المدخل
موضوع العلم ومسائله
تمايز العلوم
موضوع علم الأُصول
تعريف علم الأُصول
القواعد الفقهية
الضابطة في المسألة الأُصولية
حقيقة الوضع
أقسام الوضع
المعنى الحرفي
الخبر والإنشاء
الوضع في أسماء الإشارة
الاستعمال المجازي
استعمال اللفظ في اللفظ
خروج القصد عن المعنى
تبعية الدلالة للإرادة
الوضع في المركبات
علائم الحقيقة والمجاز
التبادر
صحة الحمل وعدمه وصحة السلب وعدمه
الاطّراد
أحوال اللفظ
الحقيقة الشرعية
الصحيح والأعمّ
انتبه رجاءً: لقد قطّعنا هذا البحث لطوله إلى قسمين:
(1)
(2)
الصحيح والأعم في المعاملات
أنحاء الدخل في المأمور به
الاشتراك
استعمال اللفظ في أكثر من معنى
انتبه رجاءً: لقد قطّعنا البحث الآتي إلى قسمين:
المشتق(1)
(2)
حجية القول بوضع المشتق للمتلبس بالحال
وهمٌ ودفعٌ
بساطة معنى المشتق
المقصد الأوّل: في الأوامر
الفصل الأوّل: مادة الأمر
معنى مادة الأمر
اعتبار العلوّ في الآمر
دلاله مادة الأمر على الطلب الوجوبي
المائز بين الوجوب والندب
الطلب والإرادة
بيان مسلك الجبر وشبه الجبر وإبطالهما
حقيقة الإرادة من اللّه (سبحانه) ومن العبد
في قاعدة «الشيء ما لم يجب لم يوجد» وموردها
الملاك في اختيارية افعال العباد
إبطال مسلك التفويض
الفصل الثاني: فيما يتعلّق بصيغة الأمر
معنى صيغة الأمر
دلالة صيغة الأمر على الوجوب
مدلول الجملة الخبرية المستعملة في مقام الإنشاء
التعبدي والتوصلي
أنحاء قيود المتعلّق
أنحاء قصد التقرب
استظهار التوصلية من إطلاق صيغة الأمر
قصد الوجه والتمييز
في التعبدي بمعنى عدم سقوط التكليف بفعل الغير
في التعبدي بمعنى سقوط التكليف بالفرد غير العمدي
في التعبدي بمعنى عدم سقوط التكليف بالفرد المحرم
مقتضى إطلاق صيغة الأمر
مدلول صيغة الأمر بعد الخطر
دلالة صيغة الأمر على المرة أو التكرار
دلاله صيغه الأمر على الفور أو التراخي
مبحث الاجزاء
إجزاء الأمر عن نفسه
تبديل الامتثال
إجزاء الأمر الاضطراري عن الواقعي
أنحاء الفعل الاضطراري
إجزاء المأمور به الظاهري عن الواقعي
الإجزاء في الامارات على السببية
الإجزاء عند الشكّ في سببيّة الأمارة وطريقيتها
تبدّل فتوى المجتهد
الإجزاء عند تبدّل الفتوى أو العدول
مقدمة الواجب
المقدمة الداخلية والخارجية
المقدّمة العقلية والشرعية والعاديّة
المقدّمة الوجودية والعلمية و...
المقدّمة المتقدّمة والمقارنة والمتأخرة
الشرط المتأخّر
الأول؛ شرط الحكم
الثاني؛ شرط المتعلّق
المقدمات الوجودية للواجب المشروط
الواجب المعلق والمنجز
الإشكالات على الواجب المعلّق
أقسام القدرة
مقتضى الاصل العملي عندالشك في اعتبار قيد
دوران الأمر بين تقييد المادة أو الهيئة
تقديم الإطلاق الشمولي على البدلي
الواجب النفسي والغيري
الشكّ في النفسية والغيرية
الثواب على الواجبات الغيرية
عبادية الطهارات الثلاث
اعتبار قصد التوصّل في المقدّمة وعدمه
المقدّمة الموصلة
انتبه رجاءً: لقد قطّعنا هذا البحث لطوله إلى قسمين:
(1)
(2)
المدخل أمّا المقدمة ففي بيان أُمور[1].الأوّلأنّ موضوع كلّ علم[2].والمسائل عبارة عن جملة من قضايا متشتّة جمعها اشتراكها في الدخل في الغرض الذي لأجله دُوِّن هذا العلم[3].وقد انقدح بما ذكرنا أنّ تمايز العلوم إنّما هو باختلاف الأغراض الداعية إلى التدوين[4].وقد انقدح بذلك أنّ موضوع علم الأُصول هو الكلي المنطبق على موضوعات مسائله[5].إلاّ أنّ البحث عن غير واحد من مسائلها كمباحث الألفاظ.[6].ويؤيد ذلك تعريف الأُصول.[7].[1] قد جرت سيرة المصنّفين على ذكر مقدمة قبل الشروع في مباحث العلم ومسائله يتعرضون فيها لأُمور ترتبط بالعلم ولا تكون من مسائله، كبيان موضوع العلم وتعريفه وبيان الغرض والغاية منه، وتبعهم على ذلك الماتن (قدس سره) وجعل لكتابه هذا مقدّمة وبيّن فيها أُموراً كلّها خارجة عن مسائل علم الأُصول ولكنّها ترتبط بها بنحو من الارتباط، كما ستعرف إن شاء اللّه تعالى.
موضوع العلم ومسائله
[2] المعروف عند القوم أنّه لابدّ لكلّ علم من موضوع يبحث في مسائل العلم عن العوارض الذاتية لذلك الموضوع بأن تكون المحمولات المذكورة في مسائل العلم عوارض ذاتية له.وذكروا في تعريف العرض الذاتيإنّه ما يعرض الشيء بلا واسطة أو مع الواسطة المساوية داخليّة كانت أو خارجيّة.توضيح ذلكأن العارض (يعني المحمول على الشيء بمفاد كان الناقصة) إمّا أن يكون بلا واسطة أصلا أو يكون معها، وعلى الثاني إمّا أن تكون الواسطة داخلية أو خارجية.فالواسطة الداخلية بالإضافة إلى ذيها تكون أعمّ أو مساوية ولا يمكن أن تكون أخص لأنّها جزء الشيء وجزئه لا يكون أخصّ منه، حيث إنّه جنسه أو فصله، فالعارض للشيء بواسطة فصله مثل إدراك الكلّيات العارض للإنسان بواسطة الناطق، والعارض له بواسطة جنسه كالحركة القصديّة العارضة بواسطة الحيوان (ولايخفى أنّ الحركة القصديّة غير الحركة الإراديّة حيث إنّ الحركة الإراديّة لا تكون في غير الإنسان من سائر الحيوانات)(1).والواسطة الخارجية تكون بالإضافة إلى المعروض مساوية أو أعم أو أخصّ أو مباينة والأوّل كعروض الضحك للإنسان بواسطة التعجب المساوي له حيث لا يوجد في غيره من سائر الحيوان، والثاني كعروض الحركة القصدية للمتكلم بواسطة الحيوان، والثالث كعروض إدراك الكلّيات للحيوان بواسطة الناطق، والواسطة المباينة كالنّار في عروض الحرارة للماء وكالسفينة في عروض الحركة لجالسها.فهذه أقسام سبعة.والعرض الذاتي منها ما يعرض الشيء بلا واسطة أو مع الواسطة المساوية داخلية كانت أو خارجية.والغريب منها ما يعرض له بواسطة خارجية أعمّ أو أخصّ أو مباينة واختلفوا فيما كان بالواسطة الداخلية الأعم(2).ولذلك وقعوا في إشكال لزوم خروج كثير من مباحث العلوم عن كونها مسائل لها فإنّ المحمولات في مسائلها لا تكون غالباً عارضة لموضوعاتها بلا واسطة أو مع واسطة مساوية داخلية أو خارجية، مثلا المبحوث عنه في علم النحو في مسألة الفاعل رفعه، وفي مسألة المفعول نصبه، ونحو ذلك مع أنّ شيئاً من الرفع والنصب لا يعرضان الكلمة بنفسها بل يعرضانها بوساطة الفاعل والمفعول وكل منها أخص من الكلمة التي هي موضوع هذا العلم (على ما هو المعروف)، وكذا المبحوث عنه في علم الأُصول ظهور صيغة الأمر في الوجوب مثلا مع أنّ النسبة بينها وبين صيغة الأمر في الكتاب المجيد ليست هي التساوي(3) وهكذا.ذكر الماتن في المقام أمرين وكأنّه يندفع الإشكال بهما من أساسه: أحدهماأنّ موضوع العلم عين موضوعات مسائله خارجاً ولا تغاير بينهما إلاّتغاير الكلّي مع أفراده.وثانيهماأنّ كل عرض لا يكون عروضه للشيء مع الواسطة في العروض هو عرض ذاتيّ له سواء لم يكن في عروضه له واسطة أصلاً أو كانت بنحو الواسطة في الثبوت، ولا يخفى أنّ الواسطة في العروض نظير ما في نسبة الحركة إلى جالس السفينة حيث إن المتحرك خارجاً حقيقة هي السفينة ونسبتها إلى الجالس فيها بنحو من العناية وعلى ما ذكره (قدس سره) تكون تمام المحمولات في مسائل العلوم عوارض ذاتية لموضوعاتها فإنّه بعد كون الموضوع في علم النحو مثلا هي الكلمة (يعني اللفظ الموضوع لمعنى) وهي عين الفاعل في الكلام، يكون الرفع المحمول على الفاعل محمولا على الكلمة بلا واسطة في العروض.ثمّ إنّ المراد بالعارض هو المحمول لا العرض في مقابل الجوهر حيث إنّه ربّما لا يكون المحمول في المسألة عرضاً كما في بعض مسائل علم الكلام كقولهم «واجب الوجود عالم، قادر، بسيط» وكقولهم في الفقه «الماء طاهر» و«الخمر نجس» إلى غير ذلك.وعلى ما ذكر يكون قوله (رحمه الله)(4) «هو الذي يبحث فيه عن عوارضه الذاتية» جملة معترضة لبيان تعريف موضوعات العلوم، وقوله (رحمه الله)(5)«بلا واسطة في العروض» تفسير للعرض الذاتي وإشارة إلى الخلل فيما ذكروه في تعريفه من تقسيمهم العارض إلى سبعة أقسام وقولهم بأنّ أربعة منها عرض غريب.وقوله (رحمه الله)(6)«نفس موضوعات مسائله» خبر «إنّ» يعني موضوع كل علم هو نفس موضوعات مسائله.وقوله (رحمه الله)(7)«ما يتحد معها خارجاً» معطوف على «موضوعات مسائله» يعني موضوع كل علم ما يتحد مع نفس موضوعات مسائله خارجاً.وقوله (رحمه الله)(8)«الطبيعي وأفراده» معطوف على «الكلّي ومصاديقه» والمراد من المعطوف والمعطوف عليه واحد.وقد اتضح بما تقدّم أنّ ما يذكر موضوعاً لبعض العلوم مما لا تكون نسبته إلى موضوعات مسائله من قبيل الكلّي والفرد خطأ في تشخيص الموضوع إذ لا تغاير بين موضوع العلم وموضوعات مسائله إلاّ تغاير الكلي مع فرده كما مرّ (ويقتضيه البرهان المدّعى لإثبات لزوم الموضوع لكلّ علم).وعليه فما يقال مِن أنّ موضوع علم الطب مثلا هو بدن الإنسان وموضوعات مسائله الاعضاء المخصوصة ليس بصحيح لأن نسبة البدن إلى العضو نسبة الكلّ إلى الجزء لا الكلّي إلى الفرد فيكون الموضوع في علم الطب ما يعرضه المرض لا خصوص البدن.ثمّ إنّ المعروف أنّ وجه التزام الماتن (رحمه الله) ومن تبعه بلزوم الموضوع للعلوم، هو عدم إمكان صدور الواحد عن الكثير بدعوى أنّ الغرض من العلم واحد فاللازم صدوره عن واحد وهو الجامع بين موضوعات المسائل حيث إنّ الجامع بين محمولاتها ينتهى إليه كما هو مقتضى قولهم كل ما بالعرض لابدّ من أن ينتهي إلى ما بالذات.أقولليس في كلامه (قدس سره) في المقام ما يشير إلى الموجب لالتزامه بذلك، بل في كلامه ما ينافي الموجب المفروض حيث صرح في تداخل العلوم بإمكان غرضين متلازمين فيدوَّن لأجلهما علم واحدٌ، ومقتضى القاعدة المفروضة عدم إمكان غرضين في علم واحد بل ولا إمكان ترتب غرضين على بعض مسائل العلم حيث إنّه من صدور الكثير عن واحد.ثمّ إنّه (قدس سره) أضاف إلى تعريف علم الأُصول «أو التي ينتهي إليها في مقام العمل»(9)وذكر في وجهه أنّه لا موجب لخروج مباحث الأُصول العملية وحجيّة الظن الانسدادي على الحكومة من مسائل علم الأُصول، ولو كان المهم من علم الأُصول هو التمكن من الاستنباط فقط لكان مقتضاه الالتزام بالاستطراد في تلك المباحث والحاصل ان لعلم الأُصول غرضين ومع ذلك لا يخرج عن كونه علماً واحداً وارجاعهما إلى غرض واحد غير سديد، لإمكان إرجاع الأغراض في جملة من العلوم إلى غرض واحد ككمال النفس مثلاً.والذي يخطر بالبال أنّ تعيين الموضوع للعلوم، كذكر التعريف لمسائلها وبيان الغرض منها، إنّما هو لتبصرة طالب تلك العلوم على ما يظهر بعد ذلك لا لأجل لزومه في كلّ علم.وكيف ما كان فإنّ أُريد بالكلّي، الجامع العنواني لموضوعات مسائله نظير سائر العناوين الانتزاعية حتّى من المتباينات في تمام ذواتها ببعض الاعتبارات فهذا الجامع كالحجر في جنب الإنسان في عدم دخله في كون تلك المسائل من العلم، نعم لو بيّن بنحو حصل فيه الاطراد والانعكاس فهو يوجب معرفة موضوعات المسائل لطالب تلك المسائل.وإن أُريد به الجامع الذاتي، بأن يكون الموضوع للعلم كالجنس أو النوع لموضوعات المسائل، فلم يعلم وجه لزوم هذا الجامع، والاستناد في لزومه إلى قاعدة عدم صدور الواحد عن كثير، غير صحيح؛ لما ظهر مما تقدم أنّ الغرض من العلم يمكن أن يكون واحداً عنوانياً أو واحداً مقولياً له حصص متعدّدة يصدر عن بعض المسائل حصة منه وعن بعض آخر حصة أُخرى من غير أن يكون فيما يصدر عنهما جامع ذاتيّ، مثلا التمكن المترتب على العلم بمسألة من مسائل علم النحو، غير التمكن المترتب على العلم بمسألة أُخرى من مسائله فيكون العلم بمسألة رفع الفاعل موجباً للتمكن من حفظ اللسان عن الخطاء في التكلم بالفاعل، وبمسألة نصب المفعول التمكن من حفظه عن الخطأ في التكلم بالمفعول وهكذا، فيكون الغرض من علم النحو مستنداً إلى مسائله بخصوصياتها.ولا يخفى أنّ القاعدة المشار إليها بأصلها وعكسها(10) أسّسها أهل المعقول لإثبات وحدة الصادر الأوّل من المبدأ الأعلى.وقد ذكر في محلّه أنها على تقدير تماميّتها لا تجري في الفعل بالإرادة، بل موردها الفعل بالايجاب، لإمكان صدور فعلين عن فاعل بالإرادة مع كونهما من مقولتين، وبما أنّ الصادر من المبدأ الأعلى يعدُّ من الفعل بالإرادة فلا شهادة لها بوحدة الصادر الأوّل.فتحصّل من جميع ما ذكرنا أنه لا وجه للالتزام بلزوم الموضوع للعلم كما ذكر، كما لا وجه للالتزام بأنّه لابدّ في مسائل العلم من البحث عن العوارض الذاتيّة لموضوعه فإنّه يصحّ جعل مسألة من مسائل العلم مع ترتب الغرض منه عليها حتّى لو كان المحمول فيها من العوارض الغريبة لموضوع المسألة فضلا عن موضوع العلم، أو لم يكن المحمول فيها من العوارض أصلا، مثلا البحث عن الملازمة بين إيجاب شيء وإيجاب مقدمته من مسائل علم الأُصول بلا كلام مع أنّ المبحوث فيه الذي هو ثبوت الملازمة بين الايجابين ليس بحثاً عن العوارض، فإنّها ما يحمل على الشيء بمفاد «كان» الناقصة، والبحث عن ثبوت الملازمة بحث عنه بمفاد «كان» التامة، وكذا البحث عن اعتبار الإجماع مسألة أُصولية، مع أنّ حمل الاعتبار عليه على مسلك الأصحاب ـ بلحاظ كشفه عن قول المعصوم (عليه السلام) ـ حمله مع الواسطة في العروض وهو من العرض الغريب حيث يكون الاعتبار حقيقةً لقول الإمام (عليه السلام)، وإسناده إلى فتوى العلماء يكون بالعناية.[3] في توصيف الغرض بقوله (قدس سره)«الذي لأجله دوِّن هذا العلم» إشارة إلى أنّه ليس المراد خصوص الثمرة المترتّبة على كل مسألة من مسائل العلم كما يترتب على مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي التمكّن من استنباط حكم الصلاة في الدار المغصوبة ولا يشاركها في هذه الثمرة غيرها من مسائل علم الأُصول، بل المراد الغرض الملحوظ للمدوِّن ـ بالكسر ـ ابتداءاً أو ما يكون داعياً له إلى تدوين جملة من المسائل وتسميتها باسم واحد، وقد تقدّم أنّ هذا الغرض ليس واحداً شخصياً بل واحد عنواني أو نوعي ذو حصص مختلفة.تمايز العلوم
[4] وتقريره: لا ريب في أنّ كل مسألة من مسائل العلم لها موضوع ومحمول يغاير موضوع الأُخرى ومحمولها، مثلا مسألة ظهور صيغة إفعل في الوجوب وعدمه، وجواز اجتماع الأمر والنهي وعدمه، وحجّية خبر العدل وعدمها، كلّها من مسائل علم الأُصول والموضوع والمحمول فى كلٍّ منها يغاير الموضوع والمحمول فى الأُخرى، وهذا الاختلاف بعينه موجود بين كل مسألتين من مسائل علمين، مثلا مسألة رفع الفاعل غير مسألة ظهور صيغة الأمر في الوجوب بحسب الموضوع والمحمول فيقع السؤال عن وجه كون مسألة رفع الفاعل، من مسائل النحو وعدم كونه مسألة ظهور صيغة إفعل في الوجوب، منها.ولا يصحّ الجواب، بأنّ ذلك لاختلاف المسألتين بحسب الموضوع أو المحمول، فإنّ لازمه كون كل مسألة من مسائل علم النحو علماً على حدة لأنّها مختلفة كذلك.بل الصحيح هو القول بان جامع مسائل علم النحو هو الغرض الملحوظ لمدوّن العلم إبتداءً، وحيث لم يكن ذلك الغرض مترتباً على مسألة ظهور صيغة الأمر في الوجوب، فلم تجعل من مسائل علم النحو، وقد ظهر أنّ المراد بالتمايز هو التمايز عند تدوين العلم وأمّا تمايز العلوم عند المتعلّم وفي مقام التعلّم، فله طرق متعدّدة.وبالجملة كلّ مسألة من مسائل العلم، وإن كانت لها خصوصية واقعية، تكون موجبة لترتّب ثمرة مخصوصة عليها إلاّ أنّ تلك الخصوصية لا تكون موجبة لتمايزها عن مسائل العلم الآخر في نظر المدوّن بل المايز لها عنده هو الغرض الداعي إلى التدوين.هذا كلّه فيما كان المهم من مسائل العلم أمراً مترتباً عليها بأن يكون العلم بتلك المسائل موجباً لحصوله وفي مثل ذلك يكون المهم المفروض المعبّر عنه بغرض التدوين جامعاً لمسائل العلم ومميّزاً لها عن مسائل علم آخر.وأمّا إذا لم يكن المهم كذلك بل كان المهم نفس معرفة تلك القضايا، كما في علم التاريخ حيث إنّ المهم فيه معرفة أحوال الملل والبلاد وحوادثها في الماضي والحاضر، يكون امتياز قضاياه عن قضايا غيره بالموضوع ولو كان ذلك الموضوع أمراً واحداً عنواناً وجامعاً مشيراً إلى موضوعات قضاياه.موضوع علم الأُصول
[5] ما ذكره (قدس سره) لا يدفع الإشكال في المقام.فإنّ البحث في مسألة مقدمة الواجب مثلا بحثٌ عن ثبوت الملازمة بين إيجاب شيء وإيجاب مقدمته، وهذا بحث عن مفاد «كان» التامة، وحيث إنّ موضوع علم الأُصول متّحد مع موضوعات مسائله خارجاً يكون البحث المفروض بحثاً عن ثبوت الموضوع وعدمه، وليس هذا بحثاً عن العوارض فضلا عن كونها ذاتية.ثمّ إنّهم جعلوا موضوع علم الأُصول الأدلّة الأربعة يعني (الكتاب، والسنة، والاجماع، والعقل).وأورد الماتن عليهم بأنّ ذلك يوجب خروج مبحث حجية الخبر والتعارض بين الخبرين من المباحث الاصولية، حيث إنّ خبر الواحد غير داخل في السنة، يعني قول المعصوم وفعله وتقريره، فلا يكون البحث عن عارض الخبر بحثاً عن عوارض السنّة.وقد أُجيب عنه بأنّ المباحث المفروضة تدخل في مسائل علم الأُصول بناءً على أنّ المراد بالأدلّة ذواتها لا بما هي أدلّة، لأنّ مرجع البحث عن حجّية الخبر إلى البحث عن ثبوت السنة بخبر الواحد، أو ثبوتها بأيٍّ من الخبرين عند تعارضهما.وقد ردّ الماتن (قدس سره) الجواب المفروض بأنّه غير مفيد، فإنّ البحث عن ثبوت السنة بالخبر أو بأحد المتعارضين بحث عن مفاد «كان» التامة أي بحث عن وجود السنة به أو بأحدهما والبحث في المسائل لابدّ أن يكون عن العارض لموضوع المسألة وما هو بمفاد «كان» الناقصة.هذا في الثبوت الواقعي يعني الحقيقي.وأمّا الثبوت التعبدي بمعنى جعل الحجّة، فهو وإن كان بحثاً عن العارض إلاّ أنّ الحجيّة لاتترتّب على السنة بل على الخبر الحاكي لها.وبالجملة الثبوت الحقيقي ليس من العوارض، والتعبدي بمعنى وجوب العمل به وإن كان من العوارض إلاّ أنّه عارض للخبر لا السنة.ولا يخفى أنه لم يظهر معنى معقول لثبوت السنة بالخبر، بأن يكون الخبر علّة لقول المعصوم (عليه السلام) أو فعله أو تقريره، فإنّ الخبر على تقدير صدقه، يكون كاشفاً وحاكياً عنها.ولو أُغمض عن ذلك فيمكن الجواب عن إشكال مفاد «كان» التامة بأنّ البحث عن معلولية السنة للخبر بحث عن العارض وما هو مفاد كان الناقصة.نعم لا ينبغي التأمّل في أنّ البحث عن البراءة العقلية أو الاحتياط العقلي في الشبهة الحكمية بحثٌ عن ثبوت الموضوع وهو حكم العقل.وأمّا ما ذكره (قدس سره) من أمر الثبوت التعبدي، فهو عارض للسنة أيضاً فإنّ الثبوت التعبدي عند الماتن (قدس سره)ليس إيجاب العمل بالخبر على ما ذكره في بحث اعتبار الخبر وغيره، بل معناه تنزيل قول المخبر منزلة الواقع يعني قول المعصوم وفعله وتقريره(11)، وهذا التنزيل سنخ من الحكم يضاف إلى المنزّل (أي خبر العدل)، وإلى المنزّل عليه (أي السنّة)، وكما يمكن البحث في مسألة اعتبار الخبر أن يقع في أنّ قول المخبر العدل هل نُزّل منزلة السنة؟ فيكون البحث من عوارض الخبر الحاكي لها، كذلك يمكن أن يقع البحث في أنّ السنة هل نزل عليها خبر العدل؟ فيكون البحث من عوارض السنة.نعم المعيار في كون المسألة من مسائل العلم، هو عنوانها المذكور في البحث لا ما هو لازم ذلك العنوان، وإلاّ كانت المسألة الأُصولية فقهية، والمسألة الفقهية كلامية، فإنّ مرجع البحث عن ثبوت الملازمة بين الإيجابين إلى وجوب الوضوء ونحوه عند وجوب الصلاة، ومرجع البحث عن تعلّق التكليف الالزامي بفعل إلى البحث عن إيجاب المخالفة لاستحقاق العقاب، وإلى غير ذلك.[6] لا يخفى أنّ البحث عن ظهور صيغة إفعل في الوجوب، مثلا يكون بحثاً عن العارض الغريب للكتاب والسنة بناءاً على ما ذكروه من أنّ ما يكون عروضه بواسطة أعم فهو عرض غريب، وأمّا بناءً على ما ذكره (رحمه الله) في العارض الغريب فالبحث المفروض بحث عن العوارض الذاتية للكتاب والسنة، فالإشكال به عليهم مبنيّ على مسلكهم حيث يكون نظير بحث الملازمة بين الإيجابين في عدم اختصاصه بالواجبات الشرعية، وإن كان المهم معرفة حالها.[7] ووجه التأييد أنّ مقتضى تعريفهم كون كلّ قاعدة ممهّدة لاستنباط الحكم الشرعيّ مسألةً أُصولية ولو لم يكن المحمول فيها من العارض الذاتي للأدلّة الأربعة.(1).إن قلت: كيف لا تكون الإرادة في غير الإنسان مع أنّ المعروف عند أهل الميزان كون «متحرك بالإرادة» فصلاً للحيوان إنساناً كان أو غيره؟ قلتالإرادة في كلام شيخنا الاُستاذ (دام ظله) تكون بالمعنى المصطلح عند صاحب الكفاية (قدس سره) وأهل المعقول، التي هي الشوق الأكيد المحرّك للعضلات وهي تتوقف على العلم بالصلاح وانقداح الداعي في النفس وغير ذلك من المقدمات التي لا توجد في غير الإنسان، وبهذا المعنى لا تكون فصلاً لمطلق الحيوان، والتي تكون فصلاً هي ما عبّر عنها بالقصد، فالمقصود بالحركة القصدية هي الحركة الإرادية بحسب اصطلاح أهل الميزان الذين جعلوها فصلاً لا بحسب اصطلاح أهل المعقول.(2).كتاب البرهان من الشفاء: الفصل الثاني من المقالة الثانية ص 131؛ الأسفار1 / 30.(3).توضيحهانّ في مسألة «صيغة الأمر ظاهرة في الوجوب أم لا؟» يكون المبحوث عنه فيها مطلق صيغة الأمر، وموضوع المسألة خصوص «صيغة الأمر في الكتاب» والمحمول فيها العارض له «ظاهرة في الوجوب» فيعرض لموضوع المسألة الذي هو نوع بواسطة أعمّ، أي الجنس وهو مطلق صيغة الأمر المبحوث عنها وليس هو الموضوع في المسألة لعدم كونه فرداً لطبيعي موضوع العلم سواء كان الأدلة الأربعة أو ما يصلح أن يكون دليلاً على الحكم الشرعي، كما لا يخفى على المتأمّل، بل الموضوع فيها صيغة الأمر في الكتاب أو السنة مثلاً.(4).كفاية الأصولص 7.(5).كفاية الأصولص 7.(6).كفاية الأصولص 7.(7).كفاية الأصولص 7.(8).كفاية الأصولص 7.(9).كفاية الأصولص 9.(10).أصل القاعدة«الواحد لا يصدر عنه إلاّ الواحد».وعكس القاعدة«الواحد لا يصدر إلاّ عن الواحد».(11).الكفايةص 279. وإن كان الأولى تعريفه.[1].الوضع نحو اختصاص اللفظ بالمعنى[2].ثمّ إنّ الملحوظ حال الوضع إمّا أن يكون عامّاً[3].
تعريف علم الأُصول
[1] ووجه العدول خروج أمرين عن التعريف المفروض: أحدهما: مسألة حجية الظن الانسدادي على الحكومة، فإنّ حجيّته على المسلك المفروض لا تكون موجبة لاستنباط حكم شرعى منها، وذلك لكون الحجية بناءً عليها عبارة عن استقلال العقل بكفاية الاطاعة الظنيّة للتكاليف الواقعية، وأنّه يقبح من الشارع مطالبة العباد بأزيد منها، كما أنه لا يجوز للمكلّف الاقتصار على ما دونها من الطاعة الاحتماليّة الوهميّة.وهذا الحكم من العقل، كحكمه بلزوم الاطاعة العلميّة حال الانفتاح لا يكون مستتبعاً لحكم شرعيٍّ مولويٍّ، كما يأتي بيانه في باب الانسداد.ثانيهماخروج مباحث الأُصول العملية الجارية في الشبهات الحكمية من النقلية والعقلية، فهي مع كونها من المسائل الأُصولية لا تكون إلاّ وظائف عملية بلا استنباط حكم شرعي واقعي منها بل تطبّق في الفقه، بتعيين مواردها، على صغرياتها.وقوله (قدس سره) (1)«بناءً على أنّ مسألة حجية الظن..إلخ» مفادهأنّ أولوية العدول مبنية على كون الأمرين من المباحث الاصولية كما هو كذلك، حيث لا وجه للالتزام بالاستطراد في مثلهما من المهمات.وبما أنّ التعاريف المذكورة للعلوم من قبيل شرح اللفظ، لأنّ وحدتها اعتبارية على ما تقدم من كون كل علم جملة من القضايا المتشتة التي اعتبرت الوحدة لها باعتبار دخلها في الغرض، فذكر (قدس سره) أولوية العدول لا تعيّنه، وجعل التعريف السابق مؤيداً لا دليلا، حيث لا يعتبر في هذه التعاريف الاطّراد والانعكاس.ولا يخفى أنّ المراد بالقواعد في تعريف علم الأُصول نتائج المباحث الأُصولية، وأمّا الصناعة فهي نفس مباحثها، فيكون حاصل تعريفهأنّ علم الأُصول مباحث، تعرف بها القواعد التي يمكن وقوعها في طريق استنباط الأحكام الشرعية الكليّة أو التّي ينتهي إليها الأمر في مقام العمل، أي بعد اليأس عن الظفر بالدليل على الحكم الواقعي.ولكن يرد عليه أنّ إضافة «أو التي ينتهي.إلخ» غير مفيد، فإنّ استنباط الحكم الشرعي الفرعي، بناءً على ما اختاره (قدس سره) من أنّ المجعول في الأمارات هو الحجية لها، أي المنجزية والمعذرية، يعمّ انكشاف حال الحكم الواقعي من حيث التنجز وعدمه، ولا ينحصر بالعلم بنفس الحكم الواقعي، وعليه فلا فرق بين الأمارات المعتبرة والأُصول العملية في أنّه يعيّن بهما حال الحكم الواقعي من حيث تنجزّه على تقدير الإصابة وعدمه على تقدير الخطأ.نعم يكون تعيينه بالأُصول العملية في طول التعيين بالامارة وهذا لا يكون فارقاً فإنّ بعض الأمارات أيضاً يكون اعتبارها في طول بعضها الآخر، كخبر العدل، فإنّه وإن كان معتبراً إلاّ أنّه لا اعتبار به في مقابل الكتاب الدال على خلافه.فالصحيح أن يقال في تعريفه: إنّه العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط حال الحكم الشرعي الكلي الفرعي أو حاله من حيث التنجيز والتعذير ومن البديهي أنّه يعتبر في الاستنباط تغاير الحكم المستنبَط والمستنبَط منه، إمّا بأن لا يكون المستنبط منه حكماً شرعياً ولكن يستخرج منه حكم شرعي فرعي، كقاعدة الملازمة بين إيجاب شيء وإيجاب مقدمته التي يستخرج منها وجوب الوضوء والغسل وتطهير الثوب أو البدن عند وجوب الصلاة في قياس استثنائي فيقال مثلاكلما كانت الصلاة واجبة، كان الوضوء الذي هو مقدمة للصلاة واجباً أيضاً.لكن الصلاة واجبة.فالوضوء واجب.وإمّا بأن يكون المستنبط منه حكماً شرعياً طريقيّاً لا عملياً لكن يحرز به تارة نفس الحكم الشرعي العملي وأُخرى حال الحكم الشرعي الفرعي لا نفسه.فالأوّل كحجية خبر الثقة بناءً على كون مفاد أدلّة الاعتبار جعل الخبر علماً تعبدياً فيقال مثلا العصير العنبي بعد الغليان مما قام خبر الثقة على حرمته.وكلّما قام خبر الثقة على حرمته فهو معلوم الحرمة.فينتجأنّ العصير العنبي بعد الغليان مما علم حرمته، وبعد إحراز الحرمة يفتي الفقيه بحرمة العصير العنبي بالغليان.والثاني كحجية خبر الثقة بناءً على كون مفاد أدلة الاعتبار جعل المنجزية والمعذرية، أو جعل المؤدّى (أي جعل الحكم الطريقي على طبق مؤدياتها) وكمباحث الأُصول العملية، فالحكم الشرعي العملي لا يستنتج منها بل يستنتج من هذه المباحث حاله من المنجزيّة والمعذرية.القواعد الفقهية
و كيف ما كان فقد ظهر مما ذكرنا افتراق القواعد الفقهية التي لا يستنبط منها نفس الحكم الشرعي الكلّي ولا حاله من حيث تنجزه وعدمه عن مسائل علم الأُصول، فإنّ تلك القواعد بأنفسها أحكام شرعية عملية تكليفيّة كانت أم وضعيّة، وضمّها إلى صغرياتها من قبيل تطبيق الكبرى الشرعية العملية على صغراها، لا من الاستنباط.وتوضيح ذلك: أنّ القواعد الفقهية على قسمين: الأوّلما يكون مدلولها حكماً فرعياً ثابتاً لعنوان تندرج تحته الجزئيات الخارجية فقط، كما في نجاسة الخمر وحرمة شربه، ولا مورد لتوهّم النقض في هذا القسم، حيث لا يثبت بضمّها إلى صغراها إلاّ الحكم الجزئي الفرعي لا الكلّي.الثانيما يكون مدلولها حكماً شرعياً ثابتاً لعنوان تندرج تحته العناوين الكلية، كقاعدة «ما يضمن وما لا يضمن» فإنّ موضوعها العقد، ويندرج تحته البيع والاجارة والقرض والمصالحة وغير ذلك من أنواع العقود، فتكون النتيجة في هذا القسم بعد تطبيقها على صغرياتها ثبوت الحكم الكلي، ولكن هذا من باب التطبيق لا الاستنباط فإنّ الملازمة على تقدير ثبوتها، شرعية بمعنى أنّ الشارع قد أخذ في موضوع حكمه بالضمان في العقد الفاسد، ثبوت الضمان في صحيحه، نظير الملازمة بين وجوب القصر على المسافر ووجوب الإفطار، فإنّ مرجعها إلى أنّ الشارع قد جعل السفر الموضوع لوجوب القصر موضوعاً لوجوب الإفطار أيضاً، إلاّ ما استثني، وهذا بخلاف الملازمة بين إيجاب شيء وإيجاب مقدمته، فإنّها أمر واقعي قد كشف عنه العقل أو هي بنفسها حكم العقل، ولذا يكون القول بها مصححاً لاستنباط حكم شرعي كلّي بقياس استثنائي على ما تقدم، أو قياس حملي تكون نتيجته الملازمة بين الأمر بالصلاة في أوقاتها والأمر بقدّماتها.والحاصل، تمتاز القاعدة الفقهية عن القاعدة الأصولية بأنّ مفاد القاعدة الأصولية إما أن لا يكون حكماً شرعياً ولكن ينتقل منه إلى حكم شرعي كلّي، أو يكون مفادها حكماً شرعياً طريقياً، ولكن تارةً يحرز به حكم شرعي كلي واقعي بأن تكون نتيجة قياس الاستنباط العلم بذلك الحكم لا نفس الحكم فيتم بذلك موضوع جواز الافتاء كما في موارد الأمارات المعتبرة، وأُخرى يحرز به حال الحكم الكلّي الواقعي من حيث التنجّز وعدمه كما في موارد الأصول العملية الجارية في الشبهات الحكمية.بخلاف القاعدة الفقهية فإنّ مفادها بنفسه حكم شرعي عملي كلّي لعنوان يكون تحته جزئيات حقيقية أو إضافية وتكون قياساتها من قبيل تطبيق الكبرى على صغرياتها ونتيجتها ثبوت نفس ذلك الحكم فيها، وإذا كان مفاد القاعدة حكماً طريقياً فيحرز به حال الحكم الجزئي من حيث التنجز وعدمه، كالاصول العملية الجارية في الشبهات الموضوعية وغيرها من القواعد المجعولة عند الشك في الموضوع.ومما ذكر يظهر أنّ قاعدة «لا حرج» أو «لا ضرر» قاعدة فقهية تطبّق على صغرياتها ويكون مفادها ثبوت نفس الحكم الشرعي أو عدمه، ولا يكون مفادها مما يستنبط منه الحكم الشرعي نفسه أو حاله من حيث التنجز وعدمه.نعم قاعدة الطهارة الجارية في الشبهات الحكمية قاعدة أُصولية، إذ يحرز بها حال الحكم الشرعي الواقعي الكلي من حيث التنجز وعدمه، وإنّما لم يبحث عنها في الأُصول لعدم الخلاف فيها ولاختصاصها بباب الطهارة، فتذكر في الفقه استطراداً بمناسبة الكلام في قاعده الطهارة الجارية في الشبهات الموضوعية.ومما ذكرنا يظهر ضعف ما عن المحقق النائيني (قدس سره) في الفرق بين القاعدة الأُصولية والقاعدة الفقهية من أنّ الأُولى لا تنفع العامي؛ لعدم تمكّنه من تشخيص صغراها، بخلاف الثانية فإنّها تنفعه فيما إذا أُلقيت إليه لتمكّنه من معرفة صغرياتها(2).ووجه الضعف؛ أنّ الفرق غير جار في القسم الثاني من القواعد الفقهية، فإنّ العامي لا يتمكّن من تشخيص صغرياتها كما في قاعدة «الشرط جائز ما لم يكن محلّلا للحرام أو محرّماً للحلال» و«الصلح جائز بين المسلمين ما لم يخالف الكتاب والسنة» إلى غير ذلك.الضابطة في المسألة الأُصولية
ثمّ إنّه يقع الكلام في المراد بالاستنباط من القاعدة الأُصولية، هل هو الاستنباط بلا ضمّها إلى قاعدة أُخرى من قواعد الأُصول أو المراد به الاستنباط ولو بضمّها إليها، فإن كان المراد هو الأوّل فمن الظاهر ان المسائل الأُصولية ليست كذلك، وإن كان المراد هو الثاني دخل في المسائل الأُصولية، مسائل علم الرجال أيضاً.ذهب سيدنا الاستاذ (قدس سره) إلى الأول ولكن لا بنحو كلّي، فذهب إلى أنّ القاعدة الأُصولية هي التي يكون ضم صغراها إليها كافياً في استنباط الحكم الفرعي الكلي ولو في مورد واحد، بخلاف القواعد في سائر العلوم فإنّها لا تكون كذلك، بل دائماً تحتاج إلى قاعدة أُصولية لاستنباط الحكم الشرعي منها، فمثلا مسألة «ظهور صيغة الأمر في الوجوب» مسألة أُصولية وإذا أُحرز الأمر بفعل بصيغته في الكتاب المجيد أو السنة القطعية يستنبط منه وجوب ذلك الفعل.لايقاللابدّ في الحكم بوجوب ذلك الفعل من ضمّ كبرى حجية الظواهر.فإنّه يقالإنّ المسألة الأُصولية هي التي لا تحتاج لاستنباط الحكم الشرعي منها إلى ضمّ قاعدة أُخرى من قواعد الأُصول إليها، لا أنها لا تحتاج إلى ضمّ مقدمة أُخرى أصلاً، وحجّية الظواهر من المسلمات التي لم يقع الخلاف فيها، وباعتبار ذلك لم تجعل من مسائل علم الأُصول، وإن وقع الخلاف فيها في موارد، كحجية ظواهر الكتاب المجيد، أو حجية الظاهر مع الظن بالخلاف، وحجية الظهور لغير من قصد إفهامه.والحاصل أنّ استنباط الحكم من قاعدة ظهور صيغة الأمر في الوجوب وإن كان يحتاج إلى مقدمة أُخرى إلاّ أنّ تلك المقدمة ليست من مسائل علم الأُصول ولا من مسائل سائر العلوم، وهذا بخلاف مسائل سائر العلوم، فإنّه يحتاج لاستنباط الحكم منها إلى ضمّ قاعدة أُصولية لا محالة.ثمّ أردف هذا القائل الجليل (قدس سره) أنّه لا يلزم أن تكون نتيجة المسألة الأُصولية على كل تقدير كذلك، بل يكفي في كون المسألة أُصولية كون نتيجتها كذلك، ولو على بعض التقادير.مثلا مسألة «اقتضاء الأمر بشيء للنهي عن ضدّه الخاصّ» وإن كانت لا تكفي بمجردها للاستنباط على تقدير القول بالاقتضاء، بل نحتاج لاستنباط الحكم منها إلى ضمّ مسألة أُصولية أُخرى هي «اقتضاء النهي عن عبادة، ولو كان غيرياً فسادها» إلاّ أنّه على القول بعدم الاقتضاء يستنبط منها بضمّ صغراها صحة العبادة المضادة للواجب، كالصلاة في أوّل الوقت مع وجوب إزالة النجاسة عن المسجد.لايقال: نفس ثبوت الحرمة الغيرية للضد الواجب وعدم ثبوتها له حكم شرعي يستنبط من نفس مسألة «اقتضاء الأمر بشيء النهي عن ضدّه» فكيف لا تكون المسألة كافية في الاستنباط؟ فإنّه يقالنفس الحرمة الغيرية لشيء لا يعدّ أثراً عملياً ولا تكون المسألة ـ بهذا الاعتبار ـ مسألة أُصولية، كما يأتي توضيحه في بحث مقدمة الواجب(3).أقولالصحيح أنّه لا يستنبط من مسألة «اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه» بمجرّدها الحكم الفرعي العملي، سواءً التزم فيها بالاقتضاء أو عدمه.فإنّه حتّى على القول بعدم الاقتضاء نحتاج ـ لتصحيح العبادة المضادة ـ إلى ضمّ قاعدة أُصولية أُخرى هي قاعدة جواز الترتب (أي جواز الأمر بالمتضادّين ترتّباً)، أو قاعدة عدم التزاحم بين الواجب الموسع والمضيَّق، أو قاعدة كشف الملاك الالزامي في الفرد العبادي المضاد من إطلاق المتعلّق في خطاب التكليف، كما ذكروا تفصيل ذلك في بحث الضدّ.ثمّ إنّه تكون مسألة من سائر العلوم بنفسها كافية في الاستنباط بضمّ صغراها إليها، ولو في بعض الموارد، كبعض مسائل علم اللغة التي يستفاد منها معنى الوجوب والحرمة والكراهة أو معنى النجس والطاهر، مما يدلّ على الحكم تكليفاً أو وضعاً، فإنّه إذا وقعت هذه الألفاظ في الكتاب أو في الخبر المحفوف بقرينة موجبة للقطع بصدوره وجهته، استنبط منه الحكم بلا ضمّ مقدمة أُصولية أُخرى.والحاصليتعيّن أن يراد بالاستنباط من القواعد الأُصولية ما هو الأعمّ من الاستنباط بضمّ قاعدة أُخرى من مسائله (حتّى في جميع الموارد).وإنما لم تُجعل مسائل علم الرجال وبعض مسائل علم اللغة من علم الأُصول، باعتبار وضوحها أو باعتبار البحث عنها في علم آخر.نعم المباحث التي تذكر في كتب الأُصول ولكن لاتكون واسطة في استنباط نفس الحكم بل يحرز بها الموضوع أو المتعلّق للحكم، كمباحث المشتق والحقيقة الشرعية والصحيح والأعم ونحوها، لا تدخل في مسائل علم الأُصول، بل تعتبر من المبادئ التصورية لعلم الفقه، بخلاف المسائل الأُصولية فإنّها من المبادئ التصديقيّة لعلم الفقه.ولذا ينبغي تقسيم المسائل الأُصولية إلى أربعة أقسام: الأوّلمباحث الدلالات اللفظية وتعيين الظهورات فيها.الثانيمباحث الاستلزامات العقلية، ولو كانت غير مستقلّة، كبحث الملازمة بين إيجاب شيء إيجاب مقدمته.الثالثمباحث الحجج الاعتبارية والأمارات.الرابعمباحث الأُصول العملية والوظائف المقرّرة للشاك عقلاً أو شرعاً.حقيقة الوضع
[2] مراده (قدس سره)؛ ان اللفظ يتصّف بكونه موضوعاً فيما إذا عيّن بازاء معنى لتفهيمه بذلك اللفظ في مقام التخاطب، ويتصّف أيضاً بكونه موضوعاً فيما إذا تكرّر استعماله في معنى بنصب القرينة ورعاية العلاقة إلى حدّ لا يحتاج تفهيم ذلك المعنى به إلى نصب القرينة بل يكون المعنى الأوّل مهجوراً عن الأذهان وينسبق إليها المعنى الثاني عند الإطلاق.واتّصاف اللفظ بكونه موضوعاً في الصورتين يكشف عن كون الوضع في الألفاظ أمراً يحصل بالتعيين تارةً، وبكثرة الاستعمال أُخرى، وذلك الأمر نحو علقة وارتباط بين اللفظ والمعنى يحصل بأحد الأمرين، وعلى ذلك فما ذكر من أنّ الوضع عبارة عن «تعيين اللفظ بازاء المعنى» غير سديد، فإنّه بهذا التعريف غير قابل للتقسيم إلى التعييني والتعيّني.أقولالوضع هو تعيين اللفظ بإزاء معنى، سواء كان إبتدائياً أو مسبوقاً بالاستعمال المجازي، إذ في الوضع التعيّني تلغى العناية ولحاظ العلاقة في الاستعمال ولو بعد شيوع ذلك الاستعمال لا محالة، وفي أيّ زمان فرض إلغائها يحصل التعيين.وبتعبير آخركما يحصل التعيين بإنشائه، كذلك يحصل بالاستعمال، كما صرح بذلك (قدس سره)في أوائل البحث في الحقيقة الشرعية، فيكون إلغاء العناية في الاستعمال بعد تكرّره من التعيين.وأمّا ما ذكره (قدس سره) في حقيقة الوضع من كونه نحو اختصاص وارتباط مخصوص بين اللفظ والمعنى، فإن أراد (قدس سره) من الارتباط والاختصاص أُنس الأذهان من لفظ خاصّ، بمعنى مخصوص، بحيث ينتقل الذهن عند سماعه إلى ذلك المعنى فهذا الارتباط صحيح، إلاّ أنّه معلول للعلم بالوضع فيكون الوضع غير الارتباط المفروض.وإن أراد من الاختصاص أمراً آخر فلا نعرفه.وقد يقال في المقام كما عن المحقق الاصفهاني (قدس سره)إن الارتباط بين اللفظ والمعنى مما يلازم الوضع وليس عينه، بل الوضع أمر اعتباري يشبه وضع العَلَم على الأرض أو الحجر على الحجر لغرض ما، غاية الأمر الوضع في المثالين حقيقي، يندرج تحت مقولة الوضع وفي اللفظ اعتباري لا يندرج تحت أيّ مقولة، فلا يكون مما بازاءه شيء في الخارج، ولا ممّا له منشأ انتزاع خارجي.ويشهد لذلك أنّ الارتباط حاصلٌ بين طبيعيّ اللفظ وطبيعيّ المعنى، ولو مع الإغماض عن وجود اللفظ خارجاً أو ذهناً، بحيث لو لم يتلفّظ أحد بلفظ الماء مثلا ولم يوجد معناه في ذهن أحد، لكان الارتباط بين لفظه ومعناه موجوداً، ومن ذلك يظهر أنّ الوضع ليس من الأُمور الاعتبارية الذهنية نظير الكلية والجزئية والنوعية والجنسية، لأنّه لو كان كذلك لاحتاج إلى لحاظ اللفظ ولكان المعروض ذهنياً مع أنّ الاختصاص الوضعي حاصل لطبيعي اللفظ لا بما هو موجود ذهناً ولا بما هو موجود خارجاً.ودعوى أنّ قول الواضع: (وضعت هذا اللفظ) منشأً لانتزاع الوضع فيكون من الأُمور الانتزاعية ـ نظير ما يقال من أنّ قول البائع(بعت المال) منشأً لانتزاع الملكية، فتوجد الملكية بمنشأ الانتزاع ـ لا يمكن المساعدة عليها، فإنّ الأمر الانتزاعي من منشأ يحمل العنوان منه، على منشائه مع أنّ العنوان من الملكية والوضع لا يحمل على صيغة بعتُ ولا على صيغة وضعتُ.ويشهد أيضاً لعدم كون اختصاص اللفظ بالمعنى، معنى مقولياً، اختلاف أنظار الأقوام والطوائف في ارتباط لفظ بمعنى، فيرى قومٌ ارتباط لفظ بمعنىً، ويرى آخرون ارتباطه بمعنىً آخر(4).أقولما ذكره (قدس سره) ـ من كون الوضع بنفسه أمراً اعتبارياً لا يندرج تحت مقولة ـ صحيح، والشاهد على ذلك إمكان إلغائه، ولو كان أمراً حقيقياً لما كان يقبل الإلغاء، إلاّ أنّ ما ذكره (قدس سره) من كونه أمراً اعتبارياً مسانخاً للوضع الخارجي ـ كما ذكره ـ مما لايمكن المساعدة عليه؛ إذ اللفظ وإن كان يتّصف بأنّه موضوع، إلاّ أنّ المعنى لايصحّ اتّصافه بالموضوع عليه، وإنّما يتّصف بالموضوع له، ولو كان وضع اللفظ أمراً اعتبارياً من سنخ الوضع الخارجي لصحَّ اتّصاف المعنى بالموضوع عليه.كما أنّ ما ذكره (قدس سره) من أنّ الارتباط والاختصاص لازم الوضع لايمكن المساعدة عليه أيضاً؛ وذلك لأنّ هذا الارتباط والاختصاص إنّما هو أُنس الذهن بالمعنى من اللفظ، بحيث ينسبق المعنى إلى الذهن عند سماع اللفظ، وهذا الأُنس يحصل من العلم بالوضع أو تكرار الاستعمال، لا من مجرّد الوضع.وإن أُريد من الارتباط والاختصاص معنىً آخر، فلا نعرفه.وعن المحقق الايرواني (قدس سره) أنّ حقيقة الوضع في الألفاظ عبارة عن تنزيل اللفظ منزلة المعنى وجعله عينه ادّعاءً، وهذه العينيّة الادعائيّة يصحّحها ترتّب غرض التفهيم والتفهم عليها، وهذا الغرض المهمّ كاف في تصحيح الادّعاء فإنّه بابٌ واسع.وذكر قبل ذلك أنّ دلالة الألفاظ على المعاني ذاتية، ولا يحتاج في أصل دلالتها إلى الوضع، وإنّما يحتاج إلى الوضع في تعيين المعنى وتمييز المراد من المعاني من غير المراد منها، ويشهد لذلك صحّة استعمال اللفظ وحصول دلالته على نوعه أو مثله حتّى لو كان اللفظ مهملا غير موضوع لمعنىً(5).أقول: لم يظهر وجه الاستشهاد، فأنّه عند إرادة النوع أو المثل لابدّ من وجود قرينة يكون اللفظ بها دالاًّ على إرادة نوعه أو مثله، وإن كانت تلك القرينة المحمول المذكور في الكلام، كما في قوله(ضرب فعل ماض).هذا مع الإغماض عمّا يأتي من عدم كون إرادة مثل اللفظ أو نوعه أو شخصه من استعمال اللفظ في المعنى.وأمّا ما ذكره (قدس سره) من كون حقيقة الوضع هو الادّعاء، بأنّ هذا اللفظ عين ذلك المعنى، فيكذّبه الوجدان عند ملاحظة الوضع في الأعلام الشخصية، فإنّ حقيقته لايختلف عن الوضع في سائر الألفاظ، مع أنّه لا تنزيل ولا ادّعاء في وضعها قطعاً، فإنّ قول الوالد(سميت ولدي محمّداً) ليس مفاده جعلته عين لفظ «محمّد» أو أنّ صورته عين ذلك اللفظ، ويوضّح ذلك كمال الوضوح، ملاحظة أسماء ذات الحق «جلّ وعلا».وأمّا دعوى(6) كون أصل الدلالة في الألفاظ ذاتية، بتقريب أنّه لو سمع شخص كلاماً وكان جاهلا بوضع ألفاظه، علم أنّ المتكلّم أراد معنىً ما، فيردّها أنّ علم السامع بذلك ليس ناشئاً من دلالة الألفاظ ذاتاً، بل من ظهور حال المتكلم العاقل بأنّه لا يفعل شيئاً بلا غرض، والغرض من الكلام عادةً إرادة المعاني.وأمّا الالتزام بأنّ دلالة الألفاظ ليست بذاتية محضة بل بها وبالوضع معاً ـ كما عن المحقق النائيني (قدس سره) ـ، بدعوى أنّ كل لفظ يناسب معنى واقعاً وتلك المناسبة مجهولة عندنا، واللّه (تبارك وتعالى) عيّن كلّ لفظ لمعناه المناسب له وألهمنا بالتكلم بذلك اللفظ عند إرادة ذلك المعنى، فيكون الوضع في الألفاظ أمراً متوسطاً بين الأحكام الشرعية التي يحتاج إبلاغها إلى الأنام إلى إرسال الرسل وإنزال الكتب، وبين الأُمور الجبلّيّة التي جُبل الإنسان على إدراكها من الأُمور التكوينية كالعطش والجوع عند احتياج البدن إلى الماء والغذاء، ولو كانت دلالة الألفاظ ذاتية محضة بلاتوسيط وضع لما جهل أحدٌ معنى لفظ، ولو عند قوم آخرين، واحتمال أنّ الواضع هو الإنسان غير صحيح؛ لأنّا نقطع بحسب التواريخ التي بأيدينا أنّه لم يكن شخص أو أشخاص وضعوا الألفاظ في لغة، فضلا عن سائر اللغات.ومما يؤكّد ذلك أنّ جماعة لو أرادوا وضع ألفاظ جديدة في لغة بقدر الألفاظ التي في تلك اللّغة لما قدروا عليه؛ لكثرة المعاني وتعذّر تصوّرها من قبل أشخاص، فضلاً عن شخص واحد.فقد ظهر أنّ حقيقة الوضع هو تعيين اللفظ لمعنى بمقتضى مناسبة له وأنّ هذا التعيين من اللّه (عز وجل)(7)، فغير صحيح؛ وذلك لأنّ دعوى المناسبة الواقعية بين كل لفظ ومعناه، مما لم يشهد بها شاهد، وما يقال من أنّ الوضع يستلزم الترجيح بلامرجح لولا مناسبة واقعية، غير صحيح؛ لأنّ الغرض من الوضع ـ وهو التسبيب إلى تفهيم المعاني والمرادات ـ بنفسه كاف في تعيين أيّ لفظ لأيّ معنى، وعدم وجود اسم شخص أو أشخاص في التواريخ التي بأيدينا لا تدلّ على أنّ واضع الألفاظ هو اللّه سبحانه، إذ يحتمل أن يكون أصل الوضع في أيّ لغة قد حدث قبل التاريخ، ثمّ كملت تلك اللغة على مرّ العصور نتيجة تطوّر الأفكار وكثرة الحاجات، كما نرى بالوجدان أنّ المصنوعات والمخترعات الجديدة تُوضع لها الأسماء من غير أن يذكر في التاريخ مَن سمّاها بها، ومما ذكر يظهر الجواب عن تعذّر وضع أشخاص لغةً جديدة، فضلا عن شخص واحد.وقد ذهب سيدنا الاستاذ (قدس سره) إلى أنّ وضع الألفاظ في حقيقته تعهّد وقرار من مستعمل اللفظ بأنّه كلّما أتى به أراد تفهيم المعنى الفلاني، ولا يفرق في ذلك بين أن يكون التعهّد والقرار إبتدائياً، أو كان مسبوقاً بالتعهد والاستعمال من الآخرين فيكون مستعمل الألفاظ مع ذلك التعهّد واضعاً، ولو كانت استعمالاته مسبوقة بالاستعمال من الآخرين، فإنّ عدم إعراضه عن استعمال السابقين وإقرار اللفظ على ما هو عليه إمضاءٌ للتعهّد والقرار، فكلّ مستعمل واضع، غاية الأمر السابق ـ لسبقه في التعهّد والاستعمال ـ يطلق عليه الواضع، وعلى ذلك فما يرى من خطور المعنى إلى الذهن عند سماع اللفظ ولو من غير شاعر فهو ليس من الدلالة الوضعيّة، بل منشأه أُنس الأذهان لكثرة الاستعمال(8).ولكن لا يخفى أنّه لو كان الأمر كذلك لكان الأُنس حاصلا بين اللفظ وإرادة تفهيم المعنى لا نفسه.والصحيح أنّ الوضع في الألفاظ عبارة عن جعلها علامات للمعاني، والغرض من جعل العلامة تفهيمها بها، فالمعنى هو الموضوع له ومسمّى اللّفظ، لا أنّ إرادة المعنى نفسها مسمّى اللّفظ، ثمّ إنّ هذا التعيين وجعل اللفظ علامة للمعنى قد يكون إبتدائياً، وقد يكون مسبوقاً بالاستعمالات المتكررة بالعناية وملاحظة العلاقة فيكون الوضع تعيّنيّاً.أقسام الوضع
[3] حاصل ما ذكره (قدس سره) في المقام: أنّ وضع اللفظ لمعنى يتوقّف على لحاظ ذلك المعنى، فإن كان المعنى الملحوظ عامّاً يعني كليّاً يكون في ذلك العامّ جهتان؛ إحداهما: أنّه معنىً من المعاني، وبهذا الاعتبار يكون وضع اللفظ له من الوضع العامّ والموضوع له العامّ.وثانيتهماجهة كونه عنوانا لأفراده ووجوداته وصورة لها، وبهذا الاعتبار يكون وضع اللفظ من الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ فإنّ الموضوع له في الحقيقة وجوداته وأفراده غاية الأمر لم تلاحظ تلك الأفراد تفصيلا بل إجمالا، يعني بعنوانها وبالصورة المشتركة بينها.وأمّا إذا كان المعنى الملحوظ جزئياً فبما أنّ لحاظه ليس إلاّ لحاظ نفسه لا غيره من سائر الأفراد ولا للصورة المشتركة بينها حيث إنّ الجزئي لا يكون صورة لغيره فيكون وضع اللفظ له من الوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ.نعم إذا لوحظ الجزئي فربّما ينتقل الذهن إلى أنّ له كليّاً ويوضع اللفظ لذلك الكلّي، فهذا أمر ممكن إلاّ أنّ الوضع في هذا الفرض كالموضوع له عامّ، فإنّه لوحظ المعنى العامّ ثانياً، بعد تصور الجزئي أوّلا، وفرق بين تصور الشيء بعنوانه وصورته المرآتيّة كما في الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ، وبين تصوّر الشيء بنفسه ولو بعد الانتقال إليه من تصوّر شيء آخر كما في حالة الانتقال إلى أنّ للجزئي كليّاً.لا يقالكون اللفظ موضوعاً للجزئي أو استعماله فيه يلازم إدخال الخصوصيات الموجبة للجزئية في ذلك المعنى الموضوع له أو المستعمل فيه، وتصور العامّ في مقام الوضع أو الاستعمال لا يكون إلاّ تصوّراً لنفسه وهي الجهة المشتركة بين أفراده مع حذف خصوصيات الأفراد في الملحوظ لا يكون الموضوع له خاصاً فلابدّ من جعل الموضوع له المعنونات بذلك العنوان بأن يلاحظ ما يكون إنساناً أو غيره بالحمل الشايع ويجعل الموضوع له هو المعنون، لا العنوان، وهذا في الحقيقة انتقال إلى الجزئي، و لحاظه إجمالا بعد تصوّر العامّ ويجري ذلك في الوضع الخاصّ والموضوع له العامّ الذي ذكر قسما رابعاً للوضع بان يلاحظ الجزئي أوّلا ويوضع اللفظ لما هو عنوان له، وبالجملة يكون في كلتا الصورتين تصور المعنى بنفسه ولو إجمالا، بعد تصور شيء آخر عامّ أو خاصّ.فإنّه يقالإنّ إمكان الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ إنّما هو باعتبار أنّ لحاظ معنى بخارجيّته كاف في جزئيّته، فإنّ المعنى الكلي يمكن تصوّره بحيث يكون لحاظاً لتلك الوجودات العينية، حيث إنّ الكلي عينها خارجاً، كما يمكن ملاحظته بحيث يقبل الاتصاف بالوجود والعدم.فإن كان اللفظ قد وضع له مع الإغماض عن العينيّات الخارجيّة، بحيث يكون قابلا للاتصاف بكل من الوجود والعدم، كان الموضوع له كالوضع عامّاً، وإن كان اللفظ قد وضع له بلحاظ العينيّات الخارجيّة بحيث لا يقبل الاتصاف بالوجود والعدم بل يكون الأمر فيه نظير ما في الأعلام الشخصية في عدم اتصافها بالوجود والعدم كان الموضوع له خاصّاً، مثلا؛ في العنقاء يصحّ أن يقال: إنّه معدوم، ولا يصح أن يقال: زيد معدوم، بل يقالإنّه غير باق.والحاصل أنّ الطبيعيّ عين وجوداته خارجاً، فلحاظه بجهة خارجيّته كاف في كون الموضوع له خاصاً، والمراد بجهة العينيّة واقعها لا مفهوم العينيّة فإنّ مفهومها هو عين مفهوم الوجود، كما هو ظاهر.(1).كفاية الأصولص 9.(2).فوائد الأُصول: 4 / 309؛ أجود التقريرات2 / 345.(3).المحاضرات1 / 12.(4).نهاية الدراية1 / 44.(5).نهاية النهاية1 / 7.(6).الدعوى منسوبة إلى عبّاد بن سليمان الصيمري، قوانين الأُصول: 1 / 194؛ والمحصول1 / 57.(7).أجود التقريرات1 / 11.(8).محاضرات في أُصول الفقه1 / 45. والتحقيق جسماً يؤدي إليه النظر الدقيق[1].قلتالفرق بينهما إنّما هو في اختصاص كلٍّ منها بوضع[2].
المعنى الحرفي
[1] وبتعبير آخر إنّ مثل لفظ «من» ولفظ «الابتداء» موضوعان لمعنى واحد غاية الأمر، ذلك المعنى يلاحظ تارةً بما هو هو فيستعمل فيه لفظ «الابتداء»، وأُخرى يلاحظ آليّاً فيستعمل فيه لفظ «من» وليس المراد أنّ اللحاظ الآلي أو الاستقلالي داخل في المستعمل فيه، بل هما نحوان من اللحاظ يتعلّقان بنفس المعنى في مقام الاستعمال، ونفس ذلك المعنى ـ الذي يتعلّق به اللحاظ الآلي تارةً والاستقلالي أُخرى ـ هو الموضوع له والمستعمل فيه، فيهما.ويدلّ على عدم كون معاني الحروف جزئيات بل كمعاني الأسماء كليّات؛ أنّ القائل بالجزئية إن أراد الخصوصية الخارجيّة الموجبة لكون المعنى جزئياً خارجياً، فمن الظاهر أنّ تلك الخصوصية غير داخلة في معاني الحروف، فإنّه كثيراً ما يكون معنى لفظ «من» كلّياً يصدق على كثيرين، كما إذا وقع تلو الأمر أو النهي، كقوله «سر من البصرة» ولذا إلتجأ بعض الفحول إلى جعله جزئيّاً إضافياً، وهو كماترى؛ لأنّ ما يوجب كونه جزئيّاً إضافياً غير داخل في معناها بل هو مستفاد من دالٍّ آخر، كمدخولها كما لا يخفى.وإن أراد جزئيّة معاني الحروف باعتبار خصوصية ذهنيّة مأخوذة فيها، موجبة لكونها جزئيات ذهنيّة، بأن يكون الموضوع له نفس الوجود العرضي الذهني، بأن يقالكما أنّ الموجود الخارجيّ قد يكون قائماً بنفسه فيعبّر عنه بالجوهر وقد يكون قائماً بالغير فيعبّر عنه بالعرض، كذلك الموجود الذهني فإنّ المعنى قد يلاحظ بنفسه، فيكون إسميّاً، وقد يلاحظ آليّاً، حالة لمعنى آخر (بأن يكون الموجود ذهناً بما هو، المعنى الآخر) فيكون حرفياً، وعليه يكون معنى الحرف باعتبار أخذ واقع اللحاظ الآلي فيه وتقوّمه بمعنى آخر، جزئياً ذهنياً.ففيه: أن هذا اللحاظ لا يمكن أخذه في معاني الحروف بشهادة أُمور: الأوّل: ما أشار إليه بقوله (قدس سره): «وإلاّ فلابدّ من لحاظ آخر» وتوضيحهأنّه لو كان واقع اللحاظ الآلي داخلا في معنى الحرف لزم تعدد اللحاظ في استعماله، ضرورة أنّ الاستعمال موقوف على لحاظ المعنى وتصوّره، وقد فرضنا واقع اللحاظ الآلي دخيلا في معنى الحرف، فلابدّ من لحاظ الابتداء آلياً أوّلا، ثمّ لحاظ الملحوظ باللحاظ الأوّل، وهذا ممّا يكذّبه الوجدان.أقولتوقّف الاستعمال على لحاظ المستعمل فيه، وإن كان صحيحاً إلاّ أنّ لحاظ المستعمل فيه ليس إلاّ إحضاره في أُفق النفس، وإذا فُرض حضور المستعمل فيه عند النفس باللحاظ الأوّل ـ كما في المعلوم بالذات ـ فلا معنى لإحضاره فيها بلحاظ آخر وفي الجملة لو كان واقع اللحاظ الآلي مأخوذاً في معاني الحروف لم يكن في استعمالها حاجة إلى أزيد من ذلك اللحاظ.الثانيما ذكره (قدس سره) من أنّه لو كان اللحاظ مأخوذاً في معاني الحروف لما صحّ أن تصدق معانيها على الخارجيّات؛ لأنّ الصدق عليها هو الانطباق عليها، والانطباق هو العينية، والمعنى المركب والمقيد باللحاظ أمر ذهني لا ينطبق على الخارج بوجه.نعم عدم الانطباق لا يمنع الحكاية عن كثيرين فإنّ الطبيعي المقيّد بالكلّي المنطقي لا يمكن حصوله في الخارج، مع ذلك يكون كلّياً باعتبار حكايته عن كثيرين ـ كما في الكلي العقلي المصطلح ـ وعلى ما ذكر فيمتنع امتثال قوله «سر من البصرة» إلاّ بالتجريد بإلغاء خصوصية اللحاظ عن متعلّق الأمر.الثالث: ما أشار إليه بقوله«مع أنّه ليس لحاظ المعنى.إلخ» يعني ليس اللحاظ الآلي في استعمالات الحروف إلاّ نظير اللحاظ الاستقلالي في استعمال الأسماء، وكما أنّ اللحاظ الاستقلالي غير مأخوذ في معانيها في الوضع والاستعمال كذلك اللحاظ الآلي في استعمالات الحروف ووضعها.ثمّ إنّ قوله (قدس سره): «لامتناع صدق الكلّي العقلي عليها، أي الخارجيات» ليس كما ينبغي، فإنّ معنى الحرف بناءاً على تقيّده باللحاظ الآلي وإن كان كالكلّي العقلي من حيث حكايته عن كثير من الخارجيّات إلاّ أنّه ليس من الكلي العقلي المصطلح عليه، و الصحيح أن يقاللامتناع صدقه نظير امتناع صدق الكلي العقلي على الخارجيّات.[2] وبتعبير آخر معنى لفظي «من وابتداء» وإن كان أمراً واحداً يتعلّق به اللحاظ الآلي تارةً، والاستقلالي أُخرى، وشيء من اللحاظين غير مأخوذ في ناحية الموضوع له والمستعمل فيه إلاّ أنّ الوضع في الحروف مقيّد بتعلّق اللحاظ الآلي بمعانيها عند الاستعمال، وفي الأسماء بتعلّق اللحاظ الاستقلالي بها كذلك، واختلافهما بحسب الوضع واختلاف شرط الوضع في كلّ منهما يوجب عدم صحّة استعمال أحدهما في موضع الآخر، وليس المراد بشرط الوضع ما يرادف معنى الشرط في المعاملات، أعني الالتزام بشيء في ضمن معاملة، ليقال إنّ اتّباع شروط الوضع والعمل بها غير لازم، كما لو فرضنا أنّ الواضع اشترط دفع درهم على من استعمل هذا اللفظ في هذا المعنى، بل المراد بالشرط هو ما في لسان علماء الأدب من أنّ وضع الحرف لذلك المعنى معلّق على لحاظه آلياً وفي الإسم على لحاظه استقلالا.أقولغاية ذلك عدم صحة استعمال الحرف في موضع الإسم حقيقةً؛ لكونه بغير الوضع، وأمّا عدم صحته أصلاً ولو بنحو المجاز، فلا موجب له، مع أنّ استعمال أحدهما موضع الآخر يعدّ غلطاً، وهذا كاشف عن اختلاف المعنى في الحرف والإسم ذاتاً، وأنّ معنى الأوّل غير الآخر، لا أنّهما يختلفان باللحاظ أو بتقيد الوضع مع اتحاد المعنى، فيبقى الكلام في ذلك الاختلاف.وعن المحقق الاصفهاني (قدس سره) أنّ الحرف موضوع للوجود الرابط الذي ذكره بعض الفلاسفة، في مقابل وجود الجوهر والعرض (الذي يعبّر عنه بالوجود الرابطيّ).وحاصل ما ذكره (قدس سره) في المقامأنّ الألفاظ الموضوعة للجواهر والأعراض ـ وهي الأسماء ـ تكون معانيها من قبيل الماهيّات، سواء كانت متأصّلة (أي منتزعة من نفس وجوداتها)، أو من الاعتبارات (أي المنتزعة من الشيء باعتبار أمر آخر)، ولا يكون الوجود الخارجي أو الذهني مأخوذاً في معاني الأسماء أصلاً، بل تتّصف معانيها بالوجود والعدم، وفي مقابل هذه الماهيّات من الجواهر والأعراض والانتزاعيّات وجودٌ آخر ضعيف ودقيق في الغاية زائداً على وجود الجوهر والعرض، يظهر بالبرهان على ما استدلّوا عليه فإنّه ربّما يعلم بوجود كلٍّ من الجوهر (كوجود الإنسان) والعرض (كحصول الحركة)، ولكن يشكّ في قيام الحركة بالإنسان أو بغيره، وهذا دليلٌ واضح على أنّ الحصّة الخاصّة من الحركة القائمة بالإنسان لها نحو وجود، نعبّر عنه بالوجود الرابط زائداً على أصل الحركة، ووجود الإنسان لقضاء تعلّق الشك به وتعلّق الجزم بالأخيرين وهذا الوجود الرابط لضعفه وخفائه لا يكون له مهيّة، ليكون وضع اللفظ لها، بل الحروف موضوعة لنفس الوجودات الروابط، وتلاحظ هذه الوجودات في مقام الوضع، وعند الاستعمال بنحو الإشارة إليها، فتكون معاني الحروف مباينة ذاتاً لمعاني الأسماء؛ لأنّ الأسماء توضع للصور الذهنيّة المنطبقة على الخارج ويكون الوجود الخارجي كالوجود الذهني، خارجاً عن الموضوع له والمستعمل فيه فيها، بأن يكون الموضوع له والمستعمل فيه نفس الماهيّات بخلاف الحروف، فإنّها موضوعة لما هو رابط خارجاً، لا عنوان الرابط، فإنّه معنىً إسمي ويلزم على ذلك أن يكون الوضع في الحروف عامّاً والموضوع له خاصّاً(1).أقول: يناقش فيما ذكره (قدس سره): أولابأنّه لا سبيل إلى الجزم بأنّ في الخارج وجوداً آخر غير وجود العرض والجوهر يسمّى بالوجود الرابط، والدليل عليل، إذ تعدّد متعلقي اليقين والشك، لايلزم أن يكون بتعدّد الوجود، بل يكفي فيه تعدّد الاعتبار والجهة مع الاتحاد خارجاً، فإنّه ربّما يعلم حصول الطبيعي ويشكّ في أفراده، ومن الظاهر أنّ الطبيعي عين أفراده خارجاً ولا وجود له غير وجودها، وعلى ذلك لو علم بوجود الإنسان خارجاً ووجود الحركة يكون الشكّ في إضافة ما تقوم به الحركة من كونه معنوناً بعنوان الإنسان أو غيره.وثانياًإنّ الوجود الرابط ـ على فرض تسليمه ـ لا يكون الموضوع له في الحروف، فإنّ الحروف تستعمل في موارد لا يكون فيها ذلك الوجود قطعاً، كما يقال «الوجود للإنسان ممكن» و«لشريك الباري ممتنع» و«لذات الحق (جل وعلا) واجب» مع أنّه لا رابط في شيء منها بالمعنى المتقدّم أصلاً.وثالثاً: يلزم ـ على ماذكر ـ أن لا يكون قول المخبر(لزيد علم، ولعمرو خوف، ولبكر شجاعة) كذباً، فيما إذا لم يكن لهم شيء ممّا ذكر، فإنّه في الفرض لايكون للكلام مستعمل فيه بالإضافة إلى الحرف ليقال إنّ مدلوله غير مطابق للواقع كما هو الفرض من عدم الرابط، المدّعى كون اللام مستعملة فيه، ويتضّح ذلك أكثر بملاحظة الحروف المستعملة في النفي وفي الجواب والاستفهام والنداء والتعجّب، إلى غير ذلك، مما لا يعقل فرض الوجود الرابط فيها.وللمحقق النائيني (قدس سره) في اختلاف معنى الإسم والحرف كلامٌ، ملخَّصهأنّ المعنى في الأوّل إخطاريّ، وفي الثاني إيجادي، سواء كان معنى الحرف نسبيّاً أو غير نسبيّ، فالثاني كحروف النداء والتشبيه والجواب ونحوها، ممّا يتحقّق باستعمالها فرد من النداء والتشبيه والجواب أو غيرها، بخلاف الأوّل ـ يعني الحروف النسبيّة ـ فإنّه يتحقّق باستعمالها فرد من النسبة والربط بين أجزاء الكلام بحسب معانيها.وتوضيح ذلكأنّ الأسماء ـ سواء كانت معانيها من الجواهر خارجاً أو من الأعراض ـ موضوعة لنفس المعاني التي تتّصف بالوجود الخارجيّ أو الذهنيّ تارةً، وبالعدم أُخرى، وهذه المعاني كلّها مستقلّة ذاتاً، بمعنى أنّه يخطر عند سماع ألفاظها معانيها في الأذهان ولو لم يكن سماعها في ضمن تركيب كلاميّ، وهذا بخلاف الحروف، فإنّه ليس لها معان استقلاليّة وإخطارية، بحيث تخطر إلى الذهن عند سماعها منفردةً عن التركيب الكلامي.ثمّ لا يخفى أنّ العرض لمّا كان لا يرتبط مفهومه ومعناه ـ بما هو مفهوم ومعنى ـ بمعنى المعروض ومفهومه كذلك، بل كان العرض خارجاً، مرتبط بمعروضه الخارجي وملابساته من الزمان والمكان والآلة والمفعول وغير ذلك من الملابسات، فدعت الحاجة إلى إيجاد الربط بين معنى اللفظ الدال على العرض ومعنى اللفظ الدال على المعروض، وكذا سائر الملابسات في مقام المعاني ليقوم الربط بين المداليل في الكلام بحيث يعدّ نسبة الربط فيه إلى النسبة الخارجية مثل الظل إلى ذي الظلّ.و ليس المراد أنّ النسبة الخارجيّة محقّقة للنسبة الكلامية، نظير فرد الإنسان خارجاً، حيث إنّه يكون تحققاً لطبيعيّ الإنسان، بل المراد أنّ قيام الحركة مثلاً بالإنسان كاف في ارتباطها به خارجاً ولكن معنى لفظ الحركة غير مرتبط بمعنى الإنسان، فوضعت الحروف لإيجاد الربط بينها في مقام التكلّم، ثمّ إنّه ربّما يكون هذا الارتباط الكلاميّ متّفقاً مع الإضافة الخارجية، توافق الظلّ وذيه، فيكون الكلام صادقاً، وربّما لا يوافقها، فيكون كاذباً، فالمستعمل فيه في الحروف إيجادي، لكن لا كالإيجاد في إنشاء البيع والطلب، بأن يوجد البيع والطلب خارجاً وفي عالم الاعتبار، بل الإيجاد في الحروف بمعنى تحقيق الربط بين مدلول أجزاء الكلام.نعم في الحروف غير النسبيّة يكون الموجود فرداً خارجياً من النداء والتشبيه والجواب وغير ذلك(2).أقوليرد عليه (قدس سره) أنّ دعواه بأنّ المعاني الإسمية لا يمكن لحاظها مرتبطة بنحو ارتباط بعضها ببعض إلاّ بالتكلّم بالحروف، لا يمكن الالتزام بها، حيث يمكن للإنسان لحاظ شيئين مرتبطين خارجاً بما هما عليه من الارتباط، فكما أنّ اللفظ الموضوع لكلٍّ منهما يحكي عنهما خارجاً بصورتهما المرآتيّة، كذلك الحرف بصورته المتدلّية في معناهما، يحكي عمّا هما عليه من الارتباط خارجاً، فيمكن وضع لفظ للصورة المتدلّية في صورتي الشيئين المرتبطين خارجاً، ويكون اللفظ بحكايته عن تلك الصورة المتدلّية (الحاكية عن الخارج) موجباً لحصول الارتباط بين معنى كلٍّ من الإسمين.وبتعبير آخريكون الفرق بين معاني الأسماء والحروف أنّ معاني الأسماء إخطارية، بمعنى أنّه ينسبق منها معانيها إلى الأذهان ولو عند التلفّظ بكلٍّ منها منفرداً، بخلاف الحروف فإنّه لا ينسبق منها المعاني إلاّ إذا تلفّظ بها في ضمن تركيب كلامي، وهذا معنى كون معاني الحروف غير إخطاريّة.وهو لا يقتضي الإيجاديّة، فلا ملازمة بين الإيجاديّة وغير الإخطاريّة.نعم للمعنى الحرفي نوع خاصّ من الإخطار وهو الإخطار الضمني، أي في ضمن التراكيب الكلاميّة، بخلاف المعنى الإسمي فهو إخطاري استقلالاً.وممّا ذكر ظهر أنّه لا مقابلة بين إخطاريّة معنى اللفظ وبين كونه إيجادياً حتّى يكون نفي الأول مستلزماً لإثبات الثاني.ثمّ إنّه (قدس سره) ذكر أنّ معاني الحروف تكون آليّة ومغفولا عنها، بخلاف الاسماء.فهذا لا يمكن المساعدة عليه أيضاً، فإنّه إن كان المراد بالآليّة عدم كون تفهيمها هو المقصود الأصلي للمتكلم، فمن الظاهر أنّه كثيراً ما يكون الغرض الأصلي من التكلّم تفهيم الارتباط بين شيئين خارجاً، لعلم السامع بحصول كلٍّ منهما وعدم علمه بالارتباط الخاصّ بينهما، وإن كان المراد أنّ نظر المتكلّم إلى صورها المتدلّية في غيرها نظر مرآتي، فهذا النظر المرآتي حاصل في معاني الأسماء وغيرها، حيث إنّ المتكلّم عند التكلّم ينظر بالمعاني التي هي في حقيقتها صور للأشياء إلى نفس الأشياء في مواطنها.إذن فالحقّ في المقام والذي يقتضيه التأمّل في معاني الحروف هو أنّها موضوعة لإفادة خصوصية في مدلول مدخولاتها بحسب الوعاء المناسب لتلك المدخولات، فمثلا لفظة «في» موضوعة لتدخل على الإسم وتدلّ على أنّ مدخولها متّصفٌ بكونه ظرفاً بحسب الخارج.وليس المراد أنّ لفظة «في» ترادف لفظ «الظرف» ليكون معنى «في» ظرفاً بالحمل الأوّلي أو بالحمل الشائع، بل المراد أنّ معنى لفظ «ظرف» معنى إسمي وأنّ لفظة في وضعت لتكون بعد دخولها على الإسم دالّة على أنّ ذلك المدخول موصوف خارجاً بكونه ظرفاً لشيء يذكر في الكلام أو ذكر سابقاً، كما أنّ «كاف التشبيه» موضوعة لتكون دالّة على أنّ المعني بذلك الإسم خارجاً مشبّه به، ولفظة «من» وضعت لتكون دالّة على أنّ مدلول ذلك الإسم خارجاً معنون بعنوان المبدأ، وكلمة «نعم» موضوعة لتدخل على الجملة ولتدلّ على أنّ مضمونها هو الجواب ولفظة «لا» موضوعة لتدخل عليها فتدل على انتفاء مضمون تلك الجملة بحسب الخارج وهكذا وهكذا، كما هو الحال في الاعراب والهيئات الداخلة على الأسماء والجُمل.وبتعبير آخر: كما أنّ حالات الإعراب موضوعة لتدلّ على أنّ معنى مدخولها بحسب الخارج متّصف بكونه مصداقاً للفاعل أو المفعول أو غيرهما، كذلك الحروف موضوعة لتكون بدخولها على الإسم أو غيره دالّة على خصوصية مدخولها بحسب الخارج، فمثلا إذا قيل(الصلاة في المسجد أفضل من الصلاة في غيره) يكون لفظ «في» دالاًّ على أنّ المسجد متّصف بكونه ظرفاً فتكون الهيئة الكلامية دالّة على أنّ الصلاة المفروض كون المسجد ظرفاً لها محكومة بما ذُكر، وعليه فلفظة «في» لم توضع لتقييد معنى الصلاة وتضييقها بالظرف.نعم بما أنّها موضوعة للدلالة على كون مدخولها ظرفاً، تكون الصلاة المفروض لها الظرف الخاصّ أخصّ من طبيعيّ الصلاة، وأمّا إذا لم يكن في البين شيء قابل للتضييق لم يحصل ذلك التقييد كما في قولنا (زيد كالأسد) أو (في الدار) إلى غير ذلك.والحاصل؛ أنّ الفرق بين الحروف والأسماء يكمن في أنّ الأسماء موضوعة للعناوين (ولذا تكون معانيها إخطاريّة بالمعنى المتقدّم) بخلاف الحروف، فإنّها موضوعة لتدل على اتّصاف مدخولاتها بالعناوين بحسب الوعاء المناسب لتلك المدخولات (ولذا تكون معانيها في مداليل مدخولاتها).ومما ذكر يظهر ضعف القول بأنّ الحروف موضوعة لتضييق معاني الأسماء وتقييدها(3).فإنّ التضييق وإن كان يحصل في المورد القابل له عند استعمال الحروف في معانيها إلاّ أنّه لم يكن بموضوع لها، بل التضييق والتقييد لازم للمعاني الحرفية في المورد القابل.لا يقالما الفرق بين لفظ «زيد» الحاكي عن مصداق خاصٍّ للإنسان، وبين لفظة «في» الحاكية عن مصداق الظرف، فلو كان مجرّد الحكاية عن مصداق عنوان موجباً لكونه حرفاً، لزم كون معنى لفظ «زيد» أيضاً حرفياً.فإنّه يقالمعنى لفظ «زيد» إخطاري يحكي عن نفس المصداق ولو بعنوان مشير إليه ولا يحكي عن جهة كونه مصداقاً لعنوان الإنسان، بل الحاكي عن هذه الجهة الهيئة التركيبية في قولنا «زيد إنسان»، وهذا بخلاف لفظة «في» حيث إنّ معناها لا يكون إخطارياً، ولفظة «في» لا تحكي عن نفس مصداق عنوان الظرف، بل الحاكي عن نفس المصداق مدخولها، وهو لفظ الدار، فيكون مدلول لفظة «في» اتّصاف مدخولها بكونه ظرفاً.وبما ذكرناه من معنى الحروف تبيَّن صحّة تعريف الحرف بأنّهما دلّ على معنىً في غيره، على أن يكون المراد بالغير مدخوله.كما تبيّن أيضاً أنّ ما اشتهر من عدم المعنى للاعراب، غير صحيح على إطلاقه، فإنّ الاعراب وإن لم يكن له معنىً إخطاري إلاّ أنّه إذا دخل على المعرَب دلَّ على خصوصية في معناه بحسب الوعاء المناسب له، فما قيل من أنّ الحروف لو كانت كالاعراب في عدم المعنى، لزم أن يكون معنى مفردات الكلام مساوياً لمعنى الكلام، بأن يكون معنى «زيد» «دار» مساوياً لمعنى «زيد في الدار» غير صحيح؛ إذ هو يبتني على أن يكون الإعراب لا معنى له، وقد عرفت خلافه.لا يقالما الفرق بين معاني أسماء الأعراض ومعاني الحروف، فكما أنّ العرض يكون خصوصية بحسب الخارج لمعروضه، كذلك معاني الحروف.فإنّه يقالإنّ أسماء الأعراض تحكي عن نفس الخصوصية بنحو الإخطار، ولو لم تكن في ضمن تركيب كلامي، غاية الأمر تكون وجوداتها قائمة بالمعروض، وكون وجوداتها كذلك بإدراك العقل لا بدلالة اللفظ، بخلاف الحروف فإنّه ليس لها معان إخطارية، بل حيث تدخل على الأسماء تكون دالّة على أنّ مدخولاتها متّصفة بالعناوين الإسميّة في الوعاء المناسب لها، ويعبّر عن تلك العناوين الإسمية بالأعراض والخصوصيّات.وقد انقدح ممّا تقدّم أنّ معاني الحروف لا تتّصف بالكلّية والجزئية؛ لكونها متدلّيات بمعاني دخولاتها، فإن كان مدخول الحروف كلّياً أو مما يصدق على الكلّ والأبعاض، كانت معاني الحروف الداخلة عليه كذلك، فيكون معناها قابلا للتقييد بتبع تقييد المدخول، وإن كان مدخولها جزئيّاً كان معنى الحرف الداخل عليه قابلا للتعيين بحسب ما يقبله ذلك الجزئيّ من التعيين بحسب الحال والزمان.وبتعبير آخر: الأزمنة التي توجد فيها الدار المفروضة كحالاتها متعددة فيمكن تقييدها ببعضها، والحرف الداخل على كلمة الدار يقبل هذا النحو من التقييد، وإن لم يكن مدخول الحرف قابلا حتّى لهذا النحو من التقييد، لم يكن معنى الحرف قابلا للتقييد أصلاً، كما في أوّل ساعة من يوم الجمعة من الشهر الفلاني من السنة الفلانية، فإذا قيل(مات زيد في أوّل ساعة من ذلك اليوم) فلا يكون المعنى الحرفي قابلا للتقييد.هذا كلّه في تقييد معاني الحروف، وأمّا تقييد معاني الهيئات فيأتي الكلام فيها في بحث الواجب المطلق والمشروط إن شاء اللّه تعالى.(1).نهاية الدراية1 / 51.(2).أجود التقريرات1 / 16.(3).محاضرات في أُصول الفقه1 / 75. ثمّ إنّه لا يبعد أن يكون الاختلاف في الخبر والإنشاء أيضاً كذلك[1].ويمكن أن يقال المستعمل فيه في مثل أسماء الإشارة[2].صحة استعمال اللفظ فيما يناسب ما وضع له بالطبع أو بالوضع[3].
الخبر والإنشاء
[1] يعني كما أنّ الفرق بين الإسم والحرف لم يكن إلاّ في ناحية الوضع مع كون الموضوع له والمستعمل فيه واحداً فيهما، فلا يبعد أن يكون الفرق بين الجملة الخبرية والجملة الإنشائيّة كذلك، بأن يكون الموضوع له والمستعمل فيه فيهما واحداً، غاية الأمر الوضع في الجملة الإنشائيّة مشروط بإرادة المعنى بنحو خاصّ، وفي الجملة الخبرية بإرادته بنحو آخر.توضيح ذلك أنّ ثبوت النسبة في موطنها وانتفائها فيه على اختلاف أنحائها لها صور عند النفس، ولو كانت تلك الصور متدلّية في طرفيها، مثلا نسبة المحمول إلى الموضوع واقعها اتّحادهما وجوداً بنحو خاصّ، أو مفهوماً أيضاً، ونسبة المبدأ إلى الفاعل عبارة عن قيام المبدأ به صدوراً أو حلولا أو غيرهما، والصور في جميع ذلك هي الموضوع لها في الهيئات وتلك الصور وإن كان لها وجودات في أُفق النفس إلاّ أنّ الهيئات لم توضع لتلك الوجودات بل وضعت لذواتها وإذا خاطب المتكلم شخصاً بقوله: (أطلب منك ضرب زيد) بنحو الإخبار، أو (طلبت ضربه منك)، وقال الآخر لمخاطبه(اضرب زيداً) إنشاءاً، فالكلامان مترادفان في المعني، وإنما يختلفان في نحو إرادة ذلك المعنى، فإنّه في الإخبار يقصد المتكلم الحكاية عن ثبوت المضمون في موطنه، وفي الإنشاء يقصد أن يثبت ذلك المضمون ويتحقّق في موطنه.ومما ذكرنا يظهر أنّ في عبارته (قدس سره) حيث قال«في حكاية ثبوت معناه» و«في قصد تحقّقه» تسامحاً، فإنّ المناسب تبديل لفظة «في» باللاّم؛ لأنّ الحكاية أو التحقّق غاية للاستعمال في الإخبار والإنشاء كما هو المدّعى، لا أنّهما داخلان في الموضوع له أو المستعمل فيه.وبتعبير آخر: الفرق بين مثل قول المولى لعبده (أطلب خروجك إلى السفر) بنحو الإخبار، وبين قوله لعبده الآخر(أُخرج إلى السفر) إنشاءاً، بعد اشتراكهما في أنّ مدلول كلٍّ منهما ثبوت طلب الخروج من المولى، هو أنّ الشرط في وضع هيئة فعل المضارع كون الداعي للمستعمِل من نقل ثبوت الطلب إلى ذهن المخاطب، حكاية ثبوته، بينما الشرط في وضع صيغة إفعل كون الداعي إرادة ثبوت الطلب بذلك الاستعمال.وقد ظهر مما ذكرنا أنّه لا فرق عند الماتن (قدس سره) بين قول القائل: (بعت داري بكذا) إخباراً، وبين قوله: (بعت داري بكذا) إنشاءاً، إذ الهيئة فيهما قد استُعملت في معنىً واحد، وهو ثبوت بيع الدار، وكذا قوله: (اضرب زيداً) إنشاءً، و(أطلب منك ضرب زيد) إخباراً، فإنّهما قد استُعملا في ثبوت الطلب والبيع، وإنّما الاختلاف في أنّ إنشاء البيع بقوله(بعت داري) استعمال بغير الوضع وإنشاء الطلب في (اضرب زيداً) استعمال بالوضع.نعم ربّما لا يكون ثبوت الشيء أو ثبوته لشيء آخر قابلا للإنشاء، نحوزيد أسود اللون، وهذا لا يوجب أن لا يكون المستعمل فيه ثبوت سواد اللون لزيد، بل المستعمل فيه ذاك، فلا يكون قصد الحكاية داخلا في الموضوع له والمستعمل فيه.وذكر المحقق الاصبهاني (قدس سره) أنّ الأمر في مثل قوله «بعت داري» من الصيغ المشتركة بين الإخبار والإنشاء هو كما ذكره (قدس سره)من أنّ المستعمل فيه للهيئة نسبة بيع الدار إلى المتكلّم، وهذه النسبة تكون لقصد الحكاية تارةً، ولقصد الإنشاء أُخرى.وأمّا في مثل قوله: (اضرب زيداً) وقوله(أطلب منك ضرب زيد) ممّا لا اشتراك فيه بين الجملة الإنشائية والجملة الخبرية لفظاً وهيئةً، فلا يتمّ ذلك؛ لأنّ الأوّل موضوع للبعث الاعتباري لا بما هو هو، بحيث يكون البعث ملحوظاً بذاته، بل بما هو نسبة بين المتكلّم والمادّة والمخاطب، ولذا لا تكون لتلك النسبة واقعية لتطابقها أو لاتطابقها.وبتعبير آخر: كما أنّه إذا حرّك شخص غيره نحو الفعل تحريكاً خارجياً لايكون ذلك التحريك الخارجي ملحوظاً بذاته، بل الملحوظ هو الفعل من المحرَّك، كذلك في التحريك والبعث الإنشائي الاعتباري، يكون الملحوظ بالذات نفس المادّة من المخاطب، كما في قوله: (اضرب زيداً)، وأمّا إذا قال: (أبعثك نحو ضرب زيد) أو (أُحرّكك نحو ضرب زيد) أو (أطلب منك ضرب زيد) إخباراً، فليس الملحوظ بالذات ضرب زيد (بأن يكون البعث مفاد الهيئة وملحوظاً لا بذاته) حتّى يقال لا فرق في المعنى بين الهيئة الإنشائية والإخبارية؛ لأنّ البعث معنى واحد، والتفاوت باللّحاظ غير المقوّم للمستعمل فيه، بل مضمون الهيئة ومدلولها في موارد الإخبار نسبة نفس البعث إلى المتكلّم بنسبة صدورية، وكم فرق بين النسبة البعثية وبين نسبة البعث(1)؟ أقول: يرد على المصنّف (قدس سره) أنّه لو لم يكن فرقٌ في ناحية المستعمل فيه والموضوع له في قوله(اضرب زيداً) إنشاءً، و(أطلب منك ضرب زيد) إخباراً؛ لكان استعمال الأوّل في مـورد الثاني صحيحاً، غاية الأمر لا يكون الاستعمال على طبق الوضع فيحتاج إلى القرينة، كما تقدّم في استعمال الحروف في موضع الإسم.ويرد على ما ذكره المحقّق الاصفهاني (قدس سره) أنّ ما ذكره هو بيان للفرق بين الهيئة الداخلة على المادّة المضاف إليها الطلب، كما في قوله: (إضرب زيداً) وبين الهيئة الداخلة على مادة الطلب عند إرادة الحكاية عن نفس الطلب، كقوله: (أطلب منك ضرب زيد) وأنّه يكون الطلب في الأوّل ملحوظاً آليّاً، وفي الثاني ملحوظاً استقلالا، وهذا الفرق ممّا لابدّ منه على مسلكهم، حيث إنّ استعمال الهيئة في الأوّل في الطلب لا يزيد على استعمال الحروف، بخلاف قوله(أطلب منك ضرب زيد» فإنّ دلالته على الطلب بمادّته وبمدخول الهيئة، ومعنى الطلب فيه لابدّ أن يكون ملحوظاً بذاته، كالمعنى الإسمي في استعمال سائر الأسماء إلاّ أنّ هذا ليس فرقاً بين الإنشاء والإخبار، فإنّه لو قصد من قوله (أطلب منك ضرب زيد) الإنشاء لكان بين مدلوله ومدلول قوله (إضرب زيداً) ذلك الفرق، بمعنى أنّ المنتسب إلى المتكلّم في الثاني هو الضرب بنسبة طلبيّة وبعثية، وفي الأوّل المنسوب إليه طلب الضرب بنسبة قياميّة، وليس هذا محل الكلام وإنّما الكلام في المائز بين الإنشاء والإخبار وأنّ ذلك الميز داخل في المستعمل فيه والموضوع له، أو أنّه أمرٌ خارج عنهما وأنّه شرط للوضع في كلّ من الجملة الإنشائية والخبرية.ويشهد لما ذكرنا أنّه لو أراد من قوله (أطلب منك ضرب زيد) الإنشاء تارةً والإخبار أُخرى، لما كان بينهما فرقٌ في كون الطلب المتعلّق بضرب زيد ملحوظاً بذاته، كما لا يخفى.وذكر سيدنا الاستاذ (قدس سره) أنّ الجملة الخبريّة لا يمكن وضع هيئتها للنسبة الخارجيّة ـ أي وضعها لثبوت شيء لشيء خارجاً ـ فإنّه ربّما لا تكون في الخارج نسبة كما في (الإنسان موجود) أو (شريك الباري ممتنع) أو (الإنسان ممكن) والالتزام باستعمال الهيئة في مثل هذه الموارد بالعناية خلاف الوجدان، مع أنّه لا معنى لدلالة الهيئة على النسبة الخارجيّة فإنّها لا تفيد الظن بالثبوت الخارجي، فضلا عن العلم به، ولا معنى لدلالة الهيئة على النسبة الخارجيّة، غير كونها كاشفة عنها علماً أو ظناً، كما لا معنى لوضعها للنسبة الكلامية بأن توجد النسبة بين أجزاء الكلام ـ نظير ما تقدّم في الحروف من أنّها موضوعة لإيجاد الربط بين المعاني الإسميّة ـ.نعم الجملة الإسميّة يوجب سماعها انتقال الذهن إلى ثبوت المحمول للموضوع بنحو التصوّر، ولكنّ ذلك المتصوّر لا يمكن أن يكون مستفاداً من الهيئة ومدلولا لها، فإنّها من قبيل التصوّر، ومفاد الهيئة في الجملة الخبريّة تصديقي.فالصحيح أنّ الهيئة في الجملة الخبرية موضوعة للدلالة على قصد المتكلم الحكاية عن الثبوت الواقعي، أي ثبوت شيء لشيء، ويعبّر عن ذلك بثبوت المحمول للموضوع أو ثبوت شيء في موطنه من ذهن أو خارج.وبتعبير آخرتكون الهيئة بحسب وضعها كاشفة عن قصد المتكلّم الإعلام بالثبوت الواقعي، حيث إنّ الوضع في الألفاظ ـ كما تقدم ـ بمعنى التعهّد والالتزام، والتعهّد من شخص إنّما يتعلّق بفعل نفسه وعلم الغير بثبوت شيء لشيء، أو ظنّه به خارج عن اختيار المتكلّم، فلا يتعلّق به التعهّد، والذي هو فعل اختياري له، هو قصد الحكاية عن ثبوت شيء لشيء أو نفس ثبوته أو لا ثبوته، وعلى ذلك فلا يكون الصدق والكذب من أوصاف نفس مدلول الجملة الخبريّة، بل من أوصاف متعلّق المدلول، (يعني الحكاية).هذا بالإضافة إلى الجملة الإسمية المستعملة في مقام الإخبار، وأمّا إذا كانت فعليّة فهيئتها أيضاً تدلّ على قصد الحكاية عن تحقّق المبدأ بنحو المضي أو الترقّب(2).أمّا الإنشاء فهو عبارة عن إبراز اعتباره فيما يكون ثبوت الشيء بذلك الاعتبار، والاعتبار وإن كان أمراً نفسانيّاً إلاّ أنّه غير قصد الحكاية.وما اشتهر من أنّ الإنشاء عبارة عن إيجاد المعنى خارجاً باستعمال اللفظ، لا يمكن المساعدة عليه؛ وذلك لأنه إن أُريد من المعنى في إنشاء البيع مثلا الملكيّة التي يعتبرها المتكلّم، فلا يكون إيجادها باللفظ، بل وجودها بالاعتبار القائم بالنفس ولا يحتاج إلى اللفظ، بل اللّفظ مبرز لذلك الاعتبار، وإن أُريد الملكيّة العقلائيّة أو الشرعيّة ـ يعني إمضاء العقلاء أو الشارع لتلك الملكيّة ـ فمن الظاهر أنّ إمضاء العقلاء أو الشارع لا يكون من فعل المستعمل ليوجده باللفظ أو بغيره، بل هو فعل العقلاء والشارع، فيكون حكماً مترتباً على الإنشاء أو المنشأ لا موجوداً بفعل المستعمل للجملة الإنشائية(3).أقول: أوّلاً: إنّه قد اعترف (نوّر اللّه مضجعه الشريف وجزاه عن العلم وأهله خيراً) بأنّ سماع الجملة الخبريّة الإسمية يوجب انتقال الذهن إلى ثبوت المحمول للموضوع، وكذا ثبوت الشيء لشيء أو وقوعه منه، فيما كانت الجملة الخبرية فعليّة، مثل ضربتُ أو قمتُ، وحينئذ نقولما الموجب لهذا الانسباق؟ هل هو إلاّ الوضع، فلو كانت الهيئة موضوعة لقصد الحكاية عن النسبة الخارجية لكان الذهن ينتقل إلى قصد الحكاية عنها، لا إلى نفس صورة الثبوت الخارجي أو لا ثبوته، مع أنّه لا يحرز قصد الحكاية إلاّ إذا أحرز أنّ المتكلّم شاعر يريد بكلامه تفهيم المعنى، فليست الهيئة موضوعة لقصد الحكاية كما أنّها ليست موضوعة للثبوت الخارجي ـ أي نفس النسبة الخارجية ـ ليلزم أن لا يكون في مورد كذب المتكلّم استعمال أصلا.بل الموضوع له والمستعمل فيه للهيئة هي صورة النسبة الخارجية.ولكن هذه الصورة ليس لها استقلال بل متدلية في أطرافها وخصوصية لها على نسق ما ذكرنا في معاني الحروف، وقد أغمض في وضع الهيئات عن كون تلك الصورة في أُفق النفس، كما هو الحال في وضع الأسماء وغيرها، ومعنى دلالة الهيئة على تلك النسبة انتقال تلك الصورة إلى ذهن سامع الهيئة في ضمن سماع أسامي الأطراف والمواد، فإن كان غرض المتكلّم من إحضار تلك الصورة (التي تلاحظ مرآة للخارج) إرادة تفهيم فعلية ذي الصورة مع قطع النظر عن الاستعمال المفروض كان ذلك إخباراً وإن كان غرضه حصول ذي الصورة بذلك الاستعمال والاحضار كان إنشاءً.وثانياًإنّ ما ذكره (قدس سره) من أنّ الجملة الخبرية مفادها التصديق، وتلك الصورة من قبيل التصور لا التصديق.ففيهأنّ الاعتقاد بثبوت شيء لشيء خارجاً تصديق بالإصطلاح المنطقي، وغير داخل في مدلول الجملة الخبرية بوجه، والتصديق في مدلول الجملة الخبرية هو التصديق باصطلاح علماء الأدب، وهو الدلالة على النسبة التي يصحّ سكوت المتكلّم عليها، وهذا حاصل في استعمال الجملة الخبرية لا محالة فهو تصديق بالإصطلاح الأدبي، وإن كان تصوراً بالإصطلاح المنطقي.وثالثاً: إنّ ما ذكره (قدس سره) من أنّ الأُمور الإنشائيّة يكون حصولها بالاعتبار القائم بالنفس ولا يحتاج إلى اللفظ، بل اللفظ مبرز لذلك الاعتبار، لا يمكن المساعدة عليه، فإنّ الإنشائيّات وإن كان اعتبارها بالنفس، إلاّ أنّها أُمور إبرازيّة أيضاً، فما لم يكن في البين إبراز لا يحصل ذلك الأمر الاعتباري حتّى في اعتبار المعتبر، فلو اعتبر الدائن براءة ذمّة المديون، ولكن لم يبرز أصلا، لم يكن إبراءً بوجه، حتّى بنظره (قدس سره)، فلو سألناه عن إبرائه ذمّة زيد ـ مثلاً ـ فلا يصحّ له أن يقول إخباراً (إنّه بريء الذمّة) ويصحّ أن يقول(إنّه بريء الذمّة) إنشاءاً، فإبراء الذمّة لم يحصل حتّى بنظر المعتبِر قبل الإبراز، فكيف يعتبره موجوداً قبل الإبراز؟ فالمختار في المقام هو أنّ الموضوع له و المستعمل فيه للهيئة هي صورة النسبة الخارجية، ولكن هذه الصورة ليس لها استقلال بل متدلّية في أطرافها وأنّها خصوصية لها على نسق ما ذكرنا في معاني الحروف، وقد أُغمض في وضع الهيئات عن كون تلك الصورة في أُفق النفس كما هو الحال في وضع الأسماء وغيرها.ومعنى دلالة الهيئة على تلك النسبة انتقال تلك الصورة إلى ذهن سامع الهيئة في ضمن سماع أسامي الأطراف والمواد، فإن كان غرض المتكلّم من إحضار تلك الصورة (التي تلاحظ مرآة للخارج) إرادة تفهيم فعليّة ذي الصورة مع قطع النظر عن الاستعمال المفروض، كان ذلك إخباراً، وإن كان غرضه حصول ذي الصورة بذلك الاستعمال والإحضار، كان إنشاءً.وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ قول المخبر (بعت داري بكذا) في مقام الإخبار، وقول منشيء البيع في مقام إنشائه (بعت داري بكذا) لا يختلفان في المستعمل فيه، بل المستعمل فيه في كلا المقامين هو صورة وقوع البيع خارجاً، ولكنّ الغرض من إلقاء تلك الصورة إلى ذهن المخاطب يختلف، ففي مقام الإخبار يكون غرضه أن يُفهم السامع الوقوع الخارجي، مع قطع النظر عن هذا الاستعمال، سواء كان السامع بعد إلتفاته إلى وقوعه بصورته جازماً به أو ظانّاً أو شاكّاً أو حتّى جازماً بالعدم؛ ولذا يصحّ أن ينسب إلى المتكلّم أنّك ذكرت لنا وقوع البيع، كما يصحّ للمتكلّم أن يقول: ذكرت لكم وقوع البيع، وفي مقام الإنشاء يكون غرضه من إحضار صورة وقوع البيع هو أن يتحقّق ذو الصورة خارجاً بذلك الإحضار بالتكلّم أو بغيره، فلو باع الوكيل متاعاً وحين إنشاء الوكيل البيع قال المالك لشخص آخر: (بعت مالي) إخباراً ببيع وكيله، لم يكن قول المالك إنشاءاً، بل هو إخبار، يخالف قول وكيله لمشتري المتاع(بعت) فإنّه إنشاء.وبالجملة الإنشاء هو إحضار صورة وقوع الشيء بالتكلّم أو بغيره، لغرض تحقّق ذي الصورة خارجاً بالاعتبار، سواء كان إحضار تلك الصورة بنحو المعنى الحرفي أو بنحو المعنى الإسمي، فقوله للمخاطب: (إضرب زيداً) وقوله(أطلب منك ضرب زيد) إنشاءاً كلاهما إحضار لصورة البعث المتعلّق بضرب المخاطب إلاّ أنّه في الأوّل بنحو المعنى الحرفي، وفي الثاني بنحو المعنى الإسمي، وبكل منهما يحصل البعث خارجاً ولو بالاعتبار.نعم مقتضى ما تقدّم هو أنّ الإنشائية والإخبارية إنّما تنشئان من الغرض من نقل صورة وقوع الشيء خارجاً إلى ذهن السامع، لا أنّ الهيئة في الجملات لا دلالة لها على تعيين الغرض من الإحضار بالوضع، فإنّ هذا أمر لا يمكن إنكاره، فهيئة (إضرب) وإن كانت توجب انتقال صورة بعث المخاطب نحو الضرب ولو بنحو المعنى الحرفي، إلاّ أنّها تدلّ أيضاً على تعيين الغرض وهو إيجاد الطلب خارجاً.كما أنّ الجملة الخبرية بهيئتها تدلّ على أنّ الغرض من الإحضار حكاية حصول ذي الصورة، ولذا تكون إرادة الإنشاء من الجملة الخبرية محتاجة إلى القرينة ولكن لا يصحّ إرادة الإخبار من الهيئة الموضوعة للإنشاء فلا يصحّ قوله للمخاطب (بع المال) إخباراً بالبيع؛ لأنّ الكلام الدالّ على طلب البيع من المخاطب لا يناسب إخباره به، فإنّ الطلب منه يستلزم عدم حصول البيع فعلا، والإخبار والحكاية يتوقّف على الفراغ عن حصوله، فالإخبار بوقوع شيء بالجملة الإنشائية يشبه طلب الحاصل الركيك، بخلاف استعمال الجملة الإخبارية لغرض إنشاء طلبه، فإنّ التعبير عن طلب شيء بوقوعه ولو مستقبلا يناسب شدّة الطلب والشوق والوثوق بالفاعل، وهذه مناسبة توجب حسن استعمال الجملة الخبرية في مقام الإنشاء.الوضع في أسماء الإشارة
[2] ظاهر كلامه(قدس سره) أنّ الموضوع له والمستعمل فيه في أسماء الإشارة والضمائر وسائر الأسماء المبهمة كالموصولات، هو معنى عامّ كالمفرد المذكر، بأن يكون لفظ (هذا) مرادفاً للفظ المفرد الموصوف بالتذكير، غاية الأمر الاختلاف بينهما بالوضع حيث أنّ لفظ (هذا) موضوع لذلك المعنى العامّ على أن يشار إليه عند استعماله فيه بالإشارة الخارجيّة، كما أنّ الضمير الغائب كلفظ (هو) موضوع له بشرط أن يشار إليه بالإشارة المعنوية، ولم يؤخذ في ناحية الموضوع له والمستعمل فيه قيد، وإنّما أُخذ في ناحية نفس الوضع، كما تقدم في معاني الحروف، وعلى ذلك فضمير المخاطب مثلا يكون لنفس ذلك المعنى العامّ يعني الفرد الموصوف بالتذكير، ويكون وضعه له مشروطاً بالتخاطب معه عند استعماله في ذلك المعنى.وبالجملة دعوى أنّ الموضوع له والمستعمل فيه في الأسماء المفروضة كالوضع فيها عامّ وإنّما الخصوصية والتشخّص ناشئة من الإشارة والتخاطب، حيث أنّ الإشارة لا تكون إلاّ إلى الشخص، والخطاب لا يكون إلاّ مع الشخص، غير بعيدة.أقول: لا ينبغي التأمّل في أنّ لفظ (هذا) لا يكون مرادفاً للمفرد المذكر المشار إليه أو معنى لفظ المفرد المذكر عند الإشارة إليه، نعم لو قيلإنّ (هذا) إسم لما يصحّ إطلاق عنوان المفرد المذكّر عليه عند الإشارة إليه، صحّ، سواء كان ما يطلق عليه من قبيل الموجود الخارجي أو الموجود الذهني أو معنىً من المعاني المفردة أو التركيبية.ولا يعتبر في استعمال (هذا) كون الإشارة خارجية، بل ربّما تكون الإشارة معنوية، كما في قولك: (الإنسان مدرك للكليات)، وبهذا يمتاز عن سائر الحيوانات حيث إنّ الإشارة بهذا في المثال معنوية، وكما في قولك(الإنسان كلي يصدق على كثيرين، وهذه الكلية ليس موضعها الإنسان الخارجي).نعم ضمير الغائب كـ«هو» تكون الإشارة فيه معنوية إلى السابق ذكراً أو ذهناً، بخلاف ضمير الخطاب، فإنّه للإشارة إلى المخاطب الحاضر حقيقةً أو ما يكون بمنزلة الحاضر، وبما أنّ خصوصيّة الإشارة مستفادة من اللفظ، فكيف لا تكون داخلة في معناه ولو بنحو التقيد؟ ثمّ إنّ الإشارة في استعمال (هذا) في الخارجيات بمثل الاصبع ونحوه إنّما هو لتعيين المشار إليه لا لخصوصية الإشارة، كما يظهر للمتدبر.وممّا ذكرنا يظهر أنّ الوضع في تلك الأسماء عامّ، والموضوع له خاصّ، ولا نعني بالخاصّ، الجزئي الخارجي، بل ما ينطبق عليه عنوان الفرد المذكر ولو كان في نفسه معنى من المعاني وطبيعة من الطبائع، كما لا يخفى.الاستعمال المجازي
[3] المراد بصحة الاستعمال حُسنه عند أهل المحاورة، بأن لا يستهجن عندهم استعمال اللفظ في المعنى المفروض، وهل الصحة محتاجة إلى الوضع بمعنى ترخيص الواضع في خصوص ذلك الإستعمال (ويسمّى بالوضع الشخصي) أو ترخيصه في نوع ذلك الاستعمال بأن يرخص الاستعمال فيما كانت بين الموضوع له والمستعمل فيه إحدى العلاقات المعروفة، أو لا تحتاج إلى شيء من ذلك، بل كل استعمال لايكون مستهجناً عندأهل اللسان وكان استعمالا للفظ فيما يناسب معناه عندهم فهو صحيح، حتّى مع منع الواضع عنه فضلا عن عدم ترخيصه، وكل مايكون مستهجناً عندهم ولاتقبله الطباع فهو غير صحيح حتّى لو رخّص الواضع فيه.قال سيّدنا الأُستاذ (قدس سره): إنّ البحث في أنّ المجاز محتاج إلى وضع شخصي أو نوعي، يتوقّف على أمرين: أحدهما: ثبوت الاستعمالات المجازيّة، بأن يستعمل اللفظ الموضوع لمعنى في غير ذلك المعنى، وأمّا بناءً على ما ذهب إليه السكاكي في باب الاستعارة من أنّ اللفظ يستعمل دائماً في معناه الموضوع له ويكون تطبيقه على غير مصداقه، بدعوى أنّه فرده، فلا يبقى مجال لهذا البحث، والصحيح ما ذهب إليه السكاكي والوجه فيه أنّه يفهم الفرق بين قول القائل: (زيد أسد، أو أنّه قمر) وبين قوله(زيد شجاع، أو أنّه حسن الوجه) حيث يفهم المبالغة من الأوّل دون الثاني، ولو كان لفظ (أسد) أو (قمر) مستعملا في معنى الشجاع أو حسن الوجه لما كان بينهما فرق.ثانيهماالالتزام بأنّ الوضع غير التعهّد والالتزام بإرادة المعنى الفلاني عند ذكر هذا اللفظ، وإلاّ فبناءً على مسلك التعهّد يكون كل مستعمل متعهّداً بإرادة ذلك المعنى منه عند ذكره بلا قرينة وإرادة مناسبه عند ذكره مع القرينة سواء كان تعيين ذلك المعنى المناسب أيضاً بالقرينة كما في الوضع النوعي، أو بما عيّنه أولا، كما في الوضع الشخصي(4).أقول: ما ذهب إليه السكاكي من الالتزام بالعناية والمجاز في الإسناد والتطبيق، لا يعمّ جميع الاستعمالات المجازيّة ليقال إنّ أمر التطبيق خارج عن شأن الواضع، بل ذكر ذلك في الاستعارة وهي ما يكون بعلاقة المشابهة في أظهر الأوصاف والخواصّ، وأمّا في موارد سائر العلاقات فلا ينبغي إنكار استعمال اللفظ في غير معناه الموضوع له، كما في قوله: (من قتل قتيلا) وقوله(رأس القوم) وإرادة رئيسهم، و(عين القوم) وإرادة حارسهم، و(أعتق رقبة) وإرادة العبد والمملوك، إلى غير ذلك من الموارد التي لا ينتقل ذهن السامع فيها إلى المعاني الأوّلية للألفاظ، وإنّما ينتقل إلى المعاني التي يستعمل فيها اللفظ (ولو بالقرينة)، حتّى مع جهله بالمعاني الحقيقية، وهذا بخلاف (زيد أسد) أو (أنّ وجهه قمر).وأمّا عدم جريان النزاع على مسلك التعهّد فلا يتمّ أيضاً، وعلى تقديره أيضاً يكون للبحث مجال؛ وذلك لأنّ الوضع ينسب إلى المتعهّد الأوّل؛ ولذا يقال في جواب من سألمن سمّى الولد بهذا الإسم؟ سمّاه أبوه، ولو لم يكن الوضع مستنداً إلى السابق في التعهّد لم يكن للسؤال والجواب مجال، وعلى ذلك يقع الكلام في أنّ استعمال اللفظ المفروض في معنىً آخر يحتاج إلى رخصة الشخص المفروض شخصاً أو نوعاً، أو أنّ كلّ ما تقبله الطباع من الاستعمال يصحّ ولو مع منع ذلك الشخص.(1).نهاية الدراية1 / 61.(2).محاضرات في أُصول الفقه1 / 85.(3).محاضرات في أُصول الفقه1 / 88.(4).المحاضرات1 / 92. كما إذا قيل «ضرب مثلا فعل ماض[1].أو صنفه كما إذا قيل (زيد ـ في ضرب زيد ـ فاعل) إذا لم يقصد شخص القول أو مثله كضرب في المثال فيما إذا قصد.بل يمكن أن يقال إنّه ليس أيضاً من هذا الباب ما إذا أطلق اللفظ وأُريد به نوعه أو صنفه[2].لا ريب في كون الألفاظ موضوعة بإزاء معانيها[3].كما توهّمه بعض الأفاضل[4].لا وجه لتوهّم وضع المركبات غير وضع المفردات[5].
