يتقاربان فنهاية أحدهما الفرماءان و نهاية الآخر القلزم و بينهما من المسافة قدر .
فصل في الكلام في أن الله تعالى لا يجوز أن يكون له مكان :
اعلم أيدك الله أن المكان عندنا هو ما أحاط بالمتمكن فلما كان اللهتعالى لا يجوز عليه ذلك لأنه يقتضي حصره و تناهيه علم أنه لا يجوز أن يكون فيمكان. و من خالفنا في حد المكان قال إنه ما تمكن عليه و تصرف فيه و هذا لا يجوزأيضا على الله تعالى لأن المتمكن معتمد و مماس أيضا لمكانه و الاعتماد و المماسةمن صفات المحدثين و الله تعالى قديم فعلم أنه لا يكون في مكان. و ذو المكان أيضاقد حصل له حيز فصار في جهة دون جهة و لا يكون كذلك إلا جسم أو بعض جسم و قد ثبت أنالله تعالى ليس بجسم و لا بعض جسم فعلم بطلان المكان. ثم إنه لو كان له مكان لميخل مكانه من حالين إما أن يكون قديما أو محدثا. و لا يصح أن يكون قديما لمشاركتهلله تعالى في القدم و قد ثبت أنه لا قديم إلا هو وحده. و لو كان المكان محدثا لكانالله سبحانه قبل إحداثه لا يخلو من قسمين إما أن يكون محتاجا إلى المكان أومستغنيا عنه. و لا يجوز أن يكون لم يزل محتاجا إليه لما في ذلك من صفة النقص الذيلا يكون للقديم. و إن كان غنيا عنه قبل وجوده فلا يجوز أن يحتاج إليه بعد ذلك لأنحاجته تخرجه عن قدمه و تشابه بينه و بين خلقه فوجب نفي المكان عنه.
فإن قيل أ ليس من قولكم إن الله تعالى بكل مكان قلنا بلى و معنى ذلك أنهعالم بكل مكان و بما فيه حافظ له و هذا معروف في اللغة يقول القائل لصاحبه إني معكحيث كنت و إني لا أغيب عنك و يريد لا أجهل ما تعمله و لا يخفى علي شي ء منه و يقالإن الرجل في صلاته و في بناء داره و ليس المراد أنه متمكن أو حال فيها و إنمايريدون أنه يفعلها و يدبرها. فإن قيل أ و ليس في القرآن أن له عرشا و كرسيا قلناهو كذلك و العرش المذكور في القرآن على وجهين أحدهما قوله سبحانه الرَّحْمنُ عَلَىالْعَرْشِ اسْتَوى و قد قال أهل العلم في ذلك إن العرش هنا هو الملك و استواؤهعليه هو استيلاؤه عليه بالقدرة و السلطان. و استشهدوا في ذلك بشواهد منها قولالشاعر في ذكر العرش و أنه الملك :
إذا ما بنو مروان ثلث عروشهم
و أودوا كما أودت أياد و حمير
و أودوا كما أودت أياد و حمير
و أودوا كما أودت أياد و حمير
إذا ما علونا و استوينا عليهم
تركناهم مرعى لنسر و كاسر
تركناهم مرعى لنسر و كاسر
تركناهم مرعى لنسر و كاسر
وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍثَمانِيَةٌ
فقد قال العلماء في ذلك إن هذا العرش بنية خلقها الله تعالى في سمائه وأمر الملائكة بحملها لا ليكون عليها تعالى الله عن ذلك و لكن لما رآه من الصلاح فيتعبدهم بحملها و تعظيمها كما أنه سبحانه تعبد بني آدم بتعظيم الكعبة في الطوافحولها و قال إنها بيته لا ليسكنها تعالى الله عن ذلك فأما الكرسي فالذي نذهب إليه فيه أنه العلم .
روي ذلك عن العالم الإمام الصادق جعفر بن محمد (ع) قال
وَسِعَ كُرْسِيُّهُالسَّماواتِ وَ الْأَرْضَ
يعني علمه .
و قد روي أيضا في التفسير من طريق العامة عن ابن عباس و مجاهد والضحاك و غيرهم. و معنى الكلام دال عليه و أول الآية تقتضيه لأن الله تعالى أخبرعن علمه فقال
يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ.
فوصل ذكر الكرسي بذكر العلم على طريق الوصف له و الإبانة عنه فكانكقوله في موضع آخر رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ ءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً.
