنه الحسن ويلقَّب: العسكري؛ لأنَّه ولد بسُرَّ من رأى، وكانت تسمّى العسكر، وحبس بها بعد أبيه، إلى أن هلك سنة ستّين ومائتين ودفن إلى جنب أبيه في المشهد، وترك حملاً ولد منه ابنه محمّد، فاعتقل ويقال: دخل مع اُمّه في السرداب بدار أبيه وفقد، فزعمت شيعتهم أنَّه الإمام بعد أبيه ولقَّبوه: المهدي والحجّة، وزعموا أنَّه حيّ لم يمت، وهم الآن ينتظرونه ووقفوا عند هذا الانتظار، وهو الثاني عشر من ولد علي، ولذلك سمّيت شيعته الاثني عشرية، وهذا المذهب في المدينة والكرخ والشام والعراق، وهم حتَّى الآن على ما بلغنا يصلّون المغرب، فإذا قضوا الصلاة قدَّموا مركباً إلى دار السرداب بجهازه وحليته ونادوا بأصوات متوسّطة: أيّها الإمام اُخرج إلينا فإنَّ الناس منتظرون والخلق حائرون والظلم عامّ والحقّ مفقود فاخرج إلين، فتقرّب الرحمة من الله في آثارك، ويكرّرون ذلك إلى أن تبدوا النجوم، ثمّ ينصرفون إلى الليلة القابلة، هكذا دأبهم، وهؤلاء من الجهل بحيث ينتظرون من يقطع بموته مع طول الأمد، لكن التعصّب حملهم على ذلك، وربَّما يحتجّون لذلك بقصَّة الخضر، والأخرى أيضاً باطلة، والصحيح أنَّ الخضر قد مات!!).
******************
الأدلّة والمعطيات الحسّية في ولادة الإمام المهدي (عليه السلام):
الكثير من التساؤلات بأقلام الكتّاب السابقين واللاحقين من الكتّاب الإسلاميّين يرفعون هذا الاعتراض، وهو: لماذا لا يكون في الإيمان والاعتقاد بالإمام المهدي (عليه السلام) معطية حسّية؟
إنَّ المعطية الحسّية موجودة فيما تناقلته وروته الإماميّة من أتباع مدرسة أهل البيت في ظلّ الظروف القاهرة الأمنية الكابسة الخانقة من دولة بني العبّاس، وهذا بيّن لدى كلّ المسلمين، أنَّ الدولة العبّاسية استقدمت الإمام الهادي والإمام الحسن العسكري من المدينة المنوَّرة، وأقامت عليهما رقابة عسكرية حتَّى في بيتهما (عليهما السلام)، وفي بعض الأخبار الروائية والتاريخية التي يروونها أنَّ عشرة من جلاوزة وعلماء بلاط بني العبّاس كانوا يمكثون في بيت الإمام الحسن العسكري للرقابة، إلى هذا الحدّ كان هناك استنفار أمني بدرجة قصوى لدى الدولة العبّاسية تجاه الإمام الحسن العسكري وتجاه الإمام الهادي، خمداً لأنفاس الإمامة حسب ما يتوهَّمون لإطفاء نور إمامة أهل البيت (عليهم السلام)، وتحسّباً من مجيء ولدهم الثاني عشر الموعود بأن يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، ضمن هذه الظروف القاهرة الخانقة الكابسة الظالمة لدولة عظيمة آنذاك، يقول: لِمَ لا تبدي لي مسحة حسّية وردية؟! وكأنَّما هو يتنكَّر إلى المعطيات الموجودة التي أجمعت عليها البشرية والمسلمون آنذاك في ذلك الظرف التاريخي الخانق، ورغم ذلك هناك معطيات حسّية كثيرة، لكن كيف يسوغ لمسلم يقرأ القرآن الكريم ويهتدي ويسترشد من القرآن الكريم أن يجعل من الحسّ المحور الأوّل والأخير ويترك الدلائل الوحيانية البرهانية الأخرى، وهذا القرآن يفنّد اليهود والنصارى ويضلّلهم ويسلب عنهم الإيمان بسبب أنَّهم جعلوا الحسّ مصدراً لمعرفتهم واعتقادهم وإنكارهم لبقاء حياة النبيّ عيسى، وأنَّه صفّي وقتل وأعدم وأبيد، وكان ذلك نتيجة للركون إلى الحسّ، والقرآن الكريم يقول: أتتكم البيّنات في التوراة والإنجيل، وها هي في القرآن الكريم البيّنات الوحيانية التي هي أرفع شأناً ودرجةً وحجّيةً وبياناً ونوراً وهدىً من ضآلة مستوى الحسّ، فالقرآن الكريم _ كما مرَّ بنا _ دائماً يشدّد النكير على حصر الاستناد إلى هذا المنهج المعرفي الخاطئ، بأن يستند الإنسان إلى مصدر معرفي نازل ويجعل منه المحور الأوّل ويترك مصادر المعرفة العالية، رغم كلّ ذلك فيأتي في مثل هذا القرن وفي قرون عديدة أخرى من الكتّاب الإسلاميّين من يقول: أين المعطيات الحسّية؟!، وهذا القرآن ينادي بأنَّ الحسّ ليس هو كلّ المصدر للمعرفة، وهلاَّ قال: أين البيّنات من القرآن؟ أو أين البيّنات من الأحاديث النبوية؟ فربَّما يكف عن الترنّم واللهج بهذا الإشكال، لأنَّه يرى في الآيات القرآنية وفي الأحاديث النبوية بيّنات ساطعة ناصعة نيّرة هادية إلى هذه العقيدة الشريفة، لكنَّه أخذته العزّة بالإثم فيقول: ومن أحالك على غائب لم ينصفك، فكيف بمن أحالك على مستحيل(1)؟!
وهذا القرآن الكريم ينبئنا عن أنَّ عمر النبيّ نوح زاد على الألف؛ لأنَّ دعوته كانت تقلُّ عن ألف سنة إلاَّ قليل، أمَّا حياته فأكثر من ذلك، وها هو القرآن الكريم ينبئنا عن حياة النبيّ عيسى وبقائه عند الله عز وجل ونزوله للمشاركة والإسهام في دولة الإصلاح الشاملة في الكرة الأرضية، ومع ذلك ترى التشرنق بشرنقات حسّية ملبوسة يجعل منها الركن الأصيل لمنبع العقيدة، لو أتونا وناقشونا في الأحاديث النبوية الدالّة، ولو أتونا وناقشونا في الأحاديث المتواترة، أو في البيّنات القرآنية على ذلك، لكنّا نعمل به، أمَّا أن يتشدَّقوا ويتشرنقوا من خلال لفيف حسّي محبوس، فهذا هو الذي يخطّئه القرآن الكريم، إذ يقول: (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ)، هذا اختلاف جارٍ في الأمّة الآن، كالذي حصل من اختلاف في حياة النبيّ عيسى وظهوره وامتداد عمره، إذ هو مثل ضربه الله في القرآن للمهدي من آل محمّد ليكون لنا عظة وعبرة، ومنهجية معرفية سطَّرها لنا لكي نحتذي ونتربّى عليه، فلماذا ننبذ القرآن وراء ظهورنا، فتعالوا بنا نستمسك بالرؤية المنهجية المعرفية التي يرسمها القرآن الكريم لهيكلة العقل الإسلامي، فلا يمكن أن نقزّم العقل الإسلامي والعقل البشري في الإدراك الحسّي وملابساته وهيولاه الهلامية المحدودة، أبداً، بل لا بدَّ أن ننطلق إلى مصادر معرفية كثيرة، ترى كثيراً من نقاشاتهم _ وقد جمعت _ في كثير من المصادر تستند إلى وسوسات الحسّ ومصادر حسّية من القتل والإعدام والتصفية، وأنَّ الدولة العبّاسية كانوا في حصار آبائه وأجداده، فكيف إذن يتمكَّن من التخلّص والتملّص منهم؟! وما شابه ذلك من هذه الإشكالات التي ينبغي للمسلم أن ينأى عن البناء والتبنّي والاستمساك بها.
فأحدهم يرى أنَّ الاعتقاد بالنبيّ عيسى وحياته وأنَّه سوف ينزل ويظهره الله بعد هذا الأمد الطويل من تغييبه وبقاء حياته لإنجاء البشرية ما هو إلاَّ تخدير!، وهذه المقالة ليست حديثة، بل يتردَّد ويتشدَّق بها الكثير في الكتب القديمة في قبال العقيدة بالإمام المهدي، مع أنَّ هذا الارتباط والعقيدة بحياة وبقاء النبيّ عيسى ونزوله وظهوره لمساندة الإمام المهدي هو برهان قرآني قويم، وهناك تقارن لهاتين العقيدتين اللتين هما عقيدتان قرآنيتان، بل هما عقيدة واحدة، ومع كلّ ذلك يذهب إلى أنَّ الاعتقاد بحياة النبيّ عيسى وظهوره مخدّر، ويقول بموته ويستدلّ عليه بقوله تعالى: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ * إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) (آل عمران: 54 و55)، فقد توفّاه الله ومات، ولا تقع نجاة البشرية على يده ويد الإمام المهدي في دولة الإصلاح الشامل، بل يجب أن لا نخدّر عزائمنا وهممنا وطاقاتنا وتفكيرنا بمثل هذه العقائد، هذا القائل يريد أن يجحد وينكر هذه العقيدة تحت ذريعة أنَّها عقيدة مخدّرة عن الحيوية والحركة والنشاط والفعالية، وأنَّ الاعتقاد بأنَّ النبيّ عيسى حيّ ليس له أصل، مع أنَّ كلمة (مُتَوَفِّيكَ) ليست بمعنى وفاة الموت؛ لأنَّ القرآن الكريم كما مرَّ بنا يستعمل الوفاة سواء في الحالة المنامية أو في حالة الموت المعهودة: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَْنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) (الزمر: 42)، فيطلق عليه التوفّى، فهذا التوفّي هو نوع من حالة منامية، باعتبار عروج النبيّ عيسى في الفضاء يلازم نوعاً من الإرباك البدني أو الفسيلوجي، فحيطة من الله للنبيّ عيسى جعلت له مثل حالة منامية أو حالة المثالية التي هي قريبة من حالة الموت، إلى أن رفعه إليه، وهو عند الله باقٍ، هذا القرآن الكريم يعدنا: (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) (النساء: 159)، يعني أنَّ القرآن الكريم يعد بظهور ونزول النبيّ عيسى، وكذلك في سورة الزخرف: (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ...)، إلى أن تقول الآيات: (وَإِنَّهُ)، يعني ابن مريم النبيّ عيسى (عليه السلام)، (لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (الزخرف: 57 _ 61)، فجعل نزول النبيّ عيسى علماً للساعة، وهذه أحاديث الفريقين المتواترة في ذلك، وهذه الآيات المتعدّدة الدالّة على ذلك، وهذه عقيدة أصيلة في القرآن الكريم وفي الأحاديث النبوية، بل وفي التوراة والإنجيل أيضاً.