استعمال اللفظ في اللفظ
[1] التزموا بصحّة استعمال اللفظ في اللفظ، بأن يكون اللفظ دالاًّ على إرادة اللفظ الآخر، فيكون اللفظ الآخر مدلولا وصحّحوه في استعمال اللفظ في نوعه واستعماله في صنفه واستعماله في مثله.فالأوّل كما إذا قيل(ضرب فعل ماض) إذ من الظاهر أنّ الملفوظ ليس بالفعل الماضي بل هو مبتدأ في الكلام، والذي هو فعل ماض ما يقال عند الإخبار بوقوع الضرب بنحو التحقّق، وإذا أراد المتكلّم بقوله (ضرب) طبيعيّ لفظ ضرب (الذي يقال عند الإخبار بوقوع الضرب بنسبة تحقيقيّة) يكون ذلك الطبيعي من قبيل المعنى لما تلفظ به، فيكون الملفوظ دالاًّ وذلك الطبيعي مدلولا.والثاني فيما إذا قال: (زيد في ضرب زيد، فاعل) ولم يرد شخص ما ذكره من (ضرب زيد) بل كان مرادهأنّ كلما ذكر زيدٌ بعد (ضرب) في مقام الإخبار فهو فاعل، وعليه فإنّ لفظ زيد الذي ذكره أوّلا دالّ وزيد الثاني مدلول، وهو من قبيل إرادة الصنف لا النوع إذ لا يشمل كل أفراد لفظ زيد حتّى الواقعة غير فاعل، مثل (زيد ضرب)، بل خصوص أفراده الواقعة فاعلا في مقام الإخبار من أيّ متكلّم، فالمراد الصنف من لفظ زيد لا النوع.والثالث نفس المثال، فيما إذا أراد من لفظ زيد الذي ذكره أوّلا، لفظ زيد فيما تكلّم به من شخص القول وهو من قبيل استعمال لفظ زيد في مثله.ومما ذكرنا يظهر أنّ قول المصنف (قدس سره)«كضرب في المثال فيما إذا قصد» من سهو القلم، ولابدّ من تبديله إلى قوله كـ(زيد في المثال فيما إذا قصد شخص القول).ثمّ أراد (قدس سره) بقوله«و قد أشرنا إلى أنّ صحّة الإطلاق.إلخ» ما تقدم منه في الأمر الثالث من أنّ صحّة استعمال اللفظ في غير ما وضع له بالطبع، وزاد عليه بالاستشهاد له بوقوع هذا النحو من الاستعمال في الألفاظ المهملة، كما إذا قيل (ويز) مهمل.ودعوى أنّ الألفاظ المهملة إنّما يطلق عليها المهملة لعدم وضعها لمعنى على حدّ سائر الألفاظ، ولا ينافي ذلك كونها موضوعة للاستعمال في نوعها أو صنفها أو شخصها، واضحة البطلان.واختلفوا فيما إذا ذكر لفظ وأُريد منه شخصه، كما إذا قيل: (زيدٌ لفظ) وأُريد منه شخص الملفوظ لا نوعه وصنفه ومثله، فإنّ كون ذلك من قبيل استعمال اللفظ في المعنى محل إشكال؛ لأنّ شخص الملفوظ إن كان دالاًّ ومدلولا لزم اتّحاد الدال والمدلول، وإن كان دالاًّ فقط، لزم تركّب القضية المحكية من جزئين المحمول والنسبة، مع أنّ تلك القضية لابدّ من تركّبها من ثلاثة أجزاءالموضوع، والمحمول، والنسبة، فإنّه لا يمكن تحقّق النسبة بدون المنتسبين.وأجاب الماتن (قدس سره) عن الإشكال بوجهين: الأوّلأنّه يكفي في تعدّد الدالّ والمدلول، تعدّدهما بالاعتبار، ولا يلزم التعدّد الخارجي، فاللفظ بما أنّه صادر عن لافظه دالّ وباعتبار أنّه بنفسه وبشخصه مراد، يكون مدلولا.والثانيأنّ القضية المعقولة وإن امتنع تركّبها إلاّ من ثلاثة أجزاء، إلاّ أنّ القضية الملفوظة لا يمتنع تركّبها من جزئين، وبيان ذلك أنّه إذا أمكن للمتكلّم إحضار الموضوع في القضية المعقولة في ذهن السامع بلا توسيط استعمال اللفظ، كانت الأجزاء في القضية المعقولة تامّة بلا حاجة إلى الإتيان بالحاكي عنه، وفيما إذا تلفّظ بلفظ وأُريد شخصه في ثبوت المحمول له تتمّ القضية المعقولة، ولا يكون في ناحية الموضوع استعمال للّفظ في المعنى أصلا.أقول: أمّا الجواب الأوّل فهو لا يفيد شيئاً؛ لأنّ الكلام في المقام في الدلالة اللفظية واستعمال اللفظ، بأن يكون خطور اللفظ إلى ذهن السامع أوّلا، وخطور معناه بتبعه ثانياً، ولو ببركة القرينة، وهذه الدلالة تحتاج إلى تعدّد اللفظ والمعنى حقيقة، وأمّا دلالة صدور اللفظ من لافظه على إرادة اللافظ ذلك اللفظ، فهي دلالة عقلية، فإنّ اللفظ في كل مورد صدر من متكلّم عاقل، يكون كاشفاً عقلاً عن تعلّق إرادة اللافظ ولحاظه به، ولا يختصّ ذلك بالتلفّظ بل يجري في كلّ فعل صادر عن فاعل مختار، فيكون صدوره كاشفاً عن تعلّق قصد فاعله به ولحاظه إيّاه، وأين هذا من الدلالة اللفظية وإحضار المعنى إلى ذهن السامع بتبع إحضار اللفظ؟ وممّا ذكرنا يظهر أنّه لا يمكن المساعدة على ما ذكر المحقّق الاصفهاني (قدس سره) في المقام في توجيه كفاية التعدّد الاعتباري بين الدالّ والمدلول، من أنّ التضايف بين الشيئين لا يقتضي التقابل بينهما مطلقاً بأن يكون لكلّ من المتضائفين وجود مستقل، بل التقابل ينحصر بالموارد التي يكون بين الشيئين تعاند وتناف في الاتّحاد، كما في العلّية والمعلولية والأُبوّة والبنوّة، لا في مثل العالمية والمعلومية والمحبيّة والمحبوبية، فإنّ النفس من كلّ إنسان عالمة ومعلومة لها، ومحبّة لها ومحبوبة لها، والدلالة ـ أي كون الشيء دالاًّ ومدلولا ـ من هذا القبيل؛ ولذا ورد في دعاء أبي حمزة الثُّمالي«وَأَنْتَ دَلَلْتَنِي عَلَيْكَ»(1).ووجه الظهور أنّ الكلام في المقام في الدلالة اللفظية واستعمال لفظ في معنى، والمراد بها ما تقدّم، من انتقال ذلك المعنى إلى ذهن السامع بنقل اللفظ إليه، وهذه تكون من قبيل العلّية والمعلوليّة في الانتقال، فلا يعقل اتّحاد الدالّ والمدلول خارجاً، وأمّا الدلالة في دعاء أبي حمزة الثُّمالي «وَأَنْتَ دَلَلْتَنِي عَلَيْكَ» فهي كون شيء منشأً للعلم به.ومن الظاهر أنّ اللّه سبحانه نفسه منشأ لعرفان الخلائق إيّاه، فإنّه الذي هو خالق الأشياء ومكوِّن الأجرام الفلكية والكونيّة ومركّب الإنسان وغيره من سائر الحيوانات، فيكون كلّ ذلك معرّفاً لقدرته وعظمته وجبروته وحكمته، فإنّ البناء بعظمته يكشف عن مهارة بانيه وبالتالي تظهر مهارة الباني بمهارته نفسه.وأمّا ما ذكره في الجواب ثانياً من إحضار الموضوع وإلقائه إلى ذهن السامع بلاتوسيط استعمال اللفظ، فهو أمرٌ صحيح؛ لأنّ الاستعمال إنّما يحتاج إليه فيما إذا لم يمكن إلقاء المعنى ونقله إلى ذهن السامع بلا توسيط، وأمّا إذا كان مقصود المتكلّم ومراده نفس اللفظ والحكم عليه، فلا موجب للاستعمال بل لا مصحّح له، وعليه فلا يكون من باب استعمال اللفظ في المعنى، كما تقدّم.[2] ثمّ إنّه (قدس سره) قد أجرى ما ذكره في ذكر اللفظ وإرادة شخصه ـ من عدم كون إرادة الشخص من قبيل استعمال اللفظ، بل من إلقاء الموضوع بلا توسيط الاستعمال ـ على ما إذا ذكر اللفظ وأُريد به نوعه أو صنفه، وذكر أنّه يمكن في موارد إرادة النوع أو الصنف أن يحكم على اللفظ ـ أي الملفوظ ـ بما هو فردٌ ومصداقٌ من الطبيعي، فيقال: زيد ثلاثي، أو بما هو فرد من صنف نوعه بأن يقالزيدٌ المذكور في أوّل الكلام مرفوعاً مبتدأ، إلى غير ذلك.ولكن قد التزم باستعمال اللفظ في اللفظ في موارد إرادة المثل كما أنّه التزم في آخر كلامه بأنّه يمكن في موارد إرادة النوع أو الصنف كونه بنحو إلقاء الموضوع كما تقدّم، ويمكن كونه من قبيل استعمال اللفظ في المعنى، كما إذا جعل اللفظ مرآة وحاكياً عن نوعه أو صنفه، فإنّه كموارد إرادة المثل، يكون مستعملا في المعنى وحاكياً عنه.ثمّ ذكر (قدس سره) أنّ الاستعمالات المتعارفة في موارد إرادة النوع ليست من قبيل إلقاء الموضوع حيث أنّ الحكم المذكور في الكلام ربّما لا يعمّ نفس الملفوظ كما في قولنا(ضرب فعل ماض) حيث إنّ ما تلفّظ به ليس بفعل ماض، بل هو مبتدأ في الكلام.ومن الظاهر أنّ ما ذكره في النوع من عدم عموم الحكم يجري في إرادة الصنف أيضاً، فهذه الموارد تكون من قبيل استعمال اللفظ في اللفظ ولكن الاستعمال فيها ليس بحقيقة؛ لعدم الوضع، كما أنّه ليس بمجاز؛ لعدم لحاظ العلاقة بين المعنى الحقيقي والمستعمل فيه، لجريان الاستعمال في المهملات أيضاً، وهذا هو المراد من قوله (قدس سره)فيما يأتي في بحث الحقيقة الشرعية«وقد عرفت سابقاً أنّه في الاستعمالات الشائعة في المحاورات ما ليس بحقيقة ولا مجاز»(2).لا يقالما الفرق بين إرادة المثل وقد التزم (قدس سره) فيه بالاستعمال وبين إرادة الصنف فالتزم فيه بإمكان الوجهين من الاستعمال وإلقاء الموضوع بنفسه.فإنّه يقال: كأنّه (قدس سره) نظر إلى أنّ مقتضى كون شيء مثلا للآخر هو الاثنينيّة فيهما، ولذا يلزم اجتماع المثلين، بخلاف موارد إرادة الصنف، فإنّه يمكن وجود فرد من الصنف والحكم عليه بما هو فرد، كما إذا قيلزيد في أوّل الكلام مبتدأ، ولذا يكون الحكم المذكور شاملا لنفس ذلك اللفظ.أقولالصحيح عدم الفرق بين موارد إرادة الشخص وبين موارد إرادة المثل والصنف والنوع، فإنّ شيئاً منها ليس من قبيل استعمال اللفظ في اللفظ؛ وذلك لأنّه كما يكون المعنى كليّاً ويرد عليه التقييد بحيث لا ينطبق معه إلاّ على واحد، كذلك نفس اللفظ وإذا أُريد طبيعي الملفوظ يعني زيد مع هيئته وقيّد بكونه بعد شخص (ضَرَبَ) ينطبق على الواقع بعده ولا يعمّ غيره، فيكون الحكم في القضية على فرد خاصّ لا بصورته الخاصّة، بل بالعنوان المنطبق عليه خاصّة، ولو ببركة التقييد.لا يقالالقابل للتقييد والانطباق على الفرد هو الطبيعي، لا الشخص، وبالتلفّظ بلفظ زيد، يوجد الشخص لا الطبيعي القابل للتقييد، ففي مورد إرادة المثل لابدّ من الالتزام بالاستعمال.فإنّه يقالتقييد الطبيعي بقيد بحيث لا ينطبق معه إلاّ على واحد يكون في موطن النفس، فلا ينافي ذلك كونه شخصاً بالتلفّظ به، فهو ـ مع قطع النظر عن تشخّصه باللّفظ ـ يكون كلّياً في أُفق النفس، وقد قيّد فيه وحكم عليه بما ذكر.وبالجملة الإطلاقات المتعارفة في موارد الحكم على اللفظ كلّها من قبيل إلقاء الموضوع في الخارج بنفسه لا بلفظه.وما ذكره (قدس سره) من أنّ الحكم في القضية قد لا يعمّ شخص اللفظ كما مثّل له بقولهضرب فعل ماض، وأنّ الملفوظ مبتدأ لا فعل ماض، لا يمكن المساعدة عليه، حيث إنّ (ضَرَبَ) فيما إذا استُعمل في معناه الموضوع له يكون ماضياً، وأمّا مع عدم استعماله في المعنى المفروض وإرادة نفس الصيغة كما هو المفروض يمكن الحكم عليه فيكون مبتدأً.وبتعبير آخريكون المراد (ضرب) في المثال السابق على تقدير استعماله في معناه الموضوع له فعلا ماضياً لا مطلقاً، كما لا يخفى.نعم يمكن الحكم عليه بما إذا لم يقيّد بحال استعماله في المعنى، كما في قولنا(ضرب لفظٌ).خروج القصد عن المعنى
[3] وبيانه أنّه يتحقّق الاستعمال بأمرين: الأوّل لحاظ المتكلّم المعنى، وثانيهما كون قصده من الاستعمال الالتفات إليه بأن يحضر ذلك المعنى إلى ذهن السامع بتبع التفاته إلى اللفظ أوّلا، وقد ذكر (قدس سره)سابقاً خروج الأمر الأوّل ـ يعني لحاظ المعنى ـ عن حريم الموضوع له والمستعمل فيه، وأنّ المستعمل فيه اللفظ كالموضوع له، نفس المعنى.ويذكر في المقام خروج الأمر الثاني عن حريمهما وأنّ القصد المفروض كاللحاظ غير مأخوذ في معاني الألفاظ، واستشهد للخروج بأُمور: الأوّلأنّ القصد المفروض مقوّم للاستعمال ومحقّق له فلا يؤخذ في الموضوع له والمستعمل فيه، كاللحاظ.والثانيصحّة الحمل والإسناد في الجمل بلا تصرف في أطرافها، فإنّ الألفاظ لو كانت موضوعة للمعاني بما هي مرادة، لما صحّ الإسناد والحمل فيها بلا تجريد في أطرافها، مع أنّ المحمول على زيد في (زيدٌ قائم) والمسند إليه في (ضَرَبَ زيدٌ) نفس القيام والضرب لا بما هما مرادان، وكذلك الأمر في ناحية الموضوع والفاعل، فإنّ الموضوع والفاعل هو زيد لا بما هو مراد.والثالثأنّ اللازم على تقدير أخذ القصد المفروض في المعاني هو كون الوضع في عامّة الألفاظ خاصّاً، والموضوع له خاصّاً؛ لأنّ ما يتوقّف عليه الاستعمال بل مقوّمه ليس هو مفهوم الإرادة والقصد، بل ما يكون بالحمل الشائع إرادةً وقصداً وأخذ واقع القصد في معنى اللفظ يوجب جزئيته.أقولكلامه كما ذكرنا ناظرٌ إلى خروج قصد المعنى عن الموضوع له والمستعمل فيه، وأمّا أنّ القصد المفروض ليس شرطاً في ناحية الوضع نظير ما التزم به في المعنى الحرفي والاسمي من كون اللحاظ الآلي شرطاً في وضع الحرف، والاستقلالي شرطاً في وضع الإسم، فليس في كلامه تعرّض لإبطال ذلك.ولقائل أن يقولبما أنّ الوضع في الألفاظ أمرٌ بنائي، فلا محالة يختصّ بصورة خاصّة، وهي ذكر اللفظ في مقام قصد المعنى وإرادة انتقاله إلى ذهن السامع.وأمّا مع ذكره في غير هذا المقام فلم يتعلق باللفظ تعيين وقرار، فيكون نفس الوضع مقيّداً بصورة إراده التفهيم لا الموضوع له والمستعمل فيه، ليرد عليه لزوم التجريد في مورد الحمل أو الإسناد أو كون الوضع في عامّة الألفاظ عامّاً والموضوع له خاصّاً.وما ذكر من خطور المعنى إلى الذهن عند سماع اللفظ ولو من غير شاعر لاينافي اشتراط الوضع بالقصد، فإنّ الخطور المفروض لا يستند إلى الوضع، بل إلى أُنس الأذهان بتلك المعاني من تلك الألفاظ؛ ولذا يخطر المعنى ولو مع تصريح الواضع باختصاص وضعه بصورة قصد التفهيم، وحيث إنّ قصد التفهم لابدّ من إحرازه بوجه؛ فلو أُحرز تكون الألفاظ معيّنة للمعاني بمقتضى قرار الوضع والتعيين، وقد جرت سيرة أهل المحاورات عند صدور كلام عن متكلّم عاقل على حمله على إرادة التفهيم ما لم يكن في البين قرينة على الخلاف.والحاصل أنّ الدلالة التصديقية التي ذكرها المصنّف في ذيل كلام العلمين (قدس سرهما)عين الدلالة الوضعية وأنّ الدلالة التصوريّة ـ يعني خطور نفس المعني من نفس اللفظ عند سماعه بأي نحو كان ـ ناشئة عن أُنس الذهن بالاستعمال ولا يكون في اشتراط الوضع بذلك شيء من المحاذير المتقدّمة.ولكنّ الصحيح أنّه كما لا اشتراط في ناحية المستعمل فيه كذلك لا اشتراط في ناحية الوضع أيضاً، وذلك لأنّه إن كان المأخوذ في ناحية الوضع مطلق إرادة التفهيم في مقابل التلفظ غفلة وبلا إرادة، فهذا لا يحتاج إلى الاشتراط؛ لأنّ الاستعمال لا يكون بدون تلك الإرادة وإنّما يمكن اشتراط شيء في الوضع إذا أمكن استعمال اللفظ بدونه لو لا الاشتراط، وإلاّ يكون الاشتراط لغواً، وإن كان المأخوذ إرادة خاصّة كالإرادة المتعلّقة بتفهيم المعنى الفلاني مثلا، فاشتراطها في الوضع غير معقول؛ لأنّه على ذلك يلزم على السامع إحراز أنّ المتكلّم يريد المعنى المفروض من الخارج لأنّه شرط دلالة اللفظ، وهذا في الحقيقة إبطال لدلالة الألفاظ، فتحصّل من جميع ذلك أنّ اللفظ في مقام الوضع يتعيّن لذات المعنى، من غير أن يؤخذ اللحاظ أو الإرادة والقصد في ناحية المعنى أو في ناحية الوضع.تبعية الدلالة للإرادة
[4] وحاصل التوهّم هو أنّ ما حكي عن العلمين (قدس سرهما) من تبعية الدلالة للإرادة، ظاهره أنّ ثبوت المدلول للكلام تابع وموقوف على إرادة المتكلّم له، بأن يكون قصد المعنى قيداً للمعنى، وإلاّ لم يكن المدلول موقوفاً وتابعاً للإرادة.وبتعبير آخرحيث إنّ ظاهر كلام العلمين (قدس سرهما) توقّف ثبوت المدلول للكلام على إرادة المتكلّم بحيث لا يثبت المدلول فيما لم يكن له إرادة، يلزم أخذ الإرادة في معانى الألفاظ.ودفع (قدس سره) التوهّم بأنّ للكلام مدلولين
الأوّل: المدلول التصوري، وهو الناشئ من العلم بوضع الألفاظ، بأن يكون سماع اللفظ موجباً للانتقال إلى معناه فيما كان السامع عالماً بوضعه، وهذا المدلول ثابت للكلام على كلّ تقدير، وغير موقوف على قصد المتكلّم وإرادته.والثانيالمدلول التصديقي، وهو كون المتكلم قاصداً لتفهيم المعاني المقررة في وضع تلك الألفاظ، وهذه الدلالة لا تثبت بمجرّد العلم بالوضع؛ ولذا لابدّ فيها من إحراز كون المتكلّم في مقام التفهيم ليحرز قصده تلك المعاني من تلك الألفاظ وكلام العلمين (قدس سرهما) ناظر إلى هذه الدلالة الموقوفة والتابعة للقصد والإرادة.لا يقالهذه الدلالة أيضاً لا تتبع قصد المتكلم، فإنّ المدلول التصديقي يثبت في موارد عدم إرادة المتكلّم، كما في مقام الخطأ والاعتقاد بإرادة شيء مع أنّه لم يكن ذلك الشيء مراداً للمتكلّم.فإنّه يقاللا يكون في هذه الموارد دلالة حقيقة، بل تخيّل دلالة يحسبها الغافل دلالة.أقول: الدلالة التصديقيّة أيضاً على قسمين
الأوّل: الدلالة التصديقية الاستعمالية، وهذه الدلالة تتبع قصد التفهيم، فإنّه إذا قصد المتكلم تفهيم أمر وأتى بالكلام على وفق وضع الألفاظ المقرّرة للمعاني ثمّ جزم السامع بأنّ ما أفهمه المتكلّم بكلامه أمرٌ آخر، يكون ذلك من خطأ السامع وتخيّله، لا من المتكلّم.والثانيالدلالة التصديقية، بالمراد الجدي يعني كشف المراد الجدي بأصالة التطابق بين مراده الاستعمالي ومراده الجدّي وهذه الدلالة ـ المعبّر عنها بأصالة التطابق تثبت ولا تتبع إرادة المتكلم جدّاً، لما أفهم بكلامه كما في موارد الإفتاء تقيّة.وبتعبير آخرهذه الدلالة لا تتبع إرادة المتكلم واقعاً وجداً، ولا ينافيها عدم إرادته كذلك، وإنّما ينافيها العلم بالخلاف أو نصبه القرينة على الخلاف، كما لا يخفى.وعلى ذلك فإن أراد العلمان (قدس سرهما) تبعيّة هذه الدلالة التصديقية لإرادة المتكلم، فقد ذكرنا عدم تبعيتها لها، وإن أراد التبعية في ثبوت الدلالة الاستعمالية فلها وجهٌ، كما تقدم.الوضع في المركبات: [5] بأن يقال: المركّب بما هو مركّب ـ مادّةً وهيئةً ـ قد وضع لمعنى بوضع آخر زائداً على وضع مفرداته في ناحية موادها شخصياً، وفي ناحية هيئات مفرادته نوعياً، وقوله (قدس سره): «ومنها خصوص هيئات المركبات» عطفٌ على قوله«بهيئاتها المخصوص يعني من الهيئات الطارئة على المواد هيئات المركبات، كهيئة المبتدأ والخبر، مع أداة التأكيد أو مع غيرها أو بدونهما.ثمّ إنّ ظاهر كلامه وكلام غيره أنّ الوضع في مثل (زيد قائم) و(ضرب زيد عمراً) في ناحية موادهما شخصيّ وفي جهة الهيئات نوعيّ.ولنا أن نتسائل: كيف صار الوضع في ناحية المواد شخصياً، وفي ناحية الهيئات نوعياً؟ فإن قيلبأن الواضع حين وضع المواد لاحظ مادّة مخصوصة بحيث لا تعمّ سائر المواد ووضعها لمعنى؛ ولذا صار الوضع في ناحية الماده شخصياً.فيقالبأنّ الوضع في ناحية الهيئات أيضاً كذلك، فإنّ الواضع حين الوضع لاحظ هيئةً خاصّة بحيث لا تعمّ سائر الهيئات، مثلا لاحظ هيئة (الفاعل) بخصوصها ولم يكن الملحوظ شاملا لهيئة (مفعول) أو غيرها.وإن قيلإنّ الملحوظ حين وضع هيئة (فاعل) كان شاملا لجميع جزئياتها الطارئة على المواد المختلفة بالنوع وبهذا الاعتبار سمّي وضعها نوعيّاً.فإنّه يقالالملحوظ عند وضع المادّة أيضاً كان شاملا لجميع جزئياتها الطارئة عليها الهيئات المختلفة بالنوع، وبالجملة لم يظهر وجه لتسمية الوضع في ناحية الهيئة نوعيّاً وفي ناحية المادّة شخصيّاً.واُجيب عن الإشكال: بأنّ حال الهيئات ـ حتّى في مقام اللحاظ ـ حال العرض في الخارج، فكما أنّ العرض لايتحقق بلا موضوع كذلك الهيئة لاتكون ملحوظة إلاّ في ضمن مادّة، حيث لا يمكن حين وضعها لحاظها بنفسها بخلاف الموادّ فإنّها قابلة للتصوّر بنفسها، بمعنى أنّه يمكن للواضع ملاحظة مادّة من المواد، عارية عن جميع الهيئات المعروفة الموضوعة في مقابل المواد، وعليه فاللازم في وضع الهيئات أحد أمرينإمّا ملاحظتها طارئة على عنوان جعلي مشير إلى المواد المختلفة بالنوع، كما يعبرون عن ذلك بـ(ف ع ل) ويجعلونه مشيراً إلى المواد المختلفة.وإمّا ملاحظتها طارئة على مادة فتوضع هي وما يماثلها من الهيئات لمعناها.أقولعدم إمكان لحاظ الهيئة مستقلا والاحتياج عند وضعها إلى أحد الأمرين لا يكون موجباً لافتراقها عن المادة بحسب الموضوع، حيث إنّ الموضوع في كلٍّ منها كما ذكرنا هو النوع لا الشخص في أحدهما والنوع في الآخر وإمكان لحاظ المادة بلا هيئة لا يفيد فيما ذكر في الفرق، فإنّ علماء الأدب القائلين بوضع المادة شخصياً والهيئة نوعياً قد صرّحوا بأنّ الأصل في الكلام ـ أي المشتقات ـ هو المصدر أو الفعل الماضي، ومرادهم من الأصل أنّ المادة حين وضعها لوحظت في ضمن هيئة المصدر أو هيئة الفعل الماضي.وعلى ذلك فالموضوع ليس خصوص المادة الملحوظة مع هيئة المصدر أو الفعل، بل هي وما يكون منها في ضمن سائر الهيئات فيكون وضعها أيضاً نوعياً كالوضع في ناحية الهيئة.واستدلّ الماتن (قدس سره) على عدم وضع آخر للمركب بما هو مركب بأمرين: الأوّلعدم الحاجة إليه بعد وفاء الوضع في ناحية مواد المركب وهيئاتها لغرض الوضع.والثانيبأنّ لازم ثبوت وضع آخر للمركب بما هو مركب تعدّد الانتقال، فباعتبار الوضع في مواده وهيئاته يكون الانتقال تفصيلياً، وباعتبار وضعه بما هو مركب يكون الانتقال إجمالياً، كما ينتقل إلى ما يراد من لفظ الدار من المعنى إجمالا بسماع لفظ الدار، وينتقل إليه تفصيلا فيما إذا ذكر العرصة التي عليها الجدران وفيها البيوت وسائر المرافق ومدخلها من الباب.(1).نهاية الدراية1 / 61.(2).الكفايةص 21.بداهة أنّه لولا وضعه لما تبادر[1].والتفصيل أنّ عدم صحة السلب عنه وصحة الحمل عليه بالحمل الذاتي الذي كان ملاكه الاتحاد مفهوماً علامة كونه نفس المعنى[2].ولعله بملاحظة نوع العلائق[3].للّفظ أحوال خمسةوهي التجوّز والاشتراك والتخصيص.[4].وهو أنّ الوضع التعييني كما يحصل بالتصريح بإنشائه[5].فلا يكون حقيقةً ولا مجازاً[6].ويدلّ عليه تبادر المعاني الشرعية منها[7].ومع الغضّ عنه فالإنصاف منع حصوله في زمان الشارع في لسانه ولسان تابعيه مكابرة[8].وأمّا الثمرة بين القولين[9].وأصالة تأخّر الاستعمال[10].علائم الحقيقة والمجاز التبادر[1] بعدما ثبت بطلان الدلالة الذاتية، بحيث يكون اللفظ دالاًّ على معنى بلا جعل قرار، فإنّه لو كان اللفظ بنفسه مقتضياً للانتقال إلى معناه لما كان أحد جاهلا باللغات، يكون التبادر والانسباق معلولا للعلم بالوضع، ولا يكفي فيه ثبوت الوضع واقعاً، فإنّه من الواضح أنّه لو لم يكن علم بالوضع لم يكن انسباق وتبادر، فالانسباق معلول للعلم بالوضع، ولو كان العلم بالوضع أيضاً حاصلا من الانسباق، كما هو مقتضى جعل التبادر علامة للوضع، لتوقّف إحراز الوضع على إحرازه، وهو الدور.وأجابوا عن ذلك كما في المتن بأنّ العلم الحاصل من التبادر غير العلم بالوضع الذي يتوقّف عليه التبادر، فإنّ الأوّل علم تفصيلي، والثاني ـ يعني ما يتوقّف عليه التبادرـ علم إجمالي ارتكازي، والمراد بالعلم الإجمالي الإرتكازي عدم الالتفات فعلا إلى المعنى وخصوصياته من سعته وضيقه، لا الجهل به رأساً، وأهل أيّ لغة واصطلاح يعلمون معاني لغتهم بالارتكاز ويلتفتون إليها عند سماع ألفاظها.أقولما يترتّب على التبادر كما ذكر لا أهمية له، فإنّ تشخيص المراد الاستعمالي للمتكلم موقوف على العلم الإجمالي الإرتكازي بأوضاع الألفاظ هيئةً ومادةً، لا على العلم التفصيلي، والمفروض أنّ العلم الإجمالي لا يحصل بالتبادر، بل التبادر يحصل به.ثمّ إنّ هذا فيما أذا أُريد كون التبادر عند المستعلِم (بالكسر) أمارة عنده على وضع اللفظ، وأمّا إذا أُريد كون التبادر عند أهل المحاورة أمارة للمستعلم الجاهل بوضعه، فلا مجال لتوهّم الدور، فإنّ علم المستعلم موقوف على التبادر، والتبادر عند أهل المحاورة موقوف على علمهم، وفي هذا الفرض يستكشف المستعلم من التبادر عندهم وضع اللفظ ولكن في خصوص ما أُحرز أنّ التبادر عندهم غير مستند إلى قرينة خاصّة أو عامّة.ولا يفيد مع احتمال الاستناد إلى القرينة أصالة عدم القرينة؛ لأنّ أصالة عدم القرينة أو الحقيقة أو غيرهما من الأُصول اللفظيّة إنّما تعتبر فيما شكّ في مراد المتكلّم، لا فيما أُحرز مراده وشكّ في أنّه بالقرينة أم بالوضع.مثلا إذا أُحرز ظهور كلام الشارع أو غيره فعلا، ولكن شكّ في أنّ الكلام زمان صدوره أيضاً كان ظاهراً في هذا المعنى أو كان ظاهراً في غيره لاحتمال النقل أو كان زمان صدوره مجملا لاشتراك اللفظ في ذلك الزمان، ثمّ هجرت سائر معانيه بعد ذلك، ففي مثل ذلك بما أنّ الشكّ في مراد المتكلّم زمان صدور كلامه، تجري أصالة عدم النقل أو عدم الاشتراك أو أصالة عدم القرينة إلى غير ذلك.صحة الحمل وعدمه وصحة السلب وعدمه[2] حاصل ما ذكر (قدس سره) في عدم صحة السلب المعبّر عنه بصحّة الحمل وفي صحّة السلب المعبّر عنه بعدم صحّة الحمل هو أنّه لو لم يصحّ سلب معنى لفظ (والمراد المعنى المرتكز منه إجمالا في الأذهان على قرار ما تقدم في التبادر) عن معنى وصحّ حمله عليه بالحمل الأوّلي، كان ذلك علامة كون المعنى عين معنى اللفظ المرتكز في الأذهان، كما أنّ عدم صحّة سلب ذلك المعنى المرتكز عن شيء، وصحة حمله عليه بالحمل الشائع علامة لكون الشيء المفروض من مصاديق ذلك المعنى المرتكز.كما أنّ صحّة السلب بالسلب الأوّلي علامة لعدم كون المعنى المفروض هو المعنى المرتكز من ذلك اللفظ، كما أنّ صحة السلب الشايع علامة عدم كون الشيء المفروض من مصاديق ذلك المعنى المرتكز من ذلك اللفظ.وإن قلنا بأنّ إطلاق اللفظ المفروض وحمل معناه المرتكز على ذلك الشيء لايكون من باب المجاز في الكلمة، بل اللفظ يستعمل في معناه المرتكز ويطبق عليه بالادعاء والعناية، فيكون المجاز في الأمر العقلي؛ لأنّ انطباق المعنى على مصاديقه خارج عن استعمال اللفظ في معناه، بل هو أمر يدركه العقل؛ فلذا يقالإنّ المجاز في هذه الموارد في أمر عقلي كما صار إليه السكاكي.ومما ذكر في التبادر، يظهر أنّ كون صحة الحمل علامة للحقيقة أو لكون المصداق حقيقياً وكون صحة السلب علامة للمجاز أو لعدم كون الشيء مصداقاً حقيقة لا يستلزم الدور للتغاير بين الموقوف والموقوف عليه بالإجمال والتفصيل، أو أنّ أحدهما علم المستعلم، والآخر علم أهل المحاورة.أقول: صحة الحمل الأوّلي وإن كان يكشف عن اتّحاد المحمول مع الموضوع مفهوماً، لكنّه لا يكشف عن اتّحادهما من جميع الجهات، بل قد يكون بينهما تغاير بالإجمال والتفصيل (كما في قولنا: الحيوان الناطق إنسان) أو باعتبار آخر (كما في قولناالإنسان بشرٌ)، وعليه فلا يكون صحة الحمل الأوّلي كاشفاً عن كون المعنى المحمول عليه هو بعينه المعنى المرتكز للفظ، بل غاية ما يثبت بذلك صحة الاستعمال، وهو أعمّ من الحقيقة.وتظهر ثمرة ذلك فيما إذا كان أحد العنوانين موضوعاً لحكم خاصّ في خطاب الشارع دون الآخر، فإنّه وإن صحّ حمل الموضوع على العنوان الآخر بالحمل الأوّلي إلاّ أنّ الحكم لا يترتب إلاّ على العنوان الأول، مثلاإذا حكم الشارع بطهارة الدم المتخلّف في الحيوان المذبوح، وذبح حيوان وشكّ في دم في جوفه أنّه من الدم المتخلّف أو أنّه رجع إلى جوفه لعارض كعُلوّ رأس الحيوان أو جرّ نَفَسه الدم من الخارج، فإنّه باستصحاب عدم خروج الدم المفروض إلى الخارج لا يثبت عنوان الدم المتخلّف، مع أنّه يحمل بالحمل الأوّلي على عنوان (دم لم يخرج من جوفه عند ذبحه) إلاّ أنّ حكمه لم يثبت عليه، فتدبّر.نعم صحة السلب ـ يعني سلب المعنى المرتكز من اللفظ ـ عن شيء شكّ بدواً في كونه مصداقاً له علامة عدم كون المسلوب عنه مصداقاً وفرداً لذلك المعنى، فإنّ الطبيعي لا يسلب عن فرده ومصداقه في حال، بل يحمل عليه في جميع الأحوال، ولو صحّ حمل عنوان على شيء في حال خاصّ لثبت أنّه فرده في ذلك الحال فقط، فتدبّر جيّداً.الاطّراد[3] وحاصله أنّ القائل بكون الاطّراد في استعمال اللفظ في معنى علامة الحقيقة، وعدم اطراده علامة المجاز لاحظ نوع العلائق التي ذكروها للاستعمالات المجازية، ورأى أنّ اللفظ لا يستعمل في كلّ معنى يكون بينه وبين معناه الموضوع له إحدى هذه العلاقات، ولاحظ أيضاً اللفظ الموضوع لمعنى ورأى أنّه يستعمل فيه دائماً، فذكر أنّ استعمال اللفظ في معنى مطّرداً علامة كونه حقيقة فيه وعدمه كما ذكر علامة كونه مجازاً، وإلاّ فلو لاحظ هذا القائل خصوص علاقة يصحّ بها استعمال اللفظ في معنى بتلك العلاقة لرأى أنّه يصحّ استعماله في ذلك المعنى مكرّراً، فمثلاً استعمال لفظ الأسد في الحيوان المفترس مطرّد، وكذلك استعماله في الرجل الشجاع، وعلى ذلك فلا يعلم من مجرّد اطّراد الاستعمال في لفظ بالإضافة إلى معنى من المعاني أنّه على نحو الحقيقة أو المجاز.وذكر صاحب الفصول (قدس سره) أنّ الاطّراد بلا تأويل علامة الحقيقة(1).وفيه أنّ زيادة قيد (بلا تأويل) أو (على وجه الحقيقة) وإن كان موجباً لاختصاصه بالحقيقة فإنّه لابدّ في الاستعمال المجازي من التأويل وإعمال العناية، إلاّ أنّ الاطّراد على ذلك لا يكون علامة الحقيقة إلاّ بوجه دائر؛ لتوقّف إحراز كون الاطّراد بلا تأويل على العلم بالوضع، فلو توقّف العلم بالوضع عليه لدار.لا يقالالموقوف على الاطّراد العلم التفصيلى، والاطّراد موقوف على العلم الإجمالى بالوضع، كما تقدم في الجواب عن الدور في التبادر وعدم صحة السلب.فإنّه يقالالجواب المتقدّم غير جار في المقام، فإنّ انسباق المعنى من اللفظ إلى ذهن السامع لا يتوقّف على علمه التفصيلي بوضع ذلك اللفظ لذلك المعنى، فالعلم التفصيلي يحصل للسامع بالتبادر، بخلاف المقام، فإنّ الاطّراد هو شيوع استعمال اللفظ في معنى بلا تأويل وعناية، وإحراز هذا الاطّراد يتوقّف على حصول العلم التفصيلي بالوضع قبل إحراز الاطّراد وذلك لأنّ العلم التفصيلي يحصل بملاحظة استعمال واحد وإحراز الاطّراد يتوقّف على ملاحظة أكثر من استعمال واحد.وكذلك الأمر، بناءاً على أنّ التبادر عند العالم علامة للمستعلم، حيث إنّه يمكن للمستعلم إحراز المعنى المتبادر من اللفظ عند أهل المحاورة قبل علمه بالوضع، بل يحصل هذا العلم له نتيجة علمه بالتبادر عندهم.وهذا بخلاف الاطّراد فإنّ إحراز الشخص أنّ هذا اللفظ يستعمل عند أهل المحاورة بنحو الشيوع والتكرار بلا عناية في معنى خاصّ فرع علمه بالوضع عندهم لذلك المعنى، وإلاّ فكيف يحرز أنّ هذه الاستعمالات كلّها بلا لحاظ علاقة وعلى وجه الحقيقة؟ أقوللعلّ مراد القائل بكون الاطّراد علامة الحقيقة وعدمه علامة المجاز هو أنّه لو أراد المستعلم أن يعلم كون استعمال لفظ في معنى خاصّ عند أهل المحاورة بنحو الحقيقة ومن قبيل استعمال اللفظ فيما وضع له أو أنه يستعمل فيه بنحو المجاز، فعليه أن يلاحظ استعمالاتهم فإذا رأى صحّة التعبير عندهم عن ذلك المعنى بذلك اللفظ حتّى في استعمالاته التي لا تناسب رعاية العلاقة المحتمل رعايتها في بعض تلك الاستعمالات، علم بوضع اللفظ لذلك المعنى.وإذا رأى عدم صحّة استعمال اللفظ المفروض في ذلك المعنى في جميع التراكيب المتعارفة، فيعلم بأنّ استعماله إنّما هو بلحاظ تلك العلاقة التي كان يحتمل وقوعه بلحاظها، كما في المرق الرقيق، فإنّه قد يطلق عليه الماء في موارد الطعن على صاحبه مثلا، أو آكليه، وقد لا يطلق عليه الماء في جميع الموارد كما إذا لم يكن عند المكلّف ماء للوضوء والغسل وكان عنده المرق، فإنّه لا يقول عندي ماء، وهذا بخلاف ماء الكوز ونحوه فإنّه يطلق عليه الماء في جميع الموارد، ووصفه في بعضها بأنّه قليل لا يقدح فيما هو المهمّ فيه.أحوال اللفظ[4] فإنّه إن استُعمل اللفظ في غير ما وضع له بلحاظ العلاقة يكون مجازاً، وإن استُعمل في معنىً آخر باعتبار أنّه الموضوع له أيضاً بلا هجر معناه الأول يكون مشتركاً، ومع هجره ورعاية المناسبة يكون منقولا، وباعتبار عدم إرادة بعض مدلوله جدّاً يكون تخصيصاً، وباعتبار تقدير الدالّ على المراد يكون إضماراً.وإفراد التخصيص عن المجاز مبنيّ على ما هو الصحيح من أنّه كالتقييد لايكون موجباً للمجاز في استعمال العامّ، وأمّا عدم ذكره (قدس سره) التقييد، فلعلّ مراده بالتخصيص ما يعمّه، كما أنّ عدم تعرّضه للمجاز والعناية في الإسناد لدخوله في التجوّز عنده من باب الاستخدام.ثمّ إذا أُحرز ظهور اللفظ في معنى، واحتمل أن يكون مراد المتكلّم غير ذلك الظاهر بأن احتمل استعماله في غيره مجازاً، أو أنه موضوع للمعنى الآخر عنده بلا هجر معناه الأوّل، أو مع هجره أو أنه أراد غير ذلك الظاهر بنحو الاضمار، أو كون مراده الجدي غيره بنحو التخصيص أو التقييد، تكون أصالة الظهور متّبعة كما هو المقرر في مبحث حجية الظهور.وأمّا إذا أُحرز أنّ مراده غير معناه الظاهر وتردّد مراده بين الأنحاء المذكورة أو بين بعضها، فلا اعتبار بشيء ممّا قيل في ترجيح بعضها على بعض ما لم يكن في البين ظهور لكلامه في تعيين أحدها.الحقيقة الشرعية[5] ذكر (قدس سره) أنّ إنشاء الوضع التعييني كما يكون بالقول، كذلك قد يكون بنفس استعمال لفظ في معنى غير موضوع له، على نحو استعمال اللفظ فيما وضع له بأن يقصد الحكاية والدلالة على ذلك المعنى بنفس اللفظ لا الحكاية عنه باللفظ مع القرينة، نعم لابدّ في البين من قرينة دالّة على أنّ استعمال اللفظ فيه والحكاية عنه بنفس اللفظ لغاية تحقّق وضعه له ـ وهذه غير قرينة المجاز، حيث إنّ القرينة فيه تكون على حكاية اللفظ معها عن المعنى ـ وعدم كون استعمال اللفظ في المعنى في مقام وضعه له، من الاستعمال الحقيقي (حيث إنّ المفروض حصول الوضع بعد تحقّق ذلك الاستعمال) ولا من المجاز (حيث إنّ المعتبر في الاستعمال المجازي لحاظ العلاقة بين المعنى المستعمل فيه ومعناه الموضوع له) غير ضائر، بعد كون هذا النحو من الاستعمال مما يقبله الطبع ولا يستهجنه، وقد تقدّم أنّ في الاستعمالات الشائعة ما لا يكون حقيقة ولا مجازاً، ولكن ممّا يقبله الطبع، كاستعمال اللفظ في اللفظ.وأورد المحقّق النائيني (قدس سره) على ما ذكر من حصول الوضع بالاستعمال، بأنّ الاستعمال يقتضي لحاظ اللفظ فانياً في المعنى بحيث يكون الملحوظ استقلالا هو المعنى ويكون اللفظ مغفولاً عنه، بخلاف الوضع فإنّه يقتضي لحاظ اللفظ استقلالا، فلو حصل الوضع بالاستعمال لزم كون اللفظ في ذلك الاستعمال ملحوظاً آلياً واستقلاليّاً.ولكن لا يخفى ما فيه، فإنّه ـ كما سيأتي في بحث استعمال اللفظ في أكثر من معنى ـ أنّ مجرد استعمال اللفظ في معنى لا يقتضي كون اللفظ ملحوظاً استقلالا، لا أنّه يقتضي عدم لحاظه استقلالا، فلو كان في الاستعمال غرض يقتضي لحاظ اللفظ استقلالا فلا ينافيه الاستعمال، كما إذا كان غير العربي يتكلّم باللغة العربية ويعبّر عن مراداته بتلك اللغة في مقام إظهار معرفته بها، فيكون كمال إلتفاته إلى الألفاظ ويستعملها لتفهيم مراداته.ولو أُغمض عن ذلك وقلنا بأنّ الاستعمال يقتضي فناء اللفظ في المعنى وكونه مغفولاً عنه، فإنّ مقتضى ذلك أن لا يكون اللفظ بنفسه ملحوظاً استقلالا عند إنشاء المعنى المراد من اللفظ أو الحكاية عنه، وهذا لا ينافي كون النفس ملتفتة إلى الاستعمال المفروض فتعتبره وضعاً لذلك اللفظ بإزاء ذلك المعنى المنشأ والمحكي عنه.وأورد أيضاً على ما ذكره الماتن (قدس سره) من أنّ المقصود في مورد الوضع بالاستعمال الحكاية والدلالة على المعنى بنفس اللفظ لا بالقرينة، كما في المجاز، بأنّ دلالة اللفظ على المعنى المفروض لا تكون بلا قرينة؛ وذلك لعدم إمكان انتقال المعنى إلى ذهن السامع من اللفظ بدون الوضع وبدون القرينة لبطلان الدلالة الذاتية في الألفاظ، وإذا لم يكن وضع قبل حصول الاستعمال كما هو المفروض، فكيف يكون الانتقال من اللفظ إلى ذلك المعنى بلا قرينة؟ غاية الأمر القرينة الدالّة على كونه في مقام الوضع تكون مغنية عن قرينة مستقلّة للدلالة عليه، ولو فرض في مورد عدم كفايتها، لزم نصب قرينة أُخرى أيضاً للدلالة.ولكن لا يخفى ما فيه، فإنّ دلالة اللفظ على المعنى وإن لم تكن ذاتية ولكنها لا تتوقّف على الوضع الحاصل من قبل أو القرينة، بل الموجب للدلالة هو العلم بالوضع، ولو بالوضع الحاصل بالاستعمال، فالقرينة على الوضع بالاستعمال، في الحقيقة قرينة على جعل نفس اللفظ دالاًّ على المعنى المفروض، فيكون ذلك اللفظ بنفسه دالاًّ، ولذا ذكر أنّها تغني عن القرينة الأُخرى.[6] لعلّ نظره (قدس سره) في عدم كون الاستعمال المفروض حقيقةً إلى عدم تحقّق الوضع عند الاستعمال وكون الاستعمال إنشاءاً للوضع مقتضاه أن لا يتّصف الاستعمال المفروض بكونه موضوعاً له، وأمّا عدم كونه استعمالا مجازياً فلأنّ المفروض عدم كون الاستعمال بلحاظ العلاقة وإعمال العناية.أقولماذكره من عدم كون الاستعمال حقيقة فيما إذا أُريد تحقّق الوضع لايمكن المساعدة عليه، فإنّ حصول الوضع بالاستعمال لكون الابراز مقوماً في الإنشائيات ومنها الوضع في الألفاظ، وعلى ذلك فلا يكون المعنى قبل الاستعمال متّصفاً بكونه موضوعاً له، وكذا في مرتبة الاستعمال، ولكن زمان حصول الاستعمال متّحد مع زمان الوضع الذي يكون اعتباره بالنفس وإبرازه بالاستعمال، ولا حاجة في كون الاستعمال حقيقة إلى أزيد من ذلك، إذ معه لا يحتاج المتكلّم إلى لحاظ العلاقة وإعمال العناية.وقد تقدّم أنّ ما أشار إليه المصنّف من أنّ في الاستعمالات المتعارفة ما لا يكون بحقيقة ولا مجاز غير صحيح، وأنّ استعمال اللفظ في اللفظ أمرٌ لا أساس له.[7] قد يقال: تبادر المعاني الشرعية من ألفاظ العبادات الواردة في محاورات الشارع أوّل الكلام، وعلى تقديره فلا يكون مثبتاً للوضع بالاستعمال، ولكنّ الظاهر عدم ورود الإشكال، فإنّه لا يحتمل أن يكون مثل قوله سبحانه(كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيامُ) الآية(2)، عند نزولها من المجملات، ولم تكن ظاهرة في الصدر الأوّل في المعاني الشرعية، أو كانت ظاهرة في معانيها اللغوية.نعم، يبقى في البين احتمال كون تلك الألفاظ موضوعة لتلك المعاني قبل الشريعة الإسلامية أيضاً، كما استشهد الماتن لذلك بغير واحد من الآيات، مثل قوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلى الّذِيْنَ مِنْ قَبْلِكُمْ)، وقوله سبحانه: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالحَجِّ)(3)، وقوله سبحانه(وَأَوْصانِي بِالصّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيَّاً)(4)، فتكون ألفاظها حقيقة لغوية لا شرعية، واختلاف الشرائع في تلك الحقائق جزءاً أو شرطاً لا يوجب تعدّد المعنى، فإنّ الاختلاف يمكن أن يكون في المصاديق والمحقّقات كاختلافها بحسب الحالات في شرعنا.ثمّ إنّه (قدس سره) أيّد ثبوت الحقيقة الشرعية في تلك الألفاظ، بعدم ثبوت علاقة معتبرة بين المعاني الشرعية وبين معانيها اللغوية، وقد مثّل بلفظ الصلاة حيث لا علاقة بين معناها الشرعي وبين معناها اللغوي، ومجرد اشتمال معناها الشرعي على الدعاء لا يوجب ثبوت العلاقة المعتبرة في استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكلّ، حيث إنّه لا تركيب حقيقة، وليس الجزء من الأجزاء الرئيسية.فعدم ثبوت العلاقة المعتبرة يكشف عن عدم كون استعمال لفظ الصلاة في معناها الشرعي في محاورات الشارع من قبيل الاستعمال المجازي، والوجه في جعل ذلك مؤيّداً لا دليلا يمكن أن يكون أحد أمرين: الأوّلإنّ عدم العلاقة على تقديره لا يكشف عن وضع الشارع، لإمكان كون تلك الألفاظ موضوعة للمعاني الشرعية قبل الإسلام، كما استشهد لذلك بالآيات.والثانيإمكان صحّة استعمال اللفظ في المعنى، ولو مع عدم العلاقة المعتبرة وبلا وضع، كما تقدّم من وقوعه في بعض الاستعمالات المتعارفة لحسنها بالطبع.وأورد المحقّق النائيني (قدس سره) على ما ذكره ـ من أنّ ثبوت المعاني الشرعية في الشرائع السابقة يوجب كون تلك الألفاظ حقائق لغوية ـ بأنّ ثبوت بعض المعاني الشرعية أو كلّها في الشرائع السابقة لا يوجب انتفاء الحقيقة الشرعية؛ لأنّ ثبوتها فيها لا يكشف عن كون أساميها المتداولة عندنا كانت موضوعة لها قبل الإسلام في لسان العرب السابق، حيث لم تكن لغة جميع الأنبياء السابقين (على نبينا وآله وعليهم السلام) عربية، فيحتمل أنّ العرب في ذلك الزمان كانوا يعبّرون عنها بغير الألفاظ المتداولة عندنا، بل كانوا يعبّرون بغير اللغة العربية كما نراهم فعلا يعبّرون عن بعض الأشياء المخترعة بلغات سائر الأُمم، ووجود لفظ الصلاة في الإنجيل المترجم بلغة العرب لا يدلّ على سبق استعمال لفظ الصلاة أو غيره في تلك المعاني قبل الإسلام؛ لاحتمال حدوث الاستعمال عند ترجمة الإنجيل بلغة العرب بعد الإسلام.وبالجملة، ثبوت الحقيقة الشرعية لا يتوقّف على عدم وجود المعاني الشرعية قبل الإسلام، بل موقوف على عدم كون الألفاظ المتداولة عندنا موضوعة لتلك المعاني الشرعية قبل الاسلام، سواء كان ذلك لعدم المعنى الشرعي سابقاً أو لعدم وضع اللفظ له قبل الإسلام(5).أقولالمدّعى أنّ الناس قد فهموا من قوله سبحانه (كُتِبَ عَلَيْكُم الصِّيامُ)(6) عند قراءة النبي (صلّى الله عليه وآله) لها ولغيرها من الآيات، المعاني الشرعية ولايكون ذلك عادةً إلاّ إذا كان تعبيرهم عن تلك المعاني الشرعية السابقة على الإسلام بهذه الألفاظ المتداولة.لا يقال: كيف يمكن دعوى الجزم بأنّ المعاني الشرعية كانت هي المتبادرة في محاورات الشارع وعند نزول الآيات المشار إليها، مع أنّ ما ورد في الروايات المعتبرة في قضية تيمّم عمّار شاهد لكون المتفاهم عندهم كانت هي المعاني اللغوية؟ فإنّه يقال: المدّعى أنّ جلّ تلك الألفاظ كانت حقيقة في تلك المعاني لا كلّها، بحيث لا يشذّ منه لفظ أو لفظان، ولفظ التيمّم ـ على ما يظهر من الروايات ـ لم يكن له معنىً خاصّ في الشرائع السابقة، كما يشير إليه قوله (صلّى الله عليه وآله)«جُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً»(7).ودعوى أنّ لفظ الصلاة أيضاً كان ظاهراً في معناه اللغوى وإنّما كان يستعمل في معناه الشرعي في محاورات الشارع مجازاً أو بلحاظ العلاقة، حيث إنّ الصلاة في اللغة بمعنى الميل والعطف، والعطف من اللّه سبحانه الرحمة والمغفرة، ومن العباد طلبها، فيكون من باب استعمال اللفظ الموضوع للكلي وإرادة فرده الخاصّ، لا يمكن المساعدة عليها، فإنّه لا يحتمل أن يكون قوله سبحانه (وَأقِيْمُوا الصَّلاةَ)(8) مرادفاً عندهم لقوله (وَاسْتَغْفِرُوا اللّه) ولا مناسباً له، كما لا يخفى.[8] يعني لو فرض الإغماض عمّا تقدّم والتسليم بأنّ الاستعمالات في تلك الألفاظ كانت بنحو المجاز والعناية، فلا ينبغي المناقشة في أنّها صارت حقائق في المعاني الشرعية باستعمالات الشارع واستعمالات تابعيه، يعني المسلمين، وإنكار ذلك مكابرة، ويكفي في الجزم بذلك تداول بعض تلك الألفاظ في محاورات الشارع والمسلمين في كلّ يوم مرّة أو مرّات، نعم يمكن منع حصول الوضع بكثرة الاستعمال في خصوص كلام الشارع واستعمالاته.أقولهذا مبنيّ على حصول الوضع بكثرة الاستعمال وصيرورة اللفظ ظاهراً في معناه الجديد بكثرة الاستعمال، بحيث لا يحتاج في استعماله فيه إلى تعيين، ولكن ذكرنا أنّ التعيين يحصل لا محالة ولو بنحو إنشائه بالاستعمال.[9] تظهر الثمرة بين القولين فيما إذا ورد من تلك الألفاظ في كلام الشارع بلا قرينة، فعلى القول بإنكار الحقيقة الشرعية يحمل على معناه اللغوي، وبناءاً على ثبوت الحقيقة الشرعية بنحو الوضع التعييني يحمل على المعنى الشرعي، وكذا إذا قيل بالحقيقة الشرعية بنحو الوضع التعييني فيما إذا كان صدور الكلام بعد حصوله بخلاف ما إذا كان صدوره قبل حصوله، ويكون الكلام مجملا فيما إذا دار أمر صدوره بين التقدّم والتأخّر.وعن المحقّق النائيني (قدس سره) أنّه لم يوجد في كلام الشارع من تلك الألفاظ ما دار أمره بين حمله على المعنى اللغوي أو الشرعي بأن يجهل مراد الشارع، وعليه فيصبح البحث في الحقيقة الشرعية بحثاً علميّاً محضاً(9).أقول: يمكن المناقشة فيه بأنّ المراد من الصلاة في قوله سبحانه: (قَدْ أفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى)(10) مردّد بين الدعاء ومعناه الشرعي، وكذا في قوله سبحانه (يا أيُّها الَّذِيْنَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيْماً)(11) فإنّه يدور أمره بين الدعاء ولو بقول القائل(اللّهم ارفع درجات النبى (صلّى الله عليه وآله))، وبين كونها الصلاة المتعارفة عند المتشرّعة، وكذا ما وصل إلينا من كلام النبي (صلّى الله عليه وآله) من غير طرق أئمّتنا (عليهم السلام) فإنّه وإن وصل غالب كلامه إلينا بواسطتهم (عليهم السلام) وكان عليهم نقله بحيث يفهم مراده (صلّى الله عليه وآله) لوقوع النقل فهم في مقام بيان الأحكام الشرعية إلاّ أنّ قليلا منه قد وصل بغير واسطتهم فاستظهار المراد من كلامه يبتنى على البحث في الحقيقة الشرعية.[10] قد يقالإنّه إذا دار أمر الاستعمال بين وقوعه قبل الوصول إلى مرتبة الوضع التعيني أو بعد وصوله، فيحمل على المعنى الشرعي لأصالة تأخّر الاستعمال.فنقولإن كان المراد بأصالة التأخّر استصحاب عدم صدور الاستعمال المفروض إلى زمان حصول الوضع ويثبت به ظهوره في المعنى الشرعي وهو موضوع الحجّة، فهذا مع الغضّ عن كونه مثبتاً حيث إنّ ظهوره في المعنى الشرعي أثر عقليّ لتأخّر الاستعمال، معارض بأصالة تأخّر الوضع، يعني استصحاب عدم حصول الوضع إلى زمان ذلك الاستعمال.وإن أُريد بأصالة تأخّر الاستعمال عدم حصول النقل في اللفظ المفروض زمان استعماله وإنّ هذا أصل عقلائي يعبّر عنه بأصالة عدم النقل.ففيهأنّ أصالة عدم النقل إنّما تعتبر عند العقلاء فيما إذا شك في مراد المتكلم من ذلك اللفظ ولم يعلم حصول النقل فيه أصلاً، وأمّا إذا علم النقل وشك في تقدّمه وتأخّره فلا تعتبر ولا يمكن إحراز مراد المتكلّم بها.(1).الفصولص 31 س 8، الطبعة الحجرية.(2).سورة البقرةالآية 183.(3).سورة الحجالآية 27.(4).سورة مريمالآية 31.(5).أجود التقريرات1 / 34.(6).سورة البقرةالآية 183.(7).الوسائل: ج 2، باب 7 من أبواب التيمّم، الحديث2 و 3 و 4.(8).سورة البقرةالآية 43.(9).أجود التقريرات1 / 33.(10).سورة الأعلىالآية 14.(11).سورة الأحزابالآية 56.وغاية ما يمكن أن يقال في تصويره[1].وقد انقدح بما ذكرنا تصوير النزاع على ما نسب إلى الباقلاّني[2].إنما هو بالمهم من لوازمها[3].إنه لابدّ على كلا القولين من قدر جامع كان هو المسمّى بلفظ كذا، ولا إشكال في وجوده بين الأفراد الصحيحة[4].الصحيح والأعمّ: [1] ذكر (قدس سره) ما حاصله إنّ جريان البحث في الصحيح والأعمّ على القول بإنكار الحقيقة الشرعية، والبناء على أنّ استعمال الشارع تلك الألفاظ في معانيها الشرعية كان بنحو المجاز يتوقّف على أمرين: الأوّلعدم ملاحظة الشارع العلاقة بين كلٍّ من الصحيح والأعمّ وبين المعاني اللغوية لتلك الألفاظ، بل كانت الاستعمالات في أحدهما بملاحظة العلاقة بينه وبين المعنى اللغوي، واستعماله في الآخر منها بنحو سبك المجاز عن مجاز، يعني بملاحظة العلاقة بينه وبين المعنى المجازي الأوّل.والثانيإثبات أنّه بعد فرض وحدة المجاز المسبوك عن المعنى اللغوي جرى ديدنه عند إرادة المعنى المسبوك من الحقيقة على الاكتفاء بنصب قرينة صارفة فقط، وأنّه عند إرادة المعنى المسبوك عن المجاز كان ملتزماً بنصب قرينة معيّنة عليه ونتيجة هذين الأمرين حمل كلامه على المسبوك من معناه اللغوى عند قيام القرينة الصارفة على عدم إرادته، فللمتزم بالأمرين أن يتكلّم في المعنى الذي لاحظ الشارع العلاقة بينه وبين المعنى اللغوي، والذي جرت عادته عند إرادته على نصب قرينة صارفة فقط، هل كان هو الصحيح أو الأعمّ، ولكن لا يمكن لمنكر الحقيقة الشرعية والقائل بمجازية استعمالات الشارع إثبات هذين الأمرين، إذ من المحتمل ملاحظة الشارع العلاقة بين كلٍّ من الصحيح والأعمّ، وبين المعنى اللغوي في عرض واحد، أو كان ديدنه نصب قرينة معيّنة لكلٍّ منهما.وذكر بعض الأعاظم (رضي الله عنه) أنّه يكفي في جريان النزاع على القول بمجازية استعمالات الشارع إثبات أحد الأمرين المفروضين، فإنّه لو ثبت سبك أحد المعنيين عن الحقيقة، وسبك الآخر من المجاز، كان كلامه عند قيام القرينة الصارفة عن المعنى اللغوي ظاهراً في إرادة المسبوك من المعنى الحقيقي لا محالة، كما أنّه لو قيل بأنّه كانت عادته على عدم نصب قرينة معيّنة لأحد المعنيين، بل كان تفهيمه بالقرينة الصارفة فقط، كان اللفظ ظاهراً فيه عند قيام القرينة الصارفة فقط، حتّى مع ملاحظته العلاقة بين كلٍّ من المعنيين والمعنى اللغوي في عرض واحد(1).أقوللايخفى مافيه، فإنّه كيف يكون ظهور اللفظ في أحد المعنيين بخصوصه بقيام القرينة الصارفة، فيما إذا ثبت أنّ استعماله فيه كان بنحو سبك المجاز عن الحقيقة، مع احتمال جريان عادته على نصب القرينة لتعيين كلٍّ منهما، نعم لو ثبت الأمر الثاني من الأمرين لكفى في جريان النزاع، ولا حاجة معه إلى اثبات الأمر الأوّل.وذكر المحقّق النائيني (قدس سره) النزاع بوجه آخر ـ بناءاً على كون استعمالات الشارع بنحو المجاز ـ وهو أن يكون النزاع في مقتضى الأدلّة الدالّة على الحقيقة عند المتشرّعة من التبادر وغيره، وفي أنّها دالّة على كون الألفاظ حقيقة عند المتشرّعة في خصوص الصحيح أو في الأعم، وحيث إنّ المعنى الحقيقي (أي المسمّى بلفظ الصلاة) عندهم كاشف عن المراد الشرعي عند الإطلاق الذي هو مجاز عنده ـ حسب الفرض ـ، فإنّ منشأ هذه الحقيقة ذلك المجاز، فيتعيّن بتعيينها(2).ولا يخفى ما فيه أيضاً، فإنّه لا تكون ثمرة البحث مترتبة على ما ذكره، وذلك لأنّه لو ثبت مثلاً أنّ الحقيقة الشرعية هي الأعم، وعلم أيضاً أنّ منشأ هذا استعمال الشارع اللفظ فيه مجازاً، فلا يمكن إثبات أنّ الشارع لم يكن يستعمل اللفظ في الصحيح أصلا، ولو في بعض الأحيان؛ ليكون المعنى الأعم تعييناً في كلامه فيما إذا أحرزنا أنّه لم يرد في الاستعمال المفروض معناه اللغوي، فإنّا نحتمل أن يكون صيرورة اللفظ حقيقة في الأعمّ عند المتشرّعة لشيوع استعمال اللفظ عندهم في المعنى الأعمّ من غير سبق هذا الشيوع في استعمالات الشارع.[2] وتقريره: أنّه بناءاً على المنسوب إلى الباقلاّني وإن كانت تلك الألفاظ مستعملة في كلام الشارع في معانيها اللغوية دائماً وإنّما الخصوصيات التي لها دخل في المأمور به من الأجزاء والشرائط مستفادة من دالٍّ آخر، إلاّ أنّه لم تكن الدلالة عليها دائماً بذكرها تفصيلاً، فلم يكن يقول دائماً: صلّوا، واركعوا، واسجدوا، وكبّروا، إلى غير ذلك، بل كان ينصب على تلك الخصوصيات دالاًّ يدلّ عليها بالإجمال، أي بنحو دلالة لفظ الدار على أجزائها، فيقع البحث في أنّ ذلك الدالّ عليها بالإجمال المعبّر عنه بالقرينة المضبوطة كان دالاًّ على عدّة منها كما في دلالة لفظ الصلاة عليها على القول بالأعمّ أو كان دالاًّ على جميعها، كما لو قيل بوضعها للصحيح، ولا يخفى أنّ هذا التصوير لم يعلم مما ذكره قبل ذلك، فلا يظهر وجه لقوله (قدس سره)«وقد انقدح بما ذكرنا».[3] لا يخفى أن إسقاط القضاء أو موافقة الشريعة وإن كانا من اللوازم، إلاّ أنهما من لوازم صحّة المأتيّ به، بمعنى مطابقته لمتعلّق الأمر، وكلامنا في المقام في صحّة المتعلق لا المأتيّ به، حيث إنّ صحّة المأتي به تكون بعد تعلّق الأمر، وفي مرحلة الامتثال، والبحث في المقام في الصحّة التي تكون مأخوذة في المسمّى على مسلك الصحيحي والمتأخّر عن الأمر لا يؤخذ في متعلّقه، فضلا عن أخذ لوازمه.وبتعبير آخرمثل الصلاة مركب اعتباري وقوامه باعتبار معتبره، فما يوجد من الأفراد يضاف إلى ذلك المركّب، فإن كان شاملا لجميع المأخوذ فيه يكون تامّاً، وإن كان فاقداً لبعضها يكون فاسداً، فيقع الكلام في المقام في أنّ الموضوع له للفظ الصلاة مثلا تمام ذلك المركّب بحيث يكون إطلاقها على الناقص بالعناية، أو أنّ الموضوع له هو المركّب الموصوف بالتمام تارةً، وبالناقص أُخرى، والصحّة بمعنى التمام والفساد بمعنى النقص لا تكون إلاّ في المركّبات أو المقيّدات، وبالجملة المحتمل اعتباره في الموضوع له ليس عنوان الصحّة أو الصحيح، بل على تقدير الأخذ يكون المأخوذ في الموضوع له، ما به يوصف بالصحّة والتمام.وذكر المحقّق الاصفهاني (قدس سره) في تعليقته مناقشة أُخرى في كلام الماتن (قدس سره)، وحاصلهاأنّ موافقة الأمر أو إسقاط القضاء ليسا من لوازم الصحّة، يعني التمامية، بل تكون التمامية بهما حقيقة، حيث لا حقيقة للتمامية إلاّ التمامية من جهتهما، ولايمكن أن يكون اللازم متمّماً لمعنى ملزومه، وتمامية حقيقة الصحّة بهما كاشفة عن عدم كونهما بالإضافة إليها من قبيل اللازم بالإضافة إلى ملزومه، فتدبّر(3).ثمّ ذكر في الهامش في وجه التدبّر أنّ ما ذكر من عدم إمكان تمامية معنى الملزوم بلازمه إنّما هو في لوازم الوجود حيث إنّه لا يعقل فيه دخالته وتمامية ملزومه به، وأمّا بالإضافة إلى عارض المهيّة أي محمولها الخارج عنها مفهوماً، فيمكن أن يكون الشيء خارجاً عن تلك الماهية ومع ذلك دخيلا في تماميتها وحصولها، كالناطق بالإضافة إلى الحيوان، حيث إنّه عارض للحيوان ولكن يكون به حصول الحيوان(4).أقولقد تقدّم أنّ التمامية إذا كانت وصفاً للمأتيّ به، فالمراد بها مطابقته لمتعلّق الأمر، فيكون سقوط القضاء أو موافقة الأمر من آثار صحّة المأتيّ به، وإذا كانت وصفاً لما تعلّق به الأمر فالمراد اشتماله على جميع ما يوصف معه بالصحيح بمعنى التامّ، وسقوط القضاء أو موافقة الأمر لا يرتبط بالمتعلّق وليسا من لوازمه، فإنّه يوصف بالصحّة قبل تعلّق الأمر وفي مرحلة التسمية.وأمّا ما ذكره (قدس سره) من التفرقة بين لوازم الوجود والمهية، من أنّ عارض الوجود لا يدخل في معنى ملزومه، ولكن عارض المهيّة يمكن دخله في تماميتها، فإن كان المراد من التمامية صيرورة الماهيّة نوعاً فهو وإن كان صحيحاً إلاّ أنّ الكلام هنا في الدخول في معنى الملزوم، كما لا يخفى، وصيرورة المهية نوعاً وعدمها أجنبي عن مورد الكلام في المقام.ثمّ إنّه قد يقال الصحّة في العبادة تغاير الصحّة في المعاملة أي ـ العقود والإيقاعات ـ، حيث إنّ الصحّة في المعاملة بمعنى ترتب الأثر عليها خارجاً والمعاملة لا يترتب عليها الأثر ـ أي الأثر المترقب من تلك المعاملة ـ.ووجه الفرق بين الصحتين هو أنّ الحكم المجعول للمعاملة بنحو القضية الحقيقية يكون انحلاليّاً يثبت لوجودات تلك المعاملة، فمعنى قوله سبحانه (أحَلَّ اللّهُ البَيْعَ)(5) ثبوت الحلية الوضعية لكلّ ما ينطبق عليه عنوان البيع خارجاً، فالبيوع التي لا تثبت لها تلك الحلية يعبر عنها بالفاسدة، وهذا بخلاف التكاليف فإنّ الأمر لا يتعلّق بالوجود الخارجي للمتعلق، فإنّه يكون من طلب الحاصل بل يتعلّق بالعنوان ومعنى الأمر به طلب صرف وجوده بالمعنى المصدري، فالمأتي به إذا كان صرف وجوده يكون مسقطاً للأمر به فينتزع الصحّة للمأتي به عن مطابقته للعنوان المتعلّق به الأمر بمعنى اشتماله على تمام ما اعتُبر في ذلك المتعلق من الأجزاء والقيود.ولكنّ الظاهر أنّ ترتّب الأثر ليس بمعنى الصحّة حتّى في المعاملة، حيث إنّ كلامنا في الصحّة في مقام التسمية، فيكون المراد من كون الفاظ المعاملات أسامي للصحيحة أو الأعمّ كونها موضوعة لما يكون جامعاً لجميع ما يلاحظ في إمضائها أو أنّها موضوعة لما يلاحظ في إمضائها في الجملة ولو لم تكن جامعة لجميعها، ولذا لو سُئِل أحد عن البيع الصحيح، لأجاب بمقوماته بجميع قيوده، وبهذا الاعتبار تتّصف المعاملة بالصحّة قبل تحققها، نعم لا تكون الصحّة الفعلية إلاّ إذا حصل ذلك الجامع الملحوظ خارجاً بتمام قيوده الملازم لإمضائها، وليس كلامنا في المقام في الصحّة الفعلية بل الصحّة في مقام التسمية.[4] الاشتراك اللفظي في مثل لفظ الصلاة، بأن يوضع اللفظ لكل ما يطلق عليه الصلاة بوضع مستقل، أو يوضع لها بالوضع العامّ والموضوع له الخاصّ غير محتمل، كما يشهد بذلك خطور المعنى الواحد عند الاطلاق، مع أنّ الثاني أيضاً يستدعي وجود الجامع ولو بين الأفراد الصحيحة، والتزم المصنف (قدس سره) بإمكان وجود الجامع بين الأفراد الصحيحة، بل التزم بوجود الجامع المفروض لا محالة، اعتماداً على قاعدة «الواحد لا يصدر إلاّ من الواحد» حيث إنّ كلّ ما يطلق عليه الصلاة ويوصف بالصحّة له أثر واحد كما يفصح عن ذلك قوله سبحانه: (إنّ الصَّلاة تَنْهَى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ)(6)، وقوله (عليه السلام)ـ على ما ادّعي ـ«الصلاة معراج المؤمن»(7)، حيث إنّ المؤثّر في الواحد يكون واحداً، كما هو مقتضى لزوم السنخيّة بين الشيء وعلّته، يمكن الإشارة في مقام الوضع إلى ذلك الجامع ولو بذلك الأثر، فيوضع له لفظ الصلاة، أو يستعمل فيه لفظها مجازاً، أو بنحو تعدّد الدالّ والمدلول.ثمّ أورد (قدس سره) على ذلك، بأنّ الجامع المفروض لا يمكن أن يكون مركّباً من الأجزاء والشرائط، فإنّ كلّ ما يفرض من المركّب منها، يمكن أن يكون صحيحاً في حال وفاسداً في حال آخر، لما تقدّم من اختلاف الصحيح بحسب الحالات والأشخاص، وأنّ الصحيح في حال أو من شخص فاسد في حال آخر أو من شخص آخر.وكذا لا يمكن أن يكون الجامع المفروض أمراً بسيطاً بحيث لا يصدق ذلك العنوان البسيط إلاّ على الأفراد الصحيحة، فإنّ البسيط إمّا عنوان المطلوب، أو عنوان ملزوم لعنوان المطلوب، وأما كون لفظ الصلاة موضوعاً لعنوان المطلوب فغير معقول؛ لأنّ هذا العنوان يحصل بعد تعلق الطلب بالصلاة، ويستحيل أن يتعلق الطلب بعنوان يتوقّف على تعلّق الطلب به، هذا مع عدم الترادف بين لفظ الصلاة ولفظ المطلوب، وأمّا كون المسمّى عنوان المطلوب أو ملزومه المساوي له فلازمه أن لا تجري البراءة عند الشك في جزئية شيء أو قيديته للصلاة مثلا، فإنّ الشكّ فيها لا يكون شكّاً في نفس متعلّق التكليف، بل فيما يحصل به ذلك المتعلّق، والشكّ والإجمال فيما يحصل به المتعلّق مجرى قاعدة الاشتغال، وبهذا يظهر أنّ المسمّى للصلاة على الصحيحي، كما لا يمكن أن يكون عنوان المطلوب كذلك لا يمكن أن يكون ملزومه المساوي له، فإنّه عليه أيضاً لا يمكن أن تجري البراءة في موارد الشكّ في جزئيّة شيء أو شرطيّته لكون الشكّ في المحصل للصلاة.وأجاب عن الإيراد، بالالتزام بأنّ المسمّى عنوان بسيط، ملزوم لعنوان المطلوب بعد تعلّق الأمر به، والمعنى البسيط المنتزع بلحاظ الأثر الواحد يمكن أن ينطبق على المركّب بتمام أجزائه وقيوده، لا أن تكون الأجزاء والقيود محصّلة له كما في عنوان (حافظ الإنسان من برودة الجوّ) فإنّ عنوان الحافظ ينطبق على البيت المركّب من الأجزاء بتمام شرائطه، انطباق الكلي على مصداقه، والإجمال في أجزاء المركّب المفروض وشرائطه عين إجمال ذلك العنوان بحسب وجوده، فيؤخذ عند الشكّ، بالمقدار المتيقّن من المطلوب، ويرجع في المشكوك إلى أصالة البراءة كان المشكوك جزءاً أو شرطاً وقيداً.وإنّما لا يؤخذ بالبراءة فيما إذا كان متعلّق الأمر واحداً خارجيّاً، مسبباً وجوده عن وجود مركّب مردّد أمره بين الأقل والأكثر، كالطهارة من الحدث بناءاً على أنّها حالة للنفس تحصل من الغسل أو الوضوء، وفي مثل ذلك إذا شكّ في كون شيء جزءاً أو شرطاً للوضوء أو الغسل، فلامورد للبراءة، بل مقتضى استصحاب بقاء الأمر بالطهارة وقاعدة لزوم إحراز الامتثال بعد إحراز اشتغال الذمة بشيء، لزوم الاحتياط.أقول: يستفاد من كلامه (قدس سره) من صدره إلى ذيله أُمور: الأوّللزوم الجامع على كل من القولين، الصحيحيّ والأعميّ.الثانيإنّ تحقّق الجامع بين الأفراد الصحيحة مقتضى البرهان، يعني برهان لزوم السنخية بين الشيء وعلّته، ويكون ذلك الجامع المستكشف بالبرهان هو الموضوع له على الصحيحي.الثالثإنّ الجامع المستكشف بمقتضى البرهان بسيط يتّحد مع الأجزاء والشرائط خارجاً، وملزوم لعنوان المطلوب ولو بعد تعلّق الأمر بذلك الجامع(8).الرابعإنّه من تعلّق الأمر بذلك الجامع البسيط عنواناً، لا يلزم الاحتياط في موارد الشكّ في جزئيّة شيء أو شرطيّته وإنّما يجب الاحتياط فيما إذا كان للعنوان البسيط وجود خارجاً مسبّب عن المركّب أو تردّد أمر المركّب بين الأقل والأكثر(9).أمّا الأمر الأوّلفقد ناقش فيه المحقّق النائيني (قدس سره)، وذكر ما حاصله أنّ للصلاة مراتب تكون أعلاها صلاة المختار، وأدناها صلاة الغرقى، وبينهما مراتب لها عرض عريض، فيمكن القول بأنّ الصلاة وضعت للمرتبة الأعلى أوّلا وهي الصلاة الاختياريّة من جميع الجهات، ثمّ إنّها استُعملت وطبّقت على سائر المراتب بالادّعاء والتنزيل، أو من باب الاكتفاء بها في سقوط التكليف، من غير أن تكون فرداً تنزيلياً، كما في صلاة الغرقى، فإنّه يمكن أن لا تكون فرداً تنزيليّاً، بل يكتفى بها في مقام الامتثال، نظير ما ذكره الشيخ (قدس سره) في نسيان بعض أجزاء الصلاة وشرائطها ممّا لا يدخل في المستثنى من حديث «لا تعاد»، حيث التزم بأنّ المأتي به خارجاً المنسيّ بعض أجزائه أو شرائطه لا يعمّه متعلّق الأمر، ولكن مع ذلك يسقط به التكليف بالصلاة.نعم بالإضافة إلى صلاة المسافر والحاضر لكونهما في مرتبة واحدة وعرض واحد، لابدّ من فرض جامع بينهما.والالتزام بأنّ لفظ الصلاة موضوع للمرتبة العليا ويستعمل فيها وتطبّق تلك المرتبة على سائرها بالادّعاء والتنزيل، أو من باب الاكتفاء، قريبٌ جدّاً.ويؤيّده جملة من الاستعمالات المتعارفة، حيث يوضع اللفظ ابتداءاً لما اختُرع أوّلا، ثمّ يستعمل ذلك اللفظ في الناقص والمشابه له، وعلى ما ذكر ينتفي النزاع بين الصحيحي والأعمّي من أساسه؛ لأنّ ثمرة الخلاف كما يأتي تظهر في التمسّك بإطلاق خطابات العبادة، فإنّه لا يجوز التمسك به عند الشكّ في جزئيّة شيء أو شرطيّته لمتعلق الأمر على الصحيحي لإجمال المتعلّق عندنا، ويتمسّك بإطلاقه على الأعمّي مع عدم وروده بنحو الإهمال، وتنتفي هذه الثمرة بناءاً على وضع الصلاة للمرتبة العليا والالتزام بالتنزيل في سائر المراتب، ووجه الانتفاء عدم إحراز التنزيل في الاستعمال الواقع في الخطاب بالإضافة إلى الفاقد ليؤخذ بالاطلاق(10).أقوللا يخفى ما فيه، فإنّ الصلاة الاختيارية من جميع الجهات لا تنحصر بالقصر والتمام، بل الصلاة اليومية وصلاة الآيات والجمعة والعيدين، وغيرها من الصلوات حتّى المندوبة منها كلّها اختياريّة، ولا تكون بعضها في طول الأُخرى، فلابدّ من فرض الجامع بينها، هذا أوّلا.وثانياً: إنّ الوجدان شاهد صدق بأنّ إطلاق الصلاة وانطباق معناها على المراتب على حدٍّ سواء في عرف المتشرّعة، وكما أنّ الصلاة مع الطهارة المائيّة صلاة، كذلك مع الطهارة الترابيّة، ومن هنا ينساق إلى الأذهان من مثل قوله سبحانه (إنّ الصَّلاة تَنْهَى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ)(11) ومن قوله (صلّى الله عليه وآله): «بُني الإسلام على خمسعلى الصلاة.» الحديث(12)، معنى يعمّ جميع أفرادها، وعليه فاللازم تصوير الجامع بين جميع المراتب، ولو كانت بعضها في طول الاخرى في مقام تعلّق الأمر بها، وقد تقدّم منه (قدس سره)الالتزام بأنّ التبادر الفعلي كاشف عن كيفيّة وضع الشارع واستعماله في ذلك الزمان.وثالثاًما ذكره (قدس سره) من انتفاء ثمرة الخلاف فيما إذا شكّ في اعتبار شيء جزءاً أو شرطاً، فهو فيما إذا شكّ في اعتبار أحدهما في سائر المراتب، وأمّا إذا شكّ في اعتبار أحدهما في المرتبة العليا التي تعلّق بها الأمر، فعلى الصحيحيّ لايمكن التمسّك بإطلاق الخطابات؛ لإجمال تلك المرتبة وعلى الأعمّي يصحّ مع عدم إهمال الخطاب.وأمّا الأمر الثاني: فيقع الكلام فيه من جهتين؛ الأُولى: هل للصلوات الصحيحة أثرٌ واحد يحدث بحصول كلٍّ منها؟ والثانية: على تقدير الأثر الواحد لها، فهل يكشف ذلك الأثر عن جامع ذاتيٍّ بين الصلاة الصحيحة، بحيث يكون التأثير لذلك الجامع لقاعدة «عدم إمكان صدور الواحد إلاّ عن واحد» أم لا؟ أمّا الجهة الأُولى، فتظهر حقيقة الحال فيها بالتكلّم في معنى قوله سبحانه (الصَّلاة تَنْهَى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ)(13) فنقول: ليس المراد من النهي النهي التشريعي قطعاً، فإنّ الناهي عن الفحشاء والمنكر هو الشارع سبحانه، يقول اللّه عزّ وجلّ(إنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسانِ وَإيْتاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ)(14).وقد يقالإنّ إسناد النهي عن الفحشاء والمنكر باعتبار أنّ الصلاة المتعلّق بها الأمر مقيّدة بقيود ـ من عدم السوء والمنكر ـ، حيث إنّها مشروطة بإباحة المكان والثوب والساتر وعدم لبس الذهب للرجال وغير ذلك، فيكون نهي الصلاة عن السوء بمعنى أخذ عدم ذلك السوء فيها، فلا يكون عدم الفحشاء والمنكر أثراً خارجيّاً مترتباً على الصلاة ترتّب المعلول على علّته، لتكشف وحدته عن وحدة المؤثّر.ولكن لا يخفى أنّ إرادة ذلك من نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر لا يناسب تعظيم الصلاة وحثّ المؤمنين على المواظبة عليها لكي لا تضيع ولو في وقتها، بل الظاهر أنّ المراد من النهي، المنع الخارجي المترتّب على المواظبة عليها والإتيان بما هو حقّها، فإنّ الإتيان بها كذلك يقتضي أن لا ينقدح للمؤمن داع نفساني إلى السوء والمنكر، نظير إسناد الأمر بالسوء والفحشاء إلى الشيطان في مثل قوله سبحانه(الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ)(15)، و(إنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالْسُّوْءِ وَالْفَحْشاءِ وَأنْ تَقُولُوا عَلَى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(16).وبتعبير آخرترتّب الامتناع عن السوء على الصلاة إنّما هو في مرحلة امتثال الأمر بها، حيث إنّ العبد إذا امتثل الأمر بها، بالتدبّر بالقراءة والأدعية والأذكار المشروعة في أفعالها، والتعمّق في الخشوع بها الوارد في الروايات بأنّ ذلك روحها تحصل للنفس حالة ترتقي بها عن الانحطاط المناسب للشرور والقبائح، وبوصولها إلى بعض مراتبها الكمالية، لا يحصل لها الداعي إلى ارتكاب الفحشاء والمنكرات عند الشارع، ويختلف هذا باختلاف مراتب الارتقاء الحاصل بمراتب الامتثال في الصلاة.والحاصل إنّ منع الصلاة عن الفحشاء والمنكر، إنّما هو لارتقاء النفس بها في بعض مراتب الامتثال، الملازم لعدم ميل النفس إلى الشرور والقبائح، أو لعدم تماميّة الداعي له إليها، فيكون للصلوات الصحيحة جهة جامعة في مقام الامتثال، وهي كون محتوى الأفعال والأذكار والقراءة والأدعية المشروعة فيها موجبة لتذكّر العبد ربّ العالمين والتوجّه إلى عزّه وذلّ نفسه، وتمتاز الصلاة بذلك عن سائر العبادات، حيث لا يكون لها هذه المرتبة من التذكّر والخشوع؛ ولذا عبّر عن الصلاة بالذكر في قوله سبحانه(فَاسْعَوا إلى ذِكْرِ اللّهِ)(17).وأمّا الجهة الثانيةفمن الظاهر أنّ ترتّب هذا الأثر على الصلاة الصحيحة في مقام الامتثال لا يلازم الجامع لها بين الأفراد الصحيحة في مقام التسمية بالمعنى المتقدّم، فإنّ الناقص أيضاً لو كان مأموراً به وكان امتثال أمره ببعض مراتب الامتثال المراعى فيها الخشوع والتذكّر بمحتواها، لحصل لها هذا المنع أيضاً.وبالجملة فليس المترتّب على الصلاة في مقام التسمية إلاّ شأنيّتها للخشوع والتذكّر بها، وهذا الأثر يشترك فيه في مقام التسمية التامّة والناقصة، ولا تترتّب الشأنيّة على خصوص التامّ، كما ذكرنا.وأما ما ذكر من كون «الصلاة معراج المؤمن» فلم يحرز وروده في خطاب الشارع ليقال إنّ ترتّب العروج على الصلاة الصحيحة يكشف عن جامع بينها، وعلى تقدير وروده أيضاً يجيء فيه ما تقدّم في قوله سبحانه(الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ)(18)، حيث إنّ عروج المؤمن عبارة أُخرى عن ارتقاء نفسه إلى بعض المراتب الكماليّة، كما لا يخفى.وإن شئت البرهان على أنـّه لا يمكن أن يكون في البين جامعٌ ذاتي بين الأفراد الصحيحة، فنقولالأثر الوارد في الكتاب المجيد أو غيره يترتّب على ما يحصل خارجاً ويوصف بالصحّة، ومن الظاهر أنّ الموجود خارجاً مركب اعتباريّ أوّله التكبير وآخره التسليم، فيعتبر فيه أفعال وأقوال من الأذكار والقراءة وسائر القيود المعبّر عنها بالشرائط، ومن البديهي أنّ القراءة والذكر من مقولة، والركوع والسجود والقيام من مقولة أُخرى، والطهارة من الحدث والخبث من مقولة ثالثة، فالأثر المترتّب يترتّب على المجموع، ولا يعقل جامع ذاتيّ بين مجموع هذه المقولات المتباينة، وإذا لم يمكن الجامع الذاتيّ بين أجزاء صلاة واحدة، بحيث يكون هو المؤثّر، فكيف يمكن الجامع الذاتيّ بين الصلوات المختلفة؟ بل الجامع على تقديره يكون اعتباريّاً ولو لوحظ خصوصيّة كلٍّ من الصلاتين، فلا يمكن أخذ الجامع التركيبي أصلاً فإنّ إحدى الصلاتين مشروطة بالركعة الأُخرى مثلاً والأُخرى مشروطة بعدم تلك الركعة كصلاة الصبح وصلاة المغرب، وأخذ الجامع فرع إلغاء الخصوصيتين ومع إلغائهما يكون ذلك الجامع منطبقاً على الصحيح والفاسد، لما تقدّم من أنّ الصحيح في حال، فاسد في حال آخر.وأمّا الجامع البسيط فلا يمكن كونه ذاتيّاً لما ذكرنا من أنّ أجزاء صلاة واحدة لاتدخل في مقولة واحدة، فكيف يمكن دخولها ودخول أجزاء غيرها تحت مقولة، بل الممكن من الجامع البسيط هو كونه عنوانيّاً والجامع العنوانيّ لا تحصُّل له خارجاً، ليكون هو المؤثّر في الأثر.وممّا ذكرنا يظهر وجه المناقشة فيما ذكره المحقّق الاصفهاني (قدس سره) في المقام، حيث قالإنّ تصوير الجامع في المقام على الصحيحيّ والأعميّ على نهج واحد، وذلك فإنّ الماهية مع وجودها الحقيقي (الذي حيثية ذاته طرد العدم) متعاكسان في الاطلاق والسعة؛ لأنّ الماهيّة سعتها وإطلاقها للضعف والإبهام، وسعة الوجود الحقيقيّ لفرط الفعليّة، ولذا كلّما كان الضعف والإبهام في المعنى أكثر، كان الإطلاق والسعة والشمول فيه أكثر، وكلمّا كان الوجود أشدّ وأقوى، كان الإطلاق والسعة أعظم وأتمّ، فإن كانت الماهيّة من الماهيّات الحقيقية، كان إبهامها وضعفها بلحاظ الطوارئ والعوارض، مع حفظ نفسها كالانسان، فإنّه لا إبهام فيه من حيث الجنس والفصل، وإنّما الإبهام فيه من حيث الشكل واللون وشدّة القوى وضعفها، وسائر عوارض النفس والبدن حتّى عوارض الوجود والماهيّة، وإن كانت الماهية من الأُمور المؤتلفة من عدّة أُمور بحيث تنقص وتزيد كمّاً وكيفاً، فمقتضى الوضع لها بحيث يعمّها مع تفرّقها وشتاتها أن تلاحظ على نحو مبهم غاية الإبهام بمعرفيّة بعض العناوين غير المنفكّة عنها، وكما أنّ الخمر مثلا مائع مبهم من حيث اتّخاذه من العنب والتمر وغيرهما، ومن حيث اللون والطعم والريح ومن حيث مرتبة الإسكار والمقدار، ولذا لا يمكن وضعه إلاّ لمائع خاصّ، بمعرفيّة المسكريّة من دون لحاظ الخصوصيّة تفصيلا، بحيث إذا أراد المتصوّر تصوّره لم يوجد في ذهنه إلاّ مائع مبهم من جميع الجهات إلاّ جهة مائعيّته، بمعرفيّة المسكريّة من دون لحاظ شيء آخر، كذلك لفظ الصلاة مع الاختلاف الشديد بين مراتبها كمّاً وكيفاً، فلابدّ من أن يوضع لفظه لعمل يكون معرّفه النهي عن الفحشاء أو غيره من المعرّفات، بل العرف لا ينتقل من سماع لفظ الصلاة إلاّ إلى سنخ عمل خاصّ مبهم إلاّ من حيث كونه مطلوباً في الأوقات الخاصّة، وهذا لا يدخل في النكرة، فإنّه لم يؤخذ فيه كما ذكرنا خصوصيّة البدلية كما أُخذت في النكرة، والحاصل أنّ الإبهام في معنى الصلاة غير الترديد المأخوذ في معنى النكرة، والجامع بالنحو الذي ذكرناه لا مناص منه بعد الجزم بحصول الوضع للمعنى الشرعي ولو تعيّناً وعدم إمكان الالتزام بجامع ذاتيّ وعدم صحّة الالتزام بكون الموضوع له الجامع العنوانيّ أو الاشتراك اللفظي في مثل الصلاة.وقال (قدس سره): قد التزم بنظير ما ذكرنا بعض أكابر فنّ المعقول في تصحيح التشكيك في الماهية، جواباً عمّا قيل بعدم إمكان شمول طبيعة واحدة لتمام مراتب الزائدة والناقصة والمتوسطة، مع الإغماض عن وجودها، حيث قالالجميع مشترك في سنخ واحد مبهم غاية الإبهام، بالقياس إلى تمام نفس الحقيقة ونقصها زائداً عن الإبهام الناشئ فيه عن اختلاف الأفراد بحسب هويّاتها.وقالإنّ ما ذكرناه في المركّب الاعتباري أولى ممّا ذكره في الحقائق المتأصّلة، كما لا يخفى.أقوللعلّ نظره في الأولوية إلى أنّ الحقائق المتأصّلة لا يمكن فيها الإهمال بالإضافة إلى نفس الماهية، فالماهيّة لابدّ من كونها متعيّنة، بخلاف المركّبات الاعتبارية، فإنّه يمكن فرض الإبهام في معانيها(19).ووجه ظهور المناقشةأنّ ما قرّره في إبهام المعنى، لا يخرج المعنى عن الجامع العنواني البسيط (الذي اعترف (قدس سره) في كلامه بأنّه لا يمكن أن يكون معنى الصلاة) حيث لو تبادر إلى أذهان المتشرّعة ذلك الجامع ولو بمعرفيّة النهي عن الفحشاء، أو الوجوب في أوقات خاصّة مع فرض إبهامه من سائر الجهات، فإن كان المتبادر عنوان العمل المبهم من جميع الجهات المعلومة، بمعرفيّة النهي عن الفحشاء أو التكليف به في أوقات خاصّة، فمن الظاهر أنّ عنوان العمل، جامع عنواني وإن كان المتبادر واقع العمل ومصاديقه، المعرّفة بالنهي عن الفحشاء والمنكر، أو بالتكليف بها في أوقات خاصّة، فمن الظاهر أنّ المصاديق مختلفة متعدّدة فيكون وضع اللفظ لها من الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ.أضف إلى ذلك، صدق الصلاة وشمول معناها للصلاة المندوبة التي ليس لها وقت، وتبادر المعنى منها إلى أذهان المتشرّعة من غير أن يعرفوا علاميّة النهي عن الفحشاء، وما هو المراد منه أصلاً.وماقيل من أنّ لفظ الصلاة ليس موضوعاً لجامع ذاتيّ مقوليّ، ولا لجامع عنوانيّ، وإنّما هو إسم لمرتبة من الوجود، وتلك المرتبة سيّالة في جميع الصلاة الصحيحة(20)، لا يمكن المساعدة عليه أيضاً؛ إذ لو أُريد أنّ الصلاة إسم للأجزاء المشروطة والمقيّدة المتحقّقة، فمن الظاهر أنّ ما في الخارج وجودات متعدّدة تندرج في مقولات مختلفة، تجمعها وحدة اعتباريّة، وليست مرتبة من الوجود، وإن أُريد أنّ مع الوجودات المتعدّدة وجوداً آخر يحصل بتلك المتعدّدات وتكون وحدتها بذلك الوجود، نظير مرتبة من قوّة جرّ الثقيل الحاصلة من العشرة رجال أو الخمس عشرة نسوة، أو رجلين، أو غير ذلك.وبتعبير آخرالملاك الملحوظ يحصل من كلّ من الصلاة الصحيحة المختلفة بحسب اختلاف الأشخاص والأحوال، فمن الظاهر أنّ الملاك الملحوظ الواحد على تقدير وجوده غير محرز عند العرف فلا يمكن أن يكون نفس ذلك الملاك موضوعاً له، كما لا يمكن أن يكون الموضوع له، ما هو دخيل في حصول ذلك الملاك، فإنّه إن أُريد ممّا هو الدخيل فيه عنوانه، فيكون جامعاً عنوانياً، ولا يتبادر إلى الأذهان من لفظ الصلاة عنوان «الدخيل فيما هو ملاك عند الشارع»، وإن أُريد معنونه، فقد تقدّم أنّ المعنون بذلك العنوان متعدّد ومختلف بحسب الحالات والأشخاص، فيكون وضع اللفظ للمعنون من وضع العامّ والموضوع والموضوع له الخاصّ.وبالجملة، لا يتصوّر معنى لا يكون من الجامع الذاتيّ ولا من الجامع العنوانيّ بحيث يكون معنىً واحداً بسيطاً ولا يتّصف بأحدهما، وقد ذكرنا عدم معقولية الجامع الذاتيّ بين الأفراد الصحيحة، فيتعيّن الجامع العنوانيّ البسيط، وذكرنا أنّ كون الموضوع للفظ الصلاة مثلاً هو العنوان البسيط خلاف المعنى المتبادر عرفاً، حيث لا يتبادر منها إلاّ المشتمل على الأعمال الخاصّة.وقد تحصل ممّا ذكرنا، أنّ ما يمكن للقائل بوضع اللفظ للصحيح بحيث يساعده فهم المتشرّعة أن يدّعيه، هو أنّ الشارع لاحظ التكبيرة والقراءة والركوع والسجود والتشهّد والتسليمة، وبنى على أنّ كلّ عمل يشرّعه فيما بعد ويشتمل على جميع الأعمال المفروضة أو معظمها فنفس العمل المفروض بتشريعه هو معنى لفظ الصلاة مثلا، سواء كان تشريعه بعد ذلك بالأمر الوجوبي أو الندبي، فيكون التشريع شرطاً لفعليّة وضع اللفظ لذلك العمل، ويكون في الحقيقة لفظ الصلاة موضوعاً بالوضع العامّ والموضوع له الخاصّ، فإن كان العمل المؤلّف منها مشروعاً في حال أو في حقّ شخص فهو صلاة في ذلك الحال أو من ذلك الشخص، لا يكون صلاة في حال آخر، أو في حقّ شخص آخر لعدم المشروعية فيهما.ولا ينافي ذلك تعلّق الأمر في خطاب تشريعه به بعنوان الصلاة، فإنّ المفروض اتّحاد زمان التشريع مع الإطلاق على ما تقدّم.(1).نهاية الأفكار1 / 73.(2).فوائد الأُصول1 / 59.(3).نهاية الدراية1 / 95.(4).نهاية الدرايةج 1، هامش 95.(5).سورة البقرةالآية 275.(6).سورة العنكبوتالآية 45.(7).روضة المتقين2 / 6، لم نظفر على مصدر يدل على كون هذه الجملة من كلام المعصوم (عليه السلام)، لعلّها من كلام المجلسي الأوّل (قدس سره)، واللّه العالم.(8).هذان الأمران لم يتكلم فيهما شيخنا الأُستاذ (دام ظله) بشكل مستقل، ولكن الأمر الثالث قد تعرض له ضمناً عند التعرّض للجهة الثانية من الأمر الثاني، والأمر الرابع تعرّض له عند البحث عن ثمرة النزاع، وسيأتي إن شاء الله تعالى.(9).هذان الأمران لم يتكلم فيهما شيخنا الأُستاذ (دام ظله) بشكل مستقل، ولكن الأمر الثالث قد تعرض له ضمناً عند التعرّض للجهة الثانية من الأمر الثاني، والأمر الرابع تعرّض له عند البحث عن ثمرة النزاع، وسيأتي إن شاء الله تعالى.(10).أجود التقريرات1 / 36.(11).سورة العنكبوتالآية 45.(12).الوسائلج 1، الباب 1 من أبواب مقدّمات العبادات.(13).سورة العنكبوتالآية 45.(14).سورة النحلالآية 90.(15).سورة البقرةالآية 268.(16).سورة البقرةالآية 169.(17).سورة الجمعةالآية 9.(18).سورة العنكبوتالآية 45.(19).نهاية الدراية1 / 101.(20).نهاية الأفكار1 / 82.أحدها أن يكون عبارة عن جملة من أجزاء العبادة كالأركان[1].وفيه مضافاً إلى ما أُورد على الأوّل أخيراً[2].ثالثهاأن يكون وضعها كوضع الأعلام الشخصيّة[3].إنّ ما وضعت له الألفاظ ابتداءاً هو الصحيح التامّ[4].ما لا شبهة في كونها حقيقة في الزائد والناقص في الجملة[5].وكلّ منهما بعيد إلى الغاية[6].[1] ذكر هذا الوجه صاحب القوانين (قدس سره) في تصحيح الجامع على الأعميّ وأنّ لفظ «الصلاة» مثلا موضوع للأركان(1).وأورد عليه المصنّف (قدس سره) بوجهين: الأوّلأنّ لفظ الصلاة لو كان موضوعاً لها بحيث كان كلّ من الأركان مقوّماً لمعنى الصلاة، فلازمه دوران صدق الصلاة مدار تحقّق الأركان، مع أنّ الوجدان شاهد على خلافه، فإنّ الصلاة تصدق مع الإخلال ببعضها كالصلاة قبل الوقت، ومع نسيان الركوع فيها، وعدم صدقها على الأركان مع فقد سائر الأجزاء والشرائط.الثانيأنّه يلزم من وضعها للأركان كون استعمالها في المشتملة على تمام ما يعتبر في المأمور به، مجازياً ومن قبيل إطلاق اللفظ الموضوع للجزء على الكلّ، لا من باب إطلاق الكلّي وإرادة الفرد، ولا يلتزم القائل بالأعمّ بذلك.لا يقاللو أخذت الأركان لا بشرط، بالإضافة إلى بقية الأجزاء والشرائط، يكون إطلاق اللفظ الموضوع للمعنى لا بشرط على المشتملة لسائر الأجزاء والشرائط من قبيل إطلاق الكلّي على الفرد.فإنّه يقالإنمّا يتمّ ذلك فيما كان المأخوذ لا بشرط متّحداً مع ما في الخارج وجوداً كاتّحاد الحيوان مع الإنسان والإنسان مع أشخاصه، بأن يكون الاختلاف بين المعنى لا بشرط، والمشروط، في العنوان والمفهوم، وأمّا إذا كان المعنى المشروط بشيء مجموع الوجودات والمأخوذ لا بشرط، بعض تلك الوجودات، يكون إطلاق اللفظ الموضوع للثاني على الأوّل من قبيل إطلاق اللفظ الموضوع للجزء على الكلّ، ولعله (قدس سره) أشار إلى ذلك بالأمر بالفهم.وذكر المحقّق النائيني (قدس سره) أنّه لا يمكن للأعمى أن يلتزم بأنّ تامّ الأجزاء والشرائط، الشامل للأركان وغيرها صلاة والناقص يعني المشتمل على الأركان فقط أيضاً صلاة، فإنّ لازم ذلك كون غير الأركان على تقدير وجوده داخلا في حقيقة الشيء، وعلى تقدير عدمه خارجاً عنها، ولا يمكن ذلك في جزء الحقيقة، فإنّ الشيء إذا كان مقوّماً للحقيقة يكون دخيلا فيها مطلقاً، وإذا لم يكن مقوّماً لا يكون دخيلا فيها أصلاً(2).وما قيل في تصحيح ذلك بالتشكيك وأنه كما يحمل الشيء على مرتبته الأخيرة وتكون الشدّة في تلك المرتبة داخلة في الحقيقة وعلى المرتبة الضعيفة الفاقدة للشدّة وتكون الشدّة في هذه المرتبة خارجة عن الحقيقة، كذلك الصلاة بالإضافة إلى التامّ والناقص(3)، لا يمكن المساعدة عليه، فإنّ التشكيك لا يتحقّق إلاّ في موردين: أحدهماأن تكون الماهيّة من البسائط، بأن يكون ما به الامتياز عن سائر مراتبها عين ما به الاشتراك فيها كالسواد والبياض.وثانيهماأن يكون التشكيك في حقيقة الوجود وإدراك هذا النحو من التشكيك أمرٌ صعب فوق إدراكنا، وعلى تقديره، فإنّ حقيقة الوجود بنفسه أشدّ بساطة من الماهيّات البسيطة وما نحن فيه خارج عن الموردين، فإنّ الصلاة في حقيقتها مركّبة من الأجزاء التي لها وجودات مستقلّة مقيّدة بقيود ودخول بعض تلك الوجودات في حقيقتها تارةً، وخروجها عنها أُخرى، غير ممكن.ثمّ أورد (قدس سره) على ما في القوانين بوجه ثالث، وهو أنّ الأركان تختلف بحسب المكلّف وحالاته، فإنّ الركوع له مراتب تبدء من الانحناء عن قيام بحيث يتمكّن من إيصال اليدين إلى الركبتين بقصد الركوع، وتنتهي إلى القصد المجرد، فلابدّ من تصوير الجامع بين مراتبه، فيعود المحذور المتقدّم من عدم الجامع بين المراتب، فإنّه كيف يتصوّر الجامع بين الأنحناء المفروض في المرتبة الأُولى، وبين القصد المجرّد في المرتبة الأخيرة، مع أنّهما داخلتان تحت مقولتين.أقول: حاصل ما تقدّم أنّ الالتزام بكون مسمّى لفظ الصلاة هو الأركان، فيه محاذير ثلاثة: الأوّلعدم دوران صدق الصلاة مدار الأركان.والثانيلزوم العناية في إطلاق الصلاة على التامّ من حيث الأجزاء والشرائط.والثالثعدم الجامع بين مراتب الأركان ليؤخذ ذلك الجامع في المسمّى.ولكن هذه المحاذير إنّما تتّجه لو التزمنا بأنّ الأجزاء المسمّاة بالصلاة محدودة بالأركان في ناحيتي القلّة والكثرة، وأمّا مع الالتزام بعدم كونها محدودة في ناحية الكثرة فلا يرد شيء من المحاذير، والوجه في ذلك ما تقدّم من أنّ الصلاة مركّب اعتباريّ تكون وحدتها كتركيبها بالاعتبار، وليست من المركّبات الحقيقية كالنوع المركّب من الجنس والفصل عقلا، ومن المادة والصورة خارجاً، ليقال إنّه لا يمكن في المركّب الحقيقي الترديد في أجزائه العقلية والخارجية بأن يكون شيء فصلا للنوع في حال دون حال، أو صورة له في زمان دون زمان، وهذا بخلاف المركّب الاعتباريّ الذي يكون لكلٍّ من أجزائه وجود مستقلّ خارجاً، وتكون وحدتها برعاية الجهة الخارجة عن الأجزاء، فإنّ أجزاء هذا المركّب قلّةً وكثرةً وتعييناً وتخييراً بيد معتبره، فإنّه قد يعتبر الحدّ لأجزائه في ناحية قلّتها فقط، ويأخذه في ناحية كثرتها لا بشرط بالإضافة إلى أُمور، مثل الكلام عند النحويين فإنّ المعتبَر عندهم أن لايكون أجزاء الكلام أقلّ من الفعل والفاعل أو المبتدأ والخبر، وأمّا في طرف الكثرة فأخذوه لا بشرط بالإضافة إلى الملابسات لكلّ منهما، فيصدق الكلام على قول القائل (ضرب زيد) وكذا على قوله ثانياً (ضرب زيد عمرواً) وعلى قوله ثالثاً (ضرب زيد عمرواً يوم الجمعة) وعلى قوله رابعاً (ضرب زيد عمرواً يوم الجمعة في المسجد) إلى غير ذلك، فإنّه ما لم يحصل مصداق آخر للكلام بالتكلّم بفعل وفاعل آخَرَين أو مبتدأ وخبر كذلك، يصدق الكلام على الفعل والفاعل المفروضين بجميع ملابساتهما، ولأن يطمئن قلبك لاحظ صيغ الجمع، فإنّه اعتبر في الموضوع له فيها أن لا يكون أقلّ من ثلاثة، ولم يعتبر حد في ناحية الزيادة، فإذا قال المخبر(جائني علماء) وأراد الإخبار بمجيء من جائه من العلماء من عشرين أو أقلّ أو أكثر فلا يكون ذلك من استعمال صيغة الجمع في غير الموضوع له.وعلى ذلك فيمكن أن يكون لفظ (الصلاة) موضوعاً لعدّة أجزاء تكون في ناحية قلّتها محدودة بها، وتؤخذ في ناحية كثرتها لا بشرط، نظير المركّبات الاعتباريّة التي أشرنا إليها، فيكون إطلاق الصلاة على التامّ والناقص على حدٍّ سواء من غير أن يكون في البين مجاز، وهذه المركّبات تمتاز عن المركّبات الحقيقية بأنّه لا يمكن الإبهام والتردّد في المركّب الحقيقيّ بحسب أجزائه فإنّ الجنس والفصل أو الهيولى والصورة لا يكون شيء منها مبهماً أو مردّداً، غاية الأمر يمكن كونه مجهولا لنا وله واقع معيّن بخلاف المركّبات الاعتبارية فإنّه يمكن أن يكون الجزء مبهماً لا يكون له واقع معيّن أصلاً، كما لو أخذ أحد الأشياء لا بعينه جزءاً، ولا يخفى أنّ تبادل المسمّى بهذا النحو ممكن بل واقع.والحاصل أنّه يمكن للشارع لحاظ مراتب الركوع والسجود وغيرهما من الأركان، فيأخذ في المسمّى إحدى تلك المراتب لا بعينها وعدم إمكان الجامع الذاتي بين المراتب لا يضرّ بما ذكر، فلا يكون ما ذكره المحقّق النائيني (قدس سره)من اختلاف المراتب في الأركان موجباً للمحذور في التسمية، كما لا يرد الإشكال بلزوم محذور المجاز في الاطلاق على التامّ.نعم ربّما يناقش في كلام صاحب القوانين (قدس سره) بعدم دوران صحّة الإطلاق مدار الأركان، وهذه المناقشة على تقدير صحّتها تدفع بتصوير الجامع بمعظم الأجزاء، فإنّه لا فرق بينه وبين ما ذكره صاحب القوانين (قدس سره) إلاّ في تعيين الحدّ الأقل فإنّه على ما ذكره يكون الأركان، وعلى الوجه الثاني يكون معظم الأجزاء.وربّما يقال: المستفاد من الروايات كون المأخوذ في الصلاة في ناحية القلّة هو الأركان، وأنّه كيف لا يصدق الصلاة عليها، فإنّها ربّما تكون الصلاة معها صحيحة فضلا عن صدق إسم الصلاة، كما إذا كبّر لصلاة الوتر ونسي القراءة فيها وركع ثمّ سجد ونسي السجدة الثانية وتشهد وسلّم وانصرف، أو انصرف قبل التشهّد والتسليمة نسياناً، وفي صحيحة الحلبي عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال«الصلاة ثلاثة أثلاث، ثلث طهور، وثلث ركوع، وثلث سجود»(4).نعم لابدّ من رفع اليد عن إطلاقها وحملها على كون المراد بالأثلاث أثلاثها بعد الدخول فيها، بما دلّ على كون تكبيرة الإحرام ركناً وأنّه لا يتحقّق الدخول فيها بتركها ولو نسياناً، ولعل عدم ذكر التكبيرة في حديث «لا تعاد» باعتبار أنّ الصلاة لا تتحقّق إلاّ بالدخول فيها بالتكبيرة وأنّ الحديث ناظر إلى بيان حكم الخلل فيما يعتبر في الصلاة بعد الدخول فيها.وأيضاً المراد بالتكبير ما يكون بقصد الدخول في الصلاة لا مطلق التكبير، وبالركوع الانحناء الخاصّ المعتبر وقوعه قبل السجود، كما أنّ المراد بالسجود الواقع بعد الركوع، وبهذا يدخل الترتيب في المسمّى.أقوللا ينبغي التأمّل في أنّ التحديد الوارد في الروايات تحديد للصلاة في مقام تعلّق الأمر بها، لا في مقام التسمية، وقد ورد في حديث «لا تعاد»(5) ذكر الوقت في المستثنى، مع أنّه غير داخل في المسمّى قطعاً؛ لعدم اعتبار الوقت في بعض الصلوات كصلاة القضاء، وبعض المندوبة، كالهدية للموتى والصلاة الابتدائيّة المندوبة.ولا يمكن استفادة المسمّى بالصلاة من الروايات المشار إليها لعدم اعتبار الظهور بعد العلم بالمراد، والشكّ في كيفية الإرادة مع اختلاف الصلوات المتعلق بها الأمر، بالإضافة إلى الأوقات والموجبات وحالات المكلّفين، وكلامنا في المقام على الأعميّ في الجامع بينها المأخوذ محدوداً في ناحية الأقلّ في المسمّى، وبعد ما نرى بالوجدان صدق الصلاة على فاقد بعض الأركان كالصلاة مع نسيان الطهارة، كما في صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) أنّه سُئِل عن رجل صلّى بغير طهور، أو نسي صلوات لم يصلِّها، أو نام عنها؟ فقال (عليه السلام)«يقضيها إذا ذكرها في أيّ ساعة ذكرها من ليل أو نهار» الحديث(6).وكذا إطلاقه على الصلاة قبل الوقت، وإلى غير القبلة أو مع نسيان الركوع حتّى في كل من ركعتي الفجر إلى غير ذلك، وهذا الصدق والإطلاق لم ينشأ في الأزمنة المتأخّرة عن زمان الشارع، بل نشأ وصدر من الشارع في ذلك الزمان، فلا سبيل إلاّ إلى الالتزام بأنّ المسمّى هو معظم الأجزاء مع قيوده في الجملة، على ما ذكر من عدم التحديد في ناحية الكثرة وأنّ المعظم قد أخذ في ناحية الكثرة لا بشرط.وليس المراد من لا بشرط أنّ وجود الأجزاء الأُخرى خارجاً لا تضرّ بصدق الصلاة على المعظم، كعدم قدح وجود حيوان آخر مع الإنسان في صدق الإنسان على ذلك الإنسان، ليقال إنّ إرادة المجموع من الإنسان وغيره من لفظ الإنسان تجوّز، كما أنّه ليس المراد من لا بشرط، كون استعمال لفظ الصلاة دائماً في معظم الأجزاء، حتّى عند إرادة تمام الأجزاء والشرائط، ليرد عليه أنّ المستعمل فيه خارجاً، يتردّد بين بعض تلك الأجزاء ويكون استعماله وإرادة تمام الأجزاء والشرائط من الاستعمال في غير الموضوع له، فيصير مجازاً كما ذكر المصنف (قدس سره) هذين الأمرين في الإيراد على كون الجامع هو المعظم، وأضاف إليهما اختلاف العبادات بحسب اختلاف الحالات من العجز والنسيان والحرج والضرر إلى غير ذلك، فلا يمكن تعيين المعظم، لاختلافه بحسب تلك الحالات، بل المراد لا بشرط بالإضافة إلى ضمّ بقية الأجزاء والقيود إلى المستعمل فيه عند الإستعمال، نظير إطلاق الكلام في مقام استعماله على الفعل والفاعل مع جميع ملابساتهما أو بعضها على ما تقدّم، فلا يكون إرادة التامّ منها مجازاً، ولا يتردّد معه الخارج عن المستعمل فيه.وأمّا تبادل الجزء أو الشرط واختلافهما بحسب الحالات، فقد تقدّم أخذ الجامع بين الحالات، ولو كان الجامع المفروض عنواناً اعتباريّاً كعنوان أحدها، والحاصل يلاحظ المعظم بالإضافة إلى أقلّ الأفراد كمّاً والجامع بين أجزائه وشرائطه كيفاً، فلا محذور في ذلك أصلاً.[2] المراد ممّا أورد على الأوّل أخيراً، هو لزوم المجاز في إطلاق لفظ الصلاة وإرادة التامّ من حيث الأجزاء والشرائط، فإنّه يكون من باب استعمال اللفظ الموضوع للجزء ـ أي المعظم ـ في الكل.وقوله (قدس سره): «يتبادل»، إشكال ثان على الالتزام بكون الموضوع له معظم الأجزاء والشرائط، وتوضيحهأنّا إذا استعملنا لفظ الصلاة في مجموعة من أجزائها ثمّ استعملناه في مجموعة أُخرى وكانت كلتا المجموعتين معظم الأجزاء إلاّ أنّ بعض أجزاء الثانية خارجة عن الأُولى، لزم أن تكون هذه الأجزاء داخلة في المسمّى في الاستعمال الثاني، وخارجة عنه في الاستعمال الأوّل.وهذا هو التبادل، وقد ظهر ممّا ذكرناه في التعليقة السابقة، الجواب عن إشكالات لزوم المجازيّة والتبادل والتردّد، فلا نعيد.وقوله(قدس سره) فيما بعد هذا«مع ما عليه العبادات من الاختلاف الفاحش بحسب الحالات» راجعٌ إلى الإشكال في تعيين المعظم، كما تقدّم في التعليقة السابقة.[3] قيل إنّ الوضع في أسامي العبادات كالوضع في الأعلام الشخصيّة، وكما أنّ تبادل الحالات المختلفة كالصغر والكبر والسمن والنحافة وتغيّر اللون إلى لون آخر ونقص بعض الأجزاء وزيادته لا يضرّ في الأعلام الشخصيّة كذلك في العبادات.وبتعبير آخركما يطلق إسم زيد على ما في الخارج من الشخص مع التبادل واختلاف الأحوال فيه، كذلك إسم الصلاة يطلق على العبادة المخصوصة في جميع حالاتها.وأجاب الماتن (قدس سره) بأنّ الموضوع له في الأعلام هو الشخص الذي يكون بالوجود الخاصّ، وتغيّر عوارض ذلك الوجود لا ينافي بقاء الوجود الذي يكون بقائه بقاء الشخص، وكما لا يضرّ اختلاف أحوال الشخص ببقائه كذلك لا يضرّ ببقاء تسميته، وهذا بخلاف الموضوع له في مثل لفظ الصلاة، فإنّه من قبيل المفهوم والكليّ، وعليه فاللاّزم تعيين ذلك المعنى الكليّ بحيث يكون حاوياً لمتفرّقاته وجامعاً لأفراده، كما تقدّم ذلك في الجامع على قول الصحيحي.لا يقالالشخص هو الوجود الخارجي، ومن الظاهر عدم وضع اللفظ له أصلاً حتّى في الأعلام الشخصية، حيث إنّ الموضوع له لابدّ من كونه قابلا للتصوّر واللحاظ في الوضع والاستعمال، والوجود الخارجي لا موطن له إلاّ الخارج.فإنّه يقالالوجود الخارجي قابل للحاظه ولو بعنوان مشير إليه وإمكان لحاظه كذلك يكفي في صحّة وضع اللفظ له، كما تقدّم في الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ؛ ولذلك لا توصف الأعلام الشخصيّة بالوجود والعدم، بأن يقال زيد موجود أو معدوم، بل يقال إنّه حيّ يرزق، أو غير باق وميت، بخلاف الكلّيات فإنّها توصف بالوجود والعدم.ثمّ لا بأس للتعرّض في المقام لما ذكره المحقّق الاصفهاني (قدس سره) في بيان المسمّى في الأعلام الشخصيّة، لدفع الوهم عن كون مسمّاها من المجرّدات.فإنّه ذكر أوّلا ما حاصلهإنّ زيداً مثلا مركّب من نفس وبدن، والبدن مركّب من عظم ولحم وجلد وأعصاب، فيكون زيد مركّباً طبيعيّاً في مقابل الصناعي كالسرير والبناء، ووحدة جسم زيد باتصال الأعضاء التي لكلٍّ منها وجود.والاتصال لا يخرجه إلى الوحدة إلاّ من جهة الذبول والنموّ، لا من جهة نقص يده أو رجله أو إصبعه إلى غير ذلك، والالتزام بأنّه ملحوظ لا بشرط، بالإضافة إلى أعضائه مشكل، فإنّه لو كان الملحوظ بنحو اللابشرط نفس زيد يلزم كون المسمّى من المجرّدات، وإن كان الملحوظ كذلك نفسه مع بدنه يجيء الكلام في أنّ أيّ مقدار من البدن ملحوظ مع النفس بنحو لا بشرط.وذكر ثانياً بأنّ المراد من البدن الملحوظ مع النفس المسمّى بلفظ زيد، ليس هو الأعضاء من اللحم أو الشحم والأعصاب وغيرها، بل الروح البخاري الذي يكون مادّة للنفس ويعبّر عن الروح البخاري الذي هو في حقيقته جنس طبيعي بالحيوان، وتكون فعلية النفس بذلك الروح ويتّحد معها اتّحاد المادّة بصورته، كما أنّ الروح البخاري متّحد مع الأعضاء لأنّها مادّة إعدادية للروح البخاري، فتحصّل أنّ الموضوع له للفظ زيد نفسه المتعلّقة بالبدن، وتشخّص البدن ووحدته بوحدة النفس وتشخصّها، إذ المعتبر مع النفس مطلق البدن.وذكر ثالثاً أنّ ما ذكر خلاف المتفاهم العرفي من اللفظ، فإنّ ما ذكر لا يدركه إلاّ الأوحدي من الأعلام، والصحيح أن يقالإنّ المسمّى عندهم الهويّة الخارجيّة التي لايلاحظ المميّز فيها إلاّ كونها غير الهويّات الأُخر، من كونها مبهمة من سائر الجهات(7).أقوللا ينبغي التأمّل في أنّ الأعضاء الخارجيّة الرئيسية حال اتصال بعضها ببعض، بحيث تكون الروح توأماً معها، هو الشخص ويكون لا بشرط بالإضافة إلى كمال الأعضاء ونقصها وما يعرض عليها، سواء كان في الخارج هويّة أُخرى مثلها أو لم تكن، فلا يفرق في وضع العلم الشخصي بين وضع لفظ آدم لأوّل مخلوق من الإنسان وبين وضع لفظ زيد لمن يتولّد من أُمّه فعلا، والملحوظ عند وضع كلّ منها الشخص الذي هو البدن التوأم مع الروح.[4] كأنّ مراد هذا القائل أنّ اللفظ في إبتداء الأمر، قد وضع ـ كسائر المركّبات ـ للصحيح التامّ، ثمّ استعمل في الناقص بالتنزيل بلحاظ الأثر، يعنى سقوط التكليف بالناقص لاشتماله على الملاك ولو في حال مخصوص، أو عناية للمشابهة في الصورة، كما في الناقص المحكوم بالفساد حتّى صار اللفظ حقيقة في الناقص أيضاً.وقد أورد (قدس سره) على هذا التصوير بأنّه يمكن في مثل أسامي المعاجين الموضوعة إبتداءاً للمركّب من أجزاء خاصّة، حيث يصحّ فيها إطلاقها على الناقص منها للمشابهة صورة أو للمشاركة في الأثر، ولا يتمّ في مثل الصلاة من العبادات التي تكون أفرادها التامّة مختلفة ومتعدّدة بحسب اختلاف الحالات واختلاف المكلّفين، بحيث يكون الصحيح بحسب حالة فاسداً بحسب حالة أُخرى.أقولهذا التصوير بظاهره لا يرجع إلى محصّل، فإنّه إذا فرض وضع اللفظ للصحيح التامّ، ثمّ فرض استعماله في الناقص بلحاظ الأثر أو المشابهة في الصورة، والمفروض أنّ الناقص بالإضافة إلى التامّ متعدّد ومتكثّر، يكون اللفظ المفروض بعد صيرورته حقيقة في الناقص أيضاً من قبيل متكثّر المعنى، فأين الجامع الشامل للصحيح والفاسد كما هو قول الأعميّ، اللهمّ إلاّ أن يراد صيرورته حقيقة في الجامع كما يأتي تقريره في الوجه الخامس.[5] والفرق بين هذا الوجه والوجه الرابع المتقدّم هو أنّ اللفظ على هذا الوجه، يكون في النتيجة حقيقة في الجامع؛ وذلك لأن اللفظ الموضوع للمقدار والوزن وإن لوحظ عند وضعه مقداراً خاصّاً معيّناً، ووضع بإزائه إلاّ أنّ مع استعماله في الزائد وفي الناقص عنه ـ ولو بدعوى أنّهما ذلك المقدار ـ صار اللفظ المفروض حقيقة في الأعمّ من ذلك المقدار، بحيث يشمل معناه الزائد والناقص في الجملة.وقد أشرنا في الوجه السابق، أنّه يمكن إرجاعه إلى هذا الوجه، ولعل الماتن(قدس سره)قد فهم ذلك، حيث لم يورد على الوجه السابق بأنّه يوجب كون اللفظ من متكثّر المعنى، بل أورد عليه بأنّ اختلاف الصحيح وتعدّده بحسب الحالات، يمنع الالتزام فيه بما يلتزم في أسامي المعاجين، كما أنّه أورد بذلك أيضاً على هذا الوجه، وقالإنّ تعدّد الصحيح في العبادة واختلافهما بحسب الحالات يمنع عن الالتزام فيها بما يلتزم في أسامي المقادير والأوزان، ولكنّ العجب هو ما ذكر في أسامي المقادير والأوزان، والتزم به الماتن(قدس سره) أيضاً، فإنّه لو كانت هناك ألفاظ ذات معان محدودة في ناحية قلّتها وكثرتها وسعتها وضيقها فأوّلها أسامي المقادير والأوزان، فكيف يمكن دعوى أنّها صارت حقائق في الأعمّ، بحيث تشمل الزائد والناقص في الجملة؟ مع أنّه لا يترتّب شيء من الأحكام المترتّبة على تلك المقادير والأوزان على الناقص منها ولو بيسير، فلا يحكم باعتصام الماء ولو نقص من مقدار الكرّ مثقالا، ولا تتعلق الزكاة بالغلّة إذا نقصت عن النصاب بمثقال، ولا تقصر الصلاة في سفر إذا نقص من مقدار المسافة ولو بشبر، إلى غير ذلك.ولذا يصحّ سلب ذلك المقدار عن الناقص بل عن الزائد، كما لا يخفى.[6] يعني الالتزام بأنّ لفظ الصلاة استعمل في تلك الاستعمالات في الجامع مجازاً، أو أنّه لم يستعمل في الجامع بل في بعض الأفراد بخصوصه، بعيد إلى الغاية.أقولقد تقدّم عدم تصوير الجامع على الصحيحي، فعليه أن يلتزم في تلك التراكيب إمّا باستعمال اللفظ في بعض الأفراد أو في جميعها على نحو استعمال اللفظ في أكثر من معنى، أو في الجامع الاعتباري من الأفراد الصحيحة، ولو كان ذلك الجامع غير موضوع له، وأمّا القائل بالأعمّ فهو في فسحة من ذلك، فهو لا يلتزم بالمجاز فيها، بل باستعمال اللفظ فيها في الجامع الموضوع له كما تقدّم.لا يقال الآثار المذكورة في تلك الاستعمالات لا تترتّب إلاّ على خصوص الصحيحة من الصلاة لا على الجامع المتقدّم الذي يتحقّق بالصحيح والفاسد.فإنّه يقالقد تقدّم أن الآثار الواردة تترتّب على الصلاة، أي على الجامع المتقدّم في مقام الامتثال، وإذا اتّصف الجامع المفروض بأنّه امتثال يكون صحيحاً لا محالة، فإرادة الامتثال فيها بدالٍّ آخر، ودلالة الخطاب على إرادة الصلاة الممتثلة إنّما هو بتعدّد الدالّ والمدلول فلا مجازيّة، كما لا يخفى.وبالجملة، الآثار الواردة لا تترتّب حتّى على الصحيح في مقام التسمية، كما تقدّم، فالمراد الصحيح في مقام الامتثال لا محالة.(1).قوانين الأُصول1 / 43 و 44.(2).أجود التقريرات1 / 42.(3).نهاية الأُصولص 40 و 50.(4).الوسائلج 4، باب 28 من أبواب السجود، الحديث2.(5).الوسائلج 4، باب 28 من أبواب السجود، الحديث1.(6).الوسائلج 5، باب 2 من أبواب قضاء الصلوات، الحديث 3.(7).نهاية الدراية1 / 117.ومنها أنّ ثمرة النزاع إجمال الخطاب على الصحيحي[1].وقد انقدح بذلك أنّ الرجوع إلى البراءة والاشتغال[2].إلاّ أنه ليس بثمرة لمثل هذه المسألة[3].ولا منافاة بين دعوى ذلك[4].الأخبار الظاهرة في إثبات بعض الخواص[5].إلاّ أنّها قابلة للمنع[6].وفيه أنّه قد عرفت الإشكال في تصوير الجامع[7].ومنها استعمال الصلاة وغيرها في غير واحد من الإخبار في الفاسدة[8].ومنها أنّه لا شبهة في صحّة النذر وشبهه بترك الصلاة في مكان تكره فيه[9].نعم لو فرض تعلّقه بترك الصلاة المطلوبة بالفعل[10].[1] وبيان ذلكأنّه لا يمكن التمسّك بالإطلاق الوارد في الخطاب إلاّ بعد إحراز انطباق المعنى المطلق على مورد الشكّ مع تماميّة مقدمات الحكمة، حيث يحرز بعد الانطباق وتماميتها بأنّه لولا ثبوت الحكم لمورد الشكّ؛ لكان في البين دالّ على التقييد، ومع عدم ما يدلّ عليه، يكون المتكلّم مظهراً لعدم دخالة المشكوك، وأمّا إذا لم يحرز ذلك الانطباق، كما إذا ورد في الخطاب (جعل اللّه الماء لكم طهوراً) وشكّ في صدق الماء على الجلاّب ليصحّ الوضوء وسائر الطهارات به، فلا يمكن الحكم بكونه طهوراً تمسّكاً بإطلاق الماء في الخطاب المفروض، إذ لو لم يكن مطهّراً فإنّما هو لعدم كونه ماء لا لتقييد الماء بغيره.وعلى ذلك فإذا شكّ في كون شيء جزءاً للصلاة مثلا، لا يمكن إحراز عدم كونه جزءاً أو شرطاً بمثل قوله سبحانه (أَقِيْمُوا الصَّلاةَ) على القول بالصحيح لعدم إحراز معنى الصلاة حتّى ينطبق على الفاقد لذلك الجزء، وهذا بخلاف القول بالأعمّ، فإنّه بناءاً عليه يمكن نفي جزئيّة المشكوك أو شرطيّته به، مع تماميّة مقدّمات الحكمة لإحراز كون الفاقد له صلاة.نعم يتحقّق إجمال الخطاب بناءاً على الأعميّ أيضاً، فيما إذا احتمل كون المشكوك مقوّماً للمسمّى.وذكر المحقّق النائيني (قدس سره) أنّ الخطابات من الكتاب والسنّة غير واردة في مقام بيان الأجزاء والشرائط لمتعلّقات الأحكام، يعني العبادات، بل كلّها في مقام تشريع تلك المتعلّقات، فلا يمكن التمسّك بها على القولين، غاية الأمر عدم جواز التمسّك بها على الصحيحيّ، لإجمالها في ناحية المراد من المتعلّقات، وعلى الأعميّ لإهمالها من جهتها، هذا بالإضافة إلى الاطلاق اللفظي.وأمّا بالإضافة إلى الاطلاق المقاميّ، كما إذا أُحرز في مورد، أنّ الشارع في مقام بيان ما يعتبر في العبادة جزءاً أو شرطاً كصحيحة حماد(1) الواردة في كيفية الصلاة، وكصحيحة زرارة(2)، وغيرها الواردة في بيان غسل الجنابة، فيمكن نفي جزئيّة المشكوك أو شرطيّته بإطلاقها يعني عدم ذكر دخالة المشكوك في ذلك المقام، فإنّه لو كان معتبراً في العبادة لكان عدم ذكره فيه خلاف الغرض، بلا فرق القول بالصحيح أو الأعمّ.ثمّ قال (قدس سره): ولكنّ الصحيح عدم جواز التمسّك بصحيحة حماد المشار إليها، لإثبات وجوب المذكورات فيها، وذلك للعلم الإجمالي باشتمالها على أُمور مستحبّة أيضاً، فيكون ظهورها في الوجوب والجزئيّة ساقطاً، ونظيرها التمسّك بقوله (صلّى الله عليه وآله)«صَلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي»(3).فإنّه بعد القطع واليقين بعدم اقتصار النبي (صلّى الله عليه وآله) على الأجزاء الواجبة والشرائط اللازمة، بل كان يأتي بالمستحبّات في صلاته، يكون المراد بالأمر بالاتباع مطلق الطلب، فلا يمكن الحكم بالجزئيّة والشرطيّة بمجرّد ورود رواية بأنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) كان يقرأ في صلاته بكذا أو يفعل كذا(4).وفيه العلم الاجمالي باشتمال الصحيحة على بعض الأُمور المستحبّة ينحلّ بالظفر خارجاً بالدليل على استحباب بعض تلك الأُمور، وبتعبير آخرإنّ قيام الدليل على الترخيص في ترك بعض تلك الأُمور لا يكون موجباً لرفع اليد عن ظهورها بالإضافة إلى غير ذلك البعض، وأيضاً العلم الاجمالي المفروض لا يمنع عن الحكم بعدم الجزئيّة والشرطيّة في المشكوك الذي لم يذكر في تلك الصحيحة، وإنّما يمنع مع عدم انحلاله أو مع المناقشة في أصل ظهور الصحيحة في الوجوب بالإضافة إلى المذكورات فيها.وممّا ذكرنا يظهر الحال بالإضافة إلى قوله (صلّى الله عليه وآله)«صلُّوا كما رأيتموني أُصلّي» بل لا يبعد صحّة التمسّك بالإطلاق اللفظي لأدلّة العبادات، على الأعميّ فيما إذا أُحرز عدم دخول المشكوك في المسمّى بمثل قوله سبحانه (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلى اللَّيْلِ)(5)، بعد قوله (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضَ) فإنّه لا بأس بالأخذ به فيما إذا شكّ في كون الارتماس مفطراً.ودعوى إهمال الخطاب في ناحية المتعلّق لا يمكن المساعدة عليها بعد ظهور الآية التي قبلها وبعدها في أنّ ما يمسك عنه هو الأكل والشرب والنساء، والأصل في الخطاب كون المتكلّم في مقام بيان الحكم والمتعلّق والموضوع، كما لا يخفى.لا يقالالتمسّك بالإطلاق في آية الصوم، يجري على الصحيحيّ أيضاً، فإنّه من التمسّك بالإطلاق المقاميّ.فإنّه يقاللم يظهر معنى الصوم من قوله سبحانه (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلى اللَّيْلِ) بناءاً على الصحيحيّ ليتمسّك بإطلاقه، بخلافه على الأعميّ لصدقه على الإمساك عن المذكورات في عرف المتشرّعة، لاتّصافه بالبطلان مع تجرّده عن الإمساك عن سائر المفطرات، كما لا يخفى.وقد يقال بإجمال الخطابات على القولين، أمّا بناءاً على القول بالصحيح، فلما تقدّم، وأمّا بناءاً على الأعميّ فللعلم بأنّه ليس المراد من الخطابات المسمّيات؛ لأنّ المسمّى يصدق على الصحيح والفاسد، بل المأخوذ في متعلق الأمر مقيد بالصحّة لا محالة، ولا فرق في عدم جواز التمسك بالخطاب بين كونه مجملا بنفسه أو بالقيد المجمل المعلوم أخذه فيه، فيكون متعلّق الأمر مجملا بالذات على القول بالصحيح، ومجملا بالعرض على القول بالأعمّ.واُجيب بأنّ الصحّة متأخّرة عن الأمر بالعبادة، ولا يمكن أخذها في متعلّق الأمر.ولكن لا يخفى أنّ هذا لا يدفع المناقشة، فإنّ هذه الصحّة كما أنّها متأخّرة عن الأمر بالعبادة، كذلك متأخّرة عن التسمية حتّى على القول بالصحيح، ولا تكون مأخوذة في متعلّق الأمر، ولا في التسمية على القولين، والذي كان موجباً لإجمال المعنى على مسلك الصحيحيّ هو عدم معلومية تمام ما له دخل في الملاك الملحوظ، ولو بالعنوان الملازم، وهذا المعنى المأخوذ في متعلّق الأمر على الصحيحيّ مأخوذ في متعلّق الأمر في الخطابات على الأعميّ، فيكون متعلّق الأمر مجملا حتّى بناءً على الأعميّ أيضاً.والصحيح في الجواب هو أن يقالإن المناقشة بإجمال الخطاب على الأعميّ مبتنية على استعمال لفظ الصلاة، مثلا عند الأمر بها، فيما هو الموضوع له عند الصحيحي، ولكنّ الأمر ليس كذلك بل ورود القيد على متعلق التكليف في المقام كورود القيد على سائر المطلقات لا يكشف عن استعمال اللفظ الموضوع للمطلق في المقيد إلاّ بنحو تعدّد الدال والمدلول، كما ذكر في بحث المطلق والمقيّد، فظاهر الخطاب على الأعميّ تعلّق التكليف بنفس المسمّى، غاية الأمر يعلم بورود القيد على ذلك الطبيعي المسمّى، وإذا دار أمرالقيد بين الأقل والأكثر، فما ثبت تقييد المتعلق به يؤخذ به، ويتمسّك في غيره بالإطلاق على حدّ سائر الموارد التي يكون ورود الأمر فيها بشيء مطلقاً، ثمّ يعلم بورود القيد عليه ولو بخطاب آخر، فإنّه يؤخذ في القيد المشكوك بإطلاق المطلق.وبتعبير آخرالمراد الجدّي من تعلق التكليف هو المراد الاستعمالي من المتعلّق على مسلك الصحيحي، وأمّا على مسلك الأعميّ فالمستعمل فيه للفظ الصلاة حتّى فيما ذكر في خطاب التكليف هو الجامع الوسيع، غاية الأمر يعلم بورود القيد على ذلك المتعلّق، فإذا دار القيد بين كونه أقلّ أو أكثر يؤخذ بالمقدار الثابت من التقييد ويؤخذ في غيره بالإطلاق.وما تقدّم سابقاً من تحديد الصلاة بالأركان أو بمعظم الأجزاء والشرائط في ناحية الأقلّ وأنّه لا يوجب المجاز عند إرادة الكل فليس المراد منه استعمال لفظ الصلاة بمجرّده في المجموع التامّ، بل المراد استعماله فيه بنحو تعدّد الدال والمدلول، ولكن مع ذلك يكون تطبيق المسمّى على التامّ كتطبيق الكلام على ما ذكر معه من متعلّقات الفعل والفاعل حقيقة.لا يقالنفس العلم الإجمالي بورود القيود على المطلق ودورانها بين القليلة والكثيرة يوجب إجمال الخطاب، حتّى لو بُني على إرادة المقيّد من المطلق بنحو تعدّد الدالّ والمدلول، وأنّه لا يوجب استعمال نفس اللفظ الدالّ على المطلق في المقيد.فإنه يقالالعلم الإجمالي لا يوجب الإجمال فيما إذا كان المعلوم بالإجمال معلوماً بوجه آخر، كما إذا علم أنّ المطلق قد ورد عليه التقييد بخطابات مستقلّة، بحيث نحتمل أن لا يكون في البين قيد آخر غير ما في تلك الخطابات، وفي مثله يرجع عند الشكّ في قيد آخر لم يقم عليه خطاب مستقلّ، إلى إطلاق الخطاب، ولذا يتمسّك بخطاب «أحلّ البيع» في موارد الشكّ في شرطيّة شيء للبيع، مع العلم بأنّ البيع قد ورد عليه في الشرع قيود.وأمّا إذا لم يكن للمعلوم بالإجمال وجهاً معلوماً، فمجرّد العلم ببعض القيود لايكفي لخروج الخطاب عن الإجمال، بل عن الإهمال، حيث إنّه مع العلم بعدم إرادة الإطلاق وعدم نصب خطاب للقيد يعلم أنّ المتكلّم لم يكن في مقام البيان من جهة القيود، وهذا التفصيل يختصّ بباب الإطلاق ولا يجري في العامّ الوضعي، حيث إنّ ظهوره في إرادة كلّ فرد بالوضع ولا يرفع اليد عن ظهور العامّ إلاّ في الأفراد التي يعلم بعدم إرادتها ثبوتاً ويؤخذ بالظهور في غيرها.وأمّا دعوى الإجمال في الخطابات حتّى على الأعميّ، بدعوى العلم بأنّ للشارع غرضاً واحداً من الصلاة وغيرها من العبادات، ولا يعلم حصوله بالاكتفاء بالمتيقّن من القيود، فواضحة الفساد فإنّ على المتكلّم التكلّم بنحو يحصل الغرض بالإتيان بمتعلّق أمره، ومع الإطلاق يدفع دخالة المشكوك في غرضه، نعم ربّما يناقش بمسألة الغرض الواحد في الرجوع إلى أصالة البراءة في موارد الشكّ في الجزئيّة والشرطيّة، وهذا غير المفروض في المقام، فإنّ الكلام في المقام في التمسّك بالإطلاق ويأتي في بحث الأقلّ والأكثر الارتباطيين عدم صحّة المناقشة المفروضة وأنّ العلم بالغرض من تعلّق الأمر لا يمنع عن الرجوع إلى أصالة البراءة الشرعيّة.[2] يعنى بما أنّ موارد إجمال الخطاب في ناحية متعلّق التكليف أو إهماله داخلة في الشكّ في الأقلّ والأكثر الارتباطيين، يكون المرجع فيها أصالة البراءة أو الاشتغال على القولين، وأنّه لا أساس لما ذكره صاحب القوانين (قدس سره)من أنّ ثمرة النزاع هو الرجوع إلى البراءة على الأعمّ وإلى الاشتغال على الصحيح(6).والوجه في ذلك، أنّه لو قيل بانحلال التكليف المعلوم بالإجمال في مقام الثبوت إمّا انحلالاً وجدانيّاً أو حكميّاً يكون المرجع عند دوران أمر المتعلّق بين الأقل والأكثر هي البراءة وإذا بني على عدم الانحلال حقيقةً ولا حكماً يكون المرجع قاعدة الاشتغال بلا فرق بين القولين.وذكر المحقّق النائينى (قدس سره) انتصاراً لصاحب القوانين أنّ الصحيحيّ لا يمكنه الرجوع إلى البراءة عند الشكّ في جزئيّة شيء أو شرطيّته لمتعلّق التكليف، بل عليه الالتزام بالاشتغال، وذلك لأنّ الصحيحي لابدّ له من الالتزام بأخذ جامع بسيط خارج عن نفس الأجزاء والشرائط يكون ذلك الجامع معنى لفظ الصلاة مثلا، والجامع المفروض إمّا مأخوذ من ناحية الأثر للأفراد الصحيحة، أو من ناحية عللها، ومع أخذ ذلك الجامع في متعلّق التكليف يكون صدق المعنى على الفاقد للمشكوك غير محرز، فلابدّ من إحراز صدق ذلك العنوان عليه لرجوع الشكّ فيه إلى الشكّ في المحصّل ـ بالكسر ـ، وما حكي عن المشهور من ذهابهم إلى البراءة في تلك المسألة مع ذهابهم إلى القول بالصحيح في المقام، يحمل على الغفلة منهم أو تخيّلهم عدم أخذ العنوان البسيط، معنى، للفظ الصلاة(7).أقوللا يمكن المساعدة على الانتصار فإنّ مجرّد كون العنوان البسيط معنى للفظ الصلاة لا يجعل المورد من موارد الشكّ في المحصّل ليجري الاستصحاب في ناحية عدم حصول المحصَّل ـ بالفتح ـ بالاكتفاء بالأقلّ، أو تجري قاعدة الاشتغال في ناحية التكليف المتعلق به.وبتعبير آخرالموجب لجريان الاستصحاب أو قاعدة الإشتغال اختلاف متعلّق التكليف مع المشكوك فيه وجوداً، بحيث يكون متعلّق الشكّ وجوداً آخر، مغايراً لمتعلّق التكليف، وإذا فرض أنّ العنوان المتعلّق به التكليف ينطبق على نفس المركّب المشكوك انطباق العنوان على معنونه والأمر الانتزاعي على منشأه، ففي مثل ذلك يكون المطلوب حقيقة هو ذلك المعنون لا العنوان، كما هو الحال في تمام موارد العنوان الانتزاعيّ، والمعنون بما أنّه مردّد بين الأقل والأكثر، فيجري الكلام في انحلال التكليف المتعلّق به ثبوتاً ولو بعنوان انتزاعي، وتفصيل الكلام في بحث الأقلّ والأكثر الارتباطيّين إن شاء اللّه تعالى.ثمّ إنّ ما تقدّم من لزوم الاحتياط عند الشكّ في المحصِّل ـ بالكسر ـ قد يقال باختصاصه بغير المحصِّلات الشرعيّة، وأمّا المحصِّلات الشرعيّة، فيمكن أن يقال فيها بجواز الاقتصار على الأقلّ المحرز من أجزائها وشرائطها في موافقة التكليف المتعلّق بالمحصَّل ـ بالفتح ـ وذلك لأنّ المحصَّل ـ بالفتح ـ في حقيقته حكم شرعيّ واعتبار للشارع، فالتكليف لايتعلّق به وإنّما يتعلّق بما هو فعل المكلّف، فمثلا إذا فرض أنّ الطهارة من الخبث أمر يوجد بغسل الثوب والبدن، ففيما إذا شكّ في حصولها بالغسل مرّة أو مرّتين، حيث أنّ التكليف في الحقيقة متعلّق بما هو الموضوع لها، يعني الغسل ـ فلا بأس بجريان البراءة عن وجوب الغسل مرّة ثانية، وهذا بخلاف المحصّلات الخارجية، فإنّ متعلّق التكليف فيها يعني المسبّب ـ بالفتح ـ غير مشكوك فيه والمشكوك سببه.