فإن قيلما معنى رفعكم أيديكم نحو السماء في الدعاء و ما معنى قوله سبحانه إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ.
قلنا الجواب :
عن ذلك أنا إنما رفعنا أيدينا نسترزق من السماء لقوله تعالى وَ فِي السَّماءِرِزْقُكُمْ وَ ما تُوعَدُونَ. و إنما جاز أن يقال إن الأعمال تصعد إلى الله تعالىلأن الملائكة الكرام حفظة الأعمال مسكنهم السماء. و أيضا لأن السماء أشرف فيالخلقة من الأرض فلذلك تعرض الأعمال فيها على الله سبحانه و بالتوجه إليها دعيالله تعالى و كل ذلك اتساع في الكلام و ليس فيه ما يوجب أن يكون الله سبحانه علىالحقيقة في السماء.
و نحن نرى المسلمين يقولون للحجاج هؤلاء زوار الله و إنما هنزوار بيت الله. فإن قيل فكيف هو ?
فالجواب ;
أن كيف استفهامعن حال و الله لا تناله الأحوال و الذي ساق إليه الدليل هو العلم بوجوده سبحانه و أنه لا شبيه له .
جاء في الحديث أن أمير المؤمنين (ص) كان يقول إذا سبح الله تعالى و مجدهسبحانه من إذا تناهت العقول في وصفه كانت حائرة عن درك السبيل إليه و تبارك من إذاغرقت الفطن في تكييفه لم يكن لها طريق إليه غير الدلالة عليه .
فصل في ذكر العلم و أهله و وصف شرفه و فضله و الحث عليه و الأدب فيه :
قال الله عز و جل إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ و قال سبحانه
هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَإِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ .و قال رسول الله (ص) طلب العلم فريضة على كل مسلم و مسلمة .
و قال العلمعلمان علم في القلب فذلك العلم النافع و علم في اللسان فذلك حجة على العباد .
و قال العلمعلمان علم الأديان و علم الأبدان .
و قال أربع تلزمكل ذي حجى من أمتي قيل و ما هن يا رسول الله فقال استماع العلم و حفظه و العمل بهو نشره .
و قال العلمخزائن و مفتاحها السؤال فاسألوا يرحمكم الله فإنه يؤجر فيه أربعة السائل و المجيبو المستمع و المحب لهم .
و قال من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين .
و قال إن اللهلا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس و لكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لميبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا و أضلوا .
و قال من أرادفي العلم رشدا فلم يزدد في الدنيا زهدا لم يزدد من الله إلا بعدا .
و قال أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (ع) تعلموا العلم فإن تعليمه حسنة و طلبه عبادة و البحثعنه جهاد و تعليمه لمن لا يعلمه صدقة و بذله لأهله قربة لأنه علم الحلال و الحرامو سبل منازل الجنة و الأنيس في الوحشة و الصاحب في الغربة و المحدث في الخلوة و الدليلعلى السراء و الضراء و السلاح على الأعداء و الزينة عند الأخلاء يرفع الله بهأقواما فيجعلهم للخير قادة و أئمة تقتص آثارهم و يقتدى بفعالهم و ينتهى إلى رأيهمترغب الملائكة في خلتهم و بأجنحتها تمسحهم و يستغفر لهم كل رطب و يابس لأن العلمحياة القلوب و مصابيح الأبصار من الظلم و قوة الأبدان من الضعف و يبلغ بالعبادمنازل الأخيار و الدرجات العلى و به توصل الأرحام و يعرف الحلال من الحرام و هوإمام العمل و العمل تابع له يلهمه الله أنفس السعداء و يحرمه الأشقياء .
و قال الكلمة من الحكمة يسمع بها الرجل فيقول أو يعمل بها خير من عبادة سنة .
و قال تعلموا العلم و تعلموا للعلم السكينة و الحلم و لا تكونوا جبابرة العلماء .
و قال شكر العالم على علمه أن يبذله لمن يستحقه .
و قال لا راحة في العيش إلا لعالم ناطق أو مستمع واع .
و قال اغد عالما أو متعلما و لا تكن الثالث فتعطب .
و قال إنالملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضي بما يصنع .
و قال لو أنحملة العلم حملوه بحقه لأحبهم الله و ملائكته و أهل طاعته من خلقه و لكنهم حملوه لطلب الدنيا فمقتهم الله و هانوا على الناس .
