خطبه 023-در باب بينوايان
(اما بعد) اصله مهما يكن من شى ء بعد الحمد و الصلاه، فقلبت (مهما) (اما) و حذفت سائر الكلام و بقى لفظه (بعد) (فان الامر) المراد به الجنس من الاجال و الارزاق، و المناصب، و ما اشبه ذلك (ينزل من السماء الى الارض) كنايه عن ان التقديرات انما تكون فى السماء (كقطرات المطر) فكما ان المطر ينزل من السماء كذلك التقديرات، كما قال سبحانه (و فى السماء رزقكم و ما توعدون) (الى كل نفس بما قسم لها) اى لتلك النفس، و النفس مونث سماعى (من زياده او نقصان) فى كل شى ء، زياده المال او نقصانه، زياده العلم و نقصانه، زياده الاولاد او نقصانهم، و هكذا (فاذا راى احدكم لاخيه غفيره) اى زياده و كثره (فى اهل او مال او نفس) بان صار له اهل و عشيره، او اموال كثيره، او اولاد و بنين و حفده (فلا تكونن) تلك الغفيره (له) اى لهذا الرائى (فتنه) و امتحانا، بان يحسد هذا الانسان الذى يرى اخيه و يعمل للحط منه، كما هو عاده الكثيرين، فانهم اذا راو رفعه اخوانهم فى امر من الامور الدنيويه كادو لهم و عملوا لتحطيمهم.و قد قال الامام قوله السابق (ان الامر ينزل.) تمهيدا لهذا، فان من علم ان الامور بالزياده لاحد من تقدير الله سبحانه، فما السبب فى حسده وكيده لمن زيد له و الزياده لم تكن باختياره و انما باراده الله سبحانه؟ و الذى ينبغى ان يعمل هذا الحاسد و يدعو ليقدر له مثل ما قدر لاخيه، قال سبحانه (و قل اعملوا) (و قال و قال ربكم ادعونى استجب لكم) (فان المرء المسلم البرى من الخيانه) هذا تاكيد لقوله (لا تكونن له فتنه) و عله لذلك و حاصله ان المسلم ارفع من ان يحسد غيره، بل اللازم عليه- اذ راى رفعه اخيه- ان ينتظر احد الحسنيين، اما الرفعه له من الله سبحانه فى الدنيا، و اما ان يرزق الخير فى الاخره، و قوله (فان) ابتداء الكلام و ما ياتى من قوله (كان) خبر له، و قد وصف عليه السلام المومن المنتظر لاحد الحسنيين، بعدم الخائن لدينه، لانه اذا خان لم يرج احديهما، فان نصيب الخائن الشقاء و لا السعاده.(ما لم يغش دنائه) اى لم يعمل، من (غشى) بمعنى ارتكب و احاط بالشى ء، و الدنائه العمل الدنى القبيح (تظهر) اى دنائه ظاهره، فى مقابل ما لو غشى دنائه جاهلا بكونها دنائه (فيخشع لها اذا ذكرت) اى يخاف من ذكرها و يوجل، فان الانسان العامل للقبيح يخجل من ذكر عمله و يخشع نفسيا من افشائه (و تعزى بها) اى بتلك الدنائه (لئام الناس) فان الدنائه يغر بها الادنياء، و الاغراء هو الالزام للشى ء، كان ال
شيطان يغريهم يغويهم و يلزمهم اياها (.خبر قوله (فان المرء المسلم) و قوله (تظهر.) جمله معترضه لوصف الدنائه (كالفالج الياسر) الياسر هو المقامر، و الفالج بمعنى الظافر و هذا من اضافه الصفه الى الموصوف، فان اصله كان كاليا سر الفالج.(الذى ينتظر اول فوره) اى نجاح، من (فار) اذا غلى، فان الانسان الناجح لعلوه و ارتفاعه، كالمرجل الذى يغلو الى فوق (من قداحه) جمع (قدح) و هو سهم المقامره، فانهم كانوا يكتبون على السهام اسامى الانصبه او اسامى الاشخاص، فيجعلون بعض السهام اعلى من بعض، و بعض السهام فارغه لا نصيب لها (توجب) تلك القداح (له) اى لهذا الفالج الياسر (المغنم) اى الغنيمه و الفائده و ربح القمار (و يرفع بها) اى بسبب هذه القداح (عنه) اى عن الفالج الياسر (المغرم) اى الغرامه، فهو مصدر ميمى قالوا و كان من ترتيب قمارهم انهم يعدون احد عشر سهما، يكون لسهم نصيب و للثانى نصيبان و للثالث ثلاثه انصبه و هكذا الى السهم السابع الذى له سبعه انصبه، و يجعلون اربعه منها فارغه لا نصيب لها، و يكتبون بذلك فوق السهام، ثم ياتون بجزور عن صاحبها بغير ان يدفعوا اليها قيمتها فينحرونها و يقسمونها عشره اجزاء متساويه.ثم ياتى بشخص تعصب عينه، و