ولكن لا يخفى أنّ لهذا الكلام وجهاً إذا أُريد بالمحصّل الشرعي ـ بالفتح ـ مجرّد الحكم الشرعي الداخل في الحكم الوضعي، وكان ذلك متعلّق التكليف الإلزامي، وأمّا إذا أُريد منه الأمر الواقعيّ الذي كشف عنه الشارع أو كان ذلك المعتبر قيداً لما هو متعلّق التكليف الإلزامي، كما في الأمر بالصلاة المقيّدة بالطهارة، فلا مجال إلاّ للاشتغال وللكلام في ذلك مقام آخر.[3] كأنّ نظره (قدس سره) إلى أنّ المسألة الأُصوليّة هي التي يستنبط منها الحكم الشرعيّ الفرعيّ الكليّ، وتعيين المصداق للموضوع أو متعلّق الحكم الشرعيّ الفرعيّ الكليّ بواسطة مسألة من المسائل، لايوجب دخولها في علم الأُصول إذا كان الحكم معلوماً من الخارج لا مستنبطاً من تلك المسألة، وما نحن فيه من هذا القبيل، لأنّ وجوب الوفاء على من نذر إعطاء درهم لمن صلّى، حكمٌ شرعيّ فرعيّ معلوم من الخارج، وبمسألة الصحيح والأعمّ يعيّن مصداق موضوع وجوب الوفاء بهذا النذر، إذ الصلاة الباطلة صلاة على الأعمّ، ومن أتى بها فقد صلّى، فيجب على الناذر إعطاء درهم.ولكنّ ترتّب مثل هذه الثمرة على مسألة الصحيح والأعمّ لايدخلها في علم الأُصول.ونظير ذلك ما ورد في الخطاب الشرعي من النهي عن صلاة الرجل وأمامه إمراة تصلّي، فعلى الأعمّ يحكم ببطلان صلاة الرجل أو كراهتها، حتّى فيما كانت صلاة المرأة غير تامّة من حيث الأجزاء والشرائط، بخلافه على الصحيح حيث لا يحكم ببطلان صلاته أو كراهتها، إلاّ إذا كانت صلاتها صحيحة.ولكنّ المناقشة ليست في محلّها فإنّ مسألة الصحيح والأعمّ، لا تكون من المسائل الأُصوليّة؛ ولذا لم تجعل من مسائل علم الأُصول، بل ذكرت في مقدمة مسائل علم الأُصول، فتكون هذه المسألة من المبادئ التصوريّة لمسائله.بيان ذلكأنّ مسألة التمسّك بالإطلاق في استنباط الأحكام الشرعيّة سواء كان الشكّ في أصل التقييد أو في التقييد الزائد، مسألة أُصوليّة بلا فرق بين القول بأنّ مقدّمات الحكمة توجب ظهور المطلق في الاطلاق، والقول بأنّ الاطلاق بحكم العقل، وكلامنا في المقام في تعيين أنّ ألفاظ العبادات تعدّ من المطلق ليمكن التمسّك بإطلاقها فيما إذا وردت في الخطاب الشرعيّ وتمّت فيه مقدّمات الحكمة، كما هو مقتضى قول بالأعمّ أو أنّها مجملة لا تدخل في المطلق.فالمناسب أن يناقش بأنّ ثمرة النذر أو ثمرة صلاة الرجل لا تجعل المسألة من مبادئ المسائل الأُصوليّة، بل تجعلها من مبادئ المسائل الفقهيّة فلاحظ وتدبر، ولعلّ الماتن (رحمه الله) أشار إلى ذلك في آخر كلامه بقوله «فافهم».[4] وبتعبير آخرمعنى لفظ الصلاة وإن كان مجملا على القول بالصحيح وغير مبيّن من جهة أجزائها وشرائطها إلاّ أنّ هذا الإجمال لا ينافي كون معناها مبيّناً من جهة أثرها، ويكفي في الانسباق من اللفظ كون المعنى مبيّناً ولو من جهة، هذا بالإضافة إلى التبادر، وأمّا صحّة السلب، فيكون مقتضاها عدم السعة في معنى مثل لفظ الصلاة، بحيث يعمّ الأفراد الفاسدة.أقولللمناقشة في كلّ من التبادر وصحّة السلب مجالٌ واسعٌ كما سيأتي إن شاء الله تعالى.[5] لا ينبغي التأمّل في أنّ الآثار المحمولة على العبادات لا تعمّ الأفراد الفاسدة، إلاّ أنّ عدم شمولها إمّا لكون مسمّياتها المعاني الصحيحة، كما هو مقتضى القول بالصحيح، أو بتقييد مسمّياتها بالقيود، كما هو مقتضى القول بالأعمّ، فيكون المقام من صغريات ما إذا علم المراد وأُحرز أنّ الحكم الجاري على المطلق لا يعمّ شيئاً، ودار الأمر بين خروجه عن الاطلاق بالتقييد وبين عدم كون المطلق شاملا له بحسب معناه الوضعي، ففي أمثال ذلك لا تجري أصالة الإطلاق أو الحقيقه وغيرها، كما أنّ الأخبار النافية للحقيقة عند فقدان جزء أو شرط مثل قوله (صلّى الله عليه وآله)«لا صلاةَ إلاّ بفاتحة الكتاب»(8) إرشاد إلى جزئيّة القراءة في الصلاة المأمور بها، والأمر دائر بين كون أخذها في متعلّق الأمر بالتقييد ـ ونفي الصلاة عن فاقدها بحسب مقام الامتثال فقط ـ كما هو مقتضى القول بالأعمّ وكون النفي بحسب مقام الامتثال والتسمية كما هو مقتضى القول بالصحيح، ولا مجال لأصالة الإطلاق أو الحقيقة أو لغيرهما من الأُصول مع العلم بالمراد، ولعله يشير إلى ذلك في آخر كلامه بقوله «فافهم».هذا مع الإغماض عمّا تقدّم من أنّ مثل قوله سبحانه (الصّلاة تَنْهَى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ)(9) أو قوله (صلّى الله عليه وآله)«إنّ عمود الدين الصلاة»(10) يراد به الصحيح في مقام الامتثال لا الصحيح في مقام التسمية.[6] ووجه كونها قابلة للمنع، أنّه لم يثبت أنّ الواضع يضع اللفظ ابتداءاً بإزاء ذلك التامّ، بل يضع اللفظ للأعمّ منه وممّا يختلف معه في الجملة كما تقدّم سابقاً، هذا أوّلا.وثانياً إنّ ما ذكر إنّما يصحّ إذا كان المركّب التامّ واحداً، فالحكمة في وضع الألفاظ تقتضي وضع اللفظ لذلك التامّ؛ لكون غرض التفهيم يتعلق به غالباً، بخلاف التامّ في المقام، فإنّه يختلف بحسب الحالات والأشخاص والازمان وغيرها، وإذا أمكن وضع اللفظ للجامع المركّب بين الأفراد فلا محالة يكون ذلك الجامع أعمّ يصدق على التامّ والناقص، على ما تقدّم.[7] قد تقدّم عدم الإشكال في تصوير الجامع المركّب على الأعمّ، فليس في دعوى التبادر محذور من جهة الجامع ولا من سائر الجهات، وكذا في دعوى عدم صحّة سلب المسمّى عن الفاسد.والمراد من صحّة التقسيم إلى الصحيح وغيره صحّته بحسب مسمّى اللفظ، لا المسمى الذي تعلّق به التكليف ثبوتاً، أو الذي يقوم به الغرض، فإنّ الصحيح بمعنى ما يقوم به الملاك والغرض يصحّ سلبه حتّى عن التامّ بحسب مقام التسمية، الفاسد في مقام الامتثال، ولو لعدم قصد التقرّب فيه، وبالجملة معنى صحّة تقسيم المسمّى إلى الصحيح والفاسد هو أنّ المعنى المتفاهم من لفظ الصلاة مثلاً إذا تحقّق في الخارج قد يتّصف بأنّه تامّ وقد يتّصف بأنّه ناقص، فيقالإنّ الصلاة إذا وقعت قبل وقتها تكون فاسدةً، وإذا وقعت بعده تكون صحيحة.[8] قد يقالظاهر جملة من الأخبار، ومنها الخبر المنقول(11) إنّ الولاية شرط لقبول العمل في مقام إعطاء الأجر والثواب لا شرط لصحّته، وعليه فلا يمكن الاستدلال بالخبر لكون عبادة المخالف صلاة على القولين.أقول: يمكن الاستدلال بالخبر بتقريب آخر وهو أنّ الصلاة التي يأتي بها المخالف محكومة بالفساد للنقص في بعض أجزائها وشرائطها، فإطلاق الإمام (عليه السلام)الصلاة على عمل المخالف لايكون إلاّ بإرادة الأعمّ، فينحصر الجواب عن ذلك بما ذكره الماتن (قدس سره) أخيراً، ويمكن أن يقالالمراد بالأخذ، الأخذ باعتقادهم فلا موجب للالتزام باستعمال الألفاظ في غير الصحيح أو في الأعمّ، هذا مع الإغماض عمّا ذكرناه من أنّ الاستدلال بأصالة الإطلاق وأصالة الحقيقة لكشف كيفيّة الاستعمال لا يصحّ بعد معلومية المراد.وأمّا الاستدلال على قول الاعميّ بنهي الحائض عن الصلاة أيّام أقراءها(12) بدعوى أنّ النهي كالأمر لا يتعلّق بغير المقدور، والصلاة الصحيحة لا تتمكن منها الحائض، لاشتراطها بالخلوّ من الحيض، فنهيها عنها أيّام حيضها كاشف عن كون المراد بالصلاة الأعمّ، فهو كما ترى، إذ غاية الأمر يعلم بأنّ لفظ الصلاة في خطاب نهي الحائض مستعمل في الأعمّ بقرينة عدم إمكان نهيها عن الصحيحة، ولا دلالة لها على كون الاستعمال على نحو الحقيقة، هذا أوّلاً.وثانياً أنّ النهي المفروض ليس بتكليفي ليقال إنّه لا يتعلّق بغير المقدور، بل إرشاد إلى عجزها عن الصلاة لاشتراطها بالخلوّ من الحيض، ونتيجة ذلك أنّ حرمة الصلاة على الحائض تشريعيّة، فإذا أتت بها تعليماً لبنتها، أو لغير ذلك من غير قصد الامتثال به لم تفعل حراماً.ودعوى كون النهي الإرشادي أيضاً كالأمر الإرشادي لا يتعلّق بغير المقدور، لا يمكن المساعدة عليها، فإنّ الإرشادي لا يتعلّق بما أُحرز عدم إمكانه لكونه لغواً محضاً، وأمّا تعلّقه بغير المقدور واقعاً، إرشاداً إلى عدم قدرة من يتوجّه إليه النهي على متعلّقه، فهو ليس بلغو، كما في النواهي الارشاديّة العرفيّة.[9] لا يخفى أنّ مرادهم نذر ترك صلاة النافلة، أو الصلاة التي تكون من قبيل الواجب الموسع، بحيث أمكن امتثال الأمر بها بإتيانها في غير الحمّام، وأمّا نذر ترك الصلاة الواجبة التي ينحصر امتثال الأمر بها بالصلاة في الحمّام ولو كان الانحصار بسوء الاختيار، فلا ينعقد؛ لأنّ النذر المفروض مساو لنذر ترك الواجب، فلاينعقد.وبتعبير آخرنذر ترك الصلاة في الحمّام كنذر ترك الصوم في يوم عاشوراء يصحّ ويحصل الحنث بالصلاة فيه، كحنث نذر ترك صوم يوم عاشوراء بالصوم فيه.فالمذكور في كلامهم أمرانصحّة النذر المفروض، وحصول الحنث بالفعل، ويستدلّ على القول بالأعمّ بهذين الأمرين، فإنّه على قول الصحيحيّ لا يمكن أن يحكم بانعقاد النذر المفروض؛ وذلك لأنّ متعلّق النذر على ذلك القول ترك الصلاة الصحيحة في الحمّام، والصلاة الصحيحة من جميع الجهات غير مقدورة مع نذر تركها، فيلزم انتفاء النذر، لأنّه يعتبر في انعقاد النذر كون متعلّقه مقدوراً، كما أنّه على قول الصحيحيّ لا يمكن الالتزام بحصول الحنث بالصلاة في الحمّام لكون تلك الصلاة فاسدةً، لتعلّق النهي بها ولو بعنوان حنث النذر ويلزم من حصول الحنث بها عدم حصوله، لأنّ المنذور ترك الصلاة الصحيحة وما يلزم من وجوده عدمه محال سواء كان نذراً أو حنثاً.والجواب عن هذا الاستدلال بأمرين: الأوّلأنّ ما ذكر من المحذور لا يثبت كون لفظ «الصلاة» وغيره من ألفاظ العبادات موضوعة للأعمّ، بل غايته أنّ ما ذكر من المحذور قرينة على أنّ الناذر يريد بالصلاة في نذره، معناها الأعمّ.وهذا الجواب غير صحيح؛ لأنّ للمستدلّ أن يدّعي أنّ من المقطوع به أنّ الناذر يستعمل لفظ «الصلاة» في المعنى الذي يستعمل اللفظ فيه في غير النذر.والثانيأنّ المراد بالصحيح عند الصحيحيّ، هو التامّ من حيث الأجزاء والشرائط التي قرّرها الشارع لنفس الصلاة، وأمّا فسادها من قبل النهي عنها ولو بعنوان آخر، فلا يضرّ بالصحّة المأخوذة في مسمّى الصلاة، فالمراد بالتامّ من الصلاة في قول الناذر هو الصحيح لولا النذر، ولذا لو صلّى الناذر في الحمّام وأبطل صلاته في الأثناء بالحدث أو بغيره لا يحصل الحنث بها.[10] وحاصله، أنّه إذا تعلّق النذر بترك الصلاة المطلوبة، لتكون مطلوبة للشارع بعد نذر تركها، فيمكن أن يقال بعدم حصول الحنث بالصلاة في الحمّام؛ لأنّ الصلاة الفاسدة لا تكون حنثاً لذلك النذر.وذكر في هامش الكتاب أنّ صحّة النذر المفروض مشكل؛ لعدم إمكان الصلاة الصحيحة المطلقة، بأن تكون مطلوبة بعد نذر تركها، ويلزم من ذلك صحّة الصلاة في الحمّام لعدم انعقاد النذر وبقاء الصلاة في الحمّام على حكمها الأصلي.أقوللا ينبغي التأمّل في أنّ النذر يتعلّق بفعل الناذر أو تركه، ولا يدخل فعل الغير في نذره ـ سواء كان فعل الشارع أو غيره ـ ولو نذر ترك الصلاة في الحمّام، بحيث تكون تلك الصلاة مطلوبة وصحيحة حتّى بعد نذره، بأن كان الوصف تقييداً في الصلاة المنذور تركها، فالنذر محكوم بالبطلان؛ لعدم تحقّق مثل تلك الصلاة، نعم إذا كان وصفها بالصحّة والمطلوبية حتّى بعد النذر بتخيّل أنّ الصلاة في الحمّام لا تسقط عن المطلوبية والصحّة حتّى بعد النذر المفروض، فالنذر صحيح ويحصل الحنث بصلاته في الحمّام، فتدبّر.(1).الوسائل: ج 4، باب 1 من أبواب أفعال الصلاة، الحديث1 / 673.(2).الوسائل: ج 1، باب26 من أبواب الجنابة، الحديث2 / 502.(3).غوالي اللئالي1 / 198، الفصل التاسع، الحديث 8.(4).أجود التقريرات1 / 45.(5).سورة البقرةالآية 187.(6).قوانين الأُصول40.(7).أجود التقريرات1 / 45.(8).غوالي اللئالي1 / 196، الفصل التاسع، الحديث 2.(9).سورة العنكبوتالآية 45.(10).الوسائل: ج 3، باب 8 من أبواب أعداد الفرائض، الحديث13 / 23.(11).الوسائل: ج 1، باب 1 من أبواب مقدمة العبادات، الحديث1 / 7.(12).الوسائلج 2، باب 14 من أبواب الحيض، 1 و 2 و 3.فلا مجال للنزاع في كونها موضوعة[1].ولكن لا يبعد دعوى كونها موضوعة للصحيحة أيضاً[2].الثاني انّ كون ألفاظ المعاملات أسامى للصحيحة لا يوجب إجمالها[3].لأنّ إطلاقها لو كان مسوقاً في مقام البيان[4].الصحيح والأعم في المعاملات[1] ذكر (قدس سره) أنّه لا يجري نزاع الصحيحيّ والأعميّ في ألفاظ المعاملات من العقود والإيقاعات بناءاً على كونها أسامي للمسبّبات حيث أنّ المسبّب لا يكون تامّاً تارةً وناقصاً أُخرى، ليقع البحث في أنّ أسامي المعاملات موضوعة لخصوص التامّ أو القدر الجامع بينه وبين الناقص، بل المسبّب أمر بسيط يتّصف بالوجود تارةً، وبالعدم أُخرى.نعم لو كانت الألفاظ موضوعة للأسباب، فللنزاع المفروض مجال، فإنّ الأسباب مركّبات لها أجزاء وقيود تكون بمجموعها موجبة لحصول المسبّب، فيقع النزاع في ناحية الموضوع له بأنّه التامّ أو القدر الجامع.وقد يقال بأنّه لا فرق في صحّة النزاع بين القول بأنّها موضوعة للأسباب أو المسبّبات، فإنّ المسبّب هو الذي ينشئه الموجب أو الموجب والقابل، ويقع مورد الإمضاء من العقلاء والشرع تارةً، ولا يقع مورد الإمضاء من العقلاء والشرع أُخرى، أو من الشرع خاصّة ثالثةً، فمثلاً ملكيّة المبيع للمشتري بإزاء الثمن أمر ينشئه البائع ويقع مورد الإمضاء فيما كان البائع مالكاً عاقلا رشيداً وكذا المشتري، ولا يقع مورد الإمضاء حتّى عند العقلاء فيما كان البائع سكراناً أو صبيّاً غير مميّز.وعلى ذلك فيمكن البحث في أنّ الملكية المنشأة الموضوع لها لفظ البيع هي الواقعة مورد الإمضاء من العقلاء والشرع، أو أنّه موضوع لنفس الملكية المفروضة التي ينشأها العاقد ولو لم تقع مورد الإمضاء، أو أنّه موضوع لما تكون مورد الإمضاء من العقلاء خاصّة، والحاصل الصحّة في المعاملات عبارة عن التماميّة بحسب الإمضاء، لا من حيث الأجزاء أو الشرائط، كما كان الأمر عليه في العبادات، نعم لو كانت أسامي المعاملات موضوعة للأسباب فيمكن أن تكون الصحّة فيها بمعنى التماميّة من حيث الأجزاء والشرائط.أقول: لا يخفى أنّه لا يمكن أن يكون الإمضاء الشرعي قيداً لمعنى البيع، بل الإمضاء شرعاً حكم شرعيّ يترتّب على البيع بمعناه العرفي وإلاّ يكون قوله سبحانه (أحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ) بمعنى إمضائه لغواً، ولذا ذكرنا أنّه لا تحتمل الحقيقة الشرعيّة في ألفاظ المعاملات المتداولة عند العرف والعقلاء، نعم ربّما يكون الموضوع للحكم الشرعي البيع الممضى شرعاً كما في قوله (عليه السلام)«البيّعان بالخيار حتّى يفترقا وصاحب الحيوان بالخيار ثلاثة أيام»(1)، وهذا لا يكون استعمالا للفظ البيع في الممضى شرعاً، بل إرادته بنحو تعدّد الدال والمدلول، نظير ما تقدّم في أسامي العبادات فيما إذا ورد في الخطابات الأمر بها على قول الأعميّ.وبالجملة الخطابات المفروضة لبيان حكم البيع بعد فرض إمضائه، والنزاع المعقول في المعاملات ـ على تقدير كونها أسامي للمسبّبات ـ هو أنّ الموضوع له فيها المسبب في نظر العاقد مطلقاً ولو لم يلحق به إمضاء العقلاء؟ أو أنّ الموضوع له خصوص ما يكون ممضي عند العقلاء؟ نظير ما ذكرنا في بحث البيع من أنّ إطلاق البيع بالمعنى المصدري ينطبق على فعل البائع إلاّ أنّ انطباقه عليه في صورة تحقّق القبول من المشتري، لا مطلقاً.وذكرنا أيضاً أنّ إطلاق السبب والمسبّب في المعاملات أمر لا أساس له، وليس في المعاملات سبب ولا مسبّب، وإنّما يكون فيها الإنشاء بالمعنى المتقدّم؛ لأنّ الإنشاء مقوّم لعنوان المعاملة فلا يطلق البيع على مجرّد الاعتبار النفساني بتمليك شيء بإزاء مال، مالم يبرز، فالإبراز مقوّم للمعاملة سواء كان عقداً أو إيقاعاً، غاية الأمر كونه معاملة في العقود مشروط بقبول الطرف الآخر دون الإيقاع، نعم هذا ما يسمّى عندهم بالمعاملة بمعناها المصدريّ، وأمّا بمعناها الإسم المصدريّ فهو المعتبر المنشأ.وعلى ذلك فلو كان في ناحية الإنشاء نقص فلا يكون في البين لا معاملة بمعناها المصدري ولا بمعناها الإسم المصدريّ، هذا بناءاً على الصحيح، وأمّا بناءاً على أنّ ألفاظها أسامي للأعمّ فيكون في البين مُنشأ، ولكن فيه نقص ولو في ناحية إنشائه، كما لا يخفى.[2] ذكر (قدس سره) أنّه بناءً على كون أسامي المعاملات موضوعة للأسباب، فالموضوع له فيها ـ كالموضوع له في أسامي العبادات ـ هو العقد الصحيح، أي المؤثّر للأثر المترقّب من تلك المعاملة، بلا فرق بين استعمالات العرف والشرع، واختلاف الشرع مع العرف في بعض القيود المعتبرة في العقد لا يوجب اختلاف المعنى، بل المستعمل فيه عند كلّ من العرف والشرع العقد المؤثر لذلك الأثر، غاية الأمر يمكن أن يرى أهل العرف العقد ـ ولو مع فقد بعض القيود ـ مؤثّراً، ولا يرى الشرع ذلك، فيكون الاختلاف بينهما في المحقّقات ومصاديق المعنى، ويكون نظر الشارع من قبيل تخطئته العرف في المصداق، حيث يرى الموجود مع فقد ما يعتبر في تأثيره شرعاً مؤثّراً.وبيان ذلككما أنّ لفظ الخمر موضوع لمائع خاصّ يعرف بمسكريّته، وإذا اعتقد أحد أنّ المائع الفلاني خمر، واعتقد الآخر أنّه خلّ فاسد، فلا يكون اختلافهما في معنى لفظ الخمر بل اختلافهما في مصداقه، حيث إنّ الموجود الخارجي مصداق للخمر عند أحدهما وليس كذلك عند الآخر، كذلك لفظ البيع مثلا، فإنّه موضوع عند العرف والشرع للعقد المؤثّر في ملكيّة عين بعوض، وعليه فمثلا الإيجاب من الصبيّ المميّز المراهق مع القبول من الطرف الآخر لو رآه العرف بيعاً وحكم الشارع بفساده، فمعناه أنّ الشارع لا يرى عقده مصداقاً للبيع وحكمه بالفساد تخطئة للعرف.وبالجملة فألفاظ المعاملات على تقدير كونها أسامي للأسباب، موضوعة للتامّ أي المؤثّر في الأثر المترقّب عند العرف والشرع، حيث إنّ الشارع لم يخترع للفظ البيع معنى واختلافهما من جهة بعض القيود، إنّما هو في المصاديق لا في أصل المعنى.أقولالتخطئة بمعناها المعروف لا يكون إلاّ فيما كان للشيء مصداق واقعيّ بحيث يكون انطباقه عليه قهريّاً وفي مثل ذلك يمكن أن يرى أحد أنّ الشيء الخارجيّ مصداق واقعيّ له، ولا يراه الآخر كذلك، كما مثّلنا لذلك بالخمر، وأمّا الاعتباريّات التي يكون فيها الشيء مصداقاً للمعنى بالاعتبار فمصداقيّته دائرة مدار اعتبار المعتبر، ولا معنى لتخطئة المعتبر فيها، حيث إنّه يمكن أن يعتبر أحد شيئاً مصداقاً له ولايعتبره الآخرون مصداقاً له، فمثلا يرى طائفة الفعل الخاصّ تعظيماً ولا يراه الآخرون تعظيماً، ولا يكون في الفرض اعتبار إحداهما تخطئة للأُخرى، إذ ليس في البين واقع معيّن ليكون نظر إحداهما بالإضافة إليه خطأً ونظر الأُخرى صواباً.لايقالإذا ورد في خطاب الشارع (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ) يحرز بعد تماميّة مقدّمات الإطلاق أنّ ما هو مصداق للبيع عند العرف هو تمام المؤثّر عند الشارع أيضاً، حيث إنّ الاستعمالات الشرعيّة في المعاملات جارية على المعاني العرفية، كما يأتي، فلو ورد بعد ذلك في خطاب «لا بَيْعَ فِي المَكِيلِ إلاّ بِالْكَيْلِ» يكون هذا تخطئة؛ لانكشاف أنّ المؤثّر عند العرف لا يكون مؤثّراً عند الشارع.فإنّه يقالالتخطئة بهذا المعنى الذي مرجعه إلى الأخذ بالإطلاق قبل ورود خطاب التقييد، وإلى رفع اليد عنه بعد وروده، لا يكون مختصّاً بباب المعاملات، بل يجري في جميع الاطلاقات، ولعلّه (قدس سره) يشير إلى ذلك في آخر كلامه بقوله «فافهم».وعن المحقّق الاصفهاني (قدس سره) إنّ التخطئة ليست بلحاظ نفس الأمر الاعتباري ليرد أنّها لا تكون في الاعتباريّات، بل بلحاظ الملاك والصلاح الموجب للاعتبار، بحيث لو انكشف الواقع يرى العرف عدم الصلاح في اعتبارهم(2).ولا يخفى ما فيه، فإنّ الصلاح في الاعتباريّات (يعني ما كان من قبيل الوضع لا التكليف بالفعل الخارجي) يكون في نفس الأمر الاعتباريّ، وهو حفظ نظام المعاش بين الناس، ولكنّ الشارع قد يضيف إلى ذلك الصلاح في لحاظه أمراً آخر، فيضيف قيداً آخر في اعتبار المعاملة لتمييز من يطيعه عمّن يعصيه، أو لعلمه بعدم الصلاح في اعتبار المعاملة بدونه، فعليه لا يكون اختلافه مع العرف في كلّ مورد تخطئة ولو بلحاظ الملاك، كما لا يخفى، وبالجملة لابدّ من الالتزام بأنّ الشارع يستعمل أسامي المعاملات في معانيها العرفيّة.[3] لا ينبغي الريب في عدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة في ألفاظ المعاملات وأنّ الشارع لم يخترع فيها اصطلاحاً، بل جعل لها بمعانيها العرفية، أحكاماً امضاءً كما في قوله سبحانه (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ)(3)، أو تأسيساً، مثل قوله (عليه السلام)«والخيار في الحيوان ثلاثة أيام للمشتري» الحديث(4)، وأضاف إليها قيوداً في إمضائها أو في ترتّب الحكم التأسيسي عليها، وبعد البناء على ذلك وكون استعمالات الشارع بتبع الاستعمالات العرفيّة فيمكن التمسّك بخطاباتها عند الشكّ في اعتبار أمر آخر في إمضاء المعاملة، أو بيان الحكم لها، حتّى بناءاً على كونها أسامي للصحيحة، وذلك لعدم إجمال الصحيح عند العرف كما كانت أسماء العبادات عندهم على الصحيحي، وعلى ذلك فبعد إحراز مقدّمات الإطلاق كما هو الفرض، يحرز أنّ الموضوع للإمضاء أو الحكم التأسيسيّ، نفس تلك المعاملة عند العرف، وإلاّ كان على الشارع بيان القيد.ولكن مع ذلك، قد يناقش في التمسّك بإطلاق المعاملات عند الشكّ في كون شيء قيداً في إمضائها، بدعوى عدم ورود الخطابات في مقام إمضاء الأسباب، بل مفادها إمضاء المسبّبات، فقوله سبحانه (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ)(5) ناظر إلى إمضاء المسبّب، وأمّا أنّ سببه أيّ شيء، فلا إطلاق له من هذه الجهة، نعم يمكن أن يقالإنّ قوله سبحانه (أوْفُوا بِالْعُقُودِ)(6) دالّ على إمضاء الأسباب إلاّ أنّ التدبّر في حكمه يقتضي صرفه إلى المسبّبات أيضاً؛ لأنّ اعتبار البقاء يكون في المسبّب، وأمّا السبب فلا بقاء له ليجب الوفاء به.أقوللا يخفى ما فيه، فإنّ قوله سبحانه (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ)(7) من القضايا الحقيقيّة الانحلاليّة، فيكون مفاده إمضاء كلّ مسبّب في الخارج يتعنون ويتّصف بكونه بيعاً.ومن الظاهر أنّ إمضاء المسبّب كذلك، لا ينفكّ من إمضاء السبب، ولا يخفى أنّ هذا بناءاً على مسلك الأسباب والمسبّبات في المعاملات وهو مسلك ضعيف كما تقدّم في بحث الإخبار والإنشاء، ونتعرّض لذلك في المقام بوجه أخصر.وأمّا ما ذكر من رجوع خطاب الإمضاء إلى المسبّب، حتّى في مثل قوله سبحانه (أوْفُوا بِالْعُقُودِ)(8) بقرينة أنّ العقد بما هو إيجاب وقبول، لا بقاء له ليجب الوفاء به، بل الباقي هو المسبّب، فيكون الوفاء به لا بالسبب، ففيه أيضاً ما لايخفى، فإنّ العقد له بقاء اعتباراً ولذا يتعلّق به الفسخ والإقالة، حيث إنّ الفسخ حلّ ذلك العقد، فيعود الملك إلى مالكه الأوّل بالسبب الناقل قبل العقد المفسوخ، والإقالة اجتماع طرفي العقد على فسخه، كما في البيعة وحلّها، وبالجملة البقاء الاعتباريّ للعقد كإلغائه واضح لا يحتاج إلى تطويل الكلام، وعليه فلو كانت أسامي المعاملات للتامّ من الأسباب فلا موجب لحمل الحكم الجاري عليها في الخطابات على الحكم للمسببات.وأجاب المحقّق النائيني (قدس سره) عن المناقشة السابقة في التمسك بالإطلاقات عند الشكّ في قيود الأسباب بما حاصلهأنّ الإيجاب والقبول في العقود والإيجاب في الإيقاعات لا تكون من قبيل الأسباب، والأمر الاعتباري المترتّب عليها ليس من قبيل المسبّب ليكون للمسبّب وجود آخر غير وجود السبب، حتّى لايمكن التمسّك بخطاب الأوّل عند الشكّ في اعتبار قيد للثاني بدعوى أنّ إمضاء الأوّل لا يستلزم إمضاء الثاني، بل العقود والإيقاعات بالإضافة إلى الأمر الاعتباري من قبيل الآلة إلى ذيها، فكما أنّ المفتاح آلة الفتح والمؤثّر في الفتح هو حركة يد الفاعل، فكذلك للمعاملات، عند العقلاء والشرع ما هو كالآلة لها ويعبّر عنه بصيغ العقود من الإيجاب والقبول وما هو بمنزلة ذي الآلة ويعبّر عنه بالمعاملة من البيع وغيره، فالمعاملة بمعناها الاسم المصدري وإن كانت تباين المعنى المصدري إلاّ أنّ الظاهر تعلّق الامضاء في مثل قوله تعالى (أحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ) بالجهة الصدورية، فيكون إمضاء البيع بمعناه المصدريّ إمضاءً للآلة التي يقصدها العاقد بتلك الآلة(9).وفيه ماتقدّم من أنّ الإمضاء لو كان بنحو الانحلال كماهو مفاد القضية الحقيقيّة، فيكون إمضاء المسبّب وذي الآلة إمضاءاً للسبب والآلة لا محالة، حيث لا يمكن الحكم بحصول المسبّب وذي الآلة في مورد، مع عدم تحقّق السبب والآلة، وإن كان مفاد الخطابات على نحو لم يكن فيها انحلال، لا يكون إمضاء المسبّب أو ذي الآلة مفيداً في مورد الشكّ في السبب أو الآلة؛ لأنّ للآلة أيضاً وجوداً غير وجود ذي الآلة، كما في السبب ومسبّبه.وقد يقال: إنّ المناقشة في التمسّك بإطلاقات المعاملات مبنية على كونها من قبيل الأسباب والمسبّبات أو الآلة وذيهما، ولكنّهما ضعيفان، وأمّا على المسلك الصحيح، من كون البيع مثلاً في حقيقته أمراً اعتباريّاً يحصل بالقصد والاعتبار، من غير تأثير للّفظ وبلا دخل له في حصول ذلك بنحو السببية أو الآلة، بل اللفظ أو غيره يكون مبرزاً، ويطلق على المجموع من المبرز ـ بالفتح ـ ومبرزه ـ بالكسر ـ عنوان البيع، فيجوز التمسّك بإطلاقاتها إذ على هذا المسلك لا يصدق البيع ولا غيره من عناوين المعاملات في العقود والإيقاعات، بمجرّد الاعتبار من دون الإبراز بقول أو فعل، وعلى ذلك فمثل قوله سبحانه(أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ)(10) يكون إمضاءاً للمركّب من الأمر الاعتباريّ ومبرزه ـ بالكسرـ فيكون دلالته على ما سمّوه بالسبب أو الآلة بالدلالة التضمّنية ويكون إمضاء البيع إمضاء المجموع المركّب من المبرز ـ بالكسر ـ والمبرز ـ بالفتح ـ ومعه لا مانع من التمسّك بالإطلاق(11).وفيهأنّ ما ذكر من كون الإيجاب والقبول مبرزاً للمعتبَر الذي يكون إبرازه بقصد اعتباره، ولا يكون الإبراز من قبيل السبب والآلة كما ذكرنا في بحث الإنشاء والخبر، وإن كان صحيحاً إلاّ أنّ المأخوذ في معنى البيع بمعناه الإسم المصدريّ، هو المبرز ـ بالفتح ـ بما هو مبرز بحيث يكون وصف المبرزية محقّقاً ومقوّماً له، وأمّا نفس المبرز ـ بالكسر ـ فهو غير داخل في معناه على وجه الجزئيّة، فيرد الإشكال بأنّ إمضاء المبرز ـ بالفتح ـ لا يلازم إمضاء مبرزه ـ بالكسر ـ مطلقاً، إلاّ بنحو انحلال الخطاب، كما تقدّم.[4] لا يخفى أنّ التمسك بالاطلاق اللفظي في خطابات إمضاء المعاملات، يبتني على كون المراد من ألفاظ المعاملات في تلك الخطابات معانيها العرفية، ـ أي ما يعتبره العرف معاملة ـ، لما تقدّم من أنّ معانيها ليست من الأُمور الواقعيّة، ولا من المخترعات الشرعية، فيكون مفاد الخطاب المتضمّن للحكم بنحو القضية الحقيقية، شمول الامضاء والحكم لكلّ ما يصدق عليه عنوان المعاملة عرفاً، وعلى الشارع في موارد إضافة قيد في إمضاء معاملة أو عدم إمضاء فرد، بيان القيد لتلك المعاملة، أو تقييدها بغير ذلك الفرد، في خطاب إمضائها، أو بخطاب منفصل ولذلك تمسّك العلماء بخطابات المعاملات في أبوابها.وأما إذا بني على أنّ المراد من أسامي المعاملات المعاني الواقعية منها، كسائر الخطابات التي تتضمّن الحكم التكليفي أو الوضعي لعنوان واقعيّ ولو بنحو القضية الحقيقيّة، بحيث لا توجب التخطئة في بعض مصاديقها تقييداً في خطاب الحكم، كما التزم به الماتن (قدس سره) قبل ذلك، فلا موجب للتمسّك بتلك الخطابات في موارد احتمال التخطئة في بعض المصاديق والمحقّقات لها بل لابدّ لدفع احتمال التخطئة فيها من التشبّت بالاطلاق المقامي، ويُشكل إحراز هذا الاطلاق في المعاملات التي تكون لها مصاديق متيقنة(12).نعم لو اُحرز في مقام خاصّ بكون الشارع فيه متصدّياً لبيان جميع ما يقع من أفراد المعاملة ومحقّقاتها وكان مصداق منه مورد التخطئة، يتمسّك بالاطلاق المقامي فيه، كما تقدّم نظيره في العبادات على قول الصحيحي، بل على الأعميّ، بناءاً على الإجمال في خطابات التشريع.وبالجملة فظاهر عبارة الماتن (قدس سره) جواز التمسّك بالاطلاق اللفظي في المعاملات حيث قال«ولو اعتبر في تأثيره ما شك في اعتباره كان عليه البيان ونصب القرينة عليه (أي على اعتباره في المعاملة) وحيث لم ينصب بانَ عدم اعتباره عنده أيضاً، ولذا يتمسّكون بالاطلاق في أبواب المعاملات مع ذهابهم إلى كون ألفاظها موضوعة للصحيح»(13) وأنت ترى أنّ هذا التمسّك لا يناسب مسلك التخطئة في المصداق، حيث إنّ اعتبار القيد لا يكون تقييداً لإطلاق المعاملة الواقعية، فلاحظ وتدبّر(14).(1).الوسائل: ج 12، باب 1 من أبواب الخيار، الحديث1 / 345.(2).نهاية الدراية1 / 137.(3).سورة البقرةالآية 275.(4).الوسائل: ج12، باب1 من أبواب الخيار، الحديث5 / 346.(5).سورة البقرةالآية 275.(6).سورة المائدةالآية 1.(7).سورة البقرةالآية 275.(8).سورة المائدةالآية 1.(9).أجود التقريرات 1 / 49.(10).سورة البقرةالآية 275.(11).المحاضرات1 / 192.(12).توضيحهأنّه لو كان لمعاملة ـ بناءً على كون معانيها واقعية ـ مصاديق متيقّنة ولم يحرز كون الشارع في مقام بيان جميع أفراد تلك المعاملة ومحقّقاتها وشكّ في فرد منها فلا يجوز التمسّك بالإطلاق المقامي أيضاً، وذلك لأنّ شرطه إحراز كون المتكلّم في مقام البيان.نعم إذا اُحرز ذلك فلا مانع منه، وأمّا إذا لم يكن لها مصاديق متيقّنة فعلى هذا المبنى يصير الخطاب مجملاً غير قابل للتمسّك به، كما لا يخفى.(13).الكفايةص 33.(14).ليس غرض شيخنا الاستاذ (دام ظله) انّ مراد صاحب الكفاية (قدس سره) في المقام هو جواز التمسّك بالإطلاق اللفظي، بل غرضه (دام ظله) انّ استشهاد صاحب الكفاية بتمسّك المشهور في أبواب المعاملات بالإطلاق مع ذهابهم إلى الصحيح استشهاد للإطلاق اللفظي كما لا يخفى على المتأمل.وقوله «لو اعتبر في تأثيره ما شكّ.وحيث لم ينصب بانَ عدم اعتباره» ظاهر في الإطلاق المقامي الذي هو على القاعدة في المقام، فبينهما تهافت واضح، مع أنّه (قدس سره) تمسّك بالإطلاق اللفظي في «أحلّ الله البيع» و«أوفوا بالعقود» في حاشيته على مكاسب الشيخ (قدس سره).وعليه، فإن أراد (قدس سره) من عبارته هذه الإطلاق اللفظي واستشهد له بتمسّك المشهور فهو غير صحيح، إذ المقام ليس مجال الإطلاق اللفظي بل هو مجال الإطلاق المقامي لكون أسامي المعاملات المعاني الواقعية واعتبار قيد في خطاب الشارع لا يكون تقييداً لها، بل بيانٌ للمعاملة الواقعية وقيودها، وإن أراد(قدس سره) منها الإطلاق المقامي فلا مجال للاستشهاد بالمشهور المتمسّكين بالإطلاق اللفظي، فتأمّل.الثالث أنّ دخل شيء وجوديّ أو عدميّ في المأمور به[1].وأما ما له الدخل شرطاً في أصل ماهيّتها فيمكن الذهاب أيضاً[2].الحقّ وقوع الاشتراك، للنقل والتبادر[3].وإن أحاله بعضٌ[4].وربما توهّم وجوب وقوع الاشتراك[5].أنحاء الدخل في المأمور به: [1] وحاصله أنّ دخل أمر وجودي أو عدمي في متعلّق الأمر على أنحاء: الأوّلأن يكون الشيء بنفسه داخلا في متعلّقه، بأن يتعلق الأمر بالمركّب منه ومن غيره، كما في تعلّق الأمر بالصلاة التي منها السورة، وعلى ذلك تكون السورة جزءاً منها ودخيلة في قوامها، بمعنى أنّ الصلاة الفاقدة لها لا تكون مصداقاً لمتعلّق الأمر، بل لا تكون صلاة على القول بالصحيح، ولا فرق في ذلك بين كون الشيء أمراً وجودياً أو عدمياً.الثانيأن يكون نفس الشيء خارجاً عن متعلّق الأمر، ولكن تؤخذ في متعلّقه خصوصيّة لا تحصل بدون ذلك الشيء، كما إذا تعلّق الأمر بالصلاة المقيّدة بسبق الإقامة عليها، أو بمقارنتها بالطهارة، أو بتأخّر شيء عنها، فلا تكون الإقامة أو الطهارة أو غيرهما بنفسها داخلة في الصلاة المأمور بها، بل يكون الداخل فيها تقيّدها بها، ولذا يمكن أن يكون نفس ذلك الشيء أمراً غير اختياري للمكلف كالوقت فإنّه يكفي في الأمر بالمقيد به كون الخصوصية اختيارية.وبالجملة نفس الشيء في هذا الفرض من مقدمات المأمور به لا من مقوّماته، ويعبّر عنه بالشرط مقابل الجزء، هذا في الشرط الشرعي، وأمّا العقلي فيأتي الكلام فيه في بحث مقدّمة الواجب وأنّ الشرط المفروض من أجزاء العلّة التامّة.ولا يخفى أنّه يمكن أن يختصّ دخالة شيء في متعلّق الأمر بأحد النحوين بحالة دون أُخرى، كما في جلّ أجزاء الصلاة وشرائطها، حيث إنّ اعتبارها مختص بحال الاختيار، ويسقط عند الاضطرار وسائر الأعذار، كما هو مقرّر في محلّه.الثالثأن لا يكون الشيء داخلا في متعلّق الأمر بنفسه ولا يتقيّد به متعلّق الأمر، كما في الصلاة بالإضافة إلى وقوعها في المسجد أو أوّل الوقت، بل تتشخّص به الصلاة، حيث لابدّ من وقوعها في مكان أو زمان، وربما يكون الشيء كذلك موجباً لمزيّة أو نقص في الملاك الملحوظ في متعلق الأمر، وتكون دخالته في المزيّة إمّا بنحو الشرطيّة كما في مثال المسجد، وإمّا بنحو الجزئية بأن يكون الشيء بنفسه موجباً لمزية الملاك في متعلّق الأمر، كما في القنوت على أحد الوجهين، وتكرار ذكر الركوع والسجود، فإنّ القنوت أو الذكر المكرّر بنفسه يوجب كمال الصلاة ومزيّتها، وممّا ذكر يظهر أنّ الاخلال بالشيء في هذا النحو بكلا فرضية لا يكون إخلالا بالمأمور به، إذ المفروض أنّه لم يؤخذ في متعلّق الأمر لا جزءاً ولا شرطاً، بخلاف النحوين الأوّلين.ثمّ إنّه قد لا يكون لشيء دخل في متعلّق الأمر بأحد النحوين الأوّلين، ولا في مزيّة ملاكه كما في النحو الثالث، بل يكون الصلاح مترتّباً على الإتيان به أثناء الواجب والمستحب أو قبلهماأو بعدهما فيكون الإتيان بالواجب أو المستحب ظرفاً لامتثال الأمر به، كما في الأمر بالأذان أو التعقيب بعد الصلاة، والقنوت على ثاني الوجهين، والأدعية المأثورة في نهار شهر رمضان للصائم فيه، حيث لا يتفاوت الحال في ناحية الصوم وملاكه بها، كما أنّ النوافل للفرائض اليومية كذلك، فإنّ لها مصالح تترتب على الإتيان بها فيما إذا وقعت قبل الفريضة أو بعدها.أقولإنّ مجرّد ترتّب زيادة ملاك المأمور به على الشيء لا يوجب كونه جزءاً استحبابياً أو شرطاً استحبابياً ولا ما يتشخّص متعلّق الأمر به، فيما إذا كان له وجود ممتاز خارجاً وغير مأخوذ في متعلّق الأمر بالمركّب، لا بنفسه ولا بخصوصيته، كما هو المفروض، فإنّه مع عدم أخذه في متعلّق الأمر يكون الأمر به عند الإتيان بالمركّب أمراً استحبابياً مستقلاًّ ويكون وجوده خارجاً غير متحد مع وجود متعلّق الأمر لا محالة.والحاصل كما يأتي في الواجب التخييري، أنّ الوجوب التخييري بين الأقل والأكثر غير معقول، بل يكون الواجب هو المقدار الأقل والزائد مستحبّاً، نعم إذا كان ما يسمّى بالشرط الاستحبابي متحداً مع المأمور به خارجاً وتشخصاً، كما في الصلاة في المسجد وفي أوّل الوقت، بحيث ينطبق عنوان متعلّق الأمر على المأتي به انطباق الكلي على فرده، يكون الأمر بذلك الفرد إرشاداً إلى كونه أفضل الأفراد، بخلاف ما إذا كان للشرط وجود آخر كالتحنّك في الصلاة، فإنّها صلاة بضمّ عمل آخر معها فيكون الأمر بالتحنّك في الصلاة استحبابياً نفسياً وإن كان الملاك في الأمر به زيادة فضل الصلاة، ويترتّب على ذلك عدم بطلان الصلاة بالرياء في الجزء المستحبي لها أو الشرط المستحبي ممّا يكون وجودهما منحازاً ولا يتّحد مع الصلاة خارجاً ليكون من تشخّص الصلاة بهما، حيث إنّ الرياء فيهما لا يكون رياءاً في طبيعيّ الصلاة المأمور بها، كما أنّ زيادتهما في صورة الرياء فيهما لا تكون زيادة في الصلاة؛ لأنّ المفروض عدم الإتيان بهما بقصد أنّهما جزء الطبيعي أو شرطه، وهذا بخلاف الرياء في الجزء الواجب أو الشرط الواجب أو في الخصوصية التي تتحد مع الطبيعيّ خارجاً، كالصلاة في المسجد أو أوّل الوقت، حيث يصدق معها الرياء في الصلاة فتبطل الصلاة.نعم الإتيان بالخصوصية المتحدة، بداع آخر نفساني غير الرياء لا يبطل الصلاة، حيث لم تؤخذ في متعلّق الأمر ليعتبر فيها قصد التقرّب، كما لا يخفى.ثمّ إنّ الرياء في جزء العبادة أو شرطها ـ يعني في التقيد المأخوذ فيها ـ يبطلها ولا يفيد تداركه بقصد القربة، وهذا إنّما هو فيما كانت الزيادة مبطلة للعبادة كالصلاة، وأمّا فيما لا تبطلها الزيادة فلصحّة العمل مع التدارك وجه تعرّضنا له في مباحث الفقه.[2] يعني كما أن ما له الدخل في كمال طبيعي العبادة غير مأخوذ في ناحية المسمّى، كذلك ما له الدخل شرطاً في أصل ماهيّتها، بأن يمكن أن يقال بعدم أخذه في ناحية المسمّى أيضاً، وينبغي أن يراد بالشرط تقيّد الأجزاء بما يسمّى شرطاً وإلاّ فنفس ما يطلق عليه الشرط كالوضوء والغسل والتيمّم بالإضافة إلى الصلاة، فخروجه عن المسمّى مقطوع به وإلاّ لانقلب جزءاً.والوجه في خروج التقيد عن المسمّى ووضع اسم العبادة لنفس الأجزاء أو بعنوان ينطبق عليها خاصّة غير ظاهر، بناءاً على وضع أساميها للصحيحة.نعم، قيلإن أخذ الشرط في المسمّى مستحيل؛ لأنّ الشرط متأخّر عن الأجزاء رتبة، حيث إنّ الأجزاء هي المؤثّرة في الملاك والشروط دخيلة في فعليّة تأثيرها.لكن ضعفه ظاهر فإنّ تأخّر رتبة الشرط لا يوجب امتناع وضع لفظ للمجموع ولو كان بعضه متقدّماً على البعض الآخر رتبة أو زماناً، أضف إلى ذلك ما ذكرناه من أنّ المراد بالشرط في العبادة أو المعاملة ما يكون التقيّد به داخلا في متعلّق الأمر أو الموضوع للإمضاء، ولا يرتبط بالشرط من أجزاء العلّة التامّة الذي يكون به فعليّة تأثير السبب وحصول أثره.الاشتراك[3] الاشتراك في اللفظ عبارة عن كونه موضوعاً لأكثر من معنى واحد، بحيث لا يكون وضعه لمعنى موجباً لهجر المعنى الآخر، ولذا يكون عند إطلاقه مجملا يحتاج تعيين أحد معانيه إلى القرينة المعيّنة.والمراد بالنقل في قوله «للنقل» نقل اللغويين فإنّهم ذكروا في بعض الألفاظ أنّه مشترك وأنّه من الأضداد، كما أنّ المراد بالتبادر هو أنّه عند إطلاق مثل «قرء» يعلم أنّ مراد المتكلّم أحد معنييه الحيض أو الطهر، وذلك علامة كونه حقيقة في كلّ منهما.أقوللعلّ المراد بنقل اللغويين، النقل على نحو يوجب العلم بالصدق وإلاّ فلا دليل على اعتبار نقل اللغوي بالإضافة إلى ثبوت الوضع.وقد يُنكر الاشتراك في الألفاظ ويقال إنّه غير جائز، بمعنى خلاف الغرض من الوضع، فلا يقع من الواضع الحكيم، حيث إنّ الغرض من الوضع الدلالة على المعنى بنفس اللفظ ومع الاشتراك لا يحصل هذا الغرض.وفيه أنّ الدلالة على المعنى بنفس اللفظ لا تنافي الاشتراك، غاية الأمر يحصل في تلك الدلالة الإجمال الخاصّ؛ ولذا يحتاج استعماله إلى القرينة المعيّنة على أنّ الإجمال في المدلول يتعلّق به غرض المتكلم أحياناً فيذكر بلا قرينة من غير لزوم محذور.ومما ذكر، يظهر فساد ما قيل من استحالة استعمال المشترك في القرآن المجيد بدعوى أنّ الكلام مع عدم القرينة اللفظية يكون مجملا ومعها يكون تطويلا بلا طائل ولا يليق شيء منهما بكلامه (جل شأنه).وجه الفسادإمكان تعلّق غرضه (سبحانه) في بعض الموارد بالإجمال والاتكال على القرينة اللفظيّة، فيما إذا كانت تلك القرينة لإفادة أمر آخر أيضاً، يتعلّق غرضه ببيانه فلا يكون تطويلاً بلا طائل.وكيف لا يتعلّق غرض الحكيم بالإجمال وقد أخبر سبحانه بوقوع المشتبه في كتابه العزيز، حيث قال سبحانه(فِيْهِ آياتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمِّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ)(1).[4] ذهب بعضٌ إلى امتناع الاشتراك اللفظي واستدلّ له بأنّ الوضع عبارة عن جعل الملازمة بين اللفظ والمعنى، بحيث ينتقل الذهن إلى المعنى من سماع اللفظ، وعليه فإن كان الوضع الثاني متمّماً للوضع الأوّل، بأن يحصل عند سماع اللفظ الانتقال إلى مجموع المعنيين فهو خلاف المفروض في الاشتراك، وكذا إن كان موجباً للانتقال إلى أحد المعنيين أو المعاني بلا تعيين، بأن يكون الموضوع له هو الجامع الاعتباريّ فهو خلاف المفروض أيضاً، وإن كان يوجب الانتقال إلى كلّ من المعنيين أو المعاني بخصوصه، بانتقال مستقل، فهذا لا يمكن من غير ترتّب.فلا محالة يكون أحد الانتقالين في طول الآخر.وفيه أنّالوضع ليس عبارة عن جعل الملازمة بين اللفظ والمعنى؛ لأنّ الملازمة بين سماع اللفظ والانتقال إلى المعنى تحصل بسبب العلم بالوضع، فلابدّ أن يكون الوضع غير الملازمة الحاصلة من العلم به، هذا أوّلاً.وثانياًمع الغضّ عن ذلك، فلا ينحصر الأمر فيما ذكره من الشقوق، فإنّه يمكن أن يكون جعل الملازمة في موارد ذكر القرينة المعيّنة لأحد المعاني، فمثلا إذا لم يكن لفظ القرء موضوعاً للحيض لم ينتقل الذهن إليه من سماع لفظ القرء ولو مع ذكر «ثلاثة أيام»، بخلاف ما إذا كان ذكرها بعد وضعه له فيحصل الانتقال بها، وهذا المقدار يكفي في حصول الغرض من الوضع وخروجه عن اللغوية، كما هو ظاهر، وما ذكره من عدم إمكان تعدّد الانتقال المستقلّ من لفظ واحد يأتي ما فيه في البحث الآتي من استعمال اللفظ في أكثر من معنى إن شاء الله تعالى.[5] قيل بوجوب وقوع الاشتراك في اللّغات، ولو في بعض الألفاظ المتداولة في كلّ لغة، بدعوى أنّ ألفاظ كل لغة متناهية بخلاف المعاني فانها غير متناهية.وأجاب المصنف (قدس سره) عن ذلك بوجهين: الأوّلأنّه لا يمكن الوضع لكلّ المعاني غير المتناهية؛ لاستلزامه أوضاعاً غير متناهية.الثانيأنّ المعاني الكلّية متناهية، فيمكن وضع ألفاظ لتلك المعاني الكلية بحيث لا يحصل الاشتراك فيها، وأمّا جزئيّاتها وإن كانت غير متناهية، إلاّ أنّه لا ضرورة لوضع لفظ لكلّ منها كما في الاعلام الشخصية، بل يمكن في مقام الاستعمال تفهيم الجزئيّ بالقرينة، بنحو تعدّد الدالّ والمدلول، أو بنحو المجاز في الاستعمال، فإنّ باب المجاز واسع.أقولظاهر كلامه تسليم تناهي الألفاظ، ولكنّ الواقع ليس كذلك، بل الألفاظ كالمعاني غير متناهية، وذلك لأنّ الحروف الهجائية وإن كانت متناهية إلاّ أنّ المركّب منها غير متناه، غاية الأمر تكون بعض الألفاظ كثيرة الحروف.وأما ما ذكره (قدس سره) من تناهي المعاني الكلية فإنّ أراد بها نظير مفهوم الشيء والممكن من الكلّيات الوسيعة، فالأمر كما ذكره وان أراد الكلّيات الضيّقة مفهوماً (أي الجزئي الإضافي بالنسبة إلى ما هو أوسع منه) التي يتعلّق الغرض بتفهيمها في مقام التخاطب فهذه الكلّيات غير متناهية ويكفي في الإذعان بذلك ملاحظة مراتب الأعداد فإنّها غير متناهية.ويظهر عن سيّدنا الأُستاذ (قدس سره) أنّ الامتناع في المقام بمعنى عدم الوقوع، حيث قال ما حاصلهأنّه ليس في الألفاظ ما يكون مشتركاً لفظياً بل اللفظ في الموارد المعروفة بالاشتراك يوضع للجامع بين الأمرين أو أكثر، فمثلا لفظ «قرء» موضوع لحالة المرأة الجامعة بين الطهر والحيض، ولفظ «جون» موضوع للجامع بين السواد والبياض، وخفاء الجامع أوجب الوهم بأنّ اللفظ من الأضداد، ولو لم يكن بينهما جامع لما كان بينها تقابل، فإنّ التقابل لا يحصل من غير جامع، ولذا لايكون بين العلم والحجر تقابل، فإنّ أحدهما جوهر والآخر عرض، هذا بناءاً على عدم تفسير الوضع في الألفاظ بالتعهّد، وإلاّ فكون اللفظ موضوعاً للجامع لا يحتاج إلى الاستدلال(2).أقولغاية ما ذكر عدم التقابل بين أمرين لا جامع بينهما، لا أنّ اللفظ في موارد التقابل موضوع للجامع مع أنّ لزوم الجامع في موارد التقابل غير صحيح، فإنّ من التقابل تقابل الإيجاب والسلب والعدم والملكة والتضايف، ولا يمكن الجامع في الأوّل وكذا في الثاني، حيث إنّ التقابل بين الملكة وعدمها، هو تقابل الوجود والعدم مع اعتبار القابلية للوجود ولو بحسب الجنس، والتضايف اتّصاف كلّ من الأمرين بما يقتضي النسبة بينهما، بل لا جامع في موارد تقابل التضاد إلاّ كون الضدّين من مقولة واحدة، ومن الظاهر أنّ اللفظ فيهما لم يوضع للمقولة وإلاّ لصحّ استعمال اللفظ في غيرهما، ممّا يدخل في تلك المقولة.(1).سورة آل عمرانالآية 7.(2).المحاضرات1 / 202.اختلفوا في جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد على سبيل الانفراد والاستقلال[1].ولولا امتناعه فلا وجه لعدم جوازه[2].ثمّ لو تنزّلنا عن ذلك، فلا وجه للتفصيل بالجواز على نحو الحقيقة في التثنية والجمع وعلى نحو المجاز في المفرد[3].وهمٌ ودفعٌلعلّك تتوهّم أنّ الأخبار الدالّة على أنّ للقرآن بطوناً سبعة أو سبعين تدلّ على وقوع استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد[4].استعمال اللفظ في أكثر من معنى[1] المراد باستعمال اللفظ في أكثر من معنى، إرادة كلّ من المعنيين أو المعاني منه كما إذا لم يستعمل إلاّ في أحدهما أو أحدها، وقد اختار (قدس سره) عدم إمكان استعمال اللفظ كذلك في أكثر من معنى، وذكر في وجه امتناعه لزوم الخلف أو اجتماع المتنافيين.وتقريرهأنّ الاستعمال ليس مجرّد الإتيان بعلامة للمعنى، بحيث يكون مبرزاً لإرادته ليقال بإمكان كون شيء علامة لأُمور متعدّدة فضلا عن أمرين، بل هو عبارة عن جعل اللفظ باللحاظ وجهاً وعنواناً للمعنى، فانياً فيه فناء الوجه في ذي الوجه، بل وكأنّ اللفظ عين المعنى، وكأنّه الملقى خارجاً، كما عبّر عن ذلك بقوله «بوجه، نفسه» يعني جعل اللفظ ولحاظه بنحو يكون عين المعنى، والشاهد على ذلك سراية الحسن والقبح من المعاني إلى الألفاظ، فيكون اللفظ مقبولا للطباع بمقبوليّة معناه ومنفوراً عندها بالتنفّر عن معناه.وعلى ذلك يكون لحاظ اللفظ فانياً في معنى كذلك منافياً للحاظه في نفس الوقت فانياً في معنىً آخر، إذ لحاظه فانياً في معنىً آخر يوجب عدم لحاظه في المعنى الأوّل، إلاّ أن يكون اللاحظ أحول العينين فيرى اللفظ لفظين يمكن له لحاظ أحدهما فانياً في أحد المعنيين والآخر فانياً في الآخر منهما.أقول: لا أرى محذوراً في لحاظ اللفظ فانياً في كل من المعنيين وكأنّ كلاًّ منهما وجود لذلك اللفظ، وقد تسلّم (قدس سره)في الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ بإمكان لحاظ العامّ بحيث يكون وجهاً وعنواناً لكلّ من أفراده وكأنّه عين كلّ منها، وفيما نحن فيه يلاحظ اللفظ كأنّه عين كلّ من المعنيين وكلّ من المعنيين وجود له، ولذا يشار إلى النقد الرائج في عصرنا ويقالإنّه الدرهم والدينار اللّذان أهلكا الناس في العصور المتتالية.وأمّا ما ذكر ـ من أنّ لحاظ اللفظ فانياً في المعنى الثاني بحيث كأنّه هو الثاني، ولازمه عدم لحاظه عين الأوّل في ذلك الآن إذ لحاظه عين الأول فرض لاجتماع المتنافيين ـ فلا يمكن المساعدة عليه؛ وذلك لأنّ لحاظه عين الثاني يلازم عدم لحاظه في ذلك الآن عين الأوّل، إذا لم يمكن الجمع في تنزيل اللفظ منزلة كلّ من الشيئين في آن واحد ومع إمكان التنزيل فلا مانع منه.والسرّ في ذلك أنّ التنزيل ليس من جعل الشيء شيئاً آخر حقيقةً، بل هو قسم من الوهم والخيال ولا واقعية له ليقال إنّ الواحد حقيقة لا يكون اثنين، وبالجملة اللفظ وإن كان له وجود واحد، وذلك الوجود وجود للفظ حقيقة ووجود للمعنى بالتنزيل، إلاّ أنّه لا مانع من كونه وجوداً تنزيلياً للمعنى الآخر أيضاً في حين كونه وجوداً تنزيلياً للمعنى الأوّل، غاية الأمر أنّ ما ذكره في الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ من أنّ العامّ يصلح وجهاً وعنواناً لكلّ من أفراده، يراد به الوجهيّة والعنوانيّة الحقيقيّة، بخلاف وجهيّة اللفظ وعنوانيّته لمعانيه، فإنّها اعتبارية وجعلية، فالعنوانية لا تنافي لحاظ المتعدّد بالعنوان الواحد، وعليه فلا محذور في لحاظ معنيين بلفظ واحد، فإنّه لحاظ تنزيلي وليس من قبيل إخراج الواحد إلى المتعدّد حقيقة، هذا أوّلا.وثانياًأنّ حقيقة الاستعمال ليس ما ذكره (قدس سره) لحاظ اللفظ عين المعنى أو كأنّه نفس المعنى حتى يكون اللحاظ مقوّماً للاستعمال، بل الاستعمال هو الإتيان بعلامة المعنى عند إرادة تفهيمه بحيث يكون اللفظ مبرزاً له، وغفلة المتكلّم عن نفس اللفظ في مرحلة الاستعمال بلحاظه كأنّه المعنى ناش عن الأُنس بالاستعمال وعدم غرض له إلاّ في نفس تفهيم المعنى ونقله إلى ذهن السامع، ولذا لا يكون الاستعمال على هذا الاسلوب في بداية تعلّم الإنسان لغات غير لسانه، وكذا في موارد يكون المتكلّم فيها في مقام إظهار كمال فصاحته وبلاغته.أفلا ترى أنّ غير العربي في أوائل تعلّمه اللسان العربيّ أو المتكلّم المتصدي لإلقاء خطبة يظهر بها بلاغته وفصاحته ملتفت إلى الألفاظ كمال الالتفات، وهذا شاهد صدق على كون حقيقة الاستعمال إبراز المعاني بالألفاظ وجعلها كاشفة عن مراداته.وأمّا حديث سراية الحسن والقبح إلى الألفاظ فلا يشهد لما ذكره، فإنّ سرايتهما من ذي العلامة إلى علامته، ممكن وواقع، فإنّ بعض الناس يكرهون بعض الطيور لكونها عندهم علامة الابتلاء وخراب البيوت وتشتّت الأهل، ويحبّون بعضها الآخر بحيث يفرحون برؤيتها حيث إنّها عندهم علامة الرخاء والنعمة والرحمة.والمتحصّل أنّه لا محذور في استعمال اللفظ وإرادة معان متعدّدة منه في استعمال واحد وجعله علامة لإرادة كلّ منها بنحو الاستقلال، إلاّ أنّه على خلاف الاستعمالات المتعارفة فلا يحمل كلام المتكلّم عليه إلاّ مع القرينة عليه.ولو ورد في كلامه لفظ مشترك ولم تكن في البين قرينة على تعيين المراد من معانيه يكون الكلام مجملا، فلا يحمل على إرادة جميع المعاني لا بنحو الاشتراك المعنوي ولا بنحو استعمال العشرة في مجموع آحادها ولا على الاستعمال في أكثر من معنى حتّى بناءاً على جوازه كما هو المختار.وذكر المحقّق النائيني (قدس سره) أنّ استعمال اللفظ في أكثر من معنى ممتنع ولو قيل بأنّ الاستعمال عبارة عن الإتيان بالمبرز والعلامة للمعنى ووجه الاستحالةأنّ استعمال اللفظ في كلّ من المعنيين يتوقف على لحاظ كل منهما في آن واحد بالاستقلال بأن تلاحظ النفس كلاًّ منهما بلحاظ مستقلّ في آن واحد، وهو غير مقدور للنفس(1).وفيهأنّه لا محذور في اجتماع اللحاظات المتعددّة من النفس في زمان واحد وشاهده صدور أفعال مختلفة من الإنسان في زمان واحد مع أنّ كلاًّ من الأفعال مسبوق بالإرادة ومن مباديها اللحاظ، وكذا يشهد لذلك صدور الحكم فإنّ الحكم يتوقّف على لحاظ الموضوع والمحمول والنسبة في آن الحكم.نعم الشيء الواحد لا يلاحظ في آن واحد بلحاظين فيما إذا لم يكن بين اللحاظين اختلاف أصلاً بأن يحضر ذلك الشيء مرّتين عند النفس في آن واحد، فإنّه من قبيل إحضار الحاضر بخلاف ما إذا كان اختلاف في نحوي اللحاظ كما تقدّم في التنزيل وجعل اللفظ عين المعنى، وإذا قلنا بأنّ الاستعمال عبارة عن الإتيان بالمبرز فلا يحتاج إلى تعدّد اللحاظ في ناحية اللفظ أصلاً فإنّ كون شيء واحد علامة للمتعدّد لا مجال للمناقشة فيه، كما تقدّم.[2] إشارة إلى ما ذهب إليه صاحب القوانين (قدس سره) من عدم جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى مفرداً أو غيره، بمعنى عدم صحته من غير أن يكون امتناع في البين، وذكر في وجه عدم الجواز لغة، أنّ الوضع في الألفاظ توقيفي فلابدّ من رعاية الأمر الحاصل حال الوضع وهو وحدة المعنى يعنى أنّ الواضع عند وضعه اللفظ لم يلاحظ مع المعنى المفروض شيئاً من سائر المعاني، فاللازم أن يكون استعماله فيه أيضاً على طبق الوضع، وعلى ذلك فلا يجوز استعمال اللفظ في أكثر من معنى حتّى في التثنية والجمع، فإنّ الوضع فيهما أيضاً كان كالمفرد حال انفراد المعنى أي عدم إرادة طبيعة أُخرى مع المعنى الذي تكون هيئتهما موضوعة لإفادة التعدّد من ذلك المعنى.ولا يخفى ضعف ما ذكره، فإنّه لا اعتبار بحال الوضع فيما إذا لم يكن ذلك الحال مأخوذاً في ناحية الموضوع له أو في نفس الوضع، والمفروض أنّ وحدة المعنى لم تلاحظ قيداً في شيء منهما ولو لزم رعاية الحال حتّى مع عدم أخذه في ناحية شيء منهما لكان رعاية سائر الحالات أيضاً لازماً بان يستعمل اللفظ في المعنى في الليل خاصة فيما إذا كان الوضع بالليل مثلاً وإلى هذا يرجع ما ذكره الماتن(قدس سره) من أنّ وحدة المعنى وتوقيفية الوضع لا تقتضي عدم الجواز.[3] يعني لو تنزّلنا عن الالتزام بامتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى وبنينا على جوازه، فلا وجه للتفصيل بين التثنية والجمع، وبين المفرد، وأنّ الاستعمال في التثنية والجمع بنحو الحقيقة، وفي المفرد بنحو المجاز، كما اختار ذلك في المعالم بدعوى أنّ المفرد موضوع للمعنى المأخوذ فيه الوحدة واستعماله في أكثر من معنى يوجب إلغاء قيد الوحدة عنه، فيكون اللفظ الموضوع للكلّ مستعملا في الجزء فيكون مجازاً، بخلاف التثنية والجمع فإنّهما بمنزلة تكرار اللفظ، وكما أنّه مع تكرار اللفظ يجوز إرادة معنى من كل لفظ غير المعنى المراد من لفظ آخر، كذلك الحال فيما هو بمنزلته.وأجاب (قدس سره) بأنّ الوحدة ليست جزءاً من الموضوع له، فإنّه لا معنى لوحدة المعنى إلاّ انفراده وعدم انضمام معنى آخر إليه، فيؤخذ المعنى بشرط لا بالإضافة إلى سائر المعاني واستعماله في الأكثر استعمال للفظ فيه بشرط معنى آخر، فيكون المعنى بشرط لا، مع المعنى بشرط بشيء، متبانيين لا من استعمال اللفظ الموضوع للكلّ في جزئه.وأمّا التثنية والجمع فكلّ منهما يتضمّن مادة وهيئة، فالهيئة فيهما موضوعة لإفادة التعدّد من معنى المادة، بأن يكون معنى هيئة التثنية فردين من الطبيعة، وهيئة الجمع ثلاثة أو أكثر منها والجمع في الأعلام يؤول كما في التثنية فيها، بأن يراد من زيد فيهما المسمّى به.ومع الإغماض عن ذلك بأن يقال إنّ الهيئة فيهما موضوعة لإفادة مطلق التعدّد، سواء كان بإرادة الأفراد أو المعاني الأُخر، فلا يكون استعمال لفظ عينين في الذهب والفضة مثلا من استعمال اللفظ في أكثر من معنى، نعم لو أُريد فردان من الذهب وفردان من الفضّة لكان منه، ولكن لا وجه معه، للتفصيل بين المفرد وبين التثنية والجمع بالتزام المجاز في الأوّل، والحقيقة في الثاني لاستلزام الاستعمال في كلّ منه ومنهما إلغاء قيد الوحدة.ثمّ إنّه ربّما يقال بجواز استعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى، بخلاف اللفظ الموضوع لمعنى واحد، فإنّه لا يجوز استعماله فيه وفي معناه المجازي؛ لأنّ استعماله في معناه المجازي يقتضي نصب القرينة واستعماله في معناه الحقيقي يقتضي عدمها، فلا يمكن الجمع بينهما في استعمال واحد.والجواب أنّ عدم الحاجة إلى القرينة في استعماله في معناه الحقيقي إنّما هو في حال استعماله فيه فقط، وأمّا مع استعماله في معناه المجازي أيضاً كما هو المفروض، فلابدّ من نصب القرينة على الجمع في الاستعمال.[4] ربّما يختلج بالبال أنّ الأخبار(2) الواردة في ثبوت البطون للقرآن يمكن أن يستظهر منها وقوع استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ووجه الاستظهار ظهور تلك الأخبار في إرادة كلّ من البطون السبعة أو السبعين من القرآن بارادة مستقلّة ولو لم يجز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد لم يكن يراد من الآية الواحدة إلاّ معنىً واحد ولم تكن سائر المعاني المعبّر عنها بالبطن والبطون داخلة في مدلولها لتكون بطناً لها، والوجه في التعبير عنها بالبطن والبطون خفاء تلك المعاني عن غير أوليائه الذين نزل الكتاب في بيوتهم، وأُمر الناس بولايتهم، وقرن طاعتهم بطاعته وطاعة رسوله، صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين.وأجاب الماتن (قدس سره) عن ذلك بوجهين: الأوّلأنّه لا دلالة في تلك الأخبار على إرادة تلك المعاني المعبّر عنها بالبطون بنحو إرادة المعنى من اللفظ عند استعماله فيه، بل لعلّ تلك المعاني كانت مرادة بأنفسها عند استعمال الآية في معناها الظاهر فيها، وبتعبير آخر لم يستعمل كلمات الآية في تلك المعاني استعمال اللفظ في المعنى، بل كانت تلك المعاني منظورة من الآية ومرادة منها بلا استعمال اللفظ فيها.وفيه: أنّ إرادة أمر بنفسه عند استعمال لفظ في معنى لا يوجب كون الأوّل بطناً للثاني، مثلاً إذا قال والد في مقام وعده أحد أولادهأُعطيك غداً ديناراً، وكان من قصده اتفاقاً إعطاء الدينار لسائر أولاده أيضاً، فلا يكون إعطائه لهم بطناً لكلامه.الثانيأنّ المراد بالبطون لوازم معاني القرآن وأنّ اللفظ يستعمل في معنى يعبّر عنه بالمعنى الظاهر، إلاّ أنّ لإرادة ذلك المعنى من اللفظ أو لنفس ذلك المعنى لوازم، لخفائها وقصور أذهاننا عن الوصول إليها أطلق عليها البواطن، ومن البديهي أنّ الدلالة على اللازم أجنبيّ عن استعمال اللفظ في أكثر من معنى بحيث يكون كلّ معنى مراداً مستقلاًّ من اللفظ.وقد يستدلّ لهذا الوجه الثاني بروايات متواترة إجمالا، منها ما عن أبي جعفر(عليه السلام)قال«يا خيثمة القرآن نزل أثلاثاً.ولو أنّ الآية إذا نزلت في قوم ثمّ مات أُولئك القوم ماتت الآية لما بقي من القرآن شيء، ولكنّ القرآن يجري أوّله على آخره ما دامت السموات والأرض» الحديث(3).أقوللا دلالة لهذه الطائفة من الأخبار على أنّ بطن القرآن يكون من قبيل لازم المعنى أو من قبيل الملزوم له، بل يحتمل أن يكون المراد بالبطن أنّ المذكور في الآية وإن كان من قبيل حكاية واقعة خاصّة ماضية أو حاضرة أو بيان حكم لواقعة إلاّ أنّ واقع الآية قضيّة سارية كليّة.مثلا قوله سبحانه (فَاسْئَلُوا أهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُوْنَ)(4) في واقعها بيان لعدم عذرية الجهل بترك الفحص ومخالفة الحقّ اعتقاداً أو عملا في الأُصول والفروع، وأنّ الشخص مع تمكّنه من الوصول إلى الحقّ ـ ولو بالسؤال عمن يعلم ذلك الحقّ ـ إذا تركه، يؤاخذه اللّه به، وأنّ ترك السؤال ممن يعلم الحقّ ـ ولو لعدم إحرازه أنّه يعلم الحقّ، مع تمكّنه من إحراز أنّه يعلمه ولو بالفحص ـ لا يكون عذراً، ومن أظهر مصاديق هذا المعنى عدم الرجوع في تعلّم الأحكام الشرعية إلى الائمة (صلوات اللّه عليهم أجمعين) كما ورد في عدّة من الروايات «نحن أهل الذكر ونحن المسؤلون أمر الناس بسؤالنا»(5).مع أنّ ظاهر الآية الأمر بسؤال علماء الأديان الأُخرى عمّا يردّد على أسماع الناس من أنّ النبوّة تناسب المَلَك لا البشر، فينبغي أن يكون رسول ربّ العالمين ملكاً لا يأكل الطعام، وقد ذكر سبحانه(6)f أنّ هذه الوسوسة لا تكون عذراً لهم في ترك الإيمان بالنبي (صلّى الله عليه وآله)؛ لأنّ أنبياء السلف كانوا رجالا، ويمكن تحصيل العلم بذلك بسؤال علماء الأديان السابقة.وبالجملة لا ينحصر البطن للقرآن بما ذكره ثانياً من لوازم معناه المستعمل فيه.ثمّ إنّ ثبوت البطون للقرآن وقصور أذهاننا نوعاً عن الوصول إليها من غير ورود حجّة معتبرة عن الأئمّة (عليهم السلام) لا يمنع عن اعتبار الكتاب المجيد بالإضافة إلى ظواهره، كيف وقد أُمرنا بالتمسّك بالكتاب العزيز والعترة الطاهرة (عليهم السلام)كما أُمرنا بعرض الأخبار المأثورة عنهم (عليهم السلام) على الكتاب وردّ ما ينافيه مما لا يعدّ قرينة عرفية على ظواهره، وكذا عرض الحديثين المتعارضين على الكتاب والأخذ بما يوافقه، ولو لم يكن لظاهر الكتاب اعتبار لما صحّ الإرجاع المفروض والأمر بالعرض عليه.وأمّا الأخذ بالبواطن فيما لا يساعده الظاهر فهو دائر مدار ورود النصّ عنهم(عليهم السلام) فإنّهم هم الأعرفون بظواهر الكتاب والعاملون ببواطنه، وأمّا بيان باطنه بما لا يعدّ الظاهر قرينة عليه داخل في تفسير القرآن بالرأي، وإسناد الشيء إلى اللّه سبحانه من غير علم به، ويكون من اتّباع الظنّ وإنّ الظنّ لا يغني من الحقِّ شيئاً.ثمّ إنّه ربّما يذكر كثمرة لهذا البحث حكم قصد المصلي في قرائته سورة الحمد أن ينشأ الحمد بما يقرأه من قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِيْنَ)(7) وأن ينشأ الدعاء بإدخال نفسه في قوله تعالى(إهْدِنا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيْمَ)(8) حيث إنّ قصده القراءة من قبيل استعمال الألفاظ في الألفاظ النازلة إلى الرسول الأعظم من ربّ العالمين بقصد حكايتها، فتكون قرائته بقصد إنشاء الحمد بها أو بقصد الدعاء من استعمال ما يتلفّظ به في معنى آخر أيضاً على نحو الاستقلال.ولكن لا يخفى ما فيه.فإنّه قد تقدّم في بحث استعمال اللفظ في اللفظ أنّ اللفظ لا يستعمل في اللفظ أصلاً بل يلقى بنفسه خارجاً فيكون الملقى خارجاً نفس اللفظ الملحوظ إبتداءاً، فإذا لاحظ القارئ سورة الحمد وأراد قرائتها فيوجد بما يتلفّظ به عين ما لاحظه من السورة فتكون قراءة.ولا ينافي ذلك أن يريد من ألفاظها المعاني التي كانت للسورة عند نزولها، وأن يقصد ما تقتضي تلك المعاني عند قرائتها من إدخال نفسه في مدلول الضمير ونحو ذلك، كما لا يخفى.(1).أجود التقريرات1 / 51.(2).البحار92 / 78، الباب 8 من كتاب القرآن.(3).البحار92 / 115، الباب 12 من كتاب القرآن، الحديث 4.(4).سورة النحل: الآية 43؛ وسورة الأنبياءالآية 7.(5).الأُصول من الكافي1 / 210.(6).سورة الفرقانالآيات 7 ـ 20.(7).سورة الحمدالآية 1.(8).سورة الحمدالآية 6.الثالث عشرإنّه اختلفوا في أنّ المشتقّ حقيقة في خصوص ما تلبّس بالمبدأ في الحال أو فيما يعمه وما انقضى عنه[1].ثمّ إنّه لا يبعد أن يراد بالمشتقّ في محلّ النزاع مطلق ما كان مفهومه ومعناه جارياً على الذوات[2].وهذا بخلاف ما كان مفهومه منتزعاً عن مقام الذات والذاتيات[3].ويمكن حلّ الإشكال بأنّ انحصار مفهوم عامّ[4].المشتق[1] الخلاف في المشتقّ نظير الخلاف المتقدّم في الصحيح والأعمّ إنّما هو في سعة معنى المشتقّ وعدم سعته بأن تكون هيئات المشتقّات موضوعة لمعاني تنطبق على ما له المبدأ فعلا ولا تنطبق على ما لا يكون تلبّسه بالمبدأ حين الانطباق فعليّاً، أو أنها موضوعة للأعم بحيث تنطبق على ما يكون تلبّسه بالمبدأ عند الانطباق فعلياً أو منقضياً.وبتعبير آخرلا خلاف في عدم سعة معنى المشتقّ بحيث ينطبق فعلا على ما يكون تلبّسه بالمبدأ في المستقبل ولو اُطلق وانطبق عليه معنى المشتقّ فعلا يكون ذلك بنحو من العناية وإنّما الخلاف في سعة معناه بالإضافة إلى ما انقضى عنه المبدأ وعدم سعته.والمراد بالمشتقّ في المقام خصوص ما يحمل معناه على الذوات، فالأفعال والمصادر المزيد فيها وإن كان يطلق عليها المشتقّ في اصطلاح علماء الأدب، إلاّ أنّ النزاع في المقام لا يعمّهما؛ لعدم صحّة جري معانيها على الذوات، والمراد بالذات كل ما يتلبّس بالمبدأ بأحد أنحاء التلبّس والاتّحاد، سواء كان بنحو الحلول كما في الأسود والأبيض، أو الانتزاع كما في المالك والمملوك، أو الصدور والإيجاد كالضارب والقاتل.وبتعبير آخر: لا يراد بالذات ما يقابل العرض، بل يعم ما يكون عرضاً، كقولهسواده شديد أو ضعيف.وزعم صاحب الفصول (قدس سره) أنّ النزاع في المقام يختصّ باسم الفاعل وما بمعناه من الصفات المشبهة وما يلحق بها من النسب، كالكوفيّ والبصريّ، والوجه فيما زعمه أنّه ذكر لكلّ من سائر المشتقّات معنى واعتقد أنّه متّفق عليه عند الكلّ، قال: «أمّا اسم المفعول فيكون بعض صيغه لخصوص المتلبّس، كالمملوك فإنّه إذا قيل: (هذا مملوك زيد) يراد أنّه ملكه فعلا، لا أنّه كان ملكاً له سابقاً ولو صار ملك شخص آخر بالفعل، وبعض صيغه يكون للأعمّ كما في المكتوب، فإنّه إذا قيل(هذا مكتوب زيد) فلا يراد أنّه يكتبه فعلا، وكذا غيره من المشتقّات»(1).وفيه أن المبادئ المأخوذة في المشتقّات تختلف بحسب الفعلية والشأنية والصناعة والملكة واختلافها كذلك يوجب اختلاف فعلية التلبّس بالمبادئ، فإن كان المبدأ أمراً فعلياً كما في المالك والمملوك، يكون المتلبّس بالمبدأ هو المتلبس بالمبدأ الفعلي، وإن كان المبدأ صنعة كما في المكتوب، يكون المتلبّس بنحو الصنعة متلبّساً بالمبدأ، ويلاحظ الانقضاء بالإضافة إلى الأمر الفعلي في الأوّل وبالإضافة إلى الصنعة في الثاني، وهذا الاختلاف الناشئ من ناحية المادّة لا يوجب اختلافاً في ناحية هيئة المشتقّ التي يبحث عن مفادها في المقام.وعن المحقّق النائيني (قدس سره) خروج أسماء الآلة عن مورد النزاع؛ لكونها موضوعة للاستعداد والقابلية، ولا يعتبر فيها تلبّس الذات بالمبدأ أصلا، فضلا عن اعتبار بقائه وعدم انقضائه، مثلا لفظ مفتاح موضوع بهيئته لما فيه استعداد الفتح به وإن لم يتلبّس بالفتح أصلاً، وكذا لا نزاع في المقام في إسم المفعول، فإنّ صيغة «مفعول» موضوعة لما يقع عليه الفعل، والذات بعد وقوع الفعل عليها لا تنقلب إلى غيره، والمقتول من وقع عليه القتل والشخص بعد وقوع القتل عليه لا يتصف بغيره، وكذا مثل الممكن والممتنع والواجب والعلّة والمعلول؛ لعدم انقضاء المبدأ عن الذات في أمثالها، فإنّ المبدأ في مثل ما ذكروا إن لم يكن عين الذات إلاّ أنّه كالذاتيّات، غير قابل للانفكاك والانقضاء(2).ولكن لا يخفى أنّ شيئاً مما ذكره (قدس سره) لا يصلح لخروج المذكورات عن مورد الخلاف في المقام؛ وذلك لأنّ غاية ما أفاده أنّ المبدأ في أسماء الآلات أُخذ بنحو الاستعداد والقابلية لا الفعليّة، ولكن هذا لا يقتضي عدم وضع الهيئة للمتلبّس بالمبدأ بالمعنى المفروض، بل الهيئة تكون موضوعة له بالفعل، ويكون الانقضاء فيه بلحاظ انقضاء الاستعداد والقابلية، كما إذا انكسر بعض أسنان المفتاح بحيث لا يصلح للفتح به، فيكون من الذات المنقضي عنها المبدأ، وكون المبدأ في ضمن هيئة أمراً فعلياً وعملا خاصاً لا ينافي كونه في ضمن هيئة أُخرى بمعنى استعداد ذلك الأمر والشأنية لذلك العمل، فلا يقال إنّ معنى لفظ (فتح) بهيئة المصدر أمر فعلي فكيف يكون في إسم الآلة استعدادياً وأما إسم المفعول فلم يحرز أنّ الموضوع لهيئته ما وقع عليه المبدأ، بل من المحتمل وضعه لما يقوم به المبدأ قياماً وقوعيّاً، فبعد انقضاء القيام بالوقوع عليه لا ينطبق معناه عليه إلاّ بلحاظ حال القيام وإلاّ فيجري ما ذكره في صيغ إسم الفاعل أيضاً، فيقالإنّ هيئته موضوعة لذات صدر عنها الفعل، والذات بعد صدور الفعل عنها لا تنقلب إلى غيره.وأمّا مثل الممكن والواجب والمعلول مما لا يتصوّر في مبدئه الانقضاء، فقد تقدّم أنّ النزاع في المقام في ناحية هيئة المشتقّات، والهيئة فيما ذكر لم توضع مستقلّة، بل وضعت في ضمن وضع هيئة إسم الفاعل أو المفعول أو الصفة المشبّهة، وعليه فعدم تحقّق الانقضاء في بعض المبادئ لاينافي وضع الهيئة الداخلة على المبدأ مطلقاً لمعنى وسيع ينطبق على المنقضي أيضاً في موارد إمكان الانقضاء، كما يمكن وضعها لمعنى أضيق لا ينطبق إلاّ على الذات المتلبّسة بالمبدأ.[2] يجري الخلاف في المقام في بعض الأسماء الجامدة التي لا يصحّ إطلاق المشتقّ عليها في اصطلاح علماء الأدب؛ لأنّ اللفظ فيها بهيئته ومادته موضوع بوضع واحد، بخلاف المشتقات بحسب اصطلاحهم التي يكون فيها لكل من الهيئة والمادة وضعاً، وتلك الأسماء هي الجارية على الذوات ممّا تكون معانيها منتزعة عنها بملاحظة اتّصافها بأمر عرضي أي اعتباري كالزوج والزوجة، والرق والحر ونحوها.وعلى ذلك فلا يبعد أن يراد بالمشتق في المقام ما يعمّ مثل هذه الأسماء بأن يكون المراد منه كلّ لفظ يكون معناه مأخوذاً من الذات بملاحظة اتّصافها بعرض أي بمبدأ متأصّل، كالضرب والقتل، أو بملاحظة اتّصافها بعرضي (أي بأمر اعتباري) فتكون النسبة بين المشتق بحسب اصطلاح علماء الأدب وبين المراد في المقام العموم من وجه؛ لخروج بعض ما يطلق عليه المشتق بحسب اصطلاحهم عن محلّ الكلام كالأفعال والمصادر المزيد فيها، ودخول بعض ما لا يطلق عليه المشتق بحسبه فيه كالجوامد المشار إليها، ولو لم يكن المراد بالمشتق ما يعم تلك الأسماء الجامدة كما هو مقتضى الجمود على ظاهر لفظ المشتق الوارد في عنوان الخلاف، فلا ينبغي التأمّل في أنّ النزاع الجاري فيه، جار فيها أيضاً كما يشهد لذلك ما عن الإيضاح(3)وغيره في المسألة المعروفة في كون المراد من الزوجة في حرمة أمّ الزوجة، خصوص المتلبّس بالزوجيّة أم يعمّ المنقضى عنها.أقول: لا بأس بالتكلّم في تلك المسألة بما يناسب المقام، ولها صور: الصورة الأُولىفيما إذا أرضعت الكبيرتان زوجته الصغيرة مع الدخول بالمرضعة الأُولى فقط، ففي هذه الصورة تحرم المرتضعة على زوجها مؤبداً؛ لأنّها إمّا بنته إذا كان اللبن منه، أو ربيبته من المرضعة الأُولى المدخول بها، إذا لم يكن اللبن منه.وهل تحرّم المرضعة الأُولى أيضاً؟ المشهور أنّها تحرم مؤبّداً كالمرتضعة؛ لكونها أُمّاً لزوجته الصغيرة، فيشملها قوله سبحانه(وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ) الآية(4).ولكن قد يناقش في حرمتها بأنّ ظاهر الآية المباركة حرمة من تكون أُمّاً لزوجته حال اتّصافها بالزوجية، بأن يجتمع كونها أُمّاً وكون بنتها زوجة في زمان واحد، وليس الأمر في الفرض كذلك، فإنّه في زمان تحقّق أُمومة المرضعة ترتفع زوجية المرتضعة، فلا يجتمعان.وقد أُجيب عن المناقشة بما حاصلهإنّ مقتضى التضايف بين الأُمومة والبنوّة أن يكون تحقّق الأُمومة للمرضعة، مساوياً لحصول البنوّة للمرتضعة، وبما أنّ حصول البنوّة للصغيرة علّة لارتفاع الزوجية عنها، فيتأخّر ارتفاع الزوجيّة رتبة عن حصول البنوّة لها وعن الأُمومة للمرضعة، كما هو مقتضى التضايف بين الأُمومة والبنوّة وتأخّر كلّ معلول عن علّته، وعلى ذلك تكون الصغيرة متّصفة بالزوجية في رتبة حصول الأُمومة للمرضعة، فتجمع أُمومة المرضعة مع زوجية المرتضعة في الرتبة، وهذا المقدار يكفي في صدق أنّ المرضعة أُمُّ زوجته.وفيهأنّ ما ذكر لا يصحّح اجتماع الأُمومة للمرضعة وزوجيّة الصغيرة في زمان واحد.والمدّعى في المناقشة ظهور الآية المباركة في اجتماعهما في الزمان، وبتعبير آخرارتفاع الزوجية عن الصغيرة لصيرورتها بنتاً أو ربيبة للزوج يتوقّف على تمام الإرضاع الموجب لصيرورتها بنتاً للمرضعة وصيرورة المرضعة أُمّاً لها، وبتمامه ترتفع الزوجية، فيكون حصول الأُمومة مقارناً لانحلال الزوجية، فلا يجتمعان في الزمان.وأمّا ما رواه الكليني (قدس سره)، عن علي بن محمد، عن صالح بن أبي حماد، عن علي بن مهزيار، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قيل له إنّ رجلا تزوّج بجارية صغيرة، فأرضعتها امرأته، ثمّ أرضعتها إمرأة له أُخرى، فقال ابن شبرمة: حرمت عليه الجارية وامرأتاه، فقال أبو جعفر (عليه السلام): «أخطأ ابن شبرمة، تحرم عليه الجارية وامرأته التي أرضعتها أوّلا، وأمّا الأخيرة فلم تحرم عليه، كأنّها أرضعت ابنته»(5)، فهو وإن كان ظاهراً في حرمة المرضعة الأُولى، إلاّ أنّه قد يناقش فيه بوجهين: الأوّلأنّ الرواية مرسلة، فإنّ ظاهر نقل فتوى ابن شبرمة أنّ المراد بأبي جعفر هو الباقر (عليه السلام)، وعليّ بن مهزيار لم يدرك الباقر (عليه السلام)، فتكون الرواية مرسلة.ولكن لا يخفى ما فيه، فإنّ علي بن مهزيار ظاهر نقله أنّه بالحسّ، وهذا يكون قرينة على أنّ المراد بأبي جعفر هو الجواد (عليه السلام)، ونقل فتوى ابن شبرمة إليه (عليه السلام)لا يكون قرينة على خلاف ذلك.ولعلّ ناقل الفتوى شخص آخر قد سمعها منه مباشرة أو مع الواسطة نقلها إلى أبي جعفر الثاني (عليه السلام).الثانيأنّ في سند الرواية صالح بن أبي حمّاد، ولم يثبت له توثيق لو لم نقل بثبوت ضعفه؛ لقول النجاشي «وكان أمره ملتبساً يعرف وينكر»(6).أقولهذا أيضاً لا يصلح لسقوط الرواية عن الاعتماد عليها، لا لدعوى انجبار ضعفها بعمل المشهور، ليقال أنّه لم يظهر استناد المشهور إليها، بل لعلّهم استفادوا الحكم من ظاهر الآية الشريفة كما تقدّم، بل لأنّ الرواية رواها الشيخ في التهذيب(7)عن الكليني (قدس سره) بالسند المفروض، ولكن ذكر في فهرسته أنّ له إلى كتب علي بن مهزيار ورواياته طريقاً صحيحاً إلاّ نصف كتاب مثالبه(8)، وهذه تدخل في روايات علي بن مهزيار، ويبعد كونها من روايات كتاب المثالب، مع أنّ طريقه إلى نصفه الآخر فيه إبراهيم بن مهزيار الذي قد يناقش في ثبوت التوثيق له، لكن لا يبعد عدّه من المعاريف الذين لم يرد فيهم قدح، فالرواية لتبديل أمر سندها لا مجال للمناقشة في سندها.وقد يقال في المقامإنّ تفريق فخرالمحقّقين (قدس سره) بين المرضعتين، ليس لفارق بينهما في الابتناء على وضع المشتق ليقال بأنّ الالتزام بحرمة المرضعة الأُولى والخلاف في الثانية بلا وجه، بل الالتزام بحرمة الأُولى للإجماع والنصّ الصحيح في موردها، دون الثانية، ولذلك بنى حرمة الثانية على مسألة المشتق، وأوضح الحكم فيها من طريق القاعدة.والنصّ هو صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) «لو أنّ رجلا تزوّج بجارية رضيعة فأرضعتها امرأته فسد النكاح»(9).وظاهرها فساد نكاح الرضيعة، ويحتمل فساد نكاح المرضعة.ولكن لا يخفى ما فيه، فإنّ الكلام في المقام في حرمة المرضعة الأُولى مؤبّداً ولا دلالة للصحيحة على فساد نكاحها، فضلا عن حرمتها، بل ظاهرها فساد نكاح الرضيعة وحرمتها مؤبّداً، وهذا لا كلام فيه، كما تقدّم.وذكر المحقّق النائيني (قدس سره) أنّ من المحتمل أن يكون صدق الزوجة على الرضيعة في زمان كافياً في حرمة أُمّها حتّى لو كان حصول الأُمومة بعد انقضاء الزوجية، حيث لم يقيّد حرمة أُمّ الزوجة في الآية بكونها أُمّاً للزوجة الفعلية، بل إطلاقها يعمّ من تكون أُمّاً للزوجة الفعلية، بل إطلاقها يعمّ من تكون أُمّاً للزوجة السابقة، نظير حرمة الربيبة، حيث لا يعتبر في حرمة بنت الزوجة المدخول بها كونها بنتاً لها حال كونها زوجة.والحاصل أنّ ما نحن فيه نظير ما يأتي من قوله سبحانه (لا يَنَالُ عَهْدِي الظّالِمِيْنَ)(10) من كون الظالم في زمان لا ينال العهد إلى الأبد(11).وفيه أنّ ظاهر الخطاب دوران الحكم مدار بقاء العنوان، وكون حدوث عنوان موجباً للحكم في المعنون إلى الأبد ولو مع عدم بقاء العنوان يحتاج إلى قرينة، مع أنّ الموضوع للحكم في المقام أُمّهات نسائكم، لا أُمّهات من كانت من نسائكم، وظاهر الأوّل تحقّق الأمومة في زمان انتساب المرأة إلى الإنسان بالزوجية، ولا يقاس المقام بمسألة بنت الزوجة، فإنّ الحرمة في الخطاب لم تتعلّق بعنوان بنت الزوجة ليقال فيه ما تقدّم في أُمّ الزوجة، بل تعلّقت بعنوان الربيبة، والربيبة بنت من تزوّج بها سواء كانت بنتيّتها قبل الزواج أو بعد انقضائه.والمتحصل أنّ العمدة في المقام هو أنّ دليل الحكم ـ بحرمة المرضعة الأُولى كالصغيرة مؤبّداً ـ ما تقدّم من الرواية التي صحّحنا سندها.الصورة الثانيةما إذا أرضعت الكبيرتان الصغيرة، مع الدخول بالمرضعة الثانية فقط، فتكون المرتضعة محرّمة عليه مؤبّداً بعد إرضاع الكبيرتين؛ لما تقدّم في الصورة الأُولى، ويحكم بفساد نكاح المرضعة الأُولى من غير حرمة، ووجهه أنّها قبل تحقّق الرضاع من المرضعة الثانية تكون أُمّاً للصغيرة، والصغيرة بنتاً لها، وبما أنّه لا يمكن الجمع بين الأُمّ والبنت في النكاح فيبطل نكاحهما؛ لأنّ تعيين البطلان في أحدهما بلا معين إلاّ أنّ يدعى بأن مجرّد النكاح على البنت كاف في تحريم أُمّها، بخلاف العكس، وعليه تحرم المرضعة الأُولى مؤبّداً لكونها أُمّاً لزوجته.الصورة الثالثةما إذا أرضعت الكبيرتان زوجته الصغيرة مع الدخول بالكبيرتين وقد نقل الماتن (قدس سره) هذا الفرع عن الإيضاح، والحكم فيها بعينه ما تقدّم في الصورة الأُولى.الصورة الرابعةما إذا أرضعتاها بلا دخول بهما، وفي هذه الصورة لا تحرم الصغيرة ولا الكبيرتان.نعم يكون نكاح الصغيرة والمرضعة الأُولى باطلا؛ لما تقدّم من عدم إمكان جمعهما في النكاح، وتعيين البطلان في أحدهما بلا معيّن، وعلى الاحتمال الآخر يبقى نكاح الصغيرة وتحرم المرضعتان مؤبّداً؛ لكون كلّ منهما أُمّاً لزوجته.[3] المنتزع عن مقام الذات كالأنواع، والمنتزع عن الذاتيّات كالجنس والفصل خارجان عن مورد النزاع، فإنّه لا يطلق على الملح المتبدّل إليه الكلب، أنّه كلب، وعلى التراب المتبدّل إليه الإنسان، أنّه إنسان، بل كان كلباً أو إنساناً، والوجه في ذلك أنّ شيئية الأشياء إنّما هي بصورها لا بالهيولى والقوة القابلة لها حتّى بنظر العرف أيضاً، وإذا زالت الصورة انعدم الشيء ولا يمكن انطباق الشيء على عدمه.[4] وقد يناقش في جريان النزاع في أسماء الزمان، بأنّ زمان الفعل ينقضي وينصرم بنفسه، فلا يكون له بقاء بعد انقضاء المبدأ ليبحث في انطباق عنوان إسم الزمان عليه بعد انقضاء المبدأ أو عدم انطباقه.وذكر (قدس سره) أنّه يمكن حلّ الإشكال بأنّ زمان الفعل وإن كان متصرّماً ينقضي بنفسه ولا يمكن أن يكون له بقاء بعد انقضاء المبدأ، إلاّ أنّ هذا لا ينافي النزاع في أسماء الأزمنة باعتبار ما تقدّم سابقاً من أنّ النزاع في المقام يقع في ناحية هيئة المشتقّات ويكون البحث في أنّها موضوعة لخصوص المتلبّس، أو أنّ معناها عامّ شامل له وللمنقضي، وهذا بعينه قابل لأن يجري في اسم الزمان أيضاً بأن يكون البحث في أنّه موضوع لخصوص المتلبس أو للأعمّ، ولو كان وضعه للأعمّ لكان إطلاقه على المتلبّس من قبيل إطلاق اللفظ الموضوع للكلّي على أحد فرديه، وامتناع فرده الآخر خارجاً لا يوجب اختصاص الوضع بفرده الممكن، كما أنّه وقع الخلاف في لفظ الجلالة بأنّه علم شخصي لذات الحقّ (جلّ وعلا) أو أنّه إسم للكلّي وإطلاقه عليه سبحانه من إطلاق اللفظ الموضوع للكلّي على فرده الممكن فقط، ولو كان امتناع فرد آخر من الكلي موجباً لعدم وضع اللفظ إلاّ لخصوص فرده الممكن لما تحقّق هذا الخلاف بينهم، وأيضاً لما كان اتفاق على أنّ الموضوع له في لفظ الواجب هو الكلي مع انحصار فرده بواحد.أقولما ذكره (قدس سره) من أنّ امتناع فرد آخر من الكلي لا يوجب وضع اللفظ لفرده الممكن متينٌ، بل وضع اللفظ بإزاء كلّي لا يمكن منه حتّى فرد واحد كمعنى شريك الباري بمكان من الإمكان، فإنّ الغرض من الوضع تفهيم المعنى ومن الظاهر أنّ قصد التفهيم كما يكون في المفاهيم والمعاني الممكنة، كذلك يكون في الممتنعة أيضاً إلاّ أنّ ما ذكره من أنّ لفظ الواجب موضوع لكلّي لا يمكن منه إلاّ فرده الواحد، غير تامّ؛ وذلك لأنّ الواجب وإن كان يقيّد ويقال «الواجب بذاته وبلا علّة» ويراد منه ما لا يمكن انطباقه إلاّ على ذات الحقّ (جلّ وعلا) وهو ما لا يمكن فرض عدمه أو فرض العلّة له، إلاّ أنّه لم يوضع لهذا المعنى.والذي أظنّه أنّ الإشكال في أسماء الأزمة لا يكون راجعاً إلى امتناع وضعها للأعمّ ليجاب عنه بما ذكر، بل يرجع إلى أنّ البحث فيها في المقام لغو لا يترتّب عليه ثمرة، إذ الأحكام الشرعية الثابتة لعناوين الأسماء المفروضة ترتفع بارتفاع الزمان الواقع فيه المبدأ ـ سواء قيل بوضعها لخصوص المتلبّس أو للأعمّ ـ وهذا بخلاف سائر المشتقّات كاسم الفاعل، فإنّه إذا ورد الأمر بإكرام العالم مثلاً، فبناءً على وضعه لخصوص المتلبّس لا يحكم باستحباب إكرام من زال عنه العلم بنسيان أو غيره، وبناءً على القول بوضعه للأعمّ يحكم باستحبابه أيضاً، وهذا بخلاف إسم الزمان فإنّ الذات فيه وهو الزمان ينقضي بانقضاء المبدأ، فلا يكون في الخارج ذات انقضى عنها المبدأ ليثبت لها الحكم بناءً على القول بوضعه للأعمّ.نعم لو قيل بأنّ هيئة (مفعل) لم توضع بإزاء زمان الفعل تارة ولمكانه أُخرى، بل وضعت لمعنى واحد لهما ـ ويؤيّد ذلك عدم اختلاف أسماء الزمان والمكان في الهيئة، بل لهما هيئة واحدة ـ لكان جريان النزاع فيها بلا كلام، حيث تترتّب الثمرة على البحث في معناها كما لا يخفى.وقد يقال إنّ الالتزام بأنّ هيئة مفعل، موضوعة لمعنى ينطبق على الزمان والمكان غير مفيد، ووجهه أنّ تلبّس المكان بالمبدأ نحو تلبّس، وتلبّس الزمان به نحو آخر، وعنوان الظرفية والوعائية وإن كان يطلق على كلا التلبسين إلاّ أنّه جامع عرضيّ انتزاعيّ، لا يمكن أخذه في معنى إسم الزمان والمكان، فإنّه لا يكون معنى المقتل عنوان وعاء القتل، كما أنّ الالتزام بأخذ ما يكون وعاءً بالحمل الشائع، مضافاً إلى أنّه غير مفيد، يوجب أن يكون الوضع عامّاً والموضوع له خاصّاً، فإنّ الموضوع له أشخاصه.أقولالوضع في ناحية المشتقّات أي هيئاتها يكون عامّاً والموضوع له خاصّاً لا محالة؛ لأنّ الهيئة تتضمّن معنىً حرفيّاً لا محالة، فالكلام في أنّ هيئتي إسم الزمان وإسم المكان، هل وضعتا لمعنى يشار إليه ويعبّر عنه بعنوان «ما يقع فيه المبدأ» بالخصوص، أو وضعتا لما يعبّر عنه بعنوان «ما خرج فيه، المبدأ إلى الفعلية» سواء بقيت فيه الفعلية أو انقضت؟ فإذا وضعتا بوضع واحد للأوّل، يكون الوضع فيهما مختصّاً بالمتلبّس الفعلي، وإذا وضعتا كذلك للثاني، يكون الوضع للأعمّ، وبهذا اللحاظ يجري النزاع.هذا مع أنّ للتأمّل في اختلاف تلبّس الزمان بالمبدأ عن تلبّس المكان به مجالا واسعاً.وأجاب المحقّق النائيني (قدس سره) عن الإشكال في أسماء الزمان بأنّ الذات المأخوذة فيها يمكن أن تكون كلية، كاليوم العاشر من المحرّم، وما وقع فيه الفعل كالقتل وإن كان الموجود منه فرداً من أفراده وينقضي بانقضاء القتل فيه، إلاّ أنّ الذات وهو المعنى الكلي يكون باقياً حسب أفراده المتجدّدة بعده(12).وفيهأنّ العامّ يعني الكلي، وإن كان يتكثّر بتكثّر أفراده وتسري إليه أوصاف أفراده فيتّصف بوصف كلّ منها، إلاّ أنّ حدوث فرد من الكلّي وارتفاعه، وحدوث فرد آخر منه بعد ذلك، لا يصحّح بقاء العامّ بذلك الوجود، فإنّ الحادث وجود آخر والمأخوذ في معنى إسم الزمان ولو كان عامّاً إلاّ أنّ ما هو ظرف للمبدأ وجود واحد لا بقاء له على الفرض وحدوث فرد آخر لا يصحّح كون الكلي بذلك الوجود متّصفاً بالمبدأ، ويتّضح ذلك بملاحظة المأخوذ من الذات في معنى لفظ المجتهد، فإنّه ليس خصوص زيد، بل المأخوذ فيه مطلق الذات المتصفة بالاجتهاد، وقيام مبدأ الاجتهاد بزيد يوجب اتّصاف الإنسان بالمبدأ المفروض، ولكن لا يوجب ذلك صدق المجتهد على سائر أفراد الإنسان بدعوى أنّ المأخوذ في معنى المجتهد كلي الذات المتصفة بالاجتهاد لا خصوص زيد الموصوف بمبدأ الاجتهاد.والسرّ في ذلك أنّ لكل فرد من أفراد الإنسان وجوداً، قد يتّصف الطبيعي بوصف بعض وجوداته وينطبق عليه عنوان باعتبار بعض أفراده ولكن هذا لا يوجب بقاء الطبيعي الموصوف بوصف ما، بوجود فرده الآخر.وقد ذكر هذا الوجه لعدم جريان الاستصحاب في القسم الثالث من الكلي.وربّما يقالإنّ للزمان بقاءاً اعتباراً، فإنّ اليوم باق مادام لم تغرب الشمس، والليل باق مادام لم تطلع الشمس أو الفجر؛ ولذا يجري استصحاب بقاء الشهر أو اليوم أو الليل ونحو ذلك، وهذا النحو من البقاء كاف في جريان النزاع في اسماء الزمان، حيث إنّ اليوم العاشر من كلّ سنة وإن لم يكن مقتلا للحسين (عليه السلام)إلاّ أنّ اليوم العاشر من سنة إحدى وستين يصدق عليه مقتله (عليه السلام)حتّى بعد الزوال أيضاً، بناءاً على أنّ المشتقّ حقيقة في مطلق ما تلبّس بالمبدأ وإن انقضى تلبّسه.أقولما ذكر من الاعتبار في النهار والليل والشهر ونحوها لا ينكر، كما في بحث جريان الاستصحاب في ناحية الزمان، ولكن هذا لا يثمر في جريان النزاع في أسماء الزمان، والوجه في ذلك أنّ الذات المأخوذة في معنى المشتق أو الملازم لمعناه ـ كما يأتي ـ مبهمة من جميع الجهات غير تلبّسها بالمبدأ، والعناوين الاعتبارية كالنهار والليل، لم يؤخذ شيء منها في معنى إسم الزمان، وما أُخذ فيه من المعنى المبهم إنّما ينطبق على نفس القطعة الزمانية التي وقع فيها الفعل، والمفروض أنّها لا تبقى بعد انقضاء التلبّس.نعم، في المقام أمرٌ، وهو أنّه لو أُخذ في بعض الخطابات الشرعية مقتل الحسين (عليه السلام)ونحوه موضوعاً لآداب، يكون ذكر الآداب قرينة على أنّ المراد به مثل ذلك الزمان لا نفسه، ومثله وإن كان فرداً آخر حقيقة إلاّ أنّ إطلاق مقتله (عليه السلام)عليه باعتبار أنّ أهل العرف يرون المثل عوداً لنفس ذلك الزمان ولو تسامحاً.(1).الفصول الغرويةص 48.(2).أجود التقريرات1 / 83.(3).الإيضاح3 / 52.(4).سورة النساءالآية 23.(5).الوسائلج 14، باب 14 من أبواب ما يحرم بالرضاع، الحديث 1.(6).رجال النجاشيص 198، رقم 526، ط جماعة المدرسين.(7).التهذيب7 / 293، رواية 1232.(8).الفهرستص 232، ط جامعة مشهد.(9).الوسائلج 14، باب 10 من أبواب ما يحرم بالرضاع، الحديث 1.(10).سورة البقرةالآية 124.(11).أجود التقريرات1 / 55.(12).أجود التقريرات1 / 56.ثالثهاإن من الواضح خروج الأفعال والمصادر المزيد فيها عن حريم النزاع[1].قد اشتهر في ألسنة النحاة دلالة الفعل على الزمان حتّى أخذوا الاقتران في تعريفه[2].ويؤيّده أنّ المضارع يكون مشتركاً معنوياً[3].إلاّ أنّك عرفت فيما تقدّم عدم الفرق بينه وبين الإسم[4].رابعهاأنّ اختلاف المشتقات في المبادئ[5].المراد بالحال في عنوان المسألة هو حال التلبس[6].لا أصل في نفس هذه المسألة يعوّل عليه[7].لأجل توهّم اختلاف المشتق باختلاف مبادئه في المعنى أو بتفاوت ما يعتريه من الأحوال[8].[1] المصادر المزيد فيها وإن كان يطلق عليها المشتق باصطلاح علماء الأدب إلاّ أنّها كالمصادر المجرّدة لاتحمل على الذوات، فإنّ معانيها عبارة عن المبادئ وما تتّصف به الذوات وما يقوم بها، ومع انقضاء التلبّس عن الذوات لا يمكن انطباقها على عدمها، وهكذا الأفعال فإنّها مركبة من المبادئ والهيئات، أمّا مباديها فالحال فيها كالحال في المصادر لا يمكن أن تنطبق على عدمها، وأمّا هيئاتها فلأنّها دالّة على قيام تلك المبادئ بالذوات قيام صدور أو حلول أو غير ذلك، ومع انقضاء المبدأ عن الذات لا قيام للمبدأ بها.[2] ذكر النحاة في الفرق بين الإسم والفعل بعد اشتراكهما في الدلالة على معنىً مستقل ـ أي مستقل في اللحاظ ـ أنّ ذلك المعنى المستقل بمجرده مدلول الإسم ولا يدلّ الإسم على اقترانه بأحد الأزمنة، بخلاف الفعل فإنّه يدلّ على معنىً مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة، وعباراتهم في التفرقة بين الإسم والفعل توهم دخول الزمان في مدلول الأفعال بخلاف الأسماء، حيث إنّ الزمان خارج عن مداليلها فهذا الوهم فاسد جدّاً ـ سواء كان مراد علماء الأدب في تعريف الإسم والفعل هذا أو غيره ـ، فإنّ من الأفعال عندهم الأمر والنهي وليس لهما دلالة على الزمان، فإنّ الأمر يدلّ على إنشاء طلب الفعل، والنهي على إنشاء الزجر عنه أو طلب الترك، غاية الأمر يكون الإنشاء حال التكلّم لا محالة، كما هو الحال في الإخبار ولو بالجملة الإسميّة، كقوله زيد ابن عمرو، أو بالجملة الفعلية كضرب زيد أو يضرب عمرو، بل لا دلالة للفعل الماضي أو المضارع على الزمان؛ ولذا لا يكون عناية وتجريد عند إسنادهما إلى الزمان والمجردات.وبالجملة لا ينبغي التأمّل في أنّ الزمان غير مأخوذ في معنى الفعل لا في ناحية معنى المادة ولا في ناحية معنى الهيئة، نعم لمعنى هيئة الماضي والمضارع عند دخولها على المادة خصوصية، وتلك الخصوصية تقتضي زمان الماضي أو الحال والاستقبال فيما كان الإسناد إلى الزماني، فإنّ الماضي يدلّ على انتساب المبدأ بنحو التحقّق والمضارع على انتسابه بغيره من الفعليّة أو الترقّب ودلالة هيئتهما على ذلك بنحو ما تقدّم في معاني الحروف، لا على عنوان الانتساب الموصوف بالتحقّق أو الترقّب.ثمّ إنّه لو كان في البين قرينة على لحاظ الترقّب أو التحقّق بالإضافة إلى زمان فلا كلام، كما في قوله: (يجيئني زيد بعد عامّ وقد ضرب قبله بثلاثة أيام) وكما في قوله: (جائني زيد في شهر كذا وهو يضحك) حيث لوحظ تحقّق الضرب في الأوّل بالإضافة إلى زمان المجيء، والفعلية أو الترقّب في الضحك بالإضافة إلى زمانه أيضاً في الثاني، وإلاّ يحمل التحقّق والترقّب على أنّهما بالإضافة إلى زمان الاخبار، وهذا هو المراد بالاطلاق في قول الماتن (قدس سره)«بل يمكن منع دلالة غيرهما على الزمان إلاّ بالاطلاق والإسناد إلى الزمانيات».[3] هذا تأييد لعدم دخول الزمان في مدلول الأفعال وأنّ الداخل في مدلولها خصوصية انتساب المبدأ إلى الذات، وتقتضي تلك الخصوصية فيما كان الفاعل من الزمانيات أحد الأزمنة.ووجه التأييد أنّه لا جامع بين زماني الحال والاستقبال إلاّ معنى لفظ الزمان، ومفهوم الزمان معنى إسمي غير داخل في معنى هيئة الأفعال حتّى عند النحويين، فإنّ ظاهر كلامهم دلالة الفعل على معنى مقترن بمصداق الزمان، فلابدّ من أن يكون مرادهم أيضاً أن للهيئة في فعل المضارع خصوصية تقتضي زمان الحال أو الاستقبال.أقوللم يثبت من النحويين التزامهم بالاشتراك المعنوي في هيئة فعل المضارع بمعناه المعهود ليشكل عليهم بأنّ الهيئات ليس لها معان إسميّة حتّى يتصوّر فيها الاشتراك المعنوي، بل لعلّ مرادهم أنّ صيغة فعل المضارع تدلّ على ما يوصف به انتساب المبدأ إلى الفاعل بكونه في غير الزمان الماضي من الحال أو الاستقبال، فالمراد بالاشتراك الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ، كما في الحروف وهيئات سائر الأفعال.وغاية ما يرد عليهم أنّ خصوصية النسبة المستفادة من هيئة الفعل الماضي أو الفعل المضارع وإن كانت تقتضي الاقتران بالأزمنة فيما كان الفاعل من الزمانيّات إلاّ أنّ اقتضاء الخصوصية لا يوجب دخول الزمان وأخذه في مدلوله ليلزم العناية أو التجريد في موارد الإسناد إلى الزمان أو المجرادت.فيكون الحال في الفعل الماضي أو المضارع مثل الجملة الإسميّة كـ(زيد ضارب)، حيث إنّه نسب (ضارب) إلى (زيد) بنسبة تحقّقية أو بنسبة ترقّبية، وهذه النسبة تقتضي أحد الأزمنة الثلاثة لا محالة؛ لكون (زيد) من الزمانيّات، والفرق أنّ تعيين كون النسبة في (زيد ضارب) تحقّقية أو ترقّبية يكون بالقرينة العامة أو الخاصة، بخلاف تعيينها في الفعل فإنّه يكون بالوضع، حيث إنّ هيئة الفعل الماضي تدلّ على نسبة تحقّقية وهيئة المضارع على نسبة ترقّبية.وممّا ذكر يظهر أنّ في عبارة الماتن (قدس سره) تسامحاً، فإنّه (قدس سره) ذكر أنّ للمضارع معنىً يصحّ انطباقه على الحال والاستقبال ووجه التسامح أنّ معنى الفعل ـ سواء كان ماضياً أو مضارعاً ـ لا ينطبق على الزمان، بل ينطبق على النسبة الخارجية المقتضية للزمان فيما كان الفاعل من الزمانيات، وكذلك الحال في الجملة الإسميّة كـ(زيد ضارب)، فتدبّر.[4] ذكر (قدس سره) فيما تقدّم أنّه ليس الاختلاف بين الحرف والإسم في نفس الموضوع له والمستعمل فيه لا بالذات ولا بالاعتبار، بل الموضوع له والمستعمل فيه فيهما واحد وهو ما يتعلّق به اللحاظ الالي تارة والاستقلالي أُخرى، من غير دخل للحاظين في الموضوع له والمستعمل فيه، والاختلاف في كيفية اللحاظ عند استعمالهما معتبر في وضعهما حيث إنّ الإسم وضع لذلك المعنى الذي يكون من قبيل الكلي الطبيعي؛ ليلاحظ عند الاستعمال بما هو هو، والحرف وضع له ليستعمل فيه عند لحاظه آلياً، فالمعنى الموضوع له والمستعمل فيه في نفسه في كلّ منهما كلي طبيعي، وكيفية اللحاظ عند الاستعمال لا تدخل في المستعمل فيه لا في الاسماء ولا في الحروف، ولذا تكون معاني الأسماء والحروف كلّيات تنطبق على الخارجيات، وتصدق على كثيرين.ولو قيّد المعنى باللحاظ، بأن يكون واقع اللحاظ الآلي أو الاستقلالي داخلا في المعنى، يكون المستعمل فيه جزئيّاً ذهنياً وكليّاً عقلياً، حيث إنّ الوجود الذهني كالخارجي يكون شخصاً لا محالة، بحيث لو لوحظ المعنى المفروض ثانياً، يكون اللحاظ الثاني وجوداً ذهنياً آخر مثل الأوّل، ويكون المعنى مع أنّه جزئي ذهني ـ حيث أن المقيّد بأمر ذهني يكون ذهنياً لا ينطبق على الخارج ـ كليّاً عقليّاً، وقد ذكرنا أنّ المراد بالكلي العقلي، مرآتيّة الملحوظ وحكايته عن كثيرين في الخارج من غير أن ينطبق عليها ليكون عين ما في الخارج، ويمكن تشبيهه بالصورة المنقوشة على الجدار من إنسان أو غيره، فإنّها تحكي الخارج وتشير إليه من غير أن تكون عين الخارج، وأضاف هنا إلى ما تقدّم، التوفيق بين جزئية المعنى الحرفي بل الإسمي وبين كليّته ـ أي كونه كلّياً طبيعياً يصدق على كثيرين في الخارج ـ بأنّ المعنى الموضوع له والمستعمل فيه إذا قيّد بواقع اللحاظ، يعني الوجود الذهني، يكون جزئى ذهنياً وكلياً عقلياً، وإذا أُغمض عن اللحاظ الذي هو من كيفيّات الاستعمال ومقدّماته يكون نفس المستعمل فيه كلّياً طبيعياً يصدق على الخارجيات.أقول: قد تقدّم أنّ المعنى الحرفي يختلف عن المعنى الإسمي ولا اتحاد بينهما أصلاً وأنّ الاختلاف ليس بحسب اللحاظ فقط ليقال إنّ اللحاظ غير داخل في المستعمل فيه فيهما، بل قد ذكرنا في الفرق ما ملخّصه: أنّ الحرف إذا ذكر مجرّداً لا يكون له معنى، وإذا دخل على الإسم أو غيره دلّ على خصوصيّة في معنى المدخول بحسب الخارج، فتكون تلك الخصوصية، نسبية وغير نسبية، مثلا إذا قيل (سرت من البصرة إلى الكوفة) فكلمة (من) الداخلة على (البصرة) تدلّ على أنّها في نسبة السير إليها معنونة بعنوان المبدئية له، بخلاف ما إذا قلنا (ابتداء السير)، فإنّ لفظ (الابتداء) يضاف إلى (السير) لا إلى (المكان) فلا يدلّ على خصوصية المبدئية في النسبة ليقال إنّ المستعمل فيه فيهما أمر واحد، وقلناإنّ هذا هو السرّ في عدم استعمال أحدهما في موضع الآخر، لا أنّ الاختلاف بينهما يكون بمجرد اللحاظ فراجع وتأمّل.وقد ذكرنا هناك أيضاً أنّ نفس الخصوصية الخارجية في مدلول المدخول ليست هي معنى الحرف ليقال إنّ الحرف لم يستعمل في شيء، في صورة الكذب في الاخبار، بل مدلول الحرف تلك الخصوصية بصورتها المندكّة في معنى المدخول؛ ولذا لا يكون للحروف معان إخطارية، فالاسم يدلّ على معنىً في نفسه، والحرف يدلّ على معنىً في غيره، والخصوصية المدلول عليها بالحرف في معنى الغير، تصحّح اتصاف معنى المدخول بعنوان إسمي كالمبدئية.[5] قد تقدّم أنّ النزاع في المقام في ما وضع له هيئات المشتقّات وأنّه ينطبق على ما انقضى عنه المبدأ، أو لا ينطبق إلاّ على ما يكون تلبّسه بالمبدأ فعلياً، ولكنّ المراد بالمبدأ في المشتقات يختلف، فيكون المراد بالمبدأ في بعضها بنحو الحرفة، وفي بعضها بنحو الصنعة، وفي بعضها بنحو الملكة، وفي بعضها بنحو الشأنية أو الاستعداد، وفي بعضها بنحو الفعلية، وهذا الاختلاف في المبادئ لا يوجب اختلافاً في دلالة الهيئات، ولا تفاوتاً في محلّ النزاع، والفرق بين الحرفة والصناعة أنّ الأُولى لا تحتاج إلى التعلّم بخلاف الثانية.ثمّ إنّ اختلاف المشتقّات بحسب المبادئ لا يوجب الاشتراك اللفظي في ناحية المبادئ من جهة ظهور المبدأ في الفعلية وظهور المشتق في الاستعداد وغيره، لإمكان إرادة الملكة أو الاستعداد أو غيرهما من المبدأ ولو بنحو المجاز.وبذلك يظهر أنّ ما ذكر من عدم كون المبدأ موضوعاً للاستعداد فلا يمكن أن يكون مستفاداً من مشتقّاته أيضاً، كما في الفتح والمفتاح، فإذا لم يستعمل الفتح في الاستعداد، فكيف يستعمل المفتاح في استعداد الفتح، لا يمكن المساعدة عليه إذ الاستعداد للفتح غير داخل في مدلول الهيئة، بل الهيئة قرينة على إرادة الاستعداد من المبدأ ولو مجازاً، حيث إنّ الآلية لشيء لا تستلزم إيجاد ذلك الشيء بها فعلا.[6] تعرّض (قدس سره) في هذا الأمر لبيان المراد من الحال الوارد في عنوان المسألة، وظاهر كلامه أنّ المراد به فعليّة المبدأ للذات، حيث إنّ انطباق معنى المشتق على الذات مع فعلية تلبّسها بالمبدأ ليس محلّ كلام، وإنّما الكلام في انطباق معناه عليها مع انقضاء تلبّسها بالمبدأ، وعلى ذلك فإن كان حمل معنى المشتق على الذات وتطبيقه عليها مع فعلية المبدأ لها، كان الحمل والتطبيق حقيقيين، سواء كانا في الزمان الماضي أو الحال (أي زمان النطق) أو المستقبل.وأمّا لو كان حمله عليها وتطبيقه بلحاظ انقضاء الفعلية، فكونهما حقيقيين مبنيّ على سعة معنى المشتق، وعلى كل تقدير، فلا عبرة بزمان النطق المعبّر عنه بالزمان الحال، نعم يحمل عليه حال الفعلية فيما إذا لم تكن في البين قرينة على تعيينها في غيره.وذكر المحقّق النائيني (قدس سره) أنّ الحال يطلق على معان ثلاثة؛ الأوّلزمان النطق الذي تقدّم عدم دخله في معنى المشتق.والثانيزمان التلبّس يعني زمان تلبّس الذات بالمبدأ.والثالثفعليّة التلبّس بالمبدأ وأنّ المراد بالحال في عنوان المسألة هو المعنى الثالث لا الثاني، كما في عبارة كثير من الأعلام، منهم صاحب الكفاية(قدس سره)، حيث ذكروا أنّ المراد به هو المعنى الثاني(1).أقول: ليس في عبارة الماتن (قدس سره) دلالة على ما ذكره، بل ظاهرها أنّ المراد بالحال فعلية المبدأ، بمعنى أنّ حمل المشتق على ذات ـ يكون تلبسها بالمبدأ فعليّاً ـ حقيقي، وحمله على ذات ـ يكون تلبّسها بالمبدأ منقضياً في ظرف الحمل ـ محلّ النزاع، ويشهد لذلك قوله (قدس سره)«ويؤيد ذلك اتّفاق أهل العربية على عدم دلالة الإسم على الزمان»(2)، فإنّ مقتضاه خروج الزمان عن مدلول المشتق سواء كان المراد به خصوص أحد الأزمنة الثلاثة، أم زمان التلبّس الذي يعمّ الماضي والحال والاستقبال.[7] إن كان المراد بالأصل، الأصل اللفظي، فلا ينبغي التأمّل في أنّه لا بناء من العقلاء ولا من أبناء المحاورات على كون المعنى عامّاً أو خاصّاً فيما إذا دار أمر الموضوع له بينهما.نعم قد يقالإنّ اللفظ فيما إذا استعمل في موردين ودار أمره بين كون اللفظ موضوعاً للجامع بينهما، ليكون استعماله في كلّ من الموردين حقيقة أو كان موضوعاً لخصوص أحدهما، ليكون استعماله في المورد الآخر مجازاً، يرجّح الاشتراك المعنويّ لأجل غلبة الاشتراك المعنوي على المجاز.ولكن لا يخفى أنّ غلبة الاشتراك المعنوي على الحقيقة والمجاز غير محرزة، وعلى تقدير الغلبة، فلا دليل على الترجيح بها.ونظير ذلك ما يدّعى من أنّ المشتقّ يستعمل كثيراً في موارد الانقضاء، فلو لم يكن مشتركاً معنوياً وكان موضوعاً لخصوص المتلبّس لزم المجاز في غالب موارد استعمالاته، فلا محالة يكون مشتركاً معنوياً، حذراً من غلبة المجاز في موارد استعماله.وفيه أيضاً كما يأتي أنّ استعماله في موارد الانقضاء بلحاظ حال التلبّس حقيقة مع أنّ غلبة المجازية لا توجب الالتزام بالاشتراك المعنوي أو اللفظي، فإنّ باب المجاز في الاستعمالات واسع.وإن كان المراد بالأصل الأصل الشرعي ـ يعني الاستصحاب ـ فلا ينبغي التأمّل في عدم الأصل الشرعي أيضاً؛ لأن استصحاب عدم لحاظ الخصوصية في الموضوع له ـ مع عدم إثباته ظهور المشتق ووضعه للعموم، لعدم كون ظهوره في العموم أمراً شرعياً مترتباً على عدم لحاظ الخصوصية ـ معارض باستصحاب عدم لحاظ العموم والإطلاق.وذكر الماتن (قدس سره) أنّه إذا انقضى تلبّس الذات بالمبدأ، ثمّ جعل التكليف للموضوع بعنوان المشتق، سواء كان بمفاد القضية الخارجية أو بمفاد القضية الحقيقية، فيرجع إلى البراءة عنه بالإضافة إلى الذات المذكورة، وأمّا لو جعل الحكم قبل انقضاء التلبّس عنه، ثمّ انقضى عنه المبدأ، فيستصحب الحكم فيه.وبالجملة مقتضى الأصل العملي البراءة عن التكليف في الأوّل، وبقاء التكليف في الثاني.أقولقد يقال بعدم الفرق بين الفرضين، ففي كلٍّ منهما يجري استصحاب بقاء الموضوع، وبإحراز بقائه يثبت الحكم، بأن يقال في الفرض الأوّل إنّ زيداً كان في السابق عالماً وبعد انقضاء تلبّسه بالمبدأ يشكّ في بقائه عالماً؛ لاحتمال كون المشتق حقيقة في الأعمّ، وإذا ثبت بالاستصحاب كونه عالماً يترتّب عليه الحكم الوارد في خطاب أكرم العلماء، فإنّه يكفي في جريان الاستصحاب كون المستصحب موضوعاً للحكم ولو في زمان الاستصحاب (أي في بقائه)، وكذا الحال فيما إذا ورد الخطاب في زمان تلبّس زيد بالمبدأ ثمّ انقضى عنه المبدأ، فإنّه يستصحب كونه عالماً، فيترتب عليه الحكم الوارد في الخطاب.ولكن لا يمكن المساعدة على هذا القول المذكور، وذلك لعدم جريان الاستصحاب في ناحية الموضوع في موارد الشبهة المفهومية، كما هو المفروض في المقام، وقد تعرّضنا لذلك في مبحث الاستصحاب، وبيّنا أنّ ظاهر خطاب النهي عن نقض اليقين بالشكّ أن يحتمل الشخص بقاء ذلك المتيقّن الحاصل خارجاً، بأن يكون المحتمل بقاء نفس ذلك الموجود الذي علم به، وفي الشبهات المفهومية لا مشكوك كذلك، فإنّه في المثال كان يعلم أنّ الذات المتلبّسة بالمبدأ (عالم) وبقاء تلك الذات محرز، وعدم بقاء تلبّسها بالمبدأ أيضاً محرز، فلا يكون شيء في الخارج مشكوكاً، بل المشكوك صدق عنوان (العالم) على الذات المفروضة مع عدم بقاء تلبّسها بالمبدأ، والاستصحاب لا يتكفّل لإثبات الإسم ومعنى اللفظ، كما هو الحال في مسألة استصحاب بقاء النهار فيما إذا شك بانتهائه بغيبوبة القرص أو ذهاب الحمرة المشرقية، فإنّه مع عدم الشكّ في الخارج لا مجال للاستصحاب.وأمّا إجراء الاستصحاب في ناحية الحكم، الذي يظهر من الماتن الالتزام به في الفرض الثاني، فبناءاً على جريان الاستصحاب في الشهبة الحكمية يختصّ جريانه بما إذا شكّ في سعة الحكم المجعول وضيقه من حيث تخلّف بعض الحالات التي يكون ثبوت الحكم للموضوع في تلك الحالات متيقناً، كما إذا شكّ في تنجّس الماء الكثير بعد زوال تغيّره بنفسه، حيث إنّ التغيّر في الماء يعدّ عرفاً من حالات الماء، وإنّ الموضوع للتنجس عرفاً هو الماء، فيجري استصحاب بقاء نجاسة الماء بعد زوال تغيّره؛ لكون التغيّر عرفاً من حالات الماء لا من مقوماته.وأمّا في الموارد التي لا يحرز فيها بقاء العنوان المقوّم للموضوع عرفاً، كصوم نهار شهر رمضان، فلا يجري استصحاب الحكم فيها، إذ الموضوع لوجوب الصوم هو نهار شهر رمضان، والنهار مقوّم لموضوع الحكم عرفاً، فإذا شكّ في بقاء النهار بالشهبة المفهومية، فلا يحرز اتّحاد القضية المتيقّنة والمشكوكة ليجري الاستصحاب في وجوبه والأمر في أكرم العالم كذلك فإنّ عنوان (العالم) مقوّم لموضوع استحباب الإكرام، والذي كنّا على يقين منه، استحباب إكرام زيد بما هو إكرام عالم، ثمّ شككنا في أنّ إكرامه بعد انقضاء علمه إكرام للعالم ليجب، أم لا؟ فالشكّ يكون فيما هو مقوّم للموضوع، ومعه لا يجري الاستصحاب.وبتعبير آخر: لا يجري الاستصحاب في الشبهات الحكمية إلاّ فيما إذا كان انطباق العنوان موجباً لحدوث الحكم بنظر العرف، ويحتمل دخالة بقائه في بقاء الحكم، أو كان المتخلّف من قبيل حالات الشيء عرفاً، فالأول كما في قوله سبحانه(لا يَنَالَ عَهْدِي الظّالِمِيْنَ)(3)، والثاني كما في تغيّر الماء الكثير في أحد أوصافه.[8] كان الاختلاف في معاني المشتقات بين المتقدّمين على قولين: أحدهماأنّها حقيقة في خصوص المتلبّس بالمبدأ، ومجاز في غيره، بمعنى أنّ معاني هيئات المشتقات ضيقة لا تنطبق إلاّ على الذات المتلبّسة بالمبدأ، وهذا القول كان لمتأخّري الأصحاب والأشاعرة.وثانيهماأنّ معاني المشتقات وسيعة تنطبق على المتلبّس والمنقضي، وكان على هذا متقدّمي الأصحاب و المعتزلة، ثمّ حدثت الأقوال الأُخر كالتفصيل بين ما إذا كان مبدأ المشتق لازماً أو متعدّياً والالتزام بسعة المعنى على الثاني دون الأوّل، كما فصّل بين تلبّس الذات بضدّ المبدأ وعدم تلبّسها به، ففي الأوّل يعتبر عدم الانقضاء بخلاف الثاني، وكالتفصيل بين كون المشتق محكوماً عليه فلا يعتبر التلبّس بخلاف ما إذا كان محكوماً به فيعتبر التلبّس، والأخير تفصيل باعتبار ما يعتري المشتق من الحالات، بخلاف الأولين فإنّهما تفصيل في المشتق بحسب المبادئ.وقد ذكر المحقّق النائيني (قدس سره) أنّه لا معنى للنزاع في المشتق بناءاً على بساطة مفهومه، وأنّ هيئته موضوعة للدلالة على اتّحاد المبدأ مع الذات خارجاً، بخلاف نفس المبدأ، فإنّه لوحظ في مقابل الذات ولذا لا يحمل عليها.وبتعبير آخر بعد انقضاء المبدأ عن الذات وارتفاع معنى المشتق لا معنى لانطباقه على عدمه، بل يكون المشتق أوضح خروجاً عن النزاع، من الجوامد التي ذكر خروجها عن محلّ الكلام كالأنواع، ووجه الأولويّة أنّه مع ارتفاع الصورة النوعية في تلك الجوامد تبقى الهيولى والمادّة القابلة للصور، بخلاف المشتقات بناءاً على بساطة مفاهيمها.لا يقال: كيف يستعمل المشتق ولو مجازاً في موارد الانقضاء، أو في موارد التلبّس فيما بعد؟ فإنّه يقال: بما أنّ الموضوع له اتّحاد المبدأ مع الذات والذات الموصوفة بمعنى المشتق باقية، فيكون إطلاق المشتق (الموضوع لجهة الاتحاد) على موصوفه بنحو من المجاز والعناية، وهذا النحو من العناية يمكن في معنى المبدأ أيضاً، فإنّه مع عدم إمكان انطباقه على عدمه يمكن إطلاقه على الذات بنحو من العناية كقولنا(زيد عدل).نعم، لو قيل بدخول الذات في معنى المشتق، فللنزاع في أنّه موضوع لخصوص المتلبّس أو للأعمّ مجال؛ إذ الركن الوطيد والثابت بناءاً على تركّب معناه مفروض، ويمكن أن يكون تلبّسه بالمبدأ كالحيثية التعليلية في صدق المشتق بأن تكون فعلية التلبّس في الذات موجبة لصدق معنى المشتق عليها، ولو بعد انقضاء المبدأ عنها.ثمّ إنّه (قدس سره) عدل عن هذا أيضاً وبنى على عدم إمكان وضع المشتق للأعمّ، حتّى بناءاً على تركّب مفهومه، وذكر في وجه ذلكأنّ الموضوع له لا يمكن أن يكون الذات بإطلاقها، ضرورة أنّ من اللازم أخذ قيد فيها، وهذا القيد لا يكون هو المبدأ، فإنّه ـ بما هو مبدأ ـ أجنبي عن الذات، بل لابدّ من لحاظ نسبة ما ـ ولو كانت ناقصة ـ بين المبدأ والذات، وتكون تلك النسبة جهة اتّحاد المبدأ مع الذات، ومن الظاهر أنّ جهة الاتّحاد لا تكون إلاّ في مورد فعلية التلبّس، والذات المنقضي عنها المبدأ لا تتحد مع المبدأ إلاّ بلحاظ التلبّس وفعلية المبدأ.وإن شئت قلتالذات ـ بعد انقضاء المبدأ عنها ـ خالية عن المبدأ، فكيف تتّحد معه والمبدأ في مورد التلبّس موجود ومتحد مع الذات، ولا يمكن وضع المشتق للجامع بينهما، حيث لا جامع بين الوجود والعدم، نعم يمكن تصوّر الجامع بينهما بإدخال الزمان في معنى المشتق، بأن يكون الموضوع له هي الذات المتحدة مع المبدأ في غير الزمان المستقبل، وهذا يوجب دلالة الأسماء على الزمان، مع أنّ الزمان غير داخل في مداليل الأفعال فضلا عن الأسماء(4).أقوللو أراد القائل ببساطة مفهوم المشتق، ما ذكره (قدس سره) فالأمر كما ذكره، من أنّه بناءاً عليها لا يمكن وضعه للأعمّ، وأمّا لو أُريد بها ما سيأتي بيانه في البحث عن بساطة مفهومه أو تركّبه، فلا منافاة بين البساطة بذلك المعنى ووضعه للأعمّ.وما ذكره ثانياً من أنّ وضع المشتق للأعمّ غير ممكن حتّى بناءاً على تركّب معناه لا يمكن المساعدة عليه، فإنّه بناءاً على التركّب يمكن أخذ قيد «للذات»، بحيث ينطبق معه على المتلبّس والمنقضي، من غير أخذ مفهوم الزمان أو مصداقه أصلاً، بأن توضع هيئة فاعل مثلاً للذات الخاصّة وهي ما انتسب إليها المبدأ بانتساب تحققي بقي الانتساب أم لا، وهذا المعنى كما ينطبق على المتلبّس ينطبق على المنقضي، وإذا لم يمكن ذلك فيمكن وضعها لإحدى الذاتين من المتلبّس والمنقضي، فيكون الموضوع له جامعاً اعتباريّاً وهو عنوان أحدهما، القابل للانطباق على المتلبّس والمنقضي، فإنّ وضع اللفظ للجامع الاعتباري ممكن، بل واقع، ويزيدك وضوحاً ملاحظة الواجب التخييري على ما ذكرنا في محلّه.(1).أجود التقريرات1 / 57.(2).كفاية الأُصولص 44.(3).سورة البقرةالآية 124.(4).أجود التقريرات: 1 / 74؛ وفوائد الأُصول1 / 120.ويدلّ عليه تبادر خصوص المتلبّس بالمبدأ في الحال[1].وصحّة السلب مطلقاً عمّا انقضى عنه[2].إن قلتعلى هذا يلزم أن يكون في الغالب أو الأغلب مجازاً[3].قلتمضافاً إلى أنّ مجرّد الاستبعاد غير ضائر[4].ثمّ إنّه ربّما أورد على الاستدلال السلب[5].الثانيعدم صحّة السلب في مقتول ومضروب عمن انقضى عنه المبدأ[6].الثالثاستدلال الإمام (عليه السلام) تأسّياً بالنبي (صلوات اللّه عليه وآله)[7].حجية القول بوضع المشتق للمتلبس بالحال: [1] ولعلّ مراده من الحال في المقام حال الإسناد وحمل معنى المشتق على الذات، بحيث لو قال مخبرٌ(زيد قائم) ولم يكن في البين قرينة على أنّ إسناد (قائم) إلى (زيد) وحمله عليه بلحاظ زمان آخر، ينصرف الكلام إلى أنّ حال الإسناد والحمل زمان النطق كما تقدّم سابقاً، ويتبادر أنّ تلبّس زيد بالقيام في حال حمل قائم وإسناده إليه.وبتعبير آخر لا يتبادر من المشتق معنى وسيع فحمله على ذات لا يدلّ على أنّ تلك الذات في حال الحمل والتطبيق وحال انقضائه عنها بالنسبة إلى الحال المفروض.ويمكن أن يكون مراده بالحال فعلية المبدأ كما ذكرنا سابقاً، ويقال إنّ المتبادر من المشتق، ما يكون تلبّسه بالمبدأ فعليّاً في مقابل ما يكون تلبّسه بالمبدأ منقضياً وما يكون تلبّسه بالمبدأ فيما بعد، وكما أنّ إطلاقه على ما يكون تلبّسه فيما بعد بنحو من العناية، كذلك إطلاقه على ما انقضى عنه المبدأ يكون بالعناية.[2] المراد بالأطلاق ـ كما يأتي بيانه ـ إطلاق المسلوب، والمراد من السلب نفي ما ارتكز في الأذهان من معنى المشتق عن فاقد المبدأ، وإن كان واجداً له ومتلبّساً به فيما انقضى، ويشهد لصحّة هذا السلب أنّ الذات إذا انقضى عنها المبدأ يصدق وينطبق عليها المشتق المضاد للمشتق الذي انقضي عنها مبدئه، كما في صدق القاعد على ذات انقضى عنها القيام، مع أنّ القاعد والقائم بحسب ما ارتكز في الأذهان من معناهما متضادان، كما هو الحال في مبدئهما.وربما يقرّر تقابل التضادّ بين المشتقات التي مبادئها متضادّة دليلا مستقلاًّ على كون المشتق حقيقة في خصوص المتلبّس بالمبدأ في الحال، بأن يقاللو لم يكن المشتق حقيقة في خصوص المتلبّس بالمبدأ في الحال لما كان بين معنى قاعد ومعنى قائم مثلا تضاد، بل يكونان من المتخالفين في المعنى يصدقان على الذات معاً كما في سائر المتخالفات في المعنى، فإنّه يصدق على (زيد) أنه عالم وأنّه قاعد، وكما لا يكون بين معنى عالم ومعنى قاعد إلاّ التخالف، كذلك بين معنى قاعد ومعنى قائم، بناءاً على عدم وضع المشتق لخصوص المتلبّس بالمبدأ في الحال، ضرورة أنّ التضاد على هذا الفرض يكون بين مبدئهما فقط، فارتكاز التقابل بينهما بنحو التضاد كما هو الحال في مبدئهما، يكون دليلا على أنّ المشتق حقيقة في خصوص المتلبّس في الحال.ولا يرد على هذا التقرير بأن الاستدلال على التضاد بين مثل معنى قاعد ومعنى قائم مصادرة؛ لتوقّف التضاد بينهما على إحراز كون المشتق حقيقة في خصوص المتلبّس في الحال، ولو توقّف إحراز كونه حقيقة في ذلك على ثبوت التضاد لدار.والوجه في عدم الورود هو أنّ التضاد بين معنى قاعد وقائم ثبت بارتكاز أهل المحاورة، فلا يتوقّف على إحراز كون المشتق حقيقة في خصوص المتلبّس في الحال.وربّما يقال مجرد ارتكاز التضاد بين معنى قاعد وقائم لايكون دليلا على كون المشتق حقيقة في خصوص المتلبّس في الحال؛ إذ من المحتمل أن يكون ارتكاز المضادّة لأجل الانسباق الحاصل من اللفظ المطلق، حيث إنّ اللفظ إذا كان له معنى كلي و كان لذلك المعنى فردان بحيث استعمل اللفظ في أحدهما كثيراً حتّى ما كان يحتاج تعيينه في الإرادة إلى ذكر قيد له، بخلاف الآخر حيث كان تعيينه محتاج إلى ذكر القيد له، فمثل هذا الانسباق لا يدلّ على كون اللفظ حقيقة في خصوص الفرد الأوّل.أقوللو تمّ هذا الإشكال لأبطل الاستدلال على كون المشتق حقيقة في خصوص المتلبّس بالمبدأ في الحال بتقرير التضادّ بين المشتقات التي بين مباديها تضادّ، وكذا الاستدلال بتبادر المتلبّس بالمبدأ في الحال، فإنّ التبادر الاطلاقي لا يثبت الوضع لخصوص الفرد المتبادر من الاطلاق وعدم ذكر القيد له وإنّما يثبت الوضع بالتبادر الحاقّي (أي المستند إلى نفس اللفظ)، ولكن لا يبطل الاستدلال بصحّة السلب، فإنّ اللفظ لو كان موضوعاً لمعنى عامّ؛ لما أمكن سلب معناه عن فرده، ولو كان ذلك الفرد من أفراده التي لا يستعمل فيها إلاّ نادراً ومع ذكر القيد مثلا لا يقال (ماء السيل ليس بماء) وإن كان المتبادر من الماء عند إطلاقه في الاستعمالات المتعارفة غيره، كما لا يخفى.