خطبه 128-فتنه هاى بصره
اقول:الملحمه:الوقعه العظيمه. و هذا الفصل من خطبه له عليه السلام بالبصره بعد وقعه الجمل ذكرنا منها فصولا فيما سبق، و الخطاب مع الاحنف بن قيس لانه كان رئيسا ذا عقل و سابقه فى قومه، و كان اسمه صخر بن قيس بن معاويه بن حصن بن عباد بن مره بن عبيد بن تميم، و قيل:اسمه الضحاك. و كنيته ابوبحر. و بسببه كان اسلام بنى تميم حين دعاهم رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فلم يجيبوا. فقال لهم الاحنف:انه يدعوكم الى مكارم الاخلاق و ينهاكم عن ملاعبها فاسلموا. و اسلم الاحنف و شهد مع على عليه السلام صفين و لم يشهد الجمل مع احد الفريقين، و الضمير فى قوله:كانى به. لصاحب الزنج و اسمه على بن محمد علوى النسب، و الجيش المشار اليه هم الزنج، و واقعتهم بالبصره مشهوره و اخبارهم و بيان احوالهم و تفصيل واقعتهم يشتمل عليها كتاب منفرد فى نحو من عشرين كراسه فليطلب علمها من هناك، و اما وصف ذلك الجيش بالاوصاف المذكوره فلان الزنج لم يكونوا اهل خيل و لا جند من قبل حتى يكون بالاوصاف المشار اليها، و اثارتهم التراب باقدامهم كنايه عن كونهم حفاه فى الاغلب سائرين بالاقدام فهى (من اعتياد الحفاه- خ- ) باعتبار الحفاء و مباشره الارض بالخشبو نحوه فكانت مظنه اثاره التراب عوضا من حوافر الخيل، و وجه شبهها باقدام النعام ان اقدامهم فى الاغلب قصار عراض منتشره الصدور و مفرقات الاصابع فهى من عرضها لايتبين لها طول فاشبهت اقدام النعام فى بعض تلك الاوصاف، ثم اخبر بالويل لمحال البصره و دورها المزوقه من اولئك، و استعار لدورها لفظ الاجنحه، و اراد بها القطانيات التى تعمل من الاخشاب و البوارى بارزه عن السقوف كالوقايه للمشارف و الحيطان عن آثار الامطار و هى اشبه الاشياء فى هيئتها و صوره وضعها باجنحه كبار الطير كالنسور، و كذلك استعار لفظ خراطيم الفيله للميازيب التى تعمل من الخوص على شكل خرطوم الفيل و تطلى بالقار يكون نحوا من خمسه ازرع او ازيد تدلى من السطوح حفظا للحيطان من اذى السيل ايضا، و هى اشبه الاشياء فى صورتها بخراطيم الفيله، و اما وصفه لهم بانه لايندب قتيلهم و لايفتقد غايبهم. قال بعض الشارحين:ذلك وصف لهم بشده الباس و الحرص على الحرب و القتال و انهم لايبالون بالموت و لاياسفون على من فقد منهم. و اقول:و الاشبه ان ذلك لكونهم لا اصول لهم و لا اهل لاكثرهم من ام او اخت او غير ذلك ممن عادته ان ينوح و يندب قتيله و يفتقد غائبه لكون اكثرهم غرباء فى البصره فمن قتل
منهم لايكون له من يندبه و من غاب لايكون له من يفتقده. و قوله:انا كاب الدنيا لوجهها. اشاره الى زهده فيها، و تنبيه على فضيلته. يقال:كببت فلانا لوجهه اذا تركته و ما التفت اليه، و قادرها بقدرها:اى معامل لها بمقدارها، و لما كان مقدارها حقيرا عنده كان التفاته اليها التفاتا حقيرا حسب ضروره البقاء فيها، و كذلك ناظرها بعينها:اى معتبرها بالعين التى ينبغى ان تعتبر بها الدنيا من كونها غراره غداره حائله الى غير ذلك من اوصافها، و انها مزرعه الاخره و طريق اليها غير مطلوبه لذاتها. و بالله التوفيق.