و قال العلومأربعة الفقه للأديان و الطب للأبدان و النحو للسان و النجوم لمعرفة الأزمان .
و قال الباقرعالم ينتفع بعلمه أفضل من سبعين ألف عابد .
و قال من أفتىالناس بغير علم و لا هدى لعنته ملائكة الرحمة و ملائكة العذاب و لحقه وزر من عمل بفتياه .
و قال الصادق عتفقهوا في دين الله و لا تكونوا أعرابا فإنه من لم يتفقه في دين الله لم ينظر الله إليه يوم القيامة و لم يزك له عملا .
و قال العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق لا تزيده سرعة السير إلا بعدا .
و قيل لبعض الحكماء :
أ يحسن بالشيخ التعلم فقال إن كان الجهالة تقبح منه فإن التعلم يحسن منه و قيل له متى يحسن له التعلم فقال ما حسنت به الحياة و قيل لبزرجمهر العلم أفضل أم المال .
فقال العلم .
قيل له فما بالنا نرى العلماء على أبواب الأغنياء و لا نكاد نرى الأغنياء على أبواب العلماء فقال ذلك لمعرفة العلماء منفعةالمال و جهل الأغنياء بفضل العلم لبعضهم .
العلم زين و تشريف لصاحبه
لا خير فيمن له أصل بلا أدب
حسيب أخي عي و طمطمة
و خامل مقرف الآباء ذي أدب
نال المعالي به و المال و النشبا
فاطلب هديت فنون العلم و الأدبا
حتى يكون على ما زانه حربا كم من
فدم لدى القوم معروف إذا انتسبا
نال المعالي به و المال و النشبا
نال المعالي به و المال و النشبا
يا طالب العلم نعم الشي ء تطلبه
فالعلم ذكر و كنز لا يعادله
نعم القرين إذا ما عاقلا صحبا
لا تعدلن به ورقا و لا ذهبا
نعم القرين إذا ما عاقلا صحبا
نعم القرين إذا ما عاقلا صحبا
و حدثوا عن ابن جريح أنهقال خرجت في السحر فإذا ورقة تضربها الرياح فأخذتها فلما أضاء الصبح نظرت إليها فإذا فيها .
كن معسرا إن شئت أو موسرا
و كلما زادك من نعمة
إني رأيت الناس في دهرنا
إلا مباراة لأصحابه
و عدة للظلم و الغشم
لا بد في الدنيا من الهم
زاد الذي زادك في الغم
لا يطلبون العلم للعلم
و عدة للظلم و الغشم
و عدة للظلم و الغشم
مسألة :
إن سأل سائل فقال ما وجه التكرار في سورة الكافرون و إعادة النفيفيها في جملة بعد جملة و قد كان يغني ذلك مرة واحدة .
الجواب:
قد أجاب الناس عن هذهالمسألة بعدة أجوبة و نحن نورد منها أحسنها و أكثرها فائدة و أحسنها ما تضمنالمعاني المختلفة حتى يكون المستفاد من النفي في الجملة الأولى غير المستفاد منالنفي في الجملة الثانية و بهذا يبطل التكرار و يبقى للسائل بقية في السؤال فأعربما يجاب به فيها أن لفظة أعبد تصلح في الكلام لشيئين مختلفين. أحدهما أن يكونبمعنى أذل و أخضع و أخشع و هذا من العبادة و هو مستعمل معهود لا يفتقر فيه إلىدليل. و ثانيهما أن يكون أعبد بمعنى أجحد و هو من العبود الذي هو الجحود و أهلاللغة يعرفون ذلك يقول القائل عبدني فلان حقي يريد جحدني حقي قال الشاعر :
فلو سألت قريشا من يؤممهم
ما ميلوا ذاك عن قومي و لا عبدوا
ما ميلوا ذاك عن قومي و لا عبدوا
ما ميلوا ذاك عن قومي و لا عبدوا
قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ.