وبالجملة جعل المنقضي عنه موضوعاً في السالبة، يدلّ على عدم وضع المحمول لما يعمّه.وأجاب الماتن (قدس سره) عن الإشكالبأنّه لا مجال في المقام لدعوى احتمال الانسباق من الإطلاق؛ وذلك لأنّه لو استعمل لفظ في موردين وكان استعماله في أحدهما نادراً وفي الآخر غالباً، فيمكن أن يدّعى أنّ تبادر المورد الثاني دون الأوّل، مستند إلى كثرة الاستعمال وإطلاقه، وأمّا إذا كان استعماله في كلّ منهما كثيراً، أو كان استعماله في الأوّل أكثر، كما في المقام، حيث إنّ استعمال المشتق في موارد الانقضاء أكثر، فلا يحتمل استناد تبادر المعنى الثاني إلى الاطلاق وغير حاق اللفظ، وعليه فتبادر خصوص المتلبّس بالمبدأ في الحال لا منشأ له إلاّ كون المشتق موضوعاً له دون غيره.وهمٌ ودفعٌ: أمّا الوهم، فلعلّك تقوللا ينحصر الانسباق الإطلاقي بما ذكر؛ إذ ربّما يكون اللفظ موضوعاً للجامع ويستعمل في كلا الموردين، من غير أن يكون استعماله في أحدهما نادراً ومع ذلك ينسبق أحدهما بخصوصه إلى الأذهان عند الاطلاق، وليكن المقام من هذا القبيل مثلا صيغة الأمر تستعمل في مورد الوجوب النفسي وفي مورد الوجوب الغيري، ولا يكون استعمالها في موارد الوجوب النفسي أكثر من موارد الوجوب الغيري، مع أنّه ينسبق إلى الأذهان عند إطلاقها الوجوب النفسي، فلا يكون الانسباق الاطلاقي مختصّاً بموارد ندرة استعمال اللفظ في أحد الموردين وشيوعه في المورد الآخر.أمّا الدفع، فلأنّ تمايز الوجوب النفسي عن الوجوب الغيري بالإطلاق والتقييد ثبوتاً، فيكون فهم الوجوب الغيري في مقام الإثبات أيضاً بالتقييد، وأمّا الوجوب النفسي فيكفي في تفهيمه إطلاق الطلب في مقام الإثبات مع تماميّة مقدّمات الإطلاق ولا يقاس ذلك بما إذا لم يكن امتياز فرد من الجامع عن فرده الآخر بالخصوصيّة الخارجيّة لكلّ منهما، مع تباين تلك الخصوصيّتين، كما في امتياز المتلبّس بالمبدأ في الحال عن المنقضي عنه المبدأ، فلا يكون انسباق المتلبّس من المشتقّ مع كثرة استعماله في موارد الانقضاء من الانسباق الاطلاقي.[3] هذا تعرّض لما يرد على الالتزام بأنّ المشتق حقيقة في خصوص المتلبّس بالمبدأ في الحال مع الالتزام بأنّه يستعمل في موارد الانقضاء كثيراً أو أنّ استعماله فيها أكثر من استعماله في موارد التلبّس، فإنّه لابدّ من الالتزام بأنّ غالب الاستعمالات أو أغلبها في المشتقات بنحو المجاز، وهذا أمر بعيد لا تساعده حكمة الوضع.لا يقاللابأس بالالتزام بأنّ أكثر استعمالات المشتقات تقع على نحو المجاز، وقد قيل بأنّ أكثر الاستعمالات في المحاورات تقع مجازاً.فإنّه يقاللو سلم بأنّ أكثر المحاورات مجازات، فالمراد بذلك أنّ المعاني المجازية بالنسبة إلى المعنى الحقيقى متعدّدة، لا أنّ أغلب الاستعمالات اللفظية مجازات، نعم ربّما يتفق في لفظ واحد أن يستعمل في معناه المجازي كثيراً لكثرة الحاجة إلى تفهيمه ولكن من المستبعد وقوع ذلك في تمام الألفاظ، كما هو الحال في المشتقات حيث إنّ استعمال كلّ منها في موارد الانقضاء كثير أو أكثر.[4] أجاب (قدس سره) عن الاعتراض بلزوم كثرة الاستعمالات المجازيه بوجهين؛ أحدهما: أنّه لا بأس بالالتزام بها بعد مساعدة ما تقدّم من الأدلة على أنّ المشتق موضوع للمتلبّس في الحال، وثانيهماأنّه يمكن أن تكون تلك الاستعمالات بنحو لا يلزم منها التجوّز بأن يطبّق معنى المشتق على المنقضي عنه لا بلحاظ انقضاء المبدأ، بل بلحاظ حال تلبّسه به، فيراد من (جاء الضارب) جاء الذي كان ضارباً قبل مجيئه، لا الضارب حال المجيء وبعد انقضائه، كي يكون الاستعمال مجازاً.وربّما يتوهّم أنّه لو كان الاستعمال في موارد الانقضاء بلحاظ حال التلبّس، لا يمكن إثبات أنّ انسباق خصوص المتلبّس بالمبدأ في الحال ناش من حاقّ اللفظ؛ لاحتمال كون تبادره ناشئاً من استعماله المتلبّس في الحال غالباً أو دائماً.وقد دفع (قدس سره) هذا التوهّم بأنّه لو كان وضع المشتق للأعمّ لما كان وجه لجعل استعماله في خصوص المتلبّس وتطبيقه على موارد الانقضاء بلحاظ حال التلبّس، فإنّ ذلك يكون من قبيل الأكل من القفا؛ إذ مع إمكان استعماله في معناه الأعمّ وتطبيقه على الذات المنقضي عنها المبدأ بلا محذور، لا موجب لاستعماله في المعنى الأخصّ وتطبيقه على الذات المفروضة بلحاظ حال تلبّسها.وبالجملة بناءاً على كون المشتق حقيقة في خصوص المتلبّس في الحال، يمكن استعماله في موارد الانقضاء بنحو الحقيقة أيضاً، كمااذا أُريد من الذات المفروضة حال تلبّسها، فيكون تطبيق معنى المشتق عليها بلحاظ ذلك الحال حقيقة، ويمكن أن يكون استعماله في تلك الموارد بنحو المجاز، بأن يطبق معنى المشتق على الذات المفروضة بلحاظ حال انقضاء المبدأ عنه مجازاً، فمع إمكان الحقيقة، لا موجب للعدول إلى الاستعمال المجازي، بخلاف الموارد التي لا يمكن استعمال اللفظ فيها حقيقة، فإنّه يتعيّن فيها الالتزام بالمجاز.[5] ذكروا أنّ علامة المجاز صحّة السلب المطلق وأمّا صحّة السلب المقيّد فلاتكون علامة المجاز، مثلا سلب الحيوان المقيد بكونه ناطق عن البقر صحيح ولا يدلّ على أنّ استعمال الحيوان وتطبيقه على البقر مجاز، وعلى ذلك فقد أورد على صحّة السلب في المقام بأنّه إن أُريد من صحته سلب المشتق عن المنقضي مطلقاً، فالصحّة غير محرزة، وإن أُريد سلبه مقيّداً فلا تدلّ صحته على المجازية.وقد أجاب الماتن (قدس سره) بأنّه إن أُريد من التقييد، التقييد في ناحية المسلوب (أي المشتق) بأن يقيّد المشتق بفعلية المبدأ ويقال إنّ المنقضي عنه الضرب مثلا ليس هو ضارب بالضرب الفعلي، فهذا التقييد في ناحية المشتق غير مراد في الاستدلال، بل المسلوب هو المشتق بمعناه المرتكز عند الأذهان عند إطلاقه.وبتعبير آخر: نسلّم بأنّ صحّة السلب بالمسلوب المقيّد أعمّ من سلب المسلوب مطلقاً، فإنّه قد يصحّ سلب الشيء المقيّد عن شيء، ولا يصحّ سلب ذلك الشيء مطلقاً عنه، كما في مثال سلب الحيوان المقيّد عن البقر، فلا يصحّ سلب مطلق الحيوان عنه، وإن كان المراد من التقييد، تقييد نفس السلب بأن يقالإنّ زيداً ليس في حال عدم تلبّسه بالضرب بضارب، فصحّة هذا السلب دليل على أنّ المشتق حقيقة في المتلبّس في الحال فقط، فإنّه لا يصح سلب الطبيعي عن فرده في حال، ولكنّ هذا التقييد أيضاً غير مفروض في الاستدلال بل المفروض هو التقييد في ناحية الذات المسلوب عنها المبدأ حال انقضائه فيقال إنّ زيداً حال انقضاء الضرب عنه ليس بضارب، فإنّه لو كان معنى المشتق أعمّ لما أمكن سلبه عنه.[6] قد يستدلّ على كون المشتق حقيقة في المعني الأعمّ بحيث ينطبق على الذات المتلبّسة بالمبدأ في الحال وعلى المنقضي عنها بعدم صحّة سلب معنى المضروب والمقتول، عمن ضُرِبَ أو قُتِل مع فرض انتفاء الضرب والقتل، ونحوهما غيرهما من المحدود والمخلوق والمختار إلى غير ذلك.وقد أجاب الماتن (قدس سره) عن جميع ذلك بما تقدّم في بعض الأُمور من أنّ الكلام في المقام في معاني هيئات المشتقات لا في مبادئها، وأنّه قد يراد من المبادئ في بعض المشتقات معنىً مجازي تبقى الذات متصفة به ولو بعد انقضاء المعنى الحقيقي، فتصدق تلك المشتقات على الذوات بعد انقضاء المبدأ عنها بمعناها الحقيقي، ولكنّ هذا لا يدلّ على أنّ هيئة المشتق موضوعة للأعمّ من المتلبّس في الحال.وقد يناقش في هذا الجواب بأنّه لا يتصوّر لمثل مبدأ الضرب معنى يقبل البقاء بعد انقضاء معناه الحقيقي، مع صحّة دعوى الجزم بأنّ ما أُريد من المبدأ في ضمن هيئة الضارب والقاتل، هو المراد من المبدأ في ضمن هيئة المضروب والمقتول.وفيه أنّه قد يراد في مثل هذه الاستعمالات المتلبّس بالمعني الحقيقي، وينطبق على الذات المنقضي عنها المبدأ بلحاظ حال تلبسّها به، فيراد من قوله (هذا هو المضروب) المضروب عند فعلية الضرب، وقد يراد المبدأ بنحو العلاميّة للذات، فيراد من المضروب الذات المتلبّسة بعلاميّة الضرب أو القتل واستعمال المبدأ في العلاميّة للذات مجاز، كما في قوله(هذا المال مسروق، وقد سُرق من فلان قبل سنوات)، فلاحظ وتدبّر.[7] استدلّ على كون المشتق حقيقة في المعنى الأعمّ باستدلال الامام (عليه السلام) في عدة أخبار(1) بقوله سبحانه (لا يَنَالُ عَهْدِي الظّالِمِيْنَ)(2) على عدم لياقة من عبد صنماً أو وثناً لمنصب الإمامة والخلافة، تعريضاً بمن تربّع على كرسيّ الزعامة وادّعى لنفسه خلافة النبي (صلّى الله عليه وآله)، وكان ممّن عبدالصنم مدّة مديدة، فإن التعريض المفروض إنّما يتمّ بناءاً على كون المشتق حقيقة في الأعمّ لينطبق على من تربّع على كرسيها، عنوان الظالم عند تربّعه، وإلاّ لما صحّ الاستدلال لإنقضاء تلبّسهم بالظلم وعبادتهم للصنم عند تصدّيهم للخلافة.وما في عبارة الماتن (قدس سره): «تأسّياً بالنبي صلوات اللّه عليه وآله» إشارة إلى ما رواه الخاصة(3) والعامة(4) بأنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قال«أنا دعوة أبي إبراهيم (عليه السلام)»، حيث لم يعبد هو وعليّ صنماً ووثناً.وقال (صلّى الله عليه وآله)«فانتهت الدعوة إليّ وإلى أخي علي (عليه السلام)، لم يسجد أحد منّا لصنم قطّ، فاتخذني اللّه نبيّاً وعليّاً وصيّاً».وفيه تعريض لغير عليّ(عليه السلام) وأنّهم لعبادتهم الصنم والوثن لا ينالون الوصية والخلافة.وكيف كان، فقد أجاب (قدس سره) عن الاستدلال المفروض بأنّ أخذ عنوان المشتق في الموضوع على أنحاء: الأوّل: أن يكون المشتق لمجرّد الإشارة والمعرفيّة للموضوع، كقول الصادق(عليه السلام)«فإذا أردت حديثنا فعليك بهذا الجالس»(5) مشيراً إلى زرارة، فإنّه لا دخل لجلوسه في جواز الرجوع وتعلّم الحكم وأخذه منه.الثانيأن يكون لعلّية المبدأ لثبوت الحكم وبقائه، بأن يكون انطباق عنوان المشتق على ذات عند تلبسها بالمبدأ، علة لثبوت الحكم وبقائه، كما في قوله (عليه السلام)«لا يصلين أحدكم خلف المجذوم و..المحدود»(6)، وقوله سبحانه(وَحَلائِلُ أَبْنائَكُمْ)(7).والثالث: أن يكون الحكم دائراً مدار انطباق المشتق على الذات وجريه عليها حدوثاً وبقاءاً، كما في قوله (عليه السلام): «لا أقبل شهادة فاسق»(8)، وقوله (عليه السلام)«اشهد شاهدين عدلين»(9).والاستدلال المفروض مبنيّ على كون عنوان الظالم في قوله سبحانه (لا يَنَالُ عَهْدِي الظّالِمِيْنَ)(10) من قبيل الثالث، وأمّا إذا كان من قبيل الثاني، كما يقتضيه عظم منصب الإمامة والخلافة، فيتمّ تعريض الإمام (عليه السلام) مع كون المشتق حقيقة في خصوص المتلبّس في الحال، حيث يكون مفاد الآية أنّ المتقمّص بالخلافة يلزم أن لا يكون متلبّساً بالظلم ولو على نحو الانقضاء، بل ولو على النحو الترقّب والاستقبال أيضاً، ولا يتوهّم أنّ الحمل على الوجه الثاني يوجب استعمال المشتق في معناه الأعمّ لينطبق على المنقضي عنه المبدأ بلحاظ حال الانقضاء أيضاً، فإنّه كما يستعمل المشتق في النحو الثالث في المتلبس بالحال، كذلك في النحو الثاني، وإنّما الاختلاف بينهما في بقاء الحكم بعد زوال عنوان المشتق، حيث إنّ موضوع الحكم في النحو الثاني ما انطبق عليه عنوان المشتق ولو فيما مضى، فإنّ انطباقه عليه يكون علّة لثبوت الحكم وبقائه، بخلاف النحو الثالث، فإنّ بقاء الحكم فيما انطبق عليه عنوان المشتق، دائرٌ مدار بقاء الانطباق ببقاء المبدأ فيه.وعلى النحو الثاني يكون معنى الآية من كان ظالماً ولو آناً ما لاينال عهدي أبداً، وإرادة هذا المعنى من الآية لا يستلزم الاستعمال بلحاظ الانقضاء، بل يصحّ مع إرادة خصوص المتلبّس بالمبدأ من عنوان المشتق، كما لا يخفى.والمتحصّل أنّه إذا أخذ عنوان المشتق في خطاب موضوعاً لحكم ولم يكن في البين قرينة على أنّ ذكره على النحو الأوّل أو على النحو الثاني، فظاهر الخطاب أنّ حدوث عنوان المشتق، موضوع لحدوث الحكم وبقائه موضوع لبقاء الحكم، فيكون الحكم فيما انطبق عليه عنوان المشتق دائراً مدار الانطباق، وأمّا إذا قامت قرينة عرفية على أنّه على أحد النحوين، يؤخذ بمقتضى القرينة، والقرينة في مورد الآية المباركة هي عظم منصب الإمامة والخلافة من اللّه (تعالى شأنه)، فإنّ كلّ شخص لا ينال هذا المنصب، فيكون انطباق عنوان الظالم على شخص ـ ولو في زمان ما ـ موجباً لعدم نيله هذا المنصب، وهذا لا يكون استحساناً كما توهّمه بعض، بل قرينة عرفية، حيث لم يرضَ الشارع بإمامة ولد الزنا والمحدود في الصلاة ولو مع عدالتهما، فكيف يعطي اللّه (سبحانه) منصب الإمامة والخلافة لمن تلبّس بالشرك أو بغيره من الفواحش مدّة من حياته؟ وقد يؤيّد كون عنوان الظالم في الآية المباركة مأخوذاً على النحو الثاني نفس التعبير عن الحكم بصيغة المضارع، الظاهر في البقاء والاستمرار، مع عدم تقييده بزمان، وبفحوى ما ورد في عدم جواز الاقتداء في الصلاة بالمحدود وولد الزنا.(1).تفسير نور الثقلين1 / 121.(2).سورة البقرةالآية 124.(3).البحار: ج 25، 200 / 12؛ وتفسير نور الثقلين1 / 130.(4).المناقب لابن المغازلي: ص 276 و 322؛ كنز الدقائق: 2 / 139؛ تفسير اللوامع1 / 629، ط لاهور.(5).الوسائلج 18، باب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 19.(6).الوسائلج 5، باب 15 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 6.(7).سورة النساءالآية 23.(8).الوسائلج 18، باب 30 من أبواب الشهادات، الحديث 4.(9).الفروع من الكافيص 6، باب المراجعة لا تكون إلاّ بالمواقعة، الحديث 3.(10).سورة البقرةالآية 124.بقي أُمور: الأوّلأنّ مفهوم المشتق[1].على ما حقّقه المحقّق الشريف في بعض حواشيه[2].وتنظر فيما أفاده بقوله «وفيه نظر» لأنّ الذات المأخوذة[3].وقد انقدح بذلك عدم نهوض ما أفاده[4].إرشادٌلا يخفى أنّ معنى البساطة بحسب المفهوم وحدته إدراكاً وتصوّراً[5].الثانيالفرق بين المشتق ومبدئه مفهوماً أنّه بمفهومه لا يأبى عن الحمل على ما تلبّس بالمبدأ[6].الثالثملاك الحمل كما أشرنا إليه هو الهوهوية والاتحاد[7].الرابعلاريب في كفاية مغايرة المبدأ مع مايجري عليه المشتق مفهوماً[8].الخامسأنّه وقع الخلاف بعد الاتفاق على اعتبار المغايرة[9].السادسأنّه لا يعتبر في صدق المشتق وجريه على الذات حقيقة التلبّس بالمبدأ[10].بساطة معنى المشتق[1] لا ينبغي التأمّل في أنّ معنى المشتق كما أنّ مادّته موضوعة لمعنى، كذلك هيئته موضوعة لمعنى، وإذا كان كذلك فاللازم فرض معنى للهيئة غير معنى المادة السارية في جميع المشتقات، ولا يمكن أن يكون معنى الهيئة مجرد أنحاء التلبّسات، بأن تكون كلّ هيئة من هيئات المشتقات موضوعة لنحو من أنحائها، كما هو الحال في هيئة الفعل الماضي المعلوم أو المجهول، وكذا في هيئة الفعل المضارع، وإلاّ لم يصحّ جعله محكوماً عليه في مثل قوله سبحانه (السّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما)(1) ممّا لا يكون على موصوف، بل لا جعله محمولا على الذات في مثل قوله زيد ضارب، فإنّ ملاك الحمل في مثله الاتحاد الخارجي، ومن الظاهر أنّ واقع التلبّس بالضرب صدوراً غير (زيد) خارجاً، لا أنّه هو هو.وبتعبير آخرتحقّق المبدأ فيما كان عرضاً وإن كان بعين وجود موضوعه، إلاّ أنّ وجود موضوعه غير وجوده، فلا وجه لما هو المعروف من أنّ الفرق بين المبدأ والمشتق هو الفرق بين بشرط لا ولا بشرط، بمعنى أنّ المبدأ فيما إذا لوحظ في مقابل الذات يكون مدلولا للمصدر، وإذا لوحظ بما أنّه متحد مع الذات وأنّه شأن من شؤونها، يكون مدلولا للمشتق، فإنّ مقتضى التفرقة بين المعنيين كذلك مع قطع النظر عن الاعتبارين هو اتّحادهما في أصل المعنى وأنّ الاختلاف يكون اعتبارياً، مع أنّه ليس الأمر كذلك، فإنّ المبدأ ـ بأيّ نحو لوحظ ـ لا يتّحد مع الذات خارجاً، فلو كان المراد ببساطة معنى المشتق هذا المعنى، لما أمكن للقائل بها أن يلتزم بوضع المشتق للمتلبس في الحال أو للأعمّ كما ذكرنا سابقاً(2).مع أنّه لا مجال لدعوى الاتحاد المفروض في ما هو غير عرض بالإضافة إلى معروضه، كما إذا كان المبدأ من المعقولات الثانوية الفلسفية كالإمكان والامتناع، أو كان عرضاً ولكن لوحظ بالإضافة إلى غير معروضه من سائر الملابسات، كالزمان والمكان وغيرهما، فلا محيص عن الالتزام بدخول الذات في معنى المشتق ليكون دخولها مصحّحاً لحمل معناه على الذوات، ولكن الذات المأخوذة في معناه في غاية الإبهام، حيث لم يلاحظ فيها أيّ خصوصية إلاّ خصوصية التلبّس بالمبدأ.وليس المراد أيضاً أنّ معنى المشتق عند الإطلاق مركّب من مفهوم الذات وتلبّسها بالمبدأ وأنّ المشتق من المركّبات الناقصة ليدفع بأنّ ما يتبادر من المشتق ليس إلاّ معنىً واحداً وصورةً واحدة.بل المراد أنّ المفهوم من المشتق صورة واحدة، وتلك الصورة تنطبق على الذات لا على المبدأ، وتلك الذات مبهمة من جميع الجهات غير جهة التلبّس بالمبدأ، وحينئذ فيقع الكلام في أنّ الجهة المعيّنة فعلية التلبّس بالمبدأ، أو مجرد تحقّقه، وهذا يوجب انحلال تلك الصورة الواحدة إلى ما الموصولة وتعيّنها بفعلية التلبّس في الحال أو مطلقاً.ودعوى أنّ الذات المبهمة المفروضة لا يمكن أن تكون مدلولا للهيئة الطارئة على المبدأ، باعتبار أنّ مدلول هيئة المشتق معنى حرفيّ، فلا يتضمّن معنىً إسمياً(3)، مدفوعة بأنّه لا دليل على كون معنى الهيئة في المشتق الذي يطلق عليه الإسم في الاصطلاح غير متضمّن لمعنى الذات، وإنّما يطلق على الهيئة أنّ معناها حرفيّ، باعتبار أنّ الحرف كما لا معنى له عند تجرّده عن المدخول، كذلك الهيئة من المشتقات التي يطلق عليها الإسم.ولعلّ ما ذكره الماتن (قدس سره) من تفسير بساطة معنى المشتق بأنّه منتزع عن الذات باعتبار تلبّسها بالمبدأ، هو ما ذكرناه، وحمل (قدس سره) كلام المحقّق الشريف عليه، فيكون التركّب المنفي، هو أن يتبادر من المشتق عند إطلاقه الصورة المركّبة.ولكنّ ظاهر كلام المحقّق الشريف يأبى هذا الحمل كما سيأتي، فإنّ مقتضى استدلاله عدم إمكان دخول الذات في معنى المشتق حتّى بالنحو الذي ذكرنا.[2] ذكروا في تعريف الفكر بأنّه ترتيب أُمور معلومة لتحصيل أمر مجهول، وأورد عليه بالتعريف بالمفرد كالتعريف بالفصل وحده أو العرض الخاصّ، فإنّه ليس في التعريف بهما ترتيب أُمور.وأجاب عن ذلك في شرح المطالعبأنّ المعرَّف ـ بالفتح ـ إذا كان من قبيل المشتق، كالناطق والضاحك، يكون التعريف بأُمور، فإنّ الناطق شيء له النطق والضاحك شيء له الضحك(4).وناقش في ذلك السيد الشريف بأنّه لا يكون مفهوم المشتق مركباً، فإنّه على تقدير كون معنى الناطق شيء له النطق لزم دخول العرض العامّ في الفصل وهو ممتنع، فإنّ العرض لايكون مقوّماً للذات هذا فيما لو أُريد بالشيء مفهومه وإن أُريد به مصداقه، لزم انقلاب القضية الممكنة إلى الضرورية، فإنّ الجهة في قولنا (الإنسان كاتب) هي الإمكان، وعلى تقدير دخول مصداق الشيء في معنى الكاتب يكون مفاد القضية (الإنسان، إنسان له الكتابة) وهذه قضية ضروريّة؛ لأنّ ثبوت الشيء لنفسه يكون ضروريّاً(5).أقوللازم ما ذكره المحقّق الشريف عدم دخول الذات في معني المشتق، حتّى بنحو الانحلال، حيث إنّه لو انحل إلى الذات والشيء يلزم أحد المحذورين، إمّا دخول العرض العامّ في الفصل، أو انقلاب القضية الممكنة إلى الضرورية، فليس السيد الشريف في تحقيقه ناظراً إلى أنّ مفهوم المشتق في بدو الانتقال إليه، بسيط لا يدخل فيه الشيء والذات، كما اختاره الماتن (قدس سره)فيما يأتي، ليوافق ما التزم به السيد الشريف، من بساطة معنى المشتق، وقد فسر (قدس سره) «البشرط لا واللابشرط» المذكورين في الفرق بين المبدأ والمشتق ببشرط لا ولا بشرط الذاتيّين.وقد اُجيب عن مناقشة السيد الشريف بوجوهمنها ما ذكره الماتن (قدس سره) عن صاحب الفصول (قدس سره)، وهو عدم لزوم شيء من المحذورين من دخول الذات في معنى المشتق، فإنّ معنى الشيء الذي يعدّ من العرض العامّ، داخل في معنى الناطق لغة، وما جعل فصلا للإنسان هو معناه الاصطلاحي، ولزوم المحذور من دخول العرض العامّ في معناه الاصطلاحي لا يوجب محذوراً من دخوله في معناه اللغوي الذي هو المبحوث عنه في المقام، وأنّه لو قيل بدخول مصداق الشيء في معنى المشتق لا يلزم انقلاب القضية الممكنة إلى الضرورية، فإنّ ثبوت الإنسان للإنسان وإن كان ضرورياً إلاّ أنّ الإنسان مقيّداً بأنّ له الكتابة، لا يكون ثبوته له ضرورياً؛ لجواز أن لا يكون القيد ضرورياً(6).وقد أورد المصنف (رحمه الله) على الشقّ الأوّل من الجواب المفروض، بإنّه غير صحيح، سواء قيل بدخول معنى الشيء في معنى المشتق، أو قيل بدخول مصداقه فيه، فانّ المقطوع به هو أنّ الناطق في عرف المنطقيين قد اعتبر فصلا للإنسان بما له من المعنى اللغوي وبلا تصرف في معناه أصلاً.كما أورد على استدلال المحقّق الشريف لعدم دخول معنى الذات في معنى المشتق، بلزوم دخول العرض العامّ في الفصل، بأنّ مثل الناطق ليس بفصل حقيقي، بل لازم الفصل وأظهر خواصّه، فيكون فصلا مشهوريّاً منطقياً يوضع مكان الفصل الحقيقي إذا لم يعرف الحقيقي، ولذا يجعل مكانه لازمان، إذا كانا متساويي النسبة، كما يذكر الحساس والمتحرك بالإرادة، فصلا للحيوان، فلا يلزم من دخول معنى الشيء في معني الناطق إلاّ دخول العرض العامّ، وأخذه في خاصة الشيء التي هي من العرضيات لا في فصله المعدود من الذاتيات في باب الكلّيات.وأمّا مسألة انقلاب القضية الممكنة إلى الضرورية فهو ممّا لا محيص عنه، كما ذكر المحقّق الشريف، وذلك لأن قيد «له الكتابة» لا يمكن أخذه في المحمول إلاّ بأحد نحوين: الأوّلأن يكون لمجرد الإشارة إلى المحمول بلا دخل فيه أصلاً بأن يكون المحمول على الإنسان في قولنا (الإنسان كاتب) هو الإنسان فقط، وقيد (له الكتابة) إشارة إلى الإنسان، وعليه فالانقلاب ظاهر؛ لأنّ ثبوت الإنسان للإنسان ضروري.والثانيأن يكون القيد داخلا في المحمول، بأن يكون المحمول في قوله (الإنسان كاتب) كل من الأمرين (الإنسان) وقيد (له الكتابة) فتنحلّ القضية الواحدة وهي (الإنسان كاتب) إلى قضيتين إحداهما (الإنسان إنسان) والأُخرى (الإنسان له الكتابة) فالأُولى ضرورية والثانية ممكنة.وأمّا عدم جعل القيد محمولا مستقلاًّ ولا وصفاً توضيحيّاً لنفس المحمول، بل جعله تقييداً لمصداق الذات، بأن يضيّق دائرة معنى الإنسان في المثال على حدّ سائر التقييدات، فغير ممكن، لأنّ معنى الإنسان وإن كان وسيعاً قابلا للتقييد والتضييق كما يقالالإنسان الأبيض، أو الكبير، أو غير ذلك، إلاّ أنّ المفهوم الوسيع يقبل التضييق بالإضافة إلى معنى آخر، لا بالإضافة إلى نفسه، مثلا يصح أن يقال (البقر حيوان خاصّ) ولا يمكن أن يقال (الحيوان حيوان خاصّ).وبالجملة إذا كان الموضوع في القضية نفس المحمول، أو مرادفاً له، فلا يمكن تضييق دائرة المحمول بالقيد، بل لابدّ من جعل القيد وصفاً توضيحياً مشيراً إلى المحمول أو محمولا آخر بأن يؤخذ التقييد معنىً حرفياً غير مقصود، والمقصود بالحمل حمل ذات المقيد.وممّا ذكرنا يظهر وجه تخصيص السيد الشريف الانقلاب بصورة أخذ مصداق الشيء في معنى المشتق، فإنّه لو كان المأخوذ مفهوم الشيء فهو باعتبار قبوله التقييد لا يكون ثبوته بعد التقييد ضرورياً.وكأنّ الماتن (قدس سره) أراد بقوله: «وكان القيد خارجاً» عن المحمول «وإن كان التقييد داخلاً بما هو معنىً حرفيّ» ما ذكرناه من كون القيد لمجرّد الإشارة إلى نفس المحمول، وعبارته في تقرير الانحلال إلى قضيتين، بقوله«وذلك لأنّ الأوصاف قبل العلم بها أخبار، كما أنّ الأخبار بعد العلم بها تكون أوصافاً» تشير إلى ما ذكرنا من عدم كون قيد (له الكتابة) إلاّ وصفاً توضيحياً، ويكون قبل العلم به خبراً.ولكن ما ذكره من انحلال عقد الحمل وأنّ الانحلال إلى القضيتين مبني عليه، ليس في محلّه، بل هو مبني على الأمر الثاني فقط(7).وكيف ما كان، فقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ مراد المحقّق الشريف من بساطة معنى المشتق خروج الذات عن معني المشتق مفهوماً ومصداقاً، ولا يمكن انحلال معنى المشتق إلى أحدهما.وأورد المحقّق النائيني (قدس سره) على ما ذكره السيد الشريف من أنّ أخذ معنى الشيء في مفهوم المشتق يوجب دخول العرض العامّ في الفصل، بأنّ الشيء بمعناه العامّ لا يكون عرضاً عامّاً ليلزم من دخوله في معنى المشتق ما ذكر، بل الشيء جنس الأجناس لجميع الماهيّات جهة جامعة بينها لا عرض عامّ لها، حيث إنّ العرض ما يكون خاصة للجنس البعيد أو للجنس القريب، والشيئية تكون في جميع الماهيّات، وليس ورائها أمر آخر لتكون الشيئية خاصة ذلك الأمر وعرضاً عامّاً لجميع الماهيّات.وما يقال من أنّ الشيئية مساوية للوجود وبما أنّه لا يكون مفهوم الوجود جنساً فيكون مفهوم الشيء الذي مرادف له كذلك، لا يمكن المساعدة عليه فإنّ الوجود يحمل على الشيء كما يحمل على سائر الماهيات، فالمراد من المساوقة مساوقتهما في الصدق لا اتّحادهما في المفهوم، ليكون مفهوم الشيء كمفهوم الوجود عارضاً لجميع الماهيات، والحاصل أنّه يلزم من دخول مفهوم الشيء في المشتق دخول الجنس في الفصل، لا دخول العرض العامّ في الفصل، وإن كان دخول الجنس في الفصل أيضاً باطل(8).وذكر (قدس سره)ـ في جواب صاحب الكفاية الذي ذهب إلى أنّ الناطق فصلا مشهورياً لا حقيقياً، فيلزم من تركّب المشتق دخول العرض العامّ في الخاصة ـ أنّ الناطق يعني المتكلّم، أو المدرك للكليات، ليس فصلا إذ التكلّم والإدراك من العرض بل المراد به صاحب النفس الناطقة، فلا يلزم من تركّب المشتق دخول العرض العامّ في الخاصة كما ذكر (قدس سره)، بل يلزم دخول العرض العامّ في الفصل(9).أقولعنوان الشيء والذات كما يحمل على ممكن الوجود، كذلك يحمل على واجب الوجود بالذات، ومن الواضح أن الواجب بالذات لا ماهيّة له ليكون له جنس الأجناس، وحمل الوجود على الشيء كحمله على الجواهر والأعراض لايدلّ على كونه جنس الأجناس للأعراض والجواهر، فإنّ العنوان الانتزاعيّ الاعتباريّ من كل الموجودات خارجاً أو الملحوظة ذهناً، لا يدخل في الماهيّات المتأصّلة، ليكون جنساً أو فصلا أو نوعاً أو يكون جوهراً أو عرضاً وذلك ظاهر، ولذلك يصدق الشيء على المستحيلات أيضاً باعتبار لحاظها وعلى الجواهر والأعراض وغيرهما.وبالجملة ما ذكر من أنّ العرض العامّ يكون خاصّة للجنس البعيد كالتحيّز بالإضافة إلى الجسم، أو خاصة للجنس القريب، كالماشي بالإضافة إلى الحيوان(10) والشيئية ليست خاصّة فتكون جنساً لأنّها جهة جامعة بين الماهيات، لا يثبت أنّ عنوان الشيء جنس بمجرد كونها جهة جامعة، كما لا يثبت أنّه عرضي في باب الكلّيات الخمس؛ لأنّ العنوان الانتزاعي الاعتباري خارج عن قسم الجوهر والعرض في باب الكلّيات(11) فلا يكون جنساً، وما يقال من أنّ الشيئية مساوقة للوجود لايراد به الوجود الخارجي فحسب؛ ولذا يحمل الوجود على الشيء، فالشيء عنوان انتزاعيّ اعتباريّ، كما لا يخفى.وأمّا ماذكر(قدس سره) من أنّ المراد بالناطق الذي يذكر فصلا للإنسان هو صاحب النفس الناطقة، فلا يمكن المساعدة عليه، ويا ليت اقتصر على «النفس الناطقة» فإنّ صاحب نفس الناطقة هو الإنسان، وخصوصيات الأفراد لا دخل لها، فيكون صاحبها هو النوع ولا يمكن دخول النوع في الفصل، وأمّا النفس الناطقة فلم يذكر المراد منها ليعرف كيف تكون فصلا.ثمّ إنّه (قدس سره) استدلّ على بساطة معنى المشتق وخروج مفهوم الشيء والذات عنه بأمرين: الأوّلأنّه على تقدير دخوله، تكون النسبة الناقصة أيضاً داخلة فيه، حيث لا يرتبط المبدأ بالذات بدونها، وإذا دخلت النسبة في معناه، لزم كون المشتقات كسائر الأسماء المتضمّنة لمعاني الحروف مبنيّات(12).وفيهأنّ الموجب للبناء في الأسماء وضعها بمادّتها وهيئتها لمعنى يتضمّن المعنى الحرفي، ولا يجري في مثل المشتق الذي يكون لمادّته وضع ومعنى ولهيئته معنى آخر، مع أنّا لا نسلّم الملازمة بين تضمّن لفظ للمعنى الحرفي وبين كونه مبنياً دائماً.الثانيأنّ معنى المشتق بعينه معنى المبدأ إلاّ أنّ الهيئة في المشتق موضوعة لقلب المبدأ عن بشرط لا، إلى اللابشرط، ومعه يتّحد المبدأ مع الذات، فإنّ وجود العرض بما هو عرض عين وجود المعروض، لا وجود آخر(13).وفيه: أوّلا: أنّ وجودالمبدأ زائد على وجود الذات، فكيف يتّحد معها؟ وثانياًإنّ المبدأ قد لا يكون عرضاً، بل حكماً شرعياً كالحلال والحرام، أو اعتباراً عقلياً كالواجب والممكن، أو عقلائياً كالحسن والقبيح إلى غير ذلك، فلايمكن الالتزام باتحاد الموضوع والحكم، وقد لا يكون المبدأ عرضاً بالإضافة إلى الذات المتلبّسة به، كما في إسم الزمان والمكان والآلة وغير ذلك مما لا يمكن الالتزام فيها بالاتحاد، بل في صحّة الحكم على عنوان المشتق في الخطاب بلا اعتماده على موصوف كفاية للجزم بأنّ معنى الهيئة في جميع المشتقات يتضمّن الذات المبهمة على ما تقدّم.[3] هذا تقريب من صاحب الفصول (قدس سره) لدعوى انقلاب القضية الممكنة إلى الضرورية، وحاصل تقريبه: أنّه لو كان معنى قولناالإنسان كاتب، الإنسان إنسان له الكتابة، بأن كانت الذات المأخوذة في المحمول عين الموضوع، فإن كان الموضوع في القضية مقيّداً بقيد الكتابة واقعاً وفي نفس الأمر، صدق الإيجاب بالضرورة، فإنّ ثبوت إنسان له الكتابة للإنسان المفروض له الكتابة ضروري، وإن لم يكن الموضوع مقيّداً بها بحسب الواقع، بأن كان فاقداً لها، صدق السلب بالضرورة، فلا تكون في البين قضية ممكنة، فتتمّ دعوى انقلاب النسبة(14).وقد أورد الماتن (قدس سره) على هذا التقريب بأنّ القضية إنّما تكون موجّهة بإحدى الجهات من الإمكان والضرورة والدوام وغيرها، فيما إذا لوحظت نسبة المحمول إلى الموضوع المفروض في القضية، لا ذلك الموضوع مقيّداً بثبوت المحمول له واقعاً، أو عدم ثبوته له كذلك.وإن شئت قلتثبوت المحمول للموضوع واقعاً، أو عدم ثبوته له واقعاً، مناط صدق القضية وكذبها وهو غير مأخوذ في موضوع القضية قيداً، وإلاّ لانحصرت القضايا بالضرورية؛ إذ الموضوع بشرط المحمول أي مع أخذ المحمول فيه قيداً، يستلزم ضروريّة ثبوت المحمول له، حتّى في القضية الممكنه، سواء قيل بعدم دخول الذات في معنى المشتق وبساطته، أو قيل بتركبّه.وأمّا دعوى السيد الشريف فهي لزوم انقلاب القضية الملحوظ فيها نسبة المحمول إلى نفس الموضوع، من الممكنة إلى الضرورية، لا انقلاب القضية إلى الضرورية بشرط تقيّد الموضوع بالحمول، فإنّه أجنبي عن دعواه، ولا يمكن توجيه دعواه بما تنظّر به.[4] زعم صاحب الفصول (قدس سره) أنّه يمكن إبطال الوجه الأوّل ـ أي احتمال دخول مفهوم الشيء في معني المشتق ـ بلزوم الانقلاب أيضاً، بأن يقاللو أخذ مفهوم الشيء في معنى المشتق لزم انقلاب القضية الممكنة إلى الضرورية(15).وأجاب عنه الماتن (قدس سره) بعدم لزوم الانقلاب من ذلك؛ لأنّ صدق عنوان الشيء على مصداقه وإن كان ضرورياً، إلاّ أنّ الضرورة إنّما هي مع إطلاق مفهومه وعدم تقييده ـ أي تضييقه بقيد ـ وأمّا مع التضييق فلا، حيث يمكن أن يكون ثبوته مع التقييد ممتنعاً فضلا عن الضرورة، كما إذا قيلالإنسان شيء يتمكّن من الجمع بين النقيضين.نعم لو كان أخذ القيد ولحاظه في ناحية الموضوع أيضاً، بأن كانت القضية بشرط المحمول، لكانت ضرورية، ولكن قد تقدّم أنّ القيد لا يؤخذ في طرف الموضوع أصلاً.ثمّ إنّ الماتن (قدس سره)استدلّ على بساطة المشتق وعدم دخول مصداق الشيء في معناه، بلزوم أخذ النوع في الفصل، وقال إنّ السيد الشريف لو جعل التالي في الشرطية الثانية «لزوم دخول النوع في الفصل» كان أليق بالشرطية الأُولى، وكان الاستدلال تامّاً، سواء جعل الناطق فصلا حقيقياً أو عرضاً خاصاً أُقيم مقام الفصل، أمّا على تقدير كونه فصلا حقيقياً، فللزوم دخول النوع في الفصل فيما إذا قيل(الإنسان ناطق)، ومن المعلوم أنّ الناطق جزءالنوع، فكيف يكون النوع جزءاً منه؟ وأمّا على تقدير كونه خاصّة؛ فلأنّ الخاصّة خارجة عن الذات وذاتياتها كما في سائر العرضيّات، فكيف تكون الذات بذاتياتها داخلة فيها؟ واستدل أيضاً على بساطة معنى المشتق بمعنى عدم دخول الشيء في معناه مفهوماً ومصداقاً، بضرورة عدم تكرار الموصوف في مثل زيد الكاتب، مع أنّه يلزم التكرار من دخول الشيء في معنى الكاتب مفهوماً أو مصداقاً، ولكن لا يخفى أنّ لزوم التكرار في المثال وما شابهه إنّما هو على تقدير أخذ مصداق الشيء في معنى المشتق، وأمّا بناءاً على أخذ مفهومه فيه، فالشيء المقيد بأنّ له الكتابة ليس تكراراً للإنسان، نعم يلزم التكرار في مثل قول القائل «الماء شيء بارد بالطبع» كما لا يخفى.[5] أقوللا ريب في إمكان انحلال معنى المشتق بحسب التحليل العقلي، فإنّه لا يقلّ عن مبدئه وعن سائر الجوامد كالانسان والحجر وغيرهما ممّا هو قابل للتحليل العقلي، وإنّما الكلام في انحلال معنى المشتق إلى مفهوم الشيء أو مصداقه، بحيث يكون مفهومه أو مصداقه جزءاً لما ينحلّ إليه معناه.وأمّا من ذهب إلى بساطة معناه واستدلّ عليه بما تقدّم من المحقّق الشريف، أو بأنّ الشيء معنىً إسمي فلا يدخل في معني الهيئة لأن معناها حرفي وقد تقدّم التصريح عن المحقّق النائيني (قدس سره) بأنّ الفرق بين المشتق ومبدئه أنّ معنى المشتق بعينه معنى المبدأ، إلاّ أنّ الهيئة في المشتق تدلّ على جهة اتّحاده مع الذات فهو لا يمكنه الالتزام بانحلال معناه البسيط إلى الذات مفهوماً ومصداقاً، فكيف ينحلّ معناه بالتحليل العقلي إليه؟ مع أنّ الانحلال عبارة عنفتق معنى اللفظ، كانحلال الإنسان إلى حيوان ناطق، وكذا انحلال سائر الأنواع إلى الجنس والفصل.لا يقال: كيف ينحلّ الإنسان إلى ما له الإنسانية، والحجر إلى ما له الحجرية، وكذا غيرهما من الأنواع، مع أنّ مفهوم ما والشيء واحد؟ فإنّه يقاللو أُريد بالشيء الإشارة الى الهيولي والمادّة القابلة للصور فهو صحيح، فإنّ الأنواع من الجواهر، لها أجزاء خارجية هي الهيولى والصورة، وأجزاء عقلية هي الجنس والفصل، ولو أُريد أنّ مفهوم الشيء بنفسه يدخل في معنى الأنواع، فهو غير ممكن؛ لأنّ المفهوم والعنوان العرضي لا يكون مقوماً للذات.نعم معنى المشتق عنوان عرضي فلا مانع من دخول مفهوم الشيء والذات فيه، وذلك هو المصحّح لحمل المشتق على الذات.[6] كأنّ مراده (قدس سره) أنّ للمشتق معنىً، وذلك المعنى باعتبار اتّحاده مع الذات بنحو من الاتّحاد، لا يأبى عن الحمل عليها، بخلاف المبدأ، فإنّ له معنىً غير معنى المشتق، ويكون في نفسه آبياً عن حمله على الذات؛ لعدم اتّحاده معها بوجه، بل إذا قيس معناه إلى الذات يرى أنه غيرها مفهوماً وخارجاً، وملاك الحمل هو الاتّحاد في موطن ما، من ذهن أو خارج.وهذا هو مراد أهل المعقول ممّا ذكروه في مقام التفرقة بين المشتق ومبدئه، من أنّ المشتق مفهومه لا بشرط، بخلاف المبدأ فإنّه بشرط لا، ومرادهم لا بشرط وبشرط لا بالإضافة إلى الحمل، لا أنّ كليهما موضوع لمعنىً واحد، غاية الأمر لوحظ ذلك المعنى في أحدهما لا بشرط وفي الآخر بشرط لا ليكون تغاير المعنيين بالعرض لا بالذات.ولكن زعم صاحب الفصول (قدس سره) أنّ أهل المعقول يرون اتّحاد المشتق ومبدئه بالذات ويفرّقون بينهما بلا بشرط وبشرط لا بالعرض، فالتفرقة بينهما عرضي وأنّهم يقولون بأنّ مفهوم المشتق بعينه مفهوم المبدأ لا أنه مفهوم آخر، فأورد عليهم بأنّ مفهوم العلم مثلا غير قابل للحمل على الذوات حتّى وإن لوحظ لا بشرط بالإضافة إلى ما هو خارج عنه(16).ولم يتفطّن إلى أنّ مرادهم هو عين ما ذكره من أنّ معنى المشتق في نفسه، غير معنى المبدأ، وذلك المعنى قابل للحمل على الذوات بخلاف معنى المبدأ فإنّه معنى آخر في نفسه وعاص عن الحمل، فاعتبار اللابشرطية الذاتية في معنى المشتق والبشرط لا الذاتية في معنى الذات إنّما هو بالإضافة إلى الحمل على الذات كما لا يخفى.ويتّضح ذلك بملاحظة كلام أهل المعقول في الفرق بين الجنس والمادة وبين الفصل والصورة، بأنّ الجنس والفصل لا بشرط، فيحمل أحدهما على الآخر وعلى النوع، بخلاف الهيولى والصورة فإنّهما بشرط لا، فلا يحمل أحدهما على الآخر.وبيان ذلك على الاختصار أنّ العقل يلاحظ الشيء تارةً ويقايسه إلى سائر الأشياء، فيرى أنّ له معها جهة اشتراك يكشفها اشتراكها في بعض الآثار فتكون الجهة المشتركة بينها جنساً، كما يرى أنّ له جهة امتياز عن غيره، فيكون ذلك فصلا، وأُخرى يلاحظ الشيء بحسب مراتب وجوده وسيره بصوره النوعية، فيرى أنّ في جميع المراتب جهة باقية إلى المرتبة التالية، لا أنّ الشيء ينعدم من أصله وتحصل المرتبة التالية من العدم المحض، فتلك الجهة الباقية يعبّر عنها بالهيولى والقوّة القابلة وتكون فعليّتها بأمر آخر يعبّر عنه بالصورة، فالصورة والهيولى جزءان خارجيان للجسم بحسب ملاحظة مراتب وجوده.والجنس والفصل جزءان له ـ بحسب التحليل العقلي ـ في مقام مقايسته إلى سائر الأشياء، ويصح حمل الجنس على الفصل وبالعكس، وحمل كلّ منهما على النوع، فيكون كلّ منهما بالإضافة إلى الحمل لا بشرط، بخلاف الهيولى والصورة، فإنّه لا يصحّ حمل أحدهما على الآخر، بل وحتّى حمل كلّ منهما على الجسم الخارجي، فيكون كلّ منهما بالإضافة إلى الحمل بشرط لا، وليس مراد أهل المعقول أنّ الجنس بعينه هو الهيولى والفرق بينهما بالاعتبار، وكذلك الفصل مع الصورة.والحاصل أنّ كلاًّ من الهيولي ـ أي المادة القابلة ـ والصورة متقابلان بالذات، فلايحمل أحدهما على الآخر، بخلاف الجنس والفصل، فإنّ كلاًّ منهما أخذ للشيء بلحاظ مقابلته مع سائر الأنواع، فيكون كلّ منهما بالإضافة إلى الآخر لا بشرط ذاتاً، فيحمل أحدهما على الآخر لاتّحادهما خارجاً.وذكر المحقّق الاصفهاني (قدس سره) بعد قوله «فإن قلت: فما وجه حمل الجنس على الفصل والفصل على الجنس، مع أنّ طبيعة الجنس في الخارج غير طبيعة الفصل؟ وهل المصحّح إلاّ الاعتبار اللابشرطي»، ما حاصلهأنّ التركيب بين الجنس والفصل اتحادي لا انضمامي؛ لأنّ المركبات الحقيقية لابدّ لها من جهة وحدة حقيقية، وإلاّ كان المركّب اعتبارياً والوحدة الحقيقية لا تكون الاّ إذا كان أحد الجزئين بالقوة والآخر بالفعل، فإنّه لو كان كلّ منهما فعلياً، لكانت كلّ فعليّة تأبى عن الأُخرى.وإذا كان أحد الجزئين بالفعل والآخر بالقوة لم يكن في البين إلاّ جعل واحد، فيكون الجزئين بجعل واحد، فإنّه لو فرض أنّ كلاًّ من الجزئين مجعول مستقلّ لما كان في المركّب وحدة حقيقية، وإذا كان الجزءان مجعولين بجعل واحد، لكان أحد الجزئين ـ أي الأصل ـ مجعولا بالذات والآخر بالتبع، حتّى تصحّ نسبة الجعل إلى الجزئين مع فرض وحدة الجعل حقيقة، وعلى ذلك يكون مرور الفيض ـ أي فيض الوجود ـ من الأصل إلى التابع ـ أي من الصورة إلى المادة أو من الفصل إلى الجنس ـ.ثمّ ذكر (قدس سره) أنّه بذلك تبيّن الفرق بين الجنس والفصل، وبين العرض ومعروضه، فإنّ التركيب في الثاني اعتباري فيكون كل من العرض والمعروض بالإضافة إلى الآخر بشرط لا ذاتاً، بخلاف الجنس والفصل، كما تبيّن معنى اتحاد الجنس والمادة واتحاد الفصل والصورة ذاتاً واختلافهما بالاعتبار، حيث إنّ مبدأ الجنس الطبيعي إذا لوحظ بما له من الوجود الساري يكون مادة ولم يحمل على الفصل، وإذا لوحظ اتّحادهما في الوجود الساري يكون جنساً ويصح الحمل عليه.انتهى ما أردنا إيراده من كلامه (قدس سره)في المقام(17).أقولظاهر كلامه اتّحاد الجنس مع المادة ذاتاً، وكذا اتّحاد الفصل مع الصورة، وإنّما يكون الاختلاف بينهما بالاعتبار، فإنّه إذا لوحظ مبدأ الجنس الطبيعي بما له من الوجود الساري، يكون مادّة لا يحمل عليه الفصل، كما أنّه إذا لوحظ اتّحادهما في الوجود الساري صحّ الحمل وكان جنساً، ولكن قد تقدّم أنّ كون شيء جنساً لطبيعيّ وشيء آخر فصلا له، أمر يدركه العقل بالإضافة إلى الطبائع الأُخر، بخلاف كون شيء مادة له خارجاً، وشيء آخر صورة له، فإنّه بملاحظة مراتب وجود الطبيعي، فكلّ منهما غير الآخر ذاتاً، ولكن مع ذلك ظاهر كلام أهل المعقول في المشتق، وكذا في التفرقة بين الجنس والمادة، والفصل والصورة، هو عدم الاختلاف الذاتي، وكلام بعضهم كالصريح في أنّ الجنس هو المادة عيناً والاختلاف بالاعتبار، كما تقدّم في كلام المحقّق الأصفهاني (قدس سره).[7] ذكر صاحب الفصول (قدس سره) أنّ مصحّح الحمل إما اتّحاد الموضوع والمحمول حقيقة وتغايرهما اعتباراً، كما في (الإنسان حيوان ناطق)، وإمّا تغايرهما حقيقة واتّحادهما اعتباراً، كما في قولنا(الإنسان ناطق) أو (الإنسان جسم) فإنّ الإنسان لايتّحد مع الجسم أو الناطق مفهوماً كما هو واضح، ولا وجوداً فلابدّ في مثل ذلك من ملاحظة التركيب واعتباره في ناحية الموضوع، بأن يراد من الموضوع مجموع أمرين يصدق على ذلك المجموع، المحمول الملحوظ بنحو لا بشرط(18).وأورد على ذلك الماتن (قدس سره) بأنّه في موارد الحمل يكون الموضوع والمحمول متّحدين حقيقة، ومختلفين بالاعتبار، كما في المشتقات بالإضافة إلى الذوات، وحتّى في مثل (الإنسان جسم) أو (ناطق) حيث إنّ الإنسان خارجاً هو الجسم أو الناطق كما تقدّم في الأمر السابق، ومع هذا الاتحاد لا موجب لملاحظة التركيب في ناحية الموضوع، بل يكون لحاظه مخلاًّ بالحمل؛ لأنّه يوجب المغايرة بين الموضوع ومحموله بالكلّ والجزء، بأن يكون الموضوع مثلا مجموع الجسم والروح ويحمل عليه الناطق لا بشرط، مع أنّ من الواضح عدم ملاحظة التركيب في موضوعات القضايا المستعملة في مقام التحديد بالفصل أو الخاصة وغيرها، ضرورة أنّه لا يلاحظ في القضايا في طرف الموضوعات إلاّ مفاهيمها، كما هو الحال في ناحية المحمولات، وإنّما يحمل المحمول على الموضوع لاتّحادهما من وجه مع تغايرهما بنحو من الاعتبار.وبعبارة أُخرى: يعتبر في حمل شيء على شيء أمران: أحدهماأن يكون بين الموضوع والمحمول مغايرة ما، لئلاّ يلزم حمل الشيء على نفسه أو قيام النسبة بين الشيء ونفسه، فالحمل يقتضي التغاير بين الموضوع والمحمول ليكون هذا موضوعاً وذاك محمولا.والثاني: أن يكون بينهما نحو من الاتّحاد ليصحّ حمل الثاني على الأوّل، وعلى ذلك فقد يكون الاتحاد والتغاير كلاهما في مقام الذات والمفهوم، كتحديد الإنسان بأنّه حيوان ناطق، حيث إنّ التغاير بين الموضوع والمحمول بالإجمال والتفصيل مع اتّحادهما ذاتاً ومفهوماً، فيكون الحمل أوليّاً ذاتيّاً، وقد يكون التغاير بالمفهوم، والاتحاد بحسب الوجود، فالحمل فيه شائع صناعي، كما في حمل الناطق أو الجسم على الإنسان الخارجي، ومن هذا القبيل حمل المشتق على الذات، مثل (الإنسان كاتب) أو (زيد ضارب)، فلو كان بين الشيئين تغاير بحسب الذات والمفهوم، وبحسب الوجود مطلقاً، ذهناً وخارجاً، لم يكن للحمل مصحّحٌ، كما في قولنا(زيد علم) أو (أنّه ضرب) أو غير ذلك.وقد أضاف صاحب الفصول (قدس سره) على ملاك الحمل أمراً آخر، وهو أن يكون بين الموضوع والمحمول تغاير ذاتاً ووجوداً، واتّحاد اعتباراً، ومثّل لذلك بقوله (الإنسان ناطق) أو (جسم)(19)، وعبارة الماتن (قدس سره) في الأمر الثالث«ولا يعتبر معه ملاحظة التركيب بين المتغايرين واعتبار كون مجموعهما بما هو كذلك واحداً»(20)ناظرة إلى الجواب عنه، وأنّه بعد ما ثبت أنّ اتّحاد الفصل مع الجنس في الخارج حقيقي لا انضمامي، فلا موجب لملاحظة التركيب في مثل (الإنسان ناطق) أو (جسم) أو غير ذلك.[8] الصفات الجارية على الواجب (جلّ وعلا) المسمّاة بصفات الذات، فيها جهتان من الإشكال: الأُولىأنّ الذات المأخوذة في معنى المشتق على القول بالتركيب، والخارجة عنه على القول الآخر، زائدة على المبدأ، فيلزم كون المبدأ زائداً على ما يحمل عليه معنى المشتق، لينطبق عليه معنى المشتق باعتبار المبدأ، مع أنّ عنواني العالم والقادر يحملان على ذات الحق (جلّ وعلا) ومبادئها ليست زائدة على ذاته المقدّسة على مذهب الحق.والثانية: أنّ المعتبر في معنى المشتق، انتساب المبدأ إلى الذات وقيامه بها، والعلم والقدرة ليسا كذلك في ذاته المقدّسة، فإنّهما ليسا بعرضين ليقوما به، وعلى ذلك يقع الكلام في أنّه كيف تحمل هذه العناوين المشتقّة على ذاته تعالى؟ وأجاب الماتن (قدس سره) عن الجهة الاولى في هذا الأمر، وعن الجهة الثانية في الأمر الآتي، وحاصل ما ذكره في الجهة الأُولىأنّه لا يعتبر فيما يجري عليه عنوان المشتق، إلاّ تغايره مع المبدأ مفهوماً لا تغايره معه وجوداً، وبما أنّ مفهوم العلم والقدرة مغاير لذات الحق (جلّ وعلا) فلا إشكال في حمل عنوان العالم والقادر عليه سبحانه.وما في الفصول من أنّ الصفات الجارية عليه (سبحانه) منقولة عن معانيها الأوّليّة، أو مستعملة في غيرها مجازاً، وبتلك المعاني المنقولة إليها أو المجازية تحمل عليه (سبحانه)(21) لا يمكن المساعدة عليه، حيث لا ملزم لما التزم به، بعد عدم مغايرة المبدأ مع الذات وجوداً.أقوللا يعتبر في صدق المشتق وحمله على الذات مغايرتها مع المبدأ حتّى مفهوماً، وآية ذلك صدق المنير على النور، والموجود على الوجود ونحوهما، والوجه في ذلك أنّ الذات المأخوذة في معنى المشتق أمرٌ مبهم سيّال حتّى في نفس المبدأ.والحاصلأنّه لا يعتبر في حمل المشتق تغاير المبدأ مع الذات المحمول عليها حتّى مفهوماً، بل ولا تغايره مع معنى المشتق ولو اعتباراً.وقد يورد على ما ذكرنا ـ من عدم اعتبار المغايرة وأنّ الذات المأخوذة في معنى المشتق مبهمة تصدق على نفس المبدأ ـ بأنّه يلزم صدق الضارب على الضرب، والقاتل على القتل، إلى غير ذلك، مع أنّ قول القائل (الضرب ضارب) غلط فاحش، ولكن لا يخفى أنّ الذات المبهمة ليست تمام المدلول بحيث ينطبق معناه على نفس المبدأ في كلّ مورد، بل يعتبر في بعض المشتقات ـ بمقتضى مبادئها ـ التلبّس بنحو خاصّ، أي صدوراً أو نحوه، والذات المأخوذة بهذه الخصوصية لا تنطبق على الضرب والقتل ونحوهما.ولكن يرد على الماتن (قدس سره) بأنّ ما ذكره في هذا الأمر إبطال لما تقدّم منه سابقاً في الفرق بين المشتق ومبدئه، من كون الأوّل لا بشرط بالإضافة إلى الحمل، والثاني بشرط لا، فإنّ مقتضى ذلك عدم صحّة حمل العلم والقدرة والحياة على ذات الحق (جلّ علا)، مع أنّه قد ذكر في هذا الأمر أنّ اتّحاد المبدأ في القادر والعالم مع ذات الحق (عزّ وجلّ) حقيقي، والتغاير اعتباري، ولازم ذلك صحّة حمل ذات المبدأ على ذاته سبحانه، وهذا يتنافى مع كونه بشرط لا بالإضافة إلى الحمل على الذات.اللهم إلاّ أنّ يراد من بشرط لا، عدم أخذ الذات في معنى المبدأ، فلا يتّحد مع الذات في كلّ مورد يتّحد معه مفهوم المشتق مع الذات.ثمّ لا يخفى أنّ الإشكال في المقام والجواب عنه يجريان في خصوص صفات الذات، ولا يعمّان مثل الرحيم والكريم ونحوهما من صفات الأفعال، فلا موجب فيها بالالتزام باتّحاد المبدأ مع الذات عيناً وتغايرهما مفهوماً، كما هو ظاهر الماتن(قدس سره)، حيث جعل صفات الذات (المعبّر عنها بصفات الكمال) مع صفات الأفعال (المعبّر عنها بصفات الجمال) سواء في الإشكال والجواب.[9] حاصل ما ذكره (قدس سره) في المقام أنّه بعد الاتفاق على لزوم المغايرة بين المبدأ وما يحمل عليه المشتق مفهوماً، يقع الكلام في أنّه هل يعتبر في حمل المشتق على الذات قيام المبدأ بها، ليكون صدق المشتق عليها على نحو الحقيقة، أو لا يعتبر ذلك؟ وقد استدلّ من قال بعدم الاعتبار بصدق الضارب والمؤلم على الذات مع قيام الضرب والألم بالمضروب.ولكن لا ينبغي التأمّل في اعتبار تلبّس الذات بالمبدأ في صدق المشتق عليها حقيقة، إلاّ أنّ التلبّس لا ينحصر بقيام المبدأ بالذات قيام العرض بمعروضه، بل للتلبّس أنحاءٌ، والقيام بها أحد أنحائه الناشئة من اختلاف المواد تارةً، واختلاف الهيئات أُخرى من القيام صدوراً، أو حلولا، أو وقوعاً عليه، أو فيه، وانتزاع المبدأ عن الذات مفهوماً مع اتّحاده معها خارجاً من أحد أنحاء التلبّس، حيث إنّ العينية الخارجيّة نحو من أنحاء التلبّس، ضرورة أنّ كون الشيء واجداً لنفسه أقوى من كونه واجداً لغيره، وأيضاً من أنحاء التلبّس ما إذا كانت الذات متّصفة بالمبدأ خارجاً، ولكن لم يكن في الخارج بإزاء المبدأ وجود، بأن يكون المبدأ أمراً اعتبارياً عقلياً أو عقلائياً، كما في حمل الواجب والممكن على الذات خارجاً أو حمل الزوج والزوجة عليها، فيكون من خارج المحمول في مقابل المحمول بالضميمة الذي يكون بإزاءه وجود، كما في حمل الأبيض أو الأحمر على الجسم الخارجي.وعلى ذلك فلا يبقى إشكال في صفات الذات الجارية على ذات الحق (جلّ وعلا)، حيث يكون المبدأ مغايراً له (سبحانه) مفهوماً، ومتحداً معه عيناً، وقد تقدّم أنّ هذا أحد أنحاء التلبّس، فيكون حمل العالم والقادر عليه (سبحانه) حقيقة، حيث لم يعتبر في صدقها إلاّ التلبّس بمبدأ العلم والقدرة، لا التلبّس بهما بنحو قيام العرض بمعروضه، وعدم اطلاع العرف على التلبّس العيني لا يضرّ بكون انطباقهما عليه (تعالى) بنحو الحقيقة، فإنّ نظر العرف متبع في تشخيص معنى اللفظ، وأمّا أنّ انطباقه على مورد بنحو الحقيقة، بعد وضوح المفهوم، فالمتبع فيه نظر العقل.أقولكان ينبغي للماتن (قدس سره) أن يضيف إلى اختلاف أنحاء التلبّس اختلاف الذوات، فإنّ اختلافها كاختلاف المبادئ والهيئات.ثمّ ذكر (قدس سره) أنّه لا مجال لدعوى صاحب الفصول (قدس سره) أنّ الصفات الجارية عليه (سبحانه) منقولة، أو مستعملة في غير معانيها اللغوية مجازاً؛ ولذا لا تصدق على غيره (سبحانه) وتكون أسمائه تعالى توقيفية.والوجه فيه، مضافاً إلى ما ذكر من صدقها عليه (سبحانه) بما لها من المعاني لغة، أنّ النقل أو التجوّز يوجب كون تلك الألفاظ مجرّد لقلقة وألفاظاً بلا إرادة المعنى، فإنّ معانيها المنقولة إليها، أو المستعملة فيها مجازاً، مجهولة لنا.والعجب أنّه جعل نقل الصفات أو التجوّز فيها علّة لعدم جواز إطلاقها على غيره (سبحانه)، مع أنّ إطلاق عالم وقادر وحيّ على غيره (سبحانه) شائع.أقولقد تقدّم في الأمر السابق عدم اعتبار مغايرة المبدأ مع الذات المحمول عليها عنوان المشتق حتّى مفهوماً، ولو كانت العينية الخارجية مصحّحة للتلبّس المعتبر في معنى العالم والقادر لانطبق معناهما على نفس القدرة والعلم، ولصحّ قول القائل (علمه عالم) و(قدرته قادرة) وعدم مقبولية هذا الحمل في أذهان العامة لم ينشأ إلاّ من عدم التفاتهم إلى التلبّس بنحو العينية.ولا نريد بذلك أنّ عنواناً من العناوين إذا كان محكوماً بحكم شرعي يثبت ذلك الحكم لكلّ ما يراه العقل مصداقاً له، وإن لم يكن مصداقاً بنظر العرف، فإنّ الخطابات الشرعية متوجّهة إلى العرف، فما يفهمه العرف من الموضوعات الواردة فيها يكون هو المراد منها.وأمّا ما ذكره الماتن (قدس سره) ـ من الاستدلال على عدم النقل والتجوّز من أنّه لو كانت الصفات الجارية عليه (سبحانه) منقولة، أو مستعملة في غير معانيها الأصلية لكانت لقلقة اللسان وألفاظاً بلا معنى ـ فلا يمكن المساعدة عليه، فإنّ كون تلك المعاني معلومة بالإجمال يكفي في خروجها عن مجرد لقلقة اللسان، وكون تلك الصفات عين ذات الواجب (جلّ وعلا) مما يوجب الإشارة إلى معانيها ولو بالإجمال.[10] وحاصله أنّ استعمال المشتق في معناه أمرٌ، وتطبيق ذلك المعنى على شيء أمرٌ آخر، وفيما كان الشيء غير متلبّس بالمبدأ حقيقة، بل كان التلبّس في غيره حقيقة يكون المجاز في تطبيق معنى المشتق وإسناده إلى الشيء الأوّل لا في استعمال المشتق في معناه، كما في قوله (الميزاب جار).وبتعبير آخريكون المجاز في الإسناد لا في الكلمة، فإنّ المجاز في الكلمة عبارة عن استعمالها في غير ما وضعت له، والمشتق في موارد المجاز في الإسناد لا يستعمل في غير معناه الموضوع له، بل يكون تطبيق ذلك المعنى الموضوع له عليه بالعناية، فما عن صاحب الفصول (قدس سره) من اشتراط تلبّس الذات بالمبدأ في استعمال المشتق حقيقة(22) غير صحيح.أقولعبارة الماتن لا تخلو عن التعقيد والاضطراب، والمراد ما ذكرنا، فإنّ المراد من قوله «حقيقة» ليس قيداً للصدق والجري، بل قيد للمشتق، أي لا يعتبر في حمل المشتق بمعناه الحقيقي على الذات، تلبّس تلك الذات بالمبدأ حقيقة، بل يكفي تلبّسها بالعناية، فيكون الإسناد مجازياً.(1).سورة المائدةالآية 38.(2).ص 191 من هذا الكتاب.(3).أجود التقريرات1 / 78.(4).شرح المطالعص 11 ط كتبى، و ص 8 ط مكتبة مسجد أعظم.(5).حاشيته على شرح المطالعص 11.(6).الفصول الغرويةص 50.(7).أقولإنّ الأمرين اللذين يبتنى عليهما الانحلال بحسب ما يوهمه ظاهر عبارة الكفاية هما أخذ مصداق الشيء أوّلاً ولحاظ القيد داخلاً في المحمول ثانياً، فأورد شيخنا الاستاذ (دام ظله) على صاحب الكفاية بابتناء الانحلال على الأمر الثاني فقط، ولا يخفى أنّ هذا مع غضّ النظر عن محذور لزوم أخذ العرض في الفصل فيما لو كان المحمول فصلاً كما مثّل به صاحب الكفاية (قدس سره)، ولكن لو مثّل بدله بالإنسان ضاحك كما مثّل به المحقق الشريف لكان أفضل وأولى، ولعلّ تمثيله بالناطق من باب تبناه من عدم كون الناطق فصلاً حقيقياً بل هو فصل مشهوري منطقي.(8).أجود التقريرات1 / 69.(9).الكفايةص 52.(10).ذكر المنطقيون أنّ العرض العام أمر نسبي فهو بالنسبة إلى الأجناس السافلة عام ولكن بالنسبة إلى الأجناس العالية خاصة وتوهم المحقق النائيني (قدس سره) أنّها قاعدة عامّة وبها استدلّ على كون الشيء جنساً لا عرض عام إذ ليس خاصة لا للجنس البعيد ولا للجنس القريب وبما أنّه جهة جامعة بين الماهيات فيكون جنساً.ولكن الظاهر أنّ ما ذكره المنطقيون إنما هو بحسب الغالب إذ الملاك فيه (أي عمومية العرض) كونه خارجاً عن الموضوع وغير مختص بموضوعه فربّما يوجد عرض عام ولا يكون خاصة لجنس أصلاً كالموجود فإنّه عرض عام لجميع المقولات العشر وغير مختص بإحدها حتّى يكون خاصة وعليه فيكون إيراد شيخنا الاُستاذ (دام ظله) في محلّه أو ذلك لا يثبت كون الشيء جنساً.(11).لا يخفى أنّ الذاتي والعرضي في باب الكليات الخمس إنما هو باعتبار الكليات النفس الأمر به وأمّا الاُمور الاعتبارية الانتزاعية فليست مندرجة في الذاتي ولا العرضي إذ هي لا من الجواهر ولا من الأعراض، وعليه فلو أطلق عليه العرضي فهو من باب إطلاق العرضي على المشتقات المنتزعة الاعتبارية كالزوج والحر ونحوها لا من باب العرضي المصطلح عند المنطقيين في باب الكليات الخمس.(12).أجود التقريرات1 / 65.(13).أجود التقريرات1 / 66.(14).الفصول الغرويةص 50.(15).الفصول الغرويةص 50.(16).الفصول الغرويةص 50.(17).نهاية الدراية1 / 228.(18).الفصول الغرويةص 50.(19).الفصول الغرويةص 50.(20).الكفايةص 56.(21).الفصول الغرويةص 50.(22).الفصول الغرويةص 50.المقصد الأوّل: في الأوامر الفصل الأوّل: مادة الأمر الأُولىأنّه قد ذكر للفظ الأمر معان متعدّدة[1].وأمّا بحسب الاصطلاح، فقد نقل الاتفاق على أنّه حقيقة في القول المخصوص[2].نعم، القول المخصوص أي صيغة الأمر[3].وقد استعمل في غير واحد من المعاني في الكتاب والسنة[4].الظاهر اعتبار العلوّ في معني الأمر[5].ولا يبعد كون الأمر حقيقة في الوجوب[6].الجهة الرابعةالظاهر أنّ الطلب الذي يكون هو معنى الأمر[7].معنى مادة الأمر: [1] ذكر للفظ «الأمر» معان عديدة: منها: الطلب، فيقالأمره فلان بكذا.ومنها: الشأن والمراد به الحال مطلقاً، أو فيما كان خطيراً فيقال(شغله أمر كذا).ومنهاالفعل، كما في قوله سبحانه (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيْد)(1).ومنهاالفعل العجيب، كما في قوله سبحانه (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنا)(2).ومنها: الشيء، كقولك(رأيت أمراً عجيباً).ومنها: الحادثة، كقوله(فلما وقع الأمر).ومنهاالغرض، كقوله (جئتك لأمر).وذكر الماتن (قدس سره) أنّ الظاهر عدم استعمال لفظ «أمر» في جميع هذه المعاني، بل عدّ بعضها من معانيه من قبيل اشتباه المصداق بالمفهوم؛ وذلك لأنّ لفظ «أمر» في قولك (جاء زيد لأمر كذا) استعمل في معنى الشيء، واللاّم الداخلة عليه تدلّ على أنّ الشيء المفروض مصداق للغرض، لا أنّ مدخول اللام استعمل في معنى الغرض ومفهومه، وكذا استعمل في قوله سبحانه (فَلَمّا جَاءَ أَمْرُنَا) في معنى الشيء، لا في معني التعجّب.غاية الأمر أنّ الشيء المفروض مصداق للعجيب، وكذا الحال في الحادثة والشأن.فما عن صاحب الفصول (قدس سره) من أنّ لفظ «أمر» حقيقة في المعنيين الأوّلين يعني الطلب والشأن(3) غير سديد، حيث إنّ عدّ الشأن من معانيه من اشتباه المصداق بالمفهوم أيضاً، فلا يبعد أن يكون مشتركاً لفظاً بين الطلب في الجملة ـ على تفصيل يأتي ـ وبين معنى الشيء.وذكر المحقّق النائيني (قدس سره) أنّه لا إشكال في كون لفظ «أمر» حقيقة في الطلب، وأمّا بقية المعاني فكلّها راجعة إلى معنىً واحد، وهي الواقعة التي لها أهمية، وهذا المعنى ينطبق على الحادثة والغرض وغيرهما من المعاني(4).ولكن فيه؛ أوّلا: أنّه لم يؤخذ في معناه الأهمية، بل قد يوصف بعدم الأهمية، فيقال(لا يهمّه الأمر الفلاني، أو إن الأمر الفلاني لا أهميّة له)، ولو كان قيد الأهمية مأخوذاً في معناه؛ لكان توصيفه بعدمها من توصيف الشيء بعدمه.وثانياًأنّ الأمر يجمع على نحوين، فيصح إطلاق أحدهما على الطلب، ولا يصح إطلاق الآخر عليه، فمثلا يطلق على الطلب المتعدّد أوامر، ولا يطلق عليه الأمور، وكذا العكس.وأيضاً يصح الاشتقاق منه بمعنى الطلب، ولا يصح منه الاشتقاق بمعناه الآخر فلا يمكن أن يقال إنّ جميع معانيه ترجع إلى معنىً واحد، حتّى يكون مشتركاً معنوياً.وعن السيّد الأُستاذ (رضوان اللّه تعالى عليه) أنّه مشترك بين الطلب في الجملة وبين الفعل، الذي يعبّر عنه باللغة الفارسية بلفظ (كار)، واختلاف جمعه باعتبار المعنيين، فإنّه بمعنى الطلب يجمع على أوامر، وبمعنى الفعل يجمع على أُمور(5).أقولهذا الكلام أيضاً لا يمكن المساعدة عليه، فإنّ لفظ «أمر» قد يستعمل في موارد لا يصلح لشيء ممّا ذُكر، كما يقال (البياض أمر خارجي، بخلاف الإمكان فإنّه أمر عقلي) كما أنّ ما ذكر في الكفاية أيضاً غير تامّ، فإنّه لا يصحّ في مثل قوله (سبحانه) (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيْد) وضع لفظ الشيء مكانه.فالحق في المقام هو أنّه لايبعد كونه مشتركاً في كلّ من الطلب، والشيء، والعمل، بنحو الاشتراك اللفظي ويعيّن المراد بالقرائن في موارد الاستعمال.وما يقال من أنّ الأمر لا يطلق على الجواهر كما عن السيد الاُستاذ (رضوان اللّه تعالى عليه)(6)، لا يمكن المساعدة عليه أيضاً؛ فإنّه يقال(مفهوم الإنسان أمر ذهني وواقعه أمر خارجي).[2] وحاصله أنّ لفظ «أمر» بحسب اصطلاح الاصوليين، حقيقة في المعنى الأوّل من المعاني المتقدّمة، وهو الطلب في الجملة، وما ذكروا في تعريفه بيان للمعنى الأوّل، وعليه فيرد عليهم أنّ القول المخصوص لعدم كونه معنى حدثيّاً غير قابل للاشتقاق منه، مع أنّ الاشتقاقات منه بلحاظ معناه الاصطلاحي (أي بلحاظ المعنى الأوّل من المعاني المتقدمة)، فلا يبعد أن يكون مرادهم في التعريف ـ من القول المخصوص ـ الطلب بالقول المخصوص، ليمكن الاشتقاق منه.نعم لو ثبت أنّ لهم فيه اصطلاح خاصّ، بأن يكون لفظ الأمر في اصطلاحهم منقولا عن المعنى اللغوي وموضوعاً للقول المخصوص، فلا مشاحّة فيه، وعليه فتكون الاشتقاقات منه بلحاظ المعنى اللغوي، أي الطلب في الجملة، لا معناه الاصطلاحي، أي القول المخصوص.أقوللم يظهر وجه اشتقاق المشتقات من المعنى الاصطلاحي لتتمّ المناقشة في تعريفهم، وظاهر القول المخصوص في كلامهم هو المقول المخصوص، كصيغة إفعل، حيث لا خصوصية للقول بمعناه المصدري إلاّ الجهر والإخفات، وأمّا سائر الخصوصيات ـ ككونه صيغة الأمر ونحوها ـ فهي أوصاف المقول، والمقول ـ باعتبار جموده ـ غير قابل للاشتقاق منه.لا يقالما ذكره (قدس سره) من أنّ مرادهم بالقول المخصوص الطلب ليكون قابلا للاشتقاق منه، غير تامّ، فإنّ الأمر بهذا المعنى أيضاً غير قابل للإنشاء، والقابل للإنشاء هو نفس الطلب، لا الطلب بالقول.فإنّه يقالتقييد الطلب بالقول المخصوص للإشارة إلى الحصة الخاصة منه، حيث إنّ في الطلب المنشأ ضيق ذاتي، نظير ضيق المعلول من ناحية علّته، ويكون المدلول بمادة الأمر أو بصيغته هي الحصّة من الطلب في مقابل حصّته الأُخرى، يعني الطلب الحقيقي الذي لا يكون قابلا للإنشاء.[3] هذا بيان أنّ تعريف الأمر في كلماتهم بالقول المخصوص غير صحيح، فإنّ القول المخصوص لا يكون مساوياً لمعنى الأمر والطلب.نعم القول المخصوص كصيغة الأمر عند استعمالها، يكون باعتبار مدلوله مصداقاً لعنوان الطلب، لا بما هو قول مخصوص، بل من حيث مدلوله من كونه طلباً مطلقاً أو مخصوصاً كما في صيغة (بعت)، فإنّها باعتبار المنشأ بها (أي الملكية) تكون مصداقاً للبيع، لا بما هي لفظ وقول مخصوص وكما لا يصحّ تعريف البيع بأنّه القول المخصوص فكذلك الأمر كما لا يخفى.وذكر المحقّق الاصفهاني (قدس سره) أنّ القول المخصوص بنفسه قابل للاشتقاق منه، حيث إنّ القول المخصوص صنف من الكيف المسموع وعرض قائم بالإنسان، وعليه فإن لوحظ بنفسه من دون لحاظ صدوره وقيامه بالإنسان ـ مثلا ـ فهو المبدأ الساري في جميع المشتقات، وإن لوحظ قيامه به بنحو الحدوث فهو المعنى المصدري، وإن لوحظ انتسابه إليه في الحال أو الاستقبال فهو المعنى المضارعي، وإن لوحظ انتسابه إليه في الماضي فهو المعنى الماضوي إلى غير ذلك.والحاصل أنّ هيئة «إفعل» لا تكون من الجواهر كالحجر الذي لا يكون له قيام بالغير ولا يمكن فيه اللحاظ بالأنحاء المتقدمة ليكون مبدأً أو مصدراً أو ماضياً أو مستقبلا إلى غير ذلك.وعليه فلفظ (أمَرَ) بصيغة الماضي، موضوع للصيغة المنتسبة إلى الفاعل بانتساب تحقّقي في الماضي ولفظ (يأمر) موضوع لها بالانتساب المتحقّق في الحال أو الاستقبال، وصيغة الأمر موضوعة للدلالة على طلب إيجاد الفعل من الفاعل(7).أقولمجرّد كون شيء عرضاً خارجاً لا يصحّح جعله مبدأ اشتقاق، إذ معنى العرض ومعنى الجوهر في ذلك على حدٍّ سواء، بل لابدّ في الاشتقاق من تضمّن معنى حدثي ليكون إظهار فعليّته على نحو التحقّق ماضياً وعلى نحو الترقّب مضارعاً إلى غير ذلك، وليس وجه عدم الاشتقاق من معنى الجوهر كونه جوهراً وعدم قيامه بالغير خارجاً، بل الوجه عدم تضمّنه المعنى الحدثي.والحاصل أنّ القول المخصوص بمعناه المصدري (أي التلفّظ به) قابل للاشتقاق منه ولكن مادة (أ ـ م ـ ر) لم توضع له، ولا يقال لمن تلفّظ بمادة الأمر أو بصيغة الطلب بدون قصد إنشاء الطلبإنّه قد أمر، بل الأمر من مقولة المعنى (أي المعنى الانشائي) على نسق ما ذكر في البيع والوكالة والوضع وغيرها من الإنشائيات.وعليه، فاللازم في صدق الأمر من فرض الطلب وإنشائه بصيغة (إفعل) أو غيرها من فعل أو قول ليقال على المنشأ بلحاظ إنشائه أمراً، وأمّا القول المخصوص (أي ما هو ملفوظ) مع قطع النظر عن الإنشاء به، فغير قابل للاشتقاق.[4] لا أرى وجهاً تامّاً لهذا الكلام بعد اختياره (قدس سره) أنّ لفظ الأمر حقيقة في الطلب في الجملة والشيء، فإنّه مع فرض كونه حقيقة فيهما على نحو الاشتراك اللفظي، لم يكن مورد لقوله إنّ لفظ الأمر قد استعمل في الكتاب والسنة في معان، ولا حجّة على كونه من الاشتراك لفظاً أو معنىً، أو أنّه بالحقيقة والمجاز، كما لا وجه لما ذكر في آخر كلامه من ظهوره في المعنى الأوّل (أي الطلب)، للانسباق من الإطلاق، فإنّ مفهوم الشيء مع مفهوم الطلب لا يشتبه، وليس استعماله في أحدهما كثيراً وفي الآخر نادراً حتّى يحمل في موارد الدوران على المعنى الغالب، باعتبار أنّ إرادة المعنى النادر يحتاج إلى القرينة دون المعنى الغالبي.اعتبار العلوّ في الآمر[5] قيل يعتبر في معنى الأمر وصدقه على الطلب علوّ الطالب، أو استعلائه، ويستدلّ عليه بتقبيح طلب السافل المستعلي فإنّ توبيخه بمثل (ليس لك أن تأمره) دليلٌ على أنّ الصادر من المستعلي أمر، ولو كان المعتبر هو العلوّ فقط، لما أمكن صدوره من السافل ليتوجّه عليه التوبيخ.والجواب: أنّ التوبيخ لا يكون لطلبه حقيقة، بل لاستعلائه ورؤية نفسه عالياً، وإطلاق الأمر على طلبه بلحاظ نظر المستعلي حيث يرى نفسه عالياً وطلبه أمراً، ولذا يمكن سلب الأمر عن طلبه فيقالإنّه ليس بأمر، ولكنّه لغروره يرى نفسه عالياً، ولو كان الاستعلاء كافياً في كون الطلب أمراً لما صحّ هذا السلب.دلاله مادة الأمر على الطلب الوجوبي[6] لا يخفى أنّ لزوم الحذر يختص بمحالفة الأمر الوجوبي، والطلب الندبي خارج عن المراد من الأمر في الآية الكريمة يقيناً، ولكن يدور الأمر بين أن يكون خروجه عنه بالتخصّص كما إذا كان الأمر حقيقة في الطلب الوجوبي فقط، أو يكون خروجه عنه بالتقييد، كما إذا كان حقيقة في الأعمّ، ولا معيّن للخروج بالنحو الأوّل، فإنّ أصالة عدم التقييد غير جارية في موارد العلم بالمراد، من ثَمّ جعل (قدس سره)الآية مؤيّدة لا دليلا.وممّا ذكر يظهر وجه المناقشة في الاستدلال بقوله (صلّى الله عليه وآله)«لولا أن أشقّ على أُمّتي لأمرتهم بالسواك مع كلّ صلاة»(8) فإنّه لو لم يكن الأمر حقيقة في خصوص الطلب الوجوبي، لزم التقييد في الرواية بأن يراد لأمرتهم وجوباً بالسواك، وقد تقدّم أنّه لا اعتبار بأصالة الإطلاق في مثل ذلك مما علم المراد.وأما رواية بريرة(9) فلم يظهر أنّها سألت رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) عن الطلب الوجوبي ليستظهر أنّ لفظ الأمر حقيقة في الوجوب، بل لعلّ السؤال عن أصل الطلب المولوي، فلا وجه لعدّ الرواية مؤيّدة أيضاً.نعم، صحّة الاحتجاج على العبد، ومؤاخذته على مخالفته وتوبيخه عليها، فيما إذا قال إني آمرك بكذا فخالف، دليل قطعيّ على ظهور مادة الأمر في الطلب الوجوبي.لكن يبقى الكلام في أنّ هذا الظهور وضعي أو إطلاقي حاصل من مقدّمات الحكمة.فنقول: الصحيح أنّ مادة الأمر بنفسها دالة على الطلب الوجوبي، بخلاف صيغة الأمر، فإنّ دلالتها على الطلب الوجوبي بالإطلاق؛ وذلك لأنّه لا فرق في المستعمل فيه للصيغة، بين كون الطالب عالياً أم لا، مثلا نفرض أنّ أحد الموالي طلب من عبده وعبد غيره قراءة القرآن، بأن قال لكلٍّ منهما(إقرء القرآن) فإنّا لا نجد في أنفسنا فرقاً في المستعمل فيه للصيغة بين الموردين، ولكن يصدق الأمر على الطلب من العبد الأوّل، ولا يصدق على الطلب من العبد الثاني، فتكون خصوصية علوّ الطالب مأخوذةً في صدق الأمر على الطلب، وهذا العلوّ غير مأخوذ في معنى صيغة (إفعل).المائز بين الوجوب والندبوكذلك في موارد كون الطلب وجوبياً أو استحبابياً، فإنّا لا نجد فرقاً بين المستعمل فيه للصيغة، في موارد كون الطلب وجوبياً أو استحبابياً، كما لو ورد في قول الشارع (إغتسل للجمعة ومِن مسّ الميت) وإن كان الطلب بالإضافة إلى الأوّل استحبابياً وبالإضافة إلى الثاني وجوبياً، فإنّ افتراق الوجوب عن الندب، بثبوت الترخيص في الثاني دون الأوّل.وبتعبير آخرأنّه إذا لم يكن في البين ترخيص في الترك، ينتزع عنوان الوجوب، وفيما إذا ثبت، ينتزع عنوان الندب، فإنّ المنشأ ـ بالفتح ـ بصيغة (إفعل) هوالنسبة الطلبية، فمع كون المنشاَ ـ بالكسر ـ في مقام البيان وعدم ترخيصه في الترك، يستفاد الوجوب، وهذا بخلاف مادة الأمر، فإنّها ـ بمقتضى وضعها ـ تنفي الترخيص في الترك، كما يجد ذلك كلّ من لاحظ مرادف مادة الأمر بمعنى الطلب في سائر اللغات كلفظة (فرمان) في اللغة الفارسية وصحّة سلب عنوان الأمر و(فرمان) عن الطلب الاستحبابي.وبالجملة دلالة صيغة الأمر على الوجوب إنّما هو بمقتضى إطلاقها الوارد في مقام البيان، بخلاف مادة الأمر، فإنّه بمقتضى وضعها له، وذلك لأنّ الفرق بين الوجوب والاستحباب لايكون بشدّة الطلب وضعفه، كما عليه الماتن (قدس سره).لكن لا من أجل أنّ الوجوب والندب أمران اعتباريّان والشدّة والضعف لا يكونان في الأُمور الاعتبارية، وذلك لثبوتهما في بعض الأُمور الاعتبارية كالتعظيم والتحقير وغيرهما، فيكون الفعل الفلاني أقوى تعظيماً من الفعل الآخر.بل لأنّا نرى بالوجدان أنّ الطلب لا يكون شديداً في موارد الوجوب وضعيفاً في موارد الاستحباب.وأمّا شدّة الشوق وضعفه، فهو خارج عن الحكم ومدلول صيغة الأمر ومادّته.كما أنّ الفرق بين الوجوب والاستحباب لا يكون بتركّب الوجوب من طلب الفعل والمنع عن تركه، والاستحباب طلب الفعل مع الترخيص في تركه كما عليه القدماء، بل الفرق بينهما في إطلاق الطلب، فإنّه لا يكون في موارد الوجوب ترخيص في ترك الفعل، بخلاف موارد الندب فإنّ الطلب فيها موصوف بثبوت الترخيص في الترك، ولذا يكون مجرد الطلب مع عدم الترخيص كافياً في استقلال العقل بلزوم اتّباعه ولا يحتاج إلى إحراز المنع عن تركه.وممّا ذكرنا يظهر أنّ ما يذكر في امتياز الوجوب عن الندب بكون مصلحة الفعل في الأوّل تامّة وفي الثاني ناقصة لا يمكن المساعدة عليه، فإنّ المائز بين الطلب الوجوبي والندبي هو ما ذكرناه، حتّى بناءاً على إنكار المصالح والمفاسد في المتعلقات، نعم المصلحة غير الملزمة توجب الترخيص في الترك بخلاف الملزمة.ولا يخفى أنّ الطلب لو كان مستفاداً من مادة الأمر، فجميع مشتقاتها تدلّ على الطلب بلا فرق بينها، دون ما إذا كان مستفاداً من صيغة الأمر فحسب، حيث إنّ الهيئة تكون دالّة على الطلب، والمادة تدلّ على متعلق النسبة الطلبية.وعن المحقّق النائيني (قدس سره) أنّ كلاًّ من الوجوب والندب من حكم العقل وليسا من المداليل اللفظية، فإنّ العقل يرى بمقتضى العبودية والرقّية لزوم الخروج عن عهدة ما أمر به المولى، ولا معنى للوجوب إلاّ إدراك العقل لابدّية الخروج عن عهدة الفعل، وذكر أيضاً أنّ المنشأ بمادة الأمر أو بصيغته كون المادة في عالم التشريع على المكلف وإيقاعها عليه(10).أقوللا أظن أنّ أحداً لا يلتزم بحكم العقل في موارد طلب الفعل وإيجابه على المكلّف، ولكنّ حكم العقل بلا بدّية الفعل يختص بصورة وصول التكليف المجعول على المكلف مع عدم وصول الترخيص في الترك، كما أنّ العقل مع وصول الطلب وترخيص المولى في الترك لا يحكم باللابدّية، بل يحكم بكون المكلّف على خيار، إلاّ أنّ الكلام في المقام في منشأ هذا الحكم.وقد ذكرنا أنّ منشأه إطلاق الطلب أو اقترانه بالترخيص كما ذكرنا أنّ مادة الأمر بمقتضى وضعها تثبت الطلب المطلق بلا حاجة إلى ضمّ مقدّمات الاطلاق، بخلاف صيغة (إفعل) فإنّ ظهورها في الطلب المطلق بمقدمات الحكمة لا بالوضع، وهذا كما يقال في الفرق بين العامّ الوضعي والاطلاق الشمولي أو غيره.وأمّا ما ذكره (قدس سره) من أنّ المنشأ والمعتبر، في موارد استعمال الصيغة أو مادة الأمر، كون المادة على المكلّف، كما هو ظاهر الإيقاع عليه، فيدفعه شهادة الوجدان على أنّ السامع لا يجد فرقاً في المستعمل فيه للصيغة بين موارد الطلب الوجوبي والطلب الندبي، فلو كان المستعمل فيه لصيغة الأمر إيقاع المادة على المكلّف، لكان هو المستعمل فيه في كلا الموردين، والحال أنّه لم يكن مستعملاً فيه في الندب بالضرورة، فلم يكن في الوجوب أيضاً كذلك.نعم اعتبار المولى الفعل على عهدة المكلف داخل في عنوان الإيجاب، فيما إذا كان بداعي صدور الفعل من المكلف، إلاّ أنّ هذا ليس بالمعنى الموضوع له والمستعمل فيه للصيغة، بل المتبادر منها في موارد استعمالها، البعث إلى المادة وتحريك المخاطب نحو صدور الفعل عنه، غاية الأمر البعث والتحريك اعتباري، فإذا كان مطلقاً اتّصف بالإيجاب، وإذا كان مقترناً بالترخيص في الترك، اتّصف بالندب، كما ذُكر.وأمّا ما في الكلمات من أنّ الوجوب بمعنى الثبوت، فلا يدلّ على أنّ معنى الثبوت هو الثبوت على الذمة، بل الثبوت بالمعنى اللغوي يعمّ الندب أيضاً، لثبوت الطلب بالإضافة إلى المندوبات أيضاً.الطلب والإرادة: [7] حاصله أنّ للطلب نحوين من التحقّق: النحو الأول: الطلب الاعتباري الذي يوجد وينشأ باستعمال اللفظ ويحمل عليه الطلب بالحمل الأوّلي، بناءاً على انحصار الحمل الشائع الصناعي بحمل الطبيعي على فرده العيني، على ما ذكره بعض في بحث الوجود الذهني، ولفظ الأمر موضوع لهذا النحو من الطلب سواء كان إنشائه بصيغة الأمر أو بمادّته أو بمادة الطلب، فإنّه إذا قيلأمر فلان فلاناً، يفهم منه أنّه طلب منه طلباً إنشائياً.والنحو الثاني: الطلب الحقيقي الذي هو أمر نفساني يحمل عليه عنوان الطلب بالحمل الشائع، وإن أبيت إلاّ عن كون لفظ الأمر موضوعاً لمطلق الطلب، فلا أقلّ من كونه منصرفاً عند إطلاقه إلى الانشائي منه، لما ذكرنا من تبادره منه، فيكون لفظ الأمر حاله حال لفظ الطلب، فإنّ لفظ الطلب مع كونه موضوعاً لمطلق الطلب ينصرف عند إطلاقه إلى الإنشائي منه، وكذلك للإرادة نحوين من الوجودحقيقي واعتباري، وعند إطلاقها تنصرف إلى الحقيقي منهما الذي هو عين الطلب الحقيقي، عكس لفظ الأمر والطلب، فلفظ الإرادة ولفظ الطلب مترادفان ومتحدان مفهوماً ومصداقاً، ومختلفان في المعنى المنصرف إليه، حيث إنّ الأوّل ينصرف إلى الحقيقي منه، والثاني إلى الإنشائي منه.ولا يبقى مجال لتوهم أنّ في النفس غير الإرادة ومقدّماتها صفة أُخرى قائمة بها تكون طلباً، كما التزم به أبوالحسن الأشعري، وسمّاه بالكلام النفسي، الذي يكون في موارد الأمر، والوجه في عدم المجال لذلك أنّ مراجعة الإنسان وجدانه كافية في أن يحصل له اليقين بأنّه عند طلب الفعل ولو من الغير لا يجد من نفسه شيئاً غير الإرادة، أي الشوق المؤكّد المستتبع لتحريك عضلاته في موارد إرادة الفعل بالمباشرة، أو المستتبع لأمر عبده في موارد إرادته لا بالمباشرة، ولا توجد صفة أُخرى لتكون حقيقة الطلب، بل لا توجد في النفس مع الإرادة إلاّ مقدّماتها التي تتحقّق عند خطور الشيء على قلبه والميل إليه أي هيجان رغبته إليه، والتصديق بفائدته، وهي الجزم بدفع ما يوجب توقّفه عن طلب الفعل وإرادته لأجل تلك الفائدة.وبتعبير آخرالجزم المفروض في الحقيقة هو الجزء الأخير من مبادئ الإرادة، وتحصل الإرادة عندخطور الفعل ـ أي حضوره في الذهن ـ والميل إليه والتصديق لفائدته والجزم بعدم المانع عن إرادته.ثمّ إنّه (قدس سره) قد تعرّض لحال سائر الصيغ الإنشائية والجمل الخبرية، وذكر أنّ في موارد إنشاء الترجّي والتمنّي مثلا لا يكون في النفس غير الترجّي وغير التمنّي وفي مورد الإخبار غير العلم بثبوت النسبة أو لا ثبوتها، صفات أُخرى تكون تلك الصفات حقيقة التمنّي والترجي وحقيقة الإخبار، كما التزم به الأشعري وسمّاها بالكلام النفسي، وزعم أنّ الكلام اللفظي دالّ عليه، كما يشير إليه ما قيل«إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنّما *** جُعل اللسان على الفؤاد دليلاً» وعمدة ما استدلّ به الأشاعرة على مغايرة الطلب مع الإرادة هو أمر المولى عبده بفعل لا يريده منه، كما في موارد الاختبار والاعتذار ـ والمراد بالاعتذار أن يكون غرض المولى من أمره عصيان العبد، ليعتذر عن توبيخه وعقابه على مخالفته ـ ففي موردهما يجد الآمر من نفسه حقيقة أمره وطلبه، مع أنّه لا يريد فعله، وهذا شاهد لكون الطلب غير الإرادة كما استدلّ على ثبوت الكلام النفسي بثبوت المدلول في مقامات الاخبار كذباً أو تردّداً(11).ولكن لا يخفى ما فيه، فإنّه كما لا إرادة في موارد الاختبار والاعتذار، كذلك لا طلب حقيقيّ في مواردهما، بل الموجود الطلب الإنشائي، وقد يعبّر عنه بالإرادة الإنشائية، وإنّما الاختلاف بين الإرادة والطلب، كما تقدّم في المعنى المنصرف إليه منهما.وذكر (قدس سره) أنّه يمكن أن يقع التصالح بين الطرفين ويرتفع النزاع في البين بأن يكون مراد الأشعري من المغايرة مغايرة الطلب الإنشائي مع الإرادة الحقيقية، ومراد معظم الأصحاب والمعتزلة من الاتحاد اتّحاد الطلب الحقيقي مع الإرادة الحقيقية.أقوللا يمكن ان يكون النزاع بين الطرفين لفظياً، فإنّ الأشعري يلتزم بالكلام النفسي، ويجعله من صفات الحقّ (جلّ وعلا) وأنّه غير العلم والإرادة، ويقول بأنّ الكلام اللفظي كاشف عنه وطريق الوصول إليه، وعليه فلابدّ من فرض صفة زائدة على العلم والإرادة، حيث إنّه سبحانه كما يوصف بأنّه عالم ومريد، يوصف بأنّه متكلّم، ولعلّه إلى ذلك أشار في آخر كلامه بقوله «فافهم».وذكر المحقّق النائيني (قدس سره) ما حاصلهأنّ قضية الكلام النفسي على ما التزم به الأشعري وإن كان أمراً موهوماً ـ إذ ليس في النفس غير الإرادة ومبادئها، وغير العلم بثبوت النسبة أو لا ثبوتها، وغير تصور النسبة بأطرافها، أمر آخر يكون كلاماً نفسياً، والإرادة الخارجية وإن لم تكن مدلولاً للأمر لا بمادّته ولا بصيغته ولا بغيرهما، كما لا يكون مدلول الجملة الخبرية العلم بثبوت النسبة أو لا ثبوتها؛ إذ دلالتها على تصوّر المتكلم لمدلول الكلام عقلية، والعلم بتحقّق النسبة خارجاً يستفاد من أمر آخر غير نفس الكلام ـ إلاّ أنّه مع ذلك كلّه لا يكون الطلب حقيقة عين الإرادة، فإنّ الطلب هو الاشتغال بتحقيق المطلوب والوصول إليه بالشروع في فعل أو أفعال يترتّب عليه أو عليها ذلك المقصود جزماً أو احتمالا، ولذا يطلق على من يجتهد في تحصيل متاع الدنيا وغرورها أنّه طالبها، وللحاضر في المجالس العلمية بغرض التعلّم أنّه طالب العلم، وعلى السائر في مظانّ الوصول إلى الضالّة بغرض الوصول إليها أنّه طالبها، والطلب في هذه الموارد حقيقي، وهو كما ترى غير الشوق المؤكّد المحرّك للعضلات نحو الفعل، فلا يكون مجرّد الاشتياق طلباً مهما كان بالغاً وشديداً، وإنّما الطلب هو التصدّي لتحصيل المطلوب بالاشتغال بالفعل والشروع فيه.وبالجملة إن كان المدّعى أنّ المفهوم من لفظ الطلب عين المفهوم من لفظ الإرادة، فلم يقم على ذلك دليل، إلاّ مجرّد دعوى الوجدان، ولعله لم يذهب إليه غير صاحب الكفاية (قدس سره)، والقائلون بالاتّحاد يريدون الاتّحاد عيناً، واستشهدوا بالوجدان على هذا الاتحاد، مع أنّ صدق الإرادة دون الطلب فيما إذا لم يتصدّ لتحصيل المطلوب كاف في الإذعان باختلافهما مفهوماً وخارجاً، حيث إنّ الإرادة من الكيف النفساني، والطلب من مقولة الفعل.وعلى ذلك فتصدّي المولى لتحصيل مقصوده بأمر الغير بإتيان المطلوب يكون طلباً، فيكون الأمر بمادة الأمر أو بصيغته أو بغيرهما مصداقاً للطلب، لا أنّ المستعمل فيه في الموارد المذكورة معنى لفظ الطلب ومفهومه، كما هو ظاهر الكفاية، بل المستعمل فيه في جميع ذلك إيقاع المادة على الغير تشريعاً واعتبار كون الفعل على عهدته، كما تقدّم(12).أقولما ذكره (قدس سره) من أنّ الطلب غير الإرادة فهو صحيحٌ، سواء قيل بأنّ الإرادة هي الشوق المؤكّد المحرّك للعضلات نحو الفعل، أو قيل بأنّ الإرادة غير الشوق المفروض، كما سيأتي، بل هي عبارة عن اختيار أحد طرفي الشيء من الفعل أو الترك، فإنّ الطلب لا يطلق على شيء منهما، بل هو عنوان للحركة نحو الفعل والتصدّي لحصوله.إلاّ أنّ ما ذكره (قدس سره) من أنّ المُنشأ بمادة الأمر وبصيغته أو بغيرهما هو النسبة الإيقاعية، ويكون المُنشأ بعد إنشائه واعتباره مصداقاً للطلب، حيث إنّ الطلب تصدّي المولى للوصول إلى مقصوده وهو فعل العبد، لا يمكن المساعدة عليه؛ إذ تقدّم أنّ الوجدان في موارد إيجاب الفعل وندبه شاهدٌ على أنّ المستعمل فيه للصيغة أمرٌ واحد، مع أنّه لا يكون للمكلّف عهدة في موارد الندب، فلابدّ من أن يكون «كون الفعل على العهدة» خارجاً عن المستعمل فيه، ولا منافاة بين أن يكون المنشأ فيها عنوان الطلب، ويكون المنشأ بعد إنشائه مصداقاً للطلب، فلاحظ قول البائعبعت مالي بكذا، فإنّه إنشاء لعنوان البيع، ويكون المنشأ بعد إنشائه مصداقاً للبيع.نعم لا ينحصر مصداق الطلب بإنشاء عنوانه، بل يحصل ذلك العنوان باعتبار الفعل على عهدة العبد وإبرازه بمبرز، مثل قولهعليك أو عليه هذا العمل، فيما إذا كان القصد انبعاثه إلى ذلك العمل أو لرجاء الانبعاث، إلاّ أنّ ذلك ليس معنى الصيغة، كما تقدّم.ثمّ إنّه قد يراد من الإرادة معنى الطلب، أي التصدّي لتحصيل الشيء والوصول إليه، كما يقال لمن يفحص عن ضالّته بالمشي أو بغيره: إنّه يريد ضالّته، أي يطلبها، ويقاليريد اللّه (عزّ وجلّ) من العباد، يعني يطلب منهم، إلى غير ذلك.إلاّ أنّ الكلام في ظهور الإرادة ومعناها الانسباقي وهو غير الطلب، لا في جواز استعمال كلّ منهما في الآخر مع القرينة.(1).سورة هودالآية 97.(2).سورة هودالآية 58.(3).الفصول الغرويةص 51.(4).أجود التقريرات1 / 86.(5).نهاية الأُصول1 / 75.(6).نهاية الاُصول1 / 75.(7).نهاية الدراية1 / 254.(8).الوسائل1 / 355، باب 5 من أبواب السواك، الحديث 3.(9).الفروع من الكافي5 / 485، باب الامة تكون تحت المملوك، الحديث 1.(10).أجود التقريرات1 / 95.(11).شرح تجريد الاعتقاد للقوشجيص 246.(12).أجود التقريرات1 / 88.إشكال ودفعأمّا الإشكال[1].بيان مسلك الجبر وشبه الجبر وإبطالهما[1] يعني بناءً على أنّ الإرادة عين الطلب الحقيقي، ففي موارد تكليف الكفّار بالإيمان بل في تكليف العصاة بالواجبات وترك المحرمات إمّا أن لا يكون تكليف جدّي بأن يكون التكليف بالإضافة إليهم صورياً وإنشائياً محضاً بأن لا تكون في البين إرادة من الله سبحانه بالإضافة إلى عملهم، وإمّا أن يلزم تخلّف إرادته تعالى عن مراده فيما إذا كان التكليف جدّياً، وهذا كما ذكرنا مبنيّ على اتّحاد الطلب الحقيقي والإرادة، وأمّا بناءاً على تغايرهما وتعدّدهما خارجاً فالتكليف والطلب الحقيقي يثبت في حقّ الكفار والعصاة كما يثبت في حقّ أهل الإيمان والطاعة، فلا يلزم محذور عدم ثبوت التكليف الجدّي.وأجاب (قدس سره) بثبوت التكليف الجدّي في حقّ الكفار والعصاة بثبوت الإرادة في موارد التكليف، حتّى بالإضافة إليهما، ولا يلزم تخلّف إرادة اللّه (عزّ وجلّ) عن مراده؛ لأنّ الثابت في موارد التكليف هي الإرادة التشريعية، وتخلّف هذه الإرادة لا محذور فيه، وإنّما المحذور في تخلّف الإرادة التكوينية عن المراد، ولا يلزم في موارد التكاليف ثبوت الإرادة التكوينية على وفاق الإرادة التشريعية.وتوضيح ذلك على ما ذكره (قدس سره) أنّ الإرادة التكوينية التي هي من صفات الذات للّه (جلّ وعلا) هي العلم بالنظام على النحو الكامل التام(1)، وهذه الإرادة لا يمكن أن تتخلّف عن المراد.وأمّا الإرادة التشريعية فهي العلم بالصلاح في فعل العبد وهذه الإرادة التي لابدّ منها في التكليف يمكن أن تتخلّف، وعلى ذلك فإن توافقت الإرادة التشريعية والتكوينية بأن كان العلم بالصلاح داخلا في العلم بالنظام على النحو الكامل التامّ، فلابدّ من الإطاعة والإيمان، وإذا لم يدخل فيه فلابدّ من أن يختار العبد الكفر والعصيان حيث إنّ ما لم يرد بالإرادة التكوينية لا يكاد يوجد.ومن هنا ينفتح باب المناقشة في اختيار العباد في أفعالهم بأنّه إذا كان الكفر والعصيان والإطاعة والإيمان بإرادته (تعالى) التي لا يمكن تخلّفها عن المراد، فكيف يمكن تعلّق التكليف بأفعالهم الخارجة عن اختيارهم؟ مع أنّ الاختيار يعتبر في التكليف عقلا.وأجاب الماتن (قدس سره) عن الإشكال بما حاصله: أنّ الإرادة التكوينية تعلّقت بالكفر والعصيان أو الإيمان والطاعة الناشئ كلّ منها عن إرادة العبد واختياره، وهذا التعلّق لا يوجب خروج أفعالهم عن اختيارهم لئلاّ يصحّ التكليف بها، ولو خرجت بذلك عن اختيارهم لزم تخلّف إرادة اللّه (تعالى) عن مراده، حيث إنّ المراد هو الكفر والعصيان والإيمان والطاعة الصادرة من العباد عن اختيارهم، وما تقدّم من أنّه إذا توافقتا فلا محيص عن الطاعة والإيمان فالمراد أنّه لا محيص عن الطاعة والإيمان الاختياريين، كما أنّ المراد من قولنا(فلا محيص عن الكفر والعصيان) هو أنّه لا محيص عن اختيارهما.ولكن لا يخفى أنّ المناقشة في كون أفعال العباد اختيارية لهم، لا تنتهي بما ذكره، وإلى ذلك أشار بقوله «إن قلتإنّ الكفر والعصيان من الكافر والعاصي ولو كانا مسبوقين.إلخ» وحاصلها أنّ الكفر والعصيان وإن كانا ناشئين عن إرادة العبد واختياره، إلاّ أنّ إرادة العبد واختياره ناش عن مباد غير اختياريّة وحاصلة بإرادة اللّه (تعالى) ومشيّته، حيث إنّ خطور الفعل والتصديق بفائدته والميل (أي هيجان الرغبة) والجزم بعدم المانع لا يكون من واجب الوجود حتّى لا يحتاج إلى علّة، ولا يكون حصولها بإرادة العبد وإلاّ لزم التسلسل، فلابدّ من أن يؤثّر فيها إرادة اللّه (تعالى) ومشيّته، فتكون النتيجة أنّ العقاب والمؤاخذه تكون على ما يكون بالمآل بلا اختيار، وهذا في الحقيقة مذهب الجبرية، وهو أنّ المؤثّر في فعل العبد إرادة اللّه (تعالى) ومشيّته.وأجاب عن ذلك أنّ العقاب يكون على الكفر والعصيان، وبتعبير آخراستحقاق العقاب يتبع الكفر والعصيان (أي يلزمهما) والكفر والعصيان يتبعان إرادتهما، وإرادتهما ناشئة عن مبادئها الناشئة عن الشقاوة الذاتية للكافر والعاصي، واللازم الذاتي لايحتاج إلى الجعل والعلّة، فإنّ «السعيد سعيد في بطن أُمّه، والشقيّ شقيّ في بطن أُمّه»(2)، و«النّاس معادن كمعادن الذهب والفضة»(3) كما في الخبر.وعليه فالإطاعة والإيمان من المؤمن والمطيع تتبع إرادتهما الناشئة من مبادئها الناشئة عن السعادة الذاتية اللازمة لخصوص الذات، ونتيجة كلّ ذلك، بما أنّ لوازم الذات لا يتعلق بها الجعل، فلا تكون مبادئ إرادة الطاعة والإيمان أو الكفر والعصيان حاصلة بإرادة الحقّ (جلّ وعلا)، كما هو مقتضى مذهب الجبرية.وقوله«قلم اينجا رسيد سر بشكست» كناية عن انقطاع السؤال بلم.حقيقة الإرادة من اللّه (سبحانه) ومن العبد: أقولما ذكره في المقام وإن كان غير مذهب الجبرية الملتزمين بأنّ تعلّق الإرادة الازلية بفعل العبد، هو الموجب لحصول الفعل منه بالإرادة، وأنّ إرادة العبد مغلوبة لإرادة اللّه (تعالى) وإرادة اللّه هو الموجب للفعل، إلاّ أنّ ما ذكره شبه الجبر في نفي الاختيار حقيقة عن العباد في أفعالهم، فإنّ أفعالهم وإن كانت بإرادتهم، وإرادتهم هي الموجبة لحصولها، إلاّ أنّ سلسلة صدور الفعل ينتهي إلى ما لا يكون باختيار العباد، وهي المبادئ المنتهية إلى شقاوة الذوات وسعادتها.فينبغي في المقام التعرّض لما يظهر من كلام الماتن (قدس سره) وجوابه، وبسط الكلام عن إرادة اللّه (ّعزّ وجل) وإرادة العبد بما يسع المجال في هذا المختصر، فنقول وعليه التكلان: إنّه يمكن تلخيص ما ذكره ضمن أُمور: الأوّلإن المنشأ بالأمر حتّى في الخطابات الإلهية هو الطلب الإنشائي، والطلب الإنشائي يكون منبعثاً من الطلب الحقيقي، والطلب الحقيقي من اللّه (سبحانه) هو علمه بصلاح الفعل الصادر عن المكلف دون الإرادة التكوينية منه (تعالى) التي هي العلم بالنظام الكامل التامّ.نعم ربّما توافقت الإرادة التكوينية والطلب الحقيقي المعبّر عنه بالإرادة التشريعية، فلا محيص عن اختيار الطاعة والإيمان، وربّما تخالفتا فلا محيص عن اختيار الكفر والعصيان.الثانيأنّ لزوم الطاعة والإيمان عند توافق الإرادتين واختيار الكفر والإيمان عند تخالفهما لا يوجب خروج الفعل عن اختيار العبد وصدوره عنه بإرادته، وأنّ المؤثّر في حصول الفعل هي إرادة العبد التي فسّرها في كلماته ـ تبعاً للقوم ـ بالشوق المؤكّد المحرّك للعضلات.الثالثأنّ إرادة العبد المتعلّقة بالطاعة والإيمان أو بالكفر والعصيان، وإن افتقرت في تحقّقها إلى المؤثّر لعدم كونها ضرورية وواجبة حتّى تستغني عن العلّة وإنّ مبادئها عند اجتماعها هي المؤثّرة في تحقّق الارادة، إلاّ أنّ حصول تلك المبادئ غير مستند إلى إرادة اللّه (سبحانه)، بل تستند إلى ما هو لازم الذات من السعادة والشقاوة، وشيء منهما لا يعلّل، حيث إنّ اللازم للذات لا يحتاج إلى علّة، بل يوجد بتبع وجود الشيء لا محالة.وأساس هذه الأُمور الثلاثة، هو الالتزام بأمرين: أحدهماإنّ إرادة اللّه (سبحانه) من صفات الذات، وعليه تكون إرادته تعالى عين علمه، سواء كانت الإرادة تكوينية أو تشريعية، وبذلك صرّح في كلامه (قدس سره) في «وهمٌ ودفعٌ» فذكر أنّ المنشأ في الخطابات الإلهية ليس هو العلم، إذ العلم بالصلاح يتحد مع الارادة خارجاً، لا مفهوماً.وقد عرفت أنّ المنشأ ليس إلاّ المفهوم لا الطلب الخارجي، ولا غرو أصلاً في اتّحاد الإرادة والعلم عيناً وخارجاً، بل لا محيص عنه في جميع صفاته (تعالى) لرجوع الصفات إلى ذاته المقدّسة، قال أميرالمؤمنين (عليه السلام)«وكمال توحيده الاخلاص له، وكمال الاخلاص له نفي الصفات عنه»(4).ثانيهماأنّ الممكن لا يوجد إلاّ مع تماميّة علّته على ما هو المعروف بينهم من «أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد»(5)، بلا فرق بين الأفعال وغيرها، إرادية كانت أو غير إرادية.أقول: أمّا الأمر الأوّل وهو ما ذكره (قدس سره) من أنّ إرادة اللّه (سبحانه) من صفات الذات وعين العلم بالنظام على النحو التامّ الكامل، وإرادته التشريعية عين العلم بمصلحة الفعل، فقد أورد عليه المحقّق الاصفهاني (قدس سره) في تعليقته بأنّ صفات الذات تختلف كلّ منها مع الصفات الأُخرى مفهوماً، وإنّما يكون مطابقها ـ بالفتح ـ واحداً خارجاً؛ لأنّه تعالى بذاته صرف القدرة وصرف العلم وصرف الإرادة، ولكن كلّ منها غير الآخر مفهوماً، وعلى ذلك فلا يصحّ تحديد إرادته (سبحانه) بالعلم بالنظام الكامل التامّ والعلم بالصلاح؛ ولذا قال أكابر القوم(6)إنّ الإرادة في ذات الحق (جلّ وعلا) هو الابتهاج والرضا وما يقاربهما في المعنى، لا العلم بالنظام أو الصلاح في الفعل.نعم الإرادة فينا هي الشوق المؤكّد.والسرّ في الاختلاف وتحديد الإرادة منّا بالشوق المؤكّد وفي ذات الحق (جلّ وعلا) بصرف الابتهاج الذاتي والرضا هو إنّا لمكان إمكاننا وقصور فاعليّتنا حيث نحتاج ـ في ظهور هذه الفاعلية إلى الفعلية ـ إلى مقدمات زائدة على ذاتنا من تصور الفعل والتصديق بالفائدة، فبالشوق الأكيد تصير القوة الفاعلية فعليّة ومحرّكة للعضلات، بخلاف ذات الحقّ (جلّ وعلا)، فإنّه خال عن جهات القوّة والنقص وعدم الفعلية، فإنّه فاعل بذاته المريدة، حيث إنّ ذاته بذاته مبتهجة أتمّ الابتهاج وينبعث عن الابتهاج الذاتي الإرادة الفعلية، كما وردت الأخبار بذلك عن الأئمّة الأطهار (صلوات اللّه وسلامه عليهم)، إنتهى ما أردنا إيراده من كلامه (قدس سره)(7).ولكن لا يخفى أنّ الشوق المؤكّد منّا لا يطلق عليه الإرادة، فإنّ الإرادة تطلق على أحد أمرين: أحدهماالقصد إلى الفعل والعزم والبناء على العمل.ثانيهمابمعنى الاختيار، وهو صَرف القدرة في أحد طرفي الشيء من الفعل أو إبقائه على عدمه، والشوق المؤكّد غير هذين الأمرين، والشاهد على عدم كون الشوق المؤكّد علّة لصدور الفعل منّا فضلا عن كونه علّة تامّة هو صدور بعض الأفعال عن الإنسان باختياره بلا اشتياق منه إلى الفعل المفروض، فضلا عن كونه مؤكّداً، كما إذا أصابت عضو الإنسان آفة، يتوقّف دفع سرايتها إلى سائر بدنه والتحفّظ على حياته على قطع ذلك العضو، فإنّ تصدّيه لقطعه بالمباشرة أو بغيرها يكون بلا اشتياق منه إلى القطع، بل ربّما لا يحبّ الحياة بدون ذلك العضو المقطوع، ولكن يقطعه امتثالا لما هو الواجب عليه شرعاً تخلّصاً من عذاب مخالفة التكليف، وأيضاً الشوق المؤكّد قد يتعلّق بفعل لا يتمكّن منه ويعلم بعدم الوصول إليه، مع أنّ العاقل لا يريد غير المقدور له، وكلّ من الأمرين شاهد قطعي على أنّ الشوق المؤكّد غير الإرادة التي لا تتعلّق بغير المقدور مع الالتفات إلى أنّه غير مقدور، نعم قد يكون الاشتياق ـ مؤكّداً أو غير مؤكّد ـ داعياً له إلى إرادة المشتاق إليه أو إرادة الإتيان بأعمال يترتّب عليها ذلك المشتاق إليه جزماً أو احتمالا، وهذا أمر نتعرّض له إن شاء اللّه تعالى.هذا بالإضافة إلينا، وأمّا بالإضافة إلى ذات الحق (جلّ وعلا) فلا دليل على أنّ إرادة اللّه (سبحانه) من صفات الذات حتّى تفسّر بالعلم أو بالابتهاج الذاتي والرضا، بل قام الدليل على أنّها من صفات الأفعال، كما أنّ الرضا والسخط أيضاً من صفات الأفعال، ولا يرتبطان بصفات الذات، كالقدرة والعلم والحياة.فقد ورد في صحيحة عاصم بن حميد عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال قلت: لم يزل اللّه مريداً، قاللا يكون المريد إلاّ المراد معه، لم يزل اللّه عالماً قادراً ثمّ أراد(8).وفي صحيحة صفوان بن يحيى قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام): أخبرني عن الإرادة من اللّه ومن الخلق؟ فقالالإرادة من الخلق الضمير وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل، وأمّا من اللّه تعالى فإرادته إحداثه لا غير ذلك؛ لأنّه لا يروّي ولا يهمّ ولا يتفكّر، وهذه الصفات منفية عنه وهي صفات الخلق، فإرادة اللّه الفعل لا غير، يقول له كن فيكون، بلا لفظ ولا نطق بلسان، ولا همّة ولا تفكّر، ولا كيف لذلك، كما أنّه لا كيف له(9)، وظاهر نفي الكيف نفي الابتهاج.والوجدان أكبر شاهد على أنّ أفعال العباد من الطاعة والعصيان والإيمان والكفر، كلّها خارجة عن إرادة اللّه ومشيتّه، بل إرادته ومشيّته (جلّت عظمته) قد تعلّقت بتشريع تلك الأفعال على العباد، وجعل الدنيا دار الابتلاء والامتحان لهم؛ ليتميّز الخبيث من الطيّب، ومن يستمع قول الحقّ ويتّبعه عمّن يعرض عنه وينسى ربَّه ويومَ الحساب، ويشتغل بالدنيا وغرورها.نعم بما أنّ أفعال العباد تصدر عنهم بحول اللّه وقوّته، يعني بالقدرة التي أعطاها ربّ العباد إيّاهم، وأرشدهم إلى ما فيه الرشد والهداية وسعادة دنياهم وعقباهم، يصحّ أن يسند اللّه (سبحانه) أفعال الخير إلى نفسه، كما في قوله سبحانه: (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللّهَ رَمَى) الآية(10)، وقوله سبحانه: (وَما تَشاءُوْنَ إِلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ)(11)، حيث إنّ كلّ ما يصدر عنّا هو من قبيل تحريك العضلات، ولكن معطي قوة الحركة ونفس العضلات هو اللّه (سبحانه)، وإذا أمسك قوّتها فلا نتمكّن من الفعل، فيكون صدور الفعل عنّا باختيارنا وإرادتنا، على تقدير إعطاء اللّه وعدم إنهاء ما بذله، فيصحّ أن يقول اللّه (سبحانه): لا يصدر عنك فعل إلاّ بمشيّتي، وإذا لاحظت مثل هذه الأُمور كما إذا أوجد شخص أمراً تكون تمام آلاته ومعدّاته بيد الغير وكانت بإعطائه، تجد من نفسك أنّه يصحّ للغير أن يقولأنا أوجدت الأمر وفعلك ذلك كان بمشيّتي، فكذلك يصحّ أن يقال إنّ أفعال العباد تكون بمشيّة اللّه (عزّ وجلّ)، وربما يضاف إلى صحّة الإسناد إلى اللّه (عزّ وجلّ) ملاحظة لطفه وتأييده وعنايته (سبحانه) إلى العبد.في قاعدة «الشيء ما لم يجب لم يوجد» وموردهاوأمّا الأمر الثاني إنّ ما بنى عليه الماتن (قدس سره) ـ تبعاً لأهل المعقول من «أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد»(12) وأنّ فعل العبد ما لم يكن بالغاً حدّ الوجوب لم يتحقّق خارجاً، بدعوى أنّ هذا لازم إمكان الشيء بلا فرق بين الأفعال وغيرها، ولذلك التزموا بأنّ الإرادة بالمعنى الذي فسّروها به من الشوق المؤكّد علّة للفعل، وذلك الشوق أيضاً يوجد بمبادئه المترتّبة على حسن الذات وسعادتها أو خبثها وشقاوتها، والسعادة والشقاوة من لوازم الذات لا تحتاج إلى علّة؛ لأنّها توجد بالعلّة الموجدة لنفس الذات ـ فممّا لا يمكن المساعدة عليه، إذ لو كان الأمر كما ذكره، فكون أفعال العباد اختيارية لهم، مجرد تسمية لا واقع لها، ولا يكون في البين من حقيقة الاختيار شيء.كما أنّ ما تقدّم منه (قدس سره)، من تعلّق إرادة اللّه (ّعزّ وجل) التكوينية بالأفعال الصادرة عن العباد باختيارهم، إن كان المراد منه أنّه على تقدير صدور الفعل عن العباد بإرادتهم، فذلك الفعل متعلق إرادة اللّه (عزّ وجلّ)، فهذا من قبيل إرادة ما هو الحاصل.وإن كان المراد أنّه لا محيص عن صدور الفعل المفروض، فيكون مقتضى إرادة اللّه حصول مبادئ الإرادة للعبد، وهو يقتضي لابدّية صدور الفعل، فهذا أيضاً يساوي مسلك الجبر؛ إذ مع حصول مبادئ الإرادة تكون إرادة العبد واجبة الوجود والمفروض أنّ إرادة العبد علّة تامّة لصدور الفعل عنه، فأين الاختيار، وكيف يصحّ التكليف، وكيف يصحّ عقابه على مخالفة التكليف؟ مع أنّ العبد البائس المسكين لا يتمكّن من ترك المخالفة مع حصول مبادئ الإرادة بتبع شقاوة ذاته، أو بإرادة اللّه (ّعزّ وجل)، ومعه كيف يصحّ التوبيخ بمثل قوله سبحانه (قُلْ هُوَ الَّذِي أنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيْلا مّا تَشْكُرُوْنَ)(13).مع أنّ للعبد المسكين أن يجيب بأنّي لا أتمكّن من الشكر لك، فأنت الذي أوجدت مبادئ إرادة الكفر والطغيان في نفسي، أو إنّ لي ذاتاً لازمها الشقاوة المستتبعة لمبادئ الكفر والنفاق والطغيان، ولا حيلة لي بغيرها، فكيف يصح عقابه؟ وفي الصحيح عن يونس بن عبدالرحمن، عن عدة، عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال له رجل: جعلت فداك أجَبَرَ اللّه العباد على المعاصي؟ فقال: اللّه أعدل من أن يجبرهم على المعاصي، ثمّ يعذبهم عليها، فقال له: جعلت فداك، ففوّض اللّه إلى العباد؟ فقال: لو فوّض إليهم لم يحصرهم بالأمر والنهي، فقال له: جعلت فداك، فبينهما منزلة؟ قال فقالنعم، أوسع ما بين السماء والأرض(14).الملاك في اختيارية افعال العبادوبالجملة ما ذكروه من قاعدة «عدم إمكان حدوث شيء إلاّ عن علّة تامّة» و«أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد» لا تجري في الأفعال الاختيارية، حيث إنّ المعلول وجوده ترشحي، أو انفعال بالخاصيّة، بخلاف الفعل الاختياري، فإنّ قدرة الفاعل على أمر لا تتحقّق إلاّ إذا تساوى طرفاه من الفعل أو الترك بالإضافة إلى الفاعل، فلو لم يكن الفاعل متمكّناً على كلّ من إيجاده وتركه قبل أن يصدر منه الفعل، لما كان في البين قدرة، بل كان جبر واضطرار، حتّى بالإضافة إلى الواجب (جلّ علا)، حيث إنّه بقدرته الذاتية يختار كون الشيء فيوجد، بلا فرق بين تعلّق إرادته بالوجود عن طريق المقدمات الاعدادية أو بدونها.والحاصل إمكان صدور الفعل عن الفاعل بالاختيار لا يحتاج إلى غير قدرته عليه، نعم العاقل لا يصرف قدرته فيما لا يعنيه و ما ليس له فيه صلاح، بل يصرفها على أحد طرفي الشيء لغرض، من غير أن يكون ترتّب الغرض على ذلك الطرف موجباً لسلب قدرته عن الطرف الآخر، وبتعبير آخريكون ترتّب الغرض على أحد طرفي الشيء مرجّحاً لذلك الطرف على الآخر؛ ولذا يسمّى إعمال القدرة وصرفها في أحد طرفي الشيء اختياراً؛ لأنّ الإنسان يأخذ بما فيه الخير، وقد اعترف الماتن(قدس سره)في بحث التجرّي(15) ببعض ما ذكرناه ـ من كون اختيارية الفعل بالتمكّن من عدمه ـ حيث ذكر أنّ بعض مبادئ اختيار الفعل اختيارية، لتمكّنه من عدمه بالتأمّل فيما يترتّب عليه، فراجع.إن قلتأفلا يكون مقتضى التوحيد والاعتراف بوحدانية الخالق، هو الالتزام بأنّ ما يحصل في الكون ـ ومنها أفعال العباد ـ مخلوقة للّه (سبحانه)، لئلاّ يكون مؤثّراً في الوجود وخالقاً للكون إلاّ هو وإنّما يصحّ العقاب حينئذ على فعل العبد، فلأجل أنّ الفعل في الحقيقة وإن كان بإرادة اللّه، إلاّ أنّ اللّه تعالى يريد فعل العبد، إذا تعلّقت إرادة العبد به، فيكون المؤثّر في ذلك إرادة اللّه، والعبد أيضاً أراد تحقيقه وإيجاده، ولكن إرادته لا تؤثّر في الواقع شيئاً، ويعبّر عن إرادة العبد كذلك بالكسب، فيكون العقاب على كسب العبد، وإن شئت فلاحظ من أراد رفع حجر عن مكان، باعتقاد أنّه متمكّن من رفعه، ولكن عند تصدّيه للرفع يظهر عدم تمكّنه منه، فيضع شخص آخر أقوى منه يده تحت ذلك الحجر ويرفعه، فارتفاع الحجر عن مكانه يكون برفع هذا الشخص الثاني خاصّة، ويستند الرفع إليه دون الأوّل، إلاّ أنّ سبب رفع الثاني للحجر هو تعلّق إرادة الأوّل برفعه، ولأجله لا مانع من إسناد الرفع إلى المريد خاصّة.قلتإنّ ما ذكر لا في تصحيح العقاب يجدي ولا في التحفّظ على وحدة الخالق والمؤثّر في الكون ومنه أفعال العباد.أمّا الأوّل؛ فلأنّه لا يصحّ عند العقل أن يذمّ رافع الحجر حقيقة، مريدَ الرفع خاصّة ويوبّخه على الرفع؛ لأنّه لم يرفعه، بل أراد رفعه فحسب، فالتوبيخ والذمّ يرد على رافع الحجر حقيقة الذي هو الشخص الثاني.نعم يصحّ توبيخ الأوّل على إرادة الرفع لا على نفس الرفع، وإذا فرض أنّ إرادته أيضاً فعل مخلوق يكون المؤثّر فيه إرادة اللّه (سبحانه) فلا يصحّ عقابه ولا توبيخه على الإرادة المخلوقة، وإن قيل بأنّ إرادة المريد ناشئة عن مباديها، ومباديها ناشئة عن خبث السريرة والشقاوة الذاتيّة كما تقدّم في كلام الماتن (قدس سره)ثبت أيضاً أنّه لا مصحّح للعقوبة على ارادته ولا على فعله.وأمّا الثاني فيظهر جوابه ممّا أجبنا آنفاً عن مقالة الفلاسفة في قاعدة «أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد» فراجع.فتحصّل أنّ ما ذكره الفلاسفة من قاعدة «أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد» لا يجري في الفاعل بالاختيار، فإنّه بعد لحاظ الشيء والتصديق بفائدته والميل إليه والجزم بعدم المانع، يبقى الفاعل المختار قادراً على اختيار كلّ من الفعل والترك، والمبادي لا تجعل الفعل من قبيل واجب الوجود، بل إنّها مرجّحة لاختياره طرف الفعل، حيث إنّ الفاعل الحكيم لا يختار الفعل إلاّ مع الصلاح في شخصه أو المزية في الجامع بينه وبين فعل آخر، كما إذا لم تكن مزيّة في خصوص أحد الفعلين بالإضافة إلى الآخر، فإنّ قيام المزيّة في الجامع كاف في كون اختيار الفعل بالحكمة، ويدلّك على ذلك أنّ الهارب يختار أحد الطريقين مع عدم المزية لأحدهما بالإضافة إلى الآخر.وحكي عن الفخر الرازي(16) استدلاله على ذلك بأنّه لا مرجّح لحركة الشمس من المشرق إلى المغرب، وقد طعن عليه صدرالمتألّهين في شرحه على أُصول الكافي(17)، ولم يأت في الردّ عليه إلاّ بالطعن والشتم.ولكن لا يخفى ما في المحكي، حيث إنّ حركة الأرض حول نفسها، أو حركتها حول الشمس، ليست من الأفعال الاختيارية لها، فلابدّ من خصوصية خارجية تقتضي تعين تلك الحركة.نعم خلق الشمس أو الأرض بتلك الخصوصية من فعل اللّه (سبحانه)، ولا سبيل لنا إلى الجزم بأنّ الخلق بتلك الخصوصية كان لمرجّح في الجامع بين الخصوصيتين.ونظير ما ذكره الفلاسفة بالإضافة إلى الأفعال ـ من دعوى اقتضاء التوحيد ونفي الشرك في الخلق ـ الالتزام بأنّ أفعال العباد مخلوقة للّه (سبحانه) تمسّكاً ببعض الآيات: مثل قوله (سبحانه)(وَاللّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُوْنَ)(18).وقوله (سبحانه)(وَما تَشاءُونَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ)(19).وقوله (سبحانه)(وَلاتَقُولَنَّ لِشَيْء إِنِّي فَاعِلٌ ذلِكَ غَدَاً إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللّهُ)(20).وقوله (سبحانه)(وَما كانَ لِنَفْس أَنْ تُؤْمِنَ إلاّ بِإِذْنِ اللّهِ)(21).وقوله (سبحانه)(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمواتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذَ وَلَدَاً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيْكٌ فِي المُلْكِ)(22) أي الخلق.إلى غير ذلك.والجواب عنها: أنّ الآيات المذكورة ونحوها إذا لوحظت في مقابل مثل قوله (سبحانه)(إِنَّ اللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّة وَإنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيْماً)(23).وقوله (سبحانه)(وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدَاً)(24).(سبحانه)(إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيْلَ إِمّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوْرَاً)(25).ومثل قوله (سبحانه) حكاية عن أهل النار: (قالُوا بَلى قَدْ جائَنَا نَذِيْرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللّهُ مِنْ شَيْء إِنْ أَنْتُمْ إلاّ فِي ضَلال كَبِيْر وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيْرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقَاً لأَصْحابِ السَّعِيْرِ)(26) ونحوها، يتّضح كمال الوضوح أنّ إسناد الأفعال إلى اللّه (سبحانه) في مثل الحسنات والأفعال الحسنة، إنّما هو باعتبار أنّ القدرة على العمل والمعدات التي يتوقّف عليها العمل كلّها من اللّه (سبحانه)، ولذا لن تجد مورداً في كتاب اللّه (سبحانه) أو غيره أُسند فيه العمل القبيح الصادر عن العبد إليه (تعالى)؛ ولذا ذكرنا أنّ التوحيد لا يقتضي إسناد الظلم إلى اللّه (تعالى) بأن تكون إرادته المشار إليها في قوله تعالى(إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئَاً)(27) متعلّقة بأفعال العباد الاختيارية التي يتعلق بها التشريع، بل تلك الإرادة تعلّقت بكونهم مختارين، حيث إنّ الدنيا دار الفتنة والامتحان.وأمّا قولناأراد اللّه أن نصلّي ونصوم، فمعناه أنّه سبحانه طلب منّا العمل وأمرنا أن نفعل.فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّه إذا لوحظ صحّة تكليف العباد وجواز مؤاخذتهم على ما ارتكبوا من المعاصي، ولوحظت الآيات الواردة في أمر العاصين بالتوبة والاستغفار وأمر المؤمنين بالاستقامة في الدين ولوحظ ما ورد من الآيات من كون العاصين ظالمي أنفسهم، تجد أنّ إسناد بعض الأفعال إلى اللّه (سبحانه) ليس بمعنى نفي اختيار العبد فيها، بل بمعنى أنّ القدرة عليها بمشيّة اللّه وإرادته، وربما يلقي (سبحانه) حبّ العمل والشوق إليه في أنفسهم، فيكون ذلك تأييداً للعبد على الاستقامة ونيل الثواب، بعد علمه (سبحانه) أنّ العبد يهمّ بالطاعة والاجتناب عن السيّئات ما أمكن.ويظهر من ذلك بطلان توهّم علّيّة سوء السريرة، أو حسنها لحصول المبادي التي من قبيل العلّة التامّة لحصول الإرادة ـ يعني الشوق المؤكّد المحرّك للعضلات ـ، وكذا بطلان توهّم أنّ اختيارية فعل العبد ينافي مسلك التوحيد الأفعالي، والالتزام بالملك المطلق للّه (سبحانه).إبطال مسلك التفويضوأمّا مسلك التفويض المقابل للجبر، فقد يقال إنّه مبني على مسلك استغناء الممكن في بقائه عن العلة.ولكن لا يخفى سخافة هذا البناء والمبنى، وذلك لأنّ بقاء الممكن بلا علّة، كحدوثه بلا علة في الامتناع، حيث إنّ اختلاف الأشياء الممكنة في البقاء والزوال، واختلافها في طول البقاء وقصره، يكون مستنداً إلى أمر لا محالة، ولو كان مجرّد العلّة لحدوث شيء كافياً في بقائه مع استواء البقاء والزوال بالإضافة إليه لأمكن تحققه كذلك في الآن الأوّل أيضاً بعين وجه تحقّقه في الآن الثاني.وبالجملة فما في الكون من الممكنات تحتاج في بقائها، كحدوثها إلى الموجب.وينبغي أن يبتني مسلك التفويض على أمر آخر، وهو أنّ الممكن وإن كان محتاجاً في بقائه إلى العلّة، إلاّ أنّ حاجة الكائنات ومنها الإنسان إلى ذات الباري (عزّ وجلّ) من قبيل حاجة المنفعل والمصنوع إلى الفاعل والصانع، فتكوين الإنسان وسائر الكائنات وإن حصل بإرادة اللّه (عزّ وجلّ) ومشيّته التي بها تكوّنت الأشياء وظهرت من ظلمات الماهيات إلى نور الوجود إلاّ أنّ بقائها مستند إلى موجبات البقاء فيها من الخصوصيات والاستعدادات المكنونة في بعض الأشياء واستمداد بعضها من البعض الآخر نظير البناء، فإنّه وإن احتاج في حدوثه إلى البنّاء، ولكن بقائه مستند إلى القوة والاستعداد في الأجزاء المستعملة في البناء.واللّه (سبحانه) خلق الأشياء وكوّنها بإرادته ومشيّته، بما فيها من الخصوصيّات والاستعدادات، ولكن تلك الخصوصيّات والاستعدادات الحادثة بعد حدوث المَثَل أو قبله تنتهي وتفنى، وإذا انتهى بعض ما في الكون الظاهر لنا من الخصوصيّات والاستعدادات يظهر أنّ كلّ شيء منه فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام، وعلى ذلك فالإنسان المخلوق في الكون والباقي منه الموجود بتوليد المثل يكون كلّ ما يفعله بإرادته واختياره من نفسه، ولا يستند شيء منها إلى الخالق (سبحانه) لعدم استناده في البقاء إليه.ولكن لا يخفى سخافة هذا الوجه أيضاً، فإنّ الكائنات في العالم لا تقاس بالبناء الحاصل من فعل البنّاء، فإنّ خالق الكائنات حيّ قيّوم له ملك السموات والأرض، إذا أراد شيئاً يكون، وإذا أراد عدمه فلا يكون، بلا فرق في ذلك بين الأشياء الحاصلة بالعلل المادية أو من أفعال الإنسان أو غيره.وليس المراد أنّ العلّية بين المعلولات وعللها باطلة وإنّما جرت عادة اللّه (سبحانه) أن يخلق بعض الأشياء بعد خلق بعضها الآخر كما يقول به القائل بالجبر تحفّظاً على التوحيد.بل المراد أنّ بقاء الشيء المستند إلى علّته المبقية ـ ليصير علّة لوجود شيء آخر إنّما ينشأ من عدم تعلّق إرادة اللّه بإفنائه كما أنّ حصول شيء من شيء آخر موقوف على تعلّق إرادة اللّه بحصوله منه، وإلاّ فإن تعلّقت إرادته (جلّت قدرته) بأن لا يوجد فلا يوجد، إمّا بإرادة زوال العلّة أو بخلق المزاحم للتأثير والعلّية (وَكانَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْء مُحِيْطاً)(28).وقد تقدّم أنّ مشيّته (جلّت عظمته) قد تعلّقت بكون الإنسان قادراً متمكّناً من الأفعال، ومنها الأفعال التي تعلّق بها طلبه وإرادته بمعني الإيجاب والندب، وما تعلّق به زجره ومنعه، كي يتميّز المطيع من العاصي، والكافر من المؤمن، والصالح من الطالح، (وَاللّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيْطٌ)(29)، (وَاللّهُ بِما يَعْمَلُوْنَ مُحِيْطٌ)(30)، (وَلَوْ شاءَ اللّهُ ما فَعَلُوْهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُوْنَ)(31)، (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لاَمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيْعاً)(32)، (وَلَوْ شِئْنا لاَتَيْنا كُلُّ نَفْس هُداها)(33).ومع كون العباد وأفعالهم محاطاً بهم (وَكانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْء رَقِيْباً)(34) قد تصيب رحمته ورأفته العبد ويؤيّده حتّى يجتنب الحرام، أو يفعل الطاعة، قال (عزّ من قائل): (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ)(35)، (فَاعْلَمُوا أنَّ اللّهَ يَحُوْلُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)(36)، وقال سبحانه(اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْء وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْء وَكِيْل)(37)، (قَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيْهِمْ وَلُعِنُوا بِما قَالُوا)(38)، إلى غير ذلك من الآيات الواضحة في أنّه (تعالى) هو القاهر فوق كلّ شيء، وأنّه يحيي ويميت، وينزل الغيث، ويرزقكم من السماء، وبيده ملكوت كلّ شيء.والبرهان العقلي على ذات الحقّ (جلّ وعلا) مقتضاه أيضاً ما ذكر، والتعرّض له لا يناسب المقام، ومن اللّه الهداية والرشاد.(1).كشف المراد: 314؛ الأسفار: 6 / 360؛ شرح المنظومة184.هذا التفسير للإرادة هو المعروف والمشهور عند الفلاسفة وعندهم أنّها من صفات الذات لا من صفات الأفعال.(2).التوحيد للصدوق (رحمه الله)ص356، الباب 58، الحديث 3.(3).الروضة من الكافي: 8 / 177، الحديث 197؛ مسند أحمد بن حنبل2 / 539.(4).نهج البلاغةالخطبة 1 / 39.(5).الأسفار1 / 221، الفصل 15.(6).القبسات للسيد ميردامادص 322.(7).نهاية الدراية1 / 278.(8).الكافي1 / 109، باب الإرادة أنّها من صفات الفعل، الحديث 1.(9).الكافي1 / 109، باب الإرادة أنّها من صفات الفعل، الحديث 3.(10).سورة الأنفالالآية 17.(11).سورة الإنسانالآية 30.(12).الأسفار1 / 221، الفصل 15.(13).سورة الملكالآية 23.(14).