تعطى القداح فيخرج احدها باسم احدهم، فما كان فى ذلك السهم من الاجزاء يعطى الى المسمى الاول، و هكذا حتى تتم الاجزاء العشره للابل، و هولاء ياخذون الاجزاء بدون اعطاء ثمن البعير، فمن كان ظافرا خرج له سهم السبعه و دونه السته و هكذا، و بعد تمام اجزاء الجزور، من خرج سهم باسمه لزم عليه ان يغرم من ثمن البعير بمقدار حصص سهمه الخارج باسمه حتى يتم الثمن، و من خرج باسم احدى تلك السهام الفارغه فلا يخسر و لا يربح، مثلا اذا خرج السهم الاول باسم زيد و كان مكتوبا عليه اربعه، اخذ اربعه اجزاء من الجزور، ثم خرج السهم الثانى باسم عمرو و كان مكتوبا عليه سته اخذ سته اجزاء من الجزور ثم اذا خرج السهم الثالث باسم بكروكان مكتوبا عليه سبعه لزم ان يغرم سبعه اعشار ثمن الجزور، و هكذا حتى يتم الثمن و يتم اجزاء الجزور.فكما ان الياسر المقدر له الظفر و النجاح ينتظر الخير، كذلك المسلم البرى ء من العيب ينتظر احد الحسنين، و هذا من باب تشبيه اهل الدين فى فوزهم بالاخره او حسنى الدنيا، باهل الدنيا، تقريبا لاذهان اولئك الناس الذين كانوا قريبى عهد بهذه الاعمال المقامريه (و كذلك المرء المسلم البرى ء من الخيانه) فى دينه فان العاصى خائن لنفسه و لدينه (ين
تظر من الله احدى الحسنيين) اى احد الامرين الحسنين (اما داعى الله) اى الموت، الذى يوتى بسبب داعى الله و هو ملك الموت الذى يدعو من قبله سبحانه (فما عند الله خير له) من الدنيا كما قال سبحانه: (و ما عند الله خير).(و اما رزق الله) فى الدنيا (فاذا هو ذو اهل و مال) بفضله سبحانه (و معه دينه) اذ لم يحسد غيره الذى راه متفرقا عليه (و حسبه) اى شرفه الذى حصله من علم و فضيله و ما اشبه، فاذا كان المرء من بين احد الحسنيين دنيا او اخره، فما الداعى له الى ان يحسد غيره الذى راه متفوقا عليه، فانه اما ان يبقى- فى الدنيا- على وضعه المنحط حتى ياتيه الموت، فقد حصل على جزاء الاخره و نعيم الجنه، و اما ان يرتفع من الدنيا بفضله سبحانه، فقد حصل على خير الدنيا، و من هو الى خبر لا ينبغى ان يحسد الغير، نعم هذا مشروط بكونه نظيفا من الذنوب، كما عبر عنه عليه السلام بقوله (ما لم يغض دنائه.) و قوله (البرى ئمن الخيانه) و حيث ان جمله الشرط و هى قوله (فان المرء المسلم البرى.) ابتعدت عن الجواب الذى هو قوله (ينتظر.) كرر الشرط بقوله عليه السلام (و كذلك.) (ان المال البنين حرث الدنيا) اى زرعها الذى يزرعه الانسان فى دار الدنيا ثم يرى حال زرعه ف
ى الدنيا (و العمل الصالح) الذى يعمله الانسان يرى جزائه فى الاخره (حرث الاخره و قد يجمعهما الله لا قوام) كما ينسب الى الامام عليه السلام قوله (ما احسن الدين و الدنيا اذا اجتمعا) (و اقبح الكفر و الافلاس بالرجل) و اذ بين عليه السلام حرمه افتتان الانسان بما يرى من نعمه الغير، قال (فاحذروا من الله) اى خافوا منه سبحانه (ما حذركم من نفسه) فانه تعالى حذركم من المعاصى و الاثام كما قال سبحانه (و اياى فارهبون) (و اخشوه خشيه ليست بتعذير) اى خشيه خاليه من الاشياء الموجبه لعذر الانسان، فان الانسان قد يخش الله سبحانه، لانه قد اذنب فيخشى من ذنبه، و قد يخش الله سبحانه بدون ان كان قد اذنب، و انما رفعه مقامه سبحانه توجب الخشيه، فان (تعذير) مصدر (عذر) بمعنى لم يثبت له عذر.(و اعملوا فى غير رياء و لا سمعه) فلا يكن اتيانكم بالعمل الصالح لاجل ان يرى الناس عملكم او يسمعون بما عملتم فيحسنون عملكم، فان الرياء و السمعه يبطلان الاعمال الصالحه (فانه من يعمل لغير الله) اى ياتى بالاعمال الصالحه لكن بدون ان يكون قصده الله سبحانه بل قصده تحسين الناس له (يكله الله الى من عمل له) اى ان الله سبحانه لا يعطيه اجر عمله، و انما ينبغى ان يطلب ثواب ع