و أن معناه فأنا أول الجاحدين و ذلك أن الدليل قد اتضحعلى أن من كان له ولد لا يكون إلا محدثا و المحدث لا يكون إلاها. فقول الله عز و جلفي الجملة الأول
ى لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ماأَعْبُدُ
إنما معناه لا أذل و لا أخضع لأصنامكم التي تفعلون هذا لها و لا أنتمفاعلوه أيضا لإلهي الذي أنا فاعله له. و قوله جل اسمه في الجملة الثانية وَ لا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ
إنما معناه و لاأنا جاحد لله تعالى الذي جحدتموه و لا أنتم جاحدون للأصنام التي أنا جاحدها. فقدتضمنت الجملتان فائدتين مختلفتين و بان انتظام الكلام بغير تكرار. جواب آخر و هوأن يكون المراد بلفظة أعبد في الجملة الأولى الزمان الحاضر فكأنه قال لا أعبد الآنما تعبدون و لا أنتم عابدون الآن ما أعبد. و يكون المراد بها في الجملة الثانيةالزمان المستقبل فكأنه قال و لا أنا عابد في المستقبل ما عبدتم و لا أنتم عابدونفي المستقبل ما أعبد. فلفظة أعبد على هذا الجواب و إن كانت في الجملتين بمعنى واحدو هو العبادة فقد اختلفت بما يراد بها من الزمان المختلف و لا شك في أن لفظة أفعلتصلح للزمانين الحاضر و المستقبل و في هذين الجوابين غنى و كفاية و الحمد لله. واعلم أنه يجب أن يكون السؤال على هذا مختصا بخطاب من المعلوم من حاله أنه لا يؤمن.و قد ذكر أنها نزلت في أبي جهل و المستهزءين و هم العاص بن وائل و الوليد بنالمغيرة و الأسود بن المطلب و الأسود بن عبد يغوث و عدي بن قيس و لم يؤمن منهم أحد .
فإن قال فما معنى قوله في السورة لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ
و ظاهر هذا الكلام يقتضي إباحتهم المقام على أديانهم قلنا إن ظاهر الكلامو إن كان ظاهر الإباحة فإن المراد به الوعيد و المبالغة في الزجر و التهديد كماقال تعالى اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ و قال
أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ وَ شارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ وَ عِدْهُمْ وَ مايَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً
و قد قيل إن المعنى فيه لكم جزاء دينكم ولي جزاء ديني فحذف الجزاء من اللفظ لدلالة الكلام عليه و قيل إن الجزاء نفسه يسمى دينا قال الشاعر :
إذا ما لقونا لقيناهم
و دناهم مثلما يقرضونا
و دناهم مثلما يقرضونا
و دناهم مثلما يقرضونا
أي لكم جزاؤكم و لي جزائي .
مسألة :
فإن قال السائل فما وجه التكرار في سورة الرحمن و إعادته مع كل آية فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِز.
الجواب :
قلنا إنما حسن هذا التكرار للتقريربالنعم المختلفة و تعديدها نعمة بعد نعمة أنعم بها قرر عليها و وبخ على التكذيببها كما يقول الرجل لغيره أ لم أحسن إليك بأن خولتك المال أ لم أحسن إليك بأنأمنتك من المكاره أ لم أحسن إليك بأن فعلت كذا و كذا فيحسن منه التكرار لاختلاف ماقرر به و هذا كثير في الكلام مستعمل بين الناس و هذا الجواب عن وجه التكرار فيسورة المرسلات في قوله وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ.
فإن قيل إذا كان الذي حسن التكرار في سورةالرحمن ما عدده من الآلاء فقد عدد في جملة ذلك ما ليس بنعمة و هو قوله
يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَ نُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ
و قوله تعالى هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَها وَ بَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ فكيف يحسن أن يقول بعد هذا فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ
قلنا الوجه في ذلك أن فعل العقاب و إن لم يكن نعمة فذكره ووصفه و الإنذار به من أكبر النعم لأن في ذلك زجرا عما يستحق به العقاب و بعثا على ما يستوجب به الثواب و إنما أشار تعالى بقوله فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ
بعد ذكر جهنم و العذاب فيها إلى إنعامه بذكر وصفها و الإنذار بها والتخويف منها و لا شك في أن هذا في النعم التي يجب الاعتراف بها و الشكر عليها .
كتاب البرهان على صحة طول عمر الإمام صاحب الزمان :
و مما عملته كتاب البرهان على صحة طول عمر الإمام صاحب الزمان عليه و على آبائه أفضل السلام و بيان جواز تطاول الأعمار بسم الله الرحمن الرحيم الحمدلله على ما هدى و صلاته على من اصطفى سيدنا محمد و رسوله المجتبى و آله أئمة الهدىذكرت يا أخي أيدك الله أنك رأيت جماعة من المخالفين يعتمدون في إنكار وجود صاحبالزمان (ص) على ما يقتضيه تاريخ مولده من تطاول عمره على القدر المعهود و يقولون إذاكان مولده عندكم في سنة خمس و خمسين و مائتين فله إلى سنتنا هذه و هي سنة سبع وعشرين و أربعمائة مائتان و اثنتان و سبعون سنة.