الأُصول من الكافي1 / 159 باب الجبر والقدر، الحديث 11.(15).كفاية الأُصولص 260.(16).المباحث المشرقية.(17).شرح أُصول الكافي لصدرالمتألهين.(18).سورة الصافاتالآية 96.(19).سورة الإنسانالآية 30.(20).سورة الكهفالآية 23.(21).سورة يونسالآية 100.(22).سورة الفرقانالآية 2.(23).سورة النساءالآية 40.(24).سورة الكهفالآية 49.(25).سورة الإنسانالآية 3.(26).سورة الملكالآية 9 ـ 11.(27).سورة يسالآية 82.(28).سورة النساءالآية 126.(29).سورة البروجالآية 20.(30).سورة الأنفالالآية 47.(31).سورة الأنعامالآية 137.(32).سورة يونسالآية 99.(33).سورة السجدةالآية 13.(34).سورة الأحزابالآية 52.(35).سورة التغابنالآية 11.(36).سورة الأنفالالآية 24.(37).سورة الزمرالآية 62.(38).سورة المائدةالآية 64.الفصل الثاني: فيما يتعلّق بصيغة الأمر وفيه مباحث: الأوّلأنّه ربّما يذكر للصيغة معان قد استعملت فيها[1].إيقاظلا يخفى أنّ ما ذكرنا في صيغة الأمر جار في سائر الصيغ الإنشائية[2].ولا يبعد تبادر الوجوب[3].وكثرة الاستعمال فيه[4].لتعدّد المجازات[5].مع أنّه إذا أتى بها في مقام البيان فمقدّمات الحكمة[6].إنّ إطلاق الصيغة هل يقتضي كون الوجوب توصّلياً[7].معنى صيغة الأمر: [1] ذكر (قدس سره) أنّه قد يذكر لصيغة الأمر معان استعملت فيها ويعد منها الترجّي والتمنّي والتهديد والإنذار والإهانة والاحتقار والتعجيز والتسخير، إلى غير ذلك ممّا أنهاها بعضهم إلى خمسة عشر معنى، فيقع الكلام في أنّ استعمال صيغة الأمر في الموارد المفروضة هل هو من قبيل استعمال اللفظ في معانيه المتعدّدة كما ذكر، فمثلاً أنّ قول القائل: (يا ربّ تب علي) مرادف لقوله: (لعل اللّه يغفر لي)، وقوله: (ليت ربّي يرجعني) مرادف لقوله(ياربّ ارجعني) إلى غير ذلك، أو أنّ المستعمل فيه للصيغة في جميع الموارد أمرٌ واحد وهو إنشاء الطلب المتعلّق بالمادة، إلاّ أنّ الداعي إلى إنشائه يختلف، فتارة يكون الغرض إرادة حصول داعي الإنبعاث لدى المطلوب منه فيكون الطلب المنشأ بعثاً وتكليفاً، وأُخرى يكون الداعي إلى إنشائه ترجي المادّة أو تمنّيها، وثالثة إظهار عجز المطلوب منه، ورابعة إظهار وهنه فيكون تحقيراً، وإلى غير ذلك.والذي يشهد به الوجدان في موارد استعمالات الصيغة، هو أن المستعمل فيه إنشاء طلب المادّة ممّن يتوجه إليه الطلب، والاختلاف إنّما هو في ناحية الدواعي إلى إنشائه.وغاية ما يمكن أن يقال إنه اشترط في وضع صيغة الأمر لإنشاء الطلب، كون الداعي والغرض حصول ما يمكن أن ينبعث به المطلوب منه نحو الفعل وإيجاد المادة، وهذا نظير اشتراط قصد الإنشاء والإخبار، أو قصد اللحاظ الآلي والاستقلالى في وضع الحروف والأسماء.وبالجملة فاختلاف الدواعي في إنشاء الطلب أمر واختلاف المستعمل فيه لصيغة الأمر أمر آخر، وقد اشتبه أحدهما بالآخر، وعلى ما ذكرنا يكون استعمالها في غير موارد البعث والتحريك من استعمال اللفظ في معناه، ولكن بغير الوضع، فيكون مجازاً.وقد يقالإنّ الصيغة في موارد الطلب تستعمل لإبراز كون المادة على عهدة الغير، وأمّا إذا استعملت في غير مقام الطلب، يكون المستعمل فيه أمراً آخر، وكون استعمالها في معنى واحد في جميع المقامات ـ مع الإختلاف في الدواعي كما ذكر ـ مبني على كون الإنشاء إيجاداً للمعنى باللفظ لا إبرازاً للاعتبار الحاصل بالنفس.أقولالظاهر عدم الفرق بين القول بأنّ الإنشاء عبارة عن قصد إيجاد عنوان اعتباري بالتلفّظ، أو أنّه إبراز لأمر اعتباري حاصل من النفس مع قطع النظر عن الإبراز بالتلفّظ، حيث إنّ اعتبار الفعل على عهدة الغير وإبرازه قد يكون لغرض التصدّي إلى حصول الفعل منه خارجاً، وأُخرى لغرض إظهار عجزه عنه أو وهنه وحقارته، إلى غير ذلك، هذا وقد تقدّم عدم كون مدلول الصيغة اعتبار الفعل على العهدة.نعم هذا الاعتبار إذا حصل وأُبرز ممّن له ولاية الطلب على الغير فهو يعتبر إيجاباً وطلباً منه، إلاّ أنّ الصيغة لم توضع له، ويشهد له عدم اختلاف معنى الصيغة في موارد استعمال العالي والداني، وموارد الإيجاب والاستحباب، على ما تقدّم.[2] مرادهكما أنّ صيغة الأمر تستعمل في إنشاء الطلب ويكون الاختلاف في الدواعي لإنشائه، كذلك في التمنّي والترجّي والاستفهام، فإنّ صيغة كلّ واحدة منها وضعت لإنشاء الترجّي أو غيره، غاية الأمر تارةً يكون الداعي إلى إنشاء الترجّي مثلا ثبوت الترجّي الحقيقي في النفس، وأُخرى يكون الداعي إلى إنشائه حصول طلب الفعل والبعث إليه، وفي أداة الاستفهام يكون المستعمل فيه إنشاء طلب الفهم، والداعي إلى إنشائه قد يكون قصد الفهم، فيكون استفهاماً حقيقياً، وقد يكون حصول الإقرار ممّن توجّه إليه طلبه أو الإنكار أو غير ذلك، فيكون إقراراً أو استفهاماً إنكارياً أو غير ذاك، وعليه فلا وجه للالتزام بأنّ هذه الصيغ إذا استعملت في كلامه (تعالى) تنسلخ عن معانيها الموضوعة لها؛ لاستحالة مثل هذه المعاني في حقّه (تبارك وتعالى) التي تستلزم العجز والجهل؛ وذلك لأنّ الصيغ لم توضع للحقيقي من معانيها، بل الموضوع له فيها الإنشائي منها، غاية الأمر الداعي إلى إنشائها قد يكون غير ثبوتها حقيقة حسب ما يقتضيه الحال.أقول: يمكن أن يقالإنّ أداة التمنّي والترجّي وُضعت لإظهار الصفة النفسانية (أي إظهار ثبوتها) وأنّ التمنّي يطلق على هذا الإظهار، إلاّ أنّ إبراز ثبوتها قد يكون لثبوتها واقعاً، فيكون تمنّياً وترجّياً حقيقة، وقد يكون الإظهار لغرض آخر من طلب الفعل ونحوه.وإن شئت التوضيح فلاحظ الجمل الخبرية في موارد الكنايات، فإنّها موضوعة لإظهار ثبوت محمولاتها لموضوعاتها ولكنّ الإظهار تارة يكون لحكاية الثبوت الواقعي، وأُخرى لثبوت أمر آخر، حيث إنّ قول القائل (زيد كثير الرماد) لا يكون لغرض الحكاية عن ثبوت مدلول الجملة واقعاً، بل لغرض ثبوت ما يلازم مدلولها.وبالجملة الممتنع في حقّ الباري (جلّ وعلا) الثبوت الواقعي للتمنّي أو الترجّي أو الاستفهام لا إظهار ثبوتها لغرض آخر غير ثبوت معانيها الحقيقية المستحيلة في حقّه (تعالى).دلالة صيغة الأمر على الوجوب[3] المراد بالوجوب كما تقدّم إطلاق الطلب، ويقابله اقتران الطلب واتصافه بثبوت الترخيص في ترك الفعل، وأمّا حكم العقل بلزوم الإتيان بالمأمور به، بمعنى استحقاق العقوبة على المخالفة، فهو يترتّب على وصول الطلب إلى المطلوب منه صغرى وكبرى، ولكن اتّصاف الطلب بالوجوب والندب إنّما هو قبل ملاحظة الوصول إليه، كما تقدّم.والحاصل أنّ إطلاق الطلب أو اتّصافه بثبوت الترخيص في الترك خارجان عن المدلول الوضعي للصيغة وهما وصفان للطلب الصادر عمّن له ولاية الحكم وإذا تمّت مقدّمات الاطلاق في ناحية الطلب، يكون ظهور الصيغة بملاحظة حال منشأ الطلب ظهوراً إطلاقياً في وجوب الفعل، ومع ثبوت الترخيص ينتفي عنها الظهور في الوجوب، ويشهد لخروج الوصفين عن المدلول الوضعي للصيغة عدم الفرق في المعنى المتفاهم عرفاً من نفس الصيغة بين موردي الوجوب والندب، وهذا بخلاف ما تقدّم في مادة الأمر، فإنّها بنفسها دالّة على تعنون الطلب بعنوان الوجوب، ولذا يصحّ أن نقول ما أمرنا بصلاة الليل وأمرنا بالصلوات اليومية.وبالجملة إطلاق الطلب من العالي يكون وجوباً، ومع ثبوت ترخيصه يكون ندباً، وإذا لم يؤخذ في مدلول الصيغة خصوصية الطالب، فكيف يكون الوجوب أو الندب داخلا في المدلول الوضعي للصيغة مع أنّهما فرع علوّ الطالب، وما ذكره (قدس سره)من عدم صحّة الاعتذار عن المخالفة باحتمال إرادة الندب، لا يكون دليلا على أنّ الظهور وضعي لا إطلاقي، ولعله لذلك عدّه مؤيّداً.[4] هذا شروع في الردّ على صاحب المعالم (قدس سره)، حيث ذكر عدم ظهور الصيغة في الوجوب، معلّلا بكثرة استعمالها في الندب في الأخبار المروية عن الأئمّة (عليهم السلام)فيشكل الحكم بوجوب فعل بمجرّد ورود الأمر به بالصيغة.وحاصل الدفع أنّ استعمال الصيغة في الاستحباب وإن كان كثيراً، إلاّ أنّ كثرة الاستعمال إذا كانت بالقرينة المتصلة في أكثر الموارد لا توجب انقلاب ظهور اللفظ أو إجماله، وإنّما توجب ذلك إذا كانت مع القرينة المنفصلة، فإنّه في هذه الصورة يحصل للذهن أُنس بين اللفظ ومعناه المجازي، فيوجب انقلابه أو إجماله، ألا ترى أنّ صيغ العموم أو أداته قد استعملت في الخصوص عندصاحب المعالم (قدس سره) كثيراً، بحيث قيلما من عامّ إلاّ وقد خصّ، إلاّ أنّ الكثرة بما أنهّا تكون مع المخصّص المتصل، لا توجب انقلاب ظهورها.مدلول الجملة الخبرية المستعملة في مقام الإنشاء[5] وجه لعدم ظهور تلك الجمل في الوجوب، والظاهر أنّ المراد بالمجازات الوجوب والندب ومطلق الطلب، فيقال إنّه بعد قيام القرينة على عدم استعمال الجملة الخبرية في الاخبار والحكاية، لا يكون لها ظهور في خصوص الوجوب لتعدّد المجازات وعدم كون الوجوب أظهر المعاني المجازيّة وأقواها.وذكر الماتن (قدس سره) بأنّ الجملة الخبرية المستعملة في مقام الطلب، تكون ظاهرة في وجوب الفعل، بل تكون دلالتها عليه أظهر وأقوى من دلالة الصيغة عليه، والوجه في ذلك أنّ الجملة الخبرية في ذلك المقام لا تستعمل في غير معناها، بل تكون مستعملة في حكاية حصول الشيء خارجاً في المستقبل، إلاّ أنّ الداعي إلى الحكاية ليس ثبوت الشيء خارجاً، بل بداعي البعث والطلب بنحو آكد، حيث إنّ المستعمل حكى وقوع الشيء خارجاً في مقام طلبه لإظهار أنّه لا يرضى بعدم وقوعه، فالجمل الخبريّة تستعمل في قصد الحكاية عن ثبوت الشيء أو لا ثبوت، ولكن بداعي الطلب، وهذا نظير ما تقدّم في الصيغ الإنشائيّة من أنّها تستعمل دائماً في معانيها الإنشائيّة، ولكن بدواع مختلفة.[6] يعني لو نوقش فيما ذكره من أنّ الإخبار بوقوع شيء مستقبلا بداعي البعث والطلب يدلّ على شدّة الطلب وعدم الرضا إلاّ بوقوع الفعل فلا ينبغي التأمّل في أنّه لو كان الطالب في مقام البيان وأخبر بوقوع الفعل مستقبلاً بداعي الطلب يكون الطلب بالإخبار المفروض متعيّناً في الوجوب بمقتضى مقدّمات الحكمة؛ لأنّ شدّة مناسبة الإخبار بوقوع الفعل مع الطلب الوجوبي موجبة لتعيّن إرادته إذا كان الطالب في مقام الطلب ولم ينصب قرينة على غير الطلب الوجوبي.والفرق بين هذه الدعوى ودعوى الظهور المتقدّم هو أنّ هذا الظهور إطلاقي موقوف على جريان مقدّمات الحكمة، بخلاف الظهور السابق، فإنّه ظهور انصرافي ولا حاجة في الظهور الإنصرافي إلى إجراء مقدّمات الحكمة.أقولالصحيح عدم الفرق بين الظهور في صيغة الأمر، والظهور في الجملة الخبرية التي تستعمل في مقام الطلب، في أنّ كلاًّ من الظهورين إطلاقي، حيث إنّ تفهيم المولى عبدَه طلب الفعل ـ سواء كان بإنشائه بالصغية أو بغيره ـ مع عدم ثبوت الترخيص منه في تركه، مصحّح لمؤاخذته على المخالفة، كما تقدّم في بيان دلالة الصيغة على الطلب الوجوبي.ويؤيد ذلك استعمال الجملة الخبرية في موردي الوجوب والاستحباب، وعدم الفرق في المستعمل فيه بينهما، كما في قوله (عليه السلام) فيمن وجد في إنائه فأرة وتوضّأ منه مراراً وصلّى«يعيد وضوئه وصلاته»(1)، فإنّ الإعادة بالإضافة إلى الوضوء استحبابي، وبالإضافة إلى الصلاة وجوبي، وكذا نظائره.التعبدي والتوصلي[7] لا يخفى أنّ قصد التقرب بأيّ معنى فُرض لا يكون قيداً للوجوب، بأن يكون الوجوب بالإضافة إليه مطلقا أو مشروطاً، بل القصد المفروض على تقدير كونه قيداً فهو قيد للواجب، يعني مأخوذاً فيه، فالمبحوث عنه في المقام إطلاق المادة وعدم إطلاقها بالإضافة إليه، لا إطلاق الهيئة، وحينئذ يبحث في أنّ إطلاق المادّة هل يدلّ على كون الواجب توصّلياً أو أنّ إطلاقها لا يكشف عن ذلك.نعم قد يطلق التعبّدي والتوصّلي على الواجب بمعنى آخر على ما ذكره المحقّق النائيني (قدس سره) وهو أنّ التكليف التعبدي ما لا يسقط عن المكلف بفعل غيره، أو بفرد غير اختياري صادر بلا قصد والتفات، أو بفرد محرّم لا يعمّه الترخيص في التطبيق، والتكليف التوصلي يسقط عن المكلّف به بفعل غيره أو بالفرد غير الاختياري أو بالفرد المحرّم والتوصلي بهذا المعنى ربما يكون تعبّدياً بالمعنى الأوّل، نظير سقوط التكليف بقضاء ما على الميت من الصلاة والصوم عن الولد الأكبر بفعل الآخرين، ومقتضى إطلاق الهيئة ثبوت التكليف وعدم سقوطه بفعل الغير أو الإتيان بالفرد غير الاختياري أو المحرّم، كما يأتي.(1).الوسائلج 1، الباب 4 من أبواب الماء المطلق، الحديث 1.إنّ التقرّب المعتبر في التعبدي[1].وتوهّم إمكان تعلّق الأمر[2].إن قلتنعم، ولكن نفس الصلاة أيضاً صارت مأموراً بها بالأمر بها مقيّدة[3].إن قلتنعم، هذا كلّه إذا كان اعتباره في المأمور به بأمر واحد[4].أنحاء قيود المتعلّق: [1] القيود المأخوذة في صحّة العمل بحيث لا يسقط التكليف إلاّ مع الإتيان بالمتعلق معها على نحوين: الأوّلما لا يمكن تحقيق ذلك القيد في الخارج ولحاظه تفصيلا إلاّ بعد الأمر بالعمل وتعلّق الطلب بالفعل.الثانيما يمكن تحقيقه خارجاً ولحاظه تفصيلا قبل الأمر بالعمل، كما في الطهارة من الحدث المأخوذة في الصلاة، فإنّ التوضّئ ولحاظه التفصيلي قبل الأمر بالصلاة المشروطة به أمرٌ ممكن، وهذا النحو من القيد يمكن للآمر أخذه في متعلق الوجوب ثبوتاً وإثباتاً، ومع عدم أخذه في متعلّق التكليف في خطابه وعدم وروده في خطاب آخر أيضاً يؤخذ بإطلاق متعلّق التكليف في الخطاب مع تمامية مقدمات الإطلاق، فيثبت عدم اعتباره في متعلق التكليف ثبوتاً أيضاً.أمّا القسم الأوّل من القيود، فلا يمكن للآمر أخذها في متعلّق التكليف بالعمل لا ثبوتاً ولا إثباتاً، فإنّ أخذها في متعلق التكليف يكون بلحاظها حين لحاظ المتعلق عند اعتبار الوجوب، والمفروض عدم إمكان لحاظها إلاّ بعد الأمر، وعلى ذلك فلا يكون عدم أخذها في المتعلق في خطاب التكليف كاشفاً ودليلا على صحّة العمل بدونه، وكذلك عدم ذكرها في الخطاب المتكفّل لبيان متعلّق ذلك الوجوب من حيث أجزائه وقيوده المتعلق بها التكليف لا يكون كاشفاً.ثمّ إنّ قصد التقرّب والامتثال بمعنى داعوية الأمر للمكلّف إلى الإتيان بمتعلقه من القسم الأول، حيث إنّ داعوية الأمر إنّما تكون بعد تحقّق الأمر، كما أنّ لحاظ داعوية شخص ذلك الأمر إلى الإتيان بمتعلقه يكون بعد الأمر به، وقوله (قدس سره)«لاستحالة أخذ ما لا يكاد يتأتّى إلاّ من قبل الأمر» إشارةٌ إلى القسم الأوّل من القيود، وإلى كون قصد الامتثال منها، فيكون قصد الامتثال مما يعتبر في صحّة العمل عقلا فيما إذا كان الغرض والملاك ممّا لا يحصل بمجرّد الإتيان بذات متعلق الأمر خارجاً، حيث إنّ العقل مستقلّ بلزوم الإتيان بالعمل بنحو يحصل غرض المولى من الأمر.[2] وقد يقال إنّ قصد الامتثال يمكن أخذه في متعلق الأمر، حيث يمكن للشارع أن يأمر ثبوتاً بالصلاة الخاصة مثلا، وهي الصلاة التي أُريد بها امتثال الأمر، وبعد الأمر بالصلاة الخاصة يمكن للمكلف الإتيان بها كذلك؛ لأنّ القدرة المعتبرة في التكليف هي القدرة على متعلقه في ظرف الامتثال، لا القدرة حال الأمر، فإنّ الموجب لخروج التكليف عن اللغوية هو الأوّل دون الثاني، وتوقّف لحاظ قصد شخص الأمر وتصوّره تفصيلا على تحقّق الأمر، لا يوجب عدم إمكان لحاظه بنحو الكلي أو بالعنوان المشير إلى الشخص الموجود بالأمر فيما بعد، فلا محذور في أخذ قصد الامتثال في متعلّق الأمر لا للمولى ولا للعبد في ظرف الامتثال.ودَفَع (قدس سره) هذا التوهّمبأنّ تصوّر الصلاة الخاصة في مقام الأمر وإن كان ممكناً، إلاّ أنّه مع تعلّق الأمر بتلك الصلاة لا يتمكّن المكلف من الصلاة بداعوية الأمر بها حتّى في ظرف الامتثال، حيث إنّ قصد الامتثال عبارة عن الإتيان بالعمل بداعوية الأمر بذلك العمل، والمفروض أنّ الأمر لم يتعلّق بنفس الصلاة (أي بذات العمل) ليمكن للمكلّف الإتيان به بداعويته إلى الإتيان، بل تعلّق بالصلاة الخاصّة، ومن الظاهر أنّ الأمر لا يكاد يدعو إلاّ إلى متعلّقه لا إلى غيره، وداعوية الأمر المفروض إلى نفس الصلاة من داعوية الأمر إلى غير متعلّقه.[3] وحاصل الإشكال أنّ تعلّق الأمر بالصلاة المقيدة بقصد امتثال الأمر لا يوجب عدم تمكّن المكلف من الإتيان بها بداعوية الأمر بها، فإنّ ذات المقيّد ـ يعني نفس الصلاة ـ تكون متعلّقة للأمر المتعلّق بالصلاة المقيدة.وأجاب (قدس سره) عن ذلك بأنّ الأمر المتعلّق بالمقيد لا يكون أمراً بذات المقيد، حيث إنّ انحلال المقيد إلى الذات والتقييد عقلي، فإنّ المقيّد بما هو مقيّد له وجود واحد تعلّق به وجوب نفسي واحد.لكن قد يقالإنّ عدم تعلّق الأمر بنفس الصلاة مثلا إنّما يصحّ فيما إذا أُخذ قصد الامتثال في متعلّق الأمر بنحو القيد والاشتراط، وأمّا إذا أُخذ في متعلّق التكليف جزءاً بأن يكون متعلّق الأمر الكلّ المركّب من ذات العمل وقصد امتثال أمره، كانت نفس الصلاة متعلّقاً للأمر الضمني لا محالة، إذ ليس الكلّ إلاّ نفس الأجزاء، فيمكن للمكلّف الإتيان بنفس الصلاة بداعوية الأمر المتعلّق بها ضمناً.وأجاب (قدس سره) عن ذلك بوجهين: الوجه الأوّلإنّ الفعل وإن كان بالإرادة والقصد اختياريّاً، إلاّ أنّ نفس الإرادة والقصد غير اختياري لعدم كونه بإرادة أُخرى وإلاّ تسلسل، فالقصد بما أنّه غير اختياري لا يتعلّق به التكليف، وعليه فلا يكون قصد الامتثال جزءاً من متعلّق الأمر.الوجه الثانيأنّ داعوية الأمر الضمني إلى الإتيان بالجزء إنّما هي في ضمن داعوية الأمر بالكلّ إلى الإتيان بالكلّ، وفيما نحن فيه لابدّ للخصم من افتراض داعوية الأمر الضمني بالصلاة داعوية مستقلّة؛ إذ لا يحصل المركّب من قصد الإمتثال وغيره، بقصد امتثال الأمر بذلك المركّب، فإنّ لازمه أن يتعلّق الأمر بقصد الامتثال نفسه، ومن الواضح أنّ الأمر يحدث منه الداعوية لا أنّه يتعلّق بداعوية نفسه.[4] وتقريره أنّ لزوم المحذور من أخذ قصد الامتثال في متعلّق التكليف إنّما هو فيما إذا كان التكليف واحداً وقد أُخذ في متعلّقه قصد الامتثال جزءاً، وأمّا إذا كان في البين تكليفان مولويان، أحدهما يتعلّق بنفس الصلاة، وثانيهما بالإتيان بها بقصد امتثال الأوّل، فلا يلزم محذور أصلاً، غاية الأمر تفترق الواجبات التعبدية عن التوصلية، بأنّ التكليف المولوي في التوصليات واحد يتعلّق بنفس العمل، وفي التعبديات يثبت في كلّ منها تكليفان يتعلّق أحدهما بذات العمل، والآخر بالإتيان به بداعوية الأمر الأوّل، فلا يدعو شيء من التكليفين إلاّ إلى الإتيان بمتعلّقة، لا إلى قصد امتثال نفسه، كما كان عليه الحال مع فرض وحدة التكليف.وأجاب (قدس سره) عن ذلكبأنّ من المقطوع به عدم الفرق بين التعبدي والتوصلي بثبوت تكليفين مولويين في الأوّل وتكليف مولوي واحد في الثاني، هذا أوّلا.وثانياًإذا فُرض كون الأمر الأوّل المتعلّق بنفس العمل مولوياً، كما هو الفرض، فإن كان يسقط بمجرّد الإتيان بذات العمل ولو لم يقصد به الامتثال الذي يقتضيه الأمر الثاني، فلا يبقى مجال لموافقة الأمر الثاني؛ لانتفاء موضوعه فلم يصل المولى إلى غرضه بجعل تكليفين، وإن لم يسقط التكليف الأوّل بالإتيان بنفس المتعلّق، فلابدّ من أن يكون عدم سقوطه لعدم حصول غرضه من أمره، ولو سقط التكليف بلا حصول غرضه لم يكن الغرض موجباً لحدوثه، ومع عدم سقوطه لعدم حصول غرضه، لا حاجة إلى التكليف الثاني، لاستقلال العقل بلزوم الإتيان بالمتعلّق على نحو يحصل غرض المولى والآمر، فلا يكون في التكليف المولوي الثاني ملاك.والحاصل: إنّ تعلّق أمر بفعل وتعلّق أمر آخر باستناد ذلك الفعل إلى داعوية الأمر الأوّل ـ فيما إذا كانا من قبيل الأمرين النفسيين ـ يوجب أحد المحذورينإمّا سقوط الأمرين معاً بالإتيان بذات الفعل؛ لسقوط أحدهما بهذا الإتيان، والثاني لارتفاع موضوعه، وإمّا أن لا يكون للأمر الثاني ملاك المولوية، كما إذا لم يسقط الأمر الأوّل بالإتيان بذات الفعل.أقوليمكن إفتراض أمر واحد يكون لمتعلّقه جزئان، أحدهما ذات الفعل، والآخر استناد ذلك الفعل إلى داعوية أمره الضمني بأن يكون أحد الضمنيين متعلّقاً بذات الفعل، والضمني الآخر متعلّقاً بداعوية الضمني الأوّل إلى متعلّقه، ولا يلزم من ذلك محذور؛ لأنّ داعوية الأمر الضمني بذات الفعل، بداعوية الضمني الآخر الذي دعى إلى متعلّقه، وهو استناد الفعل إلى الأمر الضمني به.وما تقدّم في كلامه من أنّ داعوية الأمر الضمني إلى متعلقه إنّما هي في ضمن داعوية الأمر بالمركب إلى المركّب ولا تكون داعويته مستقلة، فإنّما يصحّ لو كان كلّ من جزئي المركّب تعبدياً، أو لم يحصل الجزء الآخر بمجرّد امتثال الأمر الضمني، وبما أنّ المفروض في المقام أنّ الضمني الآخر قد تعلّق باستناد الفعل إلى داعوية الضمني الأوّل، فبقصد امتثال الأمر الضمني الأوّل يحصل كلا جزئي المركّب.والحاصلأنّه لم يتعلّق شيء من الأمرين الضمنيين بداعوية نفسه إلى متعلّقه ليقال إنّ الأمر لا يتعلّق بداعوية نفسه لأنه من قبيل كون الشيء علّة لعلّيّة نفسه، بل تعلّق أحدهما بذات العمل والثاني بداعوية الأوّل إلى متعلّقه.وممّا ذكرنا ظهر أنّه لا موجب للالتزام بثبوت أمرين مستقلّين في التعبديات يتعلّق أحدهما بذات العمل والثاني بداعوية الأمر الأوّل إلى متعلّقه ليقال إنّ من المقطوع به عدم الفرق بين التوصليات والتعبديات بثبوت الأمر المولوي الواحد في الأوّل وثبوت أمرين مولويين في الثاني.لا يقاللا يمكن التبعيض في الأمر الواحد المتعلّق بالمركب في الجعل إذ لو كان استناد الفعل إلى الأمر الضمني المتعلّق بذاته، متعلّقاً للأمر الضمني الآخر، لزم فرض حصول الأمر الضمني بذات العمل قبل حصول الأمر الضمني المتعلّق بقصد التقرب، مع أنّ التبعيض في حصول الأمرين الضمنيين غير ممكن.فإنّه يقالالملحوظ في متعلّق الأمر الضمني الثاني، طبيعي الأمر الضمني المتعلّق بذات العمل، لا الضمني الموجود وذلك الطبيعي يحصل بالأمر الواحد بالمركب.وذكر المحقّق النائيني (قدس سره) في استحالة أخذ قصد التقرب في متعلّق الأمر وجهاً آخر وهو أنّه لابدّ في تقييد المتعلّق بقصد الأمر من أخذ الأمر بالفعل مفروض الوجود كما هو مقتضى كلّ قيد غير اختياري مأخوذ في الواجب، فإنّه يؤخذ في الواجب مفروض الوجود، ولذا لا يكون الأمر بالواجب المفروض إلاّ على هذا التقدير، وبما أنّ الأمر بالفعل الذي يتمكّن المكلّف من الإتيان به بقصد امتثال أمره، خارج عن اختيار المكلف فلا بد في الأمر بالفعل، من فرض وجود ذلك الأمر بعينه، وهذا معنى اتحاد الحكم والموضوع في مرحلة الجعل، بل لا يمكن فعلية ذلك الأمر أيضاً، إلاّ بوجه دائر لأنّ فعلية الحكم بفعلية موضوعة، وحيث أنّ الحكم مأخوذ في ناحية الموضوع ومفروض وجوده، تكون فعليّة الحكم موقوفة على فعلية نفسه، كما هو مقتضى كون الموضوع هو نفس حكمه(1).وقال (قدس سره) إنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة فيعتبر في الاطلاق إمكان التقييد، وإذا لم يمكن تقييد متعلّق الأمر بقصد التقرب (بمعنى العمل بداعوية الأمر به) لما تقدّم من المحذور ـ يعني اتحاد الحكم والموضوع ـ فلا يكون لمتعلق الأمر إطلاق ليثبت به كونه توصلياً، ويتبع مقام الإثبات مقام الثبوت(2).وقد ظهر أنّ المحذور في أخذ قصد التقرّب في متعلّق الأمر غير ناش من ناحية عدم تمكّن المكلف من الإتيان به بداعوية الأمر به كما ذكر صاحب الكفاية (قدس سره)، بل الامتناع من ناحية عدم إمكان الأمر بالنحو المذكور، فيكون جعل الحكم وفعليته دورياً.وذكر أيضاً أنّ العمل بقصد التقرّب (أي الإتيان بمتعلّق الأمر بداعويته) من الانقسامات اللاحقة لمتعلّق الأمر، بعد الأمر به، كما أنّ كون المكلف عالماً أو جاهلا بالحكم من الانقسامات اللاحقة لموضوع الحكم بعد جعله، ولو كان الغرض المفروض في البين في متعلّق الأمر على نحو يعمّ العالم بالحكم والجاهل به، فعلى الآمر أن يُنشأ خطاباً آخر يكون مفاده تعميم الحكم في حقّهما، كما أنّه لو كان غرضه في خصوص العالم به فاللازم أن يكون مفاد الخطاب الآخر نفي البأس عن الجاهل في ترك العمل بالخطاب الأوّل، كما دلّ على ذلك ما ورد في التمام في موضع القصر، أو الجهر في موضع الإخفات وبالعكس، وورد في غير ذلك ما يقتضي اشتراك العالمين والجاهلين في أحكام الشرع، كالأدلّة الدالّة على وجوب تعلّم الأحكام، وعدم كون الجهل بها عذراً، وكذلك فيما يكون الغرض مختصّاً بصورة الإتيان بمتعلّق الأمر بقصد التقرّب، فإنّه لابدّ من خطاب آخر يتضمن الأمر بذلك الفعل مع قصد التقرّب (أي الإتيان بمتعلق الأمر الأوّل بداعويته) بخلاف ما لو كان توصلياً، فإنّه لا يحتاج إلى الخطاب الآخر، بل يكون عدم ورود الخطاب الثاني مع إحراز أنّ المولى في مقام إظهار تمام ما له الدخل في غرضه، من الإطلاق المقامي المقتضي للتوصلية.والحاصل، تمتاز التعبديات عن التوصليات بثبوت أمرين في التعبدي، وأمر واحد في التوصلي، وما في الكفاية من ثبوت أمر واحد ـ بلا فرق بين التعبدي والتوصلي، بدعوى أنّ العقل يستقلّ بلزوم رعاية قصد التقرّب مع إحراز دخله أو احتمال دخله في حصول الغرض ـ غير صحيح، فإنّ شأن العقل الإدراك لا الإلزام والحكم في مقابل حكومة الشرع، فإلزام المكلف بقصد التقرب لا يكون إلاّ من قبل الشارع، ولكن كلا الأمرين في التعبدي لا يكونان من الأمرين النفيسين، كوجوب صلاة الظهر ونذر الإتيان بها جماعة، أو في المسجد، بأن يكون لكلّ منهما ملاك ملزم وإن لم يكن لامتثال وجوب الوفاء بالنذر مجال بعد الإتيان بالصلاة فرادى أو في غير المسجد بل كلا الأمرين في المقام ناشئان عن ملاك ملزم واحد، قائم بالفعل القربي ويحتال الآمر وبجعل الأمرين وسيلة إلى بعث المكلف إلى ما فيه غرضه، فيكونان مساويين في الثبوت والسقوط، ونظير ذلك، الأمر باغتسال الجنب ليلا والأمر بالصوم بناءً على أنّ وجوب الصوم مقيَّد بطلوع الفجر فإنّ الأمرين في حكم أمر واحد، ولهما ملاك واحد، وإنّما جُعلا وسيلة لبعث المكلف إلى ما فيه الغرض، يعني الصوم المقيد بالطهارة(3).أقول: يستفاد من كلامه أُمور ثلاثة: الأوّلأنّ أخذ قصد التقرب ـ بمعنى الإتيان بالمتعلّق بداعوية الأمر ـ في متعلّق ذلك الأمر، يوجب اتّحاد الموضوع والحكم في مقام الجعل وكون فعليته دوريّاً.الثانيأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد في مقام الثبوت كالاطلاق والتقييد في مقام الإثبات، تقابل العدم والملكة، ولا يتحقّق إطلاق فيما لم يمكن تقييده؛ ولذا لا يكون في ناحية الموضوع للحكم، أو المتعلّق للأمر، إطلاق بالإضافة إلى الانقسامات المترتّبة على جعل الحكم وثبوت الأمر.الثالثأنّه لابدّ في موارد الانقسامات اللاحقة من متمّم الجعل، وفي مورد الأمر التعبّدي لابدّ من ثبوت أمر آخر بإتيان العمل بداعوية الأمر الأوّل، وفي مورد التوصلي لا حاجة إلى ذلك؛ للإطلاق المقامي ـ أي عدم الأمر بالفعل بقصد التقرّب ـ على ما تقدّم.لا يقالالوجدان حاكم بأنّ الشارع لو أخبر بعد الأمر بفعل، أنّ الغرض الملحوظ عندي لا يحصل بغير قصد التقرب، يكفي هذا الإخبار في تعبدية الأمر الأوّل، فلا يحتاج إلى الحكم المولوي الثاني.فإنّه يقالالإخبار بعدم حصول الغرض، بداعي البعث إلى الإتيان بالفعل بقصد التقرّب، بنفسه يعتبر أمراً آخر.أمّا الأمر الأوّل ففيهأنّ الوجه في أخذ قيود الواجب غير الاختيارية مفروضة الوجود في مقام الجعل هو عدم إمكان التكليف في فرض عدم تلك القيود، حيث يكون التكليف مع فرض عدمها من قبيل التكليف بغير المقدور، ويختص ذلك بماكان في البين صورتان صورة وجود القيد وصورة عدمه، وحيث إنّ التكليف في إحدى الصورتين من قبيل التكليف بما لا يطاق، فاللازم تقييد موضوع التكليف بصورة أُخرى، وهي صورة حصول القيد، وأمّا إذا كان القيد غير الاختياري يحصل بنفس اعتبار التكليف، كما هو الفرض في المقام، حيث إنّ قصد التقرب يكون بالأمر وهذا الأمر غير الاختياري يحصل بنفس اعتبار التكليف فلا موجب لفرض وجوده.ثمّ إنّ فرض وجود القيد لا ينحصر بما إذا كان القيد أمراً غير اختياري، بل يمكن فرض وجود أمر اختياري أيضاً إذا كان الملاك الملزم في متعلّق التكليف متوقّفاً على اتّفاق وجوده، فيعتبر في التكليف مفروض الوجود، كما يأتي توضيحه في بحث الواجب المعلّق والمشروط، هذا في التكاليف الوجوبية.وأمّا التكاليف التحريمية التي يكون الملاك فيها مفسدة الفعل، فلا موجب لأخذ قيود الموضوع بتمامها مفروضة الوجود بحيث لا تكون الحرمة فعلية قبل حصول القيد، كما في تحريم شرب الخمر والميتة وغيرهما، فإنّ مثل هذه التكاليف مما يتمكّن المكلف من إيجاد الموضوع لها، كصنع الخمر أو جعل الحيوان ميتة ونحوهما، فيكون التحريم فعلياً، حيث يمكن للمكلف ترك شرب الخمر ولو بترك صنع الخمر، ويمكن له ترك أكل الميتة ولو بعدم جعل الحيوان ميتة ونحو ذلك.وأمّا الأمر الثانييعني كون التقابل بين الإطلاق والتقييد بحسب مقام الثبوت، تقابل العدم والملكة، وإذا لم يمكن التقييد في متعلّق الحكم أو موضوعه يكون الإطلاق أيضاً ممتنعاً، فلا يمكن المساعدة عليه، فإنّه إذا لم يمكن أخذ قيد في الموضوع أو المتعلّق يكون إطلاقه الذاتي (أي عدم أخذ ذلك القيد في الموضوع أو المتعلّق) ضرورياً؛ ولذا التزم (قدس سره) بأنّ متعلّق الأمر الأوّل في الواجبات التعبدية هو ذات الفعل، ويتعلّق الأمر الثاني بالإتيان به بداعوية الأمر المتعلّق بنفس الفعل، وإذا لم يكن ذلك المتعلّق مطلقاً، فكيف يقصد الإتيان بالعمل بداعوية الأمر المتعلّق بنفس ذلك العمل؟ ومن هنا ظهر أنّه لو لم يمكن تقييد موضوع الحكم بالعالم به، يكون الإطلاق الذاتي في موضوع ذلك الحكم ضرورياً، وبالجملة الإطلاق الذاتي في متعلّق الأمر مما لابدّ من الالتزام به.غاية الأمر لا يستفاد منه أنّ الغرض الملزم لجعل التكليف قائم بذات المتعلّق، أو قائم بالفعل بقصد التقرب، وإذا لم يرد بعد الأمر الأوّل أمر ثان بالإتيان بمتعلّق الأمر الأوّل بداعويته، يكون الطلب الأوّل متّصفاً بالتوصلية، نظير ما ذكرنا من أنّ إطلاق صيغة الأمر (أي طلب فعل) وعدم ورود الترخيص في الترك يوجب اتّصاف الطلب بالوجوب، وكما أنّ إطلاق الصيغة هناك ـ بمعنى عدم ورود الترخيص في الفعل ـ يكون مقتضياً لكون الطلب وجوبياً، كذلك إطلاق الأمر بمعنى عدم ورود أمر ثان بالإتيان بالعمل بداعوية الأمر الأوّل يقتضي كونه توصيلا، وكما أنّ الإطلاق الأوّل لفظي، كذلك الإطلاق فيما نحن فيه، غاية الأمر أنّ الإطلاق ليس في ناحية المتعلّق، بل في ناحية نفس الأمر والطلب.وأمّا ما ذكره ثالثاًمن جعل الأمرين في مورد كون الوجوب تعبّدياً، فقد تقدّم إمكان قصد التقرّب في متعلّق الأمر الأوّل، ومعه لا تصل النوبة إلى الاحتيال بأمرين.لا يقال: ما الفرق بين ما ذكره صاحب الكفاية (قدس سره) من عدم إمكان أخذ التقرب في متعلّق الأمر الأوّل وأنّ دخله في حصول الغرض يكون موجباً لحكم العقل برعايته في امتثال الأمر المتعلّق بذات العمل، وبين ما ذكره المحقّق النائيني (قدس سره) من أنّ شأن العقل الإدراك لا التشريع والإلزام وفي موارد دخله في الغرض، على الشارع أن يأمر ثانياً بالإتيان بمتعلّق الأمر الأوّل بداعويته، مع أنّ إخبار الشارع بعدم حصول غرضه بالإتيان بذات العمل كاف في لزوم قصد التقرّب بلا حاجة الى الأمر المولوي الثاني؟ فإنّه يقالنفس الإخبار بعدم حصول غرضه، بداعي البعث إلى قصد التقرب أمر ثان بالإتيان به بداعوية الأمر الأوّل، ويظهر الفرق بين المسلكين في الرجوع إلى الأصل العملي، فإنّه على ما سلكه المصنف (قدس سره) يكون المورد من موارد الاشتغال، للشكّ في سقوط التكليف بخلاف ما سلكه المحقّق النائيني (قدس سره)، فإنّ مقتضى البراءة الشرعية عن الوجوب الثاني هو الاكتفاء بذات العمل، نظير البراءة الشرعية في موارد دوران أمر الواجب بين الأقل والأكثر، وكما أنّه مع جريان البراءة عن تعلّق الوجوب بالأكثر تكون أصالة البراءة واردة على قاعدة الاشتغال، من جهة العلم بأصل التكليف والشك في سقوطه مع الاقتصار على الأقل، كذلك جريان البراءة في ناحية الوجوب الثاني تكون واردة على قاعدة الاشتغال من جهة احتمال بقاء الأمر الأوّل، وعدم سقوطه بالإتيان بذات العمل، فتدبّر جيّداً.(1).أجود التقريرات: 1 / 108؛ وفوائد الأُصول1 / 149.(2).أجود التقريرات1 / 113.(3).أجود التقريرات: 1 / 105؛ وفوائد الأُصول1 / 161.وأمّا إذا كان بمعنى الإتيان بالفعل بداعي حسنه أو كونه ذا مصلحة أو له (تعالى)[1].فلا مجال للاستدلال بإطلاقه ولو كان مسوقاً في مقام البيان على عدم اعتباره[2].ولا لاستظهار عدم اعتبار مثل قصد الوجه مما هو ناش من قبل الأمر من إطلاق المادة في العبادة[3].أنحاء قصد التقرب: [1] قد يقالإنّ قصد التقرب في العبادة لا ينحصر بالإتيان بالعمل بداعوية الأمر بذلك العمل، ليقال إنّ قصد التقرب بهذا المعنى لا يمكن أخذه في متعلّق الأمر لما تقدّم من المحاذير، بل يكون قصد التقرب في العمل بالإتيان به بداعوية حسنه أو بداعوية مصلحته أو قصد كونه للّه (سبحانه)، فيمكن للشارع الأمر بالصلاة أو غيرها بشرط أن يُؤتى بها للّه أو لحسنها ومصلحتها، ولا يلزم من أخذ شيء من ذلك في متعلّق الأمر أيّ محذور.وأجاب (قدس سره) عن ذلك بأنّ أخذ ما ذكر في متعلّق الأمر وإن كان ممكناً إلاّ أنّ شيئاً منها غير معتبر في متعلّق الأمر في العبادات قطعاً، لأنّه يكفي في صحّة العمل عبادةً الإتيان بقصد التقرب بالمعنى المتقدّم، ولازم صحّة العمل بقصد التقرب ـ بالمعنى المتقدّم ـ أن يتعلّق الأمر بذات العمل، بأن لا يؤخذ في متعلّق الأمر شيء ممّا ذكر.أقول: يمكن ان يؤخذ جامع قصد التقرب في متعلّق الأمر بالصلاة وغيرها من العبادات جزءاً، ففي هذه الصورة، كفاية قصد التقرّب بالمعنى المتقدّم يكشف عن عدم اعتبار خصوص غيره، ولا ينافي اعتبار الجامع بين أنحاء التقرّب وهو أن يكون عند العمل قصد يكون معه العمل للّه، نظير قوله (سبحانه)(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةِ لِلّهِ)(1).وبتعبير آخرلا يكون ذلك الجامع قيداً لمتعلّق التكليف بنحو الشرطية، ليقال إنّ متعلّق الأمر يصير حصة من الصلاة لا نفس الصلاة، وإنّ الأجزاء التحليلية لا تتصف بالوجوب، بل يكون الجامع جزءاً من المركّب على نحو ما تقدّم، فيمكن للمكلف الإتيان بذات العمل بداعوية الأمر الضمني المتعلّق بنفس العمل، كما يمكن له الإتيان بالمركب من الصلاة وقصد الإتيان بها، لصلاحها أو لتحصيل رضا الربّ بها.لا يقالإذا فرض أخذ الجامع بين أنحاء التقرّب فذلك الجامع لا يمكن أن يعمّ الإتيان بداعوية الأمر بالعمل.فإنّه يقال: إذا فرض حصول فرد للتقرب المأخوذ في متعلّق الأمر، يصح الإتيان بذات الفعل مع ذلك الفرد من التقرب، حيث إنّ الفعل مع ذلك الفرد من التقرب يكون مصداقاً للمجموع المتعلّق به الأمر، وسراية الحكم إلى الفرد، من الطبيعي الحاصل بعد الحكم لا محذور فيه، نظير قولك(خير الكلام ما قلّ ودلّ) فإنّ الحكم المذكور فيه يشمل نفسه.وبالجملة لو فرض امتناع أخذ التقرب ـ بمعنى داعوية الأمر إلى العمل ـ في متعلّق الأمر بذلك العمل، لما تقدّم من لزوم اتحاد الحكم والموضوع، فهذا الوجه يختصّ بأخذ خصوص التقرب المفروض لا جامع التقرب، فإنّ أخذ جامع التقرب لا يتوقف على فرض وجود الأمر بالفعل في مقام جعل الحكم، حيث إنّ الإطلاق ـ كما تقدّم ـ عبارة عن رفض القيود وعدم دخالتها في متعلّق الحكم، ولا يكون شيء من خصوصيات أنحاء التقرب مأخوذاً في متعلّق الأمر، فلا يلزم من أخذ الجامع لها محذور اتّحاد الحكم والموضوع.نعم قد يقال ـ كما عن المحقّق النائيني (قدس سره) ـأنّه كما لا يمكن أخذ قصد التقرب ـ بمعنى قصد الفعل بداعي الأمر المتعلّق به ـ في المتعلّق، كذلك لا يمكن أخذ سائر وجوه القربة في متعلّق الأمر؛ وذلك لأنّ الدواعي كلّها في عرض واحد، بمعنى كونها في مرتبة سابقة على إرادة الفعل وتنشأ منها إرادة الفعل، وإذا كان الأمر كذلك، فيستحيل تعلّق الأمر بالفعل بداع خاصّ منها، أو بالجامع بينها، وذلك لأنّ إرادة العبد الناشئة من داع ما تتعلّق بالفعل ولا تتعلّق بالداعي، وإذا استحال تعلّق الإرادة التكوينية بشيء، استحال تعلّق الإرادة التشريعية به، فإنّ ما تتعلّق به الإرادة التكوينية من العبد يتعلّق به أمر المولى، ومن الظاهر أنّ إرادة العبد تتعلق بنفس العمل لا بالداعي الموجب لإرادة العمل، حيث إنّ الإرادة متأخّرة عن الداعي، فكيف تتعلّق الإرادة المتأخّرة بالداعي المتقدم عليها؟ وإذا كان الأمر في الإرادة التكوينية كذلك، فالإرادة التشريعية ـ يعني أمر المولى ـ أيضاً كذلك فإنّها تتعلّق بنفس ما تتعلّق به إرادة العبد لا بالداعي الموجب لإرادته(2).ولكن لا يخفى ما فيه، فإنّ الداعي الموجب لإرادة الفعل واختياره لا يدخل في متعلّق تلك الإرادة والاختيار، وأمّا تعلّق إرادة واختيار أُخرى بذلك الداعي فلا محذور فيه، ولو كان في ذلك محذور لما أمكن للمحقّق النائيني (قدس سره) الالتزام بتعلّق الأمر الثاني في العبادات باستناد الإتيان بالعمل إلى داعوية الأمر الأوّل المتعلّق بذات العمل، فإنّه من تعلّق الأمر الثاني بالداعي الموجب لإرادة الفعل.وبتعبير آخريمكن للعبد أن يختار ويريد الداعي الموجب لإرادته العمل.ثمّ إنّه لو أُغمض عن كلّ ما ذكرنا إلى الآن، فنقوللا مانع عن تعلّق أمر الشارع بالصلاة الخالية عن إرادتها بالدواعي النفسانية ولو بنحو التقييد، بأن يكون متعلّق الأمر الصلاة الخاصّة وهي الصلاة التي تعلّقت بها إرادة غير ناشئة عن الدواعي النفسانية، وهذا الوصف يستلزم قصد التقرب، فقصد التقرب بنفسه غير مأخوذ في متعلّق الأمر بالصلاة لا شرطاً و لا جزءاً، بل متعلّق الأمر نفس الصلاة الخالية عن الإرادة الناشئة من الدواعي النفسانية، وعليه يتمكّن المكلّف من الإتيان بالصلاة المتعلّق بها الأمر، فإنّه مع فرض الإتيان بها بداعوية الأمر بها تكون تلك الصلاة هي الصلاة التي تعلّق بها الأمر، فتدبر.ولعلّ هذا هو المراد ممّا حكي عن بعض تقريرات العلاّمة الشيرازي (قدس سره)، فلا يرد عليه شيء ممّا ذكر حوله(3).استظهار التوصلية من إطلاق صيغة الأمر[2] قد تقدّم أنّه (قدس سره) بنى على عدم إمكان أخذ التقرب في مقام الثبوت في متعلّق الوجوب وأنّ الوجوب ثبوتاً يتعلّق بذات الفعل، سواء كان من قبيل الواجب التعبدي أو التوصلّي، وإنّما الفرق بينهما في ناحية الغرض والملاك الملحوظ بنظر الشارع، فإن كان ذلك الملاك والغرض في ذات الفعل، يسقط الوجوب المتعلّق به بالإتيان بنفس المتعلّق، بخلاف التعبدي فإنّ الملاك والغرض لايحصل إلاّ بوقوع المتعلّق على نحو العبادة وقصد التقرب بالعمل، وحيث إنّ سقوط التكليف تابع لحصول الملاك وتأمين الغرض فلا يسقط التكليف في التعبديات بمجرد الإتيان بنفس متعلّق الوجوب، وعلى ذلك فإن تعلّق التكليف في خطابه بفعل وكان المولى في مقام بيان متعلّق التكليف في مقام الثبوت، فلا يمكن التشبّث بإطلاق ذلك المتعلّق في مقام الإثبات (يعني الخطاب) وإثبات أنّ الوجوب ثبوتاً توصلي، لما تقدّم من عدم الفرق في مقام الثبوت بين متعلّق التكليف في التوصليات والتعبديات، وأنّ المتعلّق على كلا التقديرين نفس الفعل، والمفروض أنّ الخطاب يكون كاشفاً عن التكليف ومتعلقه وموضوعه في مقام الثبوت.هذا كلّه ـ كما ذكرنا ـ مبني على عدم إمكان أخذ قصد التقرب في متعلّق التكليف ولو بجعل وجوبين على ما سلكه وأمّا بناءاً على إمكان أخذ قصد التقرب في متعلّق التكليف وأنّ الواجب التعبدي والتوصلي يفترقان ثبوتاً في ناحية متعلّق الوجوب فيؤخذ قصد التقرب في متعلّق الوجوب الواقعي جزءاً أو وصفاً بنحو التخلية عن الدواعي النفسانية كما ذكرناه أخيراً، فلا مانع عن التمسّك بإطلاق المتعلّق في مقام الإثبات، وكشف أنّ الواجب ثبوتاً توصلي بمقتضي تطابق مقام الإثبات مع الثبوت، فيكون الإطلاق المتمسّك به إطلاقاً في ناحية المتعلّق بخلاف ما إذا بنينا على تعين أخذ قصد التقرب في المتعلّق بالأمر المولوي الثاني كما التزم به المحقّق النائيني (قدس سره)فلا يمكن التمسّك بإطلاق المتعلّق وإنّما يتمسّك بإطلاق الوجوب المتعلّق بذات الفعل في الأمر الأوّل، حيث إنّ عدم تعقّبه بالأمر الثاني المتعلّق بالإتيان بالأوّل بنحو التعبّد يقتضي التوصلية، نظير عدم تعقب الترخيص في الترك للطلب فكما أن الإطلاق المستفاد من صيغة الأمر أو غيرها يقتضي كون الطلب وجوبياً، كذلك إطلاق الوجوب المتعلّق بذات الفعل وعدم تعقّبه بالوجوب الثاني يقتضي التوصلية، فلا يحتاج في إثبات التوصلية إلى إحراز الإطلاق المقامي، ليقال إنّ إحراز الإطلاق المقامي بالإضافة إلى قصد التقرب غير ممكن؛ لأنّ احتمال التعبدية في الواجبات الشرعية ليس ممّا يغفل عنه العامة حتّى يحتاج إلى التنبيه، كما سيأتي ذلك في اعتبار قصد الوجه والتمييز في التعليقة اللاحقة.وبالجملة فإن أُحرز في مورد أنّ الشارع في مقام بيان تمام ما له الدخل في متعلّق التكليف جزءاً أو شرطاً أو مانعاً فلا يصحّ للمصنّف (قدس سره) التمسك بهذا الاطلاق المقامي، حيث إنّ قصد التقرّب ليس ممّا يمكن أخذه في متعلّق التكليف، بخلاف ما إذا بنينا على إمكان أخذه في متعلّق التكليف ولو بأمرين، فإنّه يجوز التمسك بهذا الاطلاق المقامي؛ لأنّ قصد التقرب مثل سائر الأجزاء والشروط.نعم إذا كان الشارع في مقام بيان تمام ما له الدخل في حصول غرضه لا تكليفه ومع ذلك سكت فيه عن بيان اعتبار قصد التقرب يستكشف من هذا الاطلاق المقامي التوصلية حتّى بناءاً على مسلك الماتن (قدس سره).وإذا فرض عدم الإطلاق اللفظي وعدم الاطلاق المقامي ووصلت النوبة إلى الأصل العملي يكون مقتضى أدلّة البراءة الشرعية عدم جزئية قصد التقرب وعدم شرطيته بناءاً على إمكان أخذ قصد التقرب في متعلّق الأمر ولو بأمرين، حيث إنّ تعلّق الأمر بقصد التقرّب أو ثبوت الأمر الثاني مما لا يعلمون، فهو مرفوع كالرفع في سائر الأجزاء والشرائط، ومعها لا تصل النوبة إلى قاعدة الاشتغال كما هو مقرر في بحث دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين.نعم بناءاً على ما اختاره الماتن (قدس سره) لا يكون المورد إلاّ من موارد قاعدة الاشتغال؛ لأنّ لزوم قصد التقرب ليس مجعولا شرعياً حتّى تجري البراءة في ناحيته لمكان الجهل بذلك المجعول الشرعي، بل يكون عقلياً، والمفروض استقلال العقل بلزوم الطاعة بنحو يحصل الغرض ويسقط التكليف المتعلّق بالفعل، كما لا يخفى.قصد الوجه والتمييز[3] ما ذكره (قدس سره) في ناحية عدم إمكان أخذ قصد التقرب في متعلّق الأمر أجراه في ناحية أخذ قصد الوجه والتمييز أيضاً والتزم بأنّ كلّ قصد ناش من قبل الأمر بفعل، لا يمكن أخذه في متعلّق ذلك الأمر لعين ما تقدّم في وجه امتناع أخذ قصد التقرب، وعليه فلو شكّ عند الأمر بفعل في لزوم قصد الوجه والتمييز في حصول الغرض وسقوط التكليف به، فالعقل يستقل بالرعاية حتّى يحرز سقوط التكليف وحصول الغرض، إلاّ أنّ الإطلاق المقامي المشار إليه في التعليقة السابقة بالإضافة إلى قصد الوجه والتمييز ثابت، حيث إنّ احتمال دخلهما في سقوط التكليف وحصول الغرض ممّا يغفل عنه عامة الناس، ولو كان شيء منهما أو كلاهما دخيلا في غرض الشارع في العبادات لتعرّض إلى اعتبارهما في المتعلّق ولو في بعض الخطابات، مع أنّه لم يرد التعرّض لهما في شيء منها، ومن ذلك يعلم عدم دخلهما وإلاّ كان سكوت الشارع والتعويل على حكم العقل فيها من نقض الغرض.أقولأخذ قصد التمييز في موارد الشبهات الموضوعية في متعلّق التكليف لا محذور فيه بأن يأمر الشارع بالصلاة إلى جهة يعلم عند الإتيان بأنّها القبلة، أو يأمر بصلاة يعلم أنّها مع الطهارة ونحو ذلك، فلا يرد فيه شيء من محذور أخذ قصد التقرب.وكذا الحال في قصد الوجه والتمييز إذا أُريد بهما توصيف العمل بالوجوب والندب عند الإتيان.نعم إذا أُريد من قصد الوجه الإتيان بالعمل بداعوية وجوبه أو ندبه ومن قصد التمييز كون وجوبه داعياً إلى الإتيان به لا احتمال وجوبه، لجرى فيها ما تقدّم في قصد التقرب.في التعبدي بمعنى عدم سقوط التكليف بفعل الغير: ثمّ إنّه يبقى الكلام في كون الواجب تعبدياً أو توصلياً بالمعنى الآخر كما أشرنا إليه في أوّل البحث، وهو أنّ التكليف المتوجّه إلى المكلف إن كان يسقط بفعل الغير يكون التكليف توصلياً، وإن لم يسقط يكون تعبدياً، وكذا إن كان يسقط بالإتيان بالفرد غير الاختياري أو حتّى بالفرد المحرّم يكون توصلياً، ومع عدم سقوطه كذلك يكون تعبديّاً، فالكلام يقع في مقامات ثلاثة: المقام الأوّل: ما إذا شك في سقوط التكليف بفعل الغير، فنقولمقتضى إطلاق إيجاب فعل على مكلّف، هو مباشرته في الإتيان به، حيث إنّ مقتضى إطلاق الوجوب ثبوته حتّى على تقدير إتيان الغير به أيضاً، كما يأتي في بيان أنّ إطلاق الوجوب يقتضي كونه عينياً لا كفائياً، ثمّ لو لم يكن في البين إطلاق ووصلت النوبة إلى الأصل العملي، فإن كان إتيان الغير بالفعل قبل توجّه التكليف إلى المكلف فالمرجع هي البراءة عن التكليف به، إلاّ إذا كان في البين أصل محرز لبقاء موضوع التكليف، كما إذا كان الولد الأكبر حين فوت أبيه صغيراً، أو قد قضى ما على أبيه صغير آخر وبعد البلوغ شكّ في إجزاء فعل ذلك الصبي أو بقاء ما كان على أبيه على عهدته، ففي مثل ذلك لا بأس باستصحاب بقاء ما كان على أبيه، ويثبت وجوب القضاء عليه فيكون مقتضاه التعبدية، وكذا فيما كان توجه التكليف بالفعل إليه قبل فعل الغير، ولا يخفى أنّ هذا كله فيما كان الفعل بحيث لا يستند عرفاً إلاّ إلى المباشر.وأمّا إذا كان بحيث يستند إلى المباشر وغير المباشر مع تسبيبه، كما إذا شكّ في أنّ التقصير أو الذبح الواجب في الحج يعمّ ما كان بالتسبيب أو يعتبر فيه المباشرة، فقد يقالإنّ مثل ذلك يدخل في دوران التكليف بين التعيين والتخيير، ويكون مقتضى الأصل التخيير، حيث إنّ ما دلّ على البراءة من حديث الرفع ينفي خصوصية التعيين.ويورد عليه بأنّ التكليف لا يكاد يتعلّق بفعل الغير، حيث إنّ فعل الغير خارج عن قدرة المكلّف واختياره، وإذا لم يمكن تعلّق التكليف بفعل الغير، فلا يتعلّق بالجامع بين فعل نفسه وفعل الغير.نعم يمكن تعلّقه بالجامع بين فعليه من المباشرة أو نفس التسبيب، إلاّ أنّ لازم ذلك سقوط التكليف بنفس التسبيب، وعلى ذلك فمرجع الشك في كفاية صدور الفعل تسبيباً إلى الشك في اشتراط التكليف بعدم حصوله من الغير أيضاً، ومقتضى الاستصحاب بقاء التكليف وعدم سقوطه بفعل الآخر، بل لو أُغمض النظر عن الاستصحاب لكون الشبهة حكمية وقلنا بعدم جريانه في تلك الشبهة، يتعيّن الرجوع إلى قاعدة الاشتغال ولا مجرى لأدلّة البراءة الشرعية في مثل المقام، فإنّه لا مجال لدعوى أنّ ثبوت التكليف بعد صدور الفعل عن الآخر تسبيباً في هذا الفرض وبغير تسبيب في الفرض السابق، غير محرز، ومقتضى حديث الرفع عدم وضعه.والوجه في عدم المجال انصراف حديث الرفع إلى الجهل بثبوت التكليف فلا يجري في موارد الشكّ في سقوطه بعد حدوثه، نظير انصرافه عن موارد الجهل بالتكليف للشكّ في القدرة على المتعلّق.والحاصل أنّ كلّ ما تقدّم في الشكّ في سقوط التكليف بفعل الغير مع عدم استناده إلى المكلف بتسبيبه يجري في الشكّ في سقوطه بفعل الغير مع استناده إليه بالتسبيب.أقولالصحيح التفرقة بين ما إذا كان فعل الغير لا يستند إلى المكلف ولو مع تسبيبه، كما إذا استأجر الولد الأكبر لقضاء ما على أبيه من الصيام، فإنّ فعل الأجير لا يستند إلى المستأجر فلا يقال صام الولد عن أبيه، وبين ما إذا استند الفعل الصادر عن الغير إليه مع التسبيب، ففي موارد عدم الاستناد يكون سقوط التكليف بفعل الغير باشتراط بقاء التكليف بعدم حصوله لا محالة، ومع إطلاق التكليف في خطابه وعدم ثبوت القرينة على الاشتراط يحكم بتعبّديته.ولو وصلت النوبة إلى الاصل العملي فلابدّ من التفصيل ـ كما تقدّم ـ بين تحقّق فعل الغير قبل توجه التكليف إليه، فيرجع إلى البراءة، وبين ما إذا كان فعله بعد توجّه التكليف إليه، فيرجع إلى الاستصحاب في ناحية بقاء التكليف، ومع الغمض عن الاستصحاب لكون الشبهة حكمية، يرجع إلى أصالة الاشتغال، بناءاً على أنّ أصالة البراءة لا تجري في موارد الشكّ في سقوط التكليف، وأمّا في موارد استناد فعل الغير إلى المكلف بالتسبيب، فلا بأس مع الخطاب بالتمسّك بإطلاق المتعلّق فيه، فيحكم بكفاية تحقّق الفعل ولو تسبيباً.وبتعبير آخرمقتضى الاطلاق في الأمر بالتقصير أو الحلق ونحوهما التوصيلة في وجوبهما.ودعوى ـ أنّ الإطلاق لا يعمّ الفعل التسبيبي لأنّه من فعل الغير وفعل الغير خارج عن قدرة المكلّف واختياره فلا يمكن تعلّق التكليف به، ولو كان فعل الغير مجزياً لكان عدم حصوله شرطاً في بقاء التكليف لا محالة، كما في الفرض الأوّل، وإطلاق التكليف يدفع هذا الشرط ـ لا يمكن المساعدة عليها؛ لأنّ المكلّف به في الحقيقة في موارد الاستناد إلى الشخص ولو بالتسبيب، إيجاد استناد الفعل إلى نفسه، وهذا الإيجاد يكون بالفعل مباشرة وبالتسبيب في فرض حصوص الفعل عن الآخر، نظير نذر بيع متاعه، فإنّ متعلّق النذر يحصل بالمباشرة في بيعه أو بالتسبيب، ولا يكون مقتضى وجوب الوفاء بنذره فيما إذا قال(للّه علّي أن أبيع متاعي هذا) بيعه بالمباشرة ولا تخييره بين بيعه بالمباشرة أو أمر الغير ببيعه ولو مع عدم حصول البيع.وممّا ذكرنا يظهر أنّه مع عدم الإطلاق ووصول النوبة إلى الأصل العملي يكون المورد من موارد دوران متعلّق الوجوب بين كونه خصوص الفعل مباشرة أو إيجاد الاستناد في تحقّقه إلى نفسه الحاصل بالفعل مباشرة أو بالتسبيب، ومقتضى أصالة البراءة عن تعين المباشرة الاكتفاء بالتسبيب؛ لأنّ الرفع في ناحية تعلّق التكليف بالاستناد إليه في تحقّقه خلاف الامتنان، حيث إنّ في هذا التعلّق توسعة على المكلّف.في التعبدي بمعنى سقوط التكليف بالفرد غير العمدي: المقام الثانيما إذا شك في سقوط التكليف بالفرد الغير العمدي، أي ما يكون تحقّقه مع الغفلة وعدم الالتفات، فقد يقال بعدم السقوط لانصراف الأفعال إلى صورة التعمّد والاختيار، وتكون دعوى الانصراف في ناحية المواد تارة وفي ناحية الهيئات أُخرى.وناقش المحقّق النائينى (قدس سره) في دعوى الانصراف سواء كانت في ناحية موادّها أو هيئاتها بأنّ معنى المادة هو الطبيعي الذي يكون صدقه على تمام افراده بالتواطىء، والهيئات دالّة على انتساب المواد إلى الذوات وقيامها بها، ويشترك في ذلك الانتساب التعمدي وغيره، ولذا ذكر الفقهاء الضمان في إتلاف مال الغير غفلة وبلا التفات أخذاً بعموم قاعدة «من أتلف»، وذكروا عدم حكومة حديث الرفع على ما بيّن في محلّه، ولم ينكر ذلك أحد منهم، بدعوى انصراف الاتلاف إلى صورة التعمّد، نعم العناوين القصدية التي لا تتحقّق إلاّ بالاعتبار والإنشاء تتوقّف على قصدها، لا لانصراف الفعل إلى التعمّد، بل لعدم الفعل مع عدم القصد، حيث إنّ الإنشاء والاعتبار مقوّمهما القصد.هذا بالإضافة إلى الاختيار بمعنى التعمّد والالتفات، وأمّا الاختيار المقابل للجبر والقهر فلا يبعد دعوى انصراف الفعل إليه كما ذكر الشيخ (قدس سره) في بحث خيار المجلس بأنّ تفريق المتبايعين بالقهر والجبر لا يوجب سقوط الخيار لانصراف الافتراق المأخوذ غاية له في الروايات إلى ما كان بالاختيار.ثمّ إنّه (قدس سره) قد ذكر وجهين للانصراف في خصوص صيغة الأمر وما بمعناها بالإضافة إلى التعمّد بمعنى الالتفات وبالإضافة إلى الاختيار بالمعنى المقابل للقهر والجبر.الأوّل: اعتبار الحسن الفاعلي في تعلّق الأمر والطلب بالمادة، ومن الظاهر أنّ الحسن الفاعلي لا يكون من دون القصد والالتفات، وبتعبير آخرتعلّق الطلب بالمادة قرينة على كون متعلّقه خصوص الحصة الاختيارية، ومقتضى مذهب أهل الحقّ عدم تعلّق أمر الشارع إلاّ بما فيه صلاح العباد، وكون الفعل كذلك يوجب استحقاق فاعله المدح مع القصد والالتفات لا مطلقاً.وبالجملة الحسن الفعلي تابع للملاك في الفعل ولا يتوقف على الإرادة والاختيار، ولكنّ الحسن الفاعلي لا يكون إلاّ مع العمد والالتفات.الثانيأنّ مفاد الهيئة في صيغة الأمر وما بمعناها هو البعث والتحريك، وهذا البعث والتحريك لا يكون إلاّ نحو الفعل الإرادي.وعليه فسقوط التكليف بالفرد غير الاختياري يكون من جهة عدم تقييد الوجوب والطلب بحصول الواجب عن التفات، لا لشمول الطلب له أيضاً، وإذا كان الأمر كذلك فإطلاق الوجوب وعدم ورود القيد عليه مع كونه في مقام البيان، مقتضاه التعبدية وعدم إجزاء الفرد غير العمدي والاختياري، بل الأمر كذلك حتّى لو وصلت النوبة إلى الأصل العملي فإنّ استصحاب بقاء الموضوع أو الحكم ولا أقلّ من قاعدة الاشتغال، مقتضاه بقاء التكليف ولزوم إحراز سقوط التكليف(4).وفيهأمّا الوجه الأوّل، فالحقّ أنّه لا موجب لاعتبار الحسن الفاعلي في كون فرد مصداقاً لمتعلّق التكليف، فإنّه لو كان فيه الملاك الموجود في سائر الأفراد لعمّه الطبيعي المطلوب صرف وجوده، نعم إذا كان الطبيعي عنواناً قصدياً فلا يكون ما هو بغير العمد والقصد فرداً للطبيعي، كما أنّه لو كان الواجب تعبدياً لا يسقط إلاّ مع الإتيان بقصد امتثال الأمر، فلا يكون المغفول عنه وغير المقصود فرداً أو واقعاً بنحو العبادة، وهذا خارج عن محلّ الكلام على أنّ الحسن الفاعلي لا يتحقّق بمجرد التعمّد والالتفات، بل لابدّ من حصول الفعل بقصد التقرّب، وهذا يوجب أن تكون جميع الواجبات تعبدية.وأمّا الوجه الثاني، وهو تعلّق البعث والتحريك بخصوص الحصّة المقدورة وعدم إمكان تعلّقهما بالطبيعي بجميع وجوداته مع فرض خروج بعضها عن الاختيار، فيرد عليه: أوّلاإنّه ينافي ما ذكره (قدس سره) في بحث الضد(5) من جواز التمسّك بإطلاق الطبيعي المتعلّق به التكليف لإثبات الملاك في فرده غير المقدور والمزاحم، حيث إنّه بعد فرض كون متعلّق التكليف في نفسه الحصة المقدورة كيف يمكن التمسّك بإطلاقه.وثانياً: أنّ الإطلاق في المتعلّق هو رفض القيود عنه، فيمكن تعلّق التكليف بطلب صرف الوجود من الطبيعي الملغى عنه القيود وخصوصيتها، فيما كان فرد منه مقدوراً، اللهمّ إلاّ أن يقالإنّ الترخيص كالبعث والطلب لا يتعلق بالحصة الخارجة عن الاختيار أو المغفول عنها، وعليه فلا يتمّ الإطلاق في ناحية المتعلّق بالإضافة إليها، فإنّ وجود الملاك في كلّ فرد من الطبيعي يستفاد من الترخيص في التطبيق عليه، الملازم لإطلاق المتعلّق، ومع احتمال اختصاص الملاك بفرده الاختياري يحتمل اكتفاء الآمر في بيان ذلك باعتماده على التكليف بالطبيعي، حيث لا يعمّ معه الترخيص في تطبيقه إلاّ أفراده المقدورة وغير المغفول عنها.وممّا ذكرنا يظهر ضعف ما عن سيّدنا الأستاذ (قدس سره) في المقام من أنّ معنى صيغة إفعل ليس البعث والطلب، بل معناها اعتبار المبدأ على عهدة المكلف والاعتبار على العهدة لا يوجب تقييداً في المعتبر، بأن يكون ما على ذمته الحصة المقدورة، ليقال إنّ إجزاء غير المقدورة يحتاج إلى التقييد في التكليف، ومع عدم ثبوته يكون مقتضى إطلاق البعث والإيجاب عدم الإجزاء، ومع وصول النوبة إلى الأصل العملي يكون مقتضى استصحاب التكليف أو قاعدة الاشتغال لزوم رعاية احتمال بقاء التكليف.وبالجملة إذا كان ما على العهدة نفس الطبيعي بلا تقييد، يستقل العقل بإفراغها ولو مع تمكّنه من فرد، ولا مجال لدعوى أنّ تحريك المولى يتعلّق بما يقدر العبد على التحرّك نحوه، لما ذكر من عدم كون مفاد صيغة الأمر تحريكاً وبعثاً.لا يقال: ما فائدة اعتبار الطبيعي على العهدة دون الحصة المقدورة؟ فإنّه يقالفائدة ذلك الإعلام بوجود الملاك في الطبيعي كيفما تحقّق، وعلى ذلك فيكون مقتضى الأصل العملي أيضاً عند حصول الفرد غير الاختياري البراءة عن التكليف(6).أقوللازم هذا الكلام الالتزام بالإجزاء حتّى فيما إذا كان الطبيعي يحصل بفعل الغير، فإنّ المادة موضوعة لنفس الطبيعي، وهيئة إفعل دالّة على كون ذلك الطبيعي على عهدته، فعليه الإتيان به مباشرة أو تسبيباً.هذا مضافاً إلى أنّه (قدس سره) قد التزم بأنّ إطلاق متعلّق التكليف يستتبع شمول الترخيص في التطبيق لجميع أفراد الطبيعة، ولكن لو كان الأمر كما ذهب إليه (قدس سره)(7) لما كان إطلاق المتعلّق مستلزماً للإطلاق الشمولي في التطبيق بحيث يشمل جميع الأفراد حتّى غير المقدورة، إذ اعتبار الفعل على الذمّة وإن كان لا يوجب تقييد المتعلّق إلا أنّ الترخيص في التطبيق يقيّد لا محالة، وعليه فإطلاق المتعلّق لم يكن كاشفاً عن إطلاق الترخيص في التطبيق.وقد تقدّم أنّ المتفاهم العرفي من هيئة صيغة الأمر هو الطلب المعبّر عنه بـ(فرمان) في اللغة الفارسية، والاعتبار في الذمة إذا كان بداعي الطلب يكون كناية عن الطلب، وإذا كان بداع آخر كما في موارد المعاملات والاجارة، فهذا شيء آخر لا يرتبط بالأمر والتكليف، كما لا يخفى.في التعبدي بمعنى عدم سقوط التكليف بالفرد المحرم: وأمّا المقام الثالثوهو سقوط التكليف بالفرد المحرّم، فلا ينبغي التأمّل في أنّ حرمة فرد توجب تقييد متعلّق التكليف بغيره، فالحكم بسقوط التكليف مع الإتيان به يحتاج إلى إحراز اشتماله على ملاك سائر الأفراد، إذ مع خروجه عن خطاب الأمر بالتقييد ـ لمنافاة حرمته مع الترخيص في التطبيق ـ لا يكون في البين كاشفاً عن الملاك فيه، ومقتضى إطلاق الأمر بالطبيعي المقيد بغيره لزوم الإتيان بغيره حتّى لو وصلت النوبة إلى الأصل العملي، فمقتضى قاعدة الاشتغال على ما هو المعروف عندهم لزوم إحراز سقوط التكليف.وإن قيل بأنّ حرمة فرد لا يوجب تقييد متعلّق التكليف بغيره، وأنّه يجوز اجتماع الأمر والنهي، يكون الإتيان بالفرد المحرم كالإتيان بسائر الأفراد في سقوط التكليف به.نعم إذا كان المتعلّق مما يعتبر الإتيان به على نحو العبادة، فربّما يحكم بفساده لعدم حصول قصد التقرّب مع حرمة الفرد ووقوعه مبغوضاً، بخلاف موارد سقوط النهي، أو كونه معذوراً لجهة، فيحكم بصحّته عبادةً.ثمّ لا يخفى أنّه لا وجه لتقييد خطاب الأمر بخطاب النهي إذا كان الأمر إرشادياً، كما في الأمر بغسل الثوب، فإنّه إرشاد إلى كون طهارته بالغسل، فيعمّ الغسل بالماء المباح والمغصوب، ولا ينافيه النهي عن الغصب.(1).سورة البقرةالآية 196.(2).أجود التقريرات1 / 109.(3).حكي عنه (قدس سره).في أجود التقريرات1 / 111.(4).أجود التقريرات1 / 100.(5).أجود التقريرات1 / 269.(6).المحاضرات2 / 149.(7).أي عدم إيجاب اعتبار الفعل على الذمة للتقييد في المتعلّق.المبحث السادس قضية إطلاق الصيغة كون الوجوب نفسياً تعيينياً عينيّاً[1].المبحث السابعاختلف القائلون بظهور الصيغة في الوجوب وضعاً أو إطلاقاً فيما إذا وقع عقيب الحظر أو في مقام توهّمه[2].المبحث الثامنالحقّ أنّ صيغة الأمر مطلقاً لا دلالة لها على المرة والتكرار[3].وتوهّم أنّه لو أُريد بالمرة الفرد لكان الأنسب.إلخ[4].تنبيهلا إشكال بناءاً على القول بالمرّة في الامتثال[5].مقتضى إطلاق صيغة الأمر[1] الظاهر أنّ مراده (قدس سره) من الإطلاق، إطلاق نفس الدال على الوجوب وهو هيئة إفعل حيث إنّ الوجوب مستفاد منها، وذكر (قدس سره) أنّ للوجوب في كلّ واحد ممّا يقابلها تقيّد وتضييق لدائرته، وكأنّه في مقابل الأوّل يتقيّد بفعلية وجوب فعل آخر، وفي مقابل الثاني بترك الفعل الآخر، وفي مقابل الثالث بما إذا لم يأتِ به شخص آخر، فإذا كان الآمر بصدد البيان ولم يذكر دالاًّ على ذلك التقييد والتضييق يكون مقتضى الاطلاق كونه نفسياً تعيينيّاً عينياً.أقوللا يكون في موارد الوجوب التخييري وجوب الفعل مقيداً بترك فعل آخر، حيث إنّ لازم هذا التقييد فعليّة الوجوبين مع ترك متعلّقها بأن يعاقب المكلّف بعقابين لتركه كلاًّ من الفعلين.مع أنّ الغرض الملزم إذا كان حاصلا بأحد الفعلين، فلا موجب لتعدّد الأمر والوجوب، بل يصحّ الأمر بالجامع بينهما، ولو كان ذلك الجامع أمراً انتزاعياً اعتبارياً.وعلى ذلك يكون إثبات كون الوجوب تعيينياً بإطلاق متعلّقه بمعنى عدم ذكر العدل له فإنّه لو كان تخييرياً لذكر في الخطاب تقيّد متعلّقه بفعل آخر، بعطفه عليه بلفظة «أو» ليكون كاشفاً عن تعلّقه ثبوتاً بالجامع بينهما.نعم، لا مانع في الواجب الكفائي من تقيد مدلول الهيئة بما إذا لم يتحقّق طبيعي الفعل من الآخرين، وأنّ كلّ واحد ممن اعتبر الوجوب في حقّه يستحقّ العقاب فيما إذا تركوا الفعل.وإذا كان المتكلّم في مقام البيان ولم يذكر في خطابه تقييد للأمر بذلك، يكون مقتضاه كون الوجوب عينيّاً.وأمّا الوجوب النفسي، فإنّ ظاهر الأمر بفعل هو كونه بداع البعث لا الإرشاد إلى دخله في متعلّق تكليف آخر شرطاً أو شطراً، وهذا الظهور ناش من عدم تقيّد الأمر بإرادة الإتيان بمتعلّق تكليف آخر، كما في آية الوضوء، وعلى ذلك فالصحيح أن يقالإنّ إطلاق الأمر بفعل وعدم تقييده بإرادة الإتيان بمتعلّق تكليف آخر، مقتضاه كون وجوبه نفسياً.وكذا عدم تقيد وجوب فعل بما إذا وجب فعل آخر، فإنّ إثبات الوجوب الغيري بتقييد الأمر بفعل، بما إذا وجب فعل آخر وإن كان غير صحيح؛ لإمكان كونهما نفسيين في وقت واحد، كالأمر بالإقامة عند وجوب الصلاة، إلاّ أنّ عدم التقييد كذلك كاشف عن كون وجوب الفعل نفسياً.وبتعبير آخرلا يكفي في إثبات الغيرية مجرد تقييد وجوب الفعل بما إذا وجب الآخر، حيث إنّ الوجوب الغيري إضافة إلى تقيّده بما إذا وجب الفعل الآخر، لابدّ أن يكون متعلّقه مأخوذاً في ذلك الفعل الآخر فيكون شرطاً له، أو يكون الفعل الآخر مما يتوقّف عليه خارجاً فيكون مقدمة له، ولذا يكون وجوبه غيريّاً، فمجرّد التقييد كذلك لا يكفي لإثبات الغيريّة، إلاّ أنّ عدم التقييد كذلك يكشف عن نفسية الوجوب.ولا يخفى أنّه يمكن إثبات كون وجوب الفعل نفسياً بإطلاق متعلّق الوجوب الآخر، فإنّ مقتضى إطلاقه عدم أخذ المشكوك في نفسيّة وجوبه في ذلك المتعلّق، فيكون وجوب المشكوك نفسياً، لجواز إثبات اللوازم بالأُصول اللفظية.وقال المحقّق الأصفهاني (قدس سره) في ذيل كلام المصنف (قدس سره)لا يخفى أنّ لكلٍّ من الوجوب النفسي والغيري قيداً، ضرورة خروج الوجوب عن الإهمال بالقيد، ولكن القيد في الوجوب النفسي وما يماثله لا يخرج عن طبيعة الطلب عرفاً.ثمّ قالالتحقيق أنّ لكلٍّ من الوجوبين قيداً، ولكن القيد في الوجوب الغيري أمر وجودي وهو نشوء وجوب فعل وانبعاثه عن وجوب فعل آخر، والوجوب النفسي قيده عدمي، وهو عدم انبعاث وجوبه عن وجوب فعل آخر، لا أنّ للوجوب النفسي قيداً وجودياً هو أنّه يجب، وجب هناك شيء آخر أم لا، كما هو ظاهر المصنّف (قدس سره)ضرورة أنّ مجرد اقتران وجوب شيء بوجوب شيء آخر لا يوجب كون وجوبه غيرياً، بل الوجوب الغيري نشوء وجوب فعل عن وجوب فعل آخر، وإذا ثبت بمقدّمات الحكمة عدم بيان هذا القيد الوجودي يثبت النفسية في وجوبه؛ لكون القيد فيه عدمياً وليس مقتضى الإطلاق ثبوت وجوب، سواء كان ناشئاً عن وجوب فعل آخر أم لا، فإنّ إطلاق الوجوب بهذا المعنى غير معقول.وكذا الحال في الوجوب التعييني والتخييري فإنّ التخييري هو الوجوب المشوب بجواز ترك الفعل إلى بدل، والتعييني هو الوجوب الذي لا يكون كذلك، لا الوجوب المقترن بجواز الترك وعدمه.ثمّ قالوتوهّم أنّ الحكمة لا تقتضي كون الوجوب تعيينياً، حيث لا يلزم من عدم بيان فرد آخر من الوجوب نقض الغرض فاسد، فإنّ الغرض بيان نحو وجوب الفعل وكيفية وجوبه وعدم ذكر القيد يكون نقضاً لهذا الغرض، وليس المراد من الغرض، الغرض الباعث إلى التكليف، مع أنّه يلزم نقض هذا الغرض أيضاً فيما إذا تعذّر ما اكتفى ببيان التكليف به(1).وذكر بعض الأعاظم أنّ الأمر بالشيء يحمل على كون وجوبه نفسياً تعيينياً عينيّاً، إلاّ أنّ هذا الحمل لمجرد بناء العقلاء واستمرار سيرتهم على ذلك من غير أن يدخل في الدلالة اللفظية ـ وضعيّة كانت أو انصرافية أو كشف العقلاء عن الإطلاق ـ فإنّ أمر المولى وبعثه بفعل تمام الموضوع لاحتجاجه على العبد ولا يجوز له التقاعد عن موافقة مطلق بعثه، سواء كان باحتمال إرادة الندب أو العدول إلى الفعل الآخر باحتمال التخيير أو الترك مع إتيان شخص آخر بالفعل، لاحتمال الكفائية أو عدم الإتيان به عند عدم التكليف بالفعل الآخر، لاحتمال الغيرية، فإنّ على ذلك سيرتهم وبنائهم وإن لم يتبيّن لنا وجه هذا البناء، وليس لأمر راجع على دلالة اللفظ؛ ولذا يجري في الموارد التي يكون فيها البعث بنحو الإشارة أيضاً(2).أمّا ما ذكر في الكفاية من استفادة الوجوب النفسي والتعييني والعيني من إطلاق الهيئة، فلا يمكن المساعدة عليه، كما لا يمكن المساعدة على ما ذكره المحقّق الاصفهاني (قدس سره) في تعليقته من أنّ القيد في كلٍّ من النفسي والتعييني والعيني عدمي، بخلاف الغيري والتخييري والكفائي فإنّ قيدها وجودي فيكفي في بيان النفسية عدم بيان قيد الغيري، وكذا الحال في التعييني والعيني، أمّا الأوّل فلأنّه على القول بوضع الهيئة لمطلق الطلب يكون نتيجة الإطلاق هو مطلق البعث المشترك بين النفسي والغيري حيث إنّ ميزان الإطلاق هو أن يكون ما يؤخذ في الخطاب ويراد بيانه تمام الموضوع للحكم ولابدّ أن يكون في المقام هوالجامع، ولكن الإطلاق كذلك مع كونه خلاف الغرض حيث إنّ المفروض استفادة الوجوب النفسي لا الجامع ممتنع، لأنّ الحروف وما يشابهها ومنها صيغة إفعل لايتصوّر الجامع الحقيقي بين معانيها.والحاصل يلزم أن يكون لكلٍّ من الوجوب النفسي والغيري قيد، إمّا وجودي أو عدمي ضرورة صحّة تقسيم الوجوب إليها، ويلزم أن يكون لذلك القيد دالّ آخر.وأمّا ما ذكره المحقّق الاصفهاني (قدس سره) من أنّ النفسية في الوجوب عبارة عن عدم الوجوب للغير، فهذا بيّن البطلان، فإنّه إن كان المراد عدم الوجوب للغير بنحو السالبة المحصلة الصادقة مع انتفاء الوجوب ـ كما هو ظاهر كلامه ـ فهو كما ترى.وإن كان المراد العدم بنحو السالبة بانتفاء المحمول أو السلب العدولي، فيحتاج بيان كون الوجوب لا لغيره، إلى بيان ودالٍّ آخر زائداً على الدالّ على أصل وجوبه، على أنّ الوجوب لنفسه هو الوجوب لذاته وتفسيره بلا لغيره، تفسير بلازمه.ودعوى أنّ أحد القسمين أي الوجوب النفسي عين المقسم في نظر العرف، كما هو ظاهر قوله «بان الوجوب النفسي وما يماثله لا يخرج عن طبيعة الطلب عرفاً وإن كان غيره في نظر العقل»، لا تخرج عن صرف الادعاء، بل الوجدان على خلافها.فإنّه يصحّ عرفاً تقسيم الطلب إلى النفسي والغيري من غير أن يلزم بنظرهم محذور تقسيم الشيء إلى نفسه وغيره، فكلّ من الوجوب النفسي والغيري بنظرهم نفس الطبيعة مع قيد زائد وجودي أو عدمي.أقوليظهر ما في كلام المحقّق وبعض الأعاظم (قدس سرهما) ممّا ذكرناه في ذيل كلام الماتن (قدس سره)، فإنّه ليس الكلام في المقام في الفارق الثبوتي بين الوجوب النفسي والوجوب الغيري ليقال إنّ لكلٍّ منهما خصوصية وقيداً زائداً على أصل الطلب وأنّ الطلب في الأوّل ينشأ عمّا في متعلّقه من الملاك والغرض، بخلاف الغيري فإنّ ملاك الطلب فيه ترشحي عن الملاك والغرض في الفعل الآخر.وقد ذكر الماتن (قدس سره) ذلك في بحث الواجب النفسي والغيري، بل الكلام في مقام الإثبات وأنّ بيان كون الوجوب في الواقع نفسياً يكفي فيه عدم ذكر ما يدلّ على أنّ طلب الفعل غيري فيما إذا كان المولى في مقام بيان كيفية الوجوب ونحوه، وأنّ بيان كون الطلب المتعلّق بالفعل غيري يكون بتقييد الطلب بما إذا أراد الإتيان بفعل آخر كما في آية الوضوء، أو بما إذا كان طلب الفعل الآخر فعلي، وإذا لم يذكره وكان في مقام بيان كيفية الوجوب بأن تعلّق الطلب في الخطاب بالفعل يكون الإطلاق أي عدم ذكر ما يدلّ على قيد الوجوب الغيري دليلا على أنّ الوجوب نفسي؛ لأنّ كون الوجوب مهملا ثبوتاً غير ممكن من المولى الملتفت، كما أنّ ثبوت كلا الوجوبين خلاف الفرض، حتّى لو فرض تحمّل فعل واحد لوجوبين أحدهما نفسي والآخر غيري.وعليه إذا أُحرز عدم الوجوب الغيري ثبوتاً تعيّن كونه نفسياً، والوجه في إحراز عدم كونه ثبوتاً غيرياً عدم بيان القيد اللازم في الدلالة على كونه غيريّاً، كما هو الفرض في المقام، وهذا معنى قولنا عدم الدلالة على كون الوجوب غيريّاً في مقام بيان كيفية الوجوب دليل على نفسيته، ويعبّر عن عدم الدالّ على غيريّة الوجوب في مقام بيان كيفية الوجوب بالإطلاق، وهذا غير الإطلاق في موضوع الحكم المقتضي لتسريته إلى جميع أفراده كما في قوله سبحانه: (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ) وقوله سبحانه(إنَّما الْخَمْر وَالْمَيْسِر) إلى غير ذلك، ممّا يحتاج إرادة بعض الأفراد إلى قرينة دالّة على خصوصية الأفراد المقصودة ثبوتاً.ونظير الإطلاق في المقام، ما تقدّم في دلالة صيغة الأمر على كون الطلب وجوبياً بالإطلاق، وهذا الإطلاق داخل في الدلالة اللفظية، حيث إنّه مدلول لعدم ذكر القيد الدالّ على الحكم الآخر كما تقدّم، مع احتياجه في مقام البيان إلى ذكره لو كان هو المراد.مدلول صيغة الأمر بعد الخطر: [2] قد يقالإن ورود صيغة الأمر بعد الحظر أو في مقام توهّم الحظر يوجب ظهورها في الترخيص والإذن، وقد ينسب ذلك إلى المشهور.ونسب إلى بعض العامّة إنكار ذلك، والقول بظهور الصيغة في الوجوب مطلقاً.ونسب إلى بعض القول بظهورها في ما كان الفعل عليه قبل النهي عنه إذا علق الأمر بزوال موجب النهي، كما في قوله سبحانه(فَإِذا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِيْنَ)(3).وقد استدلّ كلّ فريق على ما ذهب إليه ببعض استعمالاتها، ولكن القرينة في تلك الموارد على إرادة الترخيص والاذن أو الوجوب أو الرجوع إلى ما قبل الحظر موجودة، ومع قطع النظر عن تلك القرائن لم يظهر أنّ وقوعها عقيب الحظر يوجب ظهورها في غير ما كانت ظاهرة فيه قبل الحظر، بل وقوعها كذلك يوجب إجمالها وعدم الظهور في شيء منها بخصوصه.لا يقالقد تقدّم أنّ دلالة الصيغة على وجوب الفعل بالإطلاق وعدم الترخيص في ترك متعلّق الطلب، وتعلّق الطلب به مع ورود صيغة الأمر محرز، وإذا لم يبيّن الترخيص في تركه يكون مقتضاه الوجوب، كما تقدّم.فإنّه يقالإنّما يتمسّك بإطلاق الطلب فيما إذا كان تعلّق الطلب بالفعل بداعي البعث نحوه محرزاً، إمّا بالوضع أو بالانصراف، وفي المقام لم يحرز كون تعلّق الطلب بالفعل بداعي البعث حتّى يحمل على الوجوب، لاقتران الخطاب بما يصلح قرينة على أنّه بداعي الترخيص فيه، وبيان عدم الحظر أو ارتفاعه، كما لا يخفى.دلالة صيغة الأمر على المرة أو التكرار[3] المراد أنّ صيغة الأمر لا دلالة لها بمادّتها ولا بهيئتها على خصوصية المرّة أو التكرار، حيث إنّ مادّتها لا تكون دالّة إلاّ على الطبيعي، وهيئتها لا تكون دالّة إلاّ على البعث نحوه وطلب وجوده.وبتعبير آخريلاحظ الطبيعي تارةً في وجوداته الانحلالية، وأُخرى بوجوده الخاصّ، ككونه متعقباً بوجوده الآخر أو غير متعقّب، أو مقترناً بوجوده الآخر أو غير مقترن إلى غير ذلك، وثالثةً يلاحظ وجوده في مقابل عدمه، فلا يلاحظ السريان ولا وجوده الخاصّ.ولا يستفاد من صيغة الأمر إلاّ المعنى الأخير ـ أي ما يلاحظ وجوده في مقابل عدمه ـ، فتكون المرة مسقطة للأمر به لحصوله بها وخروجه من كتم العدم إلى صفحة الوجود، لا أنّ المطلوب فيها هو المرّة.ثمّ إنّ صاحب الكفاية (قدس سره) جعل النزاع في الهيئة والمادّة وقالإنّ صيغة (إفعل) لا تدلّ على خصوصيّة المرّة ولا التكرار، لا بهيئتها ولا بمادّتها كما بيّنا.ولكنّ صاحب الفصول (قدس سره) جعل النزاع في الهيئة فقط، وأنّه هل يستفاد من الصيغة المرّة أو التكرار، أو لا يستفاد منها شيء من الخصوصيتين وأنّ مدلولها طلب حصول الطبيعي.فالنزاع في المقام راجع إلى دلالة الهيئة على أحدهما؟ مع التسالم على أنّ الصيغة بمادّتها لا تدلّ على خصوصية المرة أو التكرار؛ وذلك لاتّفاق أهل العربية ـ كما ذكر السكاكي ـ على أنّ المصدر المجرد عن اللام والتنوين لا يدلّ إلاّ على نفس الطبيعي(4).وأجاب عنه الماتن(قدس سره) وقالهذا الكلام غفلة عن أنّ كون المصدر المجرد عنهما كذلك لا يوجب الاتفاق على أنّ الصيغة بمادتها لا تدلّ على خصوصية المرة أو التكرار؛ لأنّ المصدر المجرد لا يكون مادة لسائر المشتقات ومنها صيغة الأمر، بل المصدر صيغة كسائر صيغ المشتقات له هيئة ومادّة، وقد تقدّم في باب المشتق مباينة المصدر مع سائر المشتقات في المعنى، فكيف يكون المصدر بمعناه المصدري مادة لها؟ وعليه فيمكن دعوى اعتبار المرة أو التكرار في مادة صيغة الأمر ولا اتّفاق على عدمه.لا يقالإذا لم يكن المصدر مادّة لسائر المشتقات، فما معنى ما اشتهر في الألسن من كون المصدر أصلا في الكلام، والمراد بالكلام المشتق، فإنّ إطلاق الكلام على المشتق اصطلاح الصرفيين.فإنه يقالالمراد بكون المصدر أصلاً في المشتقات مع أنّه محلّ خلاف بين علماء الأدب، هو أنّ المصدر سابق على سائر المشتقات في الوضع، وأنّ سائر المشتقات وضعت بتبع وضع المصدر.وبيان ذلك: أنّ من يلاحظ ألفاظاً مختلفة الهئية متحدة المادة كـ(ضَرْب وضَرَبَ ويضرب وضارب ومضروب وإضرب) يرى أنّها تشترك في أمرين؛ أحدهماملفوظ يتلفظ به ويعبّر عنه بـ(ض ر ب).وثانيهامعنى ذلك الملفوظ وكأنّ هيئات تلك الألفاظ صور للأمر الأوّل، ومعاني الهيئات صور للأمر الثاني، فيكون (ض ر ب) مادة لفظية لتلك الهيئات، ومعناه مادة لمعاني تلك الهيئات، وحيث أنّ المادة اللفظية غير قابلة للحاظ إلاّ في ضمن هيئة، فالهيئة التي لاحظ الواضع المادة في ضمنها أوّلا كانت هي هيئة المصدر أو الفعل، وبعد وضع المصدر أو الفعل وضع سائر المشتقات التي تشترك مع المصدر في الأمرين المتقدّمين بأن وضع موادها شخصاً، وهيئتها نوعاً، فالوضع في ناحية المصدر شخصي في هيئته ومادته، وفي غيره نوعي بالإضافة إلى الهيئات، وشخصي بالإضافة إلى موادّها.وقد ذكر بعض الأعاظم (قدس سره) أنّ مناقشة صاحب الكفاية ضعيفة؛ وذلك لأنّ المصدر وإن لم يكن مبدأً لسائر المشتقات، إلاّ أنّ عدم التفاوت بين مبدأ المصدر ومبدأ سائر المشتقات في المعنى قطعي، وعليه فالعلم بخروج المرة أو التكرار عن معنى المصدر مساو للعلم بخروجهما عن مدلول مادة سائر المشتقات، فينحصر الخلاف في صيغة (إفعل) من ناحية هيئتها فقط، كما ذكر في الفصول.أقولالعلم بخروج المرة والتكرار عن مدلول المصدر لا يكون موجباً للعلم بخروجهما عن مادة سائر المشتقات، فإنّه من المحتمل أن يكون مادة جميع المشتقات حتّى المصدر موضوعة للطبيعي المقيد بأحدهما، وتكون هيئة المصدر موضوعة لإلغاء الخصوصية من المادة وإشراب المعنى الحدثي لها مع كون الوضع في ناحية هيئة المصدر أيضاً شخصياً؛ ولذا يكون سماعياً بحسب المواد، وإذا أمكن ذلك يكون تخصيص الخلاف في صيغة الأمر بمدلول الهيئة دون المادة بلا وجه.[4] ذكر في الفصول أنّ المراد بالمرّة الدفعة، وبالتكرار الدفعات، لا الفرد والأفراد، فإنّه لو كان المراد منها الفرد أو الأفراد لكان الأنسب، بل المتعيّن جعل هذا البحث تتمة للبحث الآتي وهو تعلّق الأمر بالطبائع أو الأفراد، فيقالعلى القول بتعلّقه بالفرد، هل المتعلّق فرد واحد أو المتعدّد أو لا دلالة في الأمر بشيء على أحدهما، وأمّا على القول بتعلّق الأمر بالطبيعي فلا معنى لهذا البحث، فإنّ مقتضى تعلّقه بالطبيعي عدم تعلّقه بالفرد أصلاً فضلا عن أن يكون واحداً أو متعدّداً، وهذا بخلاف ما إذا كان المراد منهما الدفعة والدفعات، فإنّه بناءاً عليه يصحّ جعل الدلالة على المرة والتكرار أو عدم دلالتها عليهما بحثاً مستقلاًّ.وبما أنّ الأصحاب أفردوا هذا البحث عن البحث الآتي وجعلوا خلاف المرة والتكرار بحثاً مستقلا يكون ذلك قرينة على أنّ المراد بالمرة والتكرار الدفعة والدفعات.والوجه في عدم العلقة بين المسألتين بناءاً على أنّ المراد بالمرة الدفعة، وبالتكرار الدفعات، جريان النزاع على القول بتعلق الأمر بالطبيعي، وكذا على القول بتعلّقه بالفرد، فإنّ جريانه على الأوّل معناه الإتيان بالطبيعي مرة أو مرات، وعلى الثاني معناه الإتيان بالفرد أو الإتيان بالأفراد.وقد ذكر الماتن (قدس سره) أنّه لا علقة بين مسألة الدلالة على المرة والتكرار ومسألة تعلّق الأمر بالطبيعة أو الفرد؛ وذلك لأن تعلّق الأمر بالطبيعة معناه طلب وجودها، وإلاّ فالطبيعة ـ مع قطع النظر عن وجودها ـ لا يتعلّق بها الحب والبغض ولا الإرادة والكراهة ولا البعث والزجر، فالقائل بتعلقه بالطبيعة ملتزم بأنّ مفاد الأمر بها طلب وجودها، ولكنه ملغى عنها جميع خصوصيات أفرادها وأنّ تلك الخصوصيات غير داخلة في المطلوب، بحيث لو أمكن حصولها في الخارج عارية عن جميع تلك الخصوصيات لحصل متعلّق الطلب وسقط الأمر بالطبيعة لحصول الغرض.ولكنّ القائل بتعلق الأمر بالأفراد يلتزم بأنّ تلك الخصوصيات أيضاً داخلة في المطلوب، بحيث لو أمكن حصول الطبيعة بدونها لما حصل المطلوب وعلى ذلك ـ سواء قيل بتعلق الأمر بالطبيعي أو بالفرد ـ يجري الخلاف في الدلالة على المرة والتكرار، فإنّه على القول بتعلق الأمر بالطبيعي يكون الخلاف في أنّ المطلوب وجود واحد للطبيعي أو وجودات متعدّدة، وعلى القول بتعلقه بالفرد يكون الخلاف في أنّ المطلوب خصوصيات فرد واحد أو أفراد متعدّدة.وبتعبير آخرالمراد بالفرد الواحد في المقام هو الوجود الواحد، كما أنّ المراد بالفرد في ذلك البحث دخول الخصوصيات لوجود الطبيعي في متعلّق الطلب، فلا علقة بين المسألتين.[5] ظاهر كلامه (قدس سره) أنّه إن قيل بدلالة الصيغة على المرّة فالامتثال يحصل بحصول متعلّق الطلب خارجاً مرة، ولا يبقى مجال للإتيان به ثانياً على أن يكون الثاني أيضاً امتثالا للطلب، فإنّه من الامتثال بعد الامتثال.وأمّا لو قيل بعدم دلالتها على خصوصية المرة ولا على خصوصية التكرار، بل كان مفادها طلب الطبيعي وإيجاد ذلك الطبيعي فإن لم يكن الآمر بصيغة الأمر في مقام البيان من هذه الجهة بل كان في مقام بيان أصل الطلب المتعلّق بالمادة المعبّر عن ذلك بمقام الإهمال أو كان غرضه إخفاء خصوصية متعلّق الطلب وأنّه الطبيعي مرة أو مرات أو بدونهما، فالمرجع الأُصول العملية، وإن كان في مقام البيان كما هو الأصل في كلّ خطاب صادر عن المتكلم، فمقتضى إطلاق الطبيعة المأمور بها هو الإتيان بها مرة أو مرات لا لزوم الاقتصار على المرة، كما لا يخفى.ثمّ قال (قدس سره)ولكنّ التحقيق أنّ مقتضى الإطلاق جواز الإتيان بالطبيعة مرة في ضمن فرد أو أفراد كما إذا قال (إذا حنثت اليمين فأعتق رقبة) فيجوز له عتق عبد أو عبيد دفعة امتثالا للأمر بعتق العبد، وأمّا إيجاد فرد بعد إيجاد الآخر امتثالا للأمر بالعتق ثانياً فهذا غير جائز؛ لسقوط الأمر بالعتق بالإتيان بالفرد الأوّل لا محالة، فلا يبقى مجال للإتيان به ثانياً بعنوان الامتثال فيما إذا كان امتثال الأمر بالفرد الأوّل علّة تامّة لحصول الغرض كما في المثال، ولا يبقى أيضاً مجال للإتيان به ثانياً ليكون الإتيانان امتثالا واحداً.نعم إذا لم يكن الإتيان الأوّل علّة تامّة لحصول الغرض الأقصى وإن كان موجباً للغرض المترتّب على الإتيان بالفعل، كما إذا أمر المولى بالإتيان بالماء ليشربه أو يتوضّأ به، فأتى به، فإنّه مادام لم يشربه أو لم يتوضّأ فلا يبعد صحّة تبديل الامتثال بالإتيان بفرد آخر أحسن منه، بل وإن لم يكن أحسن منه كما كان له أن يأتي بذلك الماء قبل الإتيان بالماء المأتي به على ما يأتي بيانه في بحث الإجزاء.أقوللو كان مراد القائل بدلالة صيغة الأمر على المرة أنّ المرة قيد لمتعلّق الطلب وأنّ مفاد الهيئة تعلّق الطلب بالمادة ومفاد مادّتها الطبيعي المقيّد بالمرة، ففي الفرض لا يجوز الإتيان بالطبيعي مرة أُخرى، فإنّ الإتيان مرة أُخرى يوجب عدم حصول متعلّق الطلب أصلا، كما هو الحال في الركوع الواجب في كلّ ركعة من ركعات الفريضة.وأمّا إذا كان مراده دلالة هيئة الصيغة على أنّ الطلب المتعلّق بطبيعي الفعل واحد وأنّه لا تعدّد في ناحية الطلب المتعلّق بالطبيعي لا لزوماً ولا استحباباً، ففي مثل ذلك وإن لم يجز الإتيان بالفرد الآخر من الطبيعي امتثالاً لطلب آخر إذ لا تعدّد فيه حسب الفرض، إلاّ أنّه إذا أتى بالفرد الآخر بلا قصد الامتثال أو حتّى معه فلا يضرّ بالامتثال الأوّل، كما هو الحال في غسل الوجه أو اليد اليمنى في الوضوء ثلاث مرات، فإنّ المكلف في الفرض وإن شرع بقصد الامتثال بالفرد الآخر مع علمه بالحال إلاّ أنّه لا يضر بامتثاله بالفرد الأوّل، ويترتّب على ذلك أنّه لو أعاد الجنب غسله بعد اغتساله من الجنابة أوّلاً فلا تضرّ الإعادة بصحّة اغتساله الأوّل.وكذلك الحال فيما لو قلنا بعدم دلالة الصيغة على المرة ولا التكرار لا بمادتها ولا بهيئتها، بل مفادها طلب صرف وجود الطبيعي، فإنّه بعد حصول صرف وجوده بالفرد الأوّل لا يبقى مجال للامتثال بالفرد الآخر، ولكن إذا أتى بالفرد الآخر بلا قصد الامتثال أو معه، فلا يضرّ بالامتثال بالفرد الأوّل.وما ذكره (قدس سره) في أوّل الأمر من أنّ مقتضى الإطلاق جواز عدم الاقتصار على المرة، لا يخفى ما فيه، فإنّ الإتيان بذات الفعل ثانياً وثالثاً جائز، ولكن لا يجوز بقصد الامتثال؛ لسقوط الأمر بالطبيعي بالإتيان بالفرد الأوّل، فإنّ مقتضى إطلاق المادة عدم أخذ الخصوصية في المتعلّق، كما تقدّم، ومقتضى إطلاق الهيئة تعلّق الطلب بما لم يلاحظ فيه الخصوصية لا تعلّقه بالخصوصيات أيضاً.وما ذكره ثانياً من أنّه مع عدم حصول الغرض الأقصى فلا بأس بالامتثال ثانياً أيضاً غير صحيح؛ لأنّ بقاء الغرض الأقصى مع حصول الغرض من متعلّق التكليف وهو تمكن الآمر من تناول الماء في المثال لا يوجب بقاء التكليف بذلك المتعلّق ليمكن الامتثال الآخر بعد الامتثال الأوّل.ودعوى أنّه لو أُريق الماء الأوّل لزم على العبد الإتيان به ثانياً، وهذا دليل على بقاء التكليف ما دام لم يحصل الغرض لا يمكن المساعدة عليها، فإنّ العلم بالغرض في نفسه ملزم للعبد بالفعل ومع إراقة الماء يعلم بعدم حصول الغرض الذي هو تمكّنه من تناول الماء وهو ملزم له بالفعل ثانياً، ولذا لو علم العبد بهذا الغرض وغفل المولى عن حضور عبده عنده ليأمره بالإتيان بالماء كان عليه الإتيان به وجاز للمولى أن يؤاخذه على تركه.نعم، بقي في المقام أمر وهو أنّه قد يكون لمتعلّق الطلب مصاديق يختلف بعضها مع بعض في الملاك، فيكون ملاك الطلب في بعضها أقوى وأكثر بالإضافة إلى بعضها الآخر، كما في الأمر بالتصدّق على الفقير، فإنّه يمكن التصدّق على فقير بالمال اليسير ويمكن التصدّق عليه بالمال الكثير كما يمكن التصدّق على فقير بعد التصدّق على فقير آخر، ففي مثل هذه الموارد لا بأس بعد التصدّق بالمال اليسير التصدّق بمال آخر عليه، أو على فقير آخر امتثالا للأمر المتوجّه إليه.ولكن لا يخفى أنّ مثل ذلك لا يعدّ امتثالا بعد الامتثال، بل من موارد تعدّد المطلوب بمعنى أنّ الطلب بمرتبته الوجوبيّة وإن سقط بالتصدّق الأوّل؛ ولذا لا يجوز له التصدق على الفقير الثاني بقصد الوجوب، ولكنه قد بقي بمرتبته الاستحبابية، واستفادة تعدّد الطلب بهذا المعنى من الأدلة في بعض الموارد ومن مناسبة الحكم والموضوع في بعضها الأخر غير بعيد.ثمّ إنّ هذا كلّه فيما إذا ثبت للآمر إطلاق، سواء كان بالصيغة أو بغيرها، وأمّا إذا لم يكن في البين إطلاق، كما إذا لم يصل خطاب الأمر إلينا أو وصل ولكن لم تتمّ فيه مقدّمات الحكمة وفرض وصول النوبة إلى الأصل العملي، فمقتضى البراءة عدم كون الإتيان بالطبيعي ثانياً مانعاً، سواء أتى به بلا قصد التقرّب والامتثال، أو لاحتمال مطلوبيته ولو ندباً، وبناءاً على ما ذكره المصنف (قدس سره) يكون مقتضى استصحاب بقاء التكليف جواز تبديل الامتثال.(1).نهاية الدراية1 / 353.(2).تهذيب الأُصول1 / 127.(3).سورة التوبةالآية 5.(4).الفصول الغروية58.المبحث التاسعأنّه لا دلالة للصيغة على الفور ولا على التراخي[1].تتمّةبناءاً على القول بالفور فهل قضية الأمر الإتيان فوراً ففوراً[2].الظاهر أنّ المراد من وجهه[3].ثانيهاانّ المراد من الاقتضاء ههنا الاقتضاء بنحو العلّيّة والتأثير[4].الظاهر أنّ الإجزاء ههنا بمعناه لغة وهو الكفاية[5].الفرق بين هذه المسألة ومسألة المرة والتكرار[6].دلاله صيغه الأمر على الفور أو التراخي[1] قد يكون الواجب مضيّقاً بأن جعل الشارع للإتيان به وقتاً يساوي الفعل، كالصيام في أيّام شهر رمضان أو غيرها، وقد يكون موسّعاً كالصلوات اليومية، حيث إنّ الزمان المعيّن لكلّ منها أوسع مما تقتضيه كلّ صلاة.ولا كلام في أنّه يتعيّن في المضيّق الإتيان به في زمانه، كما لا ينبغي التأمّل في أنّه يجوز في الموسّع التأخير إلى ما قبل انتهاء الوقت ممّن يدركه ويتمكّن منه قبل انتهائه؛ لأنّ تحديد الوقت الوسيع للفعل ظاهره الترخيص في التأخير المفروض.وإنّما الكلام فيما إذا تعلّق الطلب بفعل بصيغة الأمر أو نحوها من غير تحديد الفعل أو الطلب بالزمان فهل يكون مدلول الصيغة ونحوها طلب الإتيان به فوراً أو طلب الإتيان به متراخياً أو لا دلالة لها على شيء منهما بل مدلولها طلب ايجاد الطبيعي فيكون مقتضى إطلاقها جواز تأخير الإتيان وعدم لزوم الإتيان فوراً، أو لزوم الإتيان متراخياً، فلا ينافي دلالتها بالاطلاق على جواز كل من الفور والتراخي.ولو التزم في مورد بتعين الإتيان بالفعل فوراً فاللازم قيام دليل وقرينة على تلك الفورية سواء كانت الفورية بنحو وحدة المطلوب أو بنحو الإتيان به فوراً ففوراً وسواء كانت الفورية عقلية أو بنحو الفورية العرفية.وقد يقال بقيام القرينة العامّة بالإضافة إلى جميع موارد طلب الفعل وإيجابه، وتلك القرينة مستفادة من قوله تعالى(سارِعُوا إِلى مَغْفِرَة مِنْ رَبِّكُمْ)(1) و(اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ)(2)؛ لأنّ مفادهما وجوب المبادرة إلى الخير وموجب المغفرة، وأمّا أنّ أيّ شيء خير أو موجب للمغفرة فلا تعرّض فيهما لذلك، والمستفاد من إطلاق الصيغة ونحوها كما تقدّم أنّ طبيعي الفعل ـ في أي زمان حصل ـ خير وموجب للمغفرة، وإذا انضمّ ذلك إلى الكبرى المستفادة من الآيتين تكون النتيجة وجوب الإتيان فوراً ففوراً، فإنّه على تقدير الترك في الآن الأوّل يكون الإتيان به في الآن الثاني مسارعةً واستباقاً بالإضافة إلى الأزمنة اللاحقة وهكذا.وأجاب الماتن (قدس سره) عن دعوى هذه القرينة العامّة بجوابين: الجواب الأوّلأنّ طلب المسارعة إلى الخير وموجب المغفرة استحبابي، ولا أقلّ المستفاد منها مطلق مطلوبيّتهما لا الطلب الوجوبي، وذلك لأنّ ظاهر الأمر بالمسارعة إلى الخير والمبادرة إلى موجب المغفرة أنّه ليس فيهما (يعني في المسارعة والاستباق) ملاك ملزم آخر يفوت بالإتيان بالخير وموجب المغفرة مع التأخير، ليكون ترك المسارعة والاستباق موجباً للغضب والسخط من جهة تفويت الملاك الملزم بالتأخير في إتيان موجب المغفرة وبالإتيان بالخير فيما بعد، ولو كان تركهما كذلك لكان الأمر بهما بنحو التحذير أنسب؛ لئلاّ يكون لهما ظهور في عدم الملاك الملزم الآخر، وما ذكر يعيّن ظهورهما في الاستحباب، ومع الإغماض عن ذلك فالالتزام بوجوب المسارعة والاستباق يوجب التخصيص المستهجن في الآيتين بإخراج المستحبات طرّاً والواجبات الموسعة ونحوهما ممّا يجوز فيها التأخير، وعليه فلو لم تكونا ظاهرتين في الاستحباب فلا أقلّ من إرادة مطلق المطلوبية منهما.والجواب الثانيما أشار إليه بقوله «ولا يبعد دعوى استقلال العقل.إلخ» وحاصله أنّه لا يبعد أن يقال باستقلال العقل بحسن الاستباق إلى الخير والمسارعة إلى موجب المغفرة، وليس المراد من حسنهما حسن الفعل، بأن يكون في المسارعة والاستباق ملاك مولوي آخر ـ ملزم أو غير ملزم ـ غير ما في الإتيان بما هو خير وموجب للمغفرة، نظير حكمه بحس العدل وقبح الظلم؛ ليتعيّن الأمر الشرعي والنهي الشرعي بقاعدة الملازمة بين حكم العقل والشرع، بل المراد الحسن الامتثالي يعني استقلال العقل بأنّ مع المسارعة يكون المكلف على إحراز من دركه الخير والوصول إلى المغفرة وهذا أرقى مراتب إحراز الامتثال، وحيث إنّ الآيتين أيضاً ظاهرتان في أنّه ليس في المسارعة والاستباق غير إحراز ملاك نفس الخير وموجب المغفرة فيكون الأمر بهما في الآيتين إرشاداً إلى ما استقلّ به العقل، كما هو الحال في أمر الشارع بأصل الطاعة وترك المعصية.فتحصل مما ذكرنا أنّ مقتضى الجواب الثاني عدم كون الأمر بالمسارعة والاستباق مولوياً لا بنحو الايجاب ولا بنحو الاستحباب، بل هو إرشاد، ومقتضى الجواب الأوّل هو كون الأمر بالمسارعة والاستباق مولوياً، ولكن لا بنحو الإيجاب، بل بنحو الاستحباب أو مطلق الطلب ومن دون دلالته على خصوصية الوجوب.ولكن لا يخفى أنّ ما ذكره (قدس سره) في الجواب الأوّل غير تامّ، حيث ذكر أنّ حمل الأمر بالمسارعة والاستباق على الوجوب يوجب التخصيص المستهجن في الآيتين، والوجه في عدم التمامية هو ما ذكرناه من أنّ الوجوب مقتضى إطلاق الطلب المستفاد من الصيغة، والمراد من إطلاق الطلب كونه متّصفاً بعدم ورود الترخيص في الترك، وعليه فإذا تعلّق الطلب بأفعال ثمّ ورد الترخيص في ترك بعضها أو أكثرها يرفع اليد عن إطلاقه بالإضافة إلى ما ورد الترخيص في تركه فحسب، سواء كان تعلّق الطلب بالأفعال بعناوينها، أو بها بعنوان انحلالي، فقيام القرينة في المستحبّات على الترخيص في ترك أصلها فضلا عن المسارعة إليها وكذا في الواجبات الموسّعة بالإضافة إلى المسارعة إليها في أوّل وقتها لا يوجب رفع اليد عن إطلاق الطلب المتعلّق بالمسارعة إلى غيرهما من الخيرات وموجبات المغفرة.وقد يقال: بأنّ ظاهر الأمر بالاستباق في الخير والمسارعة إلى المغفرة هو أمر المكلّفين بالمسابقة في الخيرات والمغفرة، ولا تكون المسابقة إلاّ فيما إذا لم يصل الشخص إلى المقصود قبل الآخرين لفات عنه، كما في قوله سبحانه(وَاسْتَبَقا الْبابَ) فالاستباق والمسارعة هي المسابقة وإرادة الوصول إلى الشيء قبل الآخرين لئلاّ يفوت عنه الشيء، وهذا يناسب الواجب الكفائي ممّا يكون المطلوب من جميع المكلّفين عمل واحد بحيث لو قام به أحدهم لسقط عن الآخرين، ولا يجري فيما إذا وجب على كلّ مكلّف فعله المختصّ به، من دون أن يرتبط بعمل الآخرين كما في الواجبات العينية المهمّة في المقام.و على ما ذكر من اختصاص الأمر بالاستباق والمسارعة بالواجبات الكفائيه يكون الأمر بهما للإرشاد إلى عدم فوت العمل من غير السابق إليه.أضف إلى ذلك أنّه لا دلالة لآية المسارعة إلى المغفرة على وجوب الإتيان بكلّ ما يؤمر به فوراً، حيث لا عموم فيها.ودعوى توصيف المغفرة بـ«مِنْ رَبّكُم» يقتضي العموم، لا دليل عليها، ويؤيّد عدم العموم وقوع الخلاف بين المفسّرين في المراد من المغفرة التي أمر بالمسارعة إليها حيث قيل المراد كلمة الشهادة، أو أداء الفرائض، أو تكبيرة الإحرام في صلاة الجماعة، أو الصفّ الأوّل، أو التوبة، أو غير ذلك.أقوللم يؤخذ في معنى الاستباق فوت ما يتسابق فيه إذا لم يسبق إليه، بل يكون الفائت ملاك السبق إليه كما إذا شرع كلّ عامل بعمله الخاصّ واستبقوا في أعمالهم، يعني في فراغ كلّ منهم عن عمله، لم يفت ما يتسابق فيه بسبق أحدهم في العمل.نعم إذا لم يكن العمل قابلا للتكرار بل كان أمراً واحداً يفوت عن غير السابق، كما في قوله تعالى: (وَاسْتَبَقا الْبابَ)(3) يكون الأمر كما ذكر، بخلاف مثل قوله سبحانه(وَلَوْ شِئْنا لَطَمَسْنا عَلى أعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ)(4) فإنّ العمل لا يفوت عن الآخرين باستباق واحد منهم، وعلى ما ذكر فلا يوجب اختصاص الأمر باستباق الخيرات بالواجبات الكفائية، حيث إنّ فوت ملاك السبق لا يلازم فوت ما يتسابق فيه، وأمّا آية المسارعة، فليس فيها دلالة على المسابقة المعروفة، وما اشتهر من أنّ باب المفاعلة يكون بين الاثنين أمرٌ لا أساس له، وسارعوا إلى مصارعهم أو مضاجعهم، يعني أراد كلّ الوصول إلى مصرعه أو مضجعه بسرعة.وإذا كان المراد من المغفرة في الآية موجب الغفران والتزم بأنّ الواجبات من موجباتها كما يستظهر من قوله سبحانه (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السّيِّئاتِ)(5) فلا وجه لاختصاص الأمر بالمسارعة إليها، بواجب دون واجب لحصول الملاك في كلّ منها.نعم لو قيل إن المراد منها التوبة عن الفواحش كما لا يبعد، بقرينة ما ذكر بعد ذلك، فلا ترتبط الآية بالإتيان بالمأمور به فوراً.ثمّ إنّه ـ مع الإغماض عمّا تقدّم في تقرير كلام الماتن في جوابه الثاني من أنّ ظاهر الآيتين كون الأمر بالاستباق في الخيرات والمسارعة إلى المغفرة هو الإرشاد والأمن من عدم حصول الامتثال والغفران ـ يمكن أن يقال إنّ الأمر بالاستباق والمسارعة فيهما لا يناسب الإلزام، وإلاّ لخرج العمل مع التأخير عن كونه خيراً وموجباً للمغفرة، حيث يكون التأخير موجباً للوزر.وإن شئت قلت يكون التأخير وترك السبق عنواناً مزاحماً لكون العمل خيراً وموجباً للغفران، وظاهر الآيتين كون ما في الاستباق والمسارعة من الملاك أمراً انضمامياً الى ملاك الخير وموجب الغفران من دون أن يكون في تركهما مزاحمة للخير وموجب الغفران.وهذا نظير ما قلناه في مسألة وجوب التوبة من عدم كون وجوبها شرعياً، وإنّما يكون عقلياً دفعاً للضرر الحاصل من العمل السابق.نعم لا بأس بالالتزام بكونها مطلوباً نفسياً بما فيها من التضرّع والخشوع والاستغفار.والوجه في عدم كون وجوبها شرعياً أنّ التوبة قد فتح بابها ربّ العالمين رحمةً لعباده، ومقتضاها أن لا يزيد فتح بابها وزراً على العبد فيما إذا توانى فيها، وقد ذكرنا أنّ ذلك يستفاد من بعض الروايات المعتبرة(6)، ومدلولها أنّه إذا صدرت معصية من عبد مؤمن أجّله اللّه ساعات، فإنّ تاب لا يكتب عليه وزر وذنب، وإذا لم يتب يكتب عليه ذلك الذنب لا ذنبان، فراجع.بقي في المقام أمر، وهو أنّه قد يدّعى أنّ الصيغة وما بمعناها وإن لم تكن لها دلالة بنفسها على لزوم الإتيان والعمل فوراً وفي أوّل أزمنة الإمكان لما تقدّم من أنّ مدلول الهيئة طلب الإيجاد، ومدلول المادة نفس طبيعي الفعل، إلاّ أنّ في البين قرينة عامّة على أنّ طلب الطبيعي يراد به طلب إيجاده في أوّل أزمنة الإمكان عرفاً ما لم يكن في البين قرينة خاصّة على خلافها، والقرينة العامّة هي توجيه الخطاب إلى الشخص، حيث إنّ التوجيه قرينة على أنّ الغرض في الطبيعي حين توجيه الخطاب، لا في الطبيعي ولو وجد بعد سنوات، سواء كان الغرض مما يعود إلى الآمر أو إلى المأمور.ولكن لا يخفى أنّ هذه الدعوى لو سُلِّمت في الخطاب الخاصّ المتوجّه إلى شخص أو أشخاص متضمّن لتكليفهم بفعل، فهي لا تجري في الخطابات العامّة المتضمّنة للتكاليف الانحلالية بنحو القضية الحقيقية كما هو المهم في المقام.نعم لا يبعد دعوى عدم جواز التواني في امتثال التكاليف الانحلاليّة بحيث يعدّ التأخير من عدم الاعتناء بالتكليف، وهذا أمر آخر غير مسألة الإتيان بمتعلّق التكليف فوراً.[2] إنّ القائل بالفور إن استظهر لزومه من آيتي المسارعة والاستباق فقد تقدّم أنّ مقتضاهما الإتيان فوراً ففوراً، وإن استفاد الفور من دلالة نفس صيغة الأمر كما هو ظاهر الماتن (قدس سره)، فابتناء القول بالإتيان فوراً ففوراً أو الإتيان في الزمان الأوّل خاصة، على كون مدلول الصيغة وحدة المطلوب أو تعدّده، غير صحيح، فإنّه بناءاً على تعدّد المطلوب يكون مدلولها مطلوبية ذات الطبيعي ومطلوبية الإتيان به أوّل الأزمنة بعد الأمر، وإذا ترك المكلف العمل في أوّل أزمنة الإمكان يبقى الطلب المتعلّق بذات الطبيعي، ومقتضى بقائه جواز التأخير لا الإتيان به فوراً ففوراً.نظير ما يقال في تبعية القضاء للأداء من أنّ المستفاد من الأمر بالصلاة في الوقت مثلا أمران؛ أحدهما: مطلوبية نفس الصلاة، وثانيهامطلوبيّتها في وقتها، وإذا خالف المكلف التكليف الثاني يبقى الأوّل، وهو التكليف بالإتيان بالطبيعي ولو خارج الوقت ومقتضاه التوسعة.هذا وقد تقدّم في بحث المرة والتكرار أنّ المستفاد من الهيئة وجوب واحد، وإذا تعلّق بالعمل أوّل أزمنة الإمكان أو بالصلاة في وقت، يسقط ذلك الوجوب بعد انقضاء أوّل أزمنة الإمكان كانقضاء الطلب بانقضاء وقت الصلاة.وحدوث ملاك ملزم في نفس الطبيعي بعد انقضاء أوّل أزمنة الإمكان أو بعد الوقت أو وجوده من الأوّل يحتاج إلى دليل وخطاب آخر متضمّن للتكليف بنفس الطبيعي؛ ولذا التزم المشهور بأنّ وجوب القضاء بأمر جديد لا بالتكليف بالفعل في الوقت، وإذا لم يتمّ دليل على التكليف بالطبيعي ووصلت النوبة إلى الأصل العملي فالمرجع هو استصحاب عدم جعل تكليف آخر، ولا مجال لاستصحاب وجوب الفعل، حيث إنّ الحادث المتيقّن سابقاً ـ وهو الوجوب المتعلّق بالفعل المقيّد ـ قد علم بارتفاعه بانقضاء أوّل أزمنة الإمكان، أو انقضاء الوقت، والوجوب المتعلّق بنفس الطبيعي غير محرز من الأوّل، فيكون الاستصحاب في طبيعي الوجوب من الاستصحاب في القسم الثالث من الكلّي، فتدبّر.لا يقالإذا فرض دلالة الصيغة على الفور يكون مدلولها طلب الفعل في أوّل أزمنة الإمكان، ومقتضى تقييد المتعلّق به عدم تعلّق طلب بذات الفعل، فلا تصل النوبة إلى الأصل العملي.فإنّه يقاليكون مدلول الصيغة تعلّق الطلب المُنشأ بالفعل المقيّد حتّى ثبوتاً لا عدم إنشاء طلب آخر لذات الفعل، فإنّ التقييد لا مفهوم له، فاللازم عند الشك في إنشاء طلب آخر بذات العمل الرجوع إلى الأصل العملي ومقتضاه ما تقدّم، ولا يبعد أن يكون ما ذكرنا هو مراد الماتن (قدس سره) من قوله «لما كان لها دلالة على نحو المطلوب من وحدته أو تعدّده»(7).مبحث الاجزاء[3] قد تقدّم في بحث التعبدي والتوصلي عدم إمكان أخذ قصد التقرب في العبادات في متعلّق الأمر بالإتيان بالصلاة مثلا بلا قصد التقرب، وإن كان من الإتيان بالمأمور به بتمامه إلاّ أنّه لا يكفي في سقوط الأمر بها، وعليه فاللازم في اندراج العبادات في عنوان البحث أن يقال المراد من «وجهه» الوارد فيه هو النحو المعتبر شرعاً وعقلا في الإتيان بمتعلّق الأمر، ولا يصحّ إرادة خصوص النحو المعتبر شرعاً، وإلاّ لكان ذكر «على وجهه» توضيحياً مع لزوم خروج التعبديات عن عنوان الخلاف بناءاً على ما هو المختار عند الماتن (قدس سره) وغيره من أنّ قصد التقرّب اللاّزم في العبادات من القيود المعتبرة في كيفية الإطاعة عقلا، لا ممّا يعتبر في متعلّق الأمر شرعاً.والوجه في لزوم خروجها وضوح عدم الإجزاء فيها بمجرّد الإتيان بتمام متعلّق الأمر.ولا مجال أيضاً لتوهم أنّ المراد بالقيد المفروض هو قصد الوجه الذي ذهب بعض إلى اعتباره في العبادات، والوجه فيه هو أنّ قيد «على وجهه» وارد في عنوان البحث في كلام الاصحاب كلّهم، ولو كان المراد القصد المفروض لما ذكره إلاّ من يرى اعتباره.ولا وجه أيضاً لتقييد مطلق الإتيان بالمأمور به، بالقصد المفروض فإنّ من يعتبره لا يرى اعتباره إلاّ في خصوص العبادات.كما لا وجه لاختصاصه بالذكر وإهمال قصد التقرّب بناءاً على ما تقدّم من عدم إمكان أخذه كقصد الوجه في متعلّق الأمر، فيتعيّن أن يكون المراد المعنى الجامع ليندرج فيه قصد الوجه أيضاً على تقدير القول باعتباره، وهو ما تقدّم من النحو المعتبر في الإتيان بالمأمور به عقلا وشرعاً.وممّا ذكرنا ظهر أنّه بناءاً على أنّ قصد التقرّب وكذا قصد الوجه مما يمكن أخذه في متعلّق التكليف وأنّه لا فرق بينهما وبين سائر القيود المأخوذة في متعلّقه، يكون قيد «على وجهه» في عنوان البحث توضيحياً لا محالة.[4] ذكر (قدس سره) أنّ المراد من الاقتضاء في عنوان البحث هو التأثير والعليّة لا بمعنى الكشف والدلالة؛ ولذا نسب فيه الاقتضاء إلى الإتيان بالمأمور به، لا إلى الصيغة ونحوها، مما يدلّ على طلب الشيء وإيجابه.لا يقالإنّ الإتيان بمتعلّق تكليف على وجهه يؤثّر ويوجب سقوط الأمر بذلك المتعلّق فيكون بمعنى التأثير والعلية، وأمّا اقتضاء الإتيان بمتعلّق تكليف لسقوط تكليف آخر، كما في الإتيان بالمأمور به الظاهري، حيث يسقط معه التكليف الواقعي، وكذا في الإتيان بالمأمور به الاضطراري، حيث يسقط معه التكليف بالاختياري فبمعنى الكشف والدلالة، والخلاف فيه يرجع إلى الخلاف في دلالة خطاب الأمر بالظاهري أو بالاضطراري على الاجزاء وعدم دلالته.فإنّه يقال: يمكن أن يعنون مورد الخلاف في اقتضاء الأمر الظاهري والاضطراري للإجزاء بذلك المعنى أيضاً، بان يقالإنّ البحث في أنّ الإتيان بالمأمور به الظاهري أو الاضطراري هل يؤثّر في الإجزاء وسقوط التكليف بالإضافة إلى التكليف الواقعي أو الاختياري أم لا؟ كما كان بالإضافة إلى أمر نفسهما، غاية الأمر البحث في أنّ الإتيان بهما يؤثّر في سقوط التكليف الواقعي والاختياري، ينشأ عن الخلاف في دلالة دليل الأمر الظاهري أو الاضطراري وأنّ ذلك الدليل يدلّ على كون المأمور به الظاهري أو الاضطراري واجداً لتمام ملاك المأمور به الواقعي أو الاختياري أو بالمقدار اللازم من ملاكهما أم لا؟ بخلاف البحث في أنّ الإتيان بهما يوجب سقوط الأمر بهما، فإنّ البحث في هذه الجهة لملاك آخر كما يأتي.والمراد من قوله (قدس سره) «ويكون النزاع في إجزاء الإتيان بالمأمور به الظاهري أو الاضطراري بالإضافة إلى التكليف بالواقعي والاختياري صغروياً أيضاً، بخلافه في الاجزاء بالإضافة إلى أمره فإنّه لا يكون إلاّ كبرويّاً»(8) أي بخلاف البحث في أنّ الإتيان بهما يجزي عن أمر نفسهما، فإنّ البحث فيه على تقديره كبروي لا محالة، هو أنّ مع الإتيان بالمأمور به على وجهه يكون المأتي به واجداً لتمام ملاك متعلّق التكليف، ويبحث في المسألة في أنّ المأتي به كذلك يوجب سقوط التكليف، بحيث لا يكون مجال للامتثال ثانياً، لا أداءً ولا قضاءاً، أو لا يوجب سقوطه مطلقا كما يأتي، وبما ان البحث في المأتي به الظاهري أو الاضطراري يقع في دلالة دليلهما على أنّهما واجدان لملاك المأمور به الواقعي والاختياري لا محالة يكون البحث في إجزائهما عن التكليف الواقعي والاختياري بحثاً صغروياً، بخلاف البحث في أنّ الإتيان بهما يجزي عن أمر نفسهما، فإنّ هذا البحث والخلاف على تقديره كما نقل عن بعض يكون كبروياً لا محالة؛ لأنّ المفروض حصول ملاك المأمور به الظاهري أو الاضطراري في المأتي به منهما.وذكر المحقّق الاصفهاني (قدس سره) أنّ المراد بالاقتضاء في عنوان الخلاف وإن كان هو الاقتضاء الثبوتي لا الإثباتي (أي الكشف والدلالة) ولذا نسب الاقتضاء في العنوان إلى الإتيان لا إلى الأمر بالشيء، إلاّ أنّ في إسناد الاقتضاء إلى الإتيان لكونه علة لسقوط الأمر بالفعل أو لعدم الأمر بالقضاء والتدارك مسامحة؛ لأنّ الإتيان بمتعلّق الأمر معلول للأمر به، فكيف يكون الإتيان علة لعدم الأمر به، فإنّ الشيء لا يمكن أن يكون علّة لعدم نفسه، بل سقوط الأمر مستند إلى انتهاء أمده وعدم بقاء الغرض منه لانتهاء المعلول بانتهاء علّته، وكذا الحال بالإضافة إلى الأمر بالقضاء، حيث إنّ الأمر بالتدارك يتوقّف على الخلل في المتدارك، من فوته بنفسه، أو فوت بعض ملاكه، ومع الإتيان بالمأمور به أو حصول ملاكه لا يكون في البين فوت، لا في المأمور به ولا في بعض ملاكه(9).أقولالظاهر أنّ المراد بالاقتضاء ليس الاقتضاء الإثباتي ولا الاقتضاء الثبوتي بمعنى علّية الإتيان بالمأمور به وتأثيره في سقوط التكليف، لا لما ذكره (قدس سره)، بل لأنّ الطلب والبعث الاعتباري حدوثاً وبقاءاً يكون بالاعتبار والجعل، فعدم الأمر بعد الإتيان بالمتعلّق خارجاً إنّما هو لعدم سعة المجعول من الطلب بالإضافة إلى بقائه، ولا يؤثر فيه شيء من الإتيان أو لعدم بقاء الغرض على غرضيته، فإنّه لو التزم بعدم الغرض في أوامر الشارع أصلاً لكان الإتيان بالمتعلّق ـ سواء كان على نحو صرف وجود الطبيعي أو غيره ـ مقتضياً لسقوط الأمر وعدم بقائه، فالمراد من الاقتضاء مجرّد حكم العقل بعدم الانفكاك، بمعنى أنّ عدم البعث نحو الفعل بقاءاً المستند إلى عدم جعله، ملازم للإتيان بمتعلّق الأمر، وكذلك بالإضافة إلى عدم الأمر بالتدارك والقضاء.وبالجملة، هذه المسألة نظير مسألة اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه الخاصّ، أو مسألة الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّمته بحث عن حكم العقل بالملازمة وعدمها.وما ذكره المحقّق الاصفهاني (قدس سره) من أنّ الإتيان بمتعلّق الأمر معلول للأمر به ففيه أنّ الأمر لا يكون علّة، بل يمكن أن يكون داعياً ومرجّحاً لاختيار المكلف، ولكن لا بوجوده الواقعي، بل بوجوده الإحرازي والعلمي، والفرق بين المرجح والداعي وبين العلّة تقدّم تفصيله في بحث الطلب والإرادة.[5] قد فسّر في كلام جماعة الإجزاء بسقوط التعبّد ثانياً وبسقوط القضاء، وعليه يكون استعماله فيهما من استعمال اللفظ في معنيين مختلفين، ولكن لا يخفى أنّه ليس للإجزاء معنىً مصطلح، بل المراد منه المعنى اللغوي وهو الكفاية، ويختلف ما يكفي عنه، فإن كان ما يكفي عنه الأمر به، فلازم الكفاية عدم لزوم الإعادة أو عدم جواز تكرار الامتثال، وإن كان الأمر الآخر كما في إجزاء الإتيان بالمأمور به الظاهري عن الواقعي وإجزاء المأمور به الاضطراري عن الاختياري، فلازمه عدم لزوم التدارك أو القضاء.[6] ذكر (قدس سره) أنّ الفرق بين البحث السابق في دلالة صيغة الأمر على المرة أو التكرار، وبين البحث في هذه المسألة ظاهرٌ، حيث كان البحث في تلك المسألة في تعيين متعلّق الأمر بحسب دلالة الصيغة بنفسها، أو بالقرينة العامّة كما تقدّم، ولكن البحث في هذه المسألة هو أنّه بعد تعيين المأمور به يكون البحث في أنّ مع الإتيان به هل يحكم العقل بالاكتفاء به وأنّه لا يبقى للتعبّد به ثانياً مجال، أم لا يحكم؟ نعم لو قيل في تلك المسألة بدلالة الصيغة بنفسها أو بالقرينة على التكرار، لكان التكرار عملا موافقاً لعدم الإجزاء.وكذا الفرق بين مسألة الإجزاء ومسألة تبعيّة الأداء للقضاء ظاهر، فإنّ البحث في مسألة تبعية القضاء للأداء في دلالة الصيغة على تعدّد المطلوب بأن يكون نفس الفعل مطلوباً والإتيان به في الوقت مطلوباً آخر، بحيث يتحقّق بالإتيان في الوقت كلا المطلوبين ويجب الإتيان بالفعل خارج الوقت على تقدير تركه في الوقت، أو أنّ المستفاد منها وحدة المطلوب، ويحتاج لزوم الإتيان بالفعل خارج الوقت إلى تكليف وخطاب آخر.ويكون البحث في المقام ـ بعد تعيين أنّ المطلوب هو الطبيعي أو المقيد ـ في أنّ الإتيان بالمأمور به هل يوجب سقوط الأمر أم لا؟ ولا يخفى أنّ مسألة تبعية القضاء للأداء تركت في كتب المتأخّرين؛ لوضوح عدم استفادة المطلوبين من الأمر بالفعل في الوقت، بل لا يبعد القول بعدم إمكان تعلّق وجوبين في زمان، أحدهما بطبيعي الفعل، وثانيهما بالطبيعي المقيّد بالزمان أو بغيره؛ لأنّ الأمر بالطبيعي في زمان الأمر بالمقيّد يصبح لغواً لحصول الطبيعي بالمقيد، وإنّما يصحّ وجوبه معلّقاً أو مشروطاً بترك المقيّد أو فوته.(1).سورة آل عمرانالآية 133.(2).سورة البقرةالآية 148.(3).سورة يوسفالآية 25.(4).سورة يسالآية 66.(5).سورة هودالآية 114.(6).الوسائلج 11، الباب 85 من أبواب جهاد النفس.(7).الكفايةص 80.(8).الكفايةص 82.(9).نهاية الدراية1 / 367.الأوّلأنّ الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي، بل بالأمر الاضطراري[1].وتحقيق الكلام فيه يستدعي[2].وأمّا ما وقع عليه، فظاهر إطلاق دليله مثل قوله سبحانه (فلم تجدوا ماءاً)(1)[3].إجزاء الأمر عن نفسه: [1] يقع البحث في مسألة الإجزاء في موضعين: أحدهماإجزاء الإتيان بكلٍّ من المأمور به الاختياري أو الاضطراري الظاهري عن الأمر المتعلّق بكلٍّ منها، وحاصل ما ذكره (قدس سره) في هذا الموضع أنّه لو كان حصول متعلّق الأمر علّة تامّة لحصول الغرض الأقصى، كما إذا أمر المولى عبده ببيع شيء فباعه العبد، ففي مثل ذلك لا محيص عن سقوط الأمر بحقيقته وملاكه، ونظيره ما إذا أمره بعتق نفسه أو عتق عبد آخر فأعتقه.وأمّا إذا لم يكن الإتيان علة تامة لحصول الغرض، كما إذا أمره بالإتيان بالماء ليشربه أو يتوضّأ به، ففي مثل ذلك لا يكون الأمر ساقطاً بعد الإتيان بالماء، بحقيقته وملاكه، وإن سقطت داعويّته، حيث إنّ الغرض الداعي إلى الأمر به ليس مجرّد تمكنّه من الماء ولو آناً ما، بحيث لو أُهرق الماء بعد المجيء به لكان حاصلا، بل الغرض رفع عطشه والوضوء به، والمفروض بقاء هذا الغرض، فكيف يسقط الأمر المسبّب منه؟ نعم تسقط كما ذكرنا داعويّته مادام المأتي به قابلا لصرفه في عطشه أو وضوئه، فلو أُهرق واطّلع عليه العبد تتجدّد داعويته، فيجب الإتيان به ثانياً، كما إذا لم يأت بالماء أوّلا.وعلى ذلك، فما دام لم يصرف المولى الماء، فللعبد تبديل امتثاله بامتثال آخر مثله أو أحسن منه.تبديل الامتثالولو لم يعلم أنّ الإتيان بالمأمور به من أي القسمين يكون له تبديل الامتثال لاحتمال بقاء الأمر، ويؤيد جواز تبديل الامتثال ـ بل يدلّ عليه ـ ما ورد في إعادة من صلّى فرادى جماعةً، من أنّ اللّه (سبحانه) يختار أحبّهما إليه.أقولالإتيان بمتعلق الأمر وإن لم يكن موجباً لحصول الغرض الاقصى، ولكنّ ذلك الغرض لا يطلب حصوله من المكلف وما يكون مترتّباً على متعلّق التكليف يحصل بالإتيان به لا محالة، فإذا أمر المولى بالإتيان بالماء ليشربه أو يتوضّأ به، فما دام لم يصرفه في شربه أو وضوئه وإن لم يحصل غرضه الأقصى، إلاّ أنّ الغرض الداعي له إلى الأمر بالإتيان بالماء ـ وهو تمكنه منه وحصول الماء تحت يده ـ حاصل، ومعه لا معنى لبقاء أمره، إذ مع وجود الماء عنده بعد الإتيان أو قبله لايصحّ أمر العبد بالإتيان بالماء.والحاصل أنّه مع الإتيان بالماء وتمكين المولى منه، يكون الأمر به ساقطاً بحقيقته وملاكه، ولو كان في الإتيان بالماء الآخر غرض آخر غير إلزامي، يكون الإتيان ثانياً امتثالا للطلب غير الإلزامي، وتحصيلا لذلك الغرض غير الملزم، ولا معنى لامتثال الأمر السابق الساقط.نعم، لو أُهرق الماء في المثال واطّلع عليه العبد، يجب الإتيان به ثانياً، لكن لا بالأمر السابق الساقط، بل للطلب الجديد الذي هو مثل السابق، والعلم بأنّ المولى يريد منه الإتيان ثانياً كاف في لزوم ذلك عليه، بحيث لو فرض غفلة المولى عن إراقته يكون علمه بأنّ لمولاه غرض في حصول الماء عنده، حجّة عليه.وما ورد في إعادة الصلاة جماعة، فهو أمرٌ آخر استحبابي تعلّق بإعادتها، كاستحباب إعادة صلاة الآيات، لا أنّها امتثال للأمر الأوّل، وما في بعضها من أنّه يجعلها فريضة، فالمراد منها قصد القضاء لا قصد فريضة الوقت، كما صرّحت بذلك موثّقة إسحاق بن عمّار، قال: قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام): «تقام الصلاة وقد صلّيت، فقالصلِّ واجعلها لما فات»(2).فلا يتعيّن أن يكون المراد من جعلها فريضة قصد الفريضة بالأصل وإن كانت مستحبّة بعنوان إعادتها، كما هو المحتمل في صحيحة الحلبي، عن أبي عبداللّه (عليه السلام)قال«إذا صليت وأنت في المسجد، وأُقيمت الصلاة، فإن شئت فاخرج، وإن شئت فصلِّ معهم واجعلها تسبيحاً»(3).وفي موثقة عمار، قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن الرجل يصلّي الفريضة ثمّ يجد قوماً يصلّون جماعة، أيجوز أن يعيد الصلاة معهم؟ قالنعم، وهو أفضل» الحديث(4).