فهذا التنكّر والجحود لهذه العقيدة من هذا القائل، وهذه المقالة كما مرَّ مذكورة في كتب قديمة عديدة، نظراً لما وجدوه من الصلة الوطيدة الوثيقة بين الاعتقاد بحياة النبيّ عيسى وظهوره باعتباره مصلحاً معدّاً ومدَّخراً من قبل الله تعالى مع العقيدة بحياة الإمام المهدي وبقائه وخفائه وإعداده الإلهي ليكون مصلحاً في نهاية المطاف للبشرية، وإن كان هو يمارس دوره إلى الآن في ظلّ الخفاء والسرّية، وأمَّا إشكالية الخمود أو إشكالية التخدير والخدر والتسويف الذي ربَّما ينتاب الأمّة نتيجة الاعتقاد بهذه العقيدة، فهذا توهّم بارد، وهذا مقال كاسد؛ لأنَّ هذه العقيدة ليست هي مصدراً ومبعثاً للخمود، بالعكس فهي منطلق ومنشأ للحركة والحيوية ولبقاء الأمل، وعدم اليأس وعدم الإحباط، وأن يكون الإنسان دوماً في ضخ أمل رحب واسع الأفق ينطلق فيه؛ لأنَّ المنهج في سُنّة الله في الإصلاح لا على الجبر ولا على التفويض، والسرّ والحكمة الإلهية في جعل سنن التغيير الاجتماعي والإصلاح الاجتماعي في الأمر بين الأمرين؟ لأنَّه لو كانت جبرية أوجبت التخدير والخمود، وأنَّ الله هو الذي يفعل كلّ شيء، وبالتالي ليست هناك مسؤولية ملقاة على عاتق الأمّة لتقوم بدورها في الإصلاح والإعداد للإصلاح العالمي الشامل الإلهي، وإن كان تفويضاً فسوف يسبب الجمود والخدر والإحباط، لأنَّه إذا كانت المعطيات هي بمقدار ما هو موجود في أيدي البشر والمجتمعات البشرية، فإذا تغلَّب الظالمون وتغلَّبت تلك الأنظمة الجائرة والرأسمالية والإقطاعية وتغلَّبت قوى الشرّ، ولم يكن هناك من منفّس فالمفروض أنَّه ليس بيد الله أي إسهام _ والعياذ بالله _ فلو افترضنا هذه المقالة، فالتفويض أيضاً سوف يسبب انقطاع الأمل والإحباط، وهذا على خلاف القول بأنَّه لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين، هذه ديناميكية محرّكة حيوية دائماً للقيام بالمسؤولية، ولعدم التخاذل وعدم التهرّب من ساحة المسؤولية وساحة الحدث.
فالاعتقاد بعقيدة الإمام المهدي وعقيدة النبيّ عيسى وأنَّهما حيّان في قدرة الله، وأنَّهما معدّان ومدَّخران للإصلاح الإلهي العامّ الشامل الكبير، هذا الطابع وهذا المجال في الحقيقة لا يدعو إلى التخدير، وإنَّما يكون مبعثاً للأمر ومنطلقاً لفسح رحب الأفق، وبالتالي يكون هناك نوع من الدور المتزاوج البشري والإلهي في إعطاء مسار التغيير يد إسهام فيه، فلا تفويض ولا جبر وهذه هي نظرية وعقيدة مدرسة أهل البيت، ليست فقط في الفعل الفردي، بل حتَّى في الفعل الاجتماعي كما مرَّ أنَّ الإصلاح لا يرسمه القرآن الكريم أو ترسمه الأحاديث النبوية، أو ترسمه الكتب السماوية بأنَّه نحو إلجاء وإكراه من الله وبـ (كن فيكون)، فليس من سنن الله ذلك، بل سنن الله أنَّه أمر بين أمرين، إسهام من السماء، وإسهام بشري أيضاً في الإصلاح البشري، وليس تفويضاً يوكل إلى البشر لكي يحبط أو ييأس عند عجزهم؛ لأنَّه لا معين ولا ناصر لهم، ولا هو إلجاء. إذن هذه الحالة الحيوية الناشطة وهذه الحالة المتحرّكة باعثة دائماً النشاط وعدم اليأس وعدم الاغترار بعجز النفس أو عجز البشر، بل هي أمر بين أمرين، فالحيوية إذن كامنة في الاعتقاد بعقيدة الإمام المهدي وظاهرة النبيّ عيسى (عليهما السلام).
المحطّة الخامسة: الهجرة عن الفساد:
بعد ذلك يواصل لنا القرآن الكريم محطّة مهمّة في ظاهرة النبيّ عيسى، وهي الظاهرة السادسة، وهذه المحطّة ربَّما نقتصر بجعلها الأخيرة في ظاهرة النبيّ عيسى (عليه السلام)، وإن كانت هناك محطّات عديدة يمكن للباحث والمحقّق والمتدبّر أن يجدها في ظاهرة النبيّ عيسى وهي محطّات أخرى لها اتّصال وثيق بالعقيدة بالإمام المهدي وحياته وظهوره ودولة الإصلاح الشامل، ولكن نقتضب الحديث ونقتصر على ما تقدَّم، وما نذكره من هذه المحطّة الأخيرة التي تتناولها الآية الكريمة: (بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (النساء: 158)، هذه المحطّة تفتح علينا ظاهرة سابعة مشتركة في جميع الأنبياء، وسوف نقوم بالخوض فيها.
وهي ظاهرة الهجرة عن المجتمعات الفاسدة، والغياب الحسّي عنها.
قال تعالى: (بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً).
هذه السُنّة التي تتعرَّض إلى بيانها الآية الكريمة من رفع النبيّ عيسى في آية أخرى: (وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) (آل عمران: 55)، هنا تبيّن الآية حكمة رفع النبيّ عيسى وإبقائه على قيد الحياة إلى أن يحلّ أوان الظهور والنزول والإصلاح الشامل، وهو تطهير الله لأنبيائه ورسله وخلفائه الأئمّة عن التلوّث بالبيئة الفاسدة الظالمة المنحرفة، فالسرّ والسبب الكبير المبيَّن في القرآن الكريم لغيبة النبيّ عيسى هو أن لا يتلوَّث بدرن النظام الاجتماعي الظالم الكافر، وهنا يبيّن القرآن الكريم بأنَّ الشخص في السُنّة الإلهية الذي هو حجّة من حجج الله والموعود بأن يقوم بالإصلاح الشامل لا ينصاع ويتكبَّل ويتقيَّد بأغلال وأدران النظام الظالم؛ لأنَّ هذا التكبّل بهذه القيود وهذا الانحباس في ظلّ هذه المنظومة الفاسدة من النظام غير العادل والنظام الذي لا يسير مسار العدالة السماوية يعتبره القرآن الكريم بيئة فاسدة وبيئة فيها رجس، والمفروض في سُنّة الله كما تبيّنه الآيات الكريمة كمثل وكآية للنبيّ عيسى، حيث وعد البشر وبشَّرهم في التوراة والإنجيل والزبور وفي القرآن الكريم بمساهمة النبيّ عيسى: (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) (الزخرف: 61)، كما قرأناه في الآية السابقة، وأيضاً في هذه الآية: (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) (النساء: 159)، وعد إلهي بنزول النبيّ عيسى ومشاركته في الإصلاح، وآيات كثيرة تتعرَّض إلى ذلك في بيانات القرآن الكريم، وبالضبط هذه السُنّة الإلهية في ظاهرة النبيّ عيسى قد بيَّنها أهل البيت في أحد العلل والحكم المهمّة الكبرى في غيبة الإمام المهدي، وهو أنَّه إذا ظهر لا تكون في عنقه بيعة لحاكم ظالم(2)، فيبدأ بدولة الإصلاح.
إذن هذه سُنّة قرآنية، وهي الغيبة للموعود بدورهم في الإصلاح، سُنّة إلهية أصيلة وعقدية مصدرها القرآن، وهذا يفتح لنا الباب على ظاهرة سابعة في جميع الأنبياء، فندخل في هذه الظاهرة السابعة من الظواهر القرآنية المتَّصلة والمرتبطة بظاهرة العقيدة المتَّصلة بالإمام المهدي (عليه السلام) وغيبته.
* * *
الظاهرة السابعة: الإمام المهدي (عليه السلام) وهجرة الأنبياء وغيبتهم
يبيّن القرآن الكريم ويبرز لنا أنَّ النبيّ إبراهيم (عليه السلام) حينما أراد أن يقوم بمشروع الإصلاح الإلهي، استعصى عليه المجتمع النمرودي والنظام النمرودي، فأخذ موقع الانسحاب في السطح الظاهر وليس انسحاباً في الواقع؛ لأنَّه (عليه السلام) لم يترك مجتمعات الشرق الأوسط سدىً وعبث، بل استطاع أن يحوّلها من الوثنية إلى الملّة الحنيفية، وهذا مشروع جبّار جدَّ، فانسحب كما نسمّيه انسحاباً تكتيكياً أو تدبيرياً مؤقّتاً بتوقيت من الله عز وجل، سواء طال أمده كما في النبيّ نوح أو لم يطل كما في غيره من الأنبياء، المهمّ أنَّه في سنن الله تعالى أنَّه في السطح الحسّي المعلن الظاهر قد ينسحب المصلح ويغيب ويهاجر بحسب الإدراك الحسّي، أو بحسب الحياة المعتادة المبصرة بأدوات الحسّ، وإن كان هو ليس بغائب في الحقيقة، فهنا أيضاً يستعرض لنا القرآن الكريم هجرة وغيبة النبيّ إبراهيم (عليه السلام)، وإن كانت هي غيبة نسبية وليس غيبة مطلقة كما في النبيّ عيسى أو في الإمام المهدي، فما يقصّه لنا القرآن الكريم حول النبيّ إبراهيم: (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) (مريم: 48)، فعندما يستعصى المجتمع للإصلاح في السُنّة الإلهية يتَّخذ المصلح دور الانسحاب في الظاهر، كي لا يصفّى أو يباد أو يسلّم بأيدي جلاوزة نظم الشرّ، فالنبيّ إبراهيم اتَّخذ أسلوب الغيبة النسبية وهو أسلوب الهجرة، (وَأَعْتَزِلُكُمْ) هو نفس التعبير الذي مرَّ في سورة الصافات: (إِنِّي ذاهِبٌ)، وهذا ليس انكفاءاً وانحساراً حقيقياً من أنبياء الله والمصلحين كما يروق للبعض أن يقول: أين الإمام وخليفة النبيّ الثاني عشر المعدّ للإصلاح؟ وكيف ينكفئ أو ينحسر عن أداء المسؤولية؟ وإنَّما هو تدبير وتكتيك من النشاط في السطح المعلن إلى النشاط الخفي، كي يُفسح له المجال بشكل أرحب وأوسع ليمارس أداء دوره، فهذه سُنّة إلهية في كلّ الأنبياء، كما في النبيّ إبراهيم، ومرَّ بنا في النبيّ عيسى، فلمَّا اعتزلهم وما يعبدون أيَّده بالنصر الإلهي؛ لأنَّ أسباب القوى ومعادلات القوّة تجتمع وتتركَّز لديه في حركته وانطلاقه ونشاطه وأدائه، بخلاف ما يكون علناً ومكبَّلاً ومقيَّد، وهذه نظرية أمنية في السُنّة الإلهية للأنبياء والرسل والمصلحين الإلهيين يبيّنها القرآن الكريم، وهي الآن في البشرية أصبحت من أبجديات العلم السياسي والعلم الأمني والعلم الاستراتيجي، وكذلك في سورة العنكبوت ترد الهجرة والغيبة النسبية للنبيّ إبراهيم: (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) (العنكبوت: 26)، انكفاء وانحسار سطحي في الحسّ المعلن، لا في الحقيقة، وإلاَّ فالنبيّ إبراهيم عاد بعد ذلك مظفراً مؤيّداً منصوراً بأن قَلَبَ المجتمعات في الشرق الأوسط وبما فيها العراق أيضاً من الملّة الوثنية إلى الملّة الحنيفية المسلمة، وهذا عمل عظيم جبّار قام به شيخ الأنبياء وهو النبيّ إبراهيم، ولا تستطيع مئات وعشرات الدول أن تقلب عادات وأعراف المجتمعات فضلاً عن عقيدته، (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) (البقرة: 124)، إذن هو قد أمَّ الناس، لكن بالتدبير تحت السطح وبالتدبير الخفي، لا بالتدبير المعلن حتَّى لا يكبَّل حينذاك بأغلال وبمقاومة وبتصفية أنظمة الشرّ، فكانت النتيجة النصر والظفر المؤيَّد من قبل الله تعالى في إنجاز هذا المشروع الإلهي الكبير.