و لسنا نرى الأعمار تتناهى إلى أكثر من مائة و عشرين سنة بل لا نرى أحدا يلحق عمره هذاالقدر اليوم و يزعمون أن هذه الزيادة على المائة و العشرين دلالة على بطلان مانذهب إليه و سألت في إيراد كلام عليهم يوهي عمدتهم و يبطل شبهتهم و يكون أصلا فييدك يتمسك به المستند إليك و أنا مجيبك إلى ما سألت و أبلغك منها ما طلبت بعونالله و حسن توفيقه اعلم أولا أنه إذا وجبت الإمامة و وضحت الأدلة على اختصاصهابأئمتنا الاثني عشر (ع) دون جميع الأمة فلا منصرف عن القول بطول عمر إمامنا و صاحبزماننا (ص) لأن الزمان لا يخلو من إمام و قد مضى آباء صاحب الزمان بلا خلاف و لم يبقمن يستحق الإمامة سواه. فإن لم يكن عمره ممتدا من وقت أبيه إلى أن يظهره اللهسبحانه حصل الزمان خاليا من إمام و هذا دليل مبني على ما قدمناه و بعد ذلك فإنه لايصلح أن يكلمك في طول عمره من لا يقر بشريعته فأما من أقر بها و أنكر تراخيالأعمار و طولها فإن القرآن يخصمه بما تضمنه من الخبر عن طول عمر نوح (ع) قال اللهتعالى فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً
و لا طريق إلىالانصراف عن ظاهر القرآن إلا ببرهان و قد أجمع المسلمون على بقاء الخضر (ع) من قبلزمان موسى (ع) إلى الآن و أن حياته متصلة إلى آخر الزمان و ما أجمع عليه المسلمونفلا سبيل إلى دفعه بحال من الأحوال.
فإن قال الخصم هذان نبيان و يجوز أن يكون طولأعمارهما معجزا لهما و كرامة يميزان بها عن الأنام و لا يصح أن يكون هذا العجز و الإكرام إلا للأنبياء (ع) .
فقل له يفسد هذا عليك بما استقرعليه الاتفاق من بقاء إبليس اللعين من عهد آدم (ع) و قبل ذاك إلى الآن و أنه سيبقىإلى الوقت المعلوم كما نطق به القرآن و ليس ذلك معجزا له و لا على سبيل الإكرام وإذا اشترك الولي و العدو في طول العمر علم أن السبب في ذلك غير ما ذكرت و أنهلمصلحة لا يعلمها إلا الله تعالى دون العباد. فإن أنكر الخصم إبليس و بقاءه خرج عنظاهر الشريعة و دفع إجماع الأمة و إن تأول ذلك طولب على صحة تأويله بالحجة. و لوسلمت له طول العمر معجزا للمعمر و إكراما و لم يذكر له إبليس و طول عمره على ممرالأزمان كان لك أن تقول إن حكم الإمام عندنا كحكم النبي في الاحتجاج و جواز ظهورالعجز و الإكرام بما يتميز به عن الأنام فليس بمنكر أن يطيل الله تعالى عمره علىسبيل المعجز و الإكرام و اعلم أيدك الله أن المخالفين لك في جواز امتداد الأعمارممن يقر بالإسلام لا يكلمونك إلا بكلام مستعاد فمنهم من ينطق بلسان الفلاسفة فيقولإن طول العمر من المستحيل في العقول الذي لم يثبت على جوازه دليل و منهم من ينطقبلسان المنجمين فيقول إن الكواكب لا تعطي أحدا من العمر أكثر من مائة و عشرين سنةو لهم هذيان طويل.
و منهم من ينطق بلسان الأطباء و أصحاب الطبائع فيقول إن العمرالطبيعي هو مائة و عشرون سنة فإذا انتهى الحي إليها فقد بلغ غاية ما يمكن فيه صحةالطباع و سلامتها و ليس بعد بلوغ غاية السلامة إلا ضدها. و ليس على يد أحد منهمإلا الدعوى و لا يستند إلا إلى العصبية و الهوى فإذا عضهم الحجاج رجعوا أجمعين إلىالشاهد المعتاد فقالوا إنا لم نر أحدا تجاوز في العمر إلى هذا القدر و لا طريق لناإلى إثبات ما لم نر و هذا الذي جرت به العادة و العادة أصح دلالة و جميعهم خارجونعن حكم الملة مخالفون لما اتفقت عليه الأمة و لما سلف .