اقول:المجان بالفتح:جمع مجن بكسر الميم و هو الترس. و المطرقه بفتح الراء و التخفيف:التى تطبق و تخصف كطبقات النعل. يقال:اطرقت بالجلد اذا البست. و السرق بفتح السين و الراء:شقق الحرير واحدتها سرقه. قال ابوعبيده:هى البيض منها، و هو فارسى معرب اصله سره:اى جيد كالاستبرق الغليظ من الديباج. و يعتقبون الخيل:يحتبسونها و يرتبطونها. و استحر القتل و حر:اى اشتد. و اعلم انه عليه السلام من عادته اذا اراد الاخبار عن امر سيكون فانه يصدره بقوله:كانى كما سبق من اخباره عليه السلام عن الكوفه كانى بك يا كوفه، و كقوله:كانى به و قد نعق بالشام. و وجه ذلك ان مشاهدته بعين بصيرته لما افيض على نفسه القدسيه من انوار الغيب على سبيل الالهام بواسطه الاستاد المرشد صلى الله عليه و آله و سلم تشبه المشاهده بعين البصر فى الجلاء و الظهور الخالى عن الشك فلذلك حسن حرف التشبيه صدرا، و ضماير الجمع فى الفصل تعود الى الاتراك، و شبه وجوههم بالتروس المطبقه، و وجه الشبه فى تشبيهها بالتروس الاستدراه و العظم و الانبساط، و فى كونها مطرقه الخشونه و الغفله و هو تشبيه للمحسوس بالمحسوس، و اما وصفه لهم بمراعاه لبس السرق و الديباج، و اعتقاب
الخيل فاعتبار احوال الترك تشهد بصدقه، و اما اخباره عن استحرار القتل الى الغايه المذكوره حين ظهورهم فمما يشهد بصدقه التواريخ بالوقايع المشهوره بينهم و بين العرب و غيرهم من المسلمين فى ايام عبدالله بن الزبير، و فى ايام قتيبه بن مسلم، و يكفى فى صدق ذلك الى الغايه المذكوره ما شهدناه من وقايع التتار مع المسلمين و قتلهم اياهم بالعراقين و خراسان و غيرها من البلاد فاما جوابه عليه السلام للكلبى ان ذلك ليس بعلم غيب، و انما هو تعلم من ذى علم، و تعديده للمعلومات بعلم الغيب الذى لايعلمها الا الله سبحانه فحق و صدق، و قد نبهنا على الفرق بين علم الغيب و الاخبار عن المغيبات فى المقدمات لكن ينبغى ان يعلم ان التعلم الحاصل له من قبل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم ليس على سبيل ان كل ما القى اليه صور جزئيه و وقايع جزئيه بل معناه هو اعداد نفسه القدسيه على طول الصحبه من حيث كان طفلا الى ان توفى الرسول صلى الله عليه و آله و سلم لهذه العلوم بالرياضه التامه، و تعليم كيفيه السلوك و اسباب تطويع النفس الاماره بالسوء للنفس المطمئنه حتى استعدت نفسه الشريفه للانتقاش بالامور الغيبيه، و انتقشت فيها الصور الكليه فامكنه الاخبار عنها و بها، و ل
ذلك قال:و دعا لى بان يعيه صدرى و تضطم عليه جوانحى:اى يضبطه قلبى و يشتمل عليه، و كنى بالجوانح عن القلب لاشتما لها عليه و لو كانت تلك العلوم صورا جزئيه لم يحتج الى مثل هذا الدعاء فان فهم الصور الجزئيه و ضبطها و الاخبار عنها ممكن لكل الصحابه من العوام و غيرهم، و انما الصعب المحتاج الى الدعاء بان يعيه الصدر و يستعد الاذهان لقبوله هو القوانين الكليه، و كيفيه انشعابها و تفصيلها و اسباب تلك الامور المعده لاداركها حتى اذا استعدت النفس بها امكن ان ينتقش بالصور الجزئيه من مفيضها كما سبقت الاشاره اليه.