فهذه سنن يستعرضها لنا القرآن الكريم دواليك متتالية في الأنبياء والرسل؛ للتدليل على أنَّ هذه سُنّة إلهية متكرّرة دائبة دائمة، يكرّرها القرآن الكريم لنا في النبيّ إبراهيم وفي النبيّ موسى وفي النبيّ عيسى وختاماً بالمهدي المنتظر (عليه السلام)، وكذلك في النبيّ يونس عندما استعصى عليه مجتمعه في الإصلاح، فابتعد (عليه السلام) عنهم، ولكنَّها لم تكن هجرة، بل كانت متاركة، وإنَّما يتلو الهجرة عودة للإصلاح، (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) (يونس: 98)، وفي سورة الصافات حول النبيّ يونس: (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ...)، إلى أن تقول الآيات الكريمة: (وَأَرْسَلْناهُ)، تجديد الدور والقيام بالمسؤولية أكثر: (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) (الصافات: 139 _ 148)، وهذه ظاهرة أخرى في نبيّ رابع يستعرضها لنا القرآن الكريم، وهي هجرة وغيبة النبيّ يونس، كما هاجر وغاب النبيّ عيسى والنبيّ موسى والنبيّ إبراهيم، وهناك سلسلة من الأنبياء أيضاً على هذا المنوال.
الهجرة والغياب الحسّي عن المجتمعات الفاسدة:
هذه الظاهرة السابعة التي نحن فيها هي من الظواهر القرآنية العظيمة التي بيَّنها الله عز وجل في قرآنه الكريم، وهي دلائل نيّرة وبيّنة على ما امتحن به المسلمون والمؤمنون، محن اعتقادية وعقيدية في ظلّ وظرف قرون متطاولة من غيبة آخر العترة النبوية الإمام المهدي (عليه السلام)، والتي هي عقيدة يؤاخذ عليها ويحاسب عليها كلّ مسلم وكلّ مؤمن بما سطر الله عز وجل وشيَّد ودلَّل وعزَّز بيّنات ودلائل وآيات هذه العقيدة في قرآنه الحكيم، وهي من الدلائل على إمامة أهل البيت (عليهم السلام) ولاسيّما الإمام الثاني عشر الذي وعد الباري تعالى بأن يظهر على يديه الدين كلّه في أرجاء الأرض كافّة ولو كره الكافرون والمشركون، هذا الوعد الإلهي العظيم سيكون إنجازه على يد المهدي من ذرّية النبيّ وولد فاطمة وعلي، فالعقيدة بحياته وببقائه في ظلّ هذه القرون وفي العصر الراهن كما بيَّن لنا القرآن الكريم في الظاهرة السادسة التي مرَّ استعراضها في النبيّ عيسى، وأنَّ القرآن آخَذَ اليهود والنصارى وسلب عنهم الإيمان على مقالتهم بتصفية وإبادة النبيّ عيسى، أي محاسبتهم على عدم القول ببقاء حياة هذا الموعود به ليكون له دور في دولة الإصلاح الشامل دولة الإمام المهدي، فالعقيدة بالإمام المهدي (عليه السلام) وحياته إذن عقيدة في صلب الإيمان بصدق الوعد الإلهي بأن يظهر هذا الدين على الدين كلّه على أرجاء الأرض كافّة، فبأهل البيت يختم الله عواقب الأمور ويصلحها ويفشي القسط والعدل في أرجاء الأرض كافّة، وقد أقام القرآن الكريم على هذه العقيدة شواهد عديدة في سنن الأنبياء، ومرَّ بنا استعراض ستّ ظواهر، ودخلنا في الظاهرة السابعة التي هي متَّصلة ومرتبطة بالظاهرة السادسة، وهي من ظواهر القرآن الكريم للدلالة على العقيدة بالإمام المهدي وغيبته، وهي ظاهرة هجرة الأنبياء كسُنّة مشتركة، فكما مرَّ في الظاهرة السادسة في آخر محطّة من رفع الله تعالى للنبيّ عيسى وإبعاده عن مكر وكيد اليهود: (بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (النساء: 158)، وأيضاً في قوله تعالى: (وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) (آل عمران: 55)، وقد تكرَّر نفس هذا المطلب في النبيّ إبراهيم عندما هاجر وغاب نسبياً عن المجتمع النمرودي، عندما كان موقف قومه في قوله تعالى: (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ) (العنكبوت: 24)، هنا عندما يستعصي النظام الاجتماعي السياسي على المصلح الإلهي، يبدأ المجتمع بخطّة الإبادة والتصفية لوليّ الله وحجّته، فمن ثَمَّ يكون التدبير الإلهي في الانكفاء الظاهري، أي في الانكفاء بحسب الصورة الظاهرة وليس بحسب الواقع، نظير ما يذكره القرآن الكريم من تحريم الفرار من القتال أو الإدبار بدل الكرّ على الجبهة المقابلة، إلاَّ متحرّف، فيقول: (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ) (الأنفال: 16)، يعني قد يستدبر المقاتل والمقاوم، ولكن ليس لأجل التقاعس، وليس لأجل الفرار، وإنَّما لأجل التحرّف، أي التدبير ورسم الخطّة من جديد لأجل القيام بهذه المهمّة والمسؤولية، فهذا في الواقع ليس انكفاءاً ولا انحساراً حقيقة ولا غياباً حقيقة، وإنَّما هو تدبير جدّي جهدي أكثر جدّية وقوّة وصرامة وجدوائية في القيام بالمسؤولية، وبعد أن رأى قومه أن يقتلوه أو يحرّقوه قال: (إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (العنكبوت: 26)، هنا استشهد النبيّ إبراهيم في هجرته وغيبته عن المجتمع النمرودي لحفظ نفسه ولإنجاز التدبير بشكل أكثر فاعلية وفي خفاء، استشهد بعزّة الله وحكمته وقدرته، يعني أنَّ من عِزّ قدرة الله في تدبير الأمور للمصلحين الإلهيين وحكمته أن ينكفئوا بحسب الظاهر، وإن كانوا بحسب الواقع مقبلين مقدمين لأجل الإنجاز بشكل أكثر جدوائي وأكثر قوّة للمهمّة الموكَّلة إليهم، هذا ما مرَّ في النبيّ إبراهيم. فكما أنَّ الله عز وجل في رفعه للنبيّ عيسى استشهد بأنَّ ذلك من عزّة ومنعة قدرة الله: (بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (النساء: 158).
إذن هذه الهجرة والسُنّة للغياب سُنّة مشتركة في الأنبياء، ليس لأجل الفرار كما قد يتخيَّل المتخيّلون، وإنَّما لأجل معاودة الإقدام بتدبير أكثر قوّة وأكثر فاعلية، وكذلك في ما استعرضه لنا القرآن الكريم في النبيّ موسى: (فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ) (القصص: 21)، هذا الخروج ليس خروج هروب وتقاعس وإلى الأبد، وإنَّما لأجل استعادة القوّة ونظم القوّة والتدبير، لكي يكون الإقدام اللاحق إقداماً مؤثّر، كذلك ما قصَّته سورة الشعراء: (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (الشعراء: 21)، وفي يونس أيضاً مرَّت الآيات الكريمة أنَّه عندما خرج من قومه عندما استعصوا عليه عاود في التدبير الإلهي: (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) (الصافات: 147 و148)، وأيضاً كانت هجرة النبيّ يونس وغيابه عنهم نوعاً من التدبير أيضاً، بحيث آل بهم الأمر إلى الإيمان: (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) (يونس: 98).
فهذه هي سيرة متكرّرة في الأنبياء، وكذلك في سيرة سيّد الأنبياء، وإن كانت هذه يمكن اعتبارها ظاهرة ثامنة، ولكن بشكل مشترك نريد أن نسلّط الضوء على الجهة التي يتساوى عندها الأنبياء. نلاحظ أيضاً في سيرة سيّد الأنبياء محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) هجرته عندما أرادت قريش أن تبيده وتصفّيه، فهنا كانت سُنّة الله وهي الهجرة، وقبل هجرته غاب في الغار (صلى الله عليه وآله وسلم) ثلاثة أيّام، إلى أن أذن الله له بالظهور والخروج، فهذا ليس انكفاء وانحساراً وفراراً حقيقةً، وإنَّما هو استعادة تدبير واستعادة قوى ونظم برمجي لنفس القيام بمسؤولية ومسار أداء الواجب الإلهي وإنجاز الأهداف الإلهية، وكذلك في أمر النبيّ المسلمين بالهجرة إلى الحبشة، وكانت مؤقّتة، وكذلك لإخفاء النبيّ للدعوة الإسلاميّة إلى أن أمره الله عز وجل بأن يصدع بالأمر.