وبالجملة، إعادة الصلاة المأتي بها ثانياً كما في إعادة صلاة الآيات ما لم يحصل الانجلاء، والصلاة التي صلاّها فرادى مع الجماعة ثانياً إنّما هو بأمر استحبابي آخر، وكذا يجوز لمن صلّى في جماعة إماماً أن يعيد تلك الصلاة إماماً لقوم آخرين، بأن يكون المأموم في إعادتها غير المأموم في المأتي به أوّلا، كما يدل على ذلك الإطلاق في صحيحة ابن بزيع، قال: كتبت إلى أبي الحسن (عليه السلام): «إنّي أحضر المساجد مع جيرتي وغيرهم، فيأمرونني بالصلاة بهم، وقد صلّيت قبل أن آتيهم، وربّما صلّى خلفي من يقتدي بصلاتي والمستضعف والجاهل، فأكره أن أتقدّم، وقد صلّيتُ لحال من يصلّي بصلاتي ممّن سميّت ذلك، فمرني في ذلك بأمرك أنتهي إليه وأعمل به إن شاء اللّه تعالى، فكتب (عليه السلام)صلِّ بهم»(5).كل ذلك بأمر آخر، وليس امتثالا للأمر الأوّل.نعم يمكن أن يكون المراد في بعض الروايات الإتيان بصورة الصلاة لا إعادتها حقيقة، كالتي وردت في إعادة الصلاة مع المخالفين، وأمره (عليه السلام) بجعلها تسبيحة، ولكنّ ظاهر البعض الآخر استحباب الإعادة لمن صلّى منفرداً ثمّ وجد جماعة، كصحيحة حفص البختري، عن أبي عبداللّه (عليه السلام) «في الرجل يصلّي الصلاة وحده، ثمّ يجد جماعة، قال يصلّي معهم ويجعلها الفريضة»(6).والمراد بجعلها فريضة في مثلها قصد الفريضة بالأصل، وإن كانت مستحبّة بالإعادة.وموثّقة عمّار، قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن الرجل يصلّي الفريضة ثمّ يجد قوماً يصلّون جماعة، أيجوز له أن يعيد الصلاة معهم؟ قال: نعم، وهو أفضل، قلت: فإن لم يفعل؟ قالليس به بأس»(7).وما في رواية أبي بصير، قال: قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام): أُصلّي ثمّ أدخل المسجد فتقام الصلاة، وقد صلّيت، فقالصلِّ معهم يختار اللّه أحبّهما إليه»، مضافاً إلى ما في سندها من الضعف لا يدلّ على تبديل الامتثال بالمعنى الذي ذكره، فإنّها ناظرة إلى مرحلة حفظ العمل لإعطاء الثواب، ولا دلالة فيها على وقوع الأحبّ مصداقاً للواجب، وإلاّ يكون اختيار المصداق بإرادة اللّه لا بقصد العبد، كما هو المراد من تبديل الامتثال، وظاهرها أنّه لو كانت الجماعة المفروضة موجبة للمزية في الصلاة، كما إذا كانت واجدة لشرائطها، تحسب صلاته المنفردة التي صلاّها أوّلا بتلك المزية في مقام إعطاء الثواب.ثمّ إنّ هذا كلّه بالإضافة إلى الإتيان بالمأمور به الواقعي الاختياري أو الإتيان بالمأمور به الاضطراري الواقعي، بالإضافة إلى أمر نفسهما وأنه لا مجال بعد الإتيان بمتعلّق الأمر فيها لإعادة الامتثال، إلاّ مع ورود الأمر الاستحبابي بإعادتهما أو مع احتمال الأمر الاستحبابي بإعادتهما، حيث يمكن الإعادة بقصد الرجاء واحتمال ذلك الأمر.وأمّا المأمور به الظاهري، فلا مجال فيه للتفصيل المتقدّم في كلام الماتن (قدس سره)من كون الإتيان علّة تامّة لحصول الغرض أو بقاء الغرض الأقصى مع الإتيان به؛ وذلك لأن المأمور به الظاهري لا يكون فيه ملاك ليقال إنّ الإتيان به علّة تامّة لحصول ذلك الملاك أو بقاء الغرض الأقصى، كما هو المقرّر في محلّه.نعم إذا صادف المأمور به الظاهري المأمور به الواقعي يجري عليه ما تقدّم في الإتيان بالمأمور به الواقعي.وبالجملة، التفصيل في الاجزاء بحسب الغرض والملاك لا يجري في المأمور به الظاهري.إجزاء الأمر الاضطراري عن الواقعي[2] تعرض (قدس سره) لأقسام المأمور به الاضطراري، وذكر له أربعة أقسام، والتزم بالإجزاء في القسم الأوّل والثاني والرابع، وبعدم الإجزاء في الثالث.أنحاء الفعل الاضطراري: القسم الأوّلما إذا كان المأمور به الاضطراري في ظرف تشريعه الواقعي مشتملا على تمام ملاك الاختياري أو المقدار اللازم منه، وظرف التشريع يختلف، فتارةً يكون عدم التمكّن من الاختياري في تمام وقته، وأُخرى يكون ظرف تشريعه عدم التمكّن من الاختياري، ولو في بعض الوقت مطلقاً، أو بشرط اليأس من التمكّن من الاختياري إلى آخر الوقت، وعبّر عن الفرض الأوّل بالاضطرار بشرط الانتظار، وعن الثاني بالاضطرار مطلقاً، وعن الثالث بالاضطرار مع اليأس من طروّ الاختيار، وعلى الفروض الثلاثة يكون الإتيان بالمأمور به الاضطراري في ظرف تشريعه موجباً للإجزاء في الفرض الأوّل عن القضاء فقط، وعن القضاء والإعادة في الفرضين الآخرين.هذا بحسب الفروض في القسم الأوّل، ولكن لا يخفى أنّ ظاهر خطاب الاضطراري مع عدم القرينة على الخلاف هو الفرض الأوّل، أي اعتبار عدم التمكّن من الاختياري في شيء من الوقت، وذلك لأنّ التمكّن اللازم في الأمر بالاختياري هو التمكّن من صرف وجوده لا على كلّ واحد من وجوداته ومصاديقه، ومع التمكّن منه ولو في آخر الوقت يصحّ إيجابه من أوّل الوقت، حيث يترتّب على إيجابه من أوّل الوقت تهيئة بعض ما يتوقّف على تهيئته الإتيان به ولو في آخر الوقت، وعلى ذلك فيكون ظاهر عدم التمكّن من الاختياري، الموضوع للأمر بالاضطراري هو عدم التمكّن من صرف وجوده في وقته، نعم مع القرينة على الخلاف تتبع تلك القرينة، سواء كان مقتضاها اعتبار مجرّد الاضطرار مطلقاً، أو بشرط اليأس.وبالجملة، ففي فروض اشتمال المأمور به الاضطراري في ظرف تشريعة على تمام ملاك الاختياري لا موجب لوجوب الإعادة أو القضاء.القسم الثانيأن يكون الفعل الاضطراري مشتملا على بعض ملاك الاختياري، ولكن لو استوفى ذلك البعض بالإتيان به لا يبقى مجال لتدارك الباقي لا بالاعادة ولا بالقضاء، وفي مثل ذلك لا يصحّ للآمر الأمر بالفعل الاضطراري إلاّ مع استيعاب الاضطرار جميع الوقت، كما لا يجوز للمكلّف الإتيان به أوّل الوقت أو في جزء منه مع تمكّنه من الاختياري، ولو في آخر الوقت؛ لأنّ في هذه المبادرة تفويتاً للغرض ولمقدار من الملاك الملزم، لفرض تمكّنه من إدراك تمام الملاك الملزم بالإتيان بالاختياري ولو في آخر وقته، وهذا فيما كان المقدار الفائت بالبدار ملاكاً ملزماً كما هو ظاهر الفرض.لا يقاللا مجال في الفرض لتشريع الاضطراري أصلاً، بل يتعيّن الأمر بقضاء الاختياري لإمكان الاستيفاء به.فإنّه يقاللا يتدارك بالقضاء مصلحة الوقت؛ ولذا يتعيّن تشريع الاضطراري في صورة استيعاب الاضطرار لتمام الوقت، ومع فرض الاستيعاب يجوز للمكلف الإتيان بالاضطراري في أوّل الوقت؛ إذ مع إحرازه استيعاب الاضطرار لا تفويت في البدار.نعم، مع عدم إحرازه لا يجوز له ذلك لاحتمال التفويت، والاستصحاب في بقاء الاضطرار إلى آخر الوقت لا يثبت عدم التفويت، ولو بادر المكلّف إلى الإتيان بالاضطراري في هذا القسم ـ ولو مع إحرازه التمكّن من الاختياري ـ فهل يمكن الحكم بصحته حتّى في العبادات، فلا يبعد ذلك كما هو ظاهر الماتن (قدس سره)أيضاً، حيث فرض مع البدار حصول بعض الملاك وبهذا الاعتبار يمكن قصد التقرّب بالعمل ولا يكون الفعل الاضطراري المتبادر إليه محرّماً شرعاً لعدم اقتضاء الأمر بالاختياري النهي عن ضده الخاصّ، وإنّما يحكم العقل بعدم جوازه في الفرض لئلاّ يكون الإتيان به موجباً لفوات الملاك الملزم في الاختياري.ثمّ إنّه لا وجه للاستثناء من عدم جواز البدار في الفرض بقوله«إلاّ لمصلحة كانت فيه»(8) وذلك لأنّه لو كان المراد البدار في صورة استيعاب الاضطرار لتمام الوقت فهذا ليس من البدار المصطلح، وإن كان المراد البدار في صورة ارتفاع الاضطرار قبل تمام الوقت فلا يحصل بالبدار تمام الملاك الملزم، فضلا عن أن يكون أهمّ من ملاك الاختياري، ولعلّه إلى ذلك أشار بقوله «فافهم».القسم الثالثأن يكون الفعل الاضطراري واجداً لبعض الملاك الملزم، ويبقى بعضه الآخر قابلا للتدارك بالإتيان بالاختياري مع ارتفاع الاضطرار في الوقت بالإعادة ومع ارتفاعه بعد خروج الوقت بالقضاء، وفي هذا القسم يجب الإتيان بالاختياري بالإعادة عند ارتفاع الاضطرار في الوقت وبالقضاء عند ارتفاعه خارجه، ويجوز البدار إلى الاضطراري، وعليه فيتخيّر المكلف في فرض ارتفاع الاضطرار قبل خروج الوقت بين الإتيان بالاضطراري حال اضطراره مع الإتيان بالاختياري قبل خروج الوقت وبين الإتيان بالاختياري خاصّة قبل خروج الوقت وهذا فيما إذا كان البعض الباقي من الملاك وافياً بالمقدار اللاّزم استيفاؤه ولا يقلّ عنه.أقوللا يمكن المساعدة على ما ذكره في هذا القسم، فإنّ الفعل الاختياري في هذا القسم مع تمكّن المكلّف من صرف وجوده قبل خروج الوقت، مأمور به من الأوّل، كما هو مقتضى كونه واجباً موسعاً، ومعه كيف يمكن إيجاب الاضطراري حال الاضطرار، والتكليف التخييري بين فعل وبين ذلك الفعل مع الفعل الآخر غير معقول؛ لأنّ أحد الفعلين مأمور به على كلا التقديرين، وإنّما الممكن الأمر الاستحبابي بالبدار إلى الاضطراري.نعم، مع استيعاب عدم التمكّن لتمام الوقت، يمكن الأمر بكل من الاضطراري بعنوان الاداء لاستيفاء ملاك الوقت وبالاختياري بعنوان القضاء لاستيفاء باقي الملاك الملزم، ولا يمكن في موارد الأمر بالقضاء اشتمال الاختياري قضاءاً على تمام ملاك الاختياري أداءاً وإلاّ كان اشتراط الوقت بلا ملاك.القسم الرابعما إذا أمكن استيفاء بعض الباقي من الملاك، ولكن لم يكن ذلك البعض بالمقدار اللازم استيفائه، بل كان أقلّ منه ففي هذا الفرض إن كان الاضطرار مستوعباً لتمام الوقت يتعيّن الإتيان بالاضطراري في الوقت ويستحبّ قضاء الاختياري خارج الوقت.ولو كان الفعل الاضطراري مشتملا على بعض الملاك الملزم كذلك فبمجرّد طروّ الاضطرار وإن لم يستوعب تمام الوقت لا يتعيّن البدار، بل يجوز للمكلّف الإتيان بالاضطراري حال الاضطرار والإتيان بالاختياري بعد رفع الاضطرار قبل خروج الوقت.ولا يخفى أنّ كلام الماتن (قدس سره)«في الصورة الثانية» أي فيما لم يكن المقدار الباقي لازم الإستيفاء يتعيّن عليه البدار، ويستحبّ إعادته بعد زوال الاضطرار، غير تامّ لا في فرض وجود الملاك مع استيعاب الاضطرار، فإنّه خلاف مصطلح البدار وإن صحّ البدار في هذا الفرض ولا في فرض وجود الملاك بمجرد حدوث الاضطرار، حيث ذكرنا أنّ المكلّف مخيّر مع ارتفاع الاضطرار قبل خروج الوقت.وقد ظهر ممّا ذكرناه في الأقسام أنّه يلزم من تشريع المأمور به الاضطراري في القسمين الأوّلين والقسم الرابع الاجزاء بخلاف تشريعه في القسم الثالث، فإنّه لا يلازم الاجزاء.ولا يخفى أنّ في البين قسماً خامساً من المأمور به الاضطراري، وهو أن يكون فيه ملاك ملزم آخر يحدث ذلك الملاك عند الاضطراري إلى ترك الاختياري ولكن لا يفوت ـ حتّى مع الإتيان به ـ ملاك الفعل الاختياري رأساً، حيث إنّ الملاكين سنخان لا يرتبط أحدهما بالآخر أصلاً، وفي هذا الفرض كما يؤمر بالاضطراري يؤمر بالاختياري أيضاً بعد تجدّد الاختيار لاستيفاء الملاك الفائت ولو بقدر الإمكان كما في مسألة من لا يتمكّن من إدراك الوقوف بالمشعر بعد الإحرام بالحجّ، فإنّه مكلّف بإتمام الإحرام عمرة وبالحج في السنة القابلة.وقد يقالإنّ البحث عن إجزاء المأمور به الاضطراري عن الاختياري في الأقسام الأربعة مبني على تعدّد الأمر والوجوب بأن يتعلّق وجوب بالفعل الاختياري ووجوب آخر بالفعل الاضطراري، ويبحث في أنّ موافقة الثاني أو امتثاله هل يوجب سقوط الأمر بالاختياري أو لا؟ مع أنّه لو كان الأمر كذلك فكلّ تكليف يقتضي امتثال نفسه ولا يوجب سقوط التكليف الآخر، بل التتبّع فيما هو الثابت في الشرع من التكاليف الاضطرارية يرشدنا إلى أنّه ليس في البين إلاّ تكليف متعلّق بطبيعة واحدة بالإضافة إلى جميع المكلّفين على نحو الوجوب العيني أو الكفائي، وتختلف أفراد تلك الطبيعة بالإضافة إلى المكلّفين تارةً، وإلى مكلّف واحد بحسب حالاته تارةً أُخرى، فمثلا خطاب «أقيموا الصلاة» يقتضي توجّه التكليف بالصلاة إلى كلّ واحد من المكلفين والمطلوب في الخطاب طبيعي الصلاة من كلّ مكلف.غاية الأمر أنّ الطبيعي من المسافر في الرباعيات ركعتان ومن غيره أربع ركعات كما أنّ الطبيعي من واجد الماء يكون بوضوء أو غسل ومن فاقد الماء يكون بالتيمم، وهكذا من القادر على القيام لا يتحقّق بالجلوس ويتحقّق به من العاجز عن القيام.والحاصل أنّ على كلّ مكلّف امتثال الأمر بالطبيعي، ولا يكون فرده في حال فرداً في حال آخر، وهذا لا يوجب تعدّد الطبيعة وتعدّد الأمر، نعم يبقى في البين تشخيص أنّ الصلاة مع التيمّم مثلا فرد لها عند عدم وجدان الماء في جميع الوقت أو إنّما فرد لها بمجرّد عدم التمكّن ولو في بعض الوقت مطلقاً أو بشرط اليأس عن وجدانه قبل خروج الوقت، فإنّ أُحرز أنّ المعتبر العجز في تمام الوقت فلا مورد لوجوب القضاء وإن أُحرز الثاني فلا موضوع للامتثال بعد سقوط الأمر بالطبيعي.وعدم جواز البدار واقعاً مع اعتبار العجز في تمام الوقت، إنّما هو لعدم كون المأتي به مع البدار فرداً من الطبيعي، فتحصّل أنّه مع إحراز كون المأتي به فرداً لا إعادة ولا قضاء.لا يقاليمكن أن يكون الفرد الاختياري للصلاة أتمّ صلاحاً وأقوى ملاكاً ولبقاء الملاك بالإتيان بالفرد الاضطراري يجب الإعادة أو القضاء لتدارك الباقي من الملاك.فإنّه يقالاللازم عقلا على المكلّف امتثال أمر الشارع لا تحصيل المصالح لعدم إحاطة عقولنا بالمصالح الواقعية ليلزم علينا تحصيلها.أقول: ليس المراد في باب الاجزاء أنّ الثابت في حقّ كلّ مكلّف تكليفانأحدهما واقعي اختياري، والآخر واقعي اضطراري، بل المراد أنّ مقتضى الإتيان بالمكلّف به الاضطراري، أن لا يتوجّه إليه ما يجب على المكلّف المختار على فرض تركه الفعل الاختياري من القضاء أو الأداء والإعادة.ودعوى أنّه لا تعدّد في ناحية متعلّق التكليف بالإضافة إلى المختار والعاجز، بل كلٌّ منهما مكلّف بطبيعي واحد وإنّما الاختلاف في ناحية أفراد تلك الطبيعة، لا يمكن المساعدة عليها، لما تقدّم في مبحث الصحيح والأعمّ أنّه لا يمكن فرض جامع في الصلاة بحيث ينطبق على الأفراد الصحيحة خاصّة ولا يعمّ الأفراد الناقصة المعبّر عنها بالفاسدة، نعم في مثل الطهارة بناء على كونها من المسبّبات كما ذهب إليه المشهور، وأنّ التيمّم والوضوء والغسل موجد لها يمكن القول بأنّ الصلاة المقيّدة بالطهارة لا تختلف وأنّ المأمور به في حقّ كلّ من واجد الماء وفاقده هي الصلاة مع الطهارة، حيث إنّ التيمّم من واجد الماء لا يوجب طهارة، ولكنّ هذا لا يجري بالإضافة إلى صلاة العاجز عن القيام وصلاة القادر عليه وكذا صلاة المتمكّن من استقبال القبلة وصلاة غير المتمكّن منه، ونحوهما بل لابدّ من الالتزام بتعدّد الوجوب لتعدّد المتعلّق، وخطاب «أقيموا الصلاة» وإن كان يعمّ العاجز والقادر، إلاّ أنّه بضميمة ما دلّ على اعتبار الاستقبال والستر والقيام مع التمكّن منها ينكشف أنّ متعلّق الوجوب ثبوتاً غير متعلّق الوجوب في حقّ العاجز عنها.نعم في باب الصلاة خصوصية وهي أنّ الإجماع والضرورة اقتضتا عدم وجوب الأزيد من خمس صلوات في اليوم والليلة في حقّ كلّ مكلّف، وإذا ثبت في مورد تشريع الصلاة الاضطراري واقعاً ولو مع التمكّن من الاختياري في آخر الوقت يحكم بإجزاء الاضطراري، ولا ربط لذلك بالقول بأنّ متعلّق الوجوب في حقّ جميع المكلّفين طبيعة واحدة.وأمّا ما ذكر أخيراً من أنّه لا يجب على المكلّف استيفاء المصالح ورعايتها لعدم إحاطة عقولنا بها، ففيه ما لا يخفى، فإنّ الأقسام المتقدّمة إنّما فرضت بحسب مقام الثبوت في علم الشارع وملاحظته، وأنّ الشارع إذا لاحظ أنّ الملاك الموجود في الإتيان بالفعل الاختياري لايدرك إلاّ بالإتيان بالاضطراري في الوقت وبالاختياري في خارجه، يأمر بالاضطراري في الوقت وبالاختياري بعد ارتفاع الاضطرار في خارج الوقت، نظير ما ذُكر في القسم الخامس من الأمر بإتمام الإحرام للحجّ عمرة مفردة، مع الأمر بقضاء الحجّ في السنة القادمة والذي دلّ عليه صحيحة معاوية بن عمار، قال أبو عبداللّه (عليه السلام)«أيّما حاجّ سائق للهدي، أو مفرد للحجّ، أو متمتّع بالعمرة إلى الحجّ، قدم وقد فاته الحج فليجعلها عمرة، وعليه الحج من قابل»(9).والحاصل، يقع البحث في المقام في أنّه لو شرّع الفعل الاضطراري ولم يقم دليل على أنّه من قبيل تشريع الصلاة عند الاضطرار، أو أنّه من قبيل الأمر بإتمام الإحرام للحج عمرة عند فوت الوقوف الاضطراري أيضاً، فهل لازم تشريع الاضطراري الإجزاء، أو أنّه لا يلازم الإجزاء، لما تقدّم من إمكان وقوعه على بعض الأقسام ممّا هو غير ملازم للإجزاء، كما إذا يمّموا الميت لفقد الماء وكفّنوه وصلّوا عليه ودفنوه، وبعد أيّام أُخرج الميت بجريان السيل على مكان دفنه، أو بفعل آدميّ، فهل يجب تغسيله فعلاً؛ لأنّ الميت لم يغسّل، أو أنّ تشريع التيمّم السابق يلازم كفايته فلا حاجة إلى تغسيله، بل يجب دفنه خاصّة.[3] يظهر من كلامه (قدس سره) أنّه يستفاد من خطاب الأمر بالاضطراري الإجزاء عن الاختياري في موردين: الأوّلأن يستفاد من خطابه كفاية الاضطرار، ولو في بعض الوقت في مشروعيّته والأمر به، ولو كان المكلّف متمكّناً من الاختياري بعد ذلك، كما هو ظاهر الآية المباركة في أنّ التيمم وظيفة غير الواجد للماء عند القيام إلى الصلاة حتّى لو وجد الماء بعد الصلاة ولو قبل خروج وقتها.الثاني: أن يدلّ خطاب الاضطراري على تساوي ملاكه مع ملاك الفعل الاختياري، والتساوي إمّا أن يستفاد من إطلاق خطاب الاضطراري، كقوله (عليه السلام): «إنّ التيمّم أحد الطهورين»(10)، حيث إنّه لم يقيّد بمثل قوله «ولكنّه ناقص في طهوريته» أو يصرّح بالتساوي أو يذكر ما ظاهره التساوي، كقوله (صلّى الله عليه وآله)«يا أبا ذر، يكفيك الصعيد عشر سنين»(11)، وفي مثل الموردين يؤخذ بمقتضى خطاب الاضطراري ويرفع اليد عن إطلاق خطاب الاختياري لو كان له إطلاق يقتضي الإتيان به عند حصول التمكّن.ولو لم يكن لخطاب الفعل الاضطراري إطلاق ـ كما ذكر ـ، وكان لخطاب الاختياري إطلاق يقتضي الإتيان به عند التمكّن، كما في مثال إخراج الميت الذي يمّموه سابقاً، يؤخذ بإطلاق الاختياري ومقتضاه عدم الإجزاء.وأمّا إذا لم يكن إطلاق لا في ناحية الخطاب الاضطراري ولا في ناحية خطاب الأمر بالاختياري، ووصلت النوبة إلى الاصل العملي، فالمرجع هي أصالة البراءة عن وجوب الاختياري في الوقت أو ما هو بمنزلة الوجوب في الوقت، لكونه شكّاً في التكليف، كما أنّ المرجع هي أصالة البراءة عن وجوب القضاء بالأولويّة؛ لأنّ القضاء بأمر جديد.نعم لو فرض أنّ موضوع وجوب القضاء في خطاب الأمر به، عدم الإتيان بالاختياري، ولو مع عدم وجوبه واستيفاء الغرض منه كلاًّ أو بعضاً لوجب القضاء، ولكنّ هذا مجرّد فرض؛ لأنّ الموضوع للقضاء فوت الشيء، أي عدم إدراك ملاكه، ومع احتمال الإدراك بالاضطراري لا يحرز الفوت.أقولكما أنّه إذا لم تجب الإعادة لم يجب القضاء بالاولوية، كذلك وجوب القضاء يوجب الإعادة أيضاً بالأولوية.ثمّ بناءاً على ما ذكره (قدس سره) في الصورة الثالثة من إمكان كون الاضطراري واجداً لبعض الملاك الملزم ويكون المقدار الباقي ممكن الاستيفاء بالفعل الاختياري قبل خروج الوقت أو بعد خروجه قضاءاً، وفي فرض القدرة على الاختياري قبل خروجه الذي يكون الوجوب في الوقت على النحو التخيير بين الفعلين بأن يأتي بالاضطراري عند الاضطرار وبالاختياري قبل خروج الوقت أو يأتي بالاختياري فقط، لا يمكن أن يكون تشريع الاضطراري في بعض الوقت موجباً للحكم بالإجزاء، ولو كان لخطاب الاضطرار إطلاق، فإنّ مقتضى إطلاقه أنّه متعلّق للأمر، سواء تمكّن من الاختياري قبل خروج الوقت أو لم يتمكّن.وهذا لا ينافي عدم الإجزاء، واحتمال الوجوب التعييني في المأمور به الاضطراري مع عدم استيعاب الاضطرار لجميع الوقت غير موجود، وعليه فيمكن أن يكون تشريعه في بعض الوقت من قبيل القسم الثالث.نعم بناءاً على ما ذكرنا من عدم إمكان الوجوب التخييري بين الفعلين والفعل الواحد منهما يكون الأمر بالاضطراري حال الاضطرار ولو تخييراً بينه وبين تركه إلى الإتيان بالاختياري مقتضياً للإجزاء لا محالة، وأيضاً استظهار كفاية الاضطرار في بعض الوقت في الإتيان بالصلاة بالتيمّم من الآية المباركة على تقدير تماميته، إنّما هو مع قطع النظر عن الروايات الواردة في فاقد الماء، وأمّا بالنظر إليها فلا تصحّ الصلاة مع التيمم مع عدم اليأس عن الظفر بالماء قبل خروج الوقت فضلا عن العلم به، وفي صحيحة زرارة عن أحدهما (عليهما السلام) قالإذا لم يجد المسافر الماء فليطلب ما دام في الوقت، فإذا خاف أن يفوته الوقت فليتيمّم وليصلّ(12).والتفصيل موكول إلى محلّه.ولا يخفى أيضاً أنّ استفادة الاجزاء، فيما إذا كان مدلول الخطاب أنّ القيد الاضطراري لمتعلّق الأمر ولو كان الاضطرار في بعض الوقت كالقيد الاختياري في حال الاختيار، وإن كان صحيحاً إلاّ أنّه لا يوجب جواز إدخال المكلّف نفسه في الاضطرار، حيث إنّ منصرف عدم التمكّن من الاختياري الموضوع للأمر بالاضطراري صورة عدم الإدخال في الاضطرار عمداً في ظرف الأمر بالاختياري، ولا يستفاد مما ورد في أنّ التيمّم أحد الطهورين، مع ملاحظة ما ورد من تفريع الأمر بالتيمم على عدم التمكّن من الطهارة المائية إلاّ الأمر به عند هذا الاضطرار، كما هو الحال أيضاً بالإضافة إلى ما دلّ على أن من أدرك اضطراري الوقوف بالمشعر فقد أدرك الحجّ، بل وعدم جواز إدخال النفس في الاضطرار في ظرف فعلية الأمر بالاختياري هو مقتضى فعليّة هذا الأمر، فالحكم بجواز إدخال النفس في موضوع الاضطرار بعد حصول ظرف فعلية الأمر بالاختياري في مورد يحتاج إلى دليل خاصّ فيه، كالحكم بجواز إدخال النفس في التقية الموجبة لترك بعض ما يعتبر في الصلاة، كترك السجود على ما يصح السجود عليه، كالحكم بجواز إجناب المكلّف نفسه بإتيان الزوجة مع علمه بعدم التمكّن من الاغتسال ولو أدخل المكلّف نفسه في الاضطرار بعد فعلية التكليف بالاختياري، فإن قام دليل على أنّ التكليف لا يسقط حتّى مع الاضطرار، كذلك كما هو الحال بالإضافة إلى الصلاة، تنتقل الوظيفة إلى الصلاة بالقيد الاضطراري، وإن أثم بمخالفة مقتضى التكليف بالاختياري بإدخال نفسه في الاضطرار بعد فعليته.وأمّا إذا لم يقم دليل على عدم سقوط التكليف، فلا يمكن الحكم بالإجزاء مع القيد الاضطراري، كما قد يقال بذلك بالإضافة إلى الصوم فيما إذا تعمّد المكلّف البقاء على الجنابة إلى أن بقي إلى الفجر زمان لا يسع إلاّ التيمم، حيث إنّه لا يحكم بإجزاء ذلك الصوم، وهذا هو الحال فيمن ترك الوقوفين في عرفة والمشعر متعمّداً وأراد أن يكتفي بالوقوف في المشعر يوم العيد قبل الظهر.ثمّ إنّ ما ذكره (قدس سره) من أنّه إذا لم يتمّ الإطلاق في ناحية الاضطراري ليكون مقتضياً للاجزاء، ولا في ناحية الاختياري ليكون مقتضياً للإعادة، مع فرض عدم الإطلاق في الاضطراري، ووصلت النوبة إلى الأصل العملي، يكون مقتضى أصالة البراءة عن وجوب الاختياري عدم لزوم الإعادة، غير خال عن الإشكال، بناءاً على ما ذكره في القسم الثالث من التخيير بين الفعلين، أي الإتيان بالاختياري في آخر الوقت والإتيان بالاضطراري في حال الاضطرار، مع لزوم الاختياري آخر الوقت فإنّ احتمال عدم الإجزاء يلازم احتمال وقوع الأمر بالاضطراري على هذا النحو، وبناءاً على صحّة التكليف بالاختياري من أوّل الأمر، لتمكّن المكلّف من صرف وجوده بين الحدين، كان المكلّف على يقين من حصول الأمر بالاختياري من حين الأمر بالاضطراري، ويحتمل عدم سقوط ذلك التكليف بالإتيان بالاضطراري، فيكون وجوب الاختياري بعد الإتيان بالاضطراري مجرى للاستصحاب بناءاً على اعتباره في الشبهة الحكمية ومقتضاه لزوم الإعادة في الوقت.والالتزام بحدوث الأمر بالاختياري بحدوث الاختيار والتمكّن بلا موجب، حيث إنّ التمكّن من صرف وجود الاختياري قبل خروج الوقت كاف في الأمر به في أوّل الوقت، فلا مجال لتوهّم أنّ المورد من موارد الرجوع إلى البراءة؛ لاحتمال حدوث التكليف بالاختياري عند حدوث التمكّن عليه.نعم بناءاً على ما ذكرنا من أنّ التخيير في الوجوب بين فعل وفعلين أحدهما عين الأوّل غير معقول، يكون تشريع الاضطراري عند الاضطرار في بعض الوقت ملازماً للإجزاء فيما إذا كان التشريع بنحو الإيجاب؛ لأنّ المكلّف في الفرض يكون مكلّفاً بفعل واحد، وهو إمّا الإتيان بالاضطراري في ظرف الاضطرار، وإمّا الإتيان بالاختياري قبل خروج وقته، فيتعلّق الوجوب بأحدهما، ومعه لا مجال لاحتمال عدم الإجزاء.وأمّا إذا احتمل تشريع الاضطراري في ظرف الاضطرار بنحو الاستحباب، وأنّ المكلف يتعيّن عليه الفعل الاختياري، يدخل المقام في دوران أمر التكليف بالاختياري بين التعيين والتخيير، فإنّ الوجوب المعلوم إمّا تعلّق بالاختياري أو بالجامع بينه وبين الاضطراري، فالاول كما إذا كان تشريع الاضطراري بنحو الندب، والثاني ما إذا كان بنحو الإيجاب، وقد ذكرنا في محلّه أنّه مع دوران أمر التكليف بين كونه بنحو التعييني أو التخييري يكون مقتضى البراءة عن تعلّقه بخصوص أحدهما هو التخيير، ولا يعارض بأصالة البراءة عن تعلّقه بالجامع؛ لأنّ رفع الوجوب المحتمل في الجامع خلاف الامتنان، وهذا بعد سقوط الاستصحاب في ناحية عدم جعل الوجوب للجامع مع عدم جعله لخصوص الاختياري، وتمام الكلام في محلّه.وكذا الحال فيما إذا لم يعلم تشريع الاضطراري بنحو البدار أصلا، بل احتمل تشريعة بنحو الوجوب التخييري، فإنّه يكون المرجع أصالة البراءة عن تعيين الاختياري.وذكر المحقّق الاصفهاني (قدس سره) في تعليقته على كلام الماتن (قدس سره) ما حاصلهأنّ تعلّق الوجوب بالاختياري كالصلاة بالوضوء محرز، كما أنّ تعلّقه بالصلاة مع التيمّم محرز ـ كما هو فرض جواز البدار واقعاً ـ ولكن لم يعلم أنّ البدل بمجرّده عدل للاختياري، أو أنّ البدل المنضمّ اليه المبدل عدل له، فإن كان تشريع الاضطراري بالقسم الأوّل أو بالقسم الرابع، فالبدل بمجرّده عدل للاختياري، وإن كان تشريع الاضطراري بالقسم الثالث ـ الذي لازمه عدم الإجزاء ـ فالعدل للاختياري هو الاضطراري المنضمّ إليه الاختياري بناءاً على التخيير بين الفعلين والفعل الواحد، وعليه فلا مانع من جريان البراءة في ناحية تعلّق الوجوب بانضمام المبدل إلى البدل.ولا يقاس المقام بدوران الأمر بين تعلّق الوجوب بالأقل أو الأكثر الارتباطيين، حيث يقال فيه بعدم انحلال العلم الإجمالي بالوجوب عقلا، والوجه في عدم القياس أنّ الأقلّ في ذلك الباب مرتبط بالأكثر في الصحّة، وحصول ملاكه لو كان الوجوب متعلّقاً بالأكثر بخلاف المقام، فإنّ الوجوب لو كان متعلّقاً بالبدل المنضمّ إليه المبدل لحصل ملاك البدل وصحّ الإتيان به، كما أنّ الأمر في ناحية المبدل أيضاً كذلك، وعليه فتعلّق الوجوب بذات البدل محرز، وتجري البراءة في تعلّق ذلك الوجوب بالمبدل المنضم الى البدل.وبتعبير آخرتعلّق الوجوب بالمبدل المسبوق بالبدل غير محرز، فتجري البراءة عن وجوبه، وأمّا تعلّقه بالمبدل غير المسبوق بالبدل، فهو محرز كما أنّ تعلّقه بأصل البدل محرز، فالمقام أشبه بموارد دوران أمر الواجب بين الأقل والأكثر الاستقلاليين(13).أقوللو سلّم (قدس سره) في موارد الوجوب التخييري تعلّق وجوب واحد بعنوان ينطبق على كلٍّ من الأبدال كما هو ظاهر كلامه (قدس سره)، فالأمر في ذلك العنوان الجامع دائر بين أن يكون بحيث ينطبق على المبدل بانفراده وعلى البدل بانفراده، أو أن يكون بحيث ينطبق على المبدل بانفراده وعلى البدل المنضمّ إليه المبدل، ومقتضى استصحاب عدم تعلّق وجوب بالجامع على النحو الأوّل عدم الاكتفاء بالبدل بانفراده، ولا يعارض هذا الاستصحاب استصحاب عدم تعلّقه بالجامع على النحو الثاني، فإنّ هذا الاستصحاب لا أثر له للعلم بإجزاء المبدل بانفراده والبدل المنضمّ إليه المبدل، فإن أُريد بهذا الاستصحاب نفي هذا الإجزاء فلا مورد له، وإن أُريد إثبات تعلّقه بالجامع على النحو الأوّل فهو مثبت.اللهم إلاّ أن يقالمقتضى هذا الاستصحاب أنّه لا يتعين على المكلّف الإتيان بالمبدل المنضمّ إلى البدل، فيتعارضان وتصل النوبة إلى البراءة، فتجرى في ناحية تعلّق الوجوب بالعنوان على النحو الثاني ولا تعارضها البراءة عن تعلّقه بالجامع بالنحو الأوّل، فإنّها خلاف الامتنان، كما مرّ.وأمّا ما يقال من أنّ الأصل في المقام هو الاشتغال كما هو مقتضى العلم بوجود الملاك الملزم في البين، وتمكّن المكلّف من استيفائه بالإتيان بالاختياري قبل خروج الوقت، وأمّا مع الاقتصار على البدل فلا يحرز استيفائه، فلا يخفى ما فيه، فإنّ هذا القول ذكر وجهاً لوجوب الاحتياط في موارد دوران أمر الواجب بين الأقلّ والأكثر الارتباطين، وكذا مورد دورانه بين التعيين والتخيير، والجواب كما ذكر في ذلك البحث أنّ الملاك الملزم لايزيد على التكليف، فمع جريان البراءة عن وجوب الأكثر، أو وجوب ما يحتمل تعيينه، يكون مقتضاه عقلا معذورية المكلّف في ترك استيفاء الملاك لو كان موجوداً في الأكثر أو فيما يحتمل تعيينه.ثمّ إن الرجوع إلى الأصل العملي ـ على ما مرّ ـ يختصّ بما إذا لم يكن في البين ما يثبت نفي تشريع الاضطراري، وقد ذكرنا أنّ في موارد الشك في تشريعه يكون خطاب الأمر بالاختياري نافياً لتشريعه، فإنّ مقتضاه تعلّق التكليف بالاختياري معيناً مع التمكّن من صرف وجوده من أوّل دخول الوقت إلى آخره.(1).سورة النساء: الآية 43 و سورة المائدة: الآية6.(2).الوسائلج 5، الباب 55 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 1.(3).الوسائل5، الباب 54 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 8.(4).الوسائل5، الباب 54 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 9.(5).الوسائل: 5، الباب 54 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث5.(6).الوسائل5، الباب 54 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 11.(7).الوسائل5، الباب 54 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 9.(8).الكفايةص84.(9).الوسائلج 10، باب 27 من أبواب الوقوف بالمشعر، الحديث 1.(10).الوسائلج 2، باب 23 من أبواب التيمم، الحديث 4 و 5.(11).الوسائل: ج2، باب 23 من أبواب التيمم، الحديث4 و 5.(12).الوسائلج 2، باب 1 من أبواب التيمم، الحديث 1.(13).نهاية الدراية1 / 386.والتحقيق ما كان منه يجري في تنقيح ما هو موضوع التكليف وتحقيق متعلّقه[1].إجزاء المأمور به الظاهري عن الواقعي[1] حاصل ما ذكره (قدس سره) في المقام أنّه قد يكون مقتضى خطاب الحكم الظاهري جعل ما هو معتبر في موضوع الحكم ومتعلّق التكليف جزءاً أو شرطاً كقاعدة الطهارة، فإنّ مفاد خطابها اعتبار طهارة البدن واللباس المأخوذة في تعلّق الأمر بالصلاة، وكاستصحابها بناءاً على ما هوالصحيح من كون الاستصحاب أصلا عمليّاً ومفاد خطاب اعتباره ثبوت حكم ظاهري مماثل للثابت سابقاً.غاية الأمر الثابت سابقاً طهارة واقعية بخلاف الثابت بالاستصحاب فإنّها طهارة ظاهرية لا محالة، وكقاعدة الحلّية فإنّ مقتضاها حلّية المكان أو الحيوان المأخوذ من أجزائه اللباس وكذا استصحاب الحلّية فيما إذا طرء على الحيوان أو المكان ما يشك معه في بقاء الحلّية، وهذا كما ذكر بناءاً على ما هو الصحيح من اعتبار الاستصحاب كسائر الأُصول العملية لا أنّه معتبر كالامارات.وقد يكون مفاد خطاب الحكم الظاهري اعتبار كشف الشيء عن الواقع أو اعتبار منجزيته ومعذريته كما في أدلّة اعتبار الامارات الحاكية عن الواقع.ثمّ إنّه يحكم بالإجزاء في مورد الإتيان بالمأمور به الظاهري وانكشاف مخالفته للواقعي في القسم الأوّل، مما يكون مفاد الخطاب الظاهري تحقّق الجزء أو الشرط للمأمور به بجعلهما، والسرّ في الإجزاء حكومة الخطاب الظاهري على دليل اعتبار ذلك الشرط أو الجزء في متعلّق التكليف أو موضوعه، فمثلا تكون القاعدة والاستصحاب في طهارة الثوب أو حلّيته موجباً للتوسعة فيما دلّ على اعتبار الطهارة والحلّية في ثوب المصلّي، وأنّها أعمّ من الطهارة أو الحلّية الواقعية.أقولظاهر كلامه (قدس سره) عدم الفرق في الصورة الثانية التي يحكم فيها بعدم الإجزاء بين القول بجعل الحجية للأمارة أو جعل الحكم الطريقي، وأنه لا يحكم بالإجزاء على كلا القولين.وعليه يبقى سؤال الفرق بين الطهارة والحلّية في موارد جريان الأُصول وبين الطهارة والحلّية في موارد قيام الطريق والامارة، فإنّه بناءاً على جعل الحكم الطريقي يكون المجعول في مورد قيام الطرق على قيود متعلّق التكليف كمفاد الأُصول فيها.وقد ذكر المحقق الاصفهاني (قدس سره) في التفرقة بين الأصل العملي الجاري في متعلّق التكليف وبين الامارة القائمة عليه ـ على مسلك جعل مدلول الامارة حكماً طريقياً ـ ما حاصله: أنّ الامارة بما أنّها تحكي عن الثبوت واقعاً، يكون اعتبارها جعل الأثر المترتّب على ذلك الواقع، فيكون مقتضى اعتبار الامارة القائمة على طهارة شيء أو حلّية حيوان جواز الصلاة فيه أو معه، بخلاف الأصل الجاري في طهارة شيء أو حلّيته، فإنّ مقتضى قوله (عليه السلام)«كلّ شيء طاهر أو حلال» جعل نفس الطهارة للشيء من غير نظر إلى ثبوتها أو نفيها واقعاً، وكذا في الحلّية.لا يقالعلى ما ذكر يلزم أن لا يكون الاستصحاب في طهارة الثوب أو البدن موجباً للتوسعة في المتعلّق؛ لأنّ مفاد خطاب اعتباره ثبوت الطهارة السابقة وبقائها، فيكون كالامارة القائمة على بقائها في أنّه إذا انكشف الخلاف وظهر عدم ثبوتها واقعاً يكون مقتضى خطاب التكليف بالمأمور به الواقعي الإتيان به، مع أنّ صحيحة زرارة قد صرّحت بخلافه.فإنّه يقالالمدّعى قصور التعبّد بثبوت الشيء واقعاً عن جعل نفس ذلك الشيء، لا أنّه ينافيه، وعليه فلا بأس بالتعبّد بثبوته واقعاً مع جعل نفس ذلك الشيء، ولكن نقول التعبّد بالامارة القائمة على طهارة شيء لا يقتضي جعل نفس الطهارة؛ لأنّ التعبّد في الامارة إنّما هو في جهة حكايتها، والتعبّد فيها من هذه الجهة لا يقتضي إلاّ جعل أثر المحكي عنه بخلاف الاستصحاب، فإنّ اعتباره ليس من جهة الحكاية، نعم هو كذلك بناءاً على أنّه ظنّ بالبقاء وأنّه اعتبر من هذه الحيثية(1).أقولقد يتبادر إلى الذهن أن نتسائل كيف حكم الماتن (قدس سره) بإجزاء الإتيان بالمأمور به الظاهري في الموارد المشار إليها، مع أنّه (قدس سره) قد قسّم المأمور به الاضطراري إلى أقسام أربعة، وحكم في بعضها بعدم الإجزاء وفي بعضها بعدم جواز البدار لتفويت الملاك، ولكن لم يفصّل في المأمور به الظاهري بمثل ذلك؟ والجواب أنّه استفاد من خطاب اعتبار الاستصحاب وقاعدتي الطهارة والحلّية في موارد جريانهما في متعلّق التكليف، التوسعة في الواقع المعبّر عنها في كلمات القوم بالحكومة، ولازم التوسعة تدارك ملاك القيد الواقعي مع الإتيان بالمأمور به الظاهري، فلا نقص فيه من جهة تدارك الملاك.ولكن لا يخفى أنّ الاستصحاب في طهارة الثوب لو كان موجباً للتوسعة في شرط الصلاة بأن يكون أعمّ من الطهارة الواقعية و الظاهريه لكان الاستصحاب في نجاسته أيضاً موجباً للتوسعة في مانعية النجاسة عن الصلاة، وعليه لو قامت أمارة على نجاسة الثوب فصلّى فيه برجاء طهارته لاحتمال عدم إصابة الامارة للواقع وشكّ رجل آخر في بقاء نجاسة ثوبه وصلى فيه برجاء طهارته واقعاً، ثمّ بعد الصلاة ظهر طهارة كلّ من الثوبين حال الصلاة، فاللازم الحكم بصحة الصلاة في مورد قيام الامارة والبطلان في مورد الاستصحاب، مع أنّ الحكم بالصحة في الأوّل والبطلان في الثاني لم يعهد التزامه من فقيه، وأيضاً لو كانت الحكومة في قاعدة الطهارة واستصحابها أمراً صحيحاً؛ للزم الالتزام بطهارة المتنجس فيما إذا غسله بماء شكّ في طهارته ثمّ بعد غسله علم بأنّ الماء كان نجساً، فإنّ الطهارة المعتبرة في الماء المغسول به أعمّ من الواقعية والظاهرية على الفرض، ولو شك في بقاء وضوئه وصلّى، ثمّ علم بأنّه كان محدثاً، فاللازم الحكم بعدم وجوب إعادة الصلاة لعدم الخلل بذلك في الطهارة، حيث إنّ الطهارة ـ كما زعم الماتن (قدس سره) ـ قد ارتفعت من حين العلم بالحدث، وأنّ الصلاة قد وقعت مع الطهارة المعتبرة، حيث إنّها أعمّ من الطهارة الواقعية والظاهرية.ولو شك في بقاء الماء على طهارته ولاقاه شيء طاهر، وبعد ذلك علم نجاسة الماء، فاللازم أن لا يحكم بنجاسة الملاقي؛ لأنّ الماء المفروض حال الملاقاة كان طاهراً.والسرّ في ذلك كلّه أنّه يعتبر في الحكومة الموجبة للتوسعة والتضييق أن يكون المنفي أو المجعول المحكي بخطاب الحاكم من سنخ المجعول المحكي بخطاب المحكوم في كونه نفسياً أو طريقيّاً؛ ليكشف خطاب الحاكم عن السعة والضيق في المجعول المحكي بخطاب المحكوم، وأمّا إذا كان المجعول في الخطاب حكماً نفسياً، وفي الخطاب الآخر ـ ولو عبّر عنه بخطاب الحاكم ـ طريقياً، يكون مقتضى المجعول الطريقي عدم النفسية وأنّه يرتّب عليه أثر الواقع النفسي ما دام الجهل لغاية التنجيز والتعذير، وإذا أُحرز الواقع وأنّه كان على خلاف المجعول طريقاً، فاللازم رعايته، حيث إنّ ثبوت الحكم الظاهري لا يوجب الانقلاب والتغيير في المجعول الواقعي؛ لعدم المنافاة بين أن يكون تعلّق الحكم أو موضوعه مقيّداً بالقيد الواقعي، وبين جعل ذلك القيد طريقياً، بحيث يعتبر ذلك الحكم الطريقي بترتيب أثر القيد الواقعي عليه ما دام لم ينكشف الواقع لمصلحة في جعل ذلك القيد الطريقي واعتباره، ولو كانت تلك المصلحة نوعية، وإذا انكشف الخلاف وجب التدارك لبقاء الواقع بحاله وعدم الإتيان بمتعلّق التكليف الواقعي.وممّا يكشف عن بقاء قذارة الشيء ونجاسته الواقعية بحالها الغاية الواردة في خطاب قاعدة الطهارة من قوله (عليه السلام)«كل شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر»(2).ودعوى أنّ معنى جريان أصالة الطهارة الجارية في الثوب المشكوك طهارته ليس جعلا لطهارة الثوب ضرورة، أنّه لو كان نجساً فهو باق على نجاسته واقعاً، وإنّما الطهارة الظاهرية له تفيد التوسعة في الشرطية الحاصلة من تعلّق التكليف بالصلاة في الثوب الطاهر، حيث إنّ المتفاهم عرفاً من خطاب أصالة الطهارة مع لحاظ خطاب الأمر بالصلاة في الثوب الطاهر، هو أنّ القيد أعمّ، فإذا صلّى في الثوب المفروض يسقط ذلك التكليف حتّى لو انكشفت نجاسة ذلك الثوب بعد الصلاة؛ لأنّ التوسعة في الشرطية أوجبت سقوط التكليف ولا انكشاف للخلاف بالإضافة إلى التوسعة، ومع ذلك يحكم بنجاسة ملاقي ذلك الثوب رطباً ولو قبل ظهور الحال.والحاصل أنّ ما دلّ على طهارة المشكوك حاكم على خطاب اشتراط الصلاة بطهارة الثوب لا خطاب ما دلّ على تنجّس الشيء بملاقاة النجس، وهذا بخلاف ما إذا قام الطريق على طهارة ثوب وانكشف خطأه فيما بعد، فإنّ اعتبار شيء طريقاً إلى القيد الواقعي لا يوجب التوسعة في الشرطية المستفادة من مثل خطابصلِّ في ثوب طاهر.ويمكن استفادة هذا الإجزاء في موارد قاعدة الطهارة واستصحابها من مثل قول علي (عليه السلام)«ما أُبالي أبولٌ أصابني أو ماء إذا لم أعلم»(3).لا يمكن المساعدة عليها، فإنّه لم يظهر الفرق بين ما إذا كان مفاد الأصل والقاعدة اعتبار ما هو قيد لمتعلّق التكليف، وبين ما إذا كان مفادهما اعتبار قيد لموضوع الحكم الوضعي، بأن يقال بإجزاء الصلاة مع استصحاب الطهارة، ولا يطهر الثوب المتنجّس بماء مستصحب الطهارة، ودعوى الفرق بينهما جزاف، وجعل الفارق ضرورة الفقه كما ترى، فإنّ الحكم بصحّة الصلاة مع النجاسة الواقعية جاهلا بها إنّما هو من باب عدم كونها مانعة في الصلاة.نعم النقض على كلام الماتن (قدس سره) بموارد قاعدة التجاوز كما إذا شكّ في الركوع بعد ما سجد وبنى على الركوع قبله وأتمّ الصلاة، ثمّ انكشف عدم الإتيان بالركوع، أو بموارد بيع الشيء مع الشكّ في كونه ملكاً له، وبعد البيع ظهر عدم كونه ملكاً له، ونحوهما لا وجه له؛ لأنّ مفاد قاعدة التجاوز ليس جعلا للركوع، ومفاد قاعدة اليد ليس جعلا للملكية حال البيع، بل القاعدة اعتبرت طريقاً إلى الملكية الواقعية.ثمّ لو فرض صحّة الالتزام في موارد جعل الطهارة والحلّية الظاهريتين بالإجزاء للتوسعة المزعومة، فلا يجري ذلك في موارد استصحاب الطهارة والحلّية، وإن قلنا ـ كما هو الصحيح ـ بكون الاستصحاب أصلا عمليّاً؛ وذلك لما ذكرنا في بحث الاستصحاب بأنّ مفاد دليله ليس جعل حكم مماثل للحكم السابق، بل مفاده اعتبار العلم بحصول السابق علماً بالبقاء، والتفصيل موكول إلى محلّه.بقي في المقام أمرٌ، وهو أنّه لو قيل بالإجزاء في موارد التعبّد بالشرط أو الجزء أو عدم المانع بمفاد الأُصول باعتبار أنّها توجب التوسعة فيما هو شرط وجزء ومانع في متعلّق التكليف لا يفرق في جريان الأُصول بين الشبهات الموضوعية والحكمية، وهذا بخلاف موارد الامارات، حيث إنّ مفاد دليل اعتبارها ثبوت الشرط الواقعي بجعل الامارة طريقاً تامّاً إليه فلا يوجب قيامها الإجزاء بعد انكشاف الخلاف فيها، ويكون مقتضى التكليف بما هو مقيد بالشرط امتثاله، وهذا كلّه بناءاً على ما هو الأظهر في اعتبار الامارات من أنّ اعتبارها على وجه الطريقية لا بنحو السببيّة.الإجزاء في الامارات على السببيةوأمّا بناءاً على السببية وكون قيامها موجباً لحصول الحلّية أو الطهارة للشيء، فيكون الإتيان بالمأمور به الظاهري موجباً لحصول الامتثال؛ لأنّ المأمور به الذي يأتي به المكلف على طبق الامارة القائمة على الطهارة ـ مثلا ـ يكون مشتملا عليها بقيام الامارة، ويكون كالواجد لها بالوجدان في حصول الملاك، كما هو مقتضى دليل اعتبارها، بناءاً على السببية، إلاّ أن يقوم دليل خاصّ في مورد على فوات بعض الملاك الواقعي بحيث يلزم تداركه، فلا يجزي، أو يستحب تداركه فيجزي كصورة اشتماله على جميع الملاك.والوجه في اقتضاء إطلاق دليل اعتبارها على السببية هو أنّ مدلوله بناءاً عليها جعل مدلول الامارة شرطاً واقعياً، والوجه في اقتضاء إطلاق دليل اعتبارها على السببية هو أنّ مدلوله بناءاً عليها جعل مدلول الامارة شرطاً واقعياً، فلا معنى لانكشاف الخلاف فيه بعد ذلك.ولكن لا يخفى أنّه لا يظنّ أن يلتزم أحد باعتبار الأمارة على نحو السببية إلاّ في الامارات القائمة على الأحكام الكليّة التكليفية أو الوضعية، دون القائمة على الموضوعات الخارجية والأحكام الجزئية، كما إذا اشترى ثوباً من جلد الحيوان وبعد الصلاة حصل له العلم بأنّه من الميتة، فالالتزام بالإجزاء من جهة اعتبار سوق المسلمين من باب السببية، وأنّ الشارع قد جعل التذكية الواقعية للثوب المفروض بشرائه منه مادام لم ينكشف الحال، غير معهود في باب اعتبار الامارات، وعليه فتنحصر ثمرة اعتبار الامارة بنحو الكشف أو السببية في الأحكام الكلّية فقط، سواء كانت وضعية (مثل ما إذا قامت الامارة على كون الدباغة في الميتة ذكاة)، أو تكليفيّة (مثل ما إذا قامت على وجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة).(1).نهاية الدراية1 / 392.(2).الوسائلج 2، الباب 37 من أبواب النجاسات، الحديث 4.(3).الوسائلج 2، الباب 37 من أبواب النجاسات، الحديث 5.وأمّا إذا شكّ ولم يحرز أنّها على أي الوجهين، فأصالة عدم الإتيان بما يسقط معه التكليف مقتضية للإعادة في الوقت[1].وأمّا القضاء فلا يجب بناءاً على أنّه فرض جديد[2].ثمّ إنّ هذا كلّه فيما يجري في متعلّق التكاليف من الامارات الشرعية والأُصول العملية[3].لا ينبغي توهّم الإجزاء في القطع بالأمر في صورة الخطأ[4].الثانيلا يذهب عليك أنّ الإجزاء في بعض موارد الأُصول[5].الإجزاء عند الشكّ في سببيّة الأمارة وطريقيتها: [1] بعد ملاحظة كلامه (قدس سره) في المقام من صدره إلى ذيله، يظهر أنّ مراده من قوله (قدس سره)«أصالة عدم الإتيان بما يسقط..» إلخ، أحد أمرين: الأوّلأن يكون مراده منها استصحاب التكليف المحرز حدوثه بنحو القسم الثاني من الكلّي، حيث إنّ التكليف يختلف باختلاف متعلّقه، ومتعلّق التكليف المحرز إمّا المقيّد بالقيد الواقعي، كما هو مقتضى اعتبار الامارة بنحو الطريقية والكشف، وإمّا المقيّد بما هو مدلول الامارة، كما هو مقتضى اعتبارها بنحو الموضوعية والسببية، فمع عدم إحراز كيفية اعتبار الامارة وانكشاف الخلاف ـ كما هو المفروض ـ، يحكم ببقاء ذلك التكليف المحرز حدوثه حين قيام الامارة، ولا ينفع في إحراز سقوطه أصالة عدم فعلية التكليف بالقيد الواقعي بعد انكشاف الواقع، حيث إن إحراز سقوطه يكون بإحراز تعلّق الأمر حقيقةً عند قيام الامارة بالمأتي به وإثبات تعلّقه به بأصالة عدم الفعلية في ناحية الواقعي إثبات لأحد المتلازمين بالأصل الجاري في ناحية نفي الملازم الآخر فيكون من الأصل المثبت.الثانيأن يكون مراده كما يُستفاد من ذيل كلامه، أنّه مع العلم بحدوث التكليف ووجوده حال قيام الامارة، يكون المورد بعد انكشاف الخلاف مجرى قاعدة الاشتغال بالتقريب الآتي، أو استصحاب عدم الإتيان بمتعلّق التكليف الحادث حال قيام الأمارة، ليثبت به بقاء التكليف الحادث المفروض، والاستصحاب كذلك داخل في الشبهة الصدقية، كما يأتي في بيان إثبات وجوب القضاء به.وأمّا تقريب قاعدة الاشتغال، فبأنّه لو أُحرز أنّ المأتي به الظاهري متعلّق التكليف حقيقة، كما في موارد الأُصول الشرعية التي تقدّم أنّ مقتضى خطاباتها التوسعة في الواقع، وكما إذا أُحرز اعتبار الامارة القائمة على الشرط بنحو الموضوعية والسببية وشكّ في إجزاء المأتي به الظاهري أو الاضطراري يكون مقتضى الأصل العملي الإجزاء حتّى بالإضافة إلى الإعادة كما تقدّم، حيث يدور الأمر بين أن يكون عدل الواجب على المكلف هو المأمور به الظاهري المنضمّ إليه الواقعي بعد كشف الخلاف، أو الاضطراري المنضمّ إليه الاختياري بعد ارتفاع الاضطرار، وبين أن يكون عدل الواجب نفس المأمور به الظاهري أو الاضطراري، فأصالة البراءة عن وجوب ضمّ الواقعي أو الاختياري مقتضاها الإجزاء.وهذا بخلاف ما إذا لم يحرز كون الفعل الاضطراري مأموراً به حال الاضطرار حقيقة، أو الظاهري مأموراً به كذلك، فإنّه مع عدم إحراز ذلك ـ كما هو مقتضى تردّد اعتبار الامارة بين السببية والطريقية ـ يشكّ في امتثال التكليف المحرز حال قيام الامارة ويحكم العقل بالاشتغال ولزوم إحراز السقوط، ولم يحرز تعلّق الأمر بالمأتي به حتّى يكون المورد مجرى لأصالة البراءة، واستصحاب عدم فعلية التكليف بالواقعي ـ كما تقدّم ـ لا يثبت تعلّق التكليف حقيقة بالمأتي به، إلاّ على الأصل المثبت.أقول: يرد على الماتن (قدس سره): أوّلا: أنّه إذا لم يحرز تعلّق التكليف بالظاهري حقيقة ـ كما هو مقتضى تردّد اعتبار الامارة بين السببية والموضوعية ـ يكون مقتضى الإطلاق في خطاب التكليف الواقعي وجوب الإتيان بمتعلّقه وعدم الإجتزاء بغيره، كما ذكرنا ذلك في الاضطراري أيضاً، وقلناإذا لم يتمّ دليل على تشريع الاضطراري عند الاضطرار في بعض الوقت، يكون مقتضى الإطلاق (أي عدم ذكر العدل للإختياري في خطابه) تعيّن الإتيان به ولو في آخر الوقت، فلا تصل النوبة إلى الأصل العملي بمجرّد تردّد أمر اعتبار الامارة ثبوتاً بين كونه على نحو الطريقية أو السببية، بل مقتضى إطلاق الأمر الواقعي نفي اعتبارها على نحو السببية؛ لأنّ مثبتات الأُصول اللفظية حجّة.وثانياًقد ذكرنا سابقاً أنّ الوجوب التخييري بين الإتيان بفعلين وبين إتيان واحد معيّن منهما ثبوتاً غير معقول، وما ذكره (قدس سره) من الرجوع إلى البراءة في فرض إحراز تعلّق الأمر حقيقة بالمأتي به وفي غيره إلى الاشتغال أو استصحاب التكليف مبنيّ على إمكان فرض الوجوب التخييري المفروض، والاّ فإن كان المأتي به مأموراً به واقعاً، فالأمر والتكليف يتعلّق بالجامع، وعلى فرض عدمه يتعلّق بخصوص الاختياري أو الواقعي، فاستصحاب عدم تعلّق التكليف ثبوتاً بالجامع معارض باستصحاب عدم تعلّقه بخصوص الاختياري أو الواقعي، وبعد تساقطهما يكون المقام من موارد دوران أمر الواجب بين التعيين والتخيير، أو بين المطلق والمقيد، وتقدّم أنّ أصالة البراءة تجري في ناحية تعلّقه بمحتمل التعيين أو المقيّد، لكون رفع التكليف عنهما موافقاً للامتنان، بخلاف رفعه عن الجامع أو المطلق، فإنّ تعلّق التكليف بهما ثبوتاً وإن كان غير معلوم إلاّ أنّ رفعه عنهما خلاف الامتنان، فلا يعمّ خطاب «رفع ما لا يعلمون» ذلك التكليف المحتمل.[2] يعنى مع دوران الأمر بين السببية والطريقية، وانكشاف الخلاف في الامارة بعد الوقت، فلا يجب تدارك الواقع بالقضاء ولا يفيد في وجوبه استصحاب بقاء التكليف في الوقت وعدم الإتيان بمتعلّقه؛ لأنّ مجرّد إحراز عدم الإتيان بمتعلّق التكليف في الوقت بالأصل لا يكون إحرازاً لفوته، فإنّه من الأصل المثبت، فيجري الاستصحاب في ناحية عدم فوته، ولا أقلّ من أصالة البراءة عن وجوب القضاء.نعم لو قيل بأنّ وجوب القضاء مستفاد من الأمر بالأداء، بأن يكون الإتيان بذات الفعل مطلوباً، والإتيان به في الوقت مطلوباً آخر، وأنّه بانقضاء الوقت يسقط الطلب الثاني ويبقى الأوّل، لكان (عند دوران اعتبار الامارة بين السببية والطريقية) استصحاب طلب الطبيعي بعد خروج الوقت مقتضياً للقضاء، وكذا لو كان وجوب القضاء بأمر جديد، ولكن كان موضوعه عدم الإتيان بالواجب الواقعي في الوقت، لا فوته، فإنّ عدم الإتيان به في الوقت بعد انكشاف الخلاف في الامارة محرز.أقولهذا إذا كان الموضوع لوجوب القضاء عدم الإتيان بالفريضة الأوّلية في وقتها، وإلاّ فلو كان موضوعه عدم الإتيان بفريضة الوقت، سواء كانت أولية أو ثانوية لكانت الشبهة صدقية، وقد ذكرنا عدم جريان الاستصحاب في الشبهات المفهومية، وعليه كان المرجع أصالة البراءة عن وجوب القضاء، كما لا يخفى.تبدّل فتوى المجتهدثمّ إنّه لا فرق في عدم الإجزاء ـ بناءاً على الطريقية في موارد الأُصول والامارات ـ بين انكشاف الخلاف بالوجدان أو انكشافه بحجّة معتبرة، كما في موارد تبدّل رأي المجتهد أو عدول العامي بعد موت مقلّده إلى الأعلم من الأحياء، أو عدوله إلى من صار أعلم ممّن كان يقلّده، وذلك لأنّ الأمارة السابقة أو الأصل السابق لا يزيد في الاعتبار على اليقين والاعتقاد الجزمي الذي لم يكن معتبراً بعد زواله حتّى بالإضافة إلى الأعمال السابقة.فإنّ غاية دليل اعتبار الأمارة أنّها علم بالواقع، وغاية مفاد خطاب الأصل المحرز أنّ المكلّف عالم بالواقع، وخطاب الأصل غير المحرز أنّه تنجيز أو تعذير عن الواقع، على ما تقرّر من أنّه المجعول في مورد الأمارة أو الأصل، ولو قلنا بأنّه الحكم المماثل أو المؤدّى لا يخرج من الطريقية إلى النفسية أيضاً.لا يقالتبدّل الرأي والاجتهاد لا يوجب إلاّ زوال الاعتبار عن الاجتهاد السابق والفتوى السابقة، من حين زواله لا من الأوّل.وبتعبير آخرالتبدّل في الفتوى أو التردّد فيها، نظير الفسخ، لا يوجب إلغاء المعاملة إلاّ من حينه، فيكون التبدّل أو التردّد موجباً لإلغاء الرأي السابق من حين حصولهما لا من الأصل.فإنّه يقالقياس تبدّل الفتوى أو التردّد بفسخ المعاملة مع الفارق؛ إذ في مورد الفسخ يتغيّر الواقع من حين الفسخ، فالملكية الحاصلة بالبيع تنتفي من حين فسخه، ومع انتفائها من حينه لا يمكن ترتيب آثار عدم الملكية من الأوّل، بخلاف موارد تبدّل الفتوى أو التردّد، فإنّ الزائل من حين حصولهما هو الاعتبار لا الواقع، وإذا أُحرز الواقع بالفتوى الثانية، المفروض عدم اختصاص اعتبارها بالأعمال اللاحقة والموجود بعد التغيّر والتبدّل فقط، فاللازم تداركه مع فوته أو إحراز الإتيان به، ودعوى أنّه لا اعتبار للفتوى اللاحقة بالإضافة إلى الأعمال السابقة، يدفعها مقتضى إطلاق دليل اعتبارها بعد سقوط الأُولى عن الاعتبار، حتّى بالإضافة إلى تلك الأعمال؛ ولذا لو فات الواقع بترك العمل بها في السابق يجب تداركه على طبق الحجّة الفعلية.وينبغي قياس المقام بحصول التردّد وصيرورة المكلف شاكّاً بزوال يقينه، فإنّ زوال الاعتقاد وإن لم يوجب إلاّ زوال المنجزيّة والمعذريّة من حين زواله، إلاّ أنّه بعده لا اعتبار له حتّى بالإضافة إلى الأعمال السابقة.وتوضيح ذلكإنّ تبدّل الفتوى يكون بالظفر بأصل حاكم على الأصل الذي كان يُعتمد عليه، أو بالظفر بالأمارة أو المخصّص أو المقيّد أو القرينة على خلاف ما كان يعتمد عليه، وإذا ظفر بذلك فهو يكشف بحسب المدلول عن ثبوت مقتضاها من الأوّل، وهذا الكشف قد اعتبر علماً على ما هو مفاد دليل اعتبار الأمارة، ولا ينتفي بعد ذلك موضوع الحجّة والأصل الذي كان يعتمد عليه، حتّى بالإضافة إلى الأعمال الماضية، وليس المراد أنّ قيامها يكشف عن عدم الأصل من الأوّل، بل المراد ارتفاع موضوع الأصل والحجّة بالظفر على الأصل الحاكم أو الأمارة أو المخصّص والمقيّد ونحوهما من القرائن، ونظير ذلك ما إذا استظهر من رواية حكماً ثمّ تردّد في الاستظهار، فإنّه لم يثبت عنده ظهور فعلا ليبقى معتبراً بالإضافة إلى الأعمال السابقة.والحاصل أنّ الإجزاء في موارد الأُصول العملية أو الأمارة بعد انكشاف الواقع على خلافها ولو بكاشف تعبّدي يحتاج إلى دليل خاصّ أو عامّ، كالذي ذكرناه وجهاً للإجزاء في العبادات والمعاملات، بمعنى العقود والإيقاعات في موارد تغيّر الفتوى أو عدول العامي، أو مثل حديث «لا تعاد» في موارد الإخلال بما يعتبر في الصلاة ممّا لا يدخل في المستثنى الوارد فيه، ويطلب تفصيل المقام ممّا ذكرناه في بحث الاجتهاد والتقليد في وجه الإجزاء.الإجزاء عند تبدّل الفتوى أو العدول: ومجمل ما ذكرنا في ذلك البحث أنّه يحكم على العمل الواقع سابقاً على طبق اجتهاد صحيح، أو على طبق فتوى معتبرة في ذلك الزمان، بالإجزاء في العبادات والمعاملات، بمعنى العقود والإيقاعات السابقة؛ لما علم من مذاق الشارع بجعل هذه الشريعة سهلة سمحة، وأنّه لم يعهد في الشريعة أن يأمر الائمّة (عليهم السلام) من كان يعمل على طبق أخبارهم المعتبرة أن يتدارك عمله السابق بمجرّد ظهور خبر أو وروده عنهم (عليهم السلام) فيما بعد، بحيث يقدّم بعد وروده على ما كان يعمل عليه، بل ورد عنهم ما يشير إلى إجزاء ذلك العمل، ففي موثّقة محمد بن مسلم عن أبي عبداللّه(عليه السلام)قال: «قلت له: ما بال أقوام يروون عن فلان وفلان عن رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) لا يتّهمون بالكذب، فيجيء منكم خلافه؟ قال: إنّ الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن»(1)، فإنّ التعبير عن الحديث الآتي من قبلهم بالناسخ للحديث عن رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله)وتنزيله الحديث منزلة القرآن في وقوع النسخ فيه يشير إلى إجزاء العمل السابق قبل ورود الحديث الناسخ، فإنّ النسخ في المقام، وإن لم يكن بمعناه المعروف بل المراد منه التقييد والتخصيص، إلاّ أنّ العمل بالكتاب قبل ورد المخصّص أو المقيّد عليه كما كان يجزي كذلك العمل بالحديث قبل ورود الحديث اللاحق، ويؤيّد ذلك الإجماعات المنقولة في المقام على الإجزاء حيث قال في العروة: «فإذا أفتى المجتهد الأوّل بجواز الذبح بغير الحديد مثلا، فذبح حيواناً كذلك، فمات مجتهده، وقلّد من يقول بحرمته، فإن باعه أو أكله حكم بصحّة البيع وإباحة الأكل، وأمّا إذا كان الحيوان المذبوح موجوداً فلا يجوز بيعه ولا أكله»، وقال قبل ذلك«وكذا لو أوقع عقداً أو إيقاعاً بتقليد مجتهد يحكم بصحّته، فإن مات وقلّد من يقول ببطلانه، يجوز له البناء على الصحّة.نعم يجب عليه العمل بمقتضى فتوى المجتهد الثاني فيما يأتي»(2).ولا يخفى أنّ ما ذكره من الفرق بين الذبح بغير الحديد وبين العقد السابق لا يصحّ، إلاّ بأن يقال المتيقّن من التسالم على الإجزاء، موارد العبادات السابقة والعقود والإيقاعات، ويبقى غيرها تحت القاعدة المشار إليها آنفاً في الأصل الأولي على القول بالطريقية في الامارات واعتبار الأُصول من عدم الإجزاء.ثمّ إنّه يقع الكلام في أنّه لو قلنا بإجزاء الأعمال السابقة على طبق الفتوى السابقة، فيما إذا انكشف خلافها بالفتوى اللاّحقة، فهل تكون تلك الأعمال مجزية بالإضافة إلى غير العامل أيضاً ممّن يكون الطريق المعتبر عنده على خلاف تلك الأعمال، مثلا إذا تيمّم الإمام لصلاته في مورد، يرى الغير أنّه يتعيّن في ذلك المورد الوضوء جبيرة، فهل يجوز ـ لمن يكون الحكم عنده كذلك ـ الائتمام بصلاة هذا الإمام الذي يصلّي بالتيمّم، بدعوى أنّه إذا كانت صلاة الإمام مجزية بحيث لا يجب عليه تداركها بالإعادة والقضاء بعد كشف الخلاف عنده بتبدّل فتواه أو رجوعه إلى المجتهد الآخر، تكون صلاته مع التيمّم المفروض كالصلاة مع الخلل في الموارد التي تدخل في المستثنى منه من حديث «لا تعاد»، وكما أنّه يجوز الاقتداء فيها مع علم المأموم بخلل صلاة الإمام بما لا يضرّ الإخلال به في صحّتها في حقّه، فكذلك الحال في الفرض، أو أنّه لا يجوز للغير ممن يقوم الطريق المعتبر عنده على بطلان عمله واقعاً ترتّب أثر الصحيح على تلك الأعمال؟ الصحيح هو الثاني، وذلك لأنّ الحكم بالإجزاء في الأعمال السابقة بالإضافة إلى العامل، ليس بمعنى صحّتها واقعاً، بل معنى الإجزاء إبقاء فتواه السابقة أو فتوى المجتهد السابق على الاعتبار بالإضافة إلى تلك الأعمال في حقّ العامل؛ ولذا لو كان كشف الخلاف في الفتوى السابقة مع الواقع كشفاً وجدانياً لم تكن مجزية، ولزم تدارك الواقع الفائت، فلا يقاس الإجزاء فيها بموارد الخلل في الصلاة، ممّا يدخل في المستثنى منه من الحديث، فإنّ الصحّة في تلك الموارد واقعية؛ ولذا لا تجب إعادة الصلاة ولا قضائها بالكشف الوجداني للخلل.وبالجملة غاية ما يستفاد ممّا تقدّم ـ من أنّ لزوم التدارك في موارد تبدّل الفتوى أو الرجوع الى المجتهد الآخر ينافي كون الشريعة سهلة وسمحة وقيام السيرة المتشرعة الجارية على عدم التدارك فيما إذا وقعت الأعمال السابقة عن تقليد أو اجتهاد صحيح في العبادات والمعاملات من العقود والإيقاعات ـ هو بقاء الفتوى السابقة أو الاجتهاد السابق على الاعتبار بالاضافة إلى العامل فحسب، وكذا فيما أشرنا إليه من الرواية، فتدبّر.قد يقال: إنّه يستثنى ممّا ذكر من عدم ترتيب أثر الصحيح لمن يرى بطلان ذلك العمل بحسب اجتهاده أو تقليده موردان: أحدهماالنكاح، فإنّه إذا عقد على امرأة بعقد صحيح عندهما بحسب تقليدهما، فلا يجوز للغير الذي يرى بطلانه اجتهاداً أو تقليداً تزويجها بعد ذلك بلا طلاق صحيح، بدعوى أنّ المرأة من الأوّل خليّة؛ لبطلان العقد على رأيه.الثانيالطلاق فإنّه إذا طلّق زوجته بطلاق يرى صحّته، كما إذا أنشأه ببعض الصيغ مما أفتى بعض بصحّة إنشائه بها، ويرى الغير بطلان ذلك الطلاق، فيجوز له التزويج بتلك المرأة بعد انقضاء عدّتها.والدليل على ترتيب الأثر في الموردين ـ مضافاً إلى السيرة المستمرّة ـ ما يستفاد ممّا ورد في أنّ «لكلّ قوم نكاح» وما ورد في قاعدة الإلزام.ولكن لا يخفى ما فيهما، إذ دعوى السيرة المستمرّة في موارد الحكم الظاهري لم تثبت، وما ورد في أنّ لكلّ قوم نكاح أو في قاعدة الإلزام لا يستفاد منهما إجزاء النكاح أو الطلاق الواقع على طبق الحجّة المعتبرة عند العامل، بالإضافة إلى من تكون الحجّة المعتبرة عنده على خلافها، وكذلك الحال في الميراث.نعم إذا كان النكاح والطلاق أو الميراث عند قوم مخالفاً لما عندنا، فهو مجرى السيرة وقاعدة الإلزام لا ما إذا كان عند مجتهد مخالفاً لما عند مجتهد آخر.[3] كان كلامه (قدس سره) في الأُصول العملية والامارات التي تكون مقتضاها إحراز قيود متعلّق التكليف جزءاً أو شرطاً، نفياً أو إثباتاً.وأمّا التي مقتضاها إحراز التكاليف المستقلّة، فلا يوجب الالتزام بالسببيبة فيها الإجزاء، ولو قامت أمارة على وجوب فعل، وكان الواجب في الواقع غيره، فلا يوجب قيامها عدم لزوم تدارك الواقع بعد انكشافه، حيث إنّ غاية اعتبارها أنّ قيامها أوجب صلاح ذلك الفعل لا سقوط الواجب الواقعي عن صلاحه، إلاّ فيما كانت الأمارة القائمة على وجوب فعل دالّة على عدم وجوب ذلك الواجب الواقعي، كما في مثل الأمارة القائمة على وجوب القصر أو الجمعة في يومها، فإنّها بالملازمة تنفي وجوب التمام أو الظهر لقيام الضرورة، ولا أقلّ من الإجماع على عدم وجوب الأزيد من الصلوات الخمس في اليوم والليلة على كلّ مكلّف، فإنه في الفرض يحكم بالإجزاء على مسلك السببية، حتّى مع كشف الخلاف في الوقت، حيث إنّه لو وجب التدارك لزم وجوب الأزيد من الصلوات الخمس على المكلّف.[4] مراده (قدس سره) أنّه يمكن أن يكون الجزم بوجوب فعل في مورد، مع الغفلة عن الواجب الواقعي في ذلك المورد، موجباً لحدوث تمام مصلحة الواقع في ذلك الفعل، فلو أتى به حال الغفلة عن الواجب الواقعي لا يبقى مجال لتدارك الواجب الواقعي بعد زوال الجزم؛ لأنّ المفروض تدارك مصلحته بالفعل الذي جزم بوجوبه.وكون فعل في حال الغفلة عن الواجب الواقعي كذلك وإن كان ممكناً إلاّ أنّه لا يمكن أن تكون مصلحة الواقع في ذلك الفعل مطلقة، (يعني ولو في غير حال الغفلة عن الواجب الواقعي) وإلاّ كان تخصيص الوجوب بذلك الفعل وعدم جعله تخييريّاً بينهما بلا موجب.نعم، يمكن أن يكون الفعل الذي جزم بوجوبه خطأً مشتملا على بعض ملاك الواجب مطلقاً، ولو في غير حال الغفلة عن الواجب الواقعي، ومع ذلك لا يتعلّق به الوجوب لا تعييناً ولا تخييراً بين الفعلين والفعل الواحد؛ لأنّ مع الإتيان به أوّلا لا يمكن تدارك الباقي بالإتيان بالفعل الآخر؛ ولذا عمّم (قدس سره)الاشتمال على مقدار من المصلحة بقوله«ولو في غير هذا الحال».وبالجملة اشتمال فعل على تمام ملاك الواجب الواقعي حال الغفلة عنه أو على بعض ملاكه مطلقاً، مع عدم إمكان استيفاء الباقي، أمر ممكن، ولكن هذا لا يرتبط ببحث إجزاء الإتيان بالمأمور به الظاهري عن الواقعي؛ لأنّ القائل بالإجزاء في المأمور به الظاهري لا يلتزم بالإجزاء بالإتيان بما اعتقد أنّه الواجب الواقعي، كما أنّ القائل بعدم الإجزاء في الإتيان بالمأمور به الظاهري يلتزم بالإجزاء في موارد كون الاعتقاد بوجوب فعل موجباً لحدوث مصلحة الواقع فيه، أو كونه واجداً لبعض ملاك الواجب الواقعي ولم يمكن مع الإتيان به تدارك الباقي فيما قام دليل خاصّ على ذلك، كإجزاء كلّ من الجهر والإخفات في موضع الآخر، وكالتمام في صورة الجهل بوجوب القصر.[5] كأنّ هذا الأمر ردّ على من ذكر أنّ الالتزام بإجزاء المأمور به الظاهري ـ حتّى بعد انكشاف الخلاف ـ يلازم التصويب في الأحكام والتكاليف الواقعية، ويظهر من صدر كلامه (قدس سره) إلى ذيله أنّ التصويب الباطل هو ما كان يستتبع خلو الواقعة عن الحكم الواقعي الإنشائي في حقّ الجاهل، وإنّ هذا لا يلزم من الالتزام بالإجزاء، فإنّ معنى خلو الواقعة عن الحكم الواقعي في حقّ الجاهل هو أن لا يكون في حقّه حكم إلاّ مؤدّى الأمارة أو مقتضى الأصل، بحيث لو أُغمض عن تلك الأمارة أو الأصل لم يكن في الواقع للواقعة حكم في حق الجاهل أصلا، والقول بالإجزاء لا يلازم ذلك؛ لأنّ الحكم الواقعي المشترك بين العالم والجاهل في مرتبة الإنشاء محفوظ، ولا يختصّ بالعالم، ولكنّ هذا الحكم الإنشائي لا يصل إلى مرتبة الفعلية في ظرف قيام الأمارة أو وجود الأصل العملي على خلافه، بلا فرق في ذلك بين الالتزام بالإجزاء أو عدمه، فالقائل بعدم الإجزاء متّفق مع القائل بالإجزاء على عدم الفعلية في التكليف الواقعي في مورد الأصل أو ظرف قيام الأمارة فيما لو خالفا الواقع، والفرق أنّ الأوّل يقول بصيرورته فعليّاً بعد انكشاف الخلاف ويلزم التدارك، والقائل بالإجزاء يقول بأنّه لا يصير فعليّاً؛ إمّا لحصول الملاك، أو لعدم إمكان استيفاء الباقي، وعليه فكيف يكون الإجزاء موجباً للتصويب، أي خلّو الواقعة عن الحكم، وأن لا يكون في حقّ الجاهل حكم غير مؤدّى الأمارة ومفاد الأصل، مع أنّ الجهل بخصوصية الواقعة أو بأصل حكمها موضوع لاعتبار الأمارة والأصل، وما دام لم يفرض أنّ في الواقعه حكماً لا يتم الموضوع للأصل أو لاعتبار الأمارة.أقولالتصويب تارة يكون باختصاص الأحكام الشرعية والتكاليف الواقعية بالعالمين بها، بأن يكون المجعول الواقعي قاصراً عن الشمول للجاهلين بها ولايكون في حقّ غير العالمين إلاّ مقتضى الأصل أو مدلول الامارة، وهذا النحو من التصويب منسوب إلى الأشعري، ولازمه أخذ العلم بالحكم في موضوع ذلك الحكم، وأُخرى بأن يكون الحكم المجعول في الوقائع بنحو الاقتضاء، يعني اعتبر التكليف والحكم في حقّ المكلّف مطلقاً ما لم يكن مقتضى الأصل أو الأمارة على خلافه، ومع مخالفة مقتضاهما له يكون الحكم الثابت هو مقتضى الأصل أو مدلول الامارة، وهذا النحو من التصويب منسوب إلى المعتزلي، والإجزاء المتقدّم في بعض الأُصول العملية كما التزم به الماتن (قدس سره)ولو مع دعوى الطريقية في مفادها، يلازم هذا النحو من التصويب، كما أنّ الالتزام بالسببية في الامارات يوجبه أيضاً، فإنّه إذا اقتضى الأصل تحقّق قيد متعلّق التكليف وقيل إنّ الأصل المفروض حاكم على أدلّة شرائط متعلّق التكليف، وأنّه يوجب التوسعة فيه واقعاً تكون الطهارة المعتبرة في الصلاة ـ في حال الشكّ فيها ـ أوسع من الطهارة الواقعية، وكذلك القول في الأمارة القائمة على الشرط بناءاً على السببية، وكذا فيما قامت الأمارة بناءاً عليها على تكليف مستقلٍّ، كما إذا قامت الأمارة على وجوب القصر مع كون الحكم المجعول الأوّلي فيه هو التمام، فإنّه لا محالة يتقيّد وجوب التمام تعييناً في ذلك المورد، بما إذا لم تقم الأمارة على وجوب القصر، ومع قيامها إمّا يسقط وجوب التمام رأساً، أو يكون وجوبه حال قيام الأمارة المفروضة تخييرياً، وبالجملة الحكم المجعول أوّلا يتبع الصلاح والملاك ومع عدم انحصار الملاك في وجوب التمام عند قيام الأمارة على خلافه يكون تخصيص الوجوب التعييني بالتمام بلا ملاك.وبتعبير آخركما أنّ طريان الإكراه أو الاضطرار على الحرام الواقعي أو ترك الواجب الواقعي يوجب انتهاء تلك الحرمة أو ذلك الوجوب، فيكون الثابت بعد طريان أحدهما الحلّية، كذلك قيام الأمارة المخالفة للواقع بناءاً على السببية أو كون مفاد الأصل في مورد على خلافه يوجبان انتهاء الحكم الواقعي.وهذا التصويب المعتزلي يلازم القول بالسببيّة في اعتبار الأمارات والأُصول، كما أنّ القول بالسببية يلازم الإجزاء، فالتزامه (قدس سره) بالإجزاء في موارد بعض الأُصول العملية يلازم القول بالسببية في مفادها الموجبة للتصويب لا محالة.نعم الالتزام بالإجزاء في موارد بعض الأمارات ـ على ما ذكره في التذنيب الأوّل ـ لا يلازم التصويب بالنحو الأوّل ولا بالنحو الثاني؛ لأنّ المفروض في مواردها أنّ العمل على مفاد الأمارة هو الذي يلازم حدوث الملاك في الفعل لا قيام الأمارة بحكم ذلك الفعل، فقيام الأمارة على وجوب القصر في مورد وجوب التمام أو على وجوب الظهر في مورد وجوب الجمعة لا يوجب حدوث الصلاح في القصر أو الظهر، كما هو مقتضى القول بالسببية في اعتبار الأمارة، بل القصر والظهر بعد قيام الأمارة على وجوبهما باقيان على ما هما عليه من عدم الملاك، وأنّ المصلحة الملزمة تكون في التمام أو في الجمعة، إلاّ أنّ الإتيان بالقصر أو الظهر يلازم حدوث مصلحة فيها تسدّ مكان صلاح التمام أو الجمعة، ويعبّر عن هذا الأمر بالمصلحة السلوكية، ولكن هذا النحو من المصلحة أيضاً يوجب التقييد في المجعول الأوّلي بأن ينشأ الوجوب في ذلك المورد ما دام لم يأتِ المكلف بالقصر وينشأ وجوب الجمعة مادام لم يعمل بأمارة وجوب الظهر.وذلك لأنّ إنشاء الحكم والتكليف بفعل يكون لغرض إمكان كونه داعياً للمكلّف إلى العمل عند وصوله إليه، فالإنشاء لداع آخر ـ كالتعجيز والاستهزاء ـ لا يدخل في الحكم والتكليف، وإذا فرض عدم الملاك في التمام بعد الإتيان بالصلاة قصراً أو في الجمعة بعد الإتيان بالظهر، يكون جعل الوجوب المتعلّق بهما مطلقاً لغواً.وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ الإجزاء فيما إذا أتى بفعل باعتقاد وجوبه أو قيام الأمارة على وجوبه وإن كان لا يلازم التصويب بالنحوين، فإنّ التصويب ـ كما ذكرنا ـ تغيير الحكم الواقعي في ظرف ثبوت مدلول الأمارة أو مفاد الأصل.ومن الظاهر أنّه في الفرض يثبت الحكم الواقعي على ما هو عليه من غير تغيير في ظرف قيام الأمارة على الخلاف، وإنّما يكون سقوط الحكم الواقعي بعد العمل بمدلول الأمارة من أجل عدم إمكان امتثاله لا لسبب آخر.وعليه فالالتزام بعدم وجوب الإعادة على المسافر الجاهل بالقصر بعد ما صلّى تماماً ثمّ علم بوجوب القصر عليه، ليس التزاماً بالتصويب، وهكذا في مسألة الجهر في موضع الإخفات وبالعكس، ولكن لو قلنا بالمصلحة السلوكية المعبّر عنها بالطريقية المخلوطة فقد يقال إنّها أيضاً توجب التصويب لا محالة (أي التبدّل في الحكم الواقعي) فيما لو كانت المصلحة السلوكية بحيث يتدارك بها مصلحة الواقع، فإنّه إذا قامت الامارة على وجوب صلاة الظهر يوم الجمعة، وكان الواجب بحسب الواقع صلاة الجمعة، وقيل بأنّ قيام الأمارة لا يوجب المصلحة في صلاة الظهر، بل العمل بتلك الأمارة والالتزام بأنّ مدلولها حكم من قبل الشارع، يشتمل على مصلحة يتدارك بها ما فات بترك الواجب الواقعي، فإنّه مع انكشاف الخلاف قبل خروج الوقت وإن لزم الإتيان بالواجب الواقعي لعدم فوته، إلاّ أنّه إذا لم ينكشف الخلاف إلاّ بعد الوقت لم يجب القضاء، باعتبار أنّ مصلحة الجمعة في الواقع متداركة بصلاة الظهر المأتي بها بعنوان العمل بالأمارة.فاللازم أن يكون التكليف الواقعي متعلّقاً بأحد أمرين إمّا بالجمعة أو الإتيان بالظهر بعنوان العمل بالأمارة مع فرض عدم انكشاف خلافها، هذا بالإضافة إلى من قامت الأمارة عنده على وجوب صلاة الظهر، وأمّا في حقّ من لم تقم عنده هذه الأمارة فالواجب في حقّه صلاة الجمعة خاصّة، فليس وجوب صلاة الجمعة تعييناً بمشترك بين العالم والجاهل، كما هو مبنى القول ببطلان التصويب حتّى المنسوب إلى المعتزلي وغيره.لا يقالفي موارد كشف الخلاف بعد الوقت يتدارك مصلحة الفعل في الوقت لا مصلحة نفس الفعل؛ لئلاّ يلزم تداركه بالقضاء.فإنّه يقاللا سبيل لنا إلى العلم بتعدّد الملاك الملزم في الفعل في الوقت ليلتزم بوجوب القضاء مع انكشاف الخلاف في خارج الوقت، والأمر بالقضاء على من فاته الواقع لايكشف عن ذلك، فلعلّ الملاك في الفعل خارج الوقت قد حصل بعد خروج الوقت في حقّ من لم يدرك مصلحة الفعل في الوقت، ولذا من تدارك مصلحة الفعل في الوقت لا يجب عليه العمل بالأمارة، فيلزم على القول بالمصلحة السلوكية الالتزام بالإجزاء بالإضافة إلى القضاء.وبالجملة الالتزام بالمصلحة السلوكية يوجب التغيير والتبدّل في الحكم الواقعي بالإضافة إلى من لا ينكشف خلاف الأمارة له أصلاً، أو حتّى فيما إذا انكشف خلافها عنده بعد خروج الوقت، كما في فرض وحدة الملاك الملزم في الفعل في الوقت وحدوث ملاك ملزم آخر في ذات الفعل بعد خروجه في حقّ من فات عنه الملاك الملزم الذي كان في الفعل في الوقت لا مطلقاً، كما لا يخفى.فقد تحصّل أنّ القول بالإجزاء يوجب التقييد في التكليف الواقعي بعدم الإتيان بمؤدّى الأمارة فيما إذا لم يمكن تدارك مصلحة الواقع بعد العمل بها من غير أن يكون في العمل بها مصلحة شخصية، وإلاّ لزم التبدّل والتغيّر في الحكم الواقعي كما مرّ.ولا يخفى أيضاً أنّه إنّما يلزم من الالتزام بالإجزاء تقييد الحكم الواقعي بعدم العمل بمدلول الأمارة المخالفة فيما إذا التُزم بالإجزاء في مورد كشف الخلاف وجداناً، كما في مسألة التمام في موضع القصر والإخفات أو الجهر في موضع الآخر.وأمّا إذا التزمنا بالإجزاء في خصوص كشف الخلاف بأمارة معتبرة، كما في موارد تبدّل الفتوى، أو عدول العامي إلى مجتهد آخر، فلا يلزم من الالتزام بالإجزاء التقييد في التكليف الواقعي أصلاً، فإنّ معنى الإجزاء في هذه الموارد بقاء الأمارة السابقة على اعتبارها بالإضافة إلى الأعمال السابقة وعدم اعتبار الأمارة الحادثة إلاّ بالإضافة إلى الأعمال الآتية؛ ولذا لو كان كشف الخلاف في الأمارة السابقة وجداناً كان يجب تدارك العمل السابق والعمل على الوظيفة الواقعية.لا يقال: من أين علمنا أنّ الأحكام الواقعية في الوقائع والتكاليف الشرعية المجعولة في حقّ المكلّفين لم تقيّد بعدم الإتيان بمؤديّات الطرق والأمارات القائمة على خلافها، حتّى نلتزم بلزوم التدارك، فيما إذا انكشف الخلاف مطلقاً، أو في خصوص الإنكشاف الوجداني؟ فإنّه يقالنكتشف عدم التقييد من الأوامر الواردة بالاحتياط في الدين والوقائع المبتلى بها، حتّى مع قيام الأمارة فيها على تعيين الأحكام والتكاليف بنحو خبر العدل والثقة وغيرهما، مما يحتمل مخالفتها مع الواقع، كما يأتي الكلام في ذلك في بحث شرائط العمل بالأصل إن شاء اللّه تعالى، كما أنّ إطلاق هذه الأخبار ينفي التصويب حتّى المنسوب منه إلى المعتزلي.بقي في المقام أمرٌ وهو أنّ ما ذكره الماتن (قدس سره) من عدم فعلية الحكم الواقعي في مورد قيام الأمارة على خلافه ـ سواء قيل بالإجزاء أم لا ـ ينافي ما اختاره في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي في مبحث حجية الامارات.وقد ذكرنا أنّ الفعلية بالمعنى الذي التزم به وجعلها من مراتب الحكم أمرٌ غير صحيح، وليست الفعلية في التكليف المجعول على نحو القضية الحقيقية إلاّ تحقّق الموضوع لذلك التكليف المجعول خارجاً، وبينّا أنّ الفعلية في التكليف الواقعي مع جهل المكلّف به لا ينافي الحكم الظاهري، حيث إنّ الحكم واقعياً كان أو ظاهرياً، مجعول اعتباري يكون منافاته مع المجعول الآخر، إمّا في الملاك أو في الغرض من الجعل، والحكم الظاهري والواقعي يختلفان في الغرض ولا يتنافيان في الملاك، ولتفصيل الكلام مقام آخر.(1).الوسائلج 18، باب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 4.(2).العروة الوثقىج 1، مسألة 53، من كتاب الاجتهاد والتقليد.المهم المبحوث عنه في هذه المسألة البحث عن الملازمة[1].ومنها تقسيمها إلى الداخلية[2].ثمّ إنّه ينبغي خروج الأجزاء عن محلّ النزاع[3].وقد ذكر لها أقسام أُطيل الكلام في تحديدها[4].ومنها تقسيمها إلى مقدّمة الوجود ومقدّمة الصحة، ومقدمة الوجوب ومقدّمة العلم[5].مقدمة الواجب[1] المبحوث عنه في هذه المسألة هي الملازمة بين إيجاب شيء وإيجاب مقدّمته، وأنّ التفكيك بين إيجاب شيء وإيجاب مقدّمته ممتنع أم لا، وليس المراد من وجوب المقدّمة وجوبها المولوي التفصيلي، بأن يكون القائل بوجوبها مدّعياً عدم تحقّق الأمر بشيء إلاّ مع الأمر بمقدّمته أيضاً، ليقال كثيراً ما لا يكون الآمر عند أمره بشيء ملتفتاً إلى مقدّمته، فضلا عن أمره بها أيضاً.بل المراد الوجوب المولوي الارتكازي، بمعنى أنّ الآمر على تقدير لحاظ مقدّمة الشيء هل يعتبر الوجوب لها أيضاً أم لا؟ ويعبّر عن هذا الوجوب بالتبعي وهو على تقدير ثبوته غيري، بمعنى أنّ تعلّقه بما ينطبق عليه عنوان مقدّمة الواجب يكون لغرض الوصول بها إلى ذلك الواجب، لا لتعلّق غرض بنفسها مع الإغماض عن ذيها.وحيث إنّ نتيجة البحث عن الملازمة تقع في طريق الاستنباط تكون المسألة أُصولية؛ إذ بناءاً على الملازمة يكون ثبوتها موجباً للعلم بوجوب الوضوء ونحوه في قياس استثنائي، فيقاللو كان الشيء واجباً وجبت مقدّمته أيضاً، ولكنّ الصلاة تجب عند الزوال فتجب مقدّمتها أيضاً من الوضوء وتحصيل الساتر وتطهير الثوب والبدن إلى غير ذلك.وظاهر بعض عبارات الأصحاب أنّ المبحوث عنه في المسألة نفس وجوب المقدّمة لا الملازمة بين وجوب ذيها ووجوبها، حيث ذكر في عنوان البحث أنّ ما لا يتمّ الواجب إلاّ به، واجب، وعليه لا تكون المسألة أُصولية، بل تكون فرعيّة، فإنّ البحث عن وجوب المقدّمة كالبحث عن وجوب الوفاء بالنذر، ووجوب طاعة أمر الوالد وغيرها من المسائل الفرعية.وقد ذهب السيّد الأُستاذ (قدس سره) إلى أنّ البحث في مقدّمة الواجب من المبادئ الاحكاميّة(1).وفيهأنّ المبادئ إمّا تصوّرية أو تصديقيّة، والأُولى هي التي يكون البحث فيها عن نفس موضوعات مسائل العلوم أو محمولاتها، كالبحث عن المراد من الفاعل أو المفعول أو الحال أو التمييز من موضوعات مسائل علم النحو، أو البحث عن المراد من الرفع أو النصب من محمولاتها.والثانية ـ يعني المبادئ التصديقية ـ هي التي يحرز بها ثبوت المحمولات في مسائل العلم لموضوعاتها، وبتعبير آخربما أنّ مسائل العلم نظرية تحتاج إلى الواسطة في الإثبات ـ كنتائج المسائل الأُصولية بالاضافة الى المسائل الفقهية ـ فتكون نتائج مسائل علم الأُصول وسائط في إثبات المسائل الفقهية.فإن أُريد أنّ البحث في المقدمة من المبادئ التصديقية لعلم الفقه فهو صحيح، كما هوالحال في جميع المسائل الأُصولية، وإن أُريد من المبادئ الاحكامية نفس المبادئ التصوّرية لعلم الفقه، أو معنىً آخر مستقلاًّ عنهما، فلا يمكن المساعدة عليه، بل لا نتصوّر للمبادئ الاحكامية معنى في مقابل المبادئ التصورية والتصديقية.نعم، بناءاً على ما اشتهر بينهم، والتزم به الماتن (قدس سره)، من أنّ مسائل العلوم تكون بمفاد كان الناقصة، حيث يبحث في مسائل العلم عن العوارض الذاتية لموضوع العلم المنطبق على موضوعات مسائله، انطباق الكلي على مصداقه والطبيعي على فرده، يشكل جعل بحث الملازمة بين إيجاب شيء وإيجاب مقدّمته من مسائل علم الأُصول، فإنّ الملازمة إن كانت بعينها حكم العقل فيكون البحث عن ثبوت الملازمة بحثاً بمفاد كان التامّة، حيث يبحث عن ثبوت موضوع علم الأُصول الذي عدّ منه حكم العقل أو عن ثبوت مصداقه وإن كانت أمراً واقعياً يكشف عنه العقل، فيمكن أن يتكلّف في المقام بأنّ البحث عنها بحث عن كشف العقل عن ذلك الأمر الواقعي، ولكن المذكور في عنوان البحث الذي هو المعيار في دخول المسألة في مسائل العلم هو البحث عن أصل ثبوت الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّمته.وأمّا بناءاً على ما ذكرنا ـ من أنّ المعيار في كون مسألة من مسائل العلم هو ترتّب الغرض منه عليها، سواء كان البحث فيها بمفاد كان التامّة أو الناقصة ـ فلا كلام في كون البحث في المقام بحثاً عن مسألة أُصولية، وقد تقدّم ترتّب استنباط الحكم الشرعي على نتيجة المسألة في قياس استثنائي.ومنه ظهر أنّ المسألة ليست من مباحث الألفاظ من علم الأُصول، كدلالة صيغة الأمر أو مادّته على الوجوب أو الفور أو المرة، بل المسألة عقلية وأنّ الكلام في ثبوت الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّمته بمعنى أنّ العقل هل يرى إمكان تفكيك المولى وجوب الشيء عن وجوب مقدّمته أو لا؟ فلا تكون المسألة من مباحث الألفاظ، كما يظهر من كلام صاحب المعالم (قدس سره)، حيث استدلّ على نفي الملازمة بانتفاء الدلالات الثلاث، وذكرها في مباحث الألفاظ.وبالجملة، فالمهمّ في المقام هو البحث عن الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّمته فإنّ ثبوتها موجب للعلم بوجوب مثل الوضوء عند وجوب الصلاة على ما مرّ، وأمّا الدلالة اللفظية فلا يترتّب على انتفائها عدم وجوب الوضوء عند وجوب الصلاة؛ لإمكان ثبوت الملازمة بين إيجاب شيء وإيجاب مقدّمته من غير دلالة خطاب الأمر بذي المقدّمة على وجوب مقدّمته، بل للملازمة، ومعها تكون المقدّمة واجبة بوجوب ذيها.ولو كان ثبوت الملازمة بين الإيجابين محلّ مناقشة، فاللازم هو البحث عنها لترتّب المطلوب من المسألة الأُصولية عليها، لا البحث عن ثبوت الدلالة اللفظية للأمر بذي المقدّمة أو عدمها، بل عدم دلالة الأمر بشيء على وجوب مقدّمته بالدلالة اللفظية أمرٌ واضح لا ينبغي البحث عنه.المقدمة الداخلية والخارجية[2] المراد بالمقدّمة الداخلية هي الداخلة في متعلّق الوجوب النفسي، كأجزاء المركّب المتعلّق به الوجوب.والخارجية هي الخارجة عن ذلك المتعلّق، كالشرائط.ويقع الكلام في هذا الأمر من جهتين: الأُولى: هل أجزاء المركّب مقدّمة له، أو أنّ الجزء بالإضافة إلى كلّه لا يتصّف بالمقدّمة؟ والثانيةأنّه على تقدير كون الجزء مقدّمة للكلّ، فهل يتعلّق به الوجوب الغيري، بناءاً على الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته، أو أنّ المقدّمة الداخلية لا يتعلّق بها الوجوب الغيري، حتّى بناءاً على الملازمة؟ وقد تعرّض (قدس سره) لما قيل في الجهة الأُولى من منع كون الجزء مقدّمة للكلّ، بأنّ كون شيء مقدّمة والآخر ذا المقدّمة مقتضاه الاثنينية والتعدّد بينهما، حيث تكون المقدمة سابقة في التحقّق على ذيها والحال أنّ الكلّ بحسب الخارج عين الإجزاء فلا إثنينية بينهما.وأجاب عن ذلك بأنّه لا يعتبر في التعدّد بينهما التعدد الخارجي بأن يكون للمقدّمة وجود ولذيها وجود آخر، بل يكفي التعدّد الاعتباري، وهذا التعدّد متحقّق بين الجزء والكلّ.حيث إنّ الكلّ هو الجزء بشرط سائر الأجزاء، والمقدّمة هي الأجزاء لا بشرط، وبما أنّه قد يتوهّم أنّ هذا الفرق بين الكلّ والجزء ينافي ما ذكر في المعقول من أنّ جزء الطبيعي مع اعتباره «لا بشرط» يكون جزءاً تحليليّاً، كالجنس والفصل، ومع اعتباره «بشرط لا» يكون جزءاً خارجياً، كالهيولى والصورة، تعرّض(قدس سره)لدفع هذا الوهم بما حاصلهأنّ ما ذكر في المعقول من اعتبار الجزء الخارجي «بشرط لا» إنّما هو في مقام التفرقة بينه وبين الجزء التحليلي للماهية كالجنس والفصل، وما ذكرناه من أنّ الجزء الخارجي «لا بشرط» هو في مقام التفرقة بينه وبين الكلّ، حيث إنّ الجزء بالإضافة إلى كلّه يكون «لا بشرط» ومع اختلاف الإضافة لا يكون في البين تناف، وقد تقدّم في بحث المشتقّ بيان المراد من قولهم «لا بشرط» و«بشرط لا» وأنّ مرادهم من «لا بشرط» و«بشرط لا» هناك بالإضافة إلى الحمل، والمراد هنا بشرط سائر الأجزاء ولا بشرط بالإضافة إلى الاجتماع.أضف إلى ذلك أنّ الكلام في المقام في المركّبات الاعتبارية لا الحقيقية لينافي ما ذكروه في التفرقة بين الجنس والفصل وبين الهيولى والصورة «بلا شرط» و«بشرط لا».ولعلّه يشير إلى ذلك بقوله «فافهم».[3] ذكر (قدس سره) أنّ الجزء وإن كان مقدّمة للكلّ إلاّ أنّه ينبغي خروجه عن محلّ الخلاف في بحث الملازمة بين وجوب فعل ووجوب مقدّمته، حيث إنّه لا يتعلّق به الوجوب الغيري ولو على الملازمة، لما تقدّم من أنّ الأجزاء عين الكلّ ذاتاً، والاختلاف بينها وبين الكلّ بالاعتبار، فيكون الوجوب النفسي المتعلّق بالكلّ متعلّقاً بنفس الأجزاء، فلا تكون واجبة بوجوب آخر؛ لامتناع اجتماع المثلين، حتّى بناءاً على جواز اجتماع الأمر والنهي في واحد بعنوانين.وذلك لأنّ الجهة المصحّحة للاجتماع ـ كما سيأتي ـ هي الجهة التقييدية، فمع تعدّدها ـ بأن يكون في فعل جهتان ـ جاز أن يتعلّق به الأمر من جهة، والنهي من جهة أُخرى، وليس عنوان المقدّمة عنواناً تقييدياً؛ لأنّ الوجوب الغيري لا يتعلّق به، حيث إنّ ذا المقدّمة لا يتوقّف على تحقّق عنوان المقدّمة، بل على ما يكون بالحمل الشائع مقدّمة، كالوضوء والغسل وتحصيل الساتر بالاضافة إلى الصلاة.وبما أنّ الجزء يتعلّق به الوجوب النفسي في ضمن تعلّقه بالكل، لسبقه على الوجوب الغيري، فلا يمكن أن يتعلّق به الوجوب الغيري للزوم اجتماع المثلين، نعم عنوان المقدّمة جهة تعليلية، يعني انطباق عنوان المقدّمة على شيء يوجب تعلّق الأمر الغيري به لولا المحذور.وبالجملة وحدة تعلّق الأمر النفسي والغيري مانعة عن تعلّق الوجوبين بالجزء، وبما أنّ الأمر النفسي سابق في المرتبة على الوجوب الغيري، يتعلّق به الأمر النفسي فقط دون الغيري حتّى مع ثبوت ملاك الأمر الغيري أيضاً فيه.أقولمحصّل كلامه في المقام أنّ المقدّمة للكلّ نفس الأجزاء، ولكن لم يلاحظ فيها وصف اجتماعها لا أنّه لا يكون لها اجتماع، وذو المقدّمة هو الكلّ، يعني الأجزاء بلحاظ اجتماعها، وعبّر عن فرض عدم لحاظ الاجتماع بلا بشرط، وعن لحاظ الاجتماع بشرط شيء، وعليه فيكون للكلّ المتألّف من عشرة أجزاء، عشر مقدّمات داخلية؛ لتوقّف الكلّ على كلٍّ منها، ولكن مع ذلك لا يتعلّق بها الوجوب الغيري؛ للزوم اجتماع المثلين من تعلّقه بها.لكن الصحيح أنّ الأجزاء لا تكون مقدّمة لحصول الكلّ، بل الأجزاء عين الكلّ خارجاً، والمقدّمة تقتضي الاثنينية الخارجية؛ وذلك لأنّ الإنسان إذا أراد فعلا وتوقّف حصول ذلك الفعل على أمر آخر في الخارج تتولّد من إرادته لذلك الفعل إرادة أُخرى تتعلّق بذلك الأمر، فيأتي به بداعوية الإرادة المتولدة من إرادته لذلك الفعل، فتكون إرادة الفعل أصلا ومنشأً للإرادة المتعلّقة بذلك الأمر، وبناءاً على الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّمته، حيث إنّ الفعل يتوقّف حصوله خارجاً على أمر آخر، تكون الإرادة الطلبية من المولى المتعلّقة بفعل، منشأً لإرادته الطلبية الأُخرى المتعلّقة بذلك الأمر الموقوف عليه، وهذا التوقّف الخارجي الموجب لحصول إرادة أُخرى من إرادة الفعل، هو الموجب لتعدّد طلب المولى، فهناك طلبان؛ أحدهما بالأصالة والآخر بالتبعية، ومن الظاهر أنّ موارد الكلّ والجزء لا تكون من هذا القبيل؛ إذ من يريد الإتيان بالكلّ يأتي بالأجزاء بنفس تلك الإرادة المتعلّقة بالكلّ، حيث إنّ الكلّ نفس تلك الأجزاء، فيكون الحال في الطلب المولوي المتعلّق بالكلّ أيضاً كذلك، حيث لا يكون في البين موجب لتولّد طلب آخر يتعلق بالأجزاء، فإنّ الأجزاء عين الكلّ، ولا يؤتى بها إلاّ بإرادة الكلّ لا بإرادة أُخرى، وإن شئت قلتتكون الإرادة بالإضافة إلى كلّ جزء ضمنية لا غيرية، فيكون طلبها أيضاً ضمنياً، فما ذكره (قدس سره)من حصول ملاك الوجوب الغيري في الأجزاء أيضاً، لكون الجزء مقدّمة لحصول الكلّ، لا يمكن المساعدة عليه بوجه.والعجب أنّه (قدس سره) أنكر على من زعم أنّ الإتيان بالفرد مقدّمة للإتيان بالطبيعي، وذكر أنّ الطبيعي عين الفرد ولا معنى للمقدّمية، مع أنّ الاختلاف بين الطبيعي وفرده اعتباراً أوضح من اختلاف الأجزاء مع الكلّ؛ لصدق الطبيعي على غير المأتي به، بخلاف الكلّ فإنّه لا يكون إلاّ عين الأجزاء ولا يصدق على غيرها، وكما أنّ الموجد للفرد يأتي به بنفس الإرادة المتعلّق منه بالإتيان بالطبيعي، كذلك الحال بالإضافة إلى الآتي بالمركّب.ولو أُغمض عن ذلك وبني على أنّ الجزء مقدّمة للكلّ وفيه ملاك الوجوب الغيري أيضاً وأنّه لا يمكن اجتماع المثلين، فلم لا يلتزم بتعلّق وجوب واحد مؤكّد، نظير سائر الموارد التي يكون في الفعل ملاكين لوجوبين، فاجتماع الوجوبين بالمعنى الذي ذكره غير لازم، وبمعنى التأكّد لا محذور فيه، بل هو واقع كثيراً، كما إذا نذر المكلّف الإتيان بفريضته اليومية، فإنّ مع النذر يتأكّد وجوبها لا محالة.وما قيل من أنّ التأكّد مع اختلاف الرتبة لا يمكن، فهو كما ترى، إذ اختلاف ملاك الحكمين في الزمان ـ بمعنى عدم إمكان اجتماعهما ـ ينافي التأكّد، وأمّا اختلافهما في الرتبة فلا يمنع التأكّد.أضف إلى ذلك أنّ الإيجاب وغيره من الأحكام أمر اعتباري لا يجري فيه مسألة اجتماع المثلين أو الضدّين، ولا يكون من العرض بالإضافة إلى متعلّقه وموضوعه، بل إن كان عرضاً فهو من فعل المولى، وإنّما لا يمكن اعتبار حكمين على متعلّق واحد باعتبار تنافي ملاكهما، حيث إنّ الحكم يحتاج إلى ملاك غالب أو خالص في متعلّقه أو من ناحية الغرض من جعلهما؛ ولذا لا يمكن ثبوت حكمين متضادّين في متعلّق واحد يكون تضادّهما من حيث الملاك والغرض، وأمّا إذا لم يكن في ناحية الملاكين تناف، ولا في ناحية الغرض تضاد، فلا مانع من اعتبارهما كما في مسألة نذر الفريضة.ثمّ إنّه قد يقال إنّه يترتب على تعلّق الوجوب الغيري بالجزء ـ كتعلّقه بسائر المقدّمات ـ انحلال العلم الإجمالي بالتكليف عند دوران أمر الواجب بين الأقل والأكثر الارتباطيين، كما إذا دار أمر الصلاة بين كون أجزائها تسعة أو عشرة، فإنّه على القول بتعلّق الوجوب الغيري بالأجزاء ينحّل العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بوجوب التسع، إمّا نفسيّاً أو غيريّاً، كما هو ظاهر كلام الشيخ الأنصاري (قدس سره)في ذلك البحث ويكون وجوب الزائد مشكوكاً.ولكن لا يخفى أنّ الأجزاء متعلّقة للوجوب الضمني لا محالة، فيكون تعلّق الوجوب بالأقلّ محرزاً؛ إذ هي إمّا نفس متعلّق الوجوب النفسي إذا كان الواجب هو الأقلّ، أو نفس متعلّق الوجوب الضمني إذا كان الواجب هو الأكثر، ولو كان هذا المقدار من المعلومية موجباً لانحلال العلم لما كان حاجة إلى ثبوت الأمر الغيري بها، وإن لم يكن كافياً فلا يفيد في الانحلال الالتزام بتعلّق الوجوب الغيري بالأجزاء؛ لما ذكروا من أنّ الوجوب الضمني أو الغيري يكون فعليته بفعلية الوجوب المتعلّق بالواجب النفسي لو كان ذلك هو الأكثر، ولو كان فعلية الوجوب المتعلّق بالأقلّ موجباً لعدم فعلية الوجوب النفسي إذا كان متعلّقاً بالأكثر لزم الخلف.مع أنّه يلزم من الانحلال المفروض عدم الانحلال، وذلك فإنّ فعلية وجوب الأقلّ على كلّ تقدير يستلزم عدم فعلية الوجوب النفسي لو كان متعلّقاً بالأكثر، وعدم فعليته يوجب أن لا يكون وجوب الأقل فعليّاً على كلّ تقدير المستلزم لعدم الانحلال، وما يلزم من وجوده عدمه محال.[4] قد ذكر في أقسام المقدّمة الخارجية السبب والمقتضي والشرط وعدم المانع، وأُطيل الكلام في تعريف كلٍّ منها، كما في القوانين وغيرها، إلاّ أنّه لا يترتّب المهمّ ـ وهو ثبوت الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّمته ـ على تحقيق الفرق بين السبب والشرط والمانع.المقدّمة العقلية والشرعية والعاديّةومن تقسيمات المقدّمة، تقسيمها إلى شرعية وعقلية وعادية.أمّا المقدّمة الشرعية فهي ما يتوقّف الواجب على أمر لكون التقيّد به مأخوذاً في الواجب النفسي، كالطهارة بالإضافة إلى الصلاة، فإنّ الطهارة بنفسها وإن لم تؤخذ في متعلّق الأمر بالصلاة إلاّ أنّ تقيّد الصلاة بها داخل في تعلّق الأمر، وتكون نفس الطهارة مقدّمة خارجية شرعية لتوقّف الصلاة المأمور بها عليها شرعاً، ولكن لا يخفى أنّه بعد فرض أخذ التقيّد بالطهارة في متعلّق الأمر بالصلاة يكون توقّف الصلاة المأمور بها عليها عقلياً لانتفاء المشروط والمقيّد بانتفاء شرطه وقيده عقلا.وأمّا المقدّمة العقلية فهي ما يتوقّف الواجب النفسي على أمر من غير أن يكون مأخوذاً فيه لا بنفسه ولا بتقيّده، كتوقّف الحجّ من النائي على السفر، ويطلق على السفر المقدّمة الخارجية العقلية.وأمّا المقدّمة العاديّة فإن أُريد بها ما لا يتوقّف الواجب عليها عقلا، بأن أمكن الإتيان بالواجب فعلا بدونها، ولكن قد جرت العادة على الإتيان بها قبل الواجب، كالأكل والشرب قبل الفجر بالإضافة إلى صوم الغد، فلا وجه لإدخالها في محلّ الكلام في المقام، فإنّه لا يتعلّق به الوجوب المولوي حتّى بناءاً على القول بالملازمة؛ لعدم كونها ممّا يتوقّف عليه الواجب.وإن أُريد منها ما لا يكون الإتيان بالواجب بدونها ممتنعاً ذاتاً، ولكنّ الواجب موقوف عليها فعلا، كنصب السلّم للصعود على السطح لغير المتمكّن من الطيران، وهو الإنسان الموجود المكلّف بالفعل، فهذا القسم داخل في المقدّمة العقلية لامتناع تحقّق الصعود أو الكون على السطح للإنسان فعلا بدون نصب السلّم، ولا فرق بين الكون على السطح الموقوف على نصب السلّم وبين المشي إلى الحجّ من النائي.وبالجملة تنحصر مقدّمة الواجب بالعقلية، غاية الأمر كون شيء مقدّمة عقلية له تارة ينشأ من تقيّد الواجب النفسي بذلك الشيء، كما في توقف الصلاة المأمور بها على الطهارة، وأُخرى من توقّف الواجب النفسي على ذلك الشيء خارجاً من غير أن يؤخذ في الواجب تقيّده به، كالحجّ بالاضافة إلى سفر النائي.المقدّمة الوجودية والعلمية و.[5] لا يخفى أنّ مقدّمة الصحّة ترجع إلى مقدّمة الوجود، ولو على القول بأن أسامي العبادات موضوعة للأعمّ، فإنّ الكلام في المقام في مقدمات الواجب لا في مقدّمات المسمّى بأحد تلك الألفاظ.وإذا كان التقيّد بالطهارة مأخوذاً في متعلّق الوجوب النفسي، تكون الطهارة بنفسها من مقدّمات وجود الصلاة المأمور بها كما مرّ، وهذا الكلام بناءاً على ما ذكرنا في بحث التعبدي والتوصلي من إمكان أخذ قصد التقرّب في متعلّق الأمر بالصلاة ـ مثلا ـ صحيح، فإنّه عليه تنحصر مقدّمة الواجب بمقدّمة الوجود.وأمّا بناءاً على ما سلكه الماتن (قدس سره) وغيره من امتناع أخذ قصد التقرّب في متعلّق الأمر بها تكون مقدّمة الصحّة غير مقدّمة الوجود لا محالة، ويتعيّن تقسيم المقدّمة إلى مقدّمة الوجود وإلى مقدّمة الصحّة، حيث يمكن للقائل بالملازمة نفي الملازمة بين وجوب شيء ومقدّمة صحّته والالتزام بها في خصوص مقدّمة الوجود كما عليه الماتن (قدس سره) أيضاً، فلا وجه لاعتراضه على التقسيم المفروض.نعم ما ذكر في كلماتهم مثالا لمقدّمة الصحّة من الشرائط محلّ نظر، بل منع.وعلى كلّ حال، فمقدّمة الوجوب خارج عن مورد الكلام في المقام، فإنّه لا يمكن أن يتعلّق الوجوب الغيري بتلك المقدّمة، حيث لا وجوب للواجب النفسي إلاّ على تقدير حصولها، وتعلّق الوجوب بها بعد حصولها من طلب الحاصل.وكذلك مقدّمة العلم بحصول الواجب، فإنّ لزوم مقدّمة العلم لا يبتني على الملازمة بين وجوب شيء وجوب مقدّمته، حيث إنّ اللزوم في مقدّمة العلم عقلي لا شرعي، وملاك اللزوم العقلي فيها غير ملاك الوجوب الشرعي الغيري لمقدّمة الوجود، فإنّ المقدّمة العلمية لا تكون مقدّمة لوجود الواجب ضرورة أنّ الصلاة إلى القبلة ـ مثلا ـ لا تتوقّف على الإتيان بها إلى جهتين في مورد اشتباه القبلة فيها، بل إحراز الإتيان بالصلاة إلى القبلة موقوف على تكرارها بالإتيان إليهما، وتحصيل العلم بالإتيان بالمأمور به لازم عقلا؛ للأمن من العقاب، فيكون أمر الشارع به كأمره بالإطاعة لمجرّد الإرشاد إلى ما يستقلّ به العقل في مقام الامتثال من لزوم إحراز سقوط التكليف والفرار من العقاب المحتمل، بخلاف الوجوب الشرعي لمقدّمة وجود الواجب، فإنّه منبعث من وجوب الواجب النفسي على ما تقدّم، وملاكه المقدمية في الوجود والتحقّق، كما لا يخفى.(1).نهاية الأُصول1 / 142.ومنها تقسيمها إلى المتقدّم والمقارن والمتأخّر بالإضافة إلى ذي المقدّمة[1].والتحقيق في رفع هذا الإشكال أن يقال[2].المقدّمة المتقدّمة والمقارنة والمتأخرة[1] قد ذكروا في تقسيمات المقدّمة تقسيمها إلى المتقدّمة والمقارنة والمتأخّرة، وهذا التقسيم بلحاظ زمان حصول المقدّمة بالإضافة إلى زمان حصول ذيها، وبما أنّه لا ينبغي التأمّل في أنّه لا يحصل المعلول إلاّ بحصول علته بتمام أجزائها، ضرورة أنّ المؤثر في المعلول علّته، ففرض شيء من أجزاء العلة، وفرض حصول المعلول قبله، غير ممكن، حيث أنّه لو لم يكن ذلك الشيء مؤثّراً ودخيلا في حصول المعلول لزم الخلف، وإن كان مؤثراً أو دخيلا لزم تأثير المعدوم في حصول الشيء.الشرط المتأخّروعلى ذلك، فقد أشكل الأمر في موارد قد ثبت فيها من الشرع كون شيء شرطاً للمأمور به أو التكليف أو الوضع، مع أنّه متأخّر في الوجود عن زمان وجود المأمور به، أو التكليف، أو الوضع، كالأغسال الليليّة المعتبرة عند بعض في صحّة صوم المستحاضة، فإنّ الصوم يتحقّق في اليوم وينتهي بدخول الليل مع أنّ شرطه ـ وهو الغسل ـ يكون في الليل بعد انقضاء اليوم.ومنها كون الإجازة شرطاً في العقد الفضولي بنحو الكشف، فإنّ الملكية تحصل من حين العقد، مع أنّ شرط حصولها وهو الإجازة توجد بعد حين، وكالوضوء من ماء قد وقف على الوضوء للصلاة في المسجد، فإنّ جواز الوضوء منه يحصل من قبل مع أنّ شرط الجواز ـ وهو الصلاة في المسجد ـ يحصل بعد ذلك.والمذكور في الكلمات وإن كان التعرّض للإشكال في الشرط المتأخّر إلاّ أنّ الماتن (قدس سره)قد أجراه في المقتضي أو الشرط المتقدّم أيضاً، فإنّ ملاك الاستحالة المزعومة في المتقدّم والمتأخّر أمرٌ واحد، وهو تحقّق الشيء مع عدم ما يتوقّف عليه.وليس المراد أنّه لو كان الشيء من أجزاء العلّة فلا يمكن تحقّقه قبل وجود المعلول بزمان، بل المراد أنّه لابدّ في تأثيره ودخله من بقائه إلى زمان تحقّق سائر أجزاء العلّة، إلاّ إذا كان السابق من قبيل المعد، بأن يكون السابق مقدّمة لللاحق، كالصعود على السطح بالسلّم، فإنّ التدرّج في السلّم للكون على السطح لأجل أنّ الصعود على الدرج الأوّل مقدّمة للكون على الدرج الثاني، والصعود من الثاني مقدّمة للكون على الدرج الثالث وهكذا، والتدريجية في مثل ذلك لا بأس بها، بل لابدّ منها لامتناع الطفرة.والمراد من تقدّم العلّة على المعلول بجميع أجزائها هو التقدّم رتبة المصحّح لدخول الفاء على المعلول، بأن يقال(وجدت فوجد) لا التقدّم بحسب الزمان، وإلاّ تخلّف المعلول عن علّته التامّة.[2] قد قسّم (قدس سره) موارد توهّم انخراج القاعدة العقلية إلى قسمين؛ الأوّل: أن يكون المتقدّم أو المتأخّر شرطاً للتكليف أو الوضع، يعني الحكم الوضعي، والثانيما يكون المتقدّم والمتأخّر شرطاً في متعلّق التكليف.الأول؛ شرط الحكموحاصل ما ذكره في دفع الإشكال في القسم الأوّل هو أنّ الدخيل في ثبوت التكليف أو الوضع لحاظ ما يسمّى شرطاً لا تحقّقه الخارجي، ليقال بأنّ المتأخّر أو المتقدّم لا يؤثّر ولحاظهما كلحاظ الشرط المقارن مقارن لجعل التكليف، أو اعتبار الوضع وانتزاعه.وبتعبير آخربما أنّ الحكم فعل اختياري للحاكم يكون صدوره عنه موقوفاً على انقداح الداعي في نفسه إلى جعله، وليس الداعي له إليه ما يطلق عليه الشرط بوجوده الخارجي، بل بوجوده اللحاظي، ويكون لحاظه مقارناً لجعل الحكم، سواء كان وجوده الخارجي متقدّماً على الحكم أو متأخّراً أو مقارناً، بلا فرق في ذلك بين الحكم التكليفي والوضعي.وناقش في هذا الدفع المحقّق النائيني (قدس سره) وبنى على امتناع الشرط المتأخّر للتكليف أو الوضع.وحاصل مناقشته: أنّ جعل الحكم على نحوين: النحو الأوّلأن يجعله على وجه الإطلاق بمفاد القضية الخارجية، كما إذا أحرز المولى الصلاح في كون عبده خارج البلد في زمان خاصّ لاستقبال ولده من سفره، فيأمره بالذهاب إلى خارج البلد في ذلك الزمان من غير تعليق واشتراط، فيكون الحكم في هذه الصورة فعلياً حتّى لو فرض عدم قدوم ولده من سفره في ذلك الزمان كما إذا كان اعتقاد المولى بقدومه مخطئاً، لأنّ فعلية الحكم في هذا النحو من الجعل لا تكون مسبّبة عن تحقّق قدوم ولده خارجاً، بل يكون اعتقاده ولحاظه داعياً للمولى إلى طلبه وحكمه.وبالجملة الدخيل في هذا النحو من الطلب هو اللحاظ والاعتقاد بحصول الشيء، وهذا حاصل مقارناً للجعل والطلب، ولا عبرة بحصول نفس الملحوظ في المستقبل، فلا مجال لتوهّم انخرام القاعدة العقلية في نظائره.وأمّا النحو الثاني: فهو أن يجعل الحكم بمفاد القضية الحقيقية معلّقاً على حصول شرط، كالمثال فيما إذا كان حكمه بالكون في خارج البلد معلّقاً على مجيء الولد في ذلك الزمان، بأن كان الجعل بمفاد القضية الحقيقية، وفي هذا الفرض تكون فعلية الحكم دائرة مدار تحقّق الشرط خارجاً، ولو أحرز العبد قدوم الولد في ذلك الزمان لزم عليه الكون خارج البلد، ويكون قدومه كاشفاً عن فعلية الحكم من الأوّل، والشرط المتأخّر بهذا المعنى غير ممكن؛ لأنّ الدخيل في فعلية الحكم وجود الشرط وتحقّقه خارجاً، وكيف يثبت الحكم ويكون فعلياً في زمان مع عدم حصول شرطه فيه؟ وبتعبير آخرالإشكال في المجعول بنحو القضية الحقيقية وشرائط فعلية الحكم لا في شرائط جعله، وإلاّ فشرط الجعل ـ ومنه كون الفعل الذي يعتبره واجباً ذا مصلحة ـ يكون أيضاً باللحاظ واعتقاد المولى ولو بنحو الخطأ، فما ذكره في الكفاية خلط بين شرائط الجعل وشرط فعلية المجعول(1).أقوللا يخفى ما فيه، فإنّ فعلية الحكم المجعول بنحو القضية الحقيقية تابعة لكيفية الجعل، ولكن الشرط بوجوده الخارجي ـ كقدوم الولد في المثال ـ غير مؤثّر في فعلية الحكم؛ إذ فعلية الحكم كانت على تقدير حصول الشرط في المستقبل لكون الجعل بهذا النحو وعدم فعليته على تقدير عدم حصوله إنّما هو لعدم الجعل على تقدير العدم في الحال.وبالجملة لا مانع من لحاظ المولى عند الجعل أمراً متقدّماً أو متأخراً أو مقارناً وجعل الحكم على تقدير حصول ذلك الأمر بمعنى أن تكون فعليّة الحكم تابعة لحصول الشرط المفروض على النحو الذي لاحظه، ولو كان الوجوب المعتبر من أوّل اليوم على تقدير حصول ذلك الأمر في آخره إلاّ أنّ الشرط لا يكون مؤثّراً في فعلية الحكم ليقال بأنّ المعدوم لا يؤثّر، بل كما ذكرنا فعلية الحكم على تقديره تخضع للجعل على ذلك التقدير، وعدم جعله على تقدير آخر.وممّا ذكرنا يظهر الحال في الوضع وأنّه لا مانع من اعتبار الملكية ـ مثلا ـ في العقد الفضولي من حين حصول العقد على تقدير إجازة المالك ولو بعد حين بنحو القضية الحقيقية.وما يقال من أنّ الحكم لا يتقدّم على موضوعه، وشرائط الحكم كلّها راجعة إلى قيود الموضوع، غير سديد، فإنّ الحكم لا يكون معلولا ولا عرضاً لموضوعه فيما كان أمراً إنشائياً، كما هو الفرض في المقام، ولا بأس بتقدّمه على الموضوع زماناً مع كون اعتباره وجعله على هذا النحو.نعم، ظاهر خطاب الحكم فيما إذا لم يقترن بقرينة داخلية أو خارجية اتّحاد زمان الحكم والموضوع في الفعلية فيحتاج رفع اليد عن هذا الظهور إلى قرينة خاصة؛ ولذا التزمنا في العقد الفضولي بالكشف الحكمي حيث إنّ ظاهر الأدلّة أن إمضاء المعاملة مقارن لحصول استنادها إلى المالك ورضا من يعتبر رضاه بها.والمتحصّل أنّه لا فرق في الحكم المجعول بنحو القضية الخارجية والحقيقة من جهة توقّف الفعلية فيهما على ثبوت الجعل، وإنّما الفرق بينهما في أنّ فعلية المجعول بنحو القضية الخارجية بنفس الجعل فقط، وفي المجعول بنحو القضية الحقيقة بحصول ما علّق الحكم عليه خارجاً على النحو الذي اعتبره في الجعل.وممّا يترتب على ذلك أنّ شخصاً لو اعتقد في جماعة أنّهم أصدقائه وأذن لهم في دخول داره بأن قال: (ادخلوا داري) أو: (فليدخل كل منكم داري) فيجوز لكلّ منهم الدخول ولو لم يكن في الواقع من أصدقائه، بخلاف ما إذا قال(فليدخل داري منكم من كان صديقاً لي) فإنّه لا يجوز الدخول إلاّ لمن كان صديقاً له.فقد ظهر ممّا ذكرنا أنّه ليس المراد بالحكم المجعول بنحو القضية الحقيقية هي كلية الحكم وبالمجعول بنحو القضية الخارجية القضية الشخصية بأن يوجه التكليف بفعل إلى شخص معيّن، فإنّه يمكن أن تكون القضية الشخصية حقيقية من جهة قيد التكليف كما مثّلنا.والمعيار في كون القضية حقيقية عدم جعل الحكم بنحو الإطلاق، بل على تقدير تحقّق أمر أو أُمور سواء كان الحكم كلّياً أو شخصياً، بخلاف القضية الخارجية من جميع الجهات فإنّه لا تقييد ولا تعليق فيها بجهة من جهات الحكم، فكلّ جهة فرضها المولى وجعل الحكم مقيداً بها، تكون فعلية المجعول على تقدير فعلية ذلك الأمر سواء كان الحكم شخصياً أو كليّاً.لا يقالكلّ ما هو شرط الحكم المجعول بنحو القضية الحقيقية أو كلّ ما أحرزه المولى من الأمر المتأخّر بكونه شرطاً في حكمه بنحو القضية الخارجية إمّا أن يكون لوجود المتأخّر دخالة في صلاح الحكم المجعول أو لا، بأن يكون للحاظ ذلك الأمر المتأخّر تمام الدخل في صلاح الحكم تكليفاً أو وضعاً دون وجوده ولا أظنّ أن يلتزم أحد به؛ ولذا لو أخطأ المولى وجعل الحكم بنحو القضية الخارجية باعتقاد حصول ذلك المتأخّر ولم يحصل، لم يكن لحكمه أيّ صلاح، وإذا كان الدخيل في صلاحه وجود ذلك الأمر المتأخّر فكيف يكون في حكمه صلاح مع أنّ ذلك المتأخّر لم يحصل، فيعود محذور تأثير المعدوم في الموجود.فإنّه يقالإنّما الإشكال كان في ثبوت الحكم متقدّماً أو متأخّراً مع عدم الشرط حال ثبوته، لتقدّمه أو تأخّره، وقد أجبنا عن ذلك بأنّ ثبوته كذلك يخضع لكيفية جعله، وقد فرض أنّ الدخيل في جعله لحاظه، فالمتأخّر أو المتقدّم بلحاظه دخيل في جعل المولى ودخيل في فعلية الحكم إذا كان الجعل بنحو القضية الحقيقة، ودخله بهذا النحو إنّما كان لتعليق المولى اعتباره على حصوله متقدّماً أو متأخراً، ودخالته ليس بمعنى التأثير، بل بمعنى ثبوت الجعل على ذلك التقدير.وأمّا مسألة صلاح الحكم، فقد يأتي الكلام فيه في الشرط المتقدّم أو المتأخّر للمأمور به إن شاء اللّه تعالى، إذ الدخالة في الصلاح لا يفرق فيه بين صلاح الحكم وصلاح متعلّق التكليف، غاية الأمر متعلّق التكليف فعل العبد، والحكم فعل المولى، واتّصافهما بالصلاح وعدمه على حدٍّ سواء، وإذا صحّحنا دخالة المتأخّر والمتقدّم في صلاح الفعل من غير لزوم انخرام القاعدة العقلية يصحّ تصوير الدخل في صلاح الحكم أيضاً بعين الوجه المفروض.(1).أجود التقريرات1 / 224.وأمّا الثاني فكون شيء شرطاً للمأمور به[1].ولا يخفى أنّها ـ بجميع أقسامها ـ داخلة في محلّ النزاع[2].الأمر الثالثفي تقسيمات الواجب، منها تقسيمه إلى المطلق والمشروط[3].وأمّا حديث عدم الإطلاق[4].وأمّا حديث لزوم رجوع الشرط إلى المادة لبّاً[5].الثاني؛ شرط المتعلّق[1] وحاصله أنّ إطلاق شرط المأمور به على أمر من فعل أو غيره ليس إلاّ باعتبار أنّه يحصل لمتعلّق التكليف بالإضافة إليه عنوان حسن، ويحسن متعلّق التكليف بتعنونه بذلك العنوان، مثلا ضرب اليتيم باعتبار مقارنته بقصد تأديبه يتعنون بعنوان التأديب، وبه يكون حسناً ويتعلّق به الغرض، ومع عدم مقارنته به لا يكون حسناً، بل يكون قبيحاً، وليس ذلك إلاّ لأجل أنّ إضافة الضرب إلى القصد المفروض يوجب تعنونه بعنوان التأديب الذي يكون الفعل به حسناً عقلا وشرعاً، ومن الظاهر كما أنّ إضافة الفعل إلى أمر مقارن يوجب تعنونه بعنوان حسن، كذلك إضافته إلى أمر متأخّر أو متقدّم يوجب ذلك، نظير الكذب، فإنّه يكون حسناً ويتعلّق به الغرض بالإضافة إلى نجاة النفس عن الهلاكة المتحقّقة بعده ولو فيما بعد، فإنّ الكذب بالإضافة إلى ترتّبه عليه فيما بعد يتعنون بعنوان حسن.وبالجملة، إذا كان المتأخّر أو المتقدّم شرطاً للمأمور به فهو باعتبار أنّ إضافة الفعل إلى المتأخّر أو المتقدّم توجب تعنون الفعل بعنوان حسن من زمان الإضافة لا من زمان حصول الشرط، وليس نفس ما يسمى شرطاً بمؤثّر في العنوان الحسن، بل الموجب له الإضافة الحاصلة من قبل وإنّما يتأخّر طرف الإضافة.لا يقاللا يمكن حصول الإضافة قبل حصول طرف الإضافة المتأخّر أو بعد انقضاء المتقدّم، فإنّه من قبيل حصول الشيء المعلّق بلا متعلّق وقيام الإضافة بالمعدوم؛ لأنّ المفروض أنّ الإضافة فعليّة مع أنّ طرفها ـ يعني المتقدّم أو المتأخّر ـ معدوم.وبتعبير آخرالمضاف والمضاف إليه متضائفان، والمتضائفان متكافئان في الفعلية والقوة.فإنّه يقالهذا غير شبهة تأثير المعدوم في الموجود، والشبهة التي توهم انخرام القاعدة العقلية قد ارتفعت بما تقدّم من أنّ إطلاق الشرط على قيود المأمور به ليس بحسب معناه المصطلح في المعقول الذي هو من أجزاء العلّة التامّة ليقال إنّ المعلول لا يتقدّم على علّته ولا يتأخّر عنها زماناً، وما ذُكر شبهة أُخرى وهي قيام الإضافة وفعليّتها الموجبة لصلاح الفعل، مع أنّ أحد طرفيها غير فعلي، فيكون من فعليّة العرضي بلا فعلية معروضه وفعلية الأمر الانتزاعي بلا فعلية منشأ انتزاعه.وهذه الشبهة أيضاً موهومة؛ إذ كما أنّ أجزاء الزمان يتّصف فعلا بعضها بالتقدّم وبعضها بالتأخّر مع أنّ الجزء الآخر منه غير موجود، كذلك الصوم في النهار من المستحاضة يتّصف بأنّه يتعقّبه الغسل في الليل، مع أنّ الغسل في الليل غير موجود في النهار، وكما أنّ الجزء المتأخّر من الزمان لو لم يتحقّق لما كان السابق متّصفاً بالتقدّم، كذلك الغسل في الليل لو لم يتحقّق لما كان الصوم في النهار متّصفاً بالتعقب بالغسل في الليل، فيكون معنى كون الغسل في الليل شرطاً لصوم النهار أخذ التقيد به في متعلّق الأمر بالصوم، والتقيّد المفروض واقع التعقب لا عنوانه، وهذا بخلاف كون شيء جزءاً لمتعلّق الأمر، فإنّ ما يطلق عليه الجزء بنفسه مأخوذ في متعلّق الأمر النفسي.وربّما يقال كما عن المحقق الاصبهاني (قدس سره) أنّ ظرف اتّصاف الصوم بوصف تعقّبه الغسل هو الخارج وليس من قبيل الاتصاف بالكلية والجزئية والجنسية ونحوها، ممّا يكون ظرف الاتصاف فيها الذهن إلاّ أنّ اتصاف الصوم بالتقدّم أو اتصاف الغسل بالتأخّر لا ينشأ عن خصوصية خارجية زائدة على أصل وجود موصوفه.وتقريره أنّ الإضافة بين المتضائفين قد تحصل لخصوصية زائدة في كلّ من الموصوفين كما في العاشقية والمعشوقية، فإنّ للعاشق عشق وفي المعشوق كمال، وقد تحصل لخصوصية في أحدهما فقط، كالعالمية والمعلومية، والخصوصية هي العلم للعالم، وقد لا تكون خصوصية زائدة في شيء من الموصوفين كالمتيامن والمتياسر وثاني الاثنين وثالث الثلاثة، وما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ نفس الصوم في النهار لو لوحظ مع الغسل في الليل لاستلزم تعقّلهما تعقّل عنوانين متضائفين، ولكنّ هذا لا يدفع الإشكال؛ لانّ المتضائفين متكافئان في القوة والفعلية وأنّ ما لم يكن اتصاف المتأخّر بالتأخّر لايتصف الصوم بالتقدّم عليه.ولا يقاس بالزمان، فإنّ تقدّم جزء الزمان على جزئه الآخر ذاتي، حيث إنّ الزمان الوحداني وجوده تدريجي، فالتكافؤفي أجزائه إنّما هو لاتصالها ووحدة وجودها، بخلاف التقدّم في الصوم والتأخّر في الغسل؛ إذ ليس الاتصاف بهما بالذات بل بالعرض بتبع الزمان، فما دام لم يكن للغسل تأخّر لم يكن للصوم في النهار تقدّم، بمقتضى التكافؤفي المتضائفين في الفعلية والقوة، وعلى ذلك فإن كان الصلاح في الصوم المتصفّ بالتقدّم، يكون للمتأخّر دخل في ذلك الصلاح، ويعود محذور دخالة المتأخّر في المتقدّم.وذكر في آخر كلامه هذا فيما إذا كان الصلاح حقيقياً، وأمّا إذا كان اعتبارياً كالاحترام والتعظيم، فلا بأس باعتباره فعلا على تقدير حصول المتأخّر في ظرفه نظير ما تقدّم في اعتبار الحكم على تقدير حصول المتأخّر في ظرفه(1).أقوللو صحّ تقدّم الجزء من الزمان وأنّ له عند حصوله تقدّم ذاتي فيكون الصوم المتقيّد به أيضاً كذلك بالإضافة إلى المتقيّد بجزئه الآخر، فإنّه لا فرق بين كون الذاتي لنفس الشيء أو لقيده.والمتحصّل أنّ الدخالة في اتصاف الشيء بعنوان انتزاعي غير تأثيره في تحقّق المتصّف بذلك العنوان، بمعنى استناد وجود المتّصف إليه، فمثلا تحقّق المعلول في رتبته، له دخالة في اتصاف شيء بالعلية له بحيث لو لا المعلول لما كان الشيء متّصفاً بالعلية له، ولكن من الظاهر أنّ العلة لا تستند في حصولها إلى المعلول، وإلاّ لم يحصلا، وعلى ذلك فحصول المتأخّر في ظرفه له دخل في اتّصاف الصوم في النهار بتعقّبه به، إلاّ أنّ تحقّق الصوم في النهار لا يستند إلى الغسل في الليل، بل اللازم حصول الإضافة التي لا تحقّق لها إلاّ تحقّق طرفيها عند فعلية كلّ منهما في ظرفه، لا فعليته في غير ظرفه.لا يقالالمتضائفان متكافئان في القوة والفعلية.فإنّه يقالالتضائف بين الوصفين لا بين الموصوفين، ففي فرض اتصاف الصوم بالتقدّم يكون وصف التأخّر للغسل في الليل فعلياً، كما أنّ اتصاف اليوم بالتقدّم واتصاف الغد بالتأخر فعليّان في هذا اليوم.وذكر النائيني (قدس سره) إنّ النزاع في الشرط المتأخّر والمناقشة فيه لا يجري في شرط المأمور به؛ وذلك لأنّ شرط المأمور به المتأخّر زماناً كالجزء الأخير من العمل لا يكون مورد المناقشة، كذلك الشرط المتأخّر، حيث إنّه في أي زمان تحقّق الشرط يتمّ المشروط من ذلك الزمان، كما هو الحال في الجزء الأخير، فيحصل الكلّ من حين حصول ذلك الجزء لا قبله.لا يقالبين الجزء الأخير والشرط الأخير فرق، فيمكن الأوّل دون الشرط المتأخّر، فإنّ الجزء بنفسه يتعلّق به الأمر النفسي، فما دام لم يتحقّق لا يتمّ العمل، بخلاف الشرط فإنّ الداخل في متعلّق الأمر النفسي هو التقيّد لا نفس القيد.وعليه فيقع الكلام في مورد الشرط المتأخّر في أنّه لو كان التقيّد المأخوذ في متعلّق الأمر النفسي حاصلا قبل حصول الشرط يلزم دخالة الشيء وتأثيره حال عدمه؛ إذ المفروض أنّ الشرط حين حصول التقيّد غير موجود، وإن حصل التقيّد بعد وجود الشرط يلزم قيام الإضافة بطرف واحد، حيث إنّ التقيّد في حقيقته إضافة، وأحد طرفيها الشرط وهو موجود، والطرف الآخر وهو الفعل معدوم؛ لانقضائه بانقضاء اليوم على الفرض.