مله ممن رائى لاجله، مثلا لو اعطى المال للفقير لاجل تحسين الناس له، كان ثواب انفاقه على الناس لا على الله، اذ كيف يعمل الانسان لشخص و يريد جزائه و اجره من اخر؟ (نسئل الله منازل) جمع المنزله (الشهداء) الذين قتلوا فى سبيل الله (و معايشه السعداء) فى الاخره (و مرافقه الانبياء) بان نكون من اتباعهم فى الدنيا حتى نحشر فى زمرتهم و نكون رفيقا لهم فى الاخره.(ايها الناس انه لا يستغنى الرجل- و ان كان ذا مال- عن عشيرته) اى قبيلته التى جمعهم و اياه احد الاجداد القريبين (و دفاعهم) اى لا يستغنى عن دفاع العشيره (عنه بايديهم و السنتهم) فان لكل انسان حساد و اعداء، خصوصا اذا كان نابها عظيما، و العشيره تاخذها الحميه نحو قريبهم فهم يدافعون عنه فى المشاكل و الازمات (و هم اعظم الناس حيطه) اى احاطه، كالسور المحيط بالبلد الذى يحفظه من هجوم الاعداء (من ورائه) يحفظونه من مهاجمه الاعداء و همز الحساد و الانداد (و المهم لشعثه) اى اكثر الناس لما و جمعا لتفرقه و انتشاره فان الشعث بمعنى الانتشار، فان الانسان باعتبار عرضه و ما له و اهله منتشر فى الناس فاذا لم يكن له من يجمع امره، نال كل عدو شيئا منه، و هذا تشبيه بمن انتشر ما له، فاذا لم يكن له من يجمع له ما له ضل بعضه و صار عرضه للنهب.(و اعطفهم عليه) اى يميلون اليه، من العطف بمعنى الميل (عند نازله) اى مصيبه نازله و انما قيل نازله، لانها تنزل من السماء، بكونها مقدره هناك (اذا نزلت به) من فقد مال او جاه او اهل او ما اشبه (و لسان الصدق يجعله الله للمرء فى الناس) بان يمدحوه و يذكروه بالحسن، و انما سمى لسان الصدق، لان الانسان
النزيه، اذا مدحه الناس كانوا صادقين فى مدحهم له و اذا ذموه كانوا كاذبين (خير له من المال يورثه غيره) و هذا كنايه عن لزوم سير الانسان بالسيره الحسنه، و تحليه بالفضائل حتى يبقى له ذكر طيب فى الناس، و معلوم ان الذكر الطيب خير من جمع الانسان للمال حتى يبقى بعده، فان المال خاص لبعض الورثه فى مده قليله ثم يفنى، اما الذكر الحسن فيبقى مدى الازمان، و قد دعا ابراهيم عليه السلام قائلا (و اجعل لى لسان صدق فى الاخرين).اى من تلك الخطبه (الا) كلمه تنبيه (لا يعدلن احدكم عن القرابه) بان يهمل قريبه و لا يرعاه بالمال و العطف (يرى بها الخصاصه) الخصاصه الفقر، اى اذا راى بقريبه الفقر (ان يسدها) اى يسد تلك الخصاصه، و معنى سدها رفعها بالمال، و هذا بدل الاشتمال لقوله (القرابه) اى لا يعدلن احدكم عن سد خصاصه القرابه (بالذى) اى بالمال و الجاه و العون، الذى (لا يزيده ان امسكه) يعنى ان امسك ذلك العون عن قريبه لا يزيد الممسك شيئا، ان اموال الدنيا و سائر شئونها اذا امسكها الانسان لا تزيد الانسان شيئا، فان المقدر كائن لا مما له (و لا ينقصه ان اهلكه) يعنى لو بذل ذلك المال و اهلكه فى سبيل قريبه، لا ينقص منه شى ء، و قد تقدم قول الامام عليه السلام فيما ينسب اليه.اذا اقبل الدنيا عليك فجد بها على الناس طرا قبل ان تتفلت فلا الجود مضنيها اذا هى اقبلت و لا البخل مبقيها اذا هى ولت (و من يقبض يده عن عشيرته) اى لا يساعدهم بالمال و العون (فانما تقبض منه) اى من هذا الانسان (عنهم) اى عن العشيره (يد واحده) فان يد الانسان واحده لا اكثر (و تقبض منهم) اى من جانب عشيرته (عنه) اى من هذا الانسان القابض يده (ايد) جمع يد (كثيره) فان الانسان اذا لم يسا
عد الناس كف كل يد المساعده عنه و ليس من العقل ان يكف الانسان يده ليخسر ايادى كثيره (و من تلن حاشيته) بمعنى ان يكون انسانا لينا، و الحاشيه الاطراف تشبيه بالشى ء اللين جوانبه الممكن لان يداس و يقترب منه (يستدم من قومه الموده) اى يكون يلين الحاشيه طالبا لدوام حب قومه له، فان الناس ينفرون من الشخص الخشن، اما الشخص اللين الهش البش ذو الاخلاق الفاضله، فالناس يجتمعون حوله، لانه لا يوذيهم بلسانه او عمله.