فنرى أنَّ هناك سُنّة إلهية مشتركة في جميع الأنبياء هي الهجرة أو الغياب، وهي في الحقيقة إعادة إقدام بشكل قوي مدبَّر، ولكي ينجز الظفر والنصر، طالت هذه الهجرة أم قصرت، كما في النبيّ عيسى فهي الآن قد طالت، لكن بتدبير من الله وحكمة، وكما في النبيّ نوح، حيث تستعرض لنا رواية أخرى عنهم (عليهم السلام) إبطاء نوح (عليه السلام) وأنَّه لمَّا استنزل العقوبة على قومه من السماء بعد أن طال الأمد، أسفر الصبح عن الليل، وصرح الحقّ عن محضه، وصفي الإيمان من الكدر، ليصدق وعده بأن يستخلف في الأرض الذين أخلصوا التوحيد والإيمان واعتصموا بحبل الولاء، ويمكّن لهم دينهم(3)، يعني هناك سُنّة إلهية في الامتحان البشري، بأنَّ برنامج الإصلاح للسطح الظاهر يتمّ بنحو التدريج وبنحو خفي، إلى أن ينتهي به المآل أن يظهر إلى العلن، وهذه أيضاً سُنّة وحكمة يستعرضها لنا القرآن الكريم في النبيّ نوح.
وهذه الظواهر السبعة القرآنية، ونحن في الظاهرة السابعة من هجرة الأنبياء وغيبتهم عن مجتمعاتهم لئلاَّ يكبَّلوا بالقيود والأعراف الظالمة السياسية لتلك المجتمعات التي تقع على عاتقهم وكاهلهم مسؤولية إصلاحها وإقامة الصلاح والإصلاح فيهم، أقام الله عز وجل الظواهر القرآنية العديدة كآيات مغزاها الشهادة لهذه العقيدة، مضافاً إلى الاعتقاد بنبوّات الأنبياء السابقين وأدوارهم، لذلك عندما يستعرض القرآن الكريم في سورة الزخرف أنَّ النبيّ عيسى سيكون من رموز الإصلاح في دولة الإمام المهدي: (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) أي النبيّ عيسى (فَلا تَمْتَرُنَّ بِها) (الزخرف: 61)، بما تفيض الآيات وتبدي الآيات، وهذا الخطاب الإلهي قبل ذلك: (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) (الزخرف: 57).
فمن البيّن الظاهر أنَّ استعراض الله عز وجل للأنبياء مضافاً إلى حكمة لزوم وجوب الاعتقاد بنبوّاتهم وبرسالاتهم وبمبادئ التوحيد والعقيدة التي بعثوا به، يفيدنا القرآن وينادي بأنَّ استعراضه لهم ولظواهرهم هو لحكمة إلهية، والدواعي لهذه الحكمة الإلهية هي كونهم أمثالاً لما يُبتلى به جمهور هذه الأمّة وأجيال هذه الأمّة الإسلاميّة من وظائف اعتقادية، وأمثالاً لما تمتحن به هذه الأمّة من محاور عقائدية، وأيّ محنة الآن أعظم من هذه المحنة والامتحان الذي امتحن به المسلمون، وامتحن به المؤمنون في أن يعتقدوا بوجود العترة المقرونة كثقل مع القرآن وعدل له وهم أصحاب الفيء، وأصحاب الخمس وأصحاب دعوة إبراهيم في ذرّيته من الإمامة من نسل إسماعيل، وأصحاب كثير من الأوسمة القرآنية التي تستعرضها طوائف آيات القرآن الكريم، وأنَّهم المطهَّرون الذين يمسّون الكتاب، وأنَّ الله سيجري على أيديهم وعده بإفشاء العدل والقسط في الأرض وإظهار الدين، هذه عقيدة قرآنية أصيلة، وهي من الامتحانات والمحن العقائدية الكبرى، ذكر القرآن الكريم هذه الفرائض الاعتقادية وأقام الله عز وجل المثال والظواهر والشواهد له، مضافاً إلى لزوم الاعتقاد بهذه الأمور وبنبوّات الأنبياء.
يستعرض القرآن الكريم حكمة أخرى وذلك في قوله: (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً)، أنَّ ذكر النبيّ عيسى (عليه السلام)، بل جميع الأنبياء السابقين فيما جرى عليهم من أحوال وأحداث وسنن، إلى جانب الفريضة الأولى الأصلية في الاعتقاد بهم وبنبوّاتهم، هناك حكمة أخرى ثانية وهي أنَّهم مثل ضُرب لما يبتلى به المسلمون أيضاً في عقائدهم بالحجج المنصوبين عليهم من قِبَل الله تعالى، فهذا صريح القرآن يقول: (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً)، في نفس الآيات التي تستعرض أنَّ عيسى سوف ينزل ويظهر لدولة الإصلاح في سورة الزخرف: (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (الزخرف: 61)، فليستيقظ هؤلاء الذين يصدّون عن التدبّر في ظاهرة النبيّ عيسى، كمثل لما يلزم عليهم الاعتقاد به في شريعة خاتم المرسلين، وما الشيء الذي يشابه في شريعة خاتم المرسلين لظاهرة النبيّ عيسى من غيبته وحماية وحراسة الله له؟ ألا وهي ظاهرة الإمام المهدي (عليه السلام) من طول غيبته، كطول غيبة النبيّ عيسى وحراسة الله له وإعداده وادّخاره للإمام المهدي ليقوما بدولة الإصلاح، وكذلك في جميع الأنبياء في الظاهرة السابعة التي نحن فيها من هجرتهم وغيبتهم وانكفائهم في الظاهر عن مسرح الأحداث ليقدموا مرَّة أخرى في التدبير وإنجاز الوعد الإلهي.
ومرَّ بنا في هجرة النبيّ إبراهيم، أنَّ قيام النبيّ إبراهيم بهذا الإنجاز الحضاري المخلَّد؛ وهو الملّة الحنيفية التي لا زالت تركة إلهية عظيمة ورثتها البشرية إلى يومنا هذ، فالأديان السماوية الباقية هي كلّها متشعّبة من الملّة الحنيفية، ومن الواضح أنَّه ليس عملاً فردي، وقد خاطبه الله بجعل منصب له: (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) (البقرة: 124)، بل هذا الإنجاز يقوم به في الواقع مجموعة من عناصر الشبكة الإلهية التي يستعرضها لنا القرآن الكريم في سورة الكهف وفي سور أخرى، كالخضر أنَّه: (عَبْداً مِنْ عِبادِنا)، كلّ منهم موصوف بأنَّه: (آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) (الكهف: 65)، هذه في الواقع ليست شبكة وجدت بنحو المصادفة والاتّفاق في زمن النبيّ موسى، بل هي في الواقع كما يحدّثنا القرآن الكريم أنَّها من سنن الله في إقامة الإصلاح وإقامة برامج السماء في مجتمعات الأرض، وفي الطبيعة البشرية على يد الأنبياء والرسل والأئمّة الخلفاء، أن يقوموا بالإمامة في الأرض: (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَْرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) (البقرة: 30)، إنَّ وجود الخليفة في الأرض هو لدرء الفساد في الدماء وسفكها، أي لإقامة الإصلاح، وهذه مجموعة من السنن والظواهر القرآنية التي يستعرضها لنا القرآن الكريم حول الأنبياء طالت أم قصرت، وهذه الغيبة والهجرة عندهم في سننهم كما مرَّ بنا في استعراض حديث عن الأئمّة (عليهم السلام) حول طول برنامج الإصلاح الذي قام به نوح، وإن كانت هي ظاهرة نستطيع أن نسمّيها ثامنة، ولكن أيّاً ما كان نستطيع أن ندرجها في الظاهرة السابعة من إبطاء الوعد بالإصلاح والنصر والظفر الذي وعد به النبيّ نوح (عليه السلام)، فإبطاء النبيّ نوح عندما استنزل من الله عز وجل الظفر والنصر من السماء على قومه، وطال هذا الانجاز الإلهي ما يقارب من العشرة قرون، لكن أسفر الصبح عن الليل، وصرح الحقّ عن محضه، وصفي الإيمان من الكدر، هو أحد حكم الله عز وجل في تدريجية الإصلاح وإطالة الوعد، كي يصدق الباري تعالى وعده بأن يستخلف في الأرض الذين أخلصوا في التوحيد والإيمان والذين اعتصموا بحبل الولاء، وليمكّن لهم دينهم ويبدّل خوفهم أمن، وهذه سُنّة إلهية في الإبطاء، وهي كظاهرة ثامنة ذكرناها وهي في الواقع إلى جانب الظاهرة السابعة، (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً)، كي تخلص العبادة له تعالى: (يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) (النور: 55)، فكيف يكون التمكين في الدين وانتشار الأمن في المؤمنين مع إثارة الفتن وإيقاع الحروب بين المخلصين من المؤمنين، ومع وجود من دان بالإيمان ولكن لم يصْفُ قلبه، ومن أسرَّ منهم النفاق ونشأت سرائره على النفاق والضلال فيكاشفونهم بالعدواة والحرب؟
هذه الظواهر الثمانية في الواقع هي ظواهر قرآنية مفعمة ضربت مثلاً كفرائض اعتقادية وكأمثال لما تمتحن به هذه الأمّة من عقائد ومحاور تجاه خلفاء النبيّ الأئمّة الاثني عشر، وثاني عشرهم الإمام المهدي (عليه السلام)، بما وعد به العالم الإسلامي والعالم البشري من دولة الإصلاح.