فإنّه يقالالتقيّد أمر انتزاعي لا يتعلّق به الأمر النفسي، بل الأمر النفسي يتعلّق بمنشأ انتزاعه وهو الشرط؛ ولذا يعتبر أن يكون الشرط المتأخّر للمأمور به مقدوراً؛ إذ مع خروجه عن الاختيار لا يصلح شرط ـ سواء كان حصوله قطعياً أم لا ـ فإنّه مع حصوله قطعاً يكون أخذه قيداً في متعلّق الأمر لغواً، ومع عدم حصوله يلزم توقّف الامتثال على أمر غير اختياري.والحاصل أنّه لا فرق بين الجزء الأخير والشرط المتأخّر للمأمور به، إلاّ كون الجزء بنفسه وبتقيّده دخيلا في متعلّق الأمر بخلاف الشرط، فإنّه دخيل فيه بتقيّده فقط(2).وفيه أنّ المفروض في الشرط المتأخّر للمأمور به حصول التقيّد قبل حصول ما يطلق عليه الشرط المتأخّر، وهذا التقيّد في حقيقته إضافة كما ذكرنا، وحصولها للفعل إنّما هو بإضافة الفعل إلى المتأخّر، بحيث يكون حصول المتأخّر في ظرفه كاشفاً عن حصول تلك الإضافة للفعل من الأوّل.وما ذكر (قدس سره) من عدم إمكان تعلّق الأمر بالانتزاعي، بل يتعلّق بمنشأ انتزاعه، صحيحٌ، ولكن منشأ انتزاع التقيّد في باب الشروط هي الحصة التي يتعلق بها الأمر النفسي، وتكون تلك الحصة منحلّة بنظر العقلي إلى الطبيعي وتقيّده بما يسمّى بالشرط، ولو تعلّق الأمر النفسي بنفس الشرط بطل كونه شرطاً وانقلب إلى كونه جزءاً، ولم يمكن أن يتعلّق به الأمر الغيري حتّى بناءاً على القول بالملازمة، وقد تقدّم جواز كون الشرط خارجاً عن الاختيار، حيث يكفي في جواز الأمر بالحصة كون الحصة مقدورة، وإلاّ جرى الحكم في الشرط المتقدّم والمقارن أيضاً.[2] يعني مقدّمة الوجود للواجب بجميع أقسامها من المتقدّم والمقارن والمتأخّر مورد الخلاف في بحث الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّمته، فإنّه بناءاً على الملازمة يتعلّق بما يطلق عليه المقدّمة وشرط الواجب، الوجوب الغيري.لا يقالتعلّق الوجوب الغيري بما يطلق عليه الشرط المتأخّر للواجب وإن لم يكن فيه إشكال، إلاّ أنّ الوجوب الغيري حيث يتبع الوجوب النفسي في الحصول فبعد انقضاء ظرف الواجب النفسي ـ كما في انقضاء النهار في صوم المستحاضة ـ إمّا أن يلتزم ببقاء الوجوب الغيري أو بسقوطه، فإن التزم ببقائه فكيف يكون تبعياً وترشحياً مع سقوط الواجب النفسي، وإن قيل بسقوطه أيضاً كالوجوب النفسي، فكيف يثبت الوجوب الغيري من الأوّل؟ لعدم إمكان داعويته إلى متعلّقه في ظرف الواجب النفسي لعدم التمكّن عليه ولا بعده لسقوطه تبعاً للنفسي، ولو مع التمكّن على الإتيان بمتعلّقه.والإشكال في الشرط المتقدّم آكد فيما كان لوجوب الواجب النفسي شرط لم يحصل في ظرف الإتيان بالشرط المتقدّم، فإنّه كيف يتعلّق الوجوب الغيري بالمقدّمة مع عدم فعلية الوجوب النفسي، كما في وجوب الغسل على الجنب في الليل مقدّمة لصوم الغد بناءاً على اشتراط فعلية وجوب الصوم بالفجر.ولا يجدي الالتزام ببقاء الوجوب النفسي المتعلّق بالصوم إلى أن ينقضي زمان التمكّن على الاغتسال من الليل أو إلى أن يغتسل في الليل، فإن اغتسلت المرأة في الليل يسقط كلّ من الأمر النفسي والغيري بالامتثال والموافقة، وإن لم تغتسل سقطا بالعصيان والمخالفة.فإنّه يقاللا يمكن الالتزام ببقاء الوجوب النفسي بعد انقضاء النهار، لأنّه لم يتعلّق بالاغتسال في الليل ليعقل بقائه إلى حصول تمام متعلّقه، بل يبقى مراعى إلى تحقّق شرطه، فإنّ المرأة لو اغتسلت في الليل يكون اغتسالها كاشفاً عن سبق تحقّق الصوم وتقدّمه على الاغتسال عند انقضاء زمان الصوم، فلا معنى لبقاء التكليف بالصوم بعده، وإن لم تغتسل فيكشف عن عدم سبق الصوم على الغسل وأنّ التكليف قد سقط عند انقضاء النهار بالعصيان.أقولوجوب المقدّمة بناءاً على الملازمة وإن كان غيريّاً تبعيّاً إلاّ أنّه ليس المراد من التبعية حصول وجوب المقدّمة بلا إنشاء بمعنى حصوله قهراً، نظير تبعية الحرارة للنار، بل المراد أنّ إرادة إنشاء الوجوب للمقدّمة عند التفات المولى إلى كونها مقدّمة تحصل بتبع إرادته إنشاء الوجوب لذيها، وعليه فلا مانع من إنشاء الوجوب للمقدّمة بحيث يبقى بعد انقضاء ظرف الإتيان بذيها، لئلاّ ينطبق بالإتيان بمتعلّق الوجوب الغيري عنوان العصيان على سقوط الأمر بذيها في السابق، بل ينطبق عليه عنوان الامتثال، وكذلك الحال في الشرط المتقدّم، كأمر الجنب بالاغتسال في الليل لئلاّ يكون التكليف بالصوم عند طلوع الفجر من التكليف بغير المقدور، بل سيأتي أنّه لو صحّ جعل الوجوب الغيري من المولى، فهو في مثل هذه الموارد، وليس هذا من الوجوب النفسي التهيّئي، كما ذكر في بعض الكلمات، فلاحظ.[3] ينقسم الواجب إلى المطلق والمشروط، وقد ورد في كلماتهم لكلّ منهما تعاريف تختلف بحسب القيود المأخوذة فيها، وأُطيل الكلام فيها بالنقض والإبرام في اطّرادها وانعكاسها بما لا فائدة في التعرّض لها؛ لأنّ كلاًّ من التعاريف من قبيل شرح الاسم، ولا يدخل في الحدّ أو الرسم، لكون الفعل واجباً مطلقاً أو مشروطاً بالاعتبار، والأمر الاعتباري لا يقبل الحد ولا الرسم.والظاهر أنّه ليس للاصوليين ـ في كون الواجب مطلقاً أو مشروطاً ـ اصطلاح خاصّ، بل يطلقان على الواجب بما لهما من المعنى العرفي، كما أنّ وصفي الإطلاق والتقييد ليسا بوصفين حقيقيين، بمعنى أنّ الواجب في نفسه مطلق أو مشروط، بل اتصافه بهما يكون بالإضافة إلى أمر، فإن كان ذلك الأمر دخيلا في وجوبه بأن يكون قيداً لذلك الوجوب كان واجباً مشروطاً بالإضافة إليه، وإن لم يكن ذلك الأمر قيداً لوجوبه كان بالإضافة إليه واجباً مطلقاً، ومنه يظهر ما في اتصاف الواجب بهما من التسامح، إذ الوجوب في الحقيقة يكون مشروطاً أو مطلقاً لا الواجب، وعلى ذلك فيمكن أن يكون الوجوب بالإضافة إلى أمر مطلقاً فيسمّى الواجب مطلقاً، وبالإضافة إلى أمر آخر مشروطاً فيسمّى الواجب مشروطاً.ولا ينبغي التأمّل في أنّ ظاهر القضية الشرطية هو كون مفاد الشرط قيداً لمفاد الهيئة في الجزاء وأنّ قول المولى مثلا (إن جائك زيد فأكرمه) كون مجيئه في المثال قيداً لطلب إكرامه، لا أنّ وجوبه وطلبه مطلق، والشرط قيد للواجب، كما في الواجب المعلّق، ويزيد ذلك وضوحاً أنّ استعمال مثل قوله (إن توضأت فصلّ) في مقام طلب الصلاة المقيّدة بالطهارة غير صحيح، بل يقال في ذلك المقامصلّ متوضأً، أو مع الوضوء.ولكن المنسوب إلى الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره) أنّ رجوع القيد إلى مفاد الهيئة صوري ولا يكون الشرط قيداً لمعنى الهيئة واقعاً وحقيقة؛ لامتناع كونه قيداً لمفاد الهيئة.وذكر في وجه الامتناع أنّ التقييد عبارة عن تضييق دائرة المعنى وإلغاء التوسعة عنه، ولا يكون ذلك إلاّ في المعاني التي في أنفسها كلّيات، والطلب المُنشأ بالصيغة، بل حتّى المُنشأ بالمادة جزئي وفرد من الطلب، فلا يكون القيد (أي الشرط) راجعاً إلى الوجوب المُنشأ، بل يرجع إلى الواجب، فإنّ عنوانه إسمي قابل للتقييد والتضييق.وبتعبير آخرالوجوب المُنشأ بصيغة إفعل أو بغيرها يحصل بالإنشاء، وبعد فرض حصوله لا يبقى مجال لتقييده؛ لأنّ الموجود الحاصل لا يقيّد، وعليه فإن فرض الإنشاء فالوجوب حاصل، ومعه فلابدّ من إرجاع القيد إلى متعلّق الوجوب، بأن يكون الوجوب المتحقّق متعلّقاً بالإكرام الخاصّ، وهو إكرامه عند مجيئه، وإن لم يحصل فهو خلاف فرض إنشائه، ولازمه تفكيك الإنشاء عن المُنشأ، وهو باطل قطعاً.ثمّ ذكر (قدس سره) أنّه يكون الشرط من قيود المادة لبّاً أيضاً، ومراده أنّ ما تقدّم من أنّ المنشأ بصيغة إفعل فرد وجزئي، والجزئي لا يقبل التقييد، مقتضاه رجوع الشرط في مقام الإنشاء إلى تقييد الفعل، لا إلى مفاد الهيئة والأمر (أي الطلب الحقيقي)، فإنّ الإرادة لا تقبل التقييد، فإنّ العاقل عندما يلاحظ الفعل إمّا أن يريده أو لا يريده، وعلى الأوّل فإمّا أن يريده مطلقاً أو على تقدير خاص ومقيّداً، وعلى الثاني فالقيد مهما كان لابدّ من أن يكون راجعاً إلى المراد لا إلى نفس الإرادة، إذ لو كان القيد غير اختياري فلابدّ من دخله في المراد بنحو لا يتعلّق به الطلب بأن يكون المراد الفعل المقارن لحصوله، وإذا كان اختيارياً فقد يكون دخالته في المراد أيضاً بنحو لا يتعلق به الطلب الغيري، بأن يكون المراد الفعل المقارن لوجوده الاتفاقي.والمراد بالوجود الاتفاقي ما يكون المكلّف مطلق العنان بالإضافة إلى حصول القيد، بخلاف ما كان المراد الفعل المقارن له بحيث يكون على المكلف إيجاد ذلك القيد وتحصيله ليفعل ما هو المراد(3).[4] وحاصل ما ذكر (قدس سره) في الجواب عن عدم الإطلاق في معنى الهيئة، هو أنّ مفاد الهيئة نفس الطلب وهو باعتبار كونه من الكلي الطبيعي قابل للتقييد حتّى بعد إنشائه، فإنّ المنشأ يعمّ حال وجود الشرط وعدمه، فيقيّد بما إذا حصل الشرط، كالتقييد في سائر المطلقات الواردة في الخطابات، وقد مرّ أنّ المعنى الحرف كمعنى الاسم يكون كليّاً قابلا للصدق على كثيرين، كما في قوله (سر من البصرة)، غاية الأمر يلاحظ المعنى في مقام الاستعمال في الحرف آلياً، وفي الاسم استقلالياً، وهذا اللحاظ لم يؤخذ في ناحية المستعمل فيه، لا في الاسم ولا في الحرف.وبالجملة تقييد مفاد الهيئة وتضيق دائرته بالشرط بمكان من الإمكان.ولو سلم أنّ المنشأ فرد من الطلب ولا يقبل التقييد إذ الفردية تحصل بالإنشاء ولا يمكن تقييده بعد الإنشاء فلا يمنع عن إنشاء الطلب من الأوّل مقيّداً وتكون الدلالة على الطلب المقيّد بدالّين، كما هو مفاد القضية الشرطية.وبتعبير آخر: غاية ما يمكن أن يقالهو إنّه كما لا يمكن تقييد الملكية بعد إنشائها ولكن لا يمنع ذلك عن إنشائها من الأوّل مقيّدة بتعدّد الدالّ والمدلول، بأن يقول إنشاءاً (هذا لك إن كان كذا)، كذلك الحال في إنشاء الطلب المدلول عليه بالهيئة، فإنّ الطلب المنشأ بالهيئة لا يزيد في الإنشاء على الملكية المنشأة باللام في قوله (هذا لك إذا مّت).ولا يخفى أنّ ما ذكره (قدس سره) في الجواب يرجع إلى أمرينأحدهما أنّ انتزاع الكلية من المعنى بحيث يصدق على كثيرين لا يتوقّف على لحاظه استقلالا، وأنّ قول القائل (أطلب منك ضرب زيد) وقول الآخر (إضرب زيداً) لا يختلفان في أنّ المستفاد من لفظ الطلب في الأوّل ومن الهيئة في الثاني نفس الطلب المنتزع منه الكلية، بحيث يعمّ حال مجيء زيد وعدمه، غاية الأمر يلاحظ نفس ذلك المعنى في موارد استعمال لفظ الطلب فيه استقلالا، وفي مورد استعمال الهيئة آليّاً، من غير أن يكون اللحاظ مأخوذاً في المستعمل فيه ودخيلا في انتزاع الكلية منه على ما تقدّم في معاني الحروف.الثاني لو لم يمكن إنشاء طبيعي الطلب بصيغة إفعل أو بمادة الطلب مطلقاً، يعني بلا قيد، ثمّ تقييده بالشرط، بدعوى أنّ الطلب بالإنشاء يكون شخصاً اعتبارياً والجزئي لا يقبل التقييد، فلا ينبغي التأمّل في أنّ تقييد طبيعي الطلب بالشرط قبل الإنشاء ثمّ إنشاء الطلب المقيد بتعدّد الدالّ والمدلول أمرٌ ممكن، وعلى ذلك فعدم فعلية الطلب قبل فعلية الشرط ليس من تفكيك المنشأ عن إنشائه، بل حصول المنشأ قبل حصول شرطه تفكيك بينهما، لأنّ المنشأ قبل الشرط وفي فرض عدمه خارجاً لم ينشأ ولو حصل قبله لكان من حصول المنشأ بلا إنشائه، والإنشاء لا يزيد على الإخبار، فإنّه كما يمكن الإخبار بشيء بنحو التعليق والتقييد، كذلك الأمر في الإنشاء.أقولإن أُريد من تقييد الطلب أنّه إذا ورد في الخطاب (أكرم زيداً) في مقام إنشاء النسبة الطلبية المتعلّقة بضرب زيد، ثمّ ورد في خطاب آخر (ليس عليك إكرام زيد إذا لم يجئك) فيجمع بين الخطابين فيما إذا لم يكن المتكلّم ممّن يتصوّر في حقّه الندم عمّا أنشأه أوّلا، بأنّ مراده الاستعمالي من الخطاب الأوّل ولو كان طلب إكرام زيد جاء أو لم يجىء، إلاّ أنّ مراده الجدّي كان طلب إكرامه على تقدير مجيئه، فهذا التقييد أمرٌ ممكن وهو الجاري أيضاً في التقييد في المعاني الإسمية.وإن أُريد من التقييد أن يكون مراده الاستعمالي من الخطاب الأوّل طلب إكرام زيد جاء أو لم يجىء، ثمّ أراد أن يبدّل نفس المراد الاستعمالي لا الجدّي، فهذا أمرٌ غير ممكن، سواء في معنى الهيئة أو المعاني الإسمية، والممكن هو التقييد في المراد الاستعمالي بنحو تعدّد الدالّ والمدلول من الأوّل، أو بنحو الاستعمال العنائي والمجازي حتّى في الخطابات المتضمّنة للمعاني الإسمية، ولا دخل في ذلك أيضاً للالتزام بأنّ المعاني الحرفية في أنفسها قابلة للتقييد، أو يكون التقييد فيها بتبع مدخولاتها.والسرّ فيه هو أنّ النسبة الطلبية سواء أُنشأت بالهيئة أو بالمعنى الإسمي فهي أمرٌ اعتباري، وليس أمراً تكوينياً خارجياً، فالمنشأ في الإنشائيات غير نفس الإنشاء، ولا يقاس بالإيجاد والوجود، إذ هما مختلفان بالاعتبار ومتحدان خارجاً، فينسب الوجود والتحقّق إلى الماهية فيقال وجود، وينسب إلى الفاعل والعلّة فيقال إيجاد.وهذا بخلاف المنشأ والإنشاء، إذ الإنشاء تكويني، والمنشأ اعتباري، فإنّ الإنشاء عبارة عن لحاظ المعنى القابل للاعتبار والإتيان بما يدلّ على وقوعه بقصد أن يقع، والمنشأ خارجاً وجود ذلك الأمر الاعتباري، وبما أنّ الوجود الاعتباري إنّما يكون في المعنى القابل للاعتبار كالملكية، وأنّ الوجوب غير وجود الشيء الخارجي حيث أنّه لا يمكن فيه أن يكون الإيجاد فعلا والوجود استقبالا؛ لأنّ فرق الوجود والإيجاد في المفهوم لا في الخارج بخلاف الإنشاء والمنشأ، فيمكن أن يعتبر فعلا حصول الشيء في الاستقبال أو معلّقاً على أمر استقبالي كاعتبار الملكية للموصى له مطلقاً على موته، فهذا لا محذور فيه، فإنّ الإنشاء كما ذكرنا متحقّق، ولكن المنشأ بما أنّه أمر استقبالي أو معلّق على الأمر الاستقبالي فهو غير فعلي، ولو كان المنشأ فعلياً قبل ذلك الأمر لكان حصوله بلا إنشائه.وكذا الحال في الإخبار؛ لأنّ الإخبار عبارة عن التكلّم بما ينتقل الذهن إلى الصورة التي هي لحصول الشيء أو لحصول شيء لشيء، والداعي إلى نقل الصورة هو الإعلام بحصول ذيها أو عدم حصوله، وكما يمكن الانتقال إلى الصورة التي يكون حصول ذيها فعلاً، كذلك يمكن فيما يكون حصول ذيها استقبالا، وقد تقدّم في باب الفرق بين الإنشاء والإخبار أنّهما يشتركان في الإتيان بما يوجب الانتقال إلى صورة حصول الشيء، ولكنّ الغرض منه في الإنشاء حصول ذيها، بخلاف الإخبار فإنّ الغرض من الإتيان به الإعلام بحصول ذي الصورة في ظرفه المناسب، ولو كان استقبالا، وأنّه لو كان ما يقصد الإخبار عنه أمراً قابلا للإنشاء ففي موارد كون الغرض الإعلام، يكون حصول ذي الصورة مع قطع النظر عن هذا الإعلام، وفي الأمر غير القابل للإنشاء لا يحتاج لإحراز كون المتكلّم في مقام الإعلام إلى أمر آخر.وبالجملة كما أنّ في موارد الإنشاء بمفاد القضية الشرطية يكون الغرض حصول ذي الصورة في ظرف حصول الشرط، كذلك في موارد الاخبار بالجملة الشرطية يكون الغرض الإعلام بتحقّق ذي الصورة خارجاً على تقدير وجود الشرط.ودعوى أنّ في موارد الاخبار بالجملة الشرطية يكون المحكي عنه هي الملازمة بين حصول الشرط ومضمون الجزاء لا تعليق الجزاء على الشرط؛ ولذا يكون صدق القضية الشرطية أو كذبها دائراً مدار صدق الملازمة أو عدمها، فمثل (إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود) صادقة؛ إذ الملازمة موجودة ولو مع عدم تحقّق الطرفين؛ لأنّ المحكي عنه هي الملازمة وحكايتها مطلقة، لا يمكن المساعدة عليها، فإنّ هذا لا يجري في غير موارد الملازمة، مثل قوله (إن جاء الليل يضرب زيد) الذي هو مورد الكلام في المقام، فإنّه يكون صدق هذه القضية بتحقيق الضرب في الليل مع عدم الملازمة بينه وبين مجيء الليل لا فعلا ولا مستقبلا، هذا بحسب المنطوق.وأمّا بحسب المفهوم، فكذب مفهومها بتحقّق الضرب قبل مجيء الليل.وذكر المحقّق النائيني (قدس سره) وجهاً آخر لامتناع إرجاع القيد إلى معنى الهيئة، وهو أنّ الالتزام بكون معنى الهيئة كليّاً لا يصحّح التقييد؛ إذ التقييد في معناها غير ممكن، لكن لا لجزئيّته، بل من حيث إنّه يحتاج إلى لحاظ المعنى استقلالا، فإنّه ضرب من الحكم، ومعنى الهيئة ملحوظ آلياً، فالمتعيّن رجوع القيد إلى المادة الملحوظ معناها على الاستقلال؛ لأنّ الإطلاق والتقييد من شؤون المفاهيم الاستقلالية، ومع أخذ القيد في المادة شرطاً يستحيل تعلّق الطلب بتلك المادة بدون ذلك القيد، فمثلا الحجّ المتقيّد بالاستطاعة الخارجية يتّصف بالواجب ويقع طرفاً للنسبة الطلبيّة، وبدون هذا القيد لا يكون متّصفاً بوصف الواجب ولا يقع طرفاً للنسبة الطلبية.وبالجملة إرجاع القيد إلى المادة بهذا النحو لا محذور فيه، ولا يوجب إرجاع الواجب المشروط إلى الواجب المعلّق باصطلاح صاحب الفصول كما ذكر في الكفاية(4).أقول: يرد عليه: أوّلابأنّه لابدّ من أن يفرّق (قدس سره) بين قول القائل (إن جائك زيد فأكرمه) وبين قوله (إن جائك زيد فأطلب منك إكرامه)، حيث إنّ التقييد في الأوّل غير ممكن؛ لكون الطلب والبعث يستفاد من الهيئة بخلاف الثاني، فإنّ الطلب فيه معنى إسمي، ويلاحظ استقلالا في مقام الاستعمال كسائر المعاني الإسمية الكلية القابلة للتقييد.وثانياًقد تقدّم أنّ التقييد في الواجب المشروط بمعناه المشهور الذي كان في مقام الجعل والإنشاء ليس بمعنى تضييق المعنى الكلي ليقال بأنّه لا يجري في المعاني الملحوظة آلياً، حتّى مع كونها كليّة، بل هو بمعنى التعليق، وتعليق النسبة أمر ممكن، سواء كان الغرض من تلك النسبة إنشاءاً أو اخباراً، فلاحظ الذي يدقّ باب زيد ويسأل عن كونه في الدار مثلا، فإنّه لا غرض له إلاّ الاستفهام عن النسبة الظرفية ثبوتاً أو نفياً، وإذا صحّ تعلّق الغرض بالنسبة استقلالاً ـ طلبية كانت أو خبرية ـ فيمكن كونها مطلقة، كما يمكن كونها معلّقة.وثالثاًإنّ ما ذكره (قدس سره) من أنّ إرجاع الشرط إلى المادّة بالنحو الذي ذكره لايوجب كونه من الواجب المعلّق، ففيه أنّه ليس في البين إلاّ البعث والطلب المتعلّق بالمادّة، فإن رجع الشرط إلى نفس الطلب والبعث يكون واجباً مشروطاً باصطلاح المشهور، وإن رجع إلى المادة يكون من الواجب المعلّق، ولا يتعقّل الشقّ الثالث الذي عبّر عنه بالمادة المنتسبة وأرجع الشرط إليها، وما ذكر (قدس سره) من أنّ الحجّ المتصفّ بالاستطاعة الخارجية يتعلّق به الوجوب ويقع طرفاً للنسبة الطلبية، فمعناها أنّ فعلية النسبة الطلبية منوط بحصول الاستطاعة، وهذا عبارة أُخرى عن تعليق النسبة الطلبية إثباتاً، وأخذها في الموضوع لتلك النسبة ثبوتاً، بمعنى أنّه لم يعتبر الطلب المتعلّق بالحجّ إلاّ في ظرف حصول الاستطاعة بنحو الشرط المقارن، فيكون المكلّف المستطيع خارجاً موضوعاً لوجوب الحج.ثمّ إنّه قد يترائى التنافي بين ما ذكر صاحب الكفاية (قدس سره) هنا في الجواب عن إشكال رجوع الشرط إلى الهيئة من استلزام تعليق إنشاء الطلب على تقدير شيء لعدم كون الطلب في فرض عدم حصوله فعلياً، وإلاّ يلزم تفكيك المنشأ وتخلّفه عن إنشائه.وبين ما ذكر في بحث الشرط المتأخّر من أنّ الدخيل في حصول الطلب لحاظ الشرط لا نفس الشرط ولحاظه مقارن لجعل الحكم وإنشاء الطلب، فإنّ مقتضى ذلك فعلية الطلب قبل حصول الشرط خارجاً لفعلية لحاظه.ويمكن دفع التنافي بأنّ ما ذكره سابقاً راجع إلى دفع شبهة تأثير المعدوم في الموجود، فذكر في اندفاعها بأنّ المؤثّر في إرادة المولى إنشاء الحكم لحاظ الشرط المتقدّم والمتأخّر كما في الشرط المقارن، وكلامه في المقام ناظر إلى الشرط بالإضافة إلى الطلب المنشأ الذي يكون بالإنشاء، وأنّ هذا المنشأ إذا علّق في إنشائه على حصول شيء لا يكون في فرض عدم حصوله لعدم الإنشاء بالإضافة إلى تقدير عدمه، فلا تنافي.[5] وحاصل ما ذكره (قدس سره) في الجواب عن دعوى لزوم رجوع الشرط إلى المادّة لبّاً هو أنّ الشيء إذا كان موافقاً للغرض ـ سواء كان الغرض صلاح الفعل أو غيره ـ يمكن أن يبعث المولى إلى ذلك الفعل فعلا بأن يكون الطلب حالياً لعدم المانع عن حاليته، كذلك يمكن أن يطلبه بنحو الاشتراط والتعليق، بأن لا يكون قبل حصول المعلّق عليه طلب فعلي للمانع عن فعلية الطلب وحاليته.وبالجملة ففي فرض المانع عن فعلية الطلب لا يكون طلب حالي على نحو يكون المعلّق عليه قيداً لنفس الفعل مع حالية طلبه، كما هو ظاهر كلام الشيخ (قدس سره)، وهذا ـ بناءاً على تبعية الأحكام للمصالح في نفس الأحكام ـ واضح.وأمّا بناءاً على تبعيّتها للمصالح في متعلّقات الأحكام فأيضاً كذلك، فإنّ تعلّق الطلب الحقيقي والبعث الفعلي بها على هذا القول أيضاً يتوقّف على عدم المحذور في فعلية الطلب؛ إذ التبعية إنّما تكون في الأحكام الواقعية بما هي واقعية لا بما هي فعلية، وعليه فلا محذور في عدم فعليّتها لمانع، كما في موارد قيام الامارات والأُصول العملية على خلاف التكاليف الواقعية، وفي بعض الأحكام في الشريعة مع بقاء المانع من فعليتها إلى ظهور شمس الهداية وارتفاع الظلام.أقولظاهر جوابه (قدس سره) عن رجوع القيد إلى المادّة لّباً، هو أنّه إذا كان الصلاح في الفعل، على تقدير حصول أمر خارجاً يمكن أن ينشأ الوجوب عليه على تقدير حصول ذلك الأمر، بحيث لا يكون في فرض عدم حصوله طلب ومنشأ ولا يكون بالإضافة إلى الفعل المفروض ـ على تقدير عدم حصول ذلك الأمر ـ إرادة أصلا، وعليه فلا يكون الوجوب المنشأ إلاّ بعد حصوله ولا الإرادة إلاّ بعده، فيكون نفس الوجوب المنشأ وفعليته أمراً استقبالياً، لا أن يكون الوجوب وفعليته أمراً حالياً والواجب استقبالياً، كما هو ظاهر المحكي عن الشيخ وقال بأن الوجدان شاهد على أنّ الإرادة لا تقبل القيد، بل كل ما يفرض من القيد فهو راجع إلى المراد المشتاق إليه.وذكر المحقّق الاصفهاني (قدس سره) في تعليقته تقريباً لما ذكر الماتن (قدس سره) بأنّ الشوق المؤكّد مطلقاً لا يكون إرادة، بل الإرادة هي المحرّكة للعضلات نحو الفعل، وما دام لم يحصل القيد لا تحصل هذه الإرادة، وكما أنّه مع المانع عن الفعل المباشري لا تتحقّق الإرادة ـ أي الشوق المحرّك للعضلات ـ كذلك مع المانع عن بعث العبد، لا يحصل للمولى الشوق المحرّك نحو البعث، فلا يكون في ظرف المانع بعث حالي فعلي(5).ولكن يأتي من المصنّف (قدس سره)(6) أنّه لا يعتبر في فعلية الإرادة كونها محرّكة نحو المراد فعلا، بل يمكن أن يكون المراد أمراً استقبالياً والإرادة حالية وأمّا توصيفهم الشوق بكونه مؤكّداً محرِّكاً فهو بيان مرتبة للشوق الذي يطلق عليه الإرادة والتحريك الفعلي غير معتبر في كونها إرادة فتصوير المانع بالإضافة إلى تحريكه لا إلى حصوله، والمدّعى في كلام الشيخ (قدس سره) عدم التقييد في الشوق، بل القيد في المشتاق إليه.والجواب الصحيح هو أنّ الإرادة بمعنى الشوق المؤكّد وإن صحّ تعلّقه بالأمر الاستقبالي إلاّ أنّه ليس حكماً ولا دخيلا في فعلية الحكم والتكليف، كما يشهد بذلك فعلية الإباحة مع عدم تصوير الاشتياق فيها بالإضافة إلى الفعل، بل ذكرنا في بحث الطلب والإرادة أنّ الشوق المؤكّد غير الإرادة، فإنّ الشوق يتعلّق بغير المقدور بمنتهى شدّته، والإرادة لا تتعلّق به، وقد يصدر الفعل عن الفاعل بالاختيار بلا اشتياق منه إلى الفعل.وبالجملة الشوق المؤكّد ليس من الحكم، وإرادة المولى لا تتعلّق بفعل العبد، فإنّ فعل العبد بما هو فعل الغير غير مقدور للمولى بما هو مولى، بل إرادة الآمر تتعلّق بفعله يعني بعثه وطلبه، ويكون إعمال قدرته فيه، وقد ذكرنا بما أنّ الوجوب والطلب أمر إنشائي يكون إنشائه بعثاً وطلباً حقيقة بكون الغرض منه إمكان كونه داعياً للعبد إلى الإتيان بمتعلّقه.وأيضاً أنّه قد يكون صلاح الفعل على تقدير حصول شيء بحيث لو لم يحصل، لما كان في الفعل الاختياري ملاكاً كما في قوله(جاء الشتاء فالبس الثياب الشتوية) ففي مثل هذه الموارد لا يكون للمولى موجب لإنشاء الطلب مطلقاً حتى يكون القيد راجعاً إلى متعلّق الطلب والبعث، بل ينشأ الطلب على نحو التعليق على حصول أمر آخر، ويكون غرضه من المنشأ أن يكون في ظرف فعليّته داعياً للعبد إلى الإتيان بالفعل.ويمكن أن يكون صلاح الفعل مطلقاً ولكن لا يتمكّن العبد من ذلك الفعل إلاّ بحصول أمر آخر كقوله(إذا تمكّنت على تعلّم العلم فتعلّم) فإنّ الطلب مشروطاً لأجل أنّه لا أثر للطلب بدون حصول التمكّن، فلا يكون الطلب المشروط طلباً واقعياً إلاّ بعد حصول الشرط إذن فلا ينحصر الطلب المشروط بموارد وجود المانع عن إطلاق الطلب الحقيقي.وقد تحصّل ممّا ذكرنا أنّ البعث والطلب وإن اتّصف بكونه حقيقياً إلاّ أنّ اتّصافه به إنّما هو بلحاظ كون الغرض من اعتباره إمكان انبعاث العبد به إلى الفعل، وعليه إذا كان الصلاح في الفعل أو غيره داعياً للمولى إلى إنشاء البعث والطلب على نحو الاشتراط والتعليق فلا محذور فيه، حيث إنّ الإنشاء ليس عين المنشأ خارجاً ليكون تغايرهما بالاعتبار كما في تغاير الكسر والانكسار والإيجاد والوجود حتّى يلزم فعلية الإنشاء بلا فعلية المنشأ فيكون ممتنعاً، بل هما متغايران ذاتاً كما بيّناه سابقاً.ولافرق فيما ذكرنا بين القول بكون الإنشاء مبرزاً للمنشأ ومقوّماً لعنوانه أو القول بأنّ المنشأ أمر مسبّب عن الإنشاء، فإنّ التسبّب المفروض بما أنّه أمرٌ جعلي اعتباري فيمكن أن يوجد بالسبب التكويني الفعلي الأمر الاعتباري المتأخّر.(1).نهاية الدراية2 / 45.(2).أجود التقريرات1 / 221.(3).مطارح الأنظارص 45 و 46.(4).أجود التقريرات1 / 131.(5).نهاية الدراية2 / 67.(6).الكفايةص 102.الظاهر دخول المقدّمات الوجودية للواجب المشروط في محلّ النزاع أيضاً[1].وأمّا المعرفة، فلا يبعد القول بوجوبها حتّى في الواجب المشروط بالمعنى المختار[2].تذنيبلا يخفى أنّ إطلاق الواجب[3].ومنها تقسيمه إلى المعلّق والمنجّز[4].المقدمات الوجودية للواجب المشروط[1] يعني كما أنّ مقدّمات الواجب المطلق مورد النزاع في المقام، ويقع البحث في أنّ وجوب ذيها يلازم تعلّق الوجوب المولوي الارتكازي بها، كذلك المقدّمات الوجودية للواجب المشروط داخلة في النزاع، غاية الأمر أنّ المقدّمة تتبع ذيها في إطلاق الوجوب واشتراطه، كما أنّها تابعه له في أصل الوجوب ففي الواجب المطلق يكون وجوب المقدّمة مطلقاً بخلاف الواجب المشروط فإنّه يكون وجوب مقدّمته أيضاً مشروطاً بحصول شرط الوجوب، فلا وجه لتخصيص النزاع بمقدّمات الواجب المطلق، كما هو مقتضى ظاهر بعض الكلمات.نعم يخرج شرط الوجوب وقيده عن محلّ الكلام في الملازمة وإلى ذلك أشار (قدس سره) بقوله«وأمّا الشرط المعلّق عليه الإيجاب.إلخ»(1) وحاصله عدم امكان تعلق الوجوب الغيري بشرط الوجوب حتى لو كان الشرط فعلا اختيارياً لأنّ المفروض عدم الوجوب مع عدمه، ووجوبه مع حصوله مقتضاه طلب الحاصل.وأمّا بناءاً على مسلك الشيخ (قدس سره) فقد تقدّم أنّ الوجوب يتعلّق بالحجّ المقارن للاستطاعة الخارجية مثلا، وأنّ الاستطاعة قد أُخذت قيداً للحجّ بنحو لا يتعلّق بها وجوب ويكون المكلّف مطلق العنان بالإضافة إليها، ولو تعلّق بها وجوب ففي فرض عدمها يلزم الخلف، وفي فرض وجودها يلزم طلب الحاصل.أقول: ظاهر كلامه (قدس سره) تعلق الوجوب فعلا على مسلك الشيخ (قدس سره) بالحج على تقدير استطاعته ولو بعد حين من عمره؛ ولذا يجب عليه فعلا سائر مقدّماته الوجودية على تقدير تلك الاستطاعة، وهذا يرجع إلى الواجب المشروط بالشرط المتأخّر، كما يظهر ذلك أيضاً من قوله«فإنّه جعل الشيء ـ أي الحج مثلا ـ واجباً على تقدير حصول ذلك الشرط، فمعه كيف يترشح عليه الوجوب ويتعلّق به الطلب؟ وهل هو إلاّ طلب الحاصل»(2)، ولكن إنّ هذا الإرجاع لا يناسب استدلال الشيخ (قدس سره) على عدم كون الشرط قيداً للوجوب، فإنّه لو أمكن كون الشرط قيداً للوجوب بنحو الشرط المتأخّر لأمكن كونه قيداً للوجوب بنحو الشرط المقارن بالأولوية.والمناسب لكلامه واستدلاله هو أن يلتزم بأنّ التكليف في الواجبات المشروطة كالواجبات المطلقة مجعول في حقّ كلّ قابل للتكليف من البالغ العاقل المتمكّن على متعلّقه زمان العمل فيطلب منه الفعل المقيّد بحيث لا يسري الطلب إلى قيده، ولو سرى الطلب إلى ذلك القيد لزم الخلف.ثمّ لا يخفى أنّ في الواجبات المشروطة وإن كان الشرط قيداً لنفس الوجوب أخذاً بظاهر القضية الشرطية في الخطاب إلاّ أنّ الوجوب في مقام الثبوت مجعول بمفاد القضية الحقيقية، وأنّ كلّ شرط وقيد راجع إلى التكليف فهو يفرض في مقام الجعل والثبوت قيداً للموضوع، فالشارع يجعل وجوب صلاة الظهر مثلاً على كلّ بالغ عاقل زالت عليه الشمس، ويجعل وجوب الحجّ على كلّ بالغ عاقل يكون مستطيعاً، فجميع قيود التكليف تفرض في مقام الجعل والثبوت في ناحية الموضوع مفروضة الوجود ثمّ يجعل التكليف على الواجد لتلك القيود، فاختلاف مفاد القضية الشرطية مع مفاد القضية الحقيقية ينحصر بمقام الإثبات، وإلاّ فالقضية الشرطية ترجع إلى مفاد القضية الحملية ثبوتاً، وعلى ذلك فليس لازم ما ذكرنا من رجوع الشرط إلى قيد الحكم أن يثبت حكم شرعي معلّق بعد جعله على موضوعه، كما توهّم من ثبوت وجوب الحج المعلّق على الاستطاعة في حقّ جميع المكلّفين، فإنّ ثبوت هذا النحو من الحكم المعلّق ثبوتاً في حقّ كلّ بالغ عاقل لغو محض.والعجب من الشيخ (قدس سره) حيث التزم بامتناع كون الشرط قيداً لنفس الوجوب، والتزم برجوعه إلى تقييد متعلّق التكليف، ولم يلتزم برجوعه إلى تقييد الموضوع للتكليف حتّى لا يرد عليه بأنّه كيف يكون العمل الاختياري قيداً لمتعلّق التكليف ومع ذلك لا يجب تحصيله كسائر مقدّمات المتعلّق، وأخذه طوراً لا يكاد يسري إليه الوجوب، لا يعقل إلاّ بفرض وجود الشرط في ناحية الموضوع لذلك الوجوب، وممّا يترتب على ما ذكرنا بطلان القول باعتبار الاستصحاب التعليقي، حيث أنّ المستصحب في موارد الاستصحاب هو الحكم في مقام الثبوت، والحكم في مقام الثبوت له مرتبتانمرتبة الجعل ومرتبة الفعلية، وليس شيء منهما مما يتمّ فيه أركان الاستصحاب على ما سيأتي توضيحه في محلّه إن شاء اللّه تعالى.[2] المراد معرفة الواجب من حيث أجزائه وشرائطه مما يعتبر فيه من ترتيب الأجزاء وغيره كحدود الصلاة والحج والصوم وغيرها، ولا ينبغي التأمّل في لزوم معرفة الواجب فيما إذا كان وجوبه فعليّاً سواء كان ظرف الإتيان به أيضاً فعليّاً أو كان ظرفه أمراً استقبالياً، كما في الواجبات المشروطة على مسلك الشيخ (قدس سره).ولكن ربّما يناقش في وجوب تعلّم الواجب قبل حصول شرط وجوبه وقبل فعلية وجوبه كما في الواجبات المشروطة والموقتة على مسلك المشهور فيما إذا علم المكلّف أو احتمل حصول شرطها فيما بعد، وأنّه إذا لم يتعلّمها قبل فعلية وجوبها لم يتمكّن بعد فعلية الشرط أو دخول الوقت من الإتيان بذلك الواجب بتمام أجزائه وشرائطه للغفلة أو العجز.ووجه المناقشة أنّه قبل حصول الشرط أو دخول الوقت لا يكون الوجوب في ذلك الواجب فعليّاً ليجب عليه المعرفة كسائر مقدّمات الواجب، وكما أنّ سائر مقدّمات الواجب لا يكون وجوبها فعلياً قبل فعلية وجوب ذيها ـ كما تقدّم ـ فكيف تجب معرفته قبل وجوبه؟ وقد ذكر المصنف (قدس سره) أنّ وجوب المعرفة ليس وجوباً غيرياً كسائر المقدّمات الوجودية للواجب حتّى يناقش في وجوبها قبل فعلية وجوب الواجب، بل معرفته تدخل فيما يستقلّ به العقل من تنجّز الأحكام والتكاليف في الوقائع على المكلف بمجرد احتمالها، ولا يكون مخالفتها من حيث الجهل بها عذراً إلاّ مع الفحص واليأس عن الظفر بالدليل على التكليف، فيستقلّ العقل بعده بالبراءة وأنّ العقاب على المخالفة بلا حجّة وبيان.أقول ما ذكره (قدس سره) من أنّ المعرفة وجوبها ليست من الوجوب الغيري كالمقدمات الوجودية للواجب أمرٌ صحيحٌ، ولكنّ استقلال العقل بما ذكره ـ فيما إذا كان التعلّم من تحصيل القدرة على الواجب قبل فعلية وجوبه ـ غير معلوم، وإنّما الثابت عدم المعذورية في مخالفة التكليف المحتمل فعليته، مع التمكّن من موافقته بالاحتياط أو بالاجتهاد والتقليد على تقدير التعلّم، وأمّا عدم المعذورية مع عدم التمكّن من موافقته ولو بترك التعلّم قبل زمان حصول فعليّة الوجوب وحصول شرطه، فهذا لا يستقلّ به العقل؛ لعدم القدرة على الفعل بعد فعلية شرط الوجوب.وقد يجاب عن ذلك بأنّ الغفلة أو العجز لم يؤخذ عدمها شرطاً في ناحية التكليف، بل التكليف المجعول يصير فعليّاً بحصول شرطه ودخول وقته.نعم تكون الغفلة أو العجز مانعاً عن تنجّز التكليف في الموارد التي يحكم العقل بالعذر، والعقل لا يحكم بالمعذورية مع ترك التعلّم.وفيهأنّ من شرط التكليف القدرة على متعلّقه في ظرف الواجب، والغافل كالعاجز غير متمكّن عليه.ولكن مع ذلك، الصحيح وجوب المعرفة؛ وذلك فإنّ الأخبار الواردة في وجوب تعلّم الأحكام والواجبات بإطلاقها تعمّ المشروطة والموقتة، ممّا يحتمل المكلّف الابتلاء بها فضلا عمّا يعلم، وتكون دالّة على أنّ العجز الناشئ عن ترك التعلّم ـ ولو كان الترك قبل حصول الشرط أو الوقت ـ يوجب تفويت ملاك الواجب، نظير ما تقدّم في الأمر بالاغتسال في الليل على الجنب الذي عليه صوم الغد عند طلوع الفجر.وبالجملة وجوب التعلّم طريقيّ يقطع العذر في مخالفة التكليف أو في تفويت الملاك الملزم الموجود في مورده.[3] قد تقدّم في بحث المشتق أنّ معناه ضيّق لا ينطبق إلاّ على المتلبس بالمبدأ، وعليه فإن كان إطلاق الواجب على الحجّ ـ مثلا ـ بلحاظ حال الاستطاعة، يكون الإطلاق حقيقياً، بلا فرق بين مسلك المشهور ومسلك الشيخ (قدس سره)، وإن كان الإطلاق بلحاظ قبل الاستطاعة يكون الإطلاق حقيقياً بناءاً على مسلكه (قدس سره) بخلاف مسلك المشهور، فإنّ الإطلاق يكون بالعناية، كما صرّح به الشيخ البهائي (قدس سره)، والشاهد لكون الإطلاق مع العنائية أنّ إطلاق المستحبّ على الحجّ حال عدم الاستطاعة صحيح لا عناية فيه.وأمّا صيغة الأمر فهي موضوعة لإنشاء البعث والطلب الجامع بين مطلقه ومشروطه المعبّر عن ذلك الجامع بالمبهم المَقسم فيكون استعمالها في إنشاء الطلب على نحو الحقيقة، سواء حصل بها الطلب المطلق أو المشروط، فإنّها في كلتا الصورتين تستعمل في معناها الموضوع له، ويكون إنشاء أصل الطلب بها وخصوصية الإطلاق أو الاشتراط بدالٍّ آخر، وهي القرينة العامّة يعني مقدمات الحكمة فيما كانت الخصوصية هي الإطلاق المقابل للاشتراط، والقرينة الخاصّة فيما كانت الخصوصية هي الاشتراط.والمراد من الطلب المطلق على مسلك الشيخ (قدس سره) الإطلاق الذاتي الذي لا يحتاج إلى مقدّمات الحكمة، حيث إنّ الاحتياج إليها في إثبات الإطلاق العرضي الذي يكون في فرض إمكان تقييده، وحيث قد التزم (قدس سره) بعدم إمكان تقييد الوجوب بوجه ثبوتاً أو إثباتاً فلا محالة يكون الإطلاق عنده ذاتياً.أقول: إطلاق الواجب على الفعل يكون باعتبارين أحدهما: بحسب مقام الإنشاء والجعل، كما يقالالصلوات الخمس واجبة، وغسل الميت واجب، وغسل الجمعة مستحب، ولا فرق بين المسلكين في هذا الإطلاق، فإنّه عليهما حقيقي لا مجازي لفعلية الإنشاء وتحقّقه حتّى على المسلك المشهور.والثانيالإطلاق بحسب فعلية الوجوب المنشأ والطلب، فالوجوب قبل حصول شرطه غير فعلي، فلا يكون الفعل حينئذ واجباً، ليكون الإطلاق بلحاظه حقيقياً، هذا على مسلك المشهور.وأمّا بناءاً على مسلك الشيخ (قدس سره) فالفعل الاستقبالي واجب حقيقة؛ لعدم الاشتراط في وجوبه.الواجب المعلق والمنجز[4] حاصل ما ذكره في الفصول أنّه إن لم يتوقّف متعلّق الوجوب على أمر غير مقدور كالمعرفة باللّه (سبحانه) يكون الواجب منجّزاً وإن توقّف عليه كالحجّ بالإضافة إلى مجيء زمانه بناءاً على حصول وجوبه بحصول الاستطاعة أو خروج الرفقة يكون الواجب معلّقاً، والفرق بين المعلّق والمشروط أنّ نفس الوجوب في المشروط معلّق على حصول الشرط بخلافه في المعلّق فإنّه لا يتوقّف على حصول الشرط، بل المتوقّف على حصوله هو الواجب.وذكر الماتن في ذيلهبما أنّ الواجب المعلّق عند صاحب الفصول بعينه هو ما التزم به الشيخ (قدس سره)في الواجب المشروط حيث ذكر امتناع رجوع القيد إلى نفس الوجوب ثبوتاً وإثباتاً وأنّ القيود كلّها ترجع إلى متعلق الوجوب أنكر على صاحب الفصول هذا التقسيم، وقد عرفت أنّ إنكاره يرجع في الحقيقة إلى الواجب المشروط باصطلاح المشهور لا إلى الواجب المنجّز والمعلّق.نعم يرد على الفصول أنّ تقسيم الواجب إلى المنجّز والمعلّق بلا موجب، فإنّ الوجوب الغيري للمقدّمة من لوازم حاليّة وجوب ذيها سواء كان متعلّقه منجّزاً أو معلّقاً، ولو أُريد تقسيم الواجب من غير لحاظ دخله في المهمّ لكثرة تقسيماته.أقولقد ذكر صاحب الفصول (قدس سره) هذا التقسيم لتصحيح وجوب المقدّمة في بعض الواجبات قبل مجيء زمانها، كاغتسال الجنب والحائض في الليل لصوم يوم الغد، وكالخروج إلى السفر قبل زمان مجيء أشهر الحجّ للنائي.وذكر المحقّق الاصفهاني (قدس سره) في ذيل ما أورده الماتن على الفصولبأنّه لا يخفى أنّ انفكاك زمان الوجوب عن زمان الواجب (أي تأخّر زمان الواجب) هو المصحّح لوجوب مقدّمته قبل زمان الواجب، وإلاّ فلو كان زمان الوجوب متّحداً مع زمان الواجب لما وجبت مقدّمته قبل زمان الواجب، ولعله (قدس سره) أشار إلى ذلك بقوله «فافهم»، فوجوب المقدّمة حينئذ وإن كان معلولا لوجوب ذيها لكن وجوب المقدّمة قبل زمان ذيها إنّما هو لتقدّم زمان وجوب ذيها على زمان ذي المقدّمة، بحيث لولا تأخّر زمان ذي المقدّمة لما وجبت المقدّمة قبل زمان ذيها(3).أقولما ذكره (قدس سره) لا يزيد أمراً ولا يوجب خللا فيما ذكر الماتن (قدس سره) من أنّ ثبوت وجوب المقدّمة في مورد إنّما هو لفعليّة وجوب ذيها، سواء كان نفس الواجب مقيّداً بقيد متأخّر أم لا.ولكن الذي ينبغي أن يقال في المقام هو أنّ نفس فعلية وجوب ذي المقدّمة ـ ولو كان مقيّداً بقيد استقبالي ـ لا يوجب وجوب مقدّمته حتّى يؤتى بالمقدّمة قبل مجيء زمان ذيها ولو بنحو الواجب الغيري الموسّع، بل يختصّ ذلك بما إذا لم يؤخذ المتأخّر قيداً للوجوب ولا لنفس المقدّمة أيضاً بأن لم تكن المقدّمة من قبيل الاغسال للمستحاضة الكثيرة أو المتوسّطة بالإضافة إلى صومها في الغد.وعليه، فلا يكون مجرّد انفكاك زمان فعلية وجوب فعل عن زمان الإتيان بنفس الفعل مجدياً في تعيّن أو جواز الإتيان بمقدّمته قبل مجيء ذلك الزمان وإنّما يكون ذلك فيما إذا كان المتأخّر مأخوذاً في ناحية نفس الواجب النفسي خاصّة لا في ناحية وجوبه ولا في ناحية مقدّمته.(1).الكفايةص 99.(2).الكفايةص 99.(3).نهاية الدراية2 / 72.وربما حكي عن بعض أهل النظر[1].وربّما أشكل على المعلّق أيضاً بعدم القدرة على المكلف به في حال البعث[2].ثم إنّه لا وجه لتخصيص الواجب المعلّق بما يتوقّف حصوله على أمر غير مقدور[3].تنبيهقد انقدح من مطاوي ما ذكرنا[4].إن قلتلوكان وجوب مقدّمة في زمان كاشفاً عن سبق وجوب المقدّمة[5].إن قلتلو كان وجوب المقدّمة في زمان كاشفاً[6].الإشكالات على الواجب المعلّق[1] قيل هو المحقّق النهاوندي (قدس سره)، وحاصله أنّ الإيجاب يقابل الإرادة، وكما لا تنفك إرادة الفاعل عن مراده، بل تحريك العضلات نحو المراد إنّما يكون بفعليّة الإرادة، فليكن الحال في الإيجاب الفعلي كذلك، بأن يكون تحريك العبد نحو المتعلّق تابعاً لحدوث الطلب الفعلي، فإنّ الإيجاب أيضاً إرادة، غاية الأمر يتعلّق الإيجاب بفعل الغير والإرادة بالفعل المباشري، وعلى ذلك فلا يمكن تصوير الواجب المعلّق، حيث إنّ لازمه الفصل بين تحقّق الطلب الفعلي والمطلوب بزمان ما، وهو محال كالفصل بين الإرادة والمراد.وأجاب المصنف (قدس سره) عن المناقشة بوجوه ثلاثةالأوّل والثاني راجعان إلى الإرادة التكوينية المتعلّقة بالفعل المباشري، والثالث إلى الإيجاب والإرادة التشريعيّة.وحاصل الوجه الأوّلأنّ الإرادة التكوينية أيضاً تتعلّق بأمر استقبالي وتنفكّ عن المراد بحسب الزمان، كما إذا تعلقّت بأمر يكون موقوفاً على مقدّمات يحتاج في تحصيلها إلى طول الزمان، كإرادة الوصول إلى مرتبة الاجتهاد واستنباط الأحكام من مداركها، فإنّ الشوق إليه الحادث للنفس يدعو إلى تحمّل المشاقّ في تحصيل مقدّماته ليحصل له الغرض بعد سنين، ولو كان حدوث الشوق إلى الاجتهاد بعد حصول مقدّماته لما كان كلّ مريد للاجتهاد متحمّلا للمشاقّ من تحصيل المقدّمات، فحركة العضلات المعتبرة في الإرادة التكوينية نحو المراد أعمّ من أن تكون نحو نفس المراد أو نحو مقدّماته.وحاصل الوجه الثاني أنّه يمكن انفكاك إرادة الفاعل عن مراده بأن لا تتحرّك عضلاته نحو المراد ولا نحو مقدّماته لكون المراد وما اشتاق إليه كمال الاشتياق أمراً استقبالياً غير محتاج إلى تهيئة مقدّمة، فيكون غرضهم من توصيف الإرادة والشوق المؤكّد بكونها محركّة للعضلات بيان المرتبة من الشوق الذي تسمّى إرادة، ضرورة إمكان كون اشتياق الإنسان إلى أمر استقبالي أقوى وآكد من الشوق المحرّك فعلا نحو مراد حالي أو استقبالي يحتاج إلى مقدّمة أو مقدّمات.وحاصل الوجه الثالثمنع قياس الايجاب بالارادة التكوينية وذلك فإنّ البعث والطلب لإيجاد الداعي إلى الفعل في نفس العبد وحصول الداعي في نفس العبد ثمّ حركته نحو الفعل يتوقّف على علمه بالبعث وتصوّره ما يترتب على موافقته ومخالفته والتصديق بما هو صلاح له وبعد ذلك ينقدح الداعي في نفسه فتتحرّك عضلاته نحو الفعل.إذن فتخلّل زمان ولو كان قصيراً بين الإيجاب وبين الفعل خارجاً ممّا لابدّ منه.وإذا أمكن الإنفكاك بينهما بزمان قصير أمكن الفصل بالطويل أيضاً.وعن المحقّق الاصفهاني (قدس سره) ما حاصله أنّ ما ذكر المصنف (قدس سره) في ناحية كلّ من الإرادة التكوينية والتشريعية غير تام، أمّا الإرادة التكوينية فالأمر فيها كما ذكر النهاوندي من أنّ الإرادة (أي الشوق المؤكّد) علّة تامّة لحركة العضلات نحوالفعل.وبيانهأنّ النفس في وحدتها كلّ القوى لها منازل ومراتب، ولها في كلّ مرتبة ومنزلة من تلك المراتب والمنازل شأن وحركة فتدرك في مرتبة العاقلة أنّ في الفعل فائدة عائدة إلى جوهر ذاتها أو إلى قوة من قواها ويحصل لها في مرتبة القوة الشوقية شوق إلى ذلك الفعل، وإذا لم تجد مانعاً ومزاحماً يخرج الشوق من حدّ النقصان إلى الكمال المعبّر عن ذلك الكمال بالإجماع تارة، وبتصميم العزم أُخرى، وبالقصد والإرادة ثالثة، وينبعث من هذه المرتبة من الشوق البالغة كماله وحدّ نصابه، حركة وهيجان في مرتبة القوّة العاملة في العضلات.وعلى ذلك فلا يكون الشوق في مرتبة ضعفه إرادة وقوة فاعلة، لتعلّق الشوق بما هو خارج عن اختيارها، بل إنّما يكون إرادة في مرتبة كماله وهيجانه للقوّة العاملة في العضلات، ففاعلية النفس محركيّتها بالإرادة التي تنبعث منها القوى العاملة في العضلات، وإذا لم تنبعث تلك القوى فليس إلاّ لعدم خروج الشوق عن نقصانه وعدم وصوله إلى كماله.ولا منافاة بين بقاء النفس في مرتبة النقص من الشوق بالإضافة إلى الفعل المراد وبين خروج الشوق إلى مقدّمته ـ المتولّد من الشوق إلى ذلك الفعلـ إلى مرتبه كماله، وينبعث من الشوق الواصل إلى كماله القوى العاملة في العضلات بالإضافة إلى تلك المقدمة فلا يكون التصدي لمقدمات المطلوب والمراد كاشفاً عن وصول الشوق إلى ذى المقدمة إلى كماله.وبتعبير آخرعدم المانع والمزاحم بالاضافة إلى مقدمة فعل، الموجب لخروج الشوق بها إلى الارادة الناشي من الشوق بذي المقدمة لا ينافي بقاء الشوق إلى ذى المقدمة لوجود المزاحم والمانع في مرتبة نقصانه.والحاصل تكون الارادة المتعلّقة بشيء الجزء الأخير من العلّة التامّة لذلك الشيء، فلا يعقل انفكاك انبعاث القوى العاملة في العضلات عن إرادة ذلك الشيء وإلاّ لزم تخلّف المعلول عن علّته التامة، هذا بالإضافة إلى الارادة التكوينية.وأمّا الإرادة التشريعيّة فالأمر فيها أيضاً كذلك، فإنّ شوق المولى بفعل العبد لايمكن أن يصل إلى مرتبة الإرادة؛ لأنّ فعل العبد خارج عن اختياره بما هو مولى، فيتولّد من اشتياقه إلى فعل العبد المنقاد شوق إلى بعثه نحو ذلك الفعل، ويصل هذا الشوق إلى مرتبة الإرادة، فإرادة المولى تتعلّق ببعثه، وهذا البعث لا يترتّب عليه انبعاث العبد إلى الفعل بنحو القهر والغلبة، فإنّه خلاف الفرض، بل لابدّ من أن يكون بنحو يترتّب عليه إمكان انبعاثه.وبتعبير آخر ما تعلّق به شوق المولى وميله هو الفعل الاختياري للعبد، ولو كان بعث المولى إلى فعله بنحو القهر والإجبار لكان ذلك بعث إلى غير ما اشتاق إليه، فلابدّ من أن يكون بعثه على نحو يترتّب عليه إمكان انبعاث العبد فيما لو كان منقاداً، والمفروض في الواجب المعلّق عدم ترتّب الانبعاث عند تحقّق البعث مع فرض انقياد العبد، فلا يكون بعث المولى بعثاً حقيقة ولو إمكاناً(1).أقول قد تقدّم سابقاً وكراراً أنّ إرادة المولى لا تتعلّق بالبعث الخارجي الحقيقي، فإنّ البعث الخارجي الحقيقي قهر على الغير لا ينفكّ عن الانبعاث الخارجي ولا يتحقّق بدونه، كما لا يتحقّق الكسر بلا انكسار، وإنمّا تتعلّق إرادته بالبعث الخارجي الاعتباري، وإذا كان البعث اعتبارياً فيمكن أن ينشأ البعث معلقاً على أمر استقبالي بنحو الشرط المقارن أو غيره نظير الوصية التمليكية ويمكن أن ينشأ البعث مطلقاً ويقيّد المبعوث إليه بأمر استقبالي، فإنّ الاعتبار غير التكوين، إذ غاية ما يعتبر في موارد إطلاق البعث هو أن يكون لإطلاقه أثر حتّى لا يلحق إطلاقه بأنياب الأغوال ولئلاّ يكون الاعتبار فيه لغواً ومجرّد فرض و خيال، والمفروض في موارد إطلاقه واستقبالية متعلّق البعث والطلب حصول الأثر، ولو كان تهيّؤالمكلّف بالاشتغال ببعض مقدّماته، نظير الاغتسال في الليل لصوم يوم الغد والتحفّط بمال الاستطاعة لسفر الحج وإلى غير ذلك.وقد ذكرنا في بحث الطلب والإرادة أنّ الشوق بأي مرتبة فرض لا يكون إرادة، إذ قد تتحقّق إرادة الفعل من غير اشتياق إليه أصلاً، فلا نعيد.وقد يجاب عن المحقّق الاصفهاني (قدس سره) بأنّ للفاعل في موارد الفعل بالمباشرة إرادتين تتعلّق كلّ منهما بمراد، إذ تعيّن الإرادة للنفس في النفس إنّما يكون بالمراد، ومع تعدّد المراد لا يعقل وحدة الإرادة، فإنّ المتعدّد بما هو متعدّد لا يتعلّق به إرادة واحدة، فالعطشان الذي يريد رفع عطشه أو شرب الماء تكون إرادته متعلّقة برفع عطشه أو شرب الماء، ومع الالتفات بأنّ شرب الماء (أي إيجاده) لا يكون إلاّ بحركة عضلاته تكون حركة عضلاته بإرادة ثانية، ولو كانت تبعيّة؛ ومصحّح اختيارية الأفعال هذه الإرادة الثانية، إذ لو لم تكن حركتها بإرادة ثانية لا يكون الفعل اختيارياً، والإرادة التي لا تنفكّ عن المراد هي هذه الإرادة لا الاولى، حيث لا يعقل تحقّق الإرادة بالحركة الفعلية من غير تحرّك العضلات فعلا، وأمّا الإرادة الأُولى فيمكن تعلّقها بما يكون أمراً استقبالياً، وهذا ليس من التخصيص في حكم العقل، بل لأنّ تحقّق حركة العضلات يكشف عن بروز الإرادة للنفس بلا مزاحم، وأمّا الإرادة الأُولى فهي تابعة لكيفيّة تعلّقها، فإن تعلقّت بالفعل فوراً يحصل للنفس إرادة ثانية التي لا تنفك عن حركة العضلات، وإن تعلّقت بالفعل استقبالا فلا تحصل الإرادة الثانية إلاّ مع بقاء الإرادة الأُولى إلى وصول زمان الفعل في المستقبل، ففي ذلك الزمان تحصل الإرادة الثانية، فاللّتي يترتّب عليها حركة العضلات هي الإرادة الثانية المترتّبة على الإرادة الأُولى فيما كان المراد به فعليّاً ولو بفعلية القيد الاستقبالي(2).أقولما ذكره (قدس سره) غريب، وذلك فإنّ تحقّق الإرادتين إنّما يكون فيما لا ينطبق المراد على نفس حركة العضلات، إذ من أراد شرب الماء وشربه، فالصادر منه بما هو فعل ليس إلاّ عبارة عن تحريك الحلق بنحو ينزل الماء في المعدة، وعليه فلاتتعلّق مع إرادة شرب الماء إرادة أُخرى متعلّقه بحركة الحلق بنحو يزدرد الماء.نعم تهيئة الماء وإيصاله إلى فضاء الحلق يكون بإرادة أُخرى، حيث إنّ ذلك مقدّمة للشرب، وهذا غير منكر في كلام المحقّق الأصفهاني (قدس سره)، وإنّما الكلام فيما إذا أراد ـ مثلا ـ مصافحة إنسان قد مدّ يده إليه، فإنّ إرادة مصافحته عبارة أُخرى عن تعلّق إرادته بمدّ يده ووضعها في اليد الممدودة إليه، وليس في البين إرادتان إحداهما تتعلّق بمصافحته، وأُخرى بمدّ يده ووضعها في اليد الممدودة إليه، وإذا لم يكن في مثل ذلك إرادتان، فكيف تكون هذه الأفعال اختيارية بناءً على ما أسّسه واختاره؟ وكيف تكون إرادتها علّة تامّة لحصول المراد؛ إذن فلا معنى للقول بتصحيح اختيارية الأفعال بالالتزام بإرادة ثانية متعلّقة بحركة الأعضاء والجوارح، تابعة للإرادة الأُولى المتعلّقة بالمراد بالذات.ومع الإغماض عن ذلك والتسليم بأنّ للفاعل المريد إرادتين تتعلّق إحداهما بالمراد بالذات، والأُخرى بحركة العضلة، فنقولكما أنّ الإرادة بالإضافة إلى المراد بالذات تابعة لكيفية تعلّقها، كذلك الإرادة بحركة العضلات ـ بشهادة الوجدان والبرهان ـ تابعة لكيفية تعلّق الإرادة الأُولى، فإن كانت الإرادة الأُولى متعلّقه بفعل حالا تتعلّق الإرادة بحركة العضلات أيضاً حالاًّ، وإن تعلّقت بفعل مستقبلاً، تعلّقت الإرادة بحركة العضلات أيضاً مستقبلا بأن يكون الاستقبال قيداً للحركة لا لإرادتها.ودعوى أنّ إرادة حركة العضلات في هذه الموارد لا تحصل من الأوّل وإنّما تحصل عند فعلية القيد الاستقبالي، فالوجدان وبرهان تبعية الإرادة الثانية يشهدان على خلافها.ثمّ إنّه قد أنكر المحقّق النائيني (قدس سره) الواجب المعلّق والتزم بامتناع فعليّة الوجوب بدون فعليّة أمر يكون من القيد غير الاختياري المأخوذ في الواجب كالزمان، واوضح ذلك بأنّ الإيجاب يعني الإرادة التشريعية تكون بإزاء الإرادة التكوينية، وكما لا يصحّ من الإنسان إرادة فعل وعمل فعلا يكون ذلك الفعل مقيّداً بزمان الاستقبال أو أمر استقبالي غير مقدور إلاّ بنحو التقدير والتعليق، كذلك لا يصحّ الأمر به فعلا، بل يصحّ على نحو الاشتراط والتقدير، وهذا بخلاف عمل يتوقّف ذلك العمل على تهيئة مقدّمات مقدورة، ولا يحصل إلاّ بعد حصولها، فإنّه يصحّ من الإنسان إرادة ذلك العمل كإرادة استنباط الأحكام، حيث يتوقّف الاستنباط على مراجعة الأدلّة والنظر فيها، فيكون الداعي إلى هذه المقدّمات نفس إرادة الاستنباط، ففي مثل ذلك يصحّ للآمر الأمر بذلك العمل بلا محذور.وإن شئت قلتما يكون من العمل موقوفاً على مقدّمات مقدورة للفاعل، ففي مثله لا بأس بالأمر فعليّاً بذلك العمل وقبل حصول تلك المقدّمات، فيكون الأمر به داعياً إلى الانبعاث إلى تلك المقدّمات، وما يكون من العمل موقوفاً على حصول أمر غير اختياري، كالزمان المستقبل والزماني، ففي مثل ذلك لا يصحّ الأمر الفعلي بذلك العمل، بل يكون الأمر على تقدير مجيء ذلك الزمان أو الزماني كما هو الحال في الواجب المشروط، وهذا مقتضى لحاظ الإرادة التشريعية بالإضافة إلى الإرادة التكوينية، حيث لا تكون الإرادة التكوينية في هذا القسم إلاّ بنحو التقدير والاشتراط، فمثلا إرادة شرب الماء موجودة لكلّ ملتفت إلى صلاح شربه عند عطشه، ولكن هذه الإرادة تقديريّة، وتكون فعليّة عند فعليّة العطش، ولو كان في هذا القسم مقدّمة مقدورة بحيث لو لم يأت بها المكلّف قبل فعليّة الإيجاب لماتمكّن منه بعد فعليّة العطش، يكون إيجاب تلك المقدّمة بأمر نفسي تهيّئي لا بالالتزام بفعلية وجوب ذيها واستقبالية ذلك الواجب، كما هو ظاهر الفصول(3).أقوللا يكون التقدير والتعليق في نفس الإرادة ـ يعني الشوق المؤكّد ـ بأن يكون للشوق وجود تقديري في مقابل وجوده التنجيزي، بل هو كسائر الأُمور الواقعية يتّصف بالوجود تارةً وبالعدم أُخرى، وإنّما يكون القيد راجعاً إلى المشتاق إليه باعتبار دخله في صلاحه، بلا فرق بين كون القيد اختيارياً أو غير اختياري.ودعوى أنّه لايكون للشوق فعليّة مع كون القيد أمراً غير اختياري بخلاف ما إذا كان القيد اختيارياً غير تامّة، فإنّه يكفي في فعليّة الشوق إحراز ذلك القيد في موطنه، كما إذا أحرز أنّ الأمير يعطيه الجائزه الخطيرة غداً، فإنّه يصبح باشتياق مفرط لأخذ تلك الجائزة من غير أن ينام في ليلته مهما طالت، شوقاً إليها.والسرّ في ذلك أنّ الموجب للاشتياق ليس الوجود الخارجي بنفسه، بل بإحراز حصوله في موطنه، ويشهد لعدم الفرق بين كون القيد اختيارياً أو غير اختياري أنّ الاشتياق إلى شرب الماء عند عطشه لا يوجب جعل نفسه عطشاناً أو قطع المسافة.نعم لو كانت الإرادة هي الاختيار بمعنى إعمال النفس قدرتها في أحد طرفي الشيء، فهذا لا يتعلّق بغير المقدور ولا بالمتأخّر، كما تقدّم التفصيل في بحث الطلب والإرادة.وذكرنا أنّ الحاصل في المتأخّر القصد والبناء وأنّ صرف المولى قدرته يكون على فعله وهو إنشاء البعث والطلب، والبعث والطلب بما أنّه أمر اعتباري لا يحتاج في تحقّقه إلى حصول القيد خارجاً، فيمكن للمولى لحاظ ذلك القيد في ناحية المتعلّق، لا في ناحية نفس البعث، فيكون واجباً معلّقاً، كما يمكن أن يلاحظ قيداً لنفس البعث، فيكون واجباً مشروطاً.والحاصل لو كان المراد بالإرادة التشريعية البعث الاعتباري، فهذا لا يقاس بالإرادة التكوينية، وعلى تقدير القياس فالإرادة التكوينية أيضاً ـ بمعنى الشوق والميل والبناء قلباً ـ تتعلّق بفعل استقبالي مع إحراز حصول قيدها في موطنه، ولو كان المراد بالإرادة الاختيار وإعمال القدرة، فصرف المولى قدرته يكون بفعله، وهو إنشاء البعث لا بفعل العبد، على ما تقدّم.[2] وقد يقالإنّ ما ذكره في الفصول من كون غير الاختياري قيداً للواجب، وكون الوجوب بالإضافة إليه مطلقاً، غير صحيح، بل الواجب المعلّق بعينه هو الواجب المشروط بنحو الشرط المتأخّر، بحيث لو لم يحصل ذلك القيد غير الاختياري في موطنه أو لم يحصل التمكّن على الفعل في ذلك الظرف لما كان وجوب من الأوّل، فيكون الوجوب من الاوّل مشروطاً بحصول ذلك القيد غير الاختياري في موطنه، كما تقدّم بحث الواجب المشروط.ودعى صاحب الفصول (قدس سره) إلى الالتزام بالواجب المعلّق من تصحيح وجوب الإتيان ببعض مقدّمات الواجب قبل حصول ظرف نفس الواجب، يترتّب على الوجوب المعلّق بذلك الفعل بنحو المشروط بالشرط المتأخّر أيضاً، فلا موجب لتصحيح وجوب الإتيان ببعض مقدّمات الواجب قبل وقت ذلك الواجب إلى الالتزام بالواجب المعلّق، بل ما سمّاه واجباً معلقاً فهو في الواقع من الواجب المشروط بالشرط المتأخّر.ويظهر من الماتن (قدس سره) في الجواب عن الإشكال الذي تعرّض له في المتن بقوله«وربما أشكل على المعلّق أيضاً بعدم القدرة.الخ»(4) أنّ في موارد الواجب المعلّق تكون القدرة على الفعل شرطاً للتكليف بنحو الشرط المتأخّر، ولكن نفس القيد غير الاختياري المتأخّر كالزمان لا يكون قيداً لنفس التكليف، ولو بنحو الشرط المتأخّر، بل ذلك القيد قيدٌ للواجب فقط، وبهذا يفترق الواجب المشروط بالشرط المتأخّر عن الواجب المعلّق، فإنّه لو كان نفس القيد غير الاختياري قيداً للتكليف بنحو الشرط المتأخّر لكان الواجب من قبيل الواجب المشروط بالشرط المتأخّر وأمّا إذا كان القيد المفروض قيداً للواجب فقط ولم يكن في ناحية الوجوب إلاّ الاشتراط بالقدرة على ذلك الفعل في ظرفه فهو من الواجب المعلّق.ولكن لا يخفى أنّ اشتراط حصول ذلك الزمان يدخل في اشتراط القدرة على ذلك الفعل، فيكون حصوله قيداً للوجوب بنحو الشرط المتأخّر وللواجب بنحو الشرط المقارن، نظير دخول الوقت، حيث أنّه شرط للوجوب وقيد للصلاة أيضاً، ولا فرق في اشتراط التكليف بين كون الشيء بنفسه قيداً له أوبما يحصل عنه.والمتحصّل أنّ مرجع الواجب المعلّق إلى الواجب المشروط بالشرط المتأخّر فلا يكون أحدهما في مقابل الآخر، وقد أشرنا إلى أنّ الثمرة التي ذكرت للواجب المعلّق تترتّب على الواجب المشروط بالشرط المتأخّر، حتّى لو فرض أنّ أحدهما في مقابل الآخر.[3] وحاصل ظاهر كلامه (قدس سره) أنّه لا وجه لتخصيص الواجب المعلّق بما إذا كان قيد الواجب أمراً غير اختياري، بل ينبغي تعميمه لما إذا كان القيد المفروض اختيارياً مأخوذاً في الواجب بنحو يترشّح عليه الوجوب الغيري، أو مأخوذاً بنحو لا يترشّح عليه ذلك الوجوب، فإنّ غرض صاحب الفصول من تقسيم الواجب إلى المعلّق والمنجّز لزوم تحصيل بعض المقدّمات التي لا يتمكّن المكلّف من الإتيان بها في ظرف الواجب، فإنّ لزوم التحصيل يترتّب على كون الواجب معلّقاً، ولا يترتّب على كونه مشروطاً، لثبوت الوجوب الحالي في الواجب المعلّق، فيترشّح من الوجوب الحالي المتعلّق بالواجب وجوب تلك المقدّمات بناءاً على الملازمة، ولا يترشّح هذا الوجوب لها بناءاً على الواجب المشروط؛ لعدم وجوب حالي لذلك الواجب إلاّ بعد حصول الشرط.ولكن هذا بناءاً على كون اشتراط وجوب الواجب بالشرط بنحو الشرط المقارن، وأمّا إذا كان بنحو الشرط المتأخّر وفرض وجود الشرط في ظرفه المتأخّر، يكون وجوب ذلك الواجب حاليّاً أيضاً، فيكون الوجوب الغيري لتلك المقدّمة أيضاً حالياً، وليس الفرق بين الواجب المشروط بالشرط المتأخّر وبين الواجب المعلّق إلاّ كون وجوب الواجب مرتبطاً بحصول الشرط المتأخّر، بخلاف المعلّق، فإنّ المرتبط فيه بالمتأخّر نفس الواجب.أقولقد تقدّم أنّ الوجوب في الواجب المعلّق أيضاً مرتبط بحصول ذلك الشرط، فإنّه لولاه لما تمكّن المكلّف من الإتيان بالواجب، والقدرة على الإتيان بالواجب في ظرفه شرط لوجوبه لا محالة، غاية الأمر على تقدير اعتبار المتأخّر في الواجب أيضاً كما هو الفرض يكون نظير اشتراط شيء في كلٍّ من وجوب الواجب ونفس الواجب، واعتبر في الوجوب بنحو الشرط المتأخّر وفي الواجب بنحو الشرط المقارن.والحاصل أنّ الواجب المعلّق قسم من الواجب المشروط بالشرط المتأخّر، وهذا من جهة كون شيء واجباً معلّقاً أو مشروطاً.وأمّا ما ذكره (قدس سره) من أنّه لا وجه لتخصيص المعلّق بما إذا كان قيد الواجب أمراً غير اختياري، بل يعم ما إذا كان ذلك القيد الاستقبالي مقدوراً، سواء أخذ في الواجب بنحو يترشّح عليه أيضاً الوجوب الغيري أم لا، فهو صحيح في الجملة لا مطلقاً، إذ لو كان ذلك القيد للواجب أمراً اختيارياً، بحيث يترشّح عليه الوجوب الغيري، لدخل الواجب في المنجّز، حيث لا يعتبر في الواجب المنجّز المساوي للمطلق أن لا يكون قيد للواجب أصلاً، نظير الأمر بدفن الميت، فإنّه مقيّد بكونه بعد تغسيله وكفنه والصلاة عليه، وبما أنّ كلاًّ من الاغتسال والكفن والصلاة عليه أمر مقدور، يكون الدفن واجباً منجّزاً فيجب مع قيوده.وأمّا إذا أخذ القيد المقدور في الواجب بنحو لا يترشّح عليه الوجوب، ويعبّر(قدس سره) عن ذلك بأنّ وجوده الاتفاقي قيد للواجب، فما ذكره وإن كان صحيحاً إلاّ أنّ هذا أيضاً يدخل في الواجب المشروط بالشرط المتأخّر، فيكون حصوله فيما بعد شرطاً لوجوب الواجب بنحو الشرط المتأخّر ولنفس الواجب بنحو الشرط المتقدّم أو المقارن، وذلك لما يأتي من أنّه إذا أراد المولى أن لا يسري الوجوب الغيري أو لزوم الإتيان العقلي إلى قيد الواجب فعليه أن يفرض ذلك القيد في ناحية موضوع التكليف مفروض الوجود، كما إذا التزمنا بأنّ وجوب غسل مسّ الميت يكون حالياً قبل مسّه، ولكن الغسل لابدّ من أن يقع بعد المسّ، فعلى المولى أن يفرض في موضوع وجوب الاغتسال مسّ الميت بنحو الشرط المتأخّر، ويجعل المسّ قيداً لنفس الاغتسال بنحو الشرط المتقدّم، فيجب على المكلّف الذي يعلم بمسّ الميت بعد ذلك تحصيل الماء لاغتساله فيما أحرز أنه لا يتمكّن على تحصيل الماء بعد المسّ.وبما أنّ القسم الأول لايدخل في الواجب المعلّق بوجه ـ والمراد بالقسم الأوّل القيد الاختياري للواجب الذي يترشّح عليه الوجوب الغيري ـ التزم بعض بوقوع الغلط في نسخة الكتاب بسقوط كلمة «لا» من قوله «على نحو يكون مورداً للتكليف»(5)، وكان الصحيح «على نحو لا يكون مورداً للتكليف» وأنّ كلمة «أو لا» بعد قوله «ويترشّح عليه الوجوب» زائدة.وكانت العبارة هكذا «بل ينبغي تعميمه إلى أمر مقدور ومتأخّر أُخذ على نحو لا يكون مورداً للتكليف ويترشّح عليه الوجوب لعدم تفاوت فيما يهمّه» واللّه العالم.[4] حاصلهأنّ المناط في فعلية الوجوب الغيري للمقدّمة وكونها بحيث يلزم على المكلّف تحصيلها هو حالية الوجوب في ذي المقدّمة وفعليّته، سواء كان نفس ذي المقدّمة أمراً حالياً أو استقبالياً، كالصوم في الغد والمناسك في الموسم، ولا يفرق أيضاً في فعلية وجوب ذيها بين كون وجوبه مشروطاً قد تحقّق ذلك الشرط، كما إذا كان مشروطاً بنحو الشرط المتقدّم أو المقارن، أو يتحقّق في ظرفه، كما إذا كان وجوبه مشروطاً بنحو الشرط المتأخّر أو كون وجوبه مطلقاً بنحو الواجب المنجّز، أو بنحو الواجب المعلّق، فإنّه مع حالية وجوب ذي المقدّمة يجب على المكلّف مقدّماته الوجودية.نعم فيما كانت مقدّمة الوجود قيداً للوجوب أيضاً، أو كانت مقدّمة الوجود مأخوذة في الواجب بنحو لا يسري إليها الوجوب الغيري، كما إذا أُخذت عنواناً للمكلّف، كالمسافر والحاضر والمستطيع، أو كان الواجب هو الفعل المقيّد باتفاق حصوله باختيار المكلّف أو بلا اختياره، لم يتعلّق بها الوجوب الغيري ولم يلزم تحصيلها.والوجه في عدم اتّصاف مقدّمة الوجوب وشرطه بالوجوب الغيري فيما أُخذ بنحو الشرط المتقدّم أو المقارن ظاهر حيث لا فعلية لوجوب ذي المقدّمة قبل تحقّقه، وبعد تحقّقه لا معنى لتعلّق الوجوب الغيري به، لأنّه من طلب الحاصل، وكذا فيما كان القيد عنواناً للمكلّف، فإنّ وجوب الصلاة قصراً يتوقّف على السفر خارجاً ليصير المكلّف مسافراً، ومعه لا معنى لتعلّق الوجوب الغيري بالسفر بعد صيرورة المكلّف مسافراً لأنّه من طلب الحاصل.وذكر (قدس سره) أنّ الأمر فيما كان القيد شرطاً للوجوب بنحو الشرط المتأخّر أو كان الفعل المقيّد بقيد اتفاقيّ مورداً للتكليف أيضاً كذلك، بمعنى أنّ تعلّق الوجوب الغيري بالقيد يكون من طلب الحاصل، وكذا فيما أُخذ القيد عنواناً للمكلّف بنحو الشرط المتأخّر.ولكن قد يتوهّم أنّ الشيء إذا كان شرطاً للوجوب بنحو الشرط المتأخّر لا يلزم من تعلّق الوجوب الغيري به طلب الحاصل؛ لأنّ فعليّة الواجب تكون قبل تحقّق ذلك الشرط، ولكنّه فاسد، فإنّ اشتراط وجوب الواجب بشيء يلازم اشتراط وجوب مقدّماته أيضاً بذلك الشيء بمقتضى التبعية في الملازمة، ولو كان نفس ذلك الشيء أيضاً واجباً غيريّاً لكان وجوبه أيضاً مشروطاً بحصول نفسه، وهذا من طلب الحاصل.وبهذا يظهر الحال فيما إذا كان انطباق عنوان على المكلّف فيما بعد شرطاً لتكليفه فعلا بالفعل، فإنّ الأمر الغيري لا يمكن أن يتعلّق بتطبيق ذلك العنوان، بناءً على ما تقدّم من رجوع تقييد الواجب بالوجود الاتفاقي للقيد ـ كجعله عنواناً للمكلّف ـ إلى اشتراط وجوب الفعل به بنحو الشرط المتأخّر، وظاهر ذيل كلام الماتن (قدس سره) يساعد على ذلك أيضاً، فتدبر تجزم أنّه لا معنى للوجود الاتفاقي للقيد غير كون المكلّف مطلق العنان بالإضافة إلى ذلك القيدالاختياري، ولازم كون المكلّف مطلق العنان بالإضافة إليه جعل التكليف الفعلي على تقدير حصوله، كما هو الشأن في جميع قيود التكليف ثبوتاً.فتحصل من جميع ما ذكرنا أنّ الواجب التعليقي والواجب المشروط بالشرط المتأخّر على اصطلاح الشيخ (قدس سره) والمشهور مرجعهما إلى أمر واحد ثبوتاً، فيكون التكليف على تقدير حصول ذلك القيد المتأخّر، فعليّاً قبله لحصول شرطه المتأخّر في موطنه، سواء كان القيد أمراً غير اختياري أو اختيارياً.وثمرة فعليّة التكليف قبل حصول شرطه المتأخّر هو لزوم الإتيان بمقدّماته الوجودية تعيّناً فيما إذا لم يتمكّن المكلّف ـ على تقدير عدم تحصيلها فعلا ـ من الإتيان بمتعلّق التكليف فيما بعد، وبنحو التوسعة والتخيير فيما إذا تمكّن منه بالإتيان بالمقدّمة بعد ذلك.[5] هذا إشكال على ما التزم به (قدس سره) من أنّ وجوب المقدمة قبل زمان ذيها يكشف إنّاً عن سبق وجوب ذلك الواجب وكون وجوبه فعلياً، وإن كان نفس الواجب فعلا استقبالياً.وحاصل الإشكال أنّه بناءاً على كشف حالية وجوب المقدّمة عن فعلية وجوب ذيها يكون فعلية وجوب ذيها موجباً لتعلّق الوجوب الغيري بسائر مقدّماته أيضاً ولو موسّعاً، فتجب المبادرة إلى تلك المقدّمات قبل زمان الواجب فيما إذا لم يتمكّن المكلّف منها بعد زمان الواجب لولا المبادرة، مع أنّ الأمر ليس كذلك في سائر المقدّمات.وأجاب (قدس سره) بأنّه يلتزم بهذه المبادرة إلاّ إذا كانت القدرة المأخوذة من ناحية سائر المقدّمات أو بعضها قدرة خاصّة وهي القدرة عليها بعد مجيء زمان الواجب لامطلق القدرة ولو في زمان وجوب الواجب.وبيان ذلك أنّ المقدّمة الوجودية وإن لم تكن بنفسها قيداً لوجوب ذيها إلاّ أنّ التمكّن على تلك المقدّمة يكون قيداً للتكليف بذيها لا محالة؛ ولذا لا يجب الشيء فيما إذا لم يتمكّن المكلّف على مقدّمة من مقدّماته، والتمكّن على المقدّمة المعتبر في التكليف بذيها ليس خصوص التمكّن عليها بعد حصول ظرف الإتيان بنفس الواجب، بل الأعمّ منه ومن التمكّن عليها في زمان التكليف بذيها.وإذا لم يجب تحصيل مقدّمة قبل حصول ظرف الواجب بحيث إذا لم يأتِ بها لم يتمكّن عليها في ظرف الواجب، يكون ذلك كاشفاً عن كون المعتبر من التمكّن عليها في وجوب ذيها هي القدرة عليها بعد حصول ظرف الواجب وحال العمل به لو ثبت عدم وجوب التحفّظ حتّى بعد حصول ظرف الواجب، كجواز إجناب المكلّف نفسه بعد حصول ظرف الواجب ـ يعني الصلاة ـ، ولو مع علمه بأنّه لا يتمكّن من الغسل مع إجناب نفسه، يكون ذلك كاشفاً عن كون المعتبر في وجوب الصلاة مع الطهارة المائية من حدث الجنابة خصوص التمكّن على تلك الطهارة في ظرف القيام إلى الصلاة المعبّر عن ذلك بالقدرة على المقدّمة حال العمل.أقولقيام الدليل على وجوب مقدّمة في زمان ـ كما في وجوب الغسل في الليل بالإضافة إلى صوم الغد ـ لا يكون كاشفاً عن فعليّة التكليف بذيها في ذلك الزمان، فإنّ تعلّق الوجوب الغيري بشيء ليس إلاّ لتوقّف الواجب عليه، وإذا فرض توقّف استيفاء الصلاح الملزم في الواجب على الإتيان بشيء بحيث لا يمكن استيفاء الصلاح بدونه، يكون العقل حاكماً بلزوم تحصيل القدرة عليه بتحصيل ذلك الشيء، ولو قبل فعليّة وجوب ذلك الواجب.وقد ذكرنا عند التعرّض لوجوب التعلّم أنّ تفويت الغرض الملزم للمولى ـ كمخالفة تكليفه ـ قبيح في نظر العقل، وعليه فلو فرض أنّ الواجب كذلك ولم يكن للمكلّف سبيل إلى معرفة ذلك، لكان على المولى الحكيم الأمر بتلك المقدّمة والبعث إليها قبل البعث إلى ذيها، ولا نتعقّل لهذا الوجوب معنىً غير الوجوب الغيري.وما يسمّى بالوجوب النفسي التهيّئي بحيث يتعدّد العقاب في صورة المخالفة أو يكون العقاب على مخالفة الأمر بتلك المقدّمة لا يمكن الالتزام به مع استقلال العقل بأنّه يصحّ للمولى مؤاخذة العبد على تفويت الملاك الملزم في ذلك الواجب في ظرفه، ولو بتعجيز نفسه بترك تلك المقدّمة التي أمر بها المولى قبل الأمر بذيها.وبتعبير آخرفعلية وجوب المقدّمة تتبع فعلية ملاك ذيها فيما كانت تلك المقدّمة دخيلة في استيفاء ملاك ذيها، بخلاف المقدّمة التي يكون التمكّن عليها في ظرف الواجب دخيلا في أصل ملاك ذلك الواجب، فإنّه لا يصحّ للمولى الأمر بتلك المقدّمة قبل مجيء ظرف ذلك الواجب.ثم إنّه لا مانع من أن يكون ملاك الواجب بالإضافة إلى مقدّمة من مقدّماته فعلياً، وبالإضافة إلى سائرها غير فعلي، فلا يكون تعلّق الوجوب الغيري بالأوّل كاشفاً عن فعلية وجوب ذيها، وإنّما يكون كاشفاً عن فعلية الملاك وملزميّته بالإضافة إلى تلك المقدّمة، ولذا ذكرنا في بحث الشرط المتأخّر للواجب أنّ وجوب الصوم عن المستحاضة يسقط بدخول الليل، لكون بقاء وجوبه لغواً، ولكن الوجوب الغيري المتعلّق باغتسالها في الليل باق، لبقاء الملاك الملزم وعدم حصوله بدونه.وما في بعض الكلمات من أنّ إيجاب مقدّمة في مورد قبل إيجاب ذيها، من الإيجاب للغير لا الإيجاب بالغير؛ لا يرجع إلى أمر صحيح بعد الإحاطة بما ذكرنا من أنّ الإيجاب الغيري للمقدّمة يتبع فعلية ملاك ذيها من ناحيتها لا فعلية الأمر بذيها، وسنذكر فيما بعد من أنّه لو كان للوجوب الغيري أثر، حتّى يكون مولوياً فهو هذا المورد.وجميع ما ذكره الماتن (قدس سره) وغيره مبني على كون فعلية وجوب فعل متوقّفة على تعلّق إرادة المولى بذلك الفعل، ويلزم من إرادته إرادة ما يتوقّف عليه ذلك الفعل من المقدّمات قهراً، ولكن قد تقدّم منّا عدم تعلّق إرادة المولى بفعل العبد، بل تتعلّق بفعل نفسه وهو البعث نحو الفعل لملاك ملزم يكون ذلك الملاك داعياً له إلى البعث نحوه، وإذا اختلفت مقدّماته من حيث دخلها في ذلك الفعل ملاكاً يبعث إلى مقدمته التي لها دخل في ملاكه مطلقاً قبل مجيء ظرف ذلك الفعل كما تقدم من غير أن يطلب نفس الفعل قبل مجيء ظرفه.لا يقالالأمر بمقدّمة قبل التكليف بذيها إرشاد إلى دخلها في ملاكه الملزم مطلقاً، فلا يدخل الأمر بها في التكليف المولوي بالمقدّمة، ليقال إنّه غيري لا نفسي تهيّئي، فقاعدة الملازمة بين إيجاب ذي المقدّمة ومقدّمته في الفعلية وعدمها لم تنتقض.فإنّه يقالجميع الأوامر المولوية ـ نفسية كانت أو غيرية ـ تكشف عقلاً ـ بمقتضى حكمة المولى ـ عن ثبوت الملاك في متعلّقاتها نفسياً أو غيرياً، وهذا لا يوجب الإرشادية، بل لو لم يأمر المولى بالفعل وأخبر أنّ له فيه ملاكاً ملزماً بداعي البعث إليه يعتبر هذا أمراً وطلباً مولوياً قاطعاً لعذر العبد ومصحّحاً لاحتجاجه عليه فيما إذا لم يأت بالفعل المفروض مع تمكّنه عليه.ومما ذكرنا يظهر أنّه لو ترك المكلّف المقدّمة التي وجبت عليه قبل التكليف بذيها، لم يكن في حقّه تكليف بذيها فيما بعد، فإنّ تكليفه به لغو محض، ولكن مع ذلك يستحقّ العقاب على تركه وتفويته ملاكه الملزم، والأمر الغيري بتلك المقدّمة مصحّح لهذا الاستحقاق، حيث إنّ الامتناع بسوء الاختيار ينافي التكليف ولا ينافي استحقاق العقاب.أقسام القدرة: فتحصل مما ذكرناأنّه قد تكون القدرة على الواجب في ظرفه دخيلة في ملاكه الملزم، بحيث لا يكون في حق العاجز عنه في ذلك الظرف فوت ملاك ملزم، فيجوز في هذا الفرض للمكلّف تعجيز نفسه قبل حصول ظرف ذلك الواجب.وقد تكون القدرة عليه في ذلك الظرف دخيلة في مجرّد استيفاء الملاك، بحيث يفوت على العاجز عنه في ذلك الظرف الملاك الملزم، وفي هذه الصورة لا يجوز للمكلّف تعجيز نفسه قبل ذلك الظرف، بل يجب عليه التحفّظ وتحصيل القدرة عليه، ولا مانع من أن يكون تحصيل القدرة عليه من ناحية بعض مقدّماته من قبيل القسم الثاني، وفي ناحية بعضها الآخر من قبيل الأوّل.ويستكشف كون القدرة في ظرف الواجب كذلك ـ أي دخيلةً في مجرد الاستيفاء ـ بتوجيه التكليف به ولو قبل مجيء ظرف الواجب إن كانت مأخوذة بنحو الشرط المتأخّر أو الأمر بمقدّمته التي تكون القدرة على الواجب في ظرفه دخيلة في مجرد استيفاء ملاكه كما في الأمر بالاغتسال على الجنب والحائض في الليل لصوم الغد.وقد يقالبأنّه إذا لم يؤخذ في خطاب الأمر بفعل قدرة المكلّف عليه بأن كان الحاكم بتقييد موضوع ذلك التكليف، العقل بملاك قبح خطاب العاجز وتكليفه، تكون القدرة فيه شرطاً في استيفاء الملاك، بخلاف ما إذا أُخذت القدرة عليه في خطاب التكليف، فإنّه لا يستفاد منه ثبوت الملاك إلاّ في صورة القدرة عليه، فتكون دخيلة في أصل الملاك لا استيفاءه.ولكن الصحيح أنّ الكاشف عن الملاك هو التكليف بالفعل، فإذا فرض عدم ثبوت التكليف في حقّ العاجز عن العمل ولو بحكم العقل، فلا كاشف عن الملاك وإحراز كون القدرة على العمل دخيلة في استيفاء الملاك فقط يحتاج إلى التكليف الفعلي بذلك العمل ولو بنحو الشرط المتأخر أو الأمر بمقدّمته قبل زمان الواجب، بحيث لو لم يأتِ المكلّف بتلك المقدّمة قبله لما تمكّن عليه في ذلك الظرف المتّحد مع زمان التكليف به.[6] قد التزم (قدس سره) بأنّ وجوب مقدّمة من مقدّمات الواجب في زمان يكشف عن فعليّة الوجوب المتعلّق بذلك الواجب في ذلك الزمان، ويرد على هذا الالتزام أمران: أحدهماما تقدّم من أنّه قد تكون مقدّمة الواجب في زمان واجبة مع العلم بعدم فعلية وجوب الواجب في ذلك الزمان، كما في وجوب معرفة بعض العبادات، كالصلاة قبل مجيء زمان وجوبها، مع أنّ وجوبها يكون بدخول الوقت.وقد أجاب عن هذا الأمر بأنّ الوجوب الغيري لمقدّمة يكشف عن فعلية وجوب ذيها في ذلك الزمان بطريق الأنّ لا محالة، سواء كان فعلية وجوبه بنحو الواجب المعلّق أو المشروط بالشرط المتأخّر، والأمر في مثل تعلّم أجزاء الصلاة وشرائطها قبل الوقت ليس للوجوب الغيري بل للوجوب النفسي التهيئي.وثانيهما: ما أشار اليه بقوله: «إن قلتلو كان.الخ» وتقرير الإشكال أنّه إذا كشف وجوب مقدّمة قبل ظرف الواجب عن فعليّة وجوب ذلك الواجب لوجب قبل ذلك الظرف سائر مقدّماته أيضاً، ولو موسّعاً فيجب المبادرة إلى تلك المقدّمات فيما إذا أحرز المكلّف اتفاقاً عدم التمكّن منها بعد حصول ظرف الواجب، مع أنّ الأمر ليس كذلك، فإنّ الشيخ (قدس سره) مع إنكاره الواجب المشروط باصطلاح المشهور والتزامه بفعلية وجوب الصلاة قبل الوقت لم يلتزم بوجوب المبادرة إلى الوضوء أو الغسل قبل دخول وقت الصلاة، حتّى فيما إذا أحرز المكلّف عدم تمكّنه منها بعد دخول الوقت.وأجاب (قدس سره) عن هذا الإشكال بأنّه إذا كان وجوب الواجب فعلياً في زمان صار وجوب سائر مقدّماته أيضاً فعليّاً.ولكن بما أنّ القدرة على مقدّمة الواجب شرط في وجوب ذلك الواجب، فربّما يكون المأخوذ في وجوبه ولو بنحو الشرط المتأخر القدرة الخاصّة على مقدّمته، وهي القدرة عليها في ظرف الواجب، ففي مثل ذلك لا يتعيّن على المكلّف المبادرة إلى تلك المقدّمة قبل وقت الواجب وظرفه، حتّى فيما إذا أحرز عدم تمكّنه عليها في ظرف الواجب لو لم يبادر، لأنّ عدم التمكّن عليها في ذلك الظرف يكشف عن عدم وجوب الصلاة بالوضوء أو الغسل من الأوّل، ولو كان هذا العجز لأجل ترك المكلّف المقدّمة قبل وقت الواجب وظرفه.أقولقد تقدم أنّ وجوب مقدّمة قبل ظرف الواجب لا يكشف إلاّ عن فعلية الملاك في الواجب من ناحية تلك المقدّمة، بمعنى أنّ القدرة على الواجب في ظرف وجوب الواجب شرط في استيفاء ملاكه، وليست القدرة عليها في ظرف الواجب دخيلا في أصل ملاكه، فيمكن أن يكون وجوب المقدّمة فعلياً من غير أن يكون وجوب ذيها في ذلك الزمان فعلياً، ويرد على الماتن (قدس سره) بناءً على ما اختاره ـ من إمكان إيجاب المقدّمة قبل فعلية وجوب ذيها بالوجوب النفسي التهيئي ـ أنّه كيف يستكشف من الأمر بمقدّمة من مقدّمات الواجب في زمان، كون وجوب الواجب فعلياً في ذلك الزمان، لأنّ وجوب المقدّمة المحتمل كونه نفسياً تهيُّئيّاً يمنع من الكشف عن فعليّة وجوب ذيها، بخلاف ما ذكرناه من كشفه عن فعلية ملاك ذيها من ناحية تلك المقدّمة، فإنّه لا مانع من هذا الكشف، فتدبّر جيّداً.نعم لو أحرز وجوب الواجب قبل مجيء زمانه وظرفه، لزم الإتيان بسائر مقدّماته موسّعاً، ويتعيّن المبادرة إليها لو أحرز المكلّف عدم تمكّنه من تلك المقدّمات بعد حصول ظرفه إلاّ فيما ذكره (قدس سره) في الموارد التي اعتبر في وجوب الواجب القدرة الخاصّة على تلك المقدّمات.ونزيد على ما ذكره أنّه قد يقوم دليل على عدم وجوب التحفّظ على القدرة على مقدّمة الواجب وجواز تفويتها حتّى في ظرف الواجب، كما ورد الدليل على جواز إجناب المكلّف نفسه بعد دخول وقت الصلاة مع علمه بأنّه على تقدير إجناب نفسه لا يتمكّن من الغسل، فيكون هذا الدليل كاشفاً عن كون التمكّن من الغسل المعتبر في التكليف بالصلاة مع الطهارة المائية من الحدث الأكبر، خصوص التمكّن في ظرف القيام إلى الصلاة المعبّر عن ذلك بالقدرة حال العمل.(1).نهاية الدراية2 / 73.(2).تهذيب الأُصول1 / 182، مطبعة مهر بقم.(3).أجود التقريرات1 / 137.(4).الكفايةص 103.(5).الكفايةص 103.تتمّةقد عرفت اختلاف القيود في وجوب التحصيل.إلخ[1].وربّما قيل في الدوران بين الرجوع إلى الهيئة والمادة بترجيح الإطلاق في ناحية الهيئة.إلخ[2].مقتضى الاصل العملي عندالشك في اعتبار قيد[1] إذا ورد خطاب الأمر بفعل، بمفاد القضية الشرطية فظاهرها اشتراط وجوب الفعل بحصول القيد بنحو الشرط المقارن، وكذا كلّ قيد في الخطاب أخذ في ناحية الموضوع لذلك التكليف فيما لو كانت القضية حملية، ولا يختصّ ذلك بالتكليف، بل يجري في سائر الأحكام والقيود المذكورة لها أو لموضوعاتها، فيؤخذ بذلك إلاّ مع القرينة على خلافها سواء كانت القرينة داخلية مغيّرة لظهور الخطاب، أو معيّنة للمراد منه، ولو كانت خارجية.وأمّا إذا لم يكن في البين خطاب حتّى يستظهر منه، أو كان الخطاب مقروناً بما يوجب إجماله في دلالته الاستعمالية التصديقية أو ما يوجب سقوط ظهور الخطاب عن الاعتبار فتصل النوبة إلى الأصل العملي.وأمّا إذا دار الأمر بين اشتراط وجوب الفعل بقيد أو كون وجوبه مطلقاً بأن يكون القيد راجعاً إلى الواجب، فالاستصحاب في عدم تعلّق التكليف بالفعل في فرض عدم حصول ذلك القيد، ولا أقلّ من أصالة البراءة عن وجوبه في فرض عدم حصوله، يثبت نتيجة الواجب المشروط بلا فرق بين كون ذلك القيد من الفعل الاختياري أو كان أمراً غير اختياري.وفيما أحرز كونه قيداً لنفس التكليف ودار أمره بين أن يكون قيداً له بنحو الشرط المقارن أو بنحو الشرط المتأخّر فالاستصحاب في عدم اعتبار التكليف قبل حصول ذلك القيد، ولا أقلّ من أصالة البراءة تعيّن، نتيجة الواجب المشروط بنحو الشرط المقارن.ثم إنّه إذا علم كون شيء قيداً للتكليف بنحو الشرط المقارن ولكن لم يعلم أنّ ذلك الأمر قيد لمتعلّق التكليف أيضاً أو أنه ليس إلاّ قيداً لوجوبه، كما إذا قضى الولد الأكبر ـ ما على أبيه من الصلاة والصيام بعد موته ـ حال صغره وبعد البلوغ شكّ في أنّ القضاء عند صغره كاف في سقوط ما كان على أبيه من الصلاة والصيام أو أنّه يتعيّن عليه أن يقضي حال كبره، وفي مثل ذلك يستشكل في جريان البراءة عن وجوب القضاء عليه بعد كبره، لأنّها لا تثبت سقوط ما كان عليه، بل الاستصحاب في بقاء ما كان على أبيه يثبت وجوب القضاء.أقولهذا مبني على جريان الاستصحاب في الشبهة الحكمية، وأمّا بناءاً على عدم جريانه فيها فأصالة البراءة عن وجوب القضاء جارية.دوران الأمر بين تقييد المادة أو الهيئة[2] إذا ورد في الخطاب أمر بفعل، وذكر في ذلك الخطاب قيد، وتردّد أمر القيد بين أن يكون قيداً لوجوب ذلك الفعل حتّى لا يجب تحصيله، أو قيداً لنفس الفعل، حتّى يجب تحصيله، ونظير ذلك ما إذا لم يذكر القيد في الخطاب، وعلمنا من الخارج ولو بخطاب آخر اعتبار القيد، ودار أمره بين أن يعتبر في وجوب الفعل أو نفس الفعل.فقد حكي عن الشيخ (قدس سره) أنّه بناءاً على إمكان رجوع القيد إلى مفاد الهيئة يكون المتعيّن تقييد المادّة وبقاء الهيئة على إطلاقه، ولا تصل النوبة إلى الأصل العملي، وذلك لوجهين: الوجه الأوّلأنّ إطلاق الهيئة يكون شمولياً، بمعنى أنّ مقتضاه ثبوت الوجوب للفعل المفروض، سواء أتى بذلك القيد أم لا، بخلاف الإطلاق في ناحية المادّة فإنّه بدلي، حيث إنّ الوجوب لا يتعلّق بجميع الوجودات المفروضة لذلك الفعل، بل يتعلّق بصرف وجوده وهو يحصل بوجود واحد، وكلّما دار الأمر بين التصرّف في المطلق الشمولي أو البدلي يكون الثاني أولى بالتصرّف، وعليه يرفع اليد عن إطلاق المادة ويبقى نفس الوجوب المستفاد من الهيئة بحاله.والوجه الثانيأنّه لو كان القيد راجعاً إلى المادّة بقي إطلاق الهيئة بحاله، بخلاف ما لو رجع القيد إلى الهيئة، فإنّه يبطل مورد الإطلاق في المادة أيضاً، فمثلا على تقدير اشتراط وجوب الصلاة بدخول الوقت، لا وجوب لها قبل دخوله، وهذا معنى تقييد الهيئة، وعلى تقدير تقييد المادّة لا تكون الصلاة قبل دخوله مصداقاً للواجب، وهذا معنى بطلان مورد الإطلاق في المادة وإبطال مورد إطلاق المادّة بإيراد القيد على مفاد الهيئة في حكم التقييد الآخر في كونه خلاف الأصل.وأجاب الماتن (قدس سره) عن الوجه الأوّل بأنّه لا موجب لتقديم الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي بالتصرّف في الثاني فقط، بل الملاك في التقدّم قوة الظهور بالإضافة إلى الآخر، فلو كان العموم البدلي بالوضع، والشمولي بالإطلاق، يرجّح البدلي على الشمولي، وبالجملة يتقدّم العموم الوضعي على الإطلاق، سواء كان العموم الوضعي شمولياً أو بدلياً.وفي مفروض الكلام كل من عموم الهيئة والمادة بالإطلاق ومقدّمات الحكمة، ولا يتفاوت الإطلاق بمقدّمات الحكمة في كون مقتضاها شمولياً أو بدلياً، كما أنّه قد يكون مقتضاها التعيين، كما مرّ في أنّ إطلاق الصيغة يقتضي كون الوجوب تعيينياً عينياً نفسياً.وأجاب عن الوجه الثاني بأنّ المخالف للأصل هو تقييد المطلق وتضييق دائرته بعد انعقاد ظهوره في الإطلاق بتمامية مقدّمات الحكمة، وأمّا العمل الذي يوجب عدم تماميّة مقدّمات الحكمة وعدم انعقاد الظهور في ناحيته ـ كما إذا اقترن المطلق بما يصلح كونه قرينة على تقييده ـ فهو غير مخالف للأصل، وفي مفروض كلامنا القيد متّصل بخطاب الأمر ويدور أمره بين رجوعه إلى مفاد الهيئة أو المادة، فلاينعقد الإطلاق في ناحية الهيئة، كما لا ينعقد في ناحية المادة.نعم لو كان القيد وارداً في خطاب منفصل أو علم به إجمالا لكان لما ذكر وجه، فإنّه بعد انعقاد الظهور الإطلاقي في ناحية الهيئة والمادّة يكون رجوعه إلى المادّة تقييداً واحداً، بخلاف إرجاعه إلى الهيئة، فإنّه يوجب رفع اليد عن كلا الإطلاقين ولو بعدم بقاء المجال للعمل بإطلاق المتعلّق بعد تقييد الهيئة.أقولإنّ مفروض الكلام هو ما إذا كان القيد المحتمل رجوعه إلى مفاد الهيئة أو المادة وارداً في خطاب الحكم وفي هذه الصورة لا تتمّ مقدّمات الحكمة لا في ناحية الهيئة ولا في ناحية المادة، فمع عدم القرينة على التعيين يجب الإتيان بالمتعلّق عند حصول القيد المفروض، لأنّه إن كان شرطاً لوجوبه فقد حصل، وإن كان قيداً لنفس الواجب تعيّن الإتيان به أيضاً، غاية الأمر كان تعيّنه من قبل، وأمّا مع عدم حصول ذلك فيرجع إلى استصحاب عدم جعل وجوب الفعل قبل حصول القيد، ولا أقلّ من أصالة البراءة عن وجوبه كما تقدّم، فلا يجب الإتيان بالمتعلّق.وبتعبير آخرإنّ في فرض اتصال القيد المحتمل رجوعه إلى مفاد الهيئة أو المادة لا ينعقد الإطلاق في ناحية الهيئة ولا في ناحية المادّة، وما تقدّم من أنّ الإطلاق في ناحية الهيئة شمولي فهو فرع جريان مقدّمات الحكمة، والمفروض عدم جريانها في ناحية الهيئة كعدم جريانها في ناحية المادة.وظاهر عبارة الماتن (قدس سره) في الجواب عن الوجه الأوّل يعطي أنّ أحد الظهورين ليس أقوى من الآخر؛ لأنّ كلاًّ منهما بالاطلاق ومقدّمات الحكمة.ولكن قد ذكرنا أنّه مع عدم تماميّة مقدّمات الحكمة في شيء من ناحية الهيئة أو المادة لا ظهور من ناحية الهيئة في الشمولية ولا من ناحية المادة في البدليّة بالإضافة إلى مفادها حتى يكون أحدهما أقوى، وأمّا مع تماميّة مقدّمات الحكمة كان الظهور فيهما كذلك وإن أنكر الظهور أيضاً بعض الأعاظم (قدس سره)وجماعة، والتزموا بأنّ الإطلاق لا يوجب الظهور للخطاب، بل الإطلاق مستند إلى حكم العقل بعد تماميّة مقدّمات الحكمة، لا إلى ظهور اللفظ ودلالته.وبتعبير آخرالمقدّمات المعبّر عنها بقرينة الحكمة لا تكون من قبيل الدالّ اللفظي حتّى توجب الظهور في الخطاب.إلاّ أنّ كون القرينة شيئاً غير ملفوظ لا ينافي كونها موجبة للظهور كالقرينة الحالية، ولذا في فرض تماميّة مقدّمات الإطلاق تصحّ نسبة المدلول إلى المتكلّم بأن يقال إنّه أظهر لنا ذلك وبيّنه، ولكنّ هذا غير مهمّ في المقام، وسنتكلّم إن شاء اللّه عنه في بحث المطلق والمقيّد.تقديم الإطلاق الشمولي على البدليوالمهم التكلّم فيما ذكره الماتن (قدس سره) من أنّه لو كان دلالة أحدهما على العموم بالوضع والآخر بالإطلاق، لكان العموم الوضعي مقدّماً على العموم الإطلاقي، مع أنّ الأمر ليس كذلك، فإنّه لو قلنا بأنّ هيئة صيغة «إفعل» موضوعة للوجوب المطلق، فلا مفرّ أيضاً من الالتزام برجوع القيد إلى المادة، فإنّه لو كان القيد المحتمل رجوعه إلى الهيئة أو المادة متّصلا بالخطاب ـ كما هو ظاهر الفرض ـ فالأمر ظاهر؛ لاحتفاف الكلام بما يصلح كونه قرينة على المراد من الهيئة وبما يصلح كونه قرينة على تقييد المتعلّق، فإنّ ما يصلح للقرينة هو القيد لا المطلق ليقال لم ينعقد له إطلاق، وكذا إذا ورد القيد في خطاب منفصل أو علم من الخارج بورود القيد على أحدهما، لما ذكرنا في محلّه من أنّ تقديم العامّ على المطلق ينحصر بما إذا كان التعارض بينهما بالذات، كما ورد في خطاب «أكرم العالم» وفي خطاب آخر «لا تكرم أيّ فاسق» حيث لا يمكن أن يكون إكرام العالم الفاسق منهياً عنه ومأموراً به، فيكون العموم الوضعي قرينة على التصرّف في الخطاب الآخر بحسب المتفاهم العرفي، فإنّهم يجعلون الأقوى ظهوراً قرينة على المراد من الخطاب الآخر، وأمّا إذا لم يكن بين الخطابين تعارض بالذات، بحيث يمكن تحقّق مضمونهما خارجاً ولكن علم عدم إرادة عمومهما معاً، كما إذا ورد في خطاب «أكرم كلّ عالم» وورد في خطاب آخر ما يدلّ على كراهة إكرام الجاهل، وعلم من الخارج بورود قيد لأحدهما فلا موجب في مثل ذلك لتقديم عموم أحدهما على الآخر وإرجاع القيد إلى الآخر، ولو كان ظهوره أقوى من الآخر، حيث لا يعدّ أحدهما قرينة على المراد من الآخر لعدم المنافاة بينهما ونسبة العلم الإجمالي بورود القيد إلى كلٍّ منهما على حدٍّ سواء، ومن هذا القبيل العلم الإجمالي بورود قيد إمّا على المادة أو الهيئة.وممّا ذكرنا يظهر أنّ ما ذكر الماتن (قدس سره) في الجواب عن الوجه الثاني بأنّه يمكن إرجاع القيد إلى المادة وبقاء الهيئة على حاله من الإطلاق فيما لو كان القيد بخطاب منفصل، أو علم من الخارج باعتبار القيد إمّا في ناحية الوجوب أو الواجب، لا يمكن المساعدة عليه، والوجه فيه هو أنّ نسبة العلم الإجمالي بورود قيد إمّا على مفاد الهيئة أو مفاد المادة على حدٍّ سواء.لا يقالإنّ هذا العلم الإجمالي ينحلّ بالعلم التفصيلي بعدم بقاء الإطلاق في ناحية المادة يقيناً إمّا بورود القيد على نفس المادة، أو لبطلان إطلاقها بورود القيد على مفاد الهيئة، وأمّا ورود القيد على مفاد الهيئة وبطلان إطلاقه غير معلوم، بل هو محتمل، فلا موجب لرفع اليد عنه.فإنّه يقالإنّ المعلوم تفصيلا ليس هو تقييد المادة، بل لزوم الإتيان بمتعلّق الأمر في فرض وجود القيد، وأمّا في فرض عدم حصوله فلا موجب للزوم الإتيان بالمتعلّق.وإن شئت قلت إنّ العلم التفصيلي بعدم بقاء إطلاق المادة ينتقض بالعلم التفصيلي بورود قيد على مفاد الهيئة أيضاً لا محالة للعلم الإجمالي بأنّ ذلك القيد إمّا التمكّن عليه ـ المفروض تردّده بين رجوعه إلى المادة أو الهيئة ـ كما لو كان راجعاً إلى المادة، فإنّه قد تقدّم أنّ القدرة والتمكّن على قيد الواجب من شروط وجوب المقيد، وإمّا حصول نفس ذلك القيد، كما إذا كان القيد راجعاً إلى نفس الهيئة، وعليه فيتساقط العلمان التفصيليان ولم يبقَ متيقن تفصيلا، بالإضافة إلى هذا العلم الإجمالي، كما لا يخفى.بقي في المقام أمرٌ، وهو أنّ ما حكي عن الشيخ (قدس سره) من أنّه إذا دار الأمر بين التصرّف في الإطلاق الشمولي أو الإطلاق البدلي يتعيّن التصرّف في الإطلاق البدلي، قد التزم به المحقّق النائيني (قدس سره)، لكن لا في مثل المقام بل فيما كان التنافي بين الإطلاقين بالذات كما في قوله «أكرم عالماً» وقوله «لا تكرم الفاسق» لا في مثل قوله سبحانه (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا)(1) ممّاكان الإطلاقان شموليين أو بدليين، وذكر في وجه التقديم أنّ الإطلاق البدلي يحتاج إلى مقدّمة زائدة على المقدمات التي يحتاج إليها انعقاد الإطلاق الشمولي، وذلك أنّ النهي عن طبيعة بحيث يعمّ النهي جميع أفراد تلك الطبيعة لا يحتاج إلى تساوي أفرادها في ملاك النهي، بل يمكن أن يختلف أفرادها في ملاك الحكم، كالنهي عن هدم المسجد وتخريبه، فإنّه يعمّ تخريب كلّ مسجد، من المسجد الحرام ومسجد الجامع بالكوفة ومسجد القرية ومسجد المحلّة، مع اختلافها في ملاك التحريم من حيث الشدّة والضعف.وهذا بخلاف الإطلاق البدلي، فإنّ الحكم بالاكتفاء بأيّ فرد يحتاج إلى إحراز تساويه مع سائر الأفراد في الملاك الملزم وأنّه يشتمل على الملاك الملحوظ في الطبيعي المأمور به، وعليه فإذا ورد في خطاب الأمر بإكرام عالم، وفي خطاب آخر النهي عن إكرام الفاسق، فبشمول النهي لإكرام العالم الفاسق لا يحرز تساوي إكرامه مع إكرام العالم غير الفاسق، بل يحرز عدم حصول ملاك الطبيعة المأمور بها فيه، ولذا يتقدّم خطاب النهي عن التصرّف في مال الغير بلا إذنه على خطاب الأمر بالصلاة في مورد الصلاة في الدار المغصوبة، وبالجملة فبتماميّة مقدّمات الإطلاق في ناحية النهي عن الطبيعة تنتفي مقدّمات الإطلاق في ناحية الإطلاق البدلي(2).ولكن لا يخفى ما فيه فإنّه يكفي في الحكم بالاجزاء بكلّ فرد من الطبيعي المتعلّق للأمر عدم ورود القيد وعدم ذكره في ناحية ذلك المتعلّق أو الموضوع، ولا يحتاج ـ بعد إحراز عدم ورود القيد ـ إلى شيء آخر في إحراز تساوى الأفراد في الملاك الملزم؛ ولذا ذكرنا أنّ الإطلاق في متعلّق الأمر يستلزم الترخيص في تطبيقه على كلِّ فرد منه في مقام الامتثال، ولو كان ذلك موقوفاً إلى إحراز التساوي زائداً على عدم ذكر القيد للمتعلّق والموضوع في مقام البيان، وما كان يمكن إحراز التساوي من عدم ذكر القيد، فما فائدة هذا الإطلاق.وبتعبير آخراللازم على المولى هو ذكر القيد لمتعلّق التكليف أو الموضوع مع اختلاف أفراده في الملاك، ومع عدم ذكره في مقام البيان يعلم بعدم اختلافها فيه، ولذا لا يكون وجود القدر المتيقّن في البين بحسب الملاك مانعاً من التمسّك بالإطلاق في العموم البدلي كالشمولي.(1).سورة البقرةالآية 275.(2).أجود التقريرات1 / 161.ومنهاتقسيمه إلى النفسي والغيري[1].ثم إنّه لا إشكال فيما إذا علم بأحد القسمين، وأمّا إذا شكّ في واجب أنّه نفسي أو غيري[2].وأمّا إذا لم يكن، فلابدّ من الإتيان به فيما إذا كان التكليف بما احتمل كونه شرطاً له فعلياً[3].الأوّللا ريب في استحقاق الثواب على امتثال الأمر النفسي.إلخ[4].نعم، لا بأس باستحقاق العقوبة على المخالفة وبزيادة المثوبة[5].الواجب النفسي والغيري[1] قد ذكر (قدس سره) ما حاصله أنّه حيث لا يكون طلب شيء وإيجابه بلا داع، لأنّهما من الأفعال الاختياريّة وعليه فإن كان الداعي للمولى في إيجاب شيء التوصّل به الى واجب آخر، بحيث لا يحصل بدونه، يكون وجوبه غيريّاً، وإن لم يكن إيجابه للتوصّل إلى واجب آخر كذلك، يكون وجوبه نفسيّاً، سواء كان الداعي إلى إيجابه محبوبيّته في نفسه كالمعرفة باللّه، أو محبوبيّته بلحاظ ترتّب أثر عليه ووجود ملاك ومصلحة فيه، كأكثر الواجبات من العبادات والتوصليّات.ثم أورد على ما ذكره بأنّه يلزم أن يكون الواجب في موارد محبوبيّة الفعل بلحاظ وجود الملاك وترتُّب الأثر غيريّاً، فإنّ الواجب في الحقيقة ذلك الملاك، والمصلحة المترتّبة على الفعل، فذلك الملاك واجب نفسي، والفعل واجب غيري، ويكشف عن كون الملاك واجباً نفسياً أنّه لو لم يكن ترتّبه على الفعل لما كان له داع إلى إيجابه.وربّما يجاب عن الإشكال بأنّ الملاك المترتّب على الفعل في نفسه غير مقدور، فلا يتعلّق به الإيجاب، وإنّما يتعلّق بما هو مقدور للمكلّف وتحت سلطانه وهو الفعل.ولكن لا يخفى ما فيه، فإنّه يكفي في التمكّن المعتبر في التكليف وخروجه عن اللغويّة، التمكّن على الواجب ولو بالتمكّن على سببه؛ ولذا يتعلّق التكليف بالمسبّب، نظير الأمر بالطهارة الحاصلة من الوضوء أو الغسل، وبالتمليك والتزويج والطلاق والعتاق وغيرها من المسبّبات الحاصلة بالعقد أو الإيقاع.وأجاب (قدس سره) عن أصل الإشكال بأنّ الفعل بلحاظ ترتّب الأثر عليه ووجود المصلحة فيه يتّصف بالعنوان الحسن، فيستحقّ فاعله المدح ويذمّ تاركه، وإذا تعلّق الأمر به بهذا الاعتبار يكون وجوبه نفسياً، بخلاف الواجب الغيري، فإنّه لا يترتّب عليه الملاك ولا الأثر المحسّن له، بل يوجب أن يحصل ذلك العنوان الحسن لفعل آخر، فيكون إيجاب ذلك الآخر نفسياً، وإيجاب هذا الفعل غيريّاً.نعم قد يكون فيما يتعلّق به الأمر الغيري جهتان، فيتّصف بالحسن بإحدى الجهتين، فيكون إيجابه نفسيّاً، كصلاة الظهر، فإنّها واجب نفسي، ومع ذلك توجب حصول الملاك لصلاة العصر، فيكون وجوبها غيرياً بالإضافة إلى التوصّل إلى صلاة العصر.أقولالأمر في الواجبات التوصليّة بلحاظ الأثر المترتّب عليها لا بلحاظ حسنها، كالأمر بدفن الموتى، وأداء الدَّين وغيرهما، ولذا يسقط الأمر بها ولو أتى بها بغير قصد القربة أو بنحو محرّم، ولو في بعض الموارد.وذهب المحقّق النائيني (قدس سره) في المقام إلى أنّه لو كان الأثر مترتّباً على الفعل بلا توسيط أمر غير اختياري، كترتّب زهوق الروح على ذبح الحيوان، صحّ ما ذكر من أنّه لابأس بالأمر بالمسبّب باعتبار كون سببه تحت الاختيار، فيكون الواجب النفسي هو المسبّب والأمر بالسبب يكون أمراً غيريّاً.وأمّا إذا كان ترتّب الأثر على الفعل بتوسيط أمر غير اختياري كترتّب نبات الأرض على الزرع، فلا يصحّ تعلّق الوجوب بالأثر ليكون الأمر بالزرع من الأمر الغيري، فإنّ تعلّق القدرة ببعض مبادئ الشيء مع خروج بعضها الآخر عن الاختيار لا يصحّح الأمر إلاّ بذلك البعض الاختياري من المبادئ، ولا يخفى أنّ الآثار المترتّبة على الواجبات في الشرع من قبيل الثاني لا الأوّل، وأنّها مترتّبة عليها بتوسيط أُمور خارجة عن اختيار المكلّف، وإلاّ كان المتعيّن تعلّق الأوامر في الخطابات بتلك الآثار والمصالح، ويشهد لما ذكر أيضاً ما ورد في تجسّم الأعمال يوم القيامة(1).أقوليرد عليه أوّلاً بأنّه لا سبيل لنا إلى إحراز كون الآثار المترتّبة على الواجبات في الشرع من قبيل القسم الثاني، ودعوى أنّها لو كانت من القسم الأوّل تعيّن تعلّق الأمر في الخطابات بنفس المصالح والآثار، مدفوعة بصحّة تعلّق الأمر بالسبب في الخطاب كصحّة تعلّقه بالمسبّب، ولو كان ترتّب المسبّب على السبب موجباً لتعيّن تعلّق التكليف بالمسبب، لما تعلّق الأمر بالذبح والنحر وغيرهما من الأسباب.وثانياًلو فرض أنّ المصالح والآثار تترتّب بتوسيط أُمور خارجة عن الاختيار، فهذا بالإضافة إلى الأثر الأقصى، وأمّا الأثر القريب فيترتب على الفعل لا محالة، مثلا يكون الواجب النفسي إعداد الحبّ للنبات الحاصل بجعله في الأرض الصالحة للزرع، فيكون بثّ الحبّ في تلك الأرض واجباً غيريّاً.وأمّا تجسّم الأعمال، فلو كان غرضاً فهو من الغرض الأقصى.والحاصل أنّه لا يبعد أن يقالكلّما كان البعث إليه بالأمر به لداعي التوصّل به إلى واجب آخر فوجوبه غيري، وإلاّ يكون وجوبه نفسياً، حتّى مع فرض أنّ الموجب لتعلّق الطلب به هو الصلاح المترتّب عليه؛ لأنّ البعث مادام لم يتوجّه نحو ذلك الصلاح في الخطاب، يكون طلب الفعل نفسيّاً.والوجه في عدم تعلّق التكليف في الخطاب بذلك الصلاح إمّا عدم معروفيّة موجبه وسببه للمكلّف ـ لئلاّ يتعيّن في سبب خاصّ ولا يكن معروفاً عنده ـ فمثلا تذكّر الجوع في القيامة وعطشها يحتمل أن يكون هو الملاك في الأمر بصوم شهر رمضان، إلاّ أنّه لم يبيّن للمكلّف.وإمّا أنّ الصلاح المترتّب على الفعل ليس من قبيل المعلول بالإضافة إلى علّته، بل من الحكمة التي لا يدور وجوب الفعل مدار حصولها.والفرق بين كون الصلاح من قبيل الحكمة وبين عدم معروفية سببه عند المكلّف، هو إمكان أن يكون الواجب ثبوتاً تحصيل الملاك والأثر في الثاني، بخلاف موارد كون الملاك بنحو الحكمة، كما لا يخفى.وذكر المحقّق الاصفهاني (قدس سره) في توجيه الواجبات النفسية وافتراقها عن الواجبات الغيرية أنّ الشوق الحيواني للإنسان ـ بمقتضى قاعدة كلّ ما بالعرض ينتهي إلى ما بالذات ـ ينتهي إلى شوق بقاء الذات الحيواني للإنسان، كما أنّ الشوق العقلاني له ينتهي بمقتضى تلك القاعدة إلى الشوق إلى طاعة ربّه والتخلّق بأخلاقه، وحيث إنّ غاية الغايات في الشوق الحيواني والعقلاني صارت كالطبيعة الثانية، فلا تحتاج إلى التفات تفصيلي ورويّة وفكر، هذا بالإضافة إلى الإرادة التكوينيّة.وأمّا بالإضافة إلى الإرادة التشريعيّة ـ وهي إرادة الفعل من الغير ـ فلا ينتهي المطلوب من الغير إلى ما بالذات بالإضافة إلى ذلك الغير، فمثلا شراء اللحم مطلوب من زيد، وطبخه مطلوب من عمرو، وإحضاره مطلوب من بكر، فالصلاح في شراء اللحم غير مطلوب من زيد، بل يراد من عمرو، والأمر في الواجبات الشرعية كذلك، فالصلاح الكامن في الصلاة غير مراد من المكلّف إتيانه؛ إذ لا يكون الصلاح فيها مراداً من المكلّف لا بالذات ولا بالعرض، بل المراد منه نفس الصلاة، فتكون الصلاة واجبة نفسياً(2).أقوللو غضّ النظر عمّا ذكره في الإرادة التكوينية، أنّ ذكره في الإرادة التشريعية غير صحيح، فإنّ الغرض المترتّب على شراء اللحم من زيد ليس الطبخ، بل تمكين زيد عمرواً على طبخه، وهذا هو المطلوب من زيد، وأمّا الطبخ فهو ـ بالإضافة إلى شراء اللحم ـ من الغرض الأقصى، وكذا الحال في طلب طبخه من عمرو بالإضافة إلى إحضار المطبوخ المطلوب من بكر، وهذا ظاهر.وبالجملة طلب الغرض الأقصى من شخص آخر لا يوجب أن لا يكون طلب الشراء من زيد طلباً نفسيّاً، وهكذا الحال في الواجبات الشرعية بالإضافة إلى المصالح المترتّبة عليها.الشكّ في النفسية والغيرية: [2] يقع الكلام في فرضينأحدهما ما إذا ورد في الخطاب الأمر بفعل في مقام البيان، وشكّ في أنّ الأمر به نفسي أو غيري.والثاني ما إذا لم يكن في البين خطاب أصلاً، وعلم من الخارج وجوب فعل إمّا نفسياً أو غيرياً، أو كان الخطاب في مقام الإهمال.أمّا الفرض الأوّل، كما إذا ورد الأمر بالاغتسال من مسّ الميت بعد برده وقبل تغسيله، وشكّ في أنّ الغسل على من مسّ الميت واجب نفسي، أو أنّه واجب غيري، لكونه شرطاً للصلاة كالاغتسال من الجنابة، ففي مثل ذلك يمكن إثبات النفسية بالتمسّك بإطلاق الأمر به فيما لم يكن في البين قرينة على غيرية وجوبه، كما هو المفروض، بتقريبأنّ الشكّ في المقام يرجع إلى الشكّ في كونه واجباً مطلقاً أو واجباً مشروطاً.وقد تقدّم أنّه يثبت بإطلاق الهيئة كون وجوب الفعل مطلقاً لا مشروطاً، والوجه في رجوع الشكّ إلى ذلك، هو أنّ الوجوب في الواجب الغيري يتقيّد بما تقيّد به وجوب الواجب النفسي، كما هو مقتضى تبعيّة الوجوب الغيري للوجوب النفسي في إطلاقه واشتراطه، ولو كان الاغتسال على من مسّ الميت واجباً غيرياً لتقيّد وجوبه بدخول وقت الصلاة المشروط وجوبها بدخوله، ومقتضى الإطلاق في ناحية الأمر بالاغتسال على من مسّ الميت، سواء أُنشئ بصيغة الأمر أو بغيرها هو كون وجوبه غير مشروط بدخول وقت الصلاة، فيكون وجوبه نفسياً.ولكن حكي عن الشيخ (قدس سره) في تقريرات بعض تلامذته أنّه لا يمكن إثبات نفسية الوجوب بالاستناد إلى إطلاق الهيئة ونحوها، وذلك لأنّ مفاد الهيئة فرد من الطلب الذي لا يعقل فيه الإطلاق والتقييد، فإنّ الجزئي لا يقبل الإطلاق والتقييد والقابل لهما مفهوم الطلب، ومفهومه ليس هو معنى الهئية، فإنّ الفعل يتّصف بالمطلوبية بتعلّق الأمر به، ولا يتّصف مفهوم الطلب بها، وهذا شاهدٌ على أنّ المطلوبية توجد بتعلق واقع الطلب بالفعل، وهو جزئي لا يقبل الإطلاق والتقييد دون مفهومه، فإنّه كلّي وقابل لهما إلاّ أنّه ليس بمدلول للصيغة.وبتعبير آخريصير الفعل مطلوباً ومراداً بتعلّق واقع الإرادة وحقيقتها به، لا بلحاظ مفهوم الطلب.وأجاب الماتن (قدس سره) بأنّه ليس مفاد الهيئة والمنشأ بها إلاّ معنى لفظ الطلب، والإنشاء يرد على هذا المعنى، وهو كلّي قابل للتقييد، ولو قبل إنشائه فينشأ الطلب مطلقاً أو مقيّداً، وأمّا الإرادة الحقيقية فهي أجنبية عن مفادها، بل هي صفة نفسانيّة يحمل عليها الطلب بالحمل الشائع، وغير قابلة للإنشاء والإيجاد باللفظ.نعم تكون تلك الصفة من الدواعي إلى إنشاء الطلب بالفعل، فيكون الفعل متّصفاً بالمطلوبية الحقيقية، كما أنّه قد يكون الداعي إلى إنشاء الطلب بالفعل غيرها، فيكون الفعل متّصفاً بالمطلوبية الإنشائية فقط، وعلى ذلك فالتمسّك بإطلاق الهيئة لكشف حال وجوب الفعل وكون طلبه مطلقاً غير مشروط بما يجب به الفعل الآخر، أمرٌ صحيح، وأنّه لا ملازمة بين عدم إمكان تقييد الإرادة الحقيقية وعدم إمكانه في الطلب الإنشائي.ولعلّ التعبير عن مفاد الهيئة بالطلب وعدم ذكر كونه إنشائياً أوجب اشتباه مفهوم الطلب المفروض كونه مدلول الهيئة بمصداقه الحقيقي.أقولقد تقدّم في الواجب المشروط أن تقييد مفاد الهيئة عبارة عن تعليق الطلب المنشأ، كتعليق المنشأ في المعاملات كالوصية أو تعليق النسبة الطلبية، فالأوّل كقوله «أطلب منك إكرام زيد إذا جائك»، والثاني كقوله «إن جائك زيد فأكرمه» والوجوب الغيري سواء كان إنشائه بمادة الطلب أو بصيغة الأمر، عبارة عن تعليق وجوب الفعل بما إذا وجب فعل آخر، ولا محذور في هذا التعليق حتّى بناءاً على كون مفاد الهيئة والمعنى الحرفي جزئيّاً حقيقيّاً لا يقبل التوسعة والتضيّق، بدعوى أنّ الإطلاق والتقييد بهذا المعنى يختصّان بالمفاهيم الإسمية، ولا يجريان في معاني الحروف والهيئات، وقد ذكرنا أنّ معانيهما أيضاً يتّصفان بذلك، ولكن بتبع معنى المدخول والمتعلّقات.ثم إنّه لو تنزّلنا عن ذلك وبنينا على أنّ معاني الحروف والهيئات لا تقبل التعليق أيضاً، فيمكن استظهار كون وجوب الفعل نفسياً لا غيرياً من إطلاق المادة، فمثلا إذا ورد في الخطاب الأمر بالاغتسال على من مسّ الميت وشك في كون وجوبه نفسياً أو غيريّاً، كالاغتسال من الجنابة، يثبت كون وجوبه نفسياً بإطلاق الاغتسال وعدم تقييده بقصد التوصل إلى الصلاة، وذلك لأنّ متعلّق الأمر الغيري على مسلك الشيخ(قدس سره) مقيّد بالقصد المذكور كما يأتي، فيكون إطلاق الاغتسال في خطاب وجوبه كاشفاً عن كونه واجباً نفسياً.وقد يوجّه بطريق آخر إثبات كون الفعل واجباً نفسياً، وهو التمسّك بإطلاق متعلّق الأمر النفسي الآخر المحتمل كون الفعل المشكوك في نفسيّة وجوبه أو غيريّته قيداً له، كإطلاق الصلاة في مثل قوله سبحانه (وَأَقِيْمُوا الصَّلاةَ) فإنّه لو كان الاغتسال على من مسّ الميت واجباً غيرياً كانت الصلاة متقيّدة به، بخلاف ما إذا كان واجباً نفسياً، وبما أنّ دلالة الخطاب معتبرة في مدلوله الالتزامي، فيثبت بإطلاق المتعلّق لوجوب الصلاة كون وجوب الاغتسال نفسياً وأنّ الصلاة غير مقيّدة به.لكن لا يخفى أنّ هذا يصحّ على مسلك الأعمي فيما إذا فرض تمامية الإطلاق في ناحية المتعلّق في خطاب (أَقِيْمُوا الصَّلاةَ)، وقد تقدّم في بحث الصحيحي والأعمي عدم كون مثل الخطاب المذكور في مقام بيان المتعلّق، بل إنّما هو وارد في بيان أصل التشريع.[3] هذا هو الفرض الثاني من الفرضين، وهو بيان مقتضى الأصل العملي عند دوران أمر الواجب بين كونه نفسياً أو غيرياً، وللشكّ في ذلك صورٌ ثلاث: الصورة الأُولىما إذا أحرز أنّ وجوبه مع وجوب الفعل الآخر من المتماثلين في الإطلاق والاشتراط، ولكنّه على تقدير كونه غيريّاً يعتبر الإتيان به بنحو خاصّ، لتقيّد الفعل الآخر بسبقه أو لحوقه أو مقارنته كالاغتسال على من مسّ الميت فيما إذا فرض العلم بعدم وجوبه قبل دخول وقت الصلاة، ولكن دار أمره بين كونه واجباً نفسياً فيجوز الاغتسال من المسّ ولو بعد الصلاة، أو كونه واجباً غيريّاً فيتعيّن عليه الاغتسال قبل الصلاة، ففي مثل ذلك لا بأس بجريان البراءة في ناحية تقيّد الصلاة به، فإنّ رعاية الاشتراط ضيّق على المكلّف، والأصل عدم تعلّق الوجوب بالصلاة المتقيّدة به على ما هو المقرّر في بحث دوران أمر الواجب بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين، ولا يعارضها أصالة البراءة عن وجوب الاغتسال نفسياً، للعلم بأصل الوجوب وترتّب العقاب على تركه أو بتركه، وكذا الحال في استصحاب ناحية عدم جعل الوجوب النفسي له للعلم المفروض.وبالجملة فالفعلية في الواجب الآخر في هذه الصورة مسلّمة قطعية وإنّما غيرية هذا الواجب أو نفسيّته مشكوكة.الصورة الثانيةما إذا علم أنّ وجوب المشكوك في نفسيّته أو غيريّته مع وجوب الفعل الآخر غير متماثلين في الإطلاق والاشتراط على تقدير النفسية، وعلى تقدير الغيرية في وجوبه يعتبر الإتيان به قبل الصلاة مثلا، ففي مثل ذلك تكون أصالة البراءة عن اشتراط الصلاة به معارضة بأصالة عدم وجوبه قبل وقت الصلاة، فيجب على المكلّف الجمع بين الاحتمالين بالاغتسال قبل الصلاة، فتكون النتيجة نتيجة الواجب الغيري.الصورة الثالثةما إذا دار أمر الفعل بين كونه واجباً نفسياً فيكون فعلياً في حقّه، أو غيريّاً مقدّمة لواجب لا يعلم المكلّف بفعليّته في حقّه أصلاً ولو مستقبلا، كما إذا دار أمر الختان بين كونه واجباً نفسياً أو غيريّاً من باب اشتراط الطواف به، ويفرض عدم علم المكلّف بحصول الاستطاعة له مسقبلا، ففي مثل ذلك لا بأس بالرجوع إلى أصالة البراءة بالإضافة إلى وجوبه النفسي.ويلحق بهذه الصورة ما إذا علم بكونه واجباً غيرياً وشرطاً لواجب لا يعلم بفعلية وجوبه في حقّه، ولكن يشكّ في وجوبه نفساً، كما إذا علم بأنّ الختان شرط في طواف الحجّ، ولكن يشكّ في وجوبه نفساً، فإنّ أصالة البراءة عن وجوبه النفسي مع عدم العلم بحصول الاستطاعة له تجري بلا إشكال.وعبارة الماتن (قدس سره) خالية عن التعرّض إلى البراءة عن الاشتراط في الصورة الأُولى، كما أنّها خالية عن التعرّض لتنجيز العلم الإجمالي في الصورة الثانية.الثواب على الواجبات الغيرية[4] إن كان المراد بالاستحقاق، اللزوم على اللّه (سبحانه) وفاءاً لوعده، فهذا يجري في بعض الواجبات الغيرية التي ورد الوعد بالثواب عليها كالخروج إلى مثل الحجّ.وإن كان المراد من استحقاق الثواب على امتثال الأمر النفسي اللزوم على اللّه (سبحانه) نظير استحقاق الأجير الأجرة على المستأجر والعامل على من أمره بعمل فيما إذا أتى الأجير أو العامل بالعمل المستأجر عليه أو المأمور به، ففي ثبوت هذا الاستحقاق على امتثال الأمر النفسي تأمّل، بل منع، إذ العقل لا يحكم على اللّه (سبحانه) بشيء إزاء طاعة العبد وعمله بوظيفته المقرّرة له من اللّه (سبحانه) بعد كونه ولي النعم والمنعم الحقيقي على العبد.وإن أُريد من استحقاق العبد أنّ قيامه بوظائفه ورعاية ولاية خالقه موجب لأن يقع مورد التفضّل منه تعالى من غير وجوب شيء عليه، كتفضّله عليه بجعل توبة العبد كفّارة لذنبه، فهذا صحيح إلاّ أنّ نفي الاستحقاق بهذا المعنى في موارد امتثال الأمر الغيري محلّ تأمّل؛ لاستقلال العقل بحسن التفضّل والإحسان إلى من يأتي بالمقدّمة قاصداً بها التوصّل إلى امتثال التكليف المتوجّه إليه وأن الإتيان بها كذلك يوجب تقرّب العبد إليه (سبحانه) فيما إذا لم يوفّق إلى إتيان الواجب النفسي لطروّ العجز بعد الإتيان بها لعارض آخر.وعليه لا مجال في الفرض لدعوى أنّ زيادة الثواب من باب كون ذي المقدّمة من أشقّ الأعمال، كما ورد في الثواب على بعض المقدّمات.نعم، يبقى في الفرض دعوى أنّ استحقاق المثوبة في الفرض من جهة الانقياد والقصد إلى الإتيان بالواجب النفسي، ولذا لو لم يكن في البين قصد التوصل بل مجرّد الإتيان بمتعلّق الواجب الغيري لتعلّق الأمر الغيري به لما كان في البين حكم بالاستحقاق، كما إذا أتى بالمقدّمة مع تردّده في عصيانه وطاعته، بالإضافة إلى الواجب النفسي بعد ذلك.ولكن يمكن دفعها بوجدان الفرق بين المكلّف الذي يأتي بالمقدّمة بقصد التوصّل إلى ذيها ولكن طرء العجز عليه بعد الإتيان بها، وبين المكلّف القاصد لإتيان المقدّمة توصّلاً إلى ذيها ولكن طرء العجز عليه قبل الإتيان بالمقدّمة بتحقّق الامتثال ولو ببعض مراتبه في الأوّل وعدمه في الثاني، وإن كان الانقياد بقصد الطاعة فيهما على حدٍّ سواء، اللّهم إلاّ أن يقال مع طريان العجز بذي المقدّمة لا يكون بينهما فرق إلاّ في مراتب الانقياد، والفرق بين مراتب الانقياد كالفرق بين مراتب التجرّي أمر ممكن غير منكر، ومع ذلك كلّه فكون الإتيان بالمقدّمة بقصد التوصّل بها أو بقصد امتثال الأمر بها غيرياً موجباً لوقوع العبد موقع التفضّل عليه مما لا ينكر.[5] يعني إنّ ترك الواجب الغيري يوجب استحقاق العقاب على المخالفة، ـ أي مخالفة الأمر بالواجب النفسي ـ فإنّه بترك المقدّمة تحصل مخالفته، كما يمكن دعوى أنّ مع الإتيان بالمقدّمة بقصد التوصل إلى ذيها يحكم باستحقاق مزيد الثواب على امتثال الواجب النفسي، حيث يكون الإتيان بالواجب النفسي مع الإتيان بمقدمته بقصد التوصّل من أشقّ الأعمال وأحمزها ولا يخفى أنّ أشقّها أفضلها.والوجه في صيرورة ذي المقدّمة من أشقّ الأعمال على ذلك التقدير، شهادة الوجدان بأنّه لو كان للعبد داع نفساني إلى الإتيان بالمقدّمة لما كان يصعب عليه الإتيان بذيها بمثابة صعوبة ما إذا لم يكن له داع من المقدّمة غير التوصّل إلى ذيها.ثمّ إنّه (قدس سره) قد حمل ما ورد في الثواب على بعض المقدّمات على ما ذكره من زيادة الثواب على الواجب الغيري أو على التفضّل، وعلّل ذلك بأنّ موافقة الأمر الغيري ـ بما هو أمر وإيجاب لا بما هو شروع في إطاعة الأمر النفسي ـ لا يوجب قرباً، ومخالفته بما هو مخالفة الأمر الغيري لا يوجب بعداً، والثواب والعقاب من تبعات القرب والبعد.ولكن لا يخفى ما فيهفإنّ وعد الثواب على امتثال الواجب النفسي أيضاً فضلا عن الغيري على نحو التفضّل كما تقدّم، لا الاستحقاق.ودعوى البداهة في أنّ الإتيان بالواجب الغيري بداعوية الأمر الغيري لا يوجب قرباً كما ترى.وأمّا دعوى كون الإتيان به كذلك شروعاً في امتثال الواجب النفسي، فهي نظير دعوى كون شراء الطعام شروعاً في الأكل وأنّ غسل الثوب أو البدن من النجاسة ـ باعتبار أنّ طهارتهما شرط في الصلاة ـ شروع في امتثال الأمر بالصلاة، مع أنّ الصلاة أوّلها التكبير.وبالجملة الإتيان بقيد الواجب النفسي بداعوية الأمر الغيري به أو لقصد التوصل به إلى الواجب في نفسه تقرّب فيما إذا كان الداعي إلى الإتيان بالواجب النفسي أمر الشارع به، غاية الأمر لا يكون تقرباً نفسياً، بل تقرّباً تبعياً.(1).أجود التقريرات1 / 38 و 167.(2).نهاية الدراية1 / 101.إشكال ودفعأمّا الأوّل فهو أنّه إذا كان الأمر الغيري.إلخ[1].أحدهماما ملخّصه أنّ الحركات الخاصّة[2].وثانيهاما محصّله أنّ لزوم وقوع الطهارات عبادة[3].وأمّا ما ربّما يقال في اعتبار قصد الإطاعة في العبادات من الالتزام بأمرين[4].الثانيقد انقدح ممّا هو التحقيق في وجه اعتبار قصد القربة في الطهارات[5].ضرورة ان عنوان المقدّمة ليس بموقوف عليه الواجب[6].لا شبهة في أنّ وجوب المقدّمة بناءاً على الملازمة يتبع في الإطلاق والاشتراط وجوب ذيها[7].ولا يقاس على ما إذا أتى بالفرد المحرّم[8].عبادية الطهارات الثلاث: [1] أمّا الإشكال فمن وجهين: أحدهماأنّه إذا كان الإتيان بالمقدّمة ولو بقصد امتثال الأمر بها غيرياً غير موجب لاستحقاق الثواب عليها، فكيف حال الطهارات الثلاث؟ فإنّه لا ينبغي التأمّل في استحقاق المثوبة عليها وحصول التقرّب بها، ولو فيما إذا أتى بها لمجرّد امتثال الأمر الغيري بها.وثانيهماما أشار إليه بقوله «هذا مضافاً إلى أنّ الأمر الغيري.