أيضا من الشرائع المتقدمة لأن أهل الملل كلهامتفقون على جواز امتداد الأعمار و طولها و قد تضمنت التوراة من الإخبار بذلك ماليس بينهم فيه منازع. و فيها أن آدم (ع) عاش تسعمائة و ثلاثين سنة و عاش شيث تسعمائةو اثنتي عشرة سنة و عاش أنوش تسعمائة و خمسا و ستين سنة و عاش قينان تسعمائة سنة وعشر سنين و عاش مهلائيل ثمانمائة و خمسا و تسعين سنة و عاش برد تسعمائة و اثنتين وستين سنة و عاش أخنوخ و هو إدريس تسعمائة و خمسا و ستين سنة و عاش متوشلح تسعمائةو تسعا و ستين سنة و عاش ملك سبعمائة و سبعا و ستين سنة و عاش نوح تسعمائة و خمسينسنة و عاش سام ستمائة سنة.
و عاش أرفخشاد أربعمائة و ثماني و تسعين سنة و عاش شالخأربعمائة و ثلاثا و تسعين سنة و عاش غابر ثمانمائة و سبعين سنة و عاش فالخ مائتينو تسعا و تسعين سنة و عاش أرغو مائتين و ستين سنة و عاش باحور مائة و ستا و أربعينسنة و عاش تارخ مائتين و ثمانين سنة و عاش إبراهيم مائة و خمسا و سبعين سنة و عاشإسماعيل مائة و سبعا و ثلاثين سنة و عاش إسحاق مائة و ثمانين سنة. فهذا ما تضمنتهالتوراة مما ليس بين اليهود و النصارى اختلاف و قد تضمنت نظيره شريعة الإسلام و لمنجد أحدا من علماء المسلمين يخالفه أو يعتقد فيه البطلانبل أجمعوا من جواز طول الأعمار على ما ذكرناه. و المستدل يعلم جواز ذلك في العقلإذا أنعم الاستدلال و الأخبار قد تناصرت في قوم عمروا في قريب الزمان سوف أذكرجماعة منهم ليتأكد البيان و ليس المنازعة لنا بعد ذلك من ذي بصيرة و عرفان. فإنقال قائل إن الأعمار قد كانت يتطاول في سالف الدهر ثم تناقضت عصرا بعد عصر حتىانتهت إلى ما نراه مما لا يجوز اليوم سواه قيل له إن العاقل يعلم أن الزمان لاتأثير له في الأعمار و أن زيادتها و نقصانها من فعل قادر مختار يغيرها في الأوقاتبحسب مما يراه من الصلاح. و لسنا ننكر أن الله سبحانه قد أجرى اليوم بأقدارمتقاربة في الأعمار يخالف ما كان في متقدم الزمان غير أن هذا لا يحيل طول عمر بعضالناس إذا كان ذلك ممكنا من القادر المعطي للأعمار و قد ذكرنا أن الأخبار قد أتتبذكر المعمرين كانوا في قريب الزمان فلا طريق إلى دفع ما ذكرناه مع هذا الإيضاح وأما الذين استعاروا كلام الفلاسفة من المخالفين لنا في هذه المسألة و قولهم فيالعمر من المستحيل في العقول فإنهم لم يعولوا في العلم بذلك على ضرورة يشاركهمالعقلاء فيها و إذا عدموا الضرورة فلا بد من حجة عقلية يطالبون بإيرادها و لا حجةمعهم ينطقون بها و لا عمدة لهم أكثر من الهوى و الرجوع إلى ما يشاهد و يرى و الهوىمضلة و الإنكار لما لم يشاهد مزلة و ليس من موحد و لا ملحد إلا و هو يثبت ما لايرى و يقر بما لم يشاهد فالموحد يقر بالله و الملائكة و طول أعمارها و لم نر شيئامنها... و الملحدة قد تقر بوجود جواهر بسيطة لا تجوز عليها الرؤية و تدعي أيضاوجود عقل... لم ترهما و لا رأت... فضلا عنها .