جهة الاشتراك بين الهجرة والغيبة:
اتَّضح أنَّ سُنّة الهجرة هي سُنّة إلهية في الأنبياء، واستعرضها لنا القرآن الكريم في مجمل أو جلّ الأنبياء السابقين، كما مرَّ بنا في النبيّ إبراهيم، والنبيّ موسى، والنبيّ عيسى، وأيضاً في النبيّ يونس، والنبيّ يوسف إنَّ صحَّ إطلاق الهجرة على ابتعاده عن أبيه وإخوته. المهمّ أنَّ هناك سلسلة من الهجرات التي استعرضها لنا القرآن الكريم في الأنبياء، للتدليل على أنَّ هذه سُنّة جارية من الله عز وجل، وكذلك في سيّد الأنبياء، والرعيل الأوّل من الذين استجابوا لدعوة الإسلام في الهجرة الأولى للحبشة بقيادة جعفر بن أبي طالب، وأيضاً في الهجرة الثانية إلى المدينة المنوَّرة عندما بات أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في فراش النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، واختفى سيّد الأنبياء في الغار، ثمّ هاجر إلى المدينة المنوَّرة، ولحق به علي بن أبي طالب، ثمّ إنَّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يدخل المدينة حتَّى لحق به ابن عمّه علي بن أبي طالب مع الفواطم وفيهنَّ فاطمة الزهراء وفاطمة بنت أسد، المهمّ أنَّ هذه الهجرات في الحقيقة نراها تتكرَّر دواليك عند الأنبياء، وإذا أردنا أن نمعن بشيء من التحليل وبشيء من الاتّعاظ والعبرة في هجرة الأنبياء عن المجتمعات الفاسدة، باعتبار أنَّ النظام الظالم الجائر الذي لا يعتمد شريعة العدالة السماوية بالتالي يكون نظاماً ينتج ويثمر الرجس والنجاسات الخلقية والمادية وما شابه ذلك، سواء وعاها البشر، أو غفل عنها، فانسحاب الأنبياء إن صحَّ أن يطلق عليه التكتيكي أو المناوري هو لأجل القيام بإقدام أشدّ ثباتاً للإصلاح، فإنَّ عملية الانكفاء في الظاهر ثمّ الانقضاض على بؤرة الفساد سُنّة إلهية في الأنبياء سمّيت هجرة وسمّيت غيبة خفاء؛ لأنَّ الغيبة في الواقع نوع من الهجرة، والهجرة هي نوع اختفاء أيضاً ونوع ابتعاد عن السطح المعلن، وكذلك في الغيبة، فهناك جهة اشتراك واضحة إذن بين الغيبة والهجرة، وهي نوع من الانكفاء والانحسار في المواجهة الظاهرية، وإن كان هناك في الواقع إمساك بأزمّة الأمور في الباطن.
هذه جهة اشتراك بين هجرات الأنبياء وهي ظاهرة سابعة قرآنية في غيبة الإمام المهدي وغيبة حجج الله، وأنَّ ذلك ليس ببدع في سنن الله تعالى في أنبيائه، بل هي نوع من المناورة ونوع من المحاسبة لإبقاء مسيرة الإصلاح ولإبقاء دفّة النهضة الإلهية قدماً لتثبيت وإقامة وإنجاء بُنى وأعمدة الإصلاح، فهذه جنبة اشتراك.
الهوامش:
(1) قال الذهبي في كتابه (سير أعلام النبلاء 13: 119 و120) تحت عنوان: المنتظر: الشريف، أبو القاسم، محمّد بن الحسن العسكري بن علي الهادي بن محمّد الجواد بن علي الرضى بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمّد الباقر بن زين العابدين بن علي بن الحسين الشهيد بن الإمام علي بن أبي طالب، العلوي الحسيني. خاتمة الاثني عشر سيّد الذين تدّعي الإماميّة عصمتهم - ولا عصمة إلاَّ لنبيّ - ومحمّد هذا هو الذي يزعمون أنَّه الخلف الحجّة، وأنَّه صاحب الزمان، وأنَّه صاحب السرداب بسامراء، وأنَّه حيّ لا يموت، حتَّى يخرج فيملأ الأرض عدلاً وقسطاً، كما ملئت ظلماً وجورًا. فوددنا ذلك - والله - وهم في انتظاره من أربع مئة وسبعين سنة، ومن أحالك على غائب لم ينصفك، فكيف بمن أحال على مستحيل؟! والإنصاف عزيز. فنعوذ بالله من الجهل والهوى. (هذا نصّ كلامه).
(2) في الرواية عن علي بن الحسن بن علي بن فضال، عن أبيه، عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) أنَّه قال: (كأنّي بالشيعة عند فقدهم الثالث من ولدى يطلبون المرعى ولا يجدونه)، قلت له: ولِمَ ذلك يا بن رسول الله؟ قال: (لأنَّ إمامهم يغيب عنهم)، قلت: ولِمَ؟ قال: (لئلاَّ يكون في عنقه لأحد بيعة إذا قام بالسيف). (عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 247/ باب 28/ ح 6).
(3) كما ورد في الرواية عن الإمام الصادق (عليه السلام)، قال: (... وأمَّا إبطاء نوح (عليه السلام): فإنَّه لمَّا استنزلت العقوبة على قومه من السماء بعث الله عز وجل الروح الأمين (عليه السلام) بسبع نويات، فقال: يا نبيّ الله، إنَّ الله تبارك وتعالى يقول لك: إنَّ هؤلاء خلائقي وعبادي ولست أبيدهم بصاعقة من صواعقي إلاَّ بعد تأكيد الدعوة وإلزام الحجّة، فعاود اجتهادك في الدعوة لقومك، فإنّي مثيبك عليه، وأغرس هذه النوى، فإنَّ لك في نباتها وبلوغها وإدراكها إذا أثمرت الفرج والخلاص، فبشّر بذلك من تبعك من المؤمنين. فلمَّا نبتت الأشجار وتأزَّرت وتسوَّقت وتغصَّنت وأثمرت وزها التمر عليها بعد زمان طويل استنجز من الله سبحانه وتعالى العدة، فأمره الله تبارك وتعالى أن يغرس من نوى تلك الأشجار ويعاود الصبر والاجتهاد، ويؤكّد الحجّة على قومه، فأخبر بذلك الطوائف التي آمنت به، فارتدَّ منهم ثلاثمائة رجل، وقالوا: لو كان ما يدَّعيه نوح حقّاً لما وقع في وعد ربّه خلف. ثمّ إنَّ الله تبارك وتعالى لم يزل يأمره عند كلّ مرَّة بأن يغرسها مرَّة بعد أخرى إلى أن غرسها سبع مرَّات، فما زالت تلك الطوائف من المؤمنين ترتدّ منه طائفة بعد طائفة إلى أن عاد إلى نيف وسبعين رجل، فأوحى الله تبارك وتعالى عند ذلك إليه، وقال: يا نوح الآن أسفر الصبح عن الليل لعينك حين صرح الحقّ عن محضه وصفي الأمر للإيمان من الكدر بارتداد كلّ من كانت طينته خبيثة، فلو أنّي أهلكت الكفّار وأبقيت من قد ارتدّ من الطوائف التي كانت آمنت بك لما كنت صدقت وعدي السابق للمؤمنين الذين أخلصوا التوحيد من قومك واعتصموا بحبل نبوّتك بأن أستخلفهم في الأرض وأمكّن لهم دينهم وأبدّل خوفهم بالأمن، لكي تخلص العبادة لي بذهاب الشكّ من قلوبهم، وكيف يكون الاستخلاف والتمكين وبدل الخوف بالأمن منّي لهم مع ما كنت أعلم من ضعف يقين الذين ارتدّوا وخبث طينهم وسوء سرائرهم التي كانت نتائج النفاق، وسنوح الضلالة، فلو أنَّهم تسنَّموا منّي الملك الذي أوتي المؤمنين وقت الاستخلاف إذا أهلكت أعداءهم لنشقوا روائح صفاته، ولاستحكمت سرائر نفاقهم، تأبّدت حبال ضلالة قلوبهم، ولكاشفوا إخوانهم بالعداوة، وحاربوهم على طلب الرئاسة، والتفرّد بالأمر والنهي، وكيف يكون التمكين في الدين و انتشار الأمر في المؤمنين مع إثارة الفتن وإيقاع الحروب، كلاَّ (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا)).
قال الصادق (عليه السلام): (وكذلك القائم، فإنَّه تمتدّ أيّام غيبته ليصرح الحقّ عن محضه، ويصفو الإيمان من الكدر بارتداد كلّ من كانت طينته خبيثة من الشيعة الذين يخشى عليهم النفاق إذا أحسّوا بالاستخلاف والتمكين والأمن المنتشر في عهد القائم (عليه السلام)). أنظر: (كمال الدين: 355 و356/ باب 33/ ح 50).
******************
الفوارق بين الهجرة والغيبة:
أمَّا جنبة الافتراق بين الهجرة أو هجرات الأنبياء، وبين الغيبة التي يقاوم بها بعض منهم _ كما مرَّ بنا _ أو هي واقعة في مسيرة الإمام المهدي (عليه السلام) والتي هي طبعاً بمعنى غيبة خفاء وليست غيبة وجود، أنَّ هناك فرقاً فيزيائياً _ إن صحّ التعبير _ أو فرقاً حسّياً مادّياً بين الهجرة والغيبة، وهو أنَّه في الهجرة ربَّما يكون ابتعاد في الوجود، أو ابتعاد بدني يكون بين النبيّ المهاجر أو الوصيّ والحجّة المهاجر والمجتمع الفاسد، يكون نوع من الابتعاد البدني أو الابتعاد الجغرافي، وإن لم يكن هو ابتعاد في التدبير، وإن لم يكن هو ابتعاد في التفاعل مع الواقع الفاسد لأجل إصلاحه، ولكنَّه ابتعاد جغرافي، أمَّا في الغيبة فليس هناك في البين ابتعاد جغرافي ولا ابتعاد بدني، وإنَّما هو عبارة عن اختفاء في المعرفة واختفاء في الشعور واختفاء في علم البشر، يعني بعبارة أخرى الاختفاء عن إدراك البشر، أو الاختفاء عن انتباه البشر للحجّة، في حين أنَّه حاضر، ومن ثَمَّ مرَّ بنا مراراً في منطق القرآن الكريم في الأنبياء السابقين، وكذلك في الإمام المهدي (عليه السلام)، وبضرورة أحاديث المسلمين أيضاً، أنَّ الغيبة مقابل الظهور، والظهور يقابله الخفاء، وليست الغيبة مقابل حضور أو ابتعاد أو مزايلة كما في الهجرة.
وفي الغيبة امتياز إيجابي تتميَّز به على الهجرة، وهو عدم الابتعاد البدني، وليس الابتعاد الحضوري، ولا الابتعاد عن كبد مركز الحدث، بينما في الصورة الظاهرة في الهجرة يبدو هناك ابتعاد عن الساحة الساخنة الملتهبة الملتحمة في الحدث إلى أن تكون هناك مناورة للانقضاض مرَّةً أخرى، وهذا جانب مهمّ في الفرق بين الغيبة والهجرة.
وهناك فارق آخر أيضاً بين الغيبة والهجرة في الأنبياء، هو أنَّ في ظلّ الغيبة يتمّ مباشرة وعلاج مواضع ومفاصل الداء والمرض، والانحراف في نظام المجتمع بشكل مباشر وبشكل عمقي وبشكل من الداخل، بخلاف الهجرة، فالهجرة تتمّ فيها معالجة المرض في بدن وجسم النظام الاجتماعي من الخارج، ومن الواضح أنَّ المعالجة من الداخل لا ريب أنَّها تكون أكثر تثبيتاً وأكثر تأثيراً عن المعالجة من الخارج، فالمعالجة من أعماق الداخل في الواقع معالجة تكون أساسية وبنيوية وجذرية وفيها دوام وثبات، بخلاف المعالجة عندما تكون من الخارج والتي قد تكون معالجة مسكّنة لبعض الوقت، ولكن ما أن يذهب ذلك المسكّن، فقد يحدث انقلاب أو ارتداد، كما حذَّر منه القرآن الكريم في قوله تعالى: (وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) (آل عمران: 144)، وإن كانت معالجة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) للبشرية لا زالت مستمرّة، ومعاجلة خلفه والثاني عشر من ولده الإمام المهدي هي يد من أيادي نبيّ الرحمة وسيّد الأنبياء، ولكن القصد هنا بيان الفرق بين معالجة الهجرة في الواقع وبين معالجة الغيبة، أنَّه في الغيبة تكون معالجة داخلية من الأعماق يتمّ بها انتشال البشرية من الانحراف.
والمغزى العظيم الذي تؤكّده هذه الظاهرة المنتشرة بشكل وافر وسيع جدَّاً في كثير أو في أكثر الأنبياء الذين استعرض لنا القرآن الكريم حياتهم، وكذلك بقيّة الحجج والأوصياء هي ظاهرة الهجرة عن المجتمعات الفاسدة والأنظمة الجائرة والعروش الفرعونية أو النمرودية أو غيره، أو اللوبي الحبري اليهودي وما شابه ذلك كما في النبيّ عيسى (عليه السلام)، فهذه الهجرة المنتشرة كظاهرة وسيعة ومتّسعة الأمثولة في كثير من الأنبياء مغزاها أنَّه ليس في التدبير الإلهي أو في سُنّة الله في الأمر الجاري أن تكون الأمور (كن فيكون)، وإنَّما الأمور تأخذ منحة تدريجية، في حين أنَّ هذه المنحة التدريجية التي تأخذ سياسة السماء والسياسة الإلهية في الإصلاح فيها نوع من المشاورة، فليست إذن هي حالة على شاكلة وسيرة واحدة، ولا هي دفعية، بل تدريجية تتَّخذ أساليب وأدواراً وألوان، وإقداماً وإحجام، وكرَّاً وفرَّ، وهذا الفرّ ليس فرار، وإن كان في صورته وظاهره كذلك، بل هو تحرّف للقتال، لقتال الفساد، ولمواجهته، فهو أسلوب المناورة وأسلوب التدبير وأسلوب المنهجة والتكيّف.
فليس حينئذٍ إلاَّ عبطاً، ومن برود من التفكير أن يظنّ الظانّ أنَّ أسلوب المصلحين في السنن الإلهية، المصلحين من قبل السماء أن يتَّخذوا شاكلة واحدة ونمطاً واحداً من البرنامج، ومن نظام الدعوة والإصلاح، بل في الواقع هناك نظم وبدائل وفصول كثيرة يمرُّ بها مسير الإصلاح لكي يصل إلى النتيجة والغاية، وهذه نكتة مهمّة أخرى يجب أن نستفيدها من الهجرة، من هجرة الأنبياء، أنَّ هناك نوعاً من الغروب، ثمّ الطلوع، نوعاً من غشيان ليل الظلمة، ثمّ يسفر الصباح عن نوره وعن ضيائه وعن نفعه، فبالتالي لا يظنّ الظانّ أنَّ السُنّة الإلهية في الإصلاح هي دائماً نهار ودائماً صباح، بل قد يكون هناك نوع من الفترة والأوقات التي تمرُّ بها تكوير الليل والنهار، فإذن هناك نوع من الطلوع والغروب والأفول والظهور وما شابه ذلك.
الفترة بين الأنبياء والحجج:
في الحقيقة نستطيع أن نضمّ إلى هذه الظاهرة السابعة فقرة أخرى مهمّة جدَّ، ألا وهي فقرة ما عرف بالفترة، وفي اصطلاح الشريعة ولسانها تكون الفترة تقريباً ظاهرة تابعة ومنضمّة إلى ظواهر الأنبياء، كظاهرة الهجرة، هناك ظاهرة الفترة بين الرسل، وقد ورد هذا التعبير أيضاً في القرآن الكريم: (قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ) (المائدة: 19)، الفترة في الواقع فتور، وهو نوع من الغروب في الظاهر لدعوة السماء، أو البرنامج الإلهي حسب العلن الظاهر، ولكن ليس هو انقطاع، وليس هو انسداد إلى الأبد، وإنَّما هو أيضاً نوع من التدبير الإلهي في سُنّة التدريج في الإصلاح، فيتبيَّن لنا إذن أنَّ سُنّة الإصلاح فيها ليل ونهار، وفيها طلوع وأفول، وفيها بزوغ وفيها غروب، فليست إذن هي على شاكلة واحدة؛ حتَّى يصل إلى نهاية المحطّة من الإصلاح الشامل التامّ العامّ في أرجاء الكرة الأرضية كافّة، كما وعد به الباري تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة: 33)، إظهار الدين: (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِْنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) (الذارايات: 56)، ففيه انتظار وفيه ترقّب وفيه توقّع.
فالانتظار يحمل معنى البصيرة من النظر، وهذا نستفيده من هذه العناوين بكثرة حول شأن الإمام المهدي (عليه السلام)، وهذه العناوين الثلاثة في الحقيقة هي كلّها مستقاة أيضاً من السنن التي جرت في الأنبياء السابقين، هجراتهم، أو الفترات.
الانتظار يعني أنَّ ثاقب النظر يرى المستقبل وأمل المستقبل وتغيّر المستقبل، وأنَّ المسيرة ليست على شاكلة واحدة، وليست سرمدية الليل، بل سيبزغ الصبح، (أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) (هود: 81).
الانتظار يحمل معنى البصيرة للمستقبل من خلال ما يتَّعظ به المسلم والمؤمن والقارئ للقرآن الكريم في ظواهر قصص الأنبياء السابقين وسنن الله في برنامج الإصلاح والدفع بعجلة مشروع الهداية والفلاح.
والانتظار أيضاً يعني التوقّع، ويعني ما سيقع، وكيفية مساهمة المؤمن نفسه في التوقع، (مُنْتَظِرٌ لأمْركُمْ، مُرْتَقِبٌ لِدَوْلَتِكُمْ) كما ورد في الزيارة الجامعة(1)، وفي زيارة أمير المؤمنين (عليه السلام) والدعاء عنده ورد أيضاً: (معتصم بحبلكم، متوقّع لدولتكم)(2)، فالتوقّع من الوقع، وبالتالي الوقوع إذ كان صفة من صفات المؤمن أنَّه متوقّع أي مشارك فيها سيكون من وقوع حدث مهمّ عظيم في الوعد الإلهي المضمون إنجازه، فلا يكون المنتظر منتظراً بدون أن يكون متوقّع، أي مشاركاً ومساهماً في وقوع هذه الحدث والوعد الإلهي العظيم، كما يبيّن لنا القرآن الكريم في هذه الظاهرة السابعة من هجرات الأنبياء أنَّ المهاجرين من المخلصين ممَّن احتفَّ بالنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، المؤمن منهم والذي كانت هجرته لله ولرسوله لا للأثرة والأموال وطمع الدني، يخصُّ القرآن الكريم المديح بالصافي النيّة منهم بقوله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَْرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) (النور: 55)، فالمؤمن منهم ممَّن كان صحيح النيّة في برنامج الهجرة هو أيضاً كان مساهماً في وقوع الإصلاح. فالمتوقِّع إذن صفة للمؤمن تجاه العقيدة بالإمام المهدي نستخلصها من هجرات الأنبياء ومن كان معهم من المخلصين، المتوقّعين، المنتظرين، والانتظار بلا توقّع يعني انتظاراً بلا مشاركة وإسهام، وهذا انتظار سلبي، والمترقّب في الحقيقة هو الذي يكون له نوع من الرقابة، وهو عبارة عن تحمّل المسؤولية أيضاً، وهو ضمانة وحراسة لمسيرة الإصلاح، وهذا أيضاً بُعد آخر في سيرة الأنبياء ومن معهم من المخلصين، أنَّ المؤمن يجب أن يتَّعظ في هذا الجانب، أن يكون منتظر، ومتوقّعاً مساهماً في الواقع، ومترقّب، أي يحافظ على حراسة وسلامة واستدامة واستمرار مسيرة الإصلاح، وهذه أيضاً نوع من المساهمة.
إذن ما نستخلصه من هذه الظاهرة السابعة ظاهرة الهجرة المنتشرة في الأنبياء، وظاهرة الفترات هو جملة من النقاط والفوائد الاعتقادية والعقدية مرتبطة ومتَّصلة بالعقيدة بالإمام المهدي وغيبته، من أنَّها سُنّة جارية لله عز وجل في أنبيائه وحججه، من حالة المناورة، وحالة التدبير، وحال الأفول ثمّ الطلوع، مع فارق إيجابي كثير في الغيبة عن الهجرة، كما مرَّ، كأسلوب وبرنامج وأداة وآلية للإصلاح، مضافاً إلى ما نستثمره من مسؤولية اتّباع أولئك المصلحين الإلهيين ووظيفتهم.
هذا ما نستطيع على أيّة حال في هذه العجالة أن نستخلصه من هذه الظاهرة السابعة، وهي ظاهرة هجرة الأنبياء والفترات التي تخلَّلت بينهم، ونبدأ الحديث بعون الله تعالى عن الظاهرة الثامنة وهي ظاهرة إبطاء الإصلاح في سيرة النبيّ نوح (عليه السلام).
تأخّر إنجاز الوعد الإلهي:
هناك أوجه تشابه متماثلة كثيرة من زوايا متعدّدة ومتنوّعة بين الظاهرة القرآنية وهي ما سرده وقصَّه واستعرضه القرآن الكريم من سيرة النبيّ نوح وسُنّة الله فيه وبين العقيدة بالإمام المهدي (عليه السلام) وغيبته، ونحن بقدر جهدنا نستعرض بعض الأمور منه، فمن تلك الأوجه المماثلة هو طول الطريق للوصول إلى فترة إنجاز الوعد الإلهي في الإصلاح، أو قد يعبَّر عنه كما ورد في جملة من الروايات في بيان هذه الظاهرة القرآنية إبطاء الوعد الإلهي لإنجاز الإصلاح، هذا الإبطاء كما يخبرنا القرآن الكريم: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ * فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ) (العنكبوت: 14 و15)، فالملفت أوّلاً في ظاهرة النبيّ نوح طول مدّة إنجاز الوعد الإلهي ما يقارب من عشرة قرون إلاَّ نصف قرن، هذه المدّة الممتدّة الطويلة البعيدة الأمد، إذن وجه المماثلة واضح بين ظاهرة النبيّ نوح القرآنية والعقيدة بحياة الإمام المهدي، وسوف يختم نجاح هذا الدين القويم على أرجاء الأرض كافّة بأهل البيت (عليهم السلام) الذين بهم يختم الله هذه الخاتمة المشرفة النيّرة الشامخة العظيمة، فكما بدأ وانتشر دين الإسلام بأهل البيت وهم النبيّ وأهل بيته (عليهم السلام) فإنَّ الله عز وجل سيختم بهم العاقبة الحسنة والمضيئة المشرقة لهذا الدين، هذا لا يختلف فيه اثنان من المسلمين، وإن اختلفوا في الاعتقاد بحياة الإمام المهدي الآن وطول مدّة غيبته وحياته، فإذن هذه عظة من القرآن الكريم لهذه الأمّة بأن سيقع في هذه الأمّة أيضاً إبطاء في إنجاز الوعد الإلهي العظيم، هذا الإنجاز وهذا الحدث الهائل الكبير الذي تستعدّ البشرية لوقوعه، برغم هذا الإبطاء إلاَّ أنَّه لا يؤدّي إلى اليأس من روح الله، (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) (يوسف: 87)، كيف وقد استعرض وبيَّن لنا القرآن الكريم أنَّ سُنّة الله تجري في أدوار من الإصلاح أنَّه قد يمتدّ ويطول به الزمن، كي تتهيَّأ البشرية وتمرّ في حالة إعداد لوقوع هذا الإصلاح العظيم، وقد كان طوفان النبيّ نوح حدثاً مجلجلاً للبشرية، لذلك يعبّر القرآن الكريم عنه بالقول: (وَجَعَلْناها)، يعني هذا الطوفان العظيم: (وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ)، فهذا الطوفان مضرب مثل واضح، لأنَّ فيه هزَّة للبشرية والكرة الأرضية بشكل عارم شامل عامّ، وهذا ما يدلّل على أنَّ الباري تعالى في سُنّته في الإصلاح المجلجل الذي يأخذ أبعاداً في أرجاء الأرض كافّة أنَّه يبطئ وقوعه ويتمادى طولاً وامتداداً وأجلاً في الكتاب المحتوم لوقوعه، وهذا أوّل وجه شبه بين ظاهرة النبيّ نوح وظاهرة الإمام المهدي (عليه السلام)، فقد وردت في الأحاديث إشارة إلى مثل هذه الزاوية من الشبه بين ظاهرة الإصلاح الموعود به النبيّ نوح وظاهرة الإصلاح الموعود به في الدين الإسلامي لإنجازه على يد المهدي من ذرّية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الثاني عشر من خلفاء النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن هذا الوجه كان على المؤمنين أن لا ييأسوا من روح الله ولا يخفق إيمانهم ولا ينقطع ولا يزول، ولا ينعدم والعياذ بالله إيمانهم عن هذه العقيدة العظيمة بالوعد الإلهي بالإصلاح في أرجاء الأرض كافّة بسبب تطاول وتأخّر هذا الإصلاح وإنجاز هذا الوعد الكبير العظيم، بل يجب عليهم أن يزيدهم ذلك من الوثوق ومن الإيمان بوقوع هذا الإصلاح، فهو نوع من الاختبار العظيم، كي يصدق الله وعده بأن يستخلف الله في الأرض الذين أخلصوا التوحيد والإيمان واعتصموا بحبل ولاية الله ورسله وأوصيائه وحججه ويمكّن لهم ويبدّلهم من بعد خوفهم أمن، ولكي تخلص العبادة له، إذ كيف يكون التمكين في الدين وانتشار الأمن في المؤمنين مع إثارة الفتن وإيقاع الحروب بين المخلصين من المؤمنين، وبين من أسرَّ منهم النفاق فيكاشفونهم بالعداوة والحرب. فلن يكون هناك صفاء في البشرية إلاَّ عندما يزداد تسليط نار المحنة ونار الامتحان والفتن ،كالمعدن يفتن بالنار إلى أن يصفو، ومن الواضح أنَّ الصفاء الذي لا شوب فيه يحتاج إلى طول مدّة. إذن هذا وجه شبه أوّل عظيم بين ظاهرة النبي نوح وظاهرة الإمام المهدي (عليه السلام) وهو إبطاء إنجاز الوعد الإلهي واتّعاظ المؤمنين، ومغزى ذلك هو نوع من الإصلاح الجذري العمقي الداخلي في الجسم والطبيعة إلى أن يبقى الخالص ليتمّ به الإصلاح التامّ، هذا أوّل وجه شبه بين الظاهرتين.
وجه الشبه الثاني الذي يمكن أن نستخلصه أيضاً هو طول عمر النبيّ نوح، فإنَّه ليس ذلك على الله بعزيز، فقد ورد في الروايات عنهم (عليهم السلام) وهذه الروايات التي وردت في الواقع معتضدة بمحكم الكتاب الذي ورد في طول فترة عهد دعوة النبيّ نوح، فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنَّ مدّة طول عمر نوح كانت ألفي وثلاثمائة سنة، كان قد عاش ثمانمائة وخمسين سنة قبل بعثته رسولاً إلى قومه ليدعوهم إلى توحيد الله وشريعته، ثمّ مكث في قومه يدعوهم ألف سنة إلاَّ خمسين عام، يعني تسعمائة وخمسين سنة، هذه هي فترة الدعوة إلى أن أنجز الوعد الإلهي، وبعد ذلك عاش قرابة الخمسمائة سنة بعد الدعوة، أي بعد أن اُنجز له الوعد الإلهي ليقيم مجتمع الإصلاح والصلاح، بأن مصَّر الأمصار وأسكن ولده البلدان(3)، يعني أنَّ العمران الذي حدث في المجتمع البشري بعد الطوفان الذي اجتاح وجه الكرة الأرضية كافّة واجتاح المجتمعات البشرية وقضى عليه، فأنشأ بعد ذلك المجتمعات والبلدان هو من اليد الشريفة للنبيّ نوح في إقامة هذا العمران عمران الصلاح والإصلاح، فإذن هذه الحقبة الطويلة من عمر النبيّ نوح عِظة أخرى عظيمة في المثل بين طول عمره وطول عمر الإمام المهدي (عليه السلام). بعبارة أخرى هذا برهان بيّن من القرآن الكريم في أنَّ من حججه من يطول عمره وتبطئ خاتمة الإصلاح على يديه في الإنجاز للوعد الإلهي، وبالتالي هذه سُنّة من الله عز وجل في إطالة عمر ذلك المصلح المعدّ للإصلاح الكبير والمدوي في الكرة الأرضية، في الإصلاح الجذري الشامل سُنّة من الله وهي إطالة عمر ذلك المصلح، وبالتالي إبطاء إنجاز الوعد؛ لأنَّه احتاج إلى نوع من الإعداد العظيم الطويل الأمد، هذا وجه شبه ثانٍ أيضاً بين النبيّ نوح والإمام المهدي.
وهناك أيضاً وجه آخر من المماثلة في الواقع تحقّق ومرَّ حدوثه في النبيّ نوح (عليه السلام)، وأيضاً في الإمام المهدي، وهو أنَّ النبيّ نوحاً بعد أن وقع هذا الزلزال المدوي في الأرض وهو الطوفان، وكان في الواقع إنجازاً للوعد الإلهي للإصلاح أوعد القوم به، بعد ذلك قام النبيّ نوح بتمصير الأمصار وأسكن ولده البلدان، ففي الحقيقة هي بداية حياة بشرية ذات طابع متكامل إصلاحي لما خلَّفته البشرية قبل الطوفان، ومن ثَمَّ عُرف أنَّ الطوفان كان محطّة مهمّة بشرية تعتبر خاتمة لحقبة، وفاتحة لحقبة جديدة، فاتحة لحقبة عمرانية متمدّنة متطوّرة في مسار النهج الإلهي والنهج المعيشي في سكن الأرض، وهي محطّة تاريخية مهمّة في عمر البشرية وحياة البشر على وجه الأرض، ما يدلّل على أنَّ هناك نقلة مدنية ونقلة تكاملية واضحة بعد إنجاز الوعد الإلهي على يد نوح، وهذا في الواقع ما تشير إليه الآيات الكريمة وبشكل خطوط عامّة عريضة من أنَّ إظهار الدين على أرجاء الأرض كافّة: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) (التوبة: 33)، وسوف يكون هو حقبة المتّقين: (إِنَّ الأْرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (الأعراف: 128)، وهي عاقبة الإصلاح في الأرض ليستخلف الله عز وجل الذين استضعفوا: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَْرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) (النور: 55)، وأنَّه: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالأَْرْضِ) (الأعراف: 96)، والتعبير بالقروية هو في مقابل التمدّن في اصطلاح القرآن الكريم في الاستعمال الظاهري لا التأويلي، بل في مقابل الإيمان وفي مقابل انتهاج نهج الإيمان ونظام الإيمان ومسار الإيمان والالتزام ببرنامج الإيمان يطلق عليه القرآن الكريم القروية، فإذا آمنوا وانتهجوا رؤية الإيمان فسيرسل الله عز وجل حينئذٍ عليهم خيرات وكنوز، وهذا هو المفاد الحقيقي من الآية الكريمة، أو من الروايات التي رواها الفريقان.
الخاتمة:
من الواضح أنَّ قصص الأنبياء عقيدة وإيمان ومعرفة ربّانية ودينية أصيلة، كذلك هي أيضاً عِظة وعبرة، كما يحدّثنا القرآن الكريم مثلاً في سورة (يوسف: 111): (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُِولِي الأَْلْبابِ)، إذن ليست قصصهم هي مجرَّد سرد قصصي، وإنَّما هي معرفة عقدية واعتقادية بهم وإيمان بهم، وهو أيضاً عبور وعبرة لنعبر منها إلى عقيدة أخرى مماثلة؛ لأنَّ العبور من شيء إلى شيء إنَّما يكون من المماثل إلى المماثل، وإلاَّ إذا لم يكن هناك وجه صلة ولا نسبة مماثلة فكيف يكون العبور من الشيء إلى شيء أجنبي عنه لا صلة له به، فالعبرة أخذت من العبور. إذن ما استعرضه لنا القرآن الكريم من قصص الأنبياء وأمثالهم في الوقت الذي هو معرفة وإيمان بكتب الله ورسله وملائكته، أيضاً هو عبرة وعبور للانتقال إلى محاور وأركان اعتقادية أخرى.
فما هي الأركان الاعتقادية الأخرى؟
هي ما افترض علينا القرآن الكريم الاعتقاد بهم: (إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (الأحزاب: 33)، وهؤلاء في هذه الأمّة هم الذين باهل بهم النبيّ الأكرم والذين خصَّهم القرآن الكريم بخصائص ومقامات، (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ) (الواقعة: 77 _ 79)، فالمطهَّرون هم أهل آية التطهير، وقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ...)، إلى أن تقول الآية: (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) (آل عمران: 7)، وهم أهل البيت (عليهم السلام) ودورهم في إنجاز وعد الله وإصلاح البشرية.
ومن ثَمَّ يستعرض لنا القرآن الكريم ظواهر الأنبياء السابقين يقول: (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً) (الزخرف: 57)، فما يستعرضه لنا القرآن في النبيّ عيسى في الوقت الذي هو عقيدة هو مثل كذلك، والمثل لمماثل، والعبرة لعبور إلى مماثل، وكذلك في نفس ما استعرضه لنا القرآن الكريم أيضاً في ظاهرة النبيّ نوح يقول تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ * فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ) (العنكبوت: 14 و15)، والآية يستدلُّ بها على ذي الآية، والآية يعبر منها إلى ذي الآية، والآية بمعنى العلامة، فالعلامة يعبر منها إلى ذي العلامة، والآيات القرآنية كلّها طافحة على أنَّ ما قصَّه لنا القرآن الكريم واستعرضه من ظواهر في النبيّ نوح هي في الواقع حكمة وعظة وعبرة وعبور ومثل وتمثّل لما يجري في هذه الأمّة من فرائض اعتقادية في حجج الله في هذه الأمّة، أوَلم يخبرنا القرآن الكريم في سورة الحجّ في آخر آية منها: (هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: 78)، فمن اجتبى؟ هل كلّ الأمّة الإسلاميّة؟ أم ثلّة منها؟ لننظر الآية الكريمة ماذا تقصُّ علينا وماذا تستعرض لنا وماذا تسمعنا: (هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ)، إذن هناك ثلّة خاصّة من هذه الأمّة التي هي من نسل إبراهيم وإسماعيل، (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ)، إبراهيم سمّى الذرّية هو وإسماعيل في دعائه: (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) (البقرة: 128)، ثمّ تقول الآية التي بعدها: (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (البقرة: 129)، إذن هم ذوو صلة بسيّد الأنبياء وخاتم الأنبياء، وأنَّ أهل البيت مجتبون بلفظة سورة الحجّ، وهذا مقام اجتباء من الله عز وجل لثُلّة من هذه الأمّة اصطفاهم على البشرية، فالعبور من هذه الظاهرة وما تقدَّم في الواقع من ظواهر عديدة، العبور من تلك الظواهر القرآنية بتوصية وبتعليم من القرآن الكريم: (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ)، اعبروا أيّها المؤمنون الكرام إلى ما هو راهن من محاور اعتقادية عقدية قد ذكرها وتلاها عليكم القرآن الكريم في نبيّه وأهل بيته المطهّرين، لتعتقدوا بذلك، ولنكون نحن وإيّاكم قد نجونا وانتفعنا ببصائر القرآن الكريم، كآيات ومثل للاعتقاد بما هو معاش وراهن من العقيدة في أهل البيت (عليهم السلام)، وما يعده الله عز وجل لهم من دور إلهي عظيم.
* * *
مصادر التحقيق
القرآن الكريم.
الاحتجاج: الطبرسي/ ت محمّد باقر الخرسان/ دار النعمان/ 1386هـ.
أعيان الشيعة: السيّد محسن الأمين/ ت حسن الأمين/ دار التعارف/ بيروت.
الأمالي: الشيخ الصدوق/ ت قسم الدراسات/ ط1/ 1417هـ/ مؤسسة البعثة.
الأمالي: الشيخ الطوسي/ ت مؤسسة البعثة/ ط 1/ 1414هـ/ دار الثقافة/ قم.
بحار الأنوار: العلاّمة المجلسي/ ط 2 المصحَّحة/ 1403هـ/ مؤسسة الوفاء/ بيروت.
بصائر الدرجات: محمّد بن الحسن الصفّار/ ت كوجه باغي/ 1404هـ/ مط الأحمدي/ منشورات الأعلمي/ طهران.
تاريخ ابن خلدون: ابن خلدون/ ط 4/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.
تاريخ الإسلام: الذهبي/ ت تدمري/ ط1/ 1407هـ/ دار الكتاب العربي/ بيروت.
تاريخ الطبري: الطبري/ ط 4/ 1403هـ/ مؤسسة الأعلمي/ بيروت.
تاريخ مدينة دمشق: ابن عساكر/ ت علي شيري/ 1415هـ/ دار الفكر/ بيروت.
التبيان: الشيخ الطوسي/ ت أحمد حبيب قصير العاملي/ ط1/ 1409هـ/ مكتب الإعلام الإسلامي.
تفسير ابن كثير: ابن كثير/ ت يوسف المرعشلي/ 1412هـ/ دار المعرفة/ بيروت.
تفسير الثعلبي: الثعلبي/ ت أبي محمّد بن عاشور/ ط1/ 1422هـ/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.
تفسير الطبري: ابن جرير الطبري/ ت خليل الميس/ 1415هـ/ دار الفكر/ بيروت.
تفسير العياشي: العياشي/ ت هاشم الرسولي المحلاتي/ المكتبة العلمية الإسلاميّة/ طهران.
تفسير القرطبي: القرطبي/ ت البردوني/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.
تفسير القمي: علي بن إبراهيم القمي/ ت طيب الجزائري/ ط 3/ 1404هـ/ مؤسسة دار الكتاب/ قم.
التفسير الكبير: الفخر الرازي/ ط 3.
تفسير مجمع البيان: الطبرسي/ ت لجنة من العلماء/ ط 1/ 1415هـ/ مؤسسة الأعلمي/ بيروت.
الخرائج والجرائح: قطب الدين الراوندي/ ط1 كاملة محقّقة/ 1409هـ/ مؤسسة الإمام المهدي/ قم.
الخصال: الشيخ الصدوق/ ت علي أكبر الغفاري/ 1403هـ/ جماعة المدرسين/ قم.
ذخائر العقبى: أحمد بن عبد الله الطبري/ 1356هـ/ مكتبة القدسي/ القاهرة.
روضة الواعظين: الفتال النيسابوري/ ت محمّد مهدي الخرسان/ منشورات الشريف الرضي/ قم.
سنن ابن ماجة: ابن ماجة القزويني/ ت محمّد فؤاد عبد الباقي/ دار الفكر/ بيروت.
سنن أبي داود: ابن الأشعث السجستاني/ ت محمّد اللحّام/ ط1/ 1410هـ/ دار الفكر/ بيروت.
سنن الترمذي: الترمذي/ ت عبد الوهّاب عبد اللطيف/ ط2/ 1403هـ/ دار الفكر/ بيروت.
سير أعلام النبلاء: الذهبي/ ط9/ 1413هـ/ مؤسسة الرسالة/ بيروت.
شرح إحقاق الحقّ: السيّد المرعشي/ ت شهاب الدين المرعشي/ مكتبة المرعشي/ قم.
شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد/ ت محمّد أبو الفضل إبراهيم/ ط1/ 1378هـ/ دار إحياء الكتب العربية/ بيروت.
الصحاح: الجوهري/ ت أحمد عبد الغفور العطّار/ ط4/ 1407هـ/ دار العلم للملايين/ بيروت.
صحيح البخاري: البخاري/ 1401هـ/ دار الفكر/ بيروت.
صحيح مسلم: مسلم النيسابوري/ دار الفكر/ بيروت.
علل الشرائع: الشيخ الصدوق/ ت محمّد صادق بحر العلوم/ 1385هـ/ منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها/ النجف الأشرف.
العمدة: ابن البطريق/ 1407هـ/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.
عيون أخبار الرضا: الشيخ الصدوق/ ت حسين الأعلمي/ 1404هـ/ مؤسسة الأعلمي/ بيروت.
الغيبة: الشيخ الطوسي/ ط1/ 1411هـ/ مؤسسة المعارف الإسلاميّة/ قم.
الغيبة: النعماني/ ت فارس حسّون كريم/ ط1/ 1422هـ/ مط مهر/ أنوار الهدى.
الكافي: الشيخ الكليني/ ت علي أكبر الغفاري/ ط5/ 1363ش/ مط حيدري/ دار الكتب الإسلاميّة/ طهران.
كمال الدين: الشيخ الصدوق/ 1405هـ/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.
كنز العمّال: المتّقي الهندي/ ت بكري حياني/ 1409هـ/ مؤسسة الرسالة/ بيروت.
مجمع الزوائد: الهيثمي/ 1408هـ/ دار الكتب العلمية/ بيروت.
المحاسن: البرقي/ ت المحدّث/ 1370هـ/ دار الكتب الإسلاميّة/ طهران.
مختصر بصائر الدرجات: الحسن بن سليمان الحلّي/ ط1/ 1370هـ/ منشورات المطبعة الحيدرية/ النجف الأشرف.
المراجعات: السيّد شرف الدين/ ت حسين الراضي/ ط2/ 1402هـ.
المزار: ابن المشهدي/ ت جواد القيّومي/ ط1/ 1419هـ/ نشر القيّوم/ قم.
المستدرك: الحاكم النيسابوري/ إشراف يوسف عبد الرحمن المرعشلي.
مسند أحمد: أحمد بن حنبل/ دار الصادر/ بيروت.
مصباح المتهجّد: الشيخ الطوسي/ ط1/ 1411هـ/ مؤسسة فقه الشيعة/ بيروت.
معاني الأخبار: الشيخ الصدوق/ 1379هـ/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.
المعجم الكبير: الطبراني/ ت حمدي عبد المجيد السلفي/ ط2 مزيَّدة ومنقَّحة/ دار إحياء التراث العربي.
من لا يحضره الفقيه: الشيخ الصدوق/ ت علي أكبر الغفاري/ ط2/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.
مناقب آل أبي طالب: ابن شهر آشوب/ ت لجنة من أساتذة النجف/ 1376هـ/ المكتبة الحيدرية/ النجف.
منية المريد: الشهيد الثاني/ ت رضا المختاري/ ط1/ 1409هـ/ مكتب الإعلام الإسلامي.
نهج البلاغة: الشريف الرضي/ شرح محمّد عبده/ ط1/ 1412هـ/ مط النهضة/ دار الذخائر/ قم.
الهداية الكبرى: الخصيبي/ ط4/ 1411هـ/ مؤسسة البلاغ/ بيروت.
ينابيع المودّة: القندوزي/ ط1/ 1416هـ/ دار الأسوة.
* * *
الهوامش:
(1) المزار لابن المشهدي: 530.
(2) المزار لابن المشهدي: 250.
(3) روى الكليني في (الكافي 8: 284 و285/ ح 329 و430) بسنده، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (عاش نوح (عليه السلام) ألفي سنة وثلاثمائة سنة، منها ثمانمائة وخمسين سنة قبل أن يبعث، وألف سنة إلاَّ خمسين عاماً وهو في قومه يدعوهم، وخمسمائة عام بعدما نزل من السفينة ونضب الماء، فمصَّر الأمصار وأسكن ولده البلدان...).
/ 1