إلخ» وحاصله أنّه لابدّ من كون وجوب المقدّمة توصليّاً، بمعنى سقوط الأمر الغيري بها بالإتيان بها، ولو بغير داع قربي؛ لأنّ الغرض من الأمر الغيري بالمقدّمة تمكّن المكلّف من ذي المقدّمة ووصول يده إلى ذيها، وهذا الغرض يحصل بحصول المقدّمة كيف ما حصلت، وعليه فما وجه اعتبار قصد التقرّب في سقوط الأمر بالطهارات وأنّه لا يسقط الأمر الغيري بها بمجرد الإتيان بها من غير قصد امتثال الأمر.وحاصل ما ذكره (قدس سره) في دفع الوجهين من الإشكال هو أنّ الطهارات الثلاث ـ حتّى التيمم منها ـ مطلوبات نفسية بالأمر الاستحبابي التعبّدي، فتكون مطلوبة كسائر المستحبّات النفسية والطهارات بما هي مستحبّات نفسية وذوات ملاكات مترتّبة عليها عند الإتيان بها قربيّاً، قد أُخذت قيداً للصلاة ونحوها لدخالتها كذلك في صلاح الصلاة ونحوها.وبتعبير آخرأنّ عباديّتها ليست لأجل تعلّق الأمر الغيري بها، بل لتعلّق الأمر الاستحبابي النفسي بها، حيث لا يتحصل ملاكاتها النفسية بلا قصد التقرّب، وقد أخذت بما هي عبادات قيوداً للصلاة ونحوها، ولا تحصل ـ بما هي قيد الصلاة ـ بلا قصد التقرّب ليسقط الأمر الغيري بها.وبالجملة كون الطهارات الثلاث عبادة إنّما هو لتعلّق الأمر الاستحبابي النفسي بها، حيث إنّ الأمر الاستحبابي تعبّدي لا يحصّل ملاكاتها إلاّ إذا أتى بها بقصد التقرّب، وبما أنّ المأخوذ قيداً للصلاة هي الطهارة المأتي بها عبادة، فلا يسقط الأمر الغيري بها من غير أن تقع بنحو العبادة، حيث إنّ الفاقد لقصد التقرّب ليس بقيد للصلاة.لا يقالعلى ذلك يلزم أن يقصد عند الإتيان بها الأمر بها نفسياً، لتقع بنحو العبادة، مع أنّه يكفي في صحّتها وسقوط الأمر الغيري بها الإتيان بها بداعوية الوجوب الغيري المتعلّق بها.فإنّه يقالبعد فرض أنّ قيد الصلاة هي الطهارة بنحو العبادة، فالأمر الغيري يدعو إليها كذلك، حيث أنّ الأمر لا يدعو إلاّ إلى ما هو القيد والمقدّمة، ولذا يكتفى في صحّتها بقصد امتثال الأمر الغيري بها.أقولالمفروض في الإشكال أنّ المتوضيء مثلا يقصد غسل وجهه ويديه ومسح رأسه ورجليه بداعوية الأمر الغيري المتعلّق بنفس مجموع هذه الأفعال، لا أنّ الأمر الغيري يدعوه إلى الإتيان بها بداعوية الأمر النفسي الاستحبابي المتعلّق بها كي يكون داعويّة الأمر الغيري بنحو الداعي إلى الداعي كما ذكر ذلك في قصد التقرب من الأجير الذي يقضي ما على الميت من الصلاة والصوم.ومن المعلوم أنّه تصّح الطهارات ولو ممن لا يرى الاستحباب النفسي فيها بعد دخول وقت الصلاة وانحصار الأمر بها في الغيري، بل ممن يعتقد عدم الاستحباب النفسي في التيمم وعدم ملاك نفسي فيه، إلاّ أنّه (قدس سره) التزم بأنّ موافقة الأمر الغيري و قصدها لا يوجب التقرّب، ومعه فكيف يحصل التيمم بوجه قربي من المعتقد بعدم استحبابه النفسي؟ والمتعيّن في الجواب أن يقالإنّ ما يتوقّف عليه الصلاة أو الطواف هو الوضوء أو الغسل أو التيمّم بوجه قربي، بأن يضاف الإتيان بها إلى اللّه سبحانه، فالأمر الغيري يتعلّق بها مع هذا القصد، وبما أنّ الإتيان مع قصد امتثال الأمر الغيري أو قصد التوصل إلى الواجب النفسي إتيان الفعل مضافاً إلى اللّه سبحانه وموجب لوقوع الوضوء أو الغسل أو التيمّم بنحو العبادة فيصّح، نظير ما تقدّم في أخذ قصد التقرب في متعلّق الأمر النفسي في العبادات.نعم وجود ملاك الاستحباب النفسي في الطهارت يوجب أن تكون في نفسها عبادة صالحة للتقرّب بها مجرّدة عن قصد الصلاة ونحوها، بخلاف سائر المقدّمات كما يأتي توضيحه إن شاء اللّه تعالى.[2] توضيحه ان العنوان المنطبق على فعل يكون على نحوين: أحدهماأن يكون انطباقه عليه قهرياً غير محتاج إلى قصد ذلك العنوان، كالأكل والشرب والقتل ونحوها.وثانيهماأن يكون انطباقه على الفعل موقوفاً على قصد ذلك العنوان زائداً على قصد نفس الفعل كعنوان التعظيم والإهانة وأداء الدين ونحوها.وحيث لم يكن الوضوء أو الغسل أو التيمّم قيداً للصلاة بنفسه، بل القيد لها المعنون بعنوان خاصّ قصديّ، وأنّ ذلك العنوان القصدي غير معلوم عندنا، فلابدّ في الإتيان بها بذلك العنوان القصدي من قصد الأمر بها غيريّاً لدعوته إلى متعلّقه، فيكون ذلك العنوان مقصوداً ولو بنحو الإجمال.وأورد الماتن (قدس سره) على هذا الجواب بوجهين: الأوّلكون العنوان الموقوف عليه الصلاة قصدياً وغير معلوم عندنا لا يقتضي الإتيان بالطهارات بداعوية الأمر الغيري بها، بل يمكن قصد ذلك العنوان المجهول بوجه آخر، وهو قصد الأمر الغيري بها وصفاً لا جعله داعياً إلى الإتيان، مثلا يقصد المكلّف العنوان الذي تعلّق الأمر الغيري به، ويأتي بها موصوفاً بأحد دواعيه النفسانيّة.الثانيأنّ الجواب المفروض لا يصحّح ترتّب الثواب على تلك الطهارات لأنّ امتثال الوجوب الغيري لا يترتّب عليه استحقاق المثوبة.أقولقد يدّعى أنّه يلزم على التوجيه المفروض أمرٌ آخر، وهو أن يحكم بفساد تيمّم من أتى به بداعوية الأمر الغيري معتقداً بأنّ التيمّم بنفسه شرط لصلاة فاقد الماء لا بالعنوان القصدي المنطبق عليه.ولكن يمكن دفعه بأنّه لا يضرّ هذا الاعتقاد في حصول الطهارات بعنوانها القصدي، فإنّ الاعتقاد كما ذكر من باب الاشتباه في التطبيق، حيث إنّ قصد امتثال الوجوب الغيري مقتضاه القصد إلى الإتيان بمتعلّقه الواقعي، وهذا العنوان المفروض مقصود ارتكازاً وإن كان مغفولا عنه تفصيلاً، نظير ما إذا قصد امتثال الوجوب المتعلّق بالصوم الذي في حقيقته ليس إلاّ الإمساك عن جميع المفطرات، ولكن لايعلم أنّ الارتماس مفطر، بل كان يعتقد عدم كونه مفطراً فيكون صومه صحيحاً.نعم إذا قصد ارتكاب الارتماس ولو للاعتقاد بعدم كونه مفطراً، يبطل صومه فإنّ قصد الإمساك الإجمالي لا يجتمع مع قصد الارتكاب، ولا تتمّ دعوى الاشتباه في التطبيق فيما تقدّم في جواب الماتن (قدس سره)عن الإشكال ـ بأنّ صحّة الطهارات وعباديتها وحصول التقرّب بها لاستحبابها نفساً، وإن قصد الأمر الغيري يكون من قبيل الداعي إلى الداعي ـ حيث أوردنا عليها بأنّ هذا لا يتمّ عند من يعتقد بعدم الاستحباب النفسي ويكون غافلا عن استحبابها نفسياً.والوجه فيه هو أنّ الأمر بشيء لا يكون داعياً إليه مع الغفلة عن ذلك الأمر، بخلاف قصد المعنون مع الغفلة عن عنوانه المتعلّق به الأمر، فإنّ قصد امتثال ذلك الأمر يكون التفاتاً ارتكازياً إلى ذلك العنوان فتأمّل.[3] وحاصله أنّ الغرض من الأمر بالصلاة كما لا يحصل بدون الإتيان بها بداعي الأمر، كذلك لا يحصل الغرض من الأمر بالصلاة بدون الإتيان بالطهارات بقصد الأمر بها غيريّاً، فالصلاة مقيّدة بالوجود القربي من الطهارات لا بمطلق وجودها، وهذا الأمر الغيري المتعلّق بها توصلي، لسقوطه بمجرّد الإتيان بمتعلّقه وهو الوضوء أو الغسل أو التيمم القربي.وبتعبير آخرلا يقتضي هذا الأمر الغيري إلاّ الإتيان بمتعلّقه كسائر الأوامر التوصليّة، ولكن متعلّقه هو الوضوء بقصد قربي لا مطلق الوضوء.وأورد (قدس سره) على هذا الجواب بأنّه لا يصحّح إلاّ اعتبار الإتيان بالطهارات على وجه قربي وعباديّتها.وأمّا استحقاق المثوبة على الإتيان بها فلا يثبت؛ لأنّ المفروض في الجواب أنّ تعلّق الأمر الغيري مقيّد بقصد التوصّل، فلا يوجب استحقاق المثوبة على الإتيان بها، غاية الأمر يكون القصد المفروض موجباً لكون الصلاة من أفضل الأعمال وأشقّها.أقول: الصحيح في الجواب أن يقالالمأخوذ شرطاً للصلاة هو الوضوء على وجه قربي؛ لأنّ الدخيل في ملاك الصلاة هو هذا الوضوء، ويكون التقرّب المعتبر في الوضوء الإتيان بداعي الأمر الاستحبابي به، فيما إذا كان الوضوء قبل وقت الصلاة أو بداعي الملاك الموجود فيه، أو للتوصّل به إلى الصلاة، أو بداعوية وجوبه الغيري، وفي جميع ذلك يقع الوضوء بوجه قربي ويحصل التقرّب به.وبما أنّه في نفسه ذا ملاك نفسيٍّ يستحقّ الثواب عليه مطلقاً، بخلاف ما إذا لم يكن فيه ملاك الأمر النفسي فإنّ الإتيان به إنّما يوجب استحقاق المثوبة عليه إذا كان الإتيان به للتوصّل إلى الواجب النفسي لا مطلقاً، حيث إنّ داعوية الأمر الغيري إلى متعلّقه تابعة لداعوية الأمر النفسي إلى متعلّقه، ومع عدم قصد التوصّل، لا داعوية للأمر الغيري، ولذا لا يستحق المثوبة على مجرد موافقة الأمر الغيري فيها.ثمّ إنّه قد ذكر المحقّق النائيني (قدس سره) وجهاً آخر لتصحيح عباديّة الطهارات الثلاث، وهو اعتبار الإتيان بها بداعي الأمر النفسي الضمني المتعلّق بها، بدعوى أنّ الأمر النفسي بالصلاة كما يكون مقسطاً على الأجزاء ويأخذ كلّ منها حصّة من الأمر النفسي، كذلك الشرط للصلاة يأخذ حصّة من الأمر.وكما لا يكون الغرض من الأمر بالجزء حاصلاً إلاّ بالإتيان به بداعي الأمر النفسي، كذلك الشرط ربّما لا يحصل الغرض من الأمر به إلاّ بالإتيان به بداعي ذلك الأمر الضمني.ولا وجه للمناقشة بأنّه ما الفرق بين الطهارات و غيرها من شرائط الصلاة مما لا يعتبر الإتيان به بنحو العبادة مع تعلّق الأمر الضمني بجميعها، وذلك لأنّ الفرق بينهما هو عدم توقّف الغرض في غير الطهارات على الإتيان بمتعلّق الأمر الضمني بداعويته، بخلافه في الطهارات.أقوللا يخفى ما فيه، فإن أجزاء الصلاة وإن كان يأخذ كلّ منهما حصّة من الأمر بها، كما هو مقتضى كون الكلّ عين الأجزاء خارجاً إلاّ أنّ الشرائط لا يتعلق بها الأمر النفسي أصلاً، إذ لو تعلّق بها ذلك الأمر النفسي لانقلبت إلى الأجزاء، إذ لا فرق بين الجزء والشرط، إلاّ أنّ الأمر النفسي الضمني يتعلّق بالأوّل دون الثاني.وبالجملة الأمر النفسي يتعلّق بالمشروط (أي الحصّة)، وتلك الحصّة تنحّل بالتحليل العقلي إلى الطبيعي والتقيّد بالشرط، فيعتبر في وقوع الحصّة عبادة وقوع التقيّد به على نحو العبادة لا نفس القيد، فمثلا لا يعتبر التقرّب في غسل الثوب من تنجّسه، بل يعتبر التقرّب في الصلاة التي هي مقيدة بطهارة الثوب.ولا يخفى أنّه كما لا يتعلّق بالجزء الوجوب الغيري، كذلك لا يتعلق بنفس ما يطلق عليه الشرط الوجوب النفسي الضمني.وقد تحصّل من جميع ما ذكرنا أنّ ما هو قيد للصلاة هو الوضوء أو الغسل أو التيمم المأتي بنحو قربيّ، والوجوب الغيري يتعلّق بهذا النحو والتقرّب في كلّ منها، كما يحصل بالإتيان بداعوية الأمر الاستحبابي أو المحبوبية النفسانية، كذلك يحصل بالإتيان بداعوية الوجوب الغيري ـ التابعة لداعوية الوجوب النفسي المتعلّق بالصلاة ـ الملازم لقصد التوصّل بكلٍّ منها إلى الصلاة.بقي في المقام أمرٌ، وهو أنّه بناءاً على عدم إمكان أخذ قصد التقرّب في متعلّق الأمر كما عليه الماتن (قدس سره)، يكون متعلّق الأمر النفسي الاستحبابي نفس الوضوء أو الغسل أو التيمم، ويتعلّق الأمر الغيري بالوضوء بداعوية ذلك الأمر الاستحبابي النفسي، فيختلف متعلّق الأمر النفسي مع متعلّق الأمر الغيري، فلا يتعلّق الأمر النفسي والغيري بشيء واحد، حتّى يناقش فيه ـ بناءاً على عدم صحّة اجتماع الحكمين في شيء واحد ـ ببطلان اجتماع الحكمين في شيء واحد، ولو كانا بعنوانين، وذلك لأنّ متعلّقهما ليس شيئاً واحداً، ومع التنزل فليس في المقام عنوانان حتّى يمتنع اجتماعهما، وعنوان المقدّمة جهة تعليليّة لا يتعلّق به الأمر الغيري.نعم بناءاً على عدم الامتناع في الحكمين المتماثلين واندكاك أحد الحكمين في الآخر، يسقط الترخيص في الترك بعد وجوب ذي المقدّمة، فإنّ اقتضاء الترخيص في الترك بلحاظ الاستحباب النفسي وذلك في ما إذا كان الطلب النفسي غير متّحد مع الطلب الإلزامي ـ ولو كان غيرياً ـ كما لا يخفى، دون ما إذا اتّحدا، كما في المقام.[4] هذا لا يرتبط بالوجه السابق، بل إيراد على من يلتزم بأمرين في اعتبار قصد التقرّب في العبادة بأن يتعلّق أحد الأمرين بنفس الفعل، والآخر بالإتيان به بداعي الأمر الأوّل، فإنّه لو فرض تصحيح قصد التقرّب بذلك في الواجبات النفسية، فلا يمكن هذا التصحيح في الوجوب الغيري.لأنّه لو غضّ النظر عن الاستحباب النفسي في الطهارات، فلا يمكن الالتزام بتعلّق الوجوب الغيري بنفس الوضوء، ثمّ تعلّق وجوب غيري آخر بالإتيان بالوضوء بداعي الوجوب الأوّل، وذلك فإنّه ما لم يكن شيء مقدّمة لا يتعلّق به الوجوب الغيري، والمفروض أنّ نفس غسل الوجه واليدين ومسح الرأس والرجلين ليس بمقدّمة للصلاة ليتعلّق به الأمر الغيري، بل المقدّمة الحصّة الخاصّة منه، يعني الوضوء القربي.[5] وحاصله أنّه قد تقدّم صحة وقوع الوضوء والغسل أو التيمّم بنحو العبادة فيما إذا أتى بها بداعي الأمر الاستحبابي النفسي المتعلّق بها وإن لم يقصد المكلّف عند الإتيان بإحداها التوصّل بها إلى الصلاة أو غيرها مما هو مشروط بها.وأمّا بناءاً على عدم الاستحباب النفسي وتصحيح القربة المعتبرة فيها بالأمر الغيري، فلابدّ في وقوعها عبادة من قصد الغاية بها، والمراد بقصد الغاية قصد التوصّل بها إلى ذيها، وذلك لأنّ الأمر الغيري لا يكاد يمتثل، ولا يمكن أن يكون الإتيان بمتعلّقه امتثالا موجباً للقرب إلاّ عند حصول هذا القصد، حيث معه يكون الأمر الغيري داعياً إلى متعلّقه بمقتضى تبعيّته لداعوية الأمر النفسي إلى متعلّقه.بل قصد الغاية في الحقيقة هو الموجب لوقوعها عبادة، ولو لم يقصد الأمر الغيري المتعلّق بها أو لم نقل بتعلّق الأمر الغيري بالمقدّمة أصلا، وهذا هو السّر في اعتبار قصد الغاية في الإتيان بها الذي ورد في كلماتهم (قدس سرهم)، لا ما قيل من أنّ الوجوب الغيري يتعلّق بالمقدّمة بعنوانها، فلابدّ في الإتيان بها من قصد عنوان المقدّمة الذي لا يحصل بدون قصد التوصّل بها إلى غاياتها.والوجه في فساد هذا التوجيه هو أنّ الأمر الغيري يتعلّق بنفس المقدّمة لا بعنوانها، فإنّ عنوانها لا يتوقّف عليه ذيها وإنّما يكون عنوانها موجباً لتعلّق الوجوب الغيري بما ينطبق عليه ذلك العنوان.أقولالتوجيه المفروض فاسد، حتّى ولو قيل بتعلّق الأمر الغيري بالمقدّمة بعنوانها، فإنّ عنوان المقدّمة ليس عنواناً قصدياً، بل عنوان قهري ينطبق على نفس الوضوء والغسل والتيمّم، كما ينطبق على سائر قيود الصلاة من تطهير الثوب والبدن.وأمّا ما ذكره (قدس سره) من أنّ الأمر الغيري لا يدعو إلى متعلّقه إلاّ مع قصد الإتيان بمتعلّق الأمر النفسي بمقتضى التبعية في الداعوية ـ كما تقدّم ـ فهي أيضاً قابلة للمناقشة، فإنّه ربّما يكون الأمر الغيري داعياً إلى متعلّقه من غير داعوية الأمر النفسي، كما إذا توضّأ المكلّف أو طهّر بدنه لاحتماله انقداح إرادة الإتيان بالصلاة فيما بعد، مع أنّه لم يرد إتيان الصلاة بالفعل، فلم يدعوه الأمر النفسي إليها حتّى يستتبع دعوة الأمر الغيري إلى الوضوء، بل توضّأ بمجرّد احتمال إتيان الصلاة فيما بعد، وهذا لا مانع من صحّته، إذن فيكفي في داعوية الأمر الغيري احتمال انقداح إرادة الإتيان بمتعلّق الأمر النفسي بعد ذلك.[6] يعني بناءاً على الملازمة يثبت الوجوب الغيري لما يكون معنوناً بعنوان المقدّمة، وأمّا عنوانها فلا يكون موقوفاً عليه إذ ليس بالحمل الشائع مقدّمة.نعم يكون توقّف فعل الواجب على شيء موجباً لتعلّق الوجوب الغيري بذلك الشيء.وبتعبير آخرعنوان المقدّمة جهة تعليليّة لا تقييدية.وقد يقال بأنّ وجوب المقدّمة إذا كان بحكم العقل، فيكون الواجب عنوان المقدّمة لا نفس المعنون، وذلك لأنّ الجهات التعليليّة في الأحكام العقلية تكون جهات تقييدية، فحكم العقل بامتناع شيء لاستلزامه الدور يكون في الحقيقة حكماً منه بامتناع الدور، وحكمه بحسن ضرب اليتيم تأديباً فهو حكم منه بحسن التأديب والإحسان إليه، وعلى ذلك فحكمه بوجوب فعل لكونه مقدّمة لواجب، يرجع إلى الحكم بتحقيق عنوان المقدّمة.وفيه أنّ الوجوب الغيري على تقديره شرعي، وإنّما العقل يدرك الملازمة بين الإيجابين، والوجوب الشرعي المولوي يتعلّق بما ينطبق عليه عنوان المقدّمة لذيها، لتوقّف ذيها عليه، فالملاك في هذا الوجوب توقّف الواجب عليه.والحاصل أنّ عنوان المقدّمة للصلاة مثلا، عنوان انتزاعي ليس في الخارج إلاّ الوضوء ونحوه، مما يتوقّف عليه الصلاة كسائر العناوين الانتزاعية التي ليس لها في الخارج إلاّ منشأ الانتزاع والوجوب الغيري لا يمكن أن يتعلّق بنفس الصلاة، لأنّ وجوبها نفسي، كما لا يمكن أن يتعلّق بتوقّف الصلاة على الوضوء، لأنّه خارج عن فعل المكلّف واختياره، فيتعيّن تعلّقه بنفس الوضوء.ثمّ ذكر هذا القائل في وجه لزوم قصد التوصّل أنّه بعد ما ثبت حكم العقل بوجوب عنوان المقدّمة لرجوع الجهة التعليلية إلى التقييدية، فلابدّ من كون عنوان المقدّمة مقصوداً في وقوعها على صفة الوجوب، لاستحالة تعلّق الأمر بشيء غير مقدور، وعنوان المقدّمة في الحقيقة قصد التوصّل إلى الواجب النفسي.أقولبما أنّ عنوان المقدّمة من العناوين القهرية دون القصدية، فاللازم في وجوبها الالتفات إليه وإلى معنونه، ومن المعلوم أنّ الالتفات إلى كون شيء ممّا يتوقّف الواجب عليه لا يكون ملازماً للإتيان به بقصد التوصّل به إلى ذلك الواجب، والموجب لخروج الفعل عن وقوعه خطأً وغفلة هو الالتفات إلى العنوان المنطبق عليه لا أكثر، فمثلا الوضوء مع الالتفات بأنّه مقدّمة للصلاة لا يلازم الإتيان به للتوصّل به إلى الصلاة، بل يمكن أن يكون الداعي إلى الإتيان به غير الإتيان بالصلاة، وإن كان الداعي قربيّاً ثمّ انقدح بعد ذلك إرادة الصلاة، كفى ذلك الوضوء للدخول في الصلاة المشروطة به كما تقدّم، ولو وقع صحيحاً حتّى مع فرض تعلّق الأمر بعنوان المقدّمة لا بذاتها، كما لا يخفى.اعتبار قصد التوصّل في المقدّمة وعدمه: [7] الفرق بين ما ذكره في المعالم والمحكي عن الشيخ (قدس سره) هو أنّ قصد الإتيان بذي المقدّمة شرط لوجوب مقدّمته عند صاحب المعالم (قدس سره)، وقيد للواجب الغيري على المحكي عن الشيخ (قدس سره)، حيث قال في المعالم في مبحث الضد«إنّ حجة القول بوجوب المقدّمة على تقدير تسليمها، تثبت وجوبها في حال كون المكلّف مريداً للفعل المتوقّف عليها»(1).وأورد عليه الماتن (قدس سره) بأنّ المقدّمة تتبع ذيها في إطلاق وجوبها واشتراطه، وإذا لم يكن وجوب ذيها مشروطاً بإرادته، لم يكن وجوب مقدّمته أيضاً مشروطاً بإرادته بعين المحذور في اشتراط وجوب ذيها بإرادة متعلّقه، وهو لزوم لغوية الوجوب، إذ الغرض منه داعويته نحو إرادة الفعل، فإذا كان مشروطاً بإرادته لكان جعله لغواً.وبالجملة نهوض الدليل على التبعية واضح، وإن كان نهوضه على أصل الملازمة بين الإيجابين ليس بهذه المثابة من الوضوح.وربّما يقالظاهر كلام صاحب المعالم (قدس سره) يساعد على القضية الحينية، لا اشتراط وجوب المقدّمة على إرادة ذيها بمفاد القضية الشرطية، ليكون المعلّق عليه في وجوب المقدّمة إرادة الإتيان بذيها، ليخرج وجوبها عن التبعية.فإنّه يقالإنّه لا فرق بين القضية الشرطية والقضية الحينية بحسب مقام الثبوت في أنه لابدّ من تقدير الشرط أو الحين على كلٍّ منهما، فيخرج وجوب المقدّمة عن تبعية وجوب ذيها، حيث لا يمكن في وجوب ذيها فرض حين إرادته، وإذا فرض في وجوب مقدّمته ذلك الحين، فيكون وجوب مقدّمته مقيّداً لا محالة مع إطلاق وجوب ذيها.وأورد على كلام الشيخ (قدس سره) بأنّه لا يمكن أن يتعلّق الوجوب الغيري بالمقدّمة بقصد التوصّل؛ لأنّ الملاك في الوجوب الغيري التوقّف والمقدميّة، وهذا الملاك قائم بنفس المقدّمة سواء أتى بها بقصد التوصّل أم لا، ولذا اعترف الشيخ (قدس سره) في كلامه بالاكتفاء ـ فيما إذا أتى بالمقدّمة ـ بقصد آخر غير التوصّل بها إلى ذيها، فيكون تخصيص الوجوب الغيري بما إذا قصد بمتعلّقه التوصل بلا موجب.نعم يعتبر قصد التوصّل في حصول الامتثال، لما تقدّم من أنّ الآتي بالمقدّمة بداع آخر لا يكون ممتثلا لأمرها ولا آخذاً في امتثال الأمر بذيها حتّى يثاب بثواب أشقّ الأعمال.وبالجملة يقع الفعل المقدمي على صفة الوجوب، ولو مع عدم قصد التوصّل، بل حتّى لو كان لذلك الفعل حكم قبل اتّصافه بالمقدميّة لارتفع ذلك الحكم ولتبدّل إلى الوجوب الغيري بعد إيجاب ما يتوقّف عليه، فمثلا يقع الدخول في ملك الغير على صفة الوجوب فيما إذا كان مقدّمة لانقاذ غريق أو إطفاء حريق واجب فعلي ولا يكون حراماً، وإن لم يلتفت الداخل إلى المقدمية والتوقّف حال الدخول فيه.غاية الأمر يكون الداخل بلا التفات إلى المقدمية متجرّياً، بالإضافة إلى دخوله، كما أنّه لو لم يقصد بدخوله التوصّل مع الالتفات إلى المقدميّة ـ بأن لا يكون حين الدخول قاصداً للإنقاذ أو الإطفاء أصلاً كان متجرّياً أيضاً بالإضافة إلى ذي المقدّمة.وهذا بخلاف ما إذا كان في الدخول داع نفساني مستقلّ، وقصد مع ذلك الإيصال أيضاً، فإنّه لا يكون متجريّاً بالإضافة إلى ذي المقدّمة، بل يكون الداعي له إلى دخوله مؤكّداً لقصد الإيصال.أقوللعلّ مراده (قدس سره) من عدم الالتفات إلى التوقّف والمقدمية الغفلة عن المقدمية فقط، مع عدم غفلته عن التكليف بإنقاذ الغريق أو إطفاء الحريق حين الدخول، بأن كان يعلم بوجود الغريق أو الحريق، ولكن كان يعتقد عدم توقّف الإنقاذ أو الإطفاء على الدخول، وأنّه يمكن صبّ الماء على الحريق من الخارج أو الإنقاذ بإلقاء الحبل إلى الغريق من الخارج، وبعد الدخول التفت إلى عدم إمكانهما إلاّ مع الدخول، ففي هذا الفرض يكون الداخل متجرّياً في دخوله.وأمّا إذا كان مراده (قدس سره) من عدم الالتفات إلى المقدمية والتوقّف، الغفلة من الحريق والغريق عند دخوله، كان دخوله محرّماً حتّى بناءاً على وجوب ذات المقدّمة؛ وذلك لأنّ الغافل عن الغريق والحريق لا يكون مكلّفاً بهما مادام غافلا لتجب مقدّمتهما، وبعد الدخول والالتفات تجب المقدّمة، ولكن لا يتوقفّان على الدخول ليقال إنّ الداخل متجرّياً لإضافة إلى دخوله.وأيضاً الدخول في صورة علمه بوجود الغريق والحريق بلا قصد التوصّل لا يكون تجرّياً، بالإضافة إلى وجوب الإنقاذ والاطفاء، بل التجرّي يحصل بقصد عدم التوصّل وإرادة ترك الإنقاذ والإطفاء رأساً، ولو فرض أنّ الوجوب الغيري يتعلّق بذات المقدّمة، ودخل في ملك الغير متردّداً في الإنقاذ والإطفاء بعد دخوله لايكون الدخول بقصد التوصّل، ولكن إذا جزم بالإنقاد والإطفاء بعد الدخول، لا يكون متجرّياً لا بالإضافة إلى الدخول ولا بالإضافة إلى ما يتوقّف عليه.ثمّ إنّ الماتن (قدس سره)، وإن التزم بتعلّق الوجوب الغيري بناءً على الملازمة بذات المقدّمة، ولكنه يظهر من قوله«نعم إنّما اعتبر ذلك في الامتثال..الخ» أنّ قصد التوصّل حين الإتيان بالمقدّمة يوجب حصول أمرينأحدهما تحقّق امتثال الأمر الغيري، لأنّ الامتثال عبارة عن الإتيان بمتعلّق أمر بداعوية ذلك الأمر، وقد تقدّم أنّ داعوية الأمر الغيري إلى متعلّقه تتبع داعوية الأمر النفسي إلى متعلّقه، فمادام لم يقصد التوصّل لا يكون للأمر الغيري داعوية.وثانيهما أنّ المكلّف بقصد التوصّل يعدّ آخذاً في امتثال الواجب النفسي فيستحقّ المزيد من المثوبة على الواجب النفسي، لصيرورته بذلك القصد من أشقّ الأعمال، على ما تقدّم.وفيهأنّ مجرّد غسل الثوب أو البدن مع قصد الصلاة بعد ذلك لا يعدّ شروعاً في امتثال الأمر بالصلاة، مع أنّ الصلاة أوّلها التكبير وآخرها التسليم، وهذا يشبه القول بأنّ شراء اللحم من السوق بقصد أكله بعد الطبخ، شروع في الطبخ أو الأكل، كما لا يخفى.وأمّا دعوى تبعيّة داعوية الأمر الغيري لداعوية الأمر النفسي فقد تقدّم(2) ما فيها، فلا نعيد.[8] قد التزم الشيخ (قدس سره) بالاجزاء فيما إذا أتى بالمقدّمة من غير قصد التوصّل ولكنّه خصّص الوجوب الغيري بما إذا أتى بها بقصده، وقاس الإتيان بذات المقدّمة من غير قصد التوصّل بما إذا أتى المكلّف بالفرد المحرّم من المقدّمة، كما إذا غسل ثوبه أو بدنه من النجاسة بالماء المغصوب لأجل الصلاة، فإنّه بعد الغسل تجوز الصلاة فيهما، مع أنّ الوجوب الغيري لا يتعلّق بذلك الغسل، وكذا الحال فيما إذا غسلهما بلا قصد التوصّل.وأورد الماتن (قدس سره) على ذلك بأنّ عدم تعلّق الوجوب الغيري بالفرد المحرّم لأجل المانع عن تعلّقه به، لا لعدم المقتضي والملاك، فلو فرض عدم تعلّق الوجوب الغيري بشيء مع عدم المزاحم، لكان عدم تعلّقه كاشفاً عن عدم المقتضي للأمر في ذلك الشيء، ولازم ذلك عدم اجزائه كما هو الحال في المقدّمة لا بقصد التوصّل فان عدم تعلّق الوجوب الغيري بها لابدّ أن يكشف عن عدم المقتضي فيها، ولازم ذلك عدم اجزائها، مع أنّ الاجزاء فيها ممّا لا مناص عن الالتزام به، فيكون متعلّق الوجوب الغيري ذات المقدّمة لا خصوص ما قصد التوصّل بها.ثمّ إنّه ربّما ينسب إلى الشيخ (قدس سره) أنّ من الثمرة المترتّبة على اعتبار قصد التوصّل في الواجب الغيري الحكم ببطلان الصلاة فيما إذا اشتبهت القبلة بين جهتين أو أكثر، فصلّى المكلّف إلى إحدى الجهات بانياً الاقتصار عليها، حيث يحكم ببطلانها حتّى فيما إذا صادفت كونها إلى القبلة، فإنّ المكلّف مع البناء على الاقتصار لا يكون قاصداً التوصّل إلى ما هو واجب واقعاً، فلا يجب المأتي بها غيريّاً ومن باب المقدّمة، ليكون مجزياً.ولا يخفى ما فيهفإنّ الصلاة إلى كلّ جهة من الجهات المشتبهة من باب المقدّمة العلميّة التي سبق استقلال العقل بها في مورد إحراز التكليف لإحراز الأمن من عقاب مخالفته، وليست لزومها من الوجوب الغيري للمقدّمة الوجودية للواجب، ليتكلّم في اعتبار قصد التوصّل وعدمه.وبالجملة إنّ الصلاة إلى إحدى الجهات من الامتثال الاحتمالي مع التمكّن على الامتثال العلمي، فيحكم باجزائها إذا انكشف بعد ذلك كونها هي الصلاة إلى القبلة.نعم ربّما يستشكل في الصلاة إلى إحدى الجهات بانياً على الاقتصار بها من جهة المناقشة في قصد التقرّب المعتبر فيها الذي ينافيه التجرّي.ونسب إلى الشيخ (قدس سره) أيضاً أنّه بناءاً على اعتبار قصد التوصّل في الواجب الغيري يحكم ببطلان الصلاة فيما إذا توضّأ بعد دخول وقتها أو اغتسل بقصد غاية أُخرى، وصلّى بذلك الوضوء أو الغسل، وذكر في وجه بطلانها أنّ اعتبار قصد التوصّل في الواجب الغيري مقتضاه كون الشرط للصلاة هو الوضوء بقصد الصلاة، وإذا توضّأ لغاية أُخرى، تكون الصلاة فاقدة لشرطها، وكذا الحال في الاغتسال.ويحتمل التفصيل بين الوضوء والغسل، بأنّ الوضوء طبيعة واحدة، ومع حصولها تصحّ الصلاة، بخلاف الاغسال فإنها طبائع مختلفة، ولا يمكن حصول واحد منها إلاّ بالقصد.وفيه أنّ غاية ما يفرض في المقام اختصاص الوجوب الغيري بالوضوء المقصود به التوصّل، لا اشتراط الصلاة بخصوص ذلك الوضوء.وبتعبير آخر: الصلاة مشروطة بالوضوء بما هو طهارة، كما هو مفاد قوله (عليه السلام)«لاصلاة إلاّ بطهور»(3)، يعني بطهارة، وكون الأغسال طبايع مختلفة إنّما هو من ناحية موجباتها، لا من جهة التوصّل إلى غاية دون غاية، فالاغتسال من الجنابة غير الغسل من مسّ الميّت، ولكن الاغتسال من الجنابة للطواف لا يختلف عن الاغتسال من الجنابة للصلاة، فكلّ منهما مشروط بالطهارة، وطهارة الجنب اغتساله من جنابته.(1).معالم الأُصولص 74.(2).تقدّم في ص 257 من هذا الكتاب.(3).الوسائل1، باب 1 من أبواب الوضوء، الحديث 1.وأمّا عدم اعتبار ترتّب ذي المقدّمة عليها في وقوعها على صفة الوجوب[1].إن قلتما من واجب إلاّ وله علّة تامّة[2].ولأنّه لوكان معتبراً فيه التّرتب لما كان الطلب يسقط بمجرّد الإتيان بها[3].والذي يدلّك على هذا يعني الاشتراط بالتوصّل[4].وصريح الوجدان إنّما يقضي بأنّ ما أُريد لأجل غاية وتجرّد عن الغاية[5].مع أنّ في صحّة المنع منه كذلك نظراً، ووجهه أنّه يلزم[6].المقدّمة الموصلة[1] شروع في إبطال ما التزم به صاحب الفصول (قدس سره) من أنّ الواجب بالوجوب الغيري ـ بناءاً على الملازمة ـ هو خصوص المقدّمة الموصلة فقط، حيث ذكر الماتن(قدس سره) أنّ متعلّق الوجوب الغيري بناءاً على الملازمة نفس المقدّمة لا هي بقيد الإيصال، فإنّ الآمر لا يأخذ في متعلّق أمره إلاّ ما هو دخيل في غرضه الداعي إلى الأمر، والغرض من الوجوب الغيري حصول ما لولاه لا يحصل الواجب النفسي، وليس الغرض من الأمر بالمقدّمة ترتّب ذيها عليها ليؤخذ في متعلّق الأمر الغيري قيد الإيصال، فإنّ الغرض من الشيء لا يكون إلاّ فائدته وأثره المترتّب عليه.ومن الظاهر أنّ ترتّب ذي المقدّمة لا يكون أثراً لمقدّمة من مقدّمات الواجب النفسي، وحصول الواجب النفسي لا يترتب على جميع المقدّمات في غالب الواجبات، لأنّها غالباً من الأفعال الاختيارية التي يختارها المكلّف بعد حصول مقدّماتها تارةً ويتركها أُخرى، وإذا لم يكن حصول ذي المقدّمة أثراً لجميع المقدّمات في غالبها، فكيف يكون أثراً لكلّ مقدّمة في جميعها، بل ذلك الترتّب يختصّ بالواجبات التوليدية.وعليه فلو كان الغرض من الأمر بالمقدّمة هذا الترتّب لاختصّ الوجوب الغيري بالمقدّمة السببيّة، يعني ما تكون المقدّمة فيه تمام العلّة لحصوله.وبالجملة بعد ما تبيّن أنّه ليس الغرض من الأمر بالمقدّمة إلاّ حصول ما لولاه لا يحصل الواجب، وأنّ هذا الغرض موجود في كلّ مقدّمة، ولا دخل للإيصال وعدمه في حصوله، يكون تخصيص الوجوب الغيري بالمقدّمة الموصلة بلا وجه.أقوللا يخفى أنّ ظاهر عبارة الماتن (قدس سره) أنّ الغرض المترتّب على المقدّمة حصول ما لولاه لما أمكن حصول الواجب، وهذا غير حصول ما لولاه لما تمكّن المكلّف على الواجب، ليورد عليه بأنّ التمكّن على الواجب يحصل بالتمكّن على مقدّمته، لا على حصول مقدّمته.[2] يعني بناءاً على كون الغرض من الأمر الغيري بالمقدّمة، ترتّب ذيها عليها لا يلزم اختصاص الوجوب الغيري بمقدّمات الواجبات التوليدية، والوجه في عدم اللزوم أنّ كلّ واجب له علّة تامّة ـ لامتناع وجود الممكن بلا علّة ـ فيكون متعلّق الوجوب الغيري في جميع الواجبات هي علّته التامّة بنحو الواجب الارتباطي، بأن يتعلّق وجوب غيري واحد بمجموع أُمور يترتّب عليها الواجب النفسي خارجاً، سواء كان الواجب النفسي من الأفعال الاختيارية أو التوليدية.وأجاب (قدس سره) عن ذلك بأنّ فرض العلّة التامّة لكلّ واجب لا يوجب عموم الوجوب الغيري وعدم اختصاصه بالمقدّمة السببيّة، وذلك لأنّ من أجزاء العلّة في الأفعال الاختيارية إرادتها، ولا يمكن تعلّق الوجوب بالإرادة ولو كان غيريّاً، لكون مبادئها خارجة عن الاختيار، حيث لا تكون المبادئ بإرادة أُخرى، ولو كانت بإرادة أُخرى لتسلسل، ومن أجل وضوح لزوم كون متعلّق الوجوب اختيارياً، كان إيجاب المقدّمة بغرض ترتّب ذيها عليها موجباً لاختصاص الوجوب الغيري بالمقدّمة السببيّة.أقولقد ذكرنا في بحث الطلب والإرادة أنّ قصد الفعل بنفسه أمر اختياري يتمكّن المكلّف من تركه أو عدم الاستمرار عليه، وعليه فيمكن الالتزام ـ في الواجبات الاختيارية غير التوليديّة ـ بتعلّق وجوب غيري بمجموع المقدّمات التي منها قصد الإتيان بذي المقدّمة والاستمرار عليه، وإن لم يكن مجموع هذه المقدّمة من العلّة التامّة حقيقة، لما تقدّم من خروج الفعل الاختياري عن قاعدة «الشيء ـ أي الممكن ـ ما لم يجب لم يوجد».وبالجملة فبناءاً على الملازمة بين إيجاب شيء وإيجاب مقدّمة لا سبيل إلاّ إلى الالتزام بأنّ إيجاب الشيء لا يكون إلاّ بإيجاب المجموع ممّا يترتّب على حصولها، حصول ذلك الشيء، وإن لم يكن الترتّب من ترتّب المعلول على علّته.وبتعبير آخركما أنّ الواجب النفسي إذا كان من قبيل الكلّ، يكون الكلّ عين أجزائه حال اجتماعها، مع أنّه لولا جزء من أجزائه لما حصل، ومع ذلك يتعلّق بالمجموع وجوب واحد، لترتّب ملاك وغرض واحد في المجموع، كذلك الحال في الواجب الغيري أنّه ليس إلاّ مجموع ما يترتّب على مجموعه حصول الواجب النفسي، فكل مقدّمة يتعلق به وجوب غيري ضمني، لأنّ الغرض من إيجابها غيرياً حصول الواجب النفسي، وكون كلّ مقدّمة لولاها لما حصل الواجب النفسي، هو ملاك أخذها في متعلّق الوجوب الغيري.وإن شئت قلتلا غرض نفسي ولا تبعي للمولى بالإضافة إلى كلّ من مقدّمات الواجب النفسي حال انفرادها، حتّى يأمر بها مستقلاًّ.وما ذكره الماتن (قدس سره) من أنّ القصد لكونه أمراً غير اختياري لا يتعلّق به تكليف، غير صحيح؛ لصحّة تعلّق التكليف بالأفعال التي تكون من قبيل العناوين القصدية، وصحّة تعلّق النذر بمثل قصد الإقامة في الأماكن المقدّسة ـ مثلا ـ ونحو ذلك.لا يقال: الأمر النفسي بفعل يكون داعياً إلى قصد ذلك الفعل، فما معنى تعلّق الوجوب الغيري بذلك القصد؟ فإنّه يقالنعم، الأمر النفسي بفعل يكون داعياً إلى قصد ذلك الواجب، إلاّ أنّ نفس القصد لا يؤخذ في متعلّق التكليف النفسي، ولا يمنع داعوية الأمر النفسي إليه عن تعلّق الوجوب الغيري به في ضمن تعلّقه بسائر مقدّماته، نظير ما يلتزم القائل بوجوب المقدّمة السببيّة من أنّ الأمر بالمسبب وإن كان يدعو إلى قصد السبب، ولكن لا مانع من تعلّق وجوب غيري بالسبب.ولا يرد على الالتزام بالوجوب الغيري للمقدّمة الموصلة ما أُورد على قصد التوصّل، من أنّ لازم اعتبار قصد التوصّل في الواجب الغيري عدم الاجزاء فيما أتى المكلّف بالمقدّمة لا بقصد التوصّل.والوجه في عدم الورودأنّ اعتبار قصد التوصّل معناه اعتبار حصول المقدّمة بنحو خاصّ، بأن يكون الداعي إلى الإتيان بها قصد الإتيان بذيها، ولذا يقع الإشكال بلزوم عدم الاجزاء فيما إذا أتى بها المكلّف، لا بقصد التوصّل.وهذا بخلاف قيد الإيصال، فإنهّ في أيّ زمان انضمّ إلى تلك المقدّمة وغيرها، الإتيان بذيها يتمّ متعلّق الوجوب الغيري، وبتمامه يحصل الاجزاء، نظير ما إذا غسل ثوبه المتنجّس بالبول مرّة، فإنّه في أيّ زمان انضمّ إليها الغسلة الثانية تحصل الطهارة.[3] وهذا وجهٌ آخر لتعلّق الوجوب الغيري بنفس المقدّمة لا بها بقيد الإيصال، وحاصله أنّه لا ريب في سقوط الأمر الغيري بالإتيان بنفس المقدّمة، فلو كان قيد الإيصال معتبراً في متعلّقه لما كان يسقط بمجرّد الإتيان بها، بل كان اللازم انتظار ترتّب الواجب عليها، حيث يكون سقوط الأمر بأحد أُمور ثلاثة بموافقته أو عصيانه أو انتفاء موضوعه ـ والأخير كسقوط الأمر بالتكفين والدفن بغرق الميت ـ وسقوطه بالأخيرين غير مفروض في المقام فيتعيّن استناد سقوطه إلى الموافقة.ودعوى أنّ سقوط الأمر يكون بالإتيان بغير المأمور به أيضاً فيما إذا كان وافياً بالغرض لا تجدي في المقام، فإنّ الوافي بالغرض إنّما يتعلّق به الأمر عند عدم المانع عنه، والمانع ليس إلاّ حرمته فعلا، كما في الفرد المحرّم، والمفروض في المقام عدم تعلّق النهي بالمقدّمة غير الموصلة.أقول: ما ذكره الماتن (قدس سره) من سقوط الأمر الغيري بالإتيان بالمقدّمة وكون السقوط بنحو الموافقة للأمر الغيري مردود نقضاًبجميع الواجبات الارتباطية التي لها أجزاء تدريجية بلا اعتبار الموالاة فيها، كما هو الحال في الأمر بتغسيل الميت، فإنّه بعد غسله بماء السدر يسقط الأمر الضمني به، بمعنى لا يجب غسله ثانياً، مع أنّ الواجب ليس هو الغسل بماء السدر فقط، بل مجموع الأغسال الثلاثة، وكذا فيما إذا غسل رأسه في غسل الجنابة أو فيما غسل ثوبه المتنجّس بالبول مرّة.وحلاًّبأنّه لا مانع من سقوط الأمر عن مرتبة الداعوية بالإضافة إلى بعض متعلّقه دون بعضه الآخر.وبالجملة يكون المقام ـ بناءاً على تعلّق الوجوب الغيري بمجموع مقدّمات يعبّر عنها بالموصلة ـ من قبيل الواجب الارتباطي، لا أنّه يتعلّق وجوب مستقلّ بكلّ مقدّمة مقيداً بالإيصال بأن يكون انضمام سائر المقدّمات أو حصول الواجب النفسي قيداً للواجب الغيري مثل الواجب الاستقلالي، بل الوجوب الغيري الواحد يتعلّق بنفس المقدّمات التي تكون بمجموعها موصلة، ولا يكون نفس ترتّب ذي المقدّمة قيداً للواجب الغيري بأن يكون نفس حصول الواجب النفسي مقدّمة للواجب الغيري، كما لا يكون ترتّبه عليها شرطاً في نفس الوجوب الغيري المتعلّق بالمقدّمات بنحو الشرط المتأخّر، فإنّ جعل ترتّبه شرطاً في الوجوب الغيري فرض لحصول المقدّمات، فيكون وجوبها على تقدير ترتبه من قبيل طلب الحاصل.وكذا الحال فيما إذا تعلّق الوجوب الغيري بالمقدّمة حين الإيصال، بأن يكون الوجوب المتعلّق بها في ذلك الحين، فإنّه يرجع إلى اشتراط ذلك الحين في وجوبها، لما تقدّم من رجوع القضية الحينية إلى الشرطية.[4] قد استدل صاحب الفصول (قدس سره) على وجوب المقدّمة الموصلة بوجوه ثلاثة: الأوّلأنّ الحاكم بالملازمة بين إيجاب ذي المقدّمة ومقدّمته هو العقل، والعقل لا يحكم بأكثر من الملازمة بين إيجاب شيء وإيجاب مقدّمته الموصلة.الثانيأنّ العقل لا يمنع من أن يأمر المولى بفعل كالحجّ مثلا، وأن يصرّح «بالأمر بالمسير الموصل إلى الحج دون الذي لا يوصل إليه» ولو كانت الملازمة بين إيجاب ذي المقدّمة وإيجاب مقدّمته مطلقاً لقبح التصريح بما ذكر، ولذا يقبح تصريحه بأنّه يأمر بذي المقدّمة ولا يأمر بمقدّمته الموصلة، أو لا يأمر بمقدّمته أصلاً، موصلة كانت أو غيرها.الثالثأنّه لا غرض للمولى في الأمر بالمقدّمة إلاّ التوصّل إلى الواجب، فيكون هذا التوصّل مأخوذاً في متعلّق الوجوب الغيري، إذ لا تكون المقدّمة بدونه مطلوبة، والوجدان شاهد ـ عند إرادة شيء لحصول شيء آخر ـ على أنّ الأوّل لا يكون مراداً إذا تجرّد عن حصول ذلك الشيء الآخر، بل تنحصر مطلوبيته بما إذا حصل الآخر.وأجاب الماتن (قدس سره) بأنّ العقل المدرك للملازمة يرى الملازمة بين إيجاب ذي المقدّمة وإيجاب نفس المقدّمة، لأنّ ملاك الوجوب الغيري ثابت في نفس المقدّمة، ولا يختصّ بالمقدّمة الموصلة أو المقدّمة المقيّدة بقيد آخر كقصد التوصّل، فإذا لم يكن مانع عن تعلّق الوجوب الغيري بنفس المقدّمة على إطلاقها ـ كحرمة بعض أفرادها ـ ثبت الوجوب الغيري في مطلقها، وعلى ذلك فلا يكون للآمر الحكيم غير المجازف بالقول التصريح بخلاف ذلك واختصاص الوجوب الغيري بالمقدّمة الموصلة، فإنّ مع ثبوت ملاك ذلك الوجوب في مطلق المقدّمة وعدم المانع عن تعلّقه بمطلقها يكون التصريح بالاختصاص من المجازفة.نعم الفرق بين الموصلة وغيرها إنّما هو في حصول المطلوب النفسي في صورة الإيصال وعدم حصوله في غيرها، لكن من غير دخل للمقدّمة في اختيار حصول ذيها في الأوّل، وعدم حصوله في الثاني، بل يكون حصوله بحسن اختيار المكلّف وعدم حصوله بسوء اختياره، كما لا يخفى.وبالجملة الأثر المترتّب على نفس غسل الثوب مثلا ـ من ملاك الوجوب الغيري ـ هو حصول ما لولاه لما أمكنت الصلاة من طهارة الثوب مثلاً، وهذا الملاك مترتّب على نفس الغسل، صلّى المكلّف بعد غسله أم لا، فتصريح الآمر في فرض عدم حصول الصلاة بعدم حصول مطلوبه، فهو بلحاظ مطلوبه النفسي، لا مطلوبه الغيري، ولذا يصّح التصريح حينئذ بحصول مطلوبه الغيري مع عدم فائدته.لا يقالحصول الصلاة ـ مثلا ـ وتركها، وإن كان لا يوجب تفاوتاً في ناحية الملاك والأثر المترتّب على غسل الثوب، إلاّ أنّه يؤثّر في اتّصاف الغسل بالمطلوبية إذا كان موصلا إلى الصلاة بعده، وعدم اتصافه بها مع تركها، ويؤثّر أيضاً في جواز تصريح الآمر بمطلوبية الغسل غيرياً في الأوّل دون الثاني.فإنّه يقالإنّه بعد عدم التفاوت في ناحية ملاك إيجاب الغسل وأثره في الصورتين، لا يمكن اتّصافه بالمطلوبيّة في إحداهما وعدم اتصافه بها في الأُخرى؛ لأنّ عنوان الموصوليّة ينتزع من حصول الواجب النفسي من غير أن يكون لحصوله دخل في مقدّميّة الغسل أصلا، ولأنّ المقدّمة في كلتا الصورتين على نحو واحد.[5] ذكر الماتن (قدس سره) أوّلا بأنّ الغاية والملاك في الوجوب الغيري المتعلّق بالمقدّمة ليس التوصّل بها إلى ذيها، بل مطلوبية المقدّمة لأجل عدم تمكّن المكلّف من ذي المقدّمة بدونها، وذلك لأنّ ترتّب ذي المقدّمة ليس أثراً للمقدّمة، بل الترتّب ممّا يترتّب على المقدّمة أحياناً بالاختيار الناشئ من مقدّمات أُخرى، التي يعبّر عنها بمبادئ الاختيار، والشيء المترتّب على المقدّمة كذلك لا يكون غرضاً من إيجاب المقدّمة وداعياً إليه.وقوله: «وصريح الوجدان» جوابٌ آخر عمّا ذكره في الفصول، وحاصلهأنّه مع تسليم كون الغاية والملاك في الوجوب الغيري هو التوصّل إلى ذيها، لا يلزم منه عدم تعلّق الوجوب الغيري بنفس المقدّمة فيما تجرّدت عن ذيها، استناداً إلى عدم حصول سائر أجزاء علّة تلك الغاية، يعني ذي المقدّمة.وبتعبير آخر: إنّ غسل الثوب ـ مثلا ـ يكون واجباً غيرياً مع كون حصول الصلاة غاية لإيجابه الغيري، حتّى فيما لم تحصل الصلاة، لكن لا لترك الغسل، بل لعدم إرادتها مثلا، فإنّ صريح الوجدان شاهد على أنّ الغسل الذي أُريد للصلاة ولم تتعبه الصلاة بعده لأجل عدم إرادتها، يقع ذلك الغسل على صفة المطلوبية الغيرية، فلو لم يكن الغسل في الفرض متّصفاً بالمطلوبية الغيرية، لزم أن تكون الصلاة قيداً للغسل الواجب غيرياً، ومقتضى كون الصلاة قيداً للواجب الغيري أن تكون نفس الصلاة مقدّمة للغسل الواجب غيريّاً، فيتعلّق وجوب غيري بالصلاة للملازمة بين الوجوب الغيري المتعلّق بالغسل المقيّد بحصول الصلاة وبين وجوب قيد الغسل الذي هو نفس الصلاة، فيجتمع في الغاية ـ أي الصلاة ـ أمران: نفسي وغيري، وهو كما ترى، وإلى ذلك يشير قوله (قدس سره) «وإلاّ يلزم أن تكون» الغاية، أيالواجب النفسي «مطلوبة بطلبه» يعني بطلب ذي الغاية، وهو الغسل في المثال، كسائر مقدّمات الغسل وقيوده، مثل تحصيل الماء ونحوه.نعم يكون فرق بين تحصيل الماء الذي يتعلّق الوجوب الغيري بالموصل منه إلى الغسل والوجوب الغيري الذي يتعلّق بنفس الصلاة، حيث إنّ الصلاة بنفسها موصلة إلى الغسل، وقول الماتن (قدس سره)«أو لعلّ منشأ توهّمه خلطه بين الجهة التقييدية والتعليليّة.الخ» ناظر إلى أنّه لو قيل بأنّ الملاك في تعلّق الوجوب الغيري بالمقدّمة ترتّب الواجب عليه، فهذا الملاك جهة تعليليّة في تعلّق الوجوب الغيري بها لا جهة تقييدية، ليتعلّق الوجوب الغيري بنفس تلك الجهة أيضاً بأن تكون الجهة قيداً للواجب الغيري.فالتزام صاحب الفصول (قدس سره) بأنّ متعلّق الوجوب الغيري الغسل الموصل إلى الصلاة مثلا خلط بين الجهات التعليليّة والجهات التقييدية.هذا مع أنّ ترتّب الصلاة على الغسل ليس أيضاً من الجهة التعليليّة للوجوب الغيري المتعلّق بالغسل بل الجهة التعليليّة في تعلّقه به، إنّما حصول ما لولاه لما تمكّن المكلّف من الوصول إلى الواجب النفسي، فافهم واغتنم.أقولكون الملاك في الوجوب الغيري حصول ما لولاه لما تمكّن من التوصّل إلى الواجب النفسي فاسد؛ لأنّ التمكّن من الوصول إلى الواجب النفسي يكون بالتمكّن من مقدّمته لا بحصول المقدّمة، وقد ذكرنا سابقاً بأنّ ملاك الوجوب الغيري عند الماتن (قدس سره) حصول ما لولاه لما أمكن الواجب النفسي، وهذا ليس إلاّ التوقّف والمقدميّة.فلعلّ تعبيره بالتمكّن هنا مسامحة.وقد نفى صاحب الفصول (قدس سره) كون مجرّد التوقّف ملاكاً للوجوب الغيري، والتزم بكون الملاك في هذا الوجوب ترتّب الواجب النفسي على المقدّمة.والتوجيه الصحيح لما اختاره (قدس سره) هو تعلّق وجوب غيري واحد بمجموع المقدّمات التي يترتّب عليها الواجب النفسي واختياره، ولا يخفى أنّ قصد الإتيان بالواجب النفسي والاستمرار عليه يكون جزءاً معدّاً من تلك المقدّمات، وعلى ذلك فلا يكون الواجب النفسي بنفسه قيداً لمتعلّق الوجوب الغيري ليلزم من تقيّد الواجب الغيري به تعلّق وجوب غيري آخر بنفس الواجب النفسي، لكونه بنفسه مقدّمة موصلة للواجب الغيري.ومع الإغماض عن ذلك والالتزام بكون الواجب النفسي بنفسه قيداً للواجب الغيري بأن يتعلّق (لأجل الملازمة بين إيجاب ذي المقدّمة وإيجاب مقدّمته) وجوب غيري بالمقدّمة المقيّدة بحصول الواجب النفسي ولأجل الملازمة بين هذا الوجوب الغيري وإيجاب مقدّمته، يتعلّق وجوب غيري آخر بنفس ذي المقدّمة، فلا محذور في الالتزام بذلك، غاية الأمر يكون الوجوب الغيري المتعلّق بنفس ذي المقدّمة تأكيداً لوجوبه النفسي، فمثلا الوجوب الغيري المتعلّق بالصلاة يكون مؤكّداً لوجوبها النفسي من غير لزوم محذور، لأنّ الوجوب الغيري المتعلّق بنفس الصلاة وإن كان يتوقّف على تعلّق الوجوب الغيري بالمقدّمات الموصلة إلى الصلاة، لكن تعلّق الوجوب الغيري بتلك المقدّمات الموصلة لا يتوقّف على تعلّق الوجوب الغيري بنفس الصلاة ليلزم الدور، بل تعلّقه بتلك المقدّمات الموصلة يتوقّف على ثبوت الوجوب النفسي المتعلّق بالصلاة، فالوجوب الغيري الموقوف في الصلاة غير وجوبها النفسي الموقوف عليه فلا دور.لا يقاللو كان الوضوء المقيّد بالوصول إلى الصلاة متعلّقاً للوجوب الغيري تكون الصلاة مقدّمة للوضوء المفروض، ونتيجة ذلك كون الصلاة مقدّمة لنفسها، لأنّ مقدّمة المقدّمة مقدّمة.فإنّه يقاللا يتوقّف الوضوء على الصلاة وإن التزم بأنّ الوجوب الغيري يتعلّق بالوضوء الموصل إلى الصلاة، فإنّ نفس الوضوء غير موقوف على الصلاة، وإنّما يكون اتصافه بالموصليّة موقوفاً على الصلاة، وهذا لا محذور فيه، ولا يزيد الوضوء في ذلك بالإضافة إلى الصلاة عن العلّة والمعلول، حيث ان المعلول يتوقّف في حصوله على تحقّق العلّة، مع أنّ اتصاف العلّة بالعليّة الفعليّة يكون بحصول المعلول، وفي المقام تتوقّف الصلاة على الوضوء في حصولها لكون الوضوء قيداً للواجب النفسي، ولكن لا يتوقّف وجود الوضوء على وجود الصلاة، بل اتصاف الوضوء بالموصليّة يتوقّف على الصلاة.وبالجملة كون شيء مقدّمة يتوقّف عليه حصول ذي المقدّمة غير اتصاف المقدّمة بالموصليّة، والذي يمتنع هو توقّف وجود المقدّمة على حصول ذي المقدّمة، وأمّا توقّف اتصاف المقدّمة بوصف على حصول ذي المقدّمة فلا محذور فيه.وممّا ذكرنا يظهر أيضاً أنّه إذا تعلّق وجوب غيري بالوضوء الموصل إلى الصلاة، ووجوب غيري آخر بنفس الصلاة، فواضح أنّ الوجوب الغيري المتعلّق بالوضوء الموصل أو بالصلاة لا يتكّرر لأنّ الصلاة بنفسها موصلة إلى الوضوء الموصل إليها، حيث لا ينفك وجود الواجب النفسي عن حصول مقدّماتها.[6] وحاصله أنّ مع النهي عن المقدّمة غير الموصلة لا يصحّ التكليف بذيها أصلاً، وذلك لأنّ النهي عن مقدّمة غير موصلة تحريم لتلك المقدّمة على تقدير عدم حصول الواجب النفسي، وتجويز لها على تقدير الإتيان بالواجب النفسي، وعليه فلا يكون ترك الواجب النفسي مخالفة وعصياناً، لأنّ التكليف به في هذا الفرض ممتنع، لكون مقدّمته حراماً، ويلزم أن يكون التكليف بالواجب النفسي مشروطاً بحصول نفسه، وهذا من طلب الحاصل.أقولإنّما يلزم التكليف بالممتنع أو التكليف بالحاصل لو قيل باشتراط جواز المقدّمة أو وجوبها الغيري بحصول ذيها بأن يكون الواجب النفسي قيداً لنفس الوجوب الغيري، ولكن قد تقدّم منع ذلك وأمّا لو كان حصول الواجب قيداً للواجب الغيري فلا يلزم محذور، لحيلولة ترك الواجب النفسي بين المقدّمة وذيها، ومعه يصحّ التكليف به لتمكّن المكلّف على مقدّمته المقيّدة بالموصلة، هذا مع الإغماض عمّا ذكرناه مراراً من أنّ الواجب النفسي ـ بناءاً على القول بوجوب المقدّمة الموصلة ـ لا يكون قيداً للواجب الغيري أيضاً، بل يكون تعلّق الوجوب الغيري الواحد مجموع المقدّمات التي يكون منها قصد الواجب النفسي والاستمرار عليه.وينبغي في المقام التعرّض لنكتة، وهيأنّ الشرط الشرعي في الواجب النفسي كالطهارة واستقبال القبلة ونحوهما بالإضافة إلى الصلاة مما يعبّر عنها بالمقدّمة ويتعلّق بها الوجوب الغيري بناءاً على الملازمة، لا يدخل حقيقة في المقدّمة التكوينية التي يتوقّف وجود ذيها على وجودها سابقاً، بل الحال في تلك الشرائط كالحال في الأجزاء، فكما أنّ الجزء لا يكون مقدّمة للصلاة، لأنّ المقدّمة للشيء عبارة عمّا يتوقّف وجود ذلك الشيء على وجودها، وفيما نحن فيه ليس في الخارج تحقّق للصلاة وتحقّق للتقيّد بالوضوء ووجود آخر للوضوء، بل التقيّد أمرٌ انتزاعي منشأه تحقّق الوضوء والطهور في زمان يتحقّق فيه الصلاة، فيكون الوضوء طرف الإضافة التي لها عنوان انتزاعي، وعلى ذلك فلا بأس باشتراط الصلاة بالوضوء واشتراط الوضوء بالصلاة في تعلّق الوجوب النفسي بالأوّل والغيري بالثاني، كما هو الحال في حجّ التمتّع وعمرته، حيث إنّ الحجّ مشروط بوقوع العمرة قبله، وعمرة التمتّع مشروطة بوقوع الحجّ بعدها، ولا يجري فيه ما يقال من أنّ مقدّمة الشيء لا يمكن أن يكون من ذي المقدّمة لذلك الشيء، فإنّ هذا يختصّ بالمقدّمة العقلية ممّا يكون المقدّمة من مبادئ وجود الشيء لا من طرف الإضافة في وصف ذلك الشيء، كما في المتضايفين، وعلى ذلك فلا بأس بكون الوضوء مقدّمة للصلاة في اتّصاف الصلاة بالصحّة والصلاة مقدّمة ـ يعني شرطاً للوضوء ـ في صحّة الوضوء، ويعبّر عن الوضوء بأنّه مقدّمة للصلاة، وعن الصلاة بأنّها مقدّمة للوضوء، كما هو الحال بالإضافة إلى كلّ جزء من أجزاء المركّب الارتباطي، بالإضافة إلى أجزائها الأُخرى، مع اعتبار الموالاة في أجزائه.ثمّ إنّه بقي في باب الملازمة مسلك آخر منقول عن صاحب الحاشية (قدس سره)أوضحه المحقّق النائيني (قدس سره)بما حاصلهأنّ الوجوب الغيري، وإن تعلّق بنفس ما يحمل عليه عنوان المقدّمة، إلاّ أنّ متعلّق الوجوب الغيري مهمل لا مطلق، كما التزم به الماتن (قدس سره)وغيره من كون المقدّمة نفس غسل الثوب المتنجّس، سواء ترتّب عليه الصلاة أم لا، ولا مقيّد بالإيصال، كما التزم به صاحب الفصول (قدس سره)، والوجه في إهمال المتعلّق ما تقدّم من عدم إمكان تقييده بالإيصال، لاستلزام هذا التقييد الدور أو التسلسل، وإذا لم يمكن تقييده بالإيصال لا يكون للمتعلّق إطلاق؛ لأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة وأن الإطلاق عبارة عن التقييد في المورد القابل للقيد، والمفروض عدم إمكان تقيّد متعلّق الوجوب الغيري بقيد الإيصال فيكون مهملا، وكما لا إطلاق ولا تقييد في ناحية الواجب الغيري بالإضافة إلى قيد الإيصال، كذلك لا إطلاق ولا تقييد في ناحية نفس الوجوب الغيري المتعلّق بالمقدّمة بمقتضى التبعية.وبتعبير آخرلا يكون نفس الوجوب الغيري مشروطاً بالإيصال وبترتّب الواجب النفسي على المقدّمة، حيث إنّ هذا الاشتراط يوجب تفكيك الوجوب الغيري عن الوجوب النفسي في الإطلاق والاشتراط، وذلك فإنّ الوجوب النفسي لا يمكن أن يكون مشروطاً بحصول متعلّقه، فإنّه من طلب الحاصل، كذلك الوجوب الغيري المتعلّق بالمقدّمة لا يكون مشروطاً بحصول الواجب النفسي، فإنّ طلب المقدّمة أيضاً في هذا التقدير من طلب الحاصل، وإذا لم يمكن تقييد الوجوب الغيري بالإيصال فلايكون للوجوب المفروض إطلاق، بالإضافة إلى الإيصال وعدمه بمقتضى التقابل بين الإطلاق والتقييد بالعدم والملكة.والحاصل أنّ الوجوب الغيري المتعلّق بالمقدّمة مهمل ثبوتاً من حيث نفسه ومن حيث متعلّقه، بالإضافة إلى قيد الإيصال وعدمه، ولكنّه مبيّن من حيث الملاك، فإنّ ملاك الوجوب الغيري هو الوصول إلى الواجب النفسي، بمعنى أنّ الغرض من إيجابها هوالوصول إلى ذيها، لكن لا بمعنى جعل الوصول قيداً.ويترتّب على ذلك أنّه يمكن جعل حكم آخر يتعلّق بالمقدّمة مترتّباً على عصيان وجوبها الغيري من حيث الملاك، بأن يتعلّق الوجوب الغيري بالدخول في ملك الغير بلا رضا صاحبه فيما كان الدخول المفروض مقدّمة لإنقاذ غريق أو إطفاء حريق، وأن ينهي عن ذلك الدخول مترتّباً على عصيان الوجوب الغيري المتعلّق به من حيث الملاك، فيثبت كلا الحكمين للدخول وتكون الحرمة بنحو الترتّب.وقد ناقش المحقّق النائيني (قدس سره) بعد ذكر ذلك بأنّ إهمال الواجب الغيري والوجوب الغيري وإن كان متيناً، إلاّ أنّه لا يمكن تعلّق حكم آخر بالمقدّمة، ولو مترتّباً على عصيان الوجوب الغيري المتعلّق بها، بل الممكن في باب الترتّب ثبوت حكم في فعل بنحو الترتّب على مخالفة تكليف آخر متعلّق بفعل آخر، فمثلا لا تجب الصلاة في أوّل وقتها فيما إذا كان تركها لازماً لإزالة النجاسة عن المسجد، ولا بأس بتعلّق الوجوب بالصلاة مترتّباً على عصيان التكليف بالإزالة، وفي المقام يمكن تعلّق الوجوب الغيري بالمقدّمة مهملا وتعلّق الحرمة بها مترتبة على عصيان التكليف المتعلّق بذيها بأن تثبت الحرمة في ملك الغير بلا رضا صاحبه على تقدير مخالفة الوجوب النفسي المتعلّق بالإنقاذ أو الإطفاء(1).أقوللا يخفى أنّ الترتّب ـ على ما يأتي في بحث النهي عن الضدّ ـ إنّما يصحّح الجمع بين التكليفين فيما كان متعلّقاهما من الضدّين اللذين لهما ثالث، سواء كان التضادّ بينهما ذاتياً أو عرضياً، ولا يلزم من الأمر بهما على نحو الترتّب محذور التكليف بالجمع بين الضدّين مما كان يلزم من الأمر بهما على نحو الإطلاق وعدم الترتّب.وأمّا التكليف الممتنع في نفسه ـ مع قطع النظر عن لحاظ عدم التمكّن على متعلّقه ـ المعبر عنه بالتكليف المحال، فلا يوجب الترتّب جوازه.وعليه فالأمر بالأهم مطلقاً والأمر بالمهمّ على تقدير عصيان الأمر بالأهمّ ولو بنحو الشرط المتأخر لا يلازم التكليف بالجمع بين الضدّين، فلا محذور في الأمر بهما كذلك.وأمّا الأمر بالدخول في ملك الغير بلا رضا مالكه لا يجتمع مع النهي عنه، سواء جعل شرط تحريمه مخالفة الأمر بالدخول، كماهو مقتضى كلام صاحب الحاشية(قدس سره)، أو مخالفة الأمر بالإنقاذ أو الإطفاء، كما هو مقتضى كلام المحقّق النائيني (قدس سره)، فإنّ الأمر بالدخول مع النهي عنه ولو مشروطاً، من التكليف المحال والفعل الواحد لا يتحمّل تعلّق الوجوب والحرمة به، والترتّب لا يصحّحه، فإنّ اشتراط النهي عن الدخول بمخالفة الأمر به يستلزم اشتراط الأمر به بموافقة الأمر به، وهذا من طلب الحاصل.وكذا اشتراط النهي عنه بمخالفة الأمر بالإنقاذ، حيث أنّ لازم هذا الاشتراط اشتراط الأمر بالدخول بموافقة الأمر بالإنقاذ، وفي فرض الموافقة الدخول موجود فيكون الأمر به من طلب الحاصل أيضاً.وبالجملة طلب الحاصل من قبيل التكليف المحال ولا يصحّحه الترتّب، كما أنّ تعلّق الوجوب مطلقاً والحرمة بفعل مطلقاً من التكليف المحال، ولا يمكن تصحيحهما بالترتّب وبالاشتراط في أحدهما.فقد تحصّل ممّا ذكرنا أنّ نفس الوجوب الغيري لا يمكن أن يكون مشروطاً بالإيصال إلى الواجب النفسي، لاستلزامه كون الأمر به من طلب الحاصل، ومع النهي عنه في فرض عدم الإيصال يكون النهي مع الأمر المفروض أيضاً من التكليف بالمحال لا التكليف بغير المقدور.ولكن لا بأس بتقيّد متعلّق الوجوب الغيري بالإيصال، بل لا مناص منه بناءاً على وجوب المقدّمة الموصلة على التفسير المفروض، ولكن يكون نفس الوجوب الغيري بالإضافة إلى الإيصال مطلقاً، فالإيصال من قيود الواجب الغيري لا الوجوب الغيري.وما تقدّم في كلام المحقّق النائيني (قدس سره) من عدم الإطلاق لا في ناحية الوجوب الغيري ولا في ناحية الواجب الغيري غير صحيح؛ وذلك لأنّ كون التقابل بين الإطلاق والتقييد بالعدم والملكة، يختصّ بمقام الإثبات، بلا فرق بين ناحية الموضوع أو ناحية المتعلّق أو ناحية الحكم، حيث لا يمكن التمسّك بالإطلاق في ناحية شيء منهما في موارد عدم تمكّن الحاكم على التقييد في ذلك الخطاب لرعاية التقية أو نحوها.وأمّا التقابل بينهما في مقام الثبوت فبالسلب والإيجاب وامتناع التقييد يوجب كون الإطلاق ذاتياً.(1).أجود التقريرات1 / 240.بقي شيء وهو أنّ ثمرة القول بالمقدّمة الموصلة هو تصحيح العبادة التي يتوقّف على تركها فعل الواجب[1].ومنها تقسيمه إلى الأصلي والتبعي[2].ثمّ إنّه إذا كان الواجب التبعي ما لم يتعلّق به إرادة مستقلّة، فإذا شكّ في واجب أنّه أصلي أو تبعي[3].تذنيبفي بيان الثمرة وهي في المسألة الأُصولية كما عرفت سابقاً.[4].مع أنّ البرء وعدمه يتبعان قصد الناذر[5].وأخذ الأُجرة على الواجب لا بأس به[6].[1] قيل إنّه تظهر الثمرة بين القول بوجوب نفس المقدّمة، والقول بوجوب المقدّمة الموصلة فيما لو كانت عبادة ضدّاً لواجب فعليٍّ آخر ـ كالصلاة بالنسبة إلى إزالة النجاسة عن المسجد في سعة الوقت ـ وبُنِي على اقتضاء الأمر ـ كالأمر بالإزالة في المثال ـ للنهي عن ضدّه الخاصّ ـ يعني الصلاة في المثال ـ من باب مقدّمية ترك أحد الضدّين لوجود الضدّ الآخر، وقيل بأنّ الأمر الغيري يتعلّق بنفس المقدّمة، تكون الصلاة في أوّل وقتها منهياً عنها فإنّ الأمر بالشيء نهي عن ضدّه الخاصّ، والنهي يقتضي فساد العبادة، وهذا بخلاف ما إذا قيل بوجوب المقدّمة الموصلة، فإنّ الواجب الغيري ـ بناءاً عليه ـ ترك الصلاة الموصل إلى الإزالة لا مطلق تركها، ليكون فعلها محرّماً فتفسد.وبتعبير آخرلا تكون الصلاة بنفسها ضداً لتركها الموصل إلى الإزالة حتّى تحرم مطلقاً.وقد أورد على هذه الثمرة في التقريرات المنسوبة إلى الشيخ (قدس سره) بما حاصلهأنّ نقيض ترك الصلاة الموصل إلى الإزالة رفع هذا الترك الخاصّ وهذا الرفع ـ كما هو الحال في نقيض كلّ أخص ـ يكون أعمّ قد ينطبق على فعل الصلاة وقد ينطبق على الترك المجرد (أي ترك الصلاة وترك الإزالة معاً)، ولو كان وجوب ترك الصلاة ـ بناءاً على وجوب نفس المقدّمة ـ موجباً لحرمة فعلها كان وجوب تركها الخاصّ موجباً لحرمتها أيضاً، وذلك لأنّ الفعل في الحقيقة ليس نقيضاً للترك، حيث إنّ الفعل أمر وجودي ونقيض الترك أمرٌ عدمي، فإنّ نقيض كلّ شيء رفعه، وهذا النقيض ينحصر مصداقه بالفعل فيما كان الوجوب الغيري متعلّقاً بنفس ترك الضدّ، ويتعدّد مصداقه فيما كان متعلّقه الترك الخاصّ، يعني الترك الموصل إلى فعل الواجب النفسي، فلو لم يكفِ في حرمة الصلاة كونها مصداقاً للنقيض، فلا تكون الصلاة محكومة بالبطلان على القولين، وعلى تقدير الكفاية فلا فرق بين النقيض المنحصر مصداقه بواحد، وبين النقيض الذي يتعدّد مصداقه.ويقرّر جواب الماتن (قدس سره) عن الإيراد بأنّه فرق بين مطلق الترك والترك الخاصّ، وأنّ الفعل نقيض لمطلق الترك، لا أنّه مصداقه المنحصر، وذلك لأنّ العدم إذا كان نقيضاً للوجود كان الوجود نقيضاً للعدم لا محالة، لأنّ التناقض كالتماثل والتضادّ يمتنع أن لا يتكرّر بأن يكون أحد الشيئين مِثلا لآخر، ولا يكون ذلك الآخر مِثلا له، وذلك ظاهر.وأمّا الترك الخاصّ فنقيضه عدم ذلك الترك الخاصّ، والعدم المفروض يلازم الفعل تارةً والترك المجرّد أُخرى، ونفس الفعل لا يكون نقيضاً ولا فرداً لنقيضه، أمّا الأوّل فلامتناع تعدّد النقيض لشيء واحد، وإلاّ لزم جواز ارتفاع النقيضين، ويمكن ارتفاع كلّ من الترك الخاصّ ـ أي ترك الصلاة الموصل إلى الإزالة ـ وفعل الصلاة كما في الترك المجرّد، بأن يترك المكلّف الإزالة والصلاة معاً.وأمّا الثاني ـ يعني عدم كون الفعل مصداقاً لنقيض الترك الخاصّ ـ فلان الجامع بين وجود شيء وعدمه غير معقول، فيكون نقيض الترك الخاصّ ملازماً للوجود، أي وجود الضدّ تارةً ولعدمه المجرّد أُخرى، والمراد بالعدم المجرّد ترك الصلاة وترك الإزالة معاً.ومن الظاهر أنّ النهي عن نقيض العامّ لشيء لا يسري إلى ملازمه، فضلا عن مقارنه.نعم لابدّ من أن لا يكون الملازم محكوماً فعلا بحكم على خلافه، لا أن يكون محكوماً بحكمه.والحاصل أنّ ما ذكر في الفصول من الثمرة بين القول بوجوب نفس المقدّمة أو المقدّمة الموصلة صحيحٌ، وأنّه لا موجب للحكم ببطلان العبادة في الفرض بناءاً على المقدّمة الموصلة، بخلاف القول بوجوب نفس المقدّمة، فإنّه بناءاً عليه لو لم يكن الفعل نقيض الترك بحسب المفهوم فلا ينبغي التأمّل في أنّ النقيض متّحد مع الفعل مصداقاً، فيكون الفعل منهياً عنه وهو يوجب بطلان العبادة.هذا حاصل كلام الماتن (قدس سره) مع إيضاح بعض الأعلام.أقولدعوى كون الصلاة ملازمة أو مقارنة لنقيض تركها الموصل إلى الازالة وليست نقيضاً للترك الموصل لو قيل بأنّ الترك الموصل متعلّق للوجوب الغيري، بخلاف ما لو قيل بأنّ نفس ترك الصلاة متعلّق للوجوب الغيري، فتكون في هذه الصورة نفس الصلاة نقيضاً لتركها المفروض كونه مقدّمة للإزالة، لا تخلو من تأمّل بل منع، وذلك لأنّ موصلية ترك الصلاة إلى الإزالة ليست خصوصية قائمة بترك الصلاة، نظير موصلية السبب إلى المسبّب، بل الموصلية لترك الصلاة تنتزع من فعل الإزالة.وبتعبير آخر: تقارن ترك الصلاة وعدمها في زمان حصول الإزالة حصول لموصلية ترك الصلاة، وعليه فبما أنّ المقدّمة مركبة من أمرينترك الصلاة والموصلية، غاية الأمر ترك الصلاة يتحقّق بنفسه، وموصليّته يتحقّق بمنشأ انتزاع الموصلية ـ أي الازالة ـ فيتعدّد النقيض لا محالة، لأنّ لترك الصلاة نقيض وهو فعلها، ولموصلية تركها نقيض يحصل بترك الإزالة مع ترك الصلاة، نظير المركّب الاعتباري، فإنّ نقيضه رفع ذلك المركب، ورفعه كما يكون بترك تمام أجزائه كذلك يكون ـ فيما وجد بعض أجزائه ـ بترك بعض أجزائه الأُخرى، وهذا ليس من تعدّد النقيض لشيء واحد، ليقال هذا ممتنع ولازمه ارتفاع النقيضين، بل من تعدّد النقيض للمتعدّد، وعلى ذلك فلو صلّى المكلّف في أوّل الوقت، فقد ترك المقدّمة الموصلة للإزالة بالإتيان بكلا النقيضين لتركها الموصل، وإذا ترك الصلاة وترك الإزالة فقد ترك المقدّمة الموصلة بترك جزئها الأخير، وغاية الأمر يكون رفع ترك الصلاة بنفسه ورفع موصليّته برفع منشأ انتزاعها، وعلى ذلك فما ذكره الشيخ (قدس سره) من نفي الثمرة في المقام هو الصحيح، والأصحّ منه ما يأتي من أنّ ترك الضدّ لا يكون مقدّمة لفعل الضدّ الآخر، حتّى يتحقّق مورد للثمرة التي ذكرها في الفصول.وعن السيد اليزدي (قدس سره) بطلان الثمرة المفروضة، حتّى لو قيل بأنّ الوجوب الغيري يتعلّق بنفس المقدّمة أو أن الأمر بشيء يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ بوجه آخر، وذلك لأنّ النهي عن عبادة ـ لكونها ضدّاً خاصّاً لواجب آخر ـ لا يقتضي فسادها، لأنّ النهي المفروض على تقديره تبعي لا ينافي وجود الملاك الملزم النفسي فيها، ولا يكشف عن مفسدة غالبة أو خالصة موجبة لمبغوضيتها وعدم صلاحية التقرّب بها، ولو فرض أنّ النهي الغيري عن عبادة أيضاً موجب لفسادها، فليس ما ذكر من الثمرة، ثمرة التفصيل بين تعلّق الوجوب الغيري بالمقدّمة مطلقاً أو بخصوص الموصلة، بل ذلك ثمرة القول بوجوب المقدّمة وعدم القول بوجوبها، فالقول بصحة الصلاة ـ بناءاً على وجوب المقدّمة الموصلة ـ ليس لأجل أنّ الواجب الغيري هو خصوص المقدّمة الموصلة، بل لأنّ ذات المقدّمة لم تكن متعلّقاً للوجوب الغيري، سواء قيل بوجوب المقدّمة الموصلة أم لا.وفيهأنّه مع النهي الغيري عن الضدّ الخاصّ، كالصلاة في أوّل الوقت في الفرض، يحكم ببطلانها لا لمبغوضيّتها الموجبة لعدم صلاحية التقرّب بها، بل لعدم الكاشف عن ملاك ملزم فيها مع النهي الغيري عنها، حيث أنّ النهي المفروض يكون موجباً لعدم الإطلاق في متعلّق الأمر بالصلاة بين الحدّين الملازم للترخيص في تطبيقها لأيّ فرد من أفرادها، بخلاف القول بعدم النهي الغيري، فإنّه لا موجب لرفع اليد عن إطلاق المتعلّق، والترخيص في تطبيقها على الفرد في أوّل وقتها، ولو كان هذا الترخيص بنحو الترتّب، على ما سيأتي تفصيل ذلك في بحث النهي عن الضدّ إن شاء الله تعالى.وأمّا ما ذكره (قدس سره) من أنّ ما ذكر ثمرة القول بوجوب المقدّمة والقول بعدم وجوبها سواء قيل بوجوب المقدّمة الموصلة أم لا، فقد تقدّم الكلام في الثمرة، فلا نعيد.ثمّ إنّه قد يقال بظهور الثمرة بين القول بتعلّق الوجوب الغيري بذات المقدّمة، وتعلّقه بالمقدّمة الموصلة، فيما إذا كان الحرام النفسي مقدّمة للواجب الأهم، فبناءً على تعلّق الوجوب الغيري بذات المقدّمة تتبدّل الحرمة النفسية المتعلّقة بالمقدّمة إلى الوجوب الغيري، ولا يستحقّ المكلّف العقاب على ارتكاب المقدّمة فيما لم يأتِ بالواجب الأهم، بخلاف ما إذا قيل بوجوب المقدّمة الموصلة، فإنّه تبقى الحرمة النفسية بالإضافة إلى غير المقدّمة الموصلة.أضف إلى ذلك أنّ الثمرة لا تترتّب أيضاً على القول بتعلّق الوجوب الغيري بذات المقدّمة، أو عدم تعلّقه بها، بل يتعيّن القول ببقاء المقدّمة غير الموصلة على حرمتها، قيل بوجوب المقدّمة أم لا، لأنّ تعلّق الوجوب الغيري بذات المقدّمة إنّما هو لأجل عدم الفرق بين الموصلة وغيرها في ملاك الوجوب الغيري، ولأجل عدم وجود ملاك ملزم آخر في غير الموصلة حتّى يمنع عن تعلّق الوجوب الغيري بها وإطلاق متعلّقه بالإضافة إليها، ولكن إذا فرض وجود ملاك مبغوض في غير الموصلة، يتقيّد متعلّق الوجوب الغيري بالموصلة لا محالة، نظير تعلّق الوجوب الغيري بغسل الثوب وتطهير البدن، لكون طهارتهما شرط في الصلاة المأمور بها، ولكن متعلّق الوجوب الغيري يتقيّد بالغسل بغير الماء المغصوب، حيث أنّ النهي النفسي ـ عن غسلهما بالماء المغصوب أو في الإناء المغصوب لكونه غصباً وعدواناً على مالك الماء والإناء ـ لا يجتمع مع الترخيص في غسلهما بأيّ ماء أو في أيّ إناء، فعدم الإطلاق في الواجب الغيري ليس من باب اختصاص ملاك الوجوب الغيري بغير المحرّم، بل لوجود المزاحم من إطلاق الواجب الغيري، بحيث يشمل الترخيص في التطبيق للفرد المحرم.نعم هذا التقييد مبنيّ على كون الأمر الغيري بغسلهما مولوياً، وإلاّ فلا مجال للتقييد في الأمر الإرشادي؛ لعدم منافاته مع الحرمة النفسية.[2] كان المناسب أن يذكر هذا التقسيم في الأمر الثالث ـ الذي تعرّض فيه لأقسام الواجب ـ، لا في الأمر الرابع ـ الذي تعرّض فيه لوجوب المقدّمة من حيث سعته وضيقه في نفسه أو في متعلّقه ـ، إلاّ أن يقالإنّ غرضه من ذكره في المقام بيان أنّ ثبوت الوجوب الغيري المولوي وتعلّقه بالمقدّمة لا يتوقّف على التفات الآمر إلى المقدّمة ليتعلّق بها طلبه، كما لا يتوقّف ثبوت الوجوب الغيري بها على خطاب يكون المقصود من ذلك الخطاب بيان وجوب المقدّمة.وكيف كان فقد ذكر (قدس سره) في المقام أنّ اتّصاف الواجب بالأصلي والتبعي يكون في مقامين: أحدهمامقام الثبوت وتعلّق طلب المولى وإرادته بالفعل.فقال في هذا المقام: إنّ المولى تارةً يلتفت إلى فعل ويلاحظ أنّ فيه ملاك الإلزام، سواء كان ذلك الملاك الملزم نفسياً أو غيريّاً فيطلبه نفسياً أو غيرياً، ومع هذا الالتفات التفصيلي إلى الفعل وتعلّق طلبه به يكون وجوب ذلك الفعل أصليّاً، وأُخرى لا يلتفت إلى الفعل تفصيلا، بل يكون التفاته إليه إجمالياً، حيث أنّه أراد بإرادة إجمالية فعلا آخر، يتوقّف ذلك الفعل المراد إجمالا على الفعل المراد بالتفصيل، فيلزم من إرادته إرادة الفعل الآخر، بحيث لو التفت إلى الفعل المفروض كالتفاته إلى الفعل المراد تفصيلا لتعلّق به إرادته وطلبه، فيقال لهذا الفعل المراد إجمالاإنّه واجب تبعي، هذا في الأصالة والتبعية بحسب مقام الثبوت والجعل.ثانيهمامقام الدلالة والإثبات، فقد يكون وجوب فعل مقصوداً بالإفادة من الخطاب، وأُخرى يكون المقصود بالإفادة أمراً آخر فدلالة الخطاب على وجوب الفعل يستتبع إفادة ذلك الأمر الآخر، سواء كان استفادة وجوبه من نفس الخطاب المفروض أو بانضمام خطاب آخر إليه، نظير ما يفهم أنّ (أقلّ الحمل ستة أشهر) من ضمّ خطاب (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلثُوْنَ شَهْرَاً)(1) إلى خطاب (الْوالِداتُ يُرْضَعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ)(2).ثمّ ذكر (قدس سره) أنّ الوجوب الغيري يتّصف بكونه أصلياً وتبعياً بحسب مقام الثبوت والإثبات، فالوجوب الغيري الأصلي بحسب مقام الإثبات كقوله سبحانه (إذا قُمْتُمْ إِلى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوْهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ)(3)، بناءاً على كون مدلولها أمراً مولوياً، والوجوب الغيري التبعي بحسب مقام الإثبات أيضاً كوجوب تحصيل الماء للوضوء المستفاد من الخطاب المفروض والوجوب الغيري الأصلي بحسب مقام الثبوت، وكذا التبعي منه بحسب ذلك المقام ظاهر.وأمّا الوجوب النفسي، فيمكن أن يكون بحسب مقام الإثبات أصليّاً، ويمكن أن يكون تبعياً، كاستفادة وجوب الصلاة قصراً من قوله سبحانه (إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناح أنْ تَقْصِرُوا مِنَ الصَّلاةِ)(4)، حيث إنّ دلالته على وجوب الصلاة قصراً في السفر مقصودة بالأصالة، ويفهم منه أيضاً وجوب الصلاة في غير السفر بالتبع، ولكن لا بنحو القصر، ولو في الجملة.فوجوب الصلاة في غير السفر المستفاد من خطاب وجوب القصر في السفر يكون تبعيّاً.وأمّا الوجوب النفسي بحسب مقام الثبوت لا يكون إلاّ أصلياً، وذلك لأنّ النفسي لا يكون إلاّ في فعل يكون فيه المصلحة النفسية والملاك الملزم النفسي، وإذا كان الفعل كذلك، فالمولى الملتفت إلى ما فيه الملاك النفسي يتعلّق به طلبه وإرادته، حتّى فيما لو فرض أنّه لم يكن في البين فعل آخر مطلوب كذلك.وقال (قدس سره)الظاهر أنّ تقسيم الواجب إلى الأصلي والتبعي في كلمات الأصحاب بلحاظ مقام الثبوت، والمراد أنّ الواجب في مقام الثبوت إمّا أصلي أو تبعي، ولو كان المراد تقسيم الواجب إليهما بحسب مقام الإثبات ـ يعني دلالة الخطاب ـ لم ينحصر الواجب إلى قسمين، فإنّه قد يكون الواجب الواقعي غير وارد فيه خطاب، كالواجب المستفاد من حكم العقل أو الإجماع، فلا يكون ذلك الواجب لا أصليّاً ولا تبعيّاً.أقول: الظاهر أنّ الماتن (قدس سره) قد خلط الطلب الإجمالي بالإرادة التبعية والطلب التبعي، كما خلط الطلب التفصيلي بالإرادة الاستقلالية والطلب الاستقلالي، وبيان ذلكأنّ الواجب الغيري المتعلّق بمقدّمة الواجب وإن كان ملحوظاً تارةً بالإجمال والارتكاز، وأُخرى بالتفصيل، إلاّ أنّه فيما لوحظ إجمالا يكون طلبه إجمالياً وارتكازياً، وفيما كان ملحوظاً بالتفصيل يكون طلبه تفصيلياً، لكنّ الإرادة والطلب المتعلّق به تبعي على كلا التقديرين يتبع الإرادة والطلب النفسي المتعلّق بالواجب النفسي، فإنّه لولا تعلّق الإرادة والطلب به لما تعلّق الطلب والإرادة بمقدّمته أصلاً، لا إجمالا ولا تفصيلا.وأمّا الواجب النفسي، فلا يكون الطلب والإرادة فيه تبعياً، فإنّه لو فرض عدم تعلّق طلب وإرادة بفعل آخر أصلاً، يكون الفعل المفروض متعلّقاً للإرادة والطلب الاستقلالي، ولكنّ هذا الواجب والمراد الاستقلالي قد يكون طلبه ارتكازياً وملحوظاً إجمالا، كما إذا لم يلتفت المولى إلى أنّ الذي سيأتي إليه من كرام الناس ولم يطلب من عبده إكرامه، ولكنّ العبد يعلم بأنّ الآتي من هو، ومع ذلك ترك إكرامه، فإنّ المولى يؤاخذه بعد ذلك على ترك إكرامه، ويحتجّ عليه بأنّك كنت عالماً بأنّ سجيّتي الأمر بإكرام الكرام.وبالجملة إن كان الملاك في كون واجب في الواقع أصليّاً، تعلّق الإرادة المستقلة به فالواجب الغيري لايكون واجباً أصلياً، سواء لوحظ تفصيلا وتعلق به الطلب كذلك، أم لوحظ بالإجمال والارتكاز، وإن كان الملاك في كون الواجب أصلياً لحاظه تفصيلا وتعلّق الطلب به تفصيلا فالواجب النفسي أيضاً قد يكون تبعياً.نعم في الواجبات الشرعية النفسية لا تتحقّق التبعية إلاّ بحسب مقام الإثبات والدلالة، كما تقدّم.[3] تعرّض(قدس سره) لما إذا علم تعلّق الوجوب بفعل وشكّ في أنّه واجب تبعي لم يتعلّق به إرادة وطلب مستقلّ، أو أنّه أصلي تعلّق به إرادة وطلب مستقل، فلو فرض ـ لكونه واجباً تبعياً ـ أثرٌ شرعي، فاستصحاب عدم تعلّق طلب مستقلّ به يثبت كونه تبعياً ويترتب عليه الأثر التبعي كسائر الموضوعات التي تتقوّم بأمر عدمي، كما إذا علم بوقوع النجاسة في ماء وشكّ في كونه قليلا أو كثيراً، فإنّ استصحاب عدم كون الماء المفروض كثيراً يثبت قلّته، فإنّ الماء القليل هو الماء الذي لا يكون بحدّ الكرّ، والاستصحاب المفروض يحرز قلّته، فيحكم بنجاسته.نعم لو كان الوجوب التبعي متقوّماً بأمر وجوديّ يلزم من ذلك الأمر الوجودي عدم كون طلبه استقلالياً، كما إذا قلناإنّ الوجوب الغيري طلب خاصّ وهو الطلب الذي يلزم عن طلب فعل آخر، فلا يثبت كونه تبعياً بالاستصحاب المفروض إلاّ على القول بالأصل المثبت؛ لأنّ إثبات لازم الشيء بالأصل لا يثبت ملزومه، فإنّ ثبوت الملزوم بإثبات اللازم عقلي شرعي.أقول: أوّلاًإنّ ما ذكره (قدس سره) من بناء جريان الأصل في ناحية عدم تعلّق إرادة مستقلة بالفعل المعلوم تعلّق الوجوب به على فرض ثبوت أثر شرعي للوجوب التبعي، غير صحيح، فإنّه يصحّ الاستصحاب حتّى فيما لو كان للوجوب التبعي أثر عقلي خاصّ، فإنّ الموضوع في المقام بنفسه قابل للتعبّد وإنّما يعتبر الأثر الشرعي فيما كان الموضوع بنفسه غير قابل للجعل والتعبّد، ولذا بنوا على جريان الاستصحاب في الأحكام كالوجوب والحرمة، مع أنّ الأثر المترتّب عليها عقلي.وثانياًإنّه بناءً على ما ذكره (قدس سره) في تعريف الواجب التبعي من أنّه ما تعلّق به إرادة تبعيّة لكون إرادته لازمة لإرادة غيره، فاستصحاب عدم تعلّق إرادة مستقلّة به لا يثبت أنّ وجوبه تبعي، يعني إرادته وطلبه لازمة لإرادة فعل آخر.نعم لو كان للوجوب الأصلي أثرٌ خاصّ، فبالاستصحاب في ناحية عدم تعلّق إرادة مستقلة بالفعل المفروض ينفى عنه ذلك الأثر الخاصّ، كما تقدّم الكلام في ذلك في بحث دوران أمر الواجب بين كونه نفسياً أو غيرياً.والمتحصّل أنّه فيما كان عنوان خاصّ محكوماً بحكم، والعنوان الخاصّ الآخر منفياً عنه ذلك الحكم، وتردّد الموضوع خارجاً في أنّه داخل في العنوان الأوّل أو في العنوان الثاني، فالاستصحاب في ناحية عدم كونه من العنوان الثاني إنّما يفيد ثبوت حكم العنوان الأوّل لهذا الموضوع المشكوك، فيما كان خصوصية العنوان الأوّل عدم العنوان الثاني، كما مثّلنا بالماء القليل المحكوم بنجاسته بوقوع النجس فيه، وبالماء الكثير المحكوم بعدم الانفعال بوقوعه فيه، فإنّ خصوصية الماء القليل عدم بلوغه حدّ الكرّ، والاستصحاب في عدم بلوغ الماء المشكوك كرّاً يثبت قلّته.ويعبّر عن مثل ذلك بأنّ هذا العنوان ـ يعني الماء القليل ـ متقوم بالسلب المحمولي بخلاف السلب النعتي الذي هو مفاد القضية المعدولة، فاستصحاب عدم كونه من العنوان الثاني لا يجدي في ثبوت حكمه له، وذلك كما في الدم الأقلّ من الدرهم، حيث ثبت العفو عنه في الثوب والبدن في الصلاة، فإنّه إذا شكّ في دم أنّه أقلّ من الدرهم أو أكثر، فباستصحاب عدم كونه بمقدار الدرهم أو أكثر لايثبت أنّه أقلّ من الدرهم، حيث أنّ اتّصاف الدم بالأقلّ من الدرهم مفاد القضية المعدولة الموجبة لا السالبة المحصلة.وممّا ذكرنا يظهر أنّ ما ذكره (قدس سره) من جعل الواجب التبعي كسائر الموضوعات المتقوّمة بأُمور عدمية لا يصحّ على إطلاقه، بل يصحّ في الأُمور المتقوّمة بأُمور عدمية بمفاد السلب التحصيلي المعبّر عنه بسالبة المحمول، لا التي مفادها السلب النعتي المعبّر عنه بمفاد القضية المعدولة، ولذا لا يثبت باستصحاب عدم كذب المخبر وعدم خطائه فيما أخبر به كونه ثقة، حيث أنّ الثقة هو المتحرّز عن الكذب والمتّصف بأنّه لا يكثر خطائه وأنّه لا يكذب.[4] ذكر (قدس سره) أنّ مسألة ثبوت الملازمة بين إيجاب شيء وإيجاب مقدّمته ينطبق عليها ما تقدّم ذكره من المعيار في كون المسألة أُصولية، وهو «أن تقع نتيجتها في طريق الاستنباط وإحراز الحكم العملي الكلّي»، وإذا بنى على ثبوت الملازمة يحرز بالقياس الاستثنائي الحكم الفرعي الكلّي، بأن يقاللو كان شيء واجباً لوجبت مقدّمته أيضاً.ولكن الصلاة عند زوال الشمس تجب.فتجب مقدّمتها عندها أيضاً من الوضوء وتطهير الثوب والبدن إلى غير ذلك من مقدّماتها، فيصحّ التوضّأ أو الاغتسال أو التيمّم بقصد الوجوب بعد الزوال، إنتهى.ولكن قد يورد عليه بأنّ الاستنباط المفروض لا يصحّح كون المسألة أُصولية، حيث إنّ الوجوب الغيري الثابت للمقدّمة لا يعدّ حكماً فرعياً عملياً، لأنّ المقدّمة لا يجوز تركها عقلا عند فعلية وجوب ذيها، سواء قيل بالوجوب الغيري الشرعي المولوي أم لا، ولا يترتّب العقاب على ترك المقدّمة بنفسها، قيل بوجوبها الغيري أم لا، غاية الأمر يثبت بمسألة الملازمة أو نفيها، الموضوع لقاعدة فقهيّة، وهي حرمة التشريع وعدم جوازه، وإذا قلنا بوجوب المقدّمة لم يكن الإتيان بالوضوء أو الغسل أو التيمّم بقصد الوجوب بعد زوال الشمس من التشريع كما يكون هذا الإتيان فإنّه بناءاً على وجوب نفس المقدّمة غيريّاً يحصل البرء وإن لم يُؤت بذيها.وأمّا ما قيل من ظهور الثمرة فيما إذا ترك الواجب بمقدّماتها، فإنّه يحصل بالترك المفروض الفسق، لصدق الاصرار على الحرام، حيث إنّ ترك كلّ من مقدّماته حرام.وكذا ما قيل أيضاً من ظهور الثمرة في عدم جواز أخذ الأُجرة على مقدّمات الواجب، فإنّه يكون من أخذ الأُجرة على الواجبات.وأمثال هذه الأمور لا تكون ثمرة للمسألة الأُصولية، ولا تكون المسألة بها أُصولية، حيث ذكرنا في المباحث المذكورة في مقدّمة الكتاب أنّ البحث عن معاني ألفاظ العبادات والمعاملات كمبحث الصحيح والأعم ومبحث المشتقّ من المباحث التي تكون واسطة في تشخيص الموضوع أو المتعلّق للحكم الفرعي، ولذلك لم يجعل المباحث المفروضة من مسائل علم الأُصول، فإنّه يحرز بمسألة الصحيح والأعمّ متعلّق التكليف في خطابات وجوب الصلاة ونحوها، أو حال الموضوع في مثل قوله سبحانه (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ)(5) كما يحرز الموضوع في الخطابات الشرعية الواردة فيها العناوين على هيئة المشتقّ، بالبحث في معنى المشتقّ.[5] هذا شروع لبيان عدم تمامية الأُمور المذكورة لجعلها ثمرة البحث في نفسها، وذلك لأنّ القول بالملازمة لا يلازم الالتزام بها.أمّا البرء وعدمه فيتبعان قصد الناذر، فإنّ ما يعمّ المقدّمة يكون الإتيان بها موجباً للبرء، ولو قيل بعدم وجوب المقدّمة وإن أراد ماهو منصرف الواجب عند إطلاقه فلا برء إلاّ بالإتيان بالواجب النفسي، لانصراف إطلاقه إليه، ولا يحصل البرء بالإتيان بالمقدّمة، وإن قيل بوجوبها الغيري.وأمّا الإصرار على الحرام فلا يحصل بترك الواجب الناشئ من ترك مقدّماته حتّى على القول بوجوب تلك المقدّمات، لأنّ الترك المحرّم يحصل بترك مقدّمة لا يتمكّن مع تركها على الواجب النفسي، فلا يكون ترك سائر المقدّمات بحرام أصلاً، لسقوط التكليف بالترك المفروض.وربما يقالإنّ في هذا الوجه ما لا يخفى، فإنّه إذا كان مقدّمات الواجب كلّها في عرض واحد، بحيث يمكن للمكلف الإتيان بأيّ منها ابتداءً، لكان تعيين الترك المحرّم في ترك واحد منها بلا وجه، بل الأمر في المقدّمات الطولية أيضاً كذلك، فإنّ سقوط الوجوب عن المقدّمة الأُولى وإن كان يقارن سقوط الوجوب عن سائر المقدّمات أيضاً، لخروج الواجب عن الاختيار، إلاّ أنّ ما لم يسقط وجوب ذي المقدّمة كان كل من المقدّمات واجباً بوجوب غيري، وأنّ عصيان جمعيها كعصيان الأمر بذي المقدّمة يحصل في زمان واحد.أقوللم يذكر الماتن (قدس سره) تعيين العصيان في ترك واحد، بل ظاهر كلامه سقوط جميع الوجوبات الغيرية والوجوب النفسي بترك أوّل مقدّمة عند كون المقدّمات طولية، فالعصيان المتعدّد حصل دفعة، وظاهر ما ورد في الإصرار على الحرام(6) تكرار العصيان بمرّات، أي دفعات، فلا يكون ترك المقدّمات المتأخّرة ارتكاباً آخر.والأصحّ في الجواب هوأنّ ما دلّ على أنّه لا صغيرة مع الإصرار منصرف عن تعدّد العصيان الحاصل من ترك مقدّمات عديدة لواجب واحد، حتّى لو قيل بوجوبها الغيري، بل ظاهره تكرار العصيانات التي يكون كلّ واحد منها موجباً لاستحقاق العقاب، كما هو الحال في انصراف العصيان والطغيان إلى ما يوجب استحقاق العقاب بنفسه، كما في التكاليف النفسية.[6] إذا كان الفعل من الآخرين مورداً للغرض، وكان الواجب على المكلّف نفس الفعل لا الفعل مجّاناً، فلا مانع من تمليك ذلك الفعل للغير بإزاء الأُجرة، ويعمّه وجوب الوفاء بالعقد والإجارة.نعم لو كان الواجب هو الفعل مجّاناً ـ كما يستظهر ذلك من خطابات وجوب تجهيز الميت وكالقضاء في المخاصمات بين الناس كما عليه المشهور ـ يكون أخذ الأُجرة عليه من أكل المال بالباطل؛ لأنّ إيجاب شيء مجّاناً على المكلّف معناه إلغاء المالية عن ذلك الفعل، نظير إلغائها عن الأعمال المحرّمة وبعض الأعيان، كالخمر والخنزير، فيكون أخذ الأُجرة عليه من أكل المال بالباطل.ومقتضى النهي عن الأكل المفروض هو الإرشاد إلى فساده على ما أوضحناه في المكاسب المحرّمة، وذكرنا أنّ النهي عن أكل المال الظاهر في تملّكه والاستيلاء عليه إرشاد إلى فساد التملك والاستيلاء(7).ولايختصّ ذلك بالواجبات، بل يجرى في العمل المستحبّ أيضاً، كتعليم القرآن، فإنّ أخذ الأُجرة عليه فاسد، على ما استظهر من بعض الروايات، هذا كلّه في التوصّليات.وأمّا التعبديات، فقد يقال بأنّ أخذ الأُجرة عليها ينافي قصد التقرّب المعتبر فيها، وأجاب (قدس سره) بعدم المنافاة وأنّ الداعي إلى العمل يكون أمر الشارع بها، غاية الأمر يكون داعوية الأمر والطلب المتعلّق بها متفرّعاً على أخذ الأُجرة عليها من باب الداعي على الداعي.وبتعبير آخرقصد الأُجرة يكون كقصد التخلّص من الفقر والمرض المترتّب على بعض العبادات في كون الداعي إليها مطلوبيتها للشارع وتعلّق أمره بها، والموجب لداعوية أمر الشارع بها قصد التخلّص من الفقر والمرض، وفي مفروض الكلام يكون الداعي إلى فعل الواجب أمر الشارع به، بحيث لو لم يكن أمره لما كان يأتي به ولا يأخذ الأُجرة عليه، وأخذ الأُجرة أوجب داعوية في أمر الشارع به.لا يقالفرقٌ بين المقامين، فإنّ سائر المقاصد الدنيوية المترتّبة على بعض العبادات أحياناً لا تنافي قصد التقرّب المعتبر في العبادات، لأنّ نفس طلب تلك المقاصد من اللّه (سبحانه) مطلوب للّه (عزّ وجلّ)، بخلاف طلب الأُجرة عن الغير، فإنّه لا يلائم التقرّب المعتبر في العمل بل ينافيه.فإنّه يقالليس المراد من أخذ الأُجرة مجرّد الأخذ الخارجي، بل تملّكها شرعاً، ولذا يأتي بالعمل بعد غياب المستأجر وأخذه الأُجرة منه، خوفاً من حساب ربّه والمؤاخذة على حقوق الناس يوم القيامة، وهذا يناسب قصد التقرّب لا أنّه ينافيه.ثمّ ذكر (قدس سره) أنّ جواز تملك الأُجرة بإزاء العمل في العبادات لابدّ أن تكون كغيرها مما يرجع نفعه إلى المستأجر، بحيث يكون لذلك العمل مالية، حتّى لا تكون سفهية، وإلاّ يكون أخذها عليه من أكل المال بالباطل، وتمام الكلام موكول إلى محلّه.(1).سورة الأحقافالآية 15.(2).سورة البقرةالآية 233.(3).سورة المائدةالآية 6.(4).سورة النساءالآية 101.(5).سورة البقرةالآية 275.(6).الأُصول من الكافي2 / 288.(7).إرشاد الطالب1 / 6.وربّما يجعل من الثمرة، اجتماع الوجوب والحرمة إذا قيل بالملازمة فيما كانت المقدمة محرّمة[1].واعلم أنّه لا أصل في محلّ البحث في المسألة، فإنّ الملازمة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذي المقدّمة وعدمها ليست لها حالة سابقة[2].والأولى إحالة ذلك إلى الوجدان، حيث أنّه أقوى شاهد على أنّ الإنسان إذا أراد شيئاً، له مقدّمات أراد تلك المقدّمات[3].هو أنّه لو لم تجب المقدّمة لجاز تركها، وحينئذ فإن بقي الواجب على وجوبه، يلزم التكليف بما لا يطاق وإلاّ خرج الواجب المطلق عن وجوبه[4].أنه ليس بدليل على التفصيل[5].إلاّ أنّه عن التكليف النفسي المتعلّق بما هو قيّد بالشرط[6].لا شبهة في أنّ مقدّمة المستحبّ كمقدّمة الواجب[7].وأمّا مقدّمة الحرام والمكروه فلا تكاد تتّصف بالحرمة أو الكراهة[8].[1] ربّما يقال بظهور الثمرة فيما إذا كانت المقدّمة أو فرد منها محرّماً، فإنّه بناءاً على وجوب المقدّمة تكون تلك المقدّمة أو الفرد منها داخلا في مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي، فيجوز الإتيان بالمجمع، بناءاً على جواز اجتماع الأمر والنهي، بخلاف ما لم يلتزم بالملازمة بين الإيجابين، فإنّ المجمع المفروض يكون محكوماً بالحرمة فقط، فيكون النهي عنه من قبيل النهي عن العبادة أو المعاملة.وأورد الماتن(قدس سره) على هذه الثمرة بوجوه: الوجه الأوّلأنّه لا يكون المجمع داخلا في مسألة الاجتماع حتّى على القول بالملازمة بين الإيجابين، بل النهي عن تلك المقدّمة من قبيل النهي عن العبادة أو المعاملة، حتّى بناءاً على القول بالجواز في مسألة الاجتماع، وذلك لما تكرّر من أنّ عنوان المقدّمة لا يكون تقييدياً ليتعلّق الوجوب الغيري بناءاً على الملازمة بذلك العنوان.أقوللو كان ملاك البحث في مسألة جواز الاجتماع فرض عنوانين تقييدين أحدهما متعلّق للأمر وثانيهما متعلّق للنهي، وكانا منطبقين على واحد خارجاً، كان الفرد المحرم من المقدّمة ـ بناءاً على الملازمة ـ داخلا في تلك المسألة، وذلك لأنّ الوجوب الغيري كما لا يتعلّق بعنوان المقدّمة لكونه عنواناً تعليلياً، كذلك لا يتعلّق بخصوص الفرد المأتي به، بل يتعلّق بعنوان الوضوء (يعني بالطبيعي منه) فيكون غسل الأعضاء بما أنه وضوء يتعلّق به الوجوب الغيري، وبما أنّه غصب وعدوان على الغير في الماء المملوك له يكون حراماً، فعنوان الوضوء وعنوان الغصب عنوانان تقييديان منطبقان على فعل واحد خارجاً.وبتعبير آخركما أنّ السجود في الأرض المغصوبة من الصلاة مصداق لها، وبما أنّه تصرّف في ملك الغير مصداق للغصب، كذلك الوضوء بالماء المغصوب أو تطهير الثوب والبدن بالماء المغصوب مصداق للوضوء والغصب.وعليه إن قلنا في موارد انطباق عنوانين أحدهما متعلّق الوجوب والآخر متعلّق الحرمة على واحد بنحو التركيب الاتحادي، بامتناع الاجتماع وتقديم جانب النهي يكون المورد من موارد النهي عن العبادة أو المعاملة، وإن قلنا بجواز الاجتماع فيها، يكون المورد من موارد الاجتماع.الوجه الثاني من إيراد الماتن(قدس سره)، إنّ الحاكم بالملازمة بين الإيجابين هو العقل، والعقل لا يراها بين إيجاب ذي المقدّمة وبين مقدّمته المحرّمة، وأنّ حرمة الفرد من المقدّمة تكون مانعة عن تعلّق الوجوب الغيري به، سواء قيل بجواز الاجتماع وعدمه، هذا فيما لم تنحصر المقدّمة في المحرّم.وأمّا مع الانحصار فيه، فإمّا أن لا تكون المقدّمة واجبة لعدم وجوب ذيها لأجل المزاحمة، كما انحصر تطهير المسجد في التصرّف في ماء مغصوب، فإنّ مقتضى تقديم حرمة الغصب على وجوب الإزالة في مقام المزاحمة هو عدم وجوب الإزالة، فلا موجب لوجوب مقدمتها.وإمّا أن لا تحرم المقدّمة لأجل المزاحمة وأهمية الواجب، كما إذا توقّف إنقاذ النفس المحترمة على الدخول في ملك الغير بلا رضاه.وفيهأنّه لا موجب لاختصاص الوجوب الغيري ـ بناءاً على الملازمة وجواز اجتماع الأمر والنهي ـ بالفرد المحلّل مع عدم انحصار المقدّمة بالفرد المحرّم، وأمّا مع انحصاره به، فتظهر الثمرة بين القول بالملازمة والقول بنفيها، إذ بناءاً على وجوب المقدّمة وتقديم جانب الأمر بذيها لا يمكن النهي عن تلك المقدّمة حتى بنحو الترتّب، لما تقدّم من أنّ الترتّب لا يصحّح طلب الحاصل ودفع محذور التكليف المحال، بخلاف القول بعدم الملازمة، فإنّ عليه يمكن النهي عن تلك المقدّمة بنحو الترتّب على عصيان الأمر بذيها كما لا يخفى.نعم بناءاً على القول بوجوب المقدّمة الموصلة ولو في فرض المزاحمة يمكن النهي عن المقدّمة غير الموصلة على ما تقدّم.والوجه الثالث من الإيرادأنّه لا يترتّب على القول بوجوب المقدّمة والقول بعدم وجوبها أثر الإجزاء، فإنّ الفرد المحرّم من المقدّمة ـ مع كونها توصلية ـ يجزي لحصول الملاك به، سواء قيل بوجوب المقدّمة أم لا، جاز الاجتماع أم لا، ولايجزي مع كونها تعبديّة على القول بالامتناع، سواء قيل بوجوب المقدّمة أم لا، وعلى القول بالجواز يحكم بالإجزاء، سواء قيل بوجوب المقدّمة أم لا، والتعبدية في المقدّمة تكون بتعلّق الأمر النفسي بها ولو استحباباً، كما في الطهارات.والوجه في الحكم بصحّة الوضوء مثلا واضح، على القول بجواز الاجتماع في موارد التركيب الاتحادي أيضاً، سواء قيل بوجوب المقدّمة أم لا.أمّا على القول بوجوب المقدّمة فالإجزاء ظاهر، لأنّ الصحّة ثمرة جواز الاجتماع.وأمّا بناءاً على عدم وجوب المقدّمة، فإنّ المقدّمة العبادية تكون مستحبّة في نفسها واستحبابها موجب للحكم بصحّتها، لفرض جواز اجتماع الأمر الاستحبابي النفسي للوضوء مع حرمة الغصب.وهذا بخلاف القول بامتناع الاجتماع، فإنّ الوجوب الغيري أو الاستحباب النفسي يختصّ بغير الفرد المحرّم من المقدّمة، فلا يكون الفرد المحرّم مجزياً؛ لأنّ النهي عنه يوجب فساده، وكذا لو لم نقل بالوجوب الغيري للمقدّمة، فالأمر أيضاً كذلك، كما لا يخفى.أقوليرد عليه أنّه لا سبيل لنا إلى إحراز ملاك الوجوب الغيري في جميع موارد الأفراد المحرّمة من المقدّمات، حتّى مع كونها توصلية، إذ الكاشف عن الملاك هو الأمر، أو الترخيص في التطبيق، أو إطلاق المتعلّق والشرط، ومع حرمة فرد من المقدّمة أو الشرط لا كاشف عن الملاك، فمثلا الستر حال الصلاة قيد توصلي لا يعتبر فيه قصد التقرّب.ومع ذلك لا يمكن لنا الحكم بإجزاء الستر بالساتر المغصوب، حيث أنّ إطلاق المتعلّق للوجوب الغيري لا يعمّه، بناءاً على عدم جواز اجتماع الأمر والنهي وتقديم جانب النهى، بخلاف ما لو قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي، فإنّه يمكن كشف الملاك بإطلاق المتعلّق للوجوب الغيري، كما هو الحال بالإضافة إلى الفرد المحرّم من العبادات بناءاً على صحّتها مع جواز اجتماع الأمر والنهي وفسادها مع عدم جواز الاجتماع، كما يأتي في مبحث الاجتماع.وبالجملة يكفي لكون مسألة أُصولية، أن يحرز بها الموضوع في مسألة أُصولية أُخرى، كما يحرز بمسألة جواز الاجتماع الموضوع في مسألة النهي عن العبادة أو المعاملة، وعلى ذلك فإن أمكن بمسألة الملازمة إحراز الموضوع في مسألة جواز الاجتماع وعدمه، يدخل البحث عن الملازمة بين إيجاب شيء وإيجاب مقدّمته في المسائل الأُصولية.ولا يقاس بالثمرات المتقدّمة التي ذكرنا أنّها ـ على تقدير تماميتها ـ تعدّ من الفوائد المترتّبة على المسألة الأُصولية، ولا تصحّح كونها مسألة أُصولية.ولكن مع ذلك لا يترتّب إحراز الموضوع لمسألة اجتماع الأمر والنهي على الالتزام بالوجوب الغيري للمقدّمة أو عدم الالتزام به، بل بناءاً على كون موارد التركيب الاتحادي داخلة في مسألة الاجتماع، يكون نفس الأمر النفسي المتعلّق بالمقيد مع خطاب النهي داخلين في مسألة الاجتماع، سواء قيل بالوجوب الغيري للقيد أم لا، فالأمر بالصلاة المقيّدة بالستر مع خطاب النهي عن الغصب يجتمعان في الصلاة في الستر بالمغصوب، سواء قيل بتعلّق الوجوب الغيري بالستر في الصلاة أم لا.وهذا يتمّ بالإضافة إلى المقدّمات التي مقدّميتها تأتي من أخذها قيداً لمتعلّق التكليف النفسي.وأمّا المقدّمات العقلية، فلا يتصوّر فيها التعبديّة، كما لا يتوقّف إحراز مقدّميتها على الأمر بها غيرياً، فتكون مجزية لا محالة على كلّ حال، فتدبّر.[2] وحاصل ما ذكر (قدس سره) في المقام هو أنّ المبحوث فيه في المسألة ـ وهي الملازمة بين إيجاب شيء وإيجاب مقدمّته ـ ليست لها حالة سابقة نفياً أو إثباتاً ليجري الاستصحاب في ذلك النفي أو الاثبات، حيث أنّ الملازمة على فرض وجودها أزليّة لا تحتاج إلى ثبوت طرفيها خارجاً كسائر الملازمات، وكذلك الحال على تقدير عدمها.نعم لا بأس بالأصل في ناحية عدم تعلّق الوجوب الغيري بمقدّمة شيء، بعد تعلّق الوجوب النفسي بذلك الشيء، وحتّى بعد فعلية وجوب ذلك الشيء، بأن يقال الأصل عدم تعلّق الوجوب الغيري بتطهير الثوب والبدن بعد فعليّة وجوب الصلاة بدخول وقتها، ولكن هذا الأصل لا ينفي الملازمة بين إيجاب شيء وإيجاب مقدّمته، فإنّ الملازمة على تقديرها بين الإيجابين الواقعيين والأصل الجاري في ناحية عدم تعلّق الوجوب الغيري بالمقدّمة حكم ظاهري يثبت فيما يطلق عليه المقدّمة مع عدم الدليل على وجوبها الغيري.وبالجملة الحكم الظاهري في ناحية المقدّمة أو الحكم بعدم فعلية الوجوب الغيري فيها لا ينافي تعلّق الوجوب الغيري بها واقعاً، ولا ينافي أيضاً فعليّة الوجوب النفسي المتعلّق بذيها مطلقاً، فلا يصح التمسّك بهذا الأصل لنفي الملازمة بين الإيجابين.نعم لو كان الملتزم بالوجوب الغيري للمقدّمة يدّعي ثبوت الملازمة بين فعلية الوجوب النفسي المتعلّق بذي المقدّمة وفعلية الوجوب الغيري المتعلّق بالمقدّمة، لكان الأصل الجاري في ناحية عدم فعلية الوجوب الغيري في المقدّمة نافياً لتلك الملازمة ومثبتاً لبطلانها، فإنّ مفاد الأصل نفي الفعلية عن الوجوب الغيري المتعلّق بالمقدّمة مع فرض فعلية وجوب ذيها وثبوت الملازمة بينهما.لا يقالالأصل في ناحية عدم تعلّق الوجوب الغيري بالمقدّمة في نفسه غير جار فضلا عن أن يكون نافياً لتلك الملازمة بين الإيجابين، والسرّ في عدم جريانه هو اعتبار أن يكون مجرى الأصل أمراً مجعولا في نفسه أو له أثر مجعول بحيث يكون المهم في جريان الأصل ذلك الأثر المهمّ، والوجوب الغيري المتعلّق بالمقدّمة على تقديره غير مجعول، لا بالجعل البسيط ولا بجعل تأليفي، وليس له أثر شرعي مهمّ في المقام، بل هو على تقديره أمرٌ قهري، ولابدّ من الإتيان بمتعلّقه حتّى على تقدير عدمه لفرض فعلية الوجوب النفسي المتعلّق بذيها.فإنه يقاليكفي في جريان الأصل في مورد كونه مجعولا ولو بالتبع، كالأصل الجاري في ناحية عدم شرطية شيء أو عدم جزئيّته للمأمور به، فإنّه مجعول بتبع المشروط أو الكل، ولا يحتاج إلى فرض الجعل البسيط أو المركّب فيه.أقولقد يقال إن قول الماتن (قدس سره) «ولزوم التفكيك بين الوجوبين مع الشكّ لامحالة، لأصالة عدم وجوب المقدّمة مع وجوب ذي المقدّمة لا ينافي الملازمة» ناظر إلى دفع إشكال آخر، وهو أنّه يعتبر في جريان الاصل أن لا يكون مفاده التعبّد بالمستحيل فإنّ التعبّد بالمستحيل غير ممكن.وعلى ذلك فإن كان بين إيجاب شيء وإيجاب مقدّمته ملازمة، لكان التعبّد بعدم تعلّق وجوب غيري بمقدّمة بعد فعلية وجوب ذيها من التعبد بالمستحيل، ومع الشكّ في ثبوت الملازمة وعدمها يكون التعبّد بعدم تعلّق الوجوب الغيري بمقدّمة الواجب من التعبّد بما يحتمل كونه مستحيلاً.وأجاب عن هذا الإشكال بما حاصلهإنّ التعبّد بعدم الوجوب الغيري في المقدّمة بالأصل لا يستلزم احتمال التعبّد بالمستحيل؛ لأنّ المستحيل على تقدير الملازمة، هو التفكيك بين الإيجاب النفسي المتعلّق بذي المقدّمة والإيجاب الغيري الواقعي المتعلّق بالمقدّمة والأصل لا يوجب هذا التفكيك، وإنّما يوجب التفكيك بين فعلية الوجوب الغيري كما هو مفاد الحكم الظاهري وبين فعلية إيجاب ذيها وهذا التفكيك لا ضير فيه.نعم، لو كانت الدعوى في باب الملازمة بين الإيجابين هي استحالة تفكيك فعلية إيجاب المقدّمة عن فعلية إيجاب ذيها لما صحّ التمسّك بالأصل المفروض.ولذا يقال إنّ ما في المتن من قوله «لصحّ التمسّك بذلك في إثبات بطلانها» مأخوذ من نسخة، والصحيح «لما صحّ التمسّك بالأصل» كما نقل في الهامش(1).أقولقد يتصدي لدفع الإشكال حتّى بناءاً على أنّ المدّعى في باب المقدّمة الملازمة بين فعلية ذي المقدّمة وفعلية إيجاب مقدّمته بأنّه مع قيام الدليل على اعتبار أمارة كما يستكشف إمكان التعبّد بها وعدم لزوم محذور في التعبّد بها ولا يتوقّف الأخذ بدليل اعتبارها على إحراز إمكان التعبّد بها من الخارج، كذلك يؤخذ بدليل اعتبار التعبّد بالأصل أي الاستصحاب، في ناحية عدم تعلّق وجوب غيري بالمقدّمة في ظرف فعليّة وجوب ذيها فيحرز به إمكان التعبّد وعدم لزوم التفكيك بين المتلازمين.ولكن لا يخفى ما في هذا الدفع، فإنّ خطاب اعتبار الاستصحاب لم يرد في خصوص عدم تعلّق الوجوب الغيري بالمقدّمة بعد فعلية وجوب ذيها حتّى يستكشف من التعبّد به عدم لزوم محذور التفكيك، بل غايته الأخذ بإطلاق خطاب اعتباره وشموله للمقام، والمفروض أنّ إطلاقه وشموله للمقام موقوف على عدم لزوم التفكيك بين المتلازمين وإثبات عدم لزوم التفكيك بالإطلاق والشمول يكون دوريّاً.ويرد على الماتن (قدس سره)أنّ ما ذكره (قدس سره) في توجيه جريان الأصل في نفي الوجوب الغيري من أنّه يكفي في نفيه بالأصل كونه مجعولا بالتبع غير تام، فإنّ رفع المجعول بالتبع كجعله يكون تبعيّاً، والمفروض أنّ الإيجاب النفسي المتعلّق بذي المقدّمة لا يرتفع حتّى يرتفع ما هو مجعول بتبعه، هذا إذا كان رفعه (أي رفع الوجوب الغيري للمقدّمة) واقعياً.وأمّا إذا كان رفعه ظاهريّاً بمعنى عدم وجوب الاحتياط فيه، فهذا أيضاً غير ممكن في المقام؛ لأنّ المراد بالأصل في المسألة الفرعية إمّا البراءة أو الاستصحاب، والبراءة لا تجري في المقام، لا العقلية منها ولا الشرعية؛ لأنّ مفاد البراءة العقلية نفى استحقاق المؤاخذة والعقاب، والمفروض عدم العقاب على ترك الواجب الغيري حتّى بناءاً على وجوب المقدّمة.وأمّا الشرعية فإنّها وردت مورد الامتنان، فيختصّ جريانها بما إذا كان في ثبوت الوجوب كلّفة زائدة ولا كلفة في الوجوب الغيري زائداً على ما يستقلّ به العقل من لزوم امتثال الأمر المتعلّق بالواجب النفسي.وبهذا يظهر عدم جريان الاستصحاب في ناحية تعلّق الوجوب الغيري بالمقدّمة؛ لأنّ معنى هذا الاستصحاب ومرجعه إلى عدم مؤاخذة المكلّف على ترك الواجب الغيري، وهذا معلوم كما أنّه معلوم بأنّ المكلّف يؤاخذ على ترك الواجب النفسي.ولا يخفى أنّ هذا كلّه إذا أُريد بالأصل في ناحية نفي الوجوب الغيري نفيه بنفسه أو بأثره العقلي، وأمّا إذا كان المراد من الاستصحاب في نفيه، نفي أثره الشرعي، كعدم جواز نسبته إلى الشارع، بأن لا يجوز للمكلّف الإتيان بالمقدّمة بقصد وجوبها الشرعي كالاستصحاب في نفي سائر الموضوعات التي لها آثار شرعيّة، فلا بأس به، خصوصاً بملاحظة ما ذكرنا في باب الاستصحاب من أنّ مفاد دليل اعتباره هو التعبّد بالعلم ببقاء الحالة السابقة، وأنّ العلم بتلك الحالة يعتبر علماً ببقائها، فإنّه يترتّب على هذا التعبّد عدم جواز الإتيان بالمقدّمة بقصد وجوبها الشرعي، وهذا الاستصحاب لا يستلزم التفكيك بين المتلازمين، حتّى مع دعوى الملازمة بين فعلية وجوب ذي المقدّمة وفعلية وجوب مقدّمته، فتدبّر جيّداً.بقي في المقام أمرٌ، وهو أنّ الماتن وغيره نفى جريان الأصل في المسألة الأُصولية وهي نفس الملازمة بين إيجاب شيء وإيجاب مقدمته، قائلا بأنّ الملازمة وعدمها أمرٌ أزلي غير مسبوق بالحالة السابقة ليجري الأصل في بقائها، مع أنّ الملازمة أو عدمها على تقدير ثبوت حالة سابقة لها أيضاً، لم يكن الاستصحاب جارياً، فإنّ إثبات الوجوب الغيري للمقدّمة باستصحاب بقاء الملازمة أو نفيه عنها باستصحاب عدمها مثبت، فلا مجال للاستصحاب فيها نفياً أو إثباتاً، حتّى على تقدير ثبوت الحالة السابقة لها.[3] الصحيح عدم الملازمة بين إيجاب شيء وإيجاب مقدّمته، حيث إنّ الأمر بالواجب النفسي المقيّد بالقيد كما في المقدّمات الشرعية أو بلا قيد كما في المقدّمات العقلية مع وصوله إلى المكلّف، بنفسه كاف في استقلال العقل بلزوم امتثاله بعد ما أحرز أنّه لا سبيل للمكلّف إلى الامتثال إلاّ بالإتيان القيود والمقدّمات، لتحصل موافقة التكليف بالإتيان بنفس الواجب النفسي، فيكون الأمر المولوي من الشارع بالمقدّمة بلا ملاك، فلابدّ من حمل الأمر بها إمّا على الإرشاد إلى دخالتها في الواجب النفسي قيداً أو الإرشاد إلى طاعة الأمر بذيها.لا يقاللا يتمّ ذلك بالإضافة إلى الوجوب الغيري التبعي، فإنّه أمرٌ قهري تابع لتعلّق الطلب إلى ذيها.فإنّه يقالكما لا يتعلّق الوجوب الغيري المولوي الأصلي بالمقدّمة كذلك لا يتعلّق بها الوجوب الغيري التبعي؛ إذ ليس الوجوب التبعي إلاّ كون الشيء بحيث لو التفت الآمر إليه لأنشأ الوجوب له، وقد ذكرنا أنّ المقدّمة بما هي مقدّمة لو التفت إليها الآمر ألف مرّة لا يجد فيها ملاك الأمر المولوي ليأمر بها، هذا بالإضافة إلى الوجوب المنشأ، وأمّا الإرادة الغيرية بأن يكون تعلّق إرادة الفاعل بفعل يستتبع إرادة أُخرى متعلّقة بمقدّمته، فهذا أمرٌ صحيح، ولكنّه مختصّ بإرادة الفعل المباشري والآمر تتعلّق إرادته بفعل نفسه، وهو أمره وإيجابه، والإيجاب في شيء لا يتوقّف على إيجاب مقدّمته، بل نفس ذلك الشيء حصوله يتوقّف على إيجاد مقدّمته.نعم الشوق إلى فعل وحده غير ممكن، بل يتبعه الاشتياق إلى مقدّمته إلاّ أنّ الشوق غير الإرادة وغير الإيجاب.ومما ذكرنا ظهر أنّه لا شهادة في مثل قول الآمر (ادخل السوق واشتر اللحم) على الوجوب الغيري المولوي في المقدّمة، فإنّ قوله (ادخل السوق) إمّا إرشاد إلى طريق طاعة الأمر بالشراء، أو تأكيد للأمر بالشراء.والأوامر الواردة في الشريعة بالمقدّمات إرشاد إلى دخالة متعلّقاتها في العبادة أو المعاملة، والشاهد على ذلك تعلّق مثل هذه الأوامر بجزء الواجب أيضاً، مع أنّ الجزء ـ كما تقدّم ـ غير قابل للوجوب الغيري، بل المتعيّن فيه الإرشاد إلى جزئية متعلّقه للواجب النفسي وأخذه في متعلّق الأمر النفسي، كما أنّ الأمر بالخارج عن الواجب النفسي إرشاد إلى دخالته فيه شرطاً؛ ولذا يكون المستفاد من الأمر بجزء الواجب العبادي أو شرطه هو عين ما يستفاد من الأمر بجزء المعاملة أو شرطها كالأمر بالتقابض في بيع الصرف.نعم للأمر المولوي الغيري بالمقدّمة مورد واحد، وهو ما إذا لم يكن التكليف بذي المقدّمة فعليّاً، كما ذكرنا ذلك في تصحيح الأمر بتعلّم العبادات وغيرها من الواجبات قبل حصول وجوبها، فإنّ مع عدم فعلية وجوب الشيء لا يستقلّ العقل بلزوم التحفظ عليه بتحصيل مقدّمته من قبل، فيكون تكليف الشارع بتحصيلها لغاية هذا التحفظ وتصحيح العقاب على تفويت ملاك ذلك الواجب.[4] هذا الاستدلال محكي عن أبي الحسن البصري في باب وجوب المقدّمة، والماتن (قدس سره) قد أصلح صورة الاستدلال أوّلا بأنّ المراد من التالي في الشرطية الأُولى وهو قوله «لجاز تركها» عدم المنع الشرعي في ترك المقدّمة، كما أصلحها بكون المراد من المضاف إليه للظرف في قوله «وحينئذ ترك المقدّمة» أي حين ترك المقدّمة والموجب للاصلاح بما ذكر هو أنّه لو كان المراد من قوله «لجاز تركها» الإباحة الخاصّة شرعاً في المقدّمة لكانت الملازمة في الشرطية الأُولى واضحة البطلان؛ لأنّ انتفاء الوجوب الشرعي عن المقدّمة لا يوجب ثبوت الإباحة الشرعية فيها، نظير الحال في المتلازمين، فان ثبوت الوجوب في أحدهما لا يوجب ثبوته في الآخر، مع أنّه لا يوجب ثبوت الإباحة الفعلية شرعاً في ذلك الآخر لكونها لغواً، كما أنّه لو كان المراد بالمضاف إليه عدم المنع الشرعي في ترك المقدّمة لم يكن مجال لصدق القضية الشرطية الثانية.حيث إنّ عدم المنع الشرعي في ترك المقدّمة لا يوجب كون التكليف بذيها من التكليف بما لا يطاق أو خروج الواجب عن كونه واجباً مطلقاً.ثمّ قال (قدس سره) أنّه مع الاصلاح المفروض لا يخفى ما فيه، فإنّه مع ترك المقدّمة بتاتاً وإن لم يبقَ التكليف بذيها أنّ عدم بقائه وسقوطه إنّما هو لحصول العصيان بالإضافة إلى الواجب النفسي، لكونه متمكّناً من الإتيان به، وقد تركه باختياره مع حكم العقل بلزوم الإتيان بالمقدّمة إرشاداً إلى لزوم إطاعة الواجب النفسي وتحرّزاً عمّا في تركها من تحقّق العصيان بالإضافة إلى الأمر بذيها الموجب لاستحقاق العقاب.نعم لو كان المراد من المضاف إليه في قوله «وحينئذ» حين جواز ترك المقدّمة عقلا وشرعاً يلزم أحد المحذورين وهو التكليف بما لا يطاق، أو خروج الواجب عن كونه واجباً مطلقاً، إلاّ أنّ الشرطية الأُولى لما كانت باطلة، فإنّه لو لم تجب المقدّمة شرعاً لا يجب أن يكون تركها جائزاً عقلا وشرعاً، فإنّ عدم تعلّق حكم شرعي بالمقدّمة لا يلازم انتفاء الحكم العقلي عنها، بل تجب بحكم العقل إرشاداً، كما تقدّم.أقوللو كان المراد بالمضاف إليه جواز ترك المقدّمة عقلا وشرعاً لزم أحد المحذورين، وهو خروج الواجب عن كونه واجباً مطلقاً أو لزوم العقاب على ترك واجب مشروط مع عدم فعلية وجوبها، كما لا يخفى، وهذا الثاني غير لزوم التكليف بما لا يطاق، كما لا يخفى.لا يقاللو لم تجب المقدّمة شرعاً لما أمكن إطلاق الواجب بالإضافة إليها أصلاً، وذلك فإنّ إيجاب ذي المقدّمة مطلقاً مع عدم إيجاب مقدّمته معناه أنّه أتى المكلّف بالمقدّمة أو لم يأتِ بها فهو مكلّف بالإتيان بذيها، والتكليف بذيها مع فرض ترك المقدّمة من التكليف بما لا يطاق.فإنّه يقالمعنى إطلاق الواجب بالإضافة إلى شيء أنّ في طلب ذلك الواجب لم يفرض تحقّق ذلك الشيء، بأن يكون طلبه مشروطاً بحصوله، كما في اشتراط طلب الصلاة بدخول الوقت وطلب الحجّ بحصول الاستطاعة، ولذا يحكم العقل بلزوم الإتيان بالمقدّمة إرشاداً، إلاّ أنّ الواجب واجب حتّى بعد ترك المقدّمة رأساً، نعم ترك المقدّمة رأساً فيما بعد لا ينافي التكليف بذيها مطلقاً بالمعنى الذي ذكرناه ما دام لم يتحقّق الترك رأساً.[5] وذلك فإنّ الكلام في المقام في الوجوب الغيري المتعلّق بالمقدّمة، ومقتضى الاستدلال صرف التكليف النفسي المتعلّق بالمسبّب إلى سببه لا اختصاص الوجوب الغيري بالمقدّمة السببيّة، والاستدلال المفروض عليل أيضاً؛ لأنّ وجه عدم صحّة التكليف بغير المقدور هو لزوم كونه لغواً، والمسبّب فيما كان سببه تحت اختيار المكلّف وقدرته لا يكون تعلّق التكليف به لغواً، ووجه تعلّق التكليف به دون سببه هو وجود الملاك النفسي فيه لا في سببه.[6] فإنّ الشرطية كالجزئية تنتزع من تعلّق التكليف النفسي، فإن كان الشيء بنفسه داخلا في متعلّق التكليف الواحد تكون له الجزئية، وإن كان الداخل فيه تقيّد المتعلّق به، ينتزع له الشرطيّة، ولذا ذكرنا أنّ الأمر بالشرط كالأمر بالجزء إرشاد إلى دخالته في تعلّق التكليف.ولا مجال لتوهّم انتزاع الشرطية من تعلّق الأمر الغيري بنفس الشرط، فلو كانت الشرطية موقوفة على ثبوت الأمر الغيري لدار، فإنّ تعلّق الأمر الغيري موقوف على انطباق عنوان الشرط والمقدّمة، عليه ولو فرض توقّف انطباق عنوان الشرط وعنوان المقدّمة على تعلّق الأمر الغيري به لكان دوراً واضحاً.[7] بناءاً على الملازمة بين إيجاب شيء وإيجاب مقدّمته بالوجه المتقدّم الذي ذكر في كلام الماتن (قدس سره) تثبت الملازمة بين استحباب شيء واستحباب مقدّمته، فإنّ شهادة الوجدان بأنّ إرادة شيء يلازم إرادته يجري في المستحبّ أيضاً، فإنّه لا فرق في هذه الملازمة بين الإرادة الشديدة المنتزع منها الإيجاب وبين الإرادة الضعيفة المنتزع منها الاستحباب، كما عليه الماتن (قدس سره).[8] ذكر (قدس سره) إنّ المقدّمة في الحرام أو المكروه إن كانت على نحو لا ينتفي بعدها اختيار ترك الحرام أو المكروه بأن أمكن للمكلّف بعد تركها، تركهما بعدم إرادتهما، فلا موجب لتعلّق الحرمة الغيرية أو الكراهة الغيريّة بها، وذلك لأنّ ترك الحرام أو المكروه لا يتوقّف على ترك تلك المقدّمة، ولو على القول بوجوب المقدّمة مطلقاً، أي من غير فرق بين مقدّمة ومقدّمة أُخرى.نعم لو كانت المقدّمة من السبب الذي لا يكون مع حصولها اختيار ترك الحرام أو المكروه تكون تلك المقدّمة حراماً غيريّاً أو مكروهاً كذلك.وقوله «لا يبقى معها اختيار تركه» وصفٌ للمقدّمة، والمقدّمة الموصوفة بذلك هي المقدّمة السببيّة، كما في الفعل التوليدي، وحاصل العبارة أنّه لو لم يكن للحرام المقدّمة السببية، بأن كان من الأفعال الإرادية لما كانت واحدة من مقدّماتها محكومة بالحرمة الغيرية.لا يقاللا يكون فعل إلاّ وله مقدّمة سببية لا محالة، ضرورة أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد.فإنّه يقالنعم لابدّ من أن يكون في جهة المقدّمات ما يجب معه الفعل، لكن لا يلزم أن يكون ذلك من المقدّمات الاختيارية ليمكن تعلّق التكليف الغيري به، بل يكون من المقدّمات غير الاختيارية كمبادئ الاختيار التي لا تكون بالاختيار وإلاّ لتسلسل.أقولقد تقدّم ما في هذا الكلام، والأولى له أن يقول بعدم تعلّق الحرمة الغيرية بإرادة الحرام واختياره، لأنّ نفس تعلق الحرمة النفسية بفعل مقتضاه ترك إرادته واختياره، حيث إنّ المراد بالنهي عن فعل هو ذلك، فلا يوجب تعلقّه به تعلّق إرادة غيريّة تبعية بترك العبد إرادة الحرام.بقي في المقام أمرٌ، وهو أنّه ربّما لا يكون بين فعل وارتكاب الحرام علقة ذاتية، ولكن ربّما يطرأ بينهما التلازم الاتفاقي، كما إذا علم المكلّف بأنّه إذا ذهب إلى المكان الفلاني يلقى في حلقه الخمر أو يكره عليه أو يضطرّ إلى شرب الخمر.فهل في هذه الموارد يكون المحرّم على المكلّف هو شرب الخمر فيعاقب على شربه، بحيث لو كان في الذهاب إلى المكان المفروض حرمة لكانت حرمة غيريّة؟ أو أنّ متعلّق الحرام النفسي في هذه الموارد هو الذهاب إلى المكان المفروض؟ وجوه.لا سبيل إلى الالتزام بالوجه الأخير؛ لما تقدّم في جواب من قال بصرف الأمر والنهي عن المسبّب إلى الأمر والنهي عن سببه، بدعوى أنّ المسبّب أمر غير مقدور، والمقدور هو السبب.وأمّا الوجه الأوّل فهو الصحيح، فإنّ النهي عن فعل لا يقتضي إلاّ تمكّن المكلّف على تركه ولو بترك فعل آخر، كالذهاب إلى المكان المفروض في#############################################
المدخل
موضوع العلم ومسائله
تمايز العلوم
موضوع علم الأُصول
تعريف علم الأُصول
القواعد الفقهية
الضابطة في المسألة الأُصولية
حقيقة الوضع
أقسام الوضع
المعنى الحرفي
الخبر والإنشاء
الوضع في أسماء الإشارة
الاستعمال المجازي
استعمال اللفظ في اللفظ
خروج القصد عن المعنى
تبعية الدلالة للإرادة
الوضع في المركبات
علائم الحقيقة والمجاز
التبادر
صحة الحمل وعدمه وصحة السلب وعدمه
الاطّراد
أحوال اللفظ
الحقيقة الشرعية
الصحيح والأعمّ
انتبه رجاءً: لقد قطّعنا هذا البحث لطوله إلى قسمين:
(1)
(2)
الصحيح والأعم في المعاملات
أنحاء الدخل في المأمور به
الاشتراك
استعمال اللفظ في أكثر من معنى
انتبه رجاءً: لقد قطّعنا البحث الآتي إلى قسمين:
المشتق(1)
(2)
حجية القول بوضع المشتق للمتلبس بالحال
وهمٌ ودفعٌ
بساطة معنى المشتق
المقصد الأوّل: في الأوامر
الفصل الأوّل: مادة الأمر
معنى مادة الأمر
اعتبار العلوّ في الآمر
دلاله مادة الأمر على الطلب الوجوبي
المائز بين الوجوب والندب
الطلب والإرادة
بيان مسلك الجبر وشبه الجبر وإبطالهما
حقيقة الإرادة من اللّه (سبحانه) ومن العبد
في قاعدة «الشيء ما لم يجب لم يوجد» وموردها
الملاك في اختيارية افعال العباد
إبطال مسلك التفويض
الفصل الثاني: فيما يتعلّق بصيغة الأمر
معنى صيغة الأمر
دلالة صيغة الأمر على الوجوب
مدلول الجملة الخبرية المستعملة في مقام الإنشاء
التعبدي والتوصلي
أنحاء قيود المتعلّق
أنحاء قصد التقرب
استظهار التوصلية من إطلاق صيغة الأمر
قصد الوجه والتمييز
في التعبدي بمعنى عدم سقوط التكليف بفعل الغير
في التعبدي بمعنى سقوط التكليف بالفرد غير العمدي
في التعبدي بمعنى عدم سقوط التكليف بالفرد المحرم
مقتضى إطلاق صيغة الأمر
مدلول صيغة الأمر بعد الخطر
دلالة صيغة الأمر على المرة أو التكرار
دلاله صيغه الأمر على الفور أو التراخي
مبحث الاجزاء
إجزاء الأمر عن نفسه
تبديل الامتثال
إجزاء الأمر الاضطراري عن الواقعي
أنحاء الفعل الاضطراري
إجزاء المأمور به الظاهري عن الواقعي
الإجزاء في الامارات على السببية
الإجزاء عند الشكّ في سببيّة الأمارة وطريقيتها
تبدّل فتوى المجتهد
الإجزاء عند تبدّل الفتوى أو العدول
مقدمة الواجب
المقدمة الداخلية والخارجية
المقدّمة العقلية والشرعية والعاديّة
المقدّمة الوجودية والعلمية و...
المقدّمة المتقدّمة والمقارنة والمتأخرة
الشرط المتأخّر
الأول؛ شرط الحكم
الثاني؛ شرط المتعلّق
المقدمات الوجودية للواجب المشروط
الواجب المعلق والمنجز
الإشكالات على الواجب المعلّق
أقسام القدرة
مقتضى الاصل العملي عندالشك في اعتبار قيد
دوران الأمر بين تقييد المادة أو الهيئة
تقديم الإطلاق الشمولي على البدلي
الواجب النفسي والغيري
الشكّ في النفسية والغيرية
الثواب على الواجبات الغيرية
عبادية الطهارات الثلاث
اعتبار قصد التوصّل في المقدّمة وعدمه
المقدّمة الموصلة
انتبه رجاءً: لقد قطّعنا هذا البحث لطوله إلى قسمين:
(1)
(2)
المدخل أمّا المقدمة ففي بيان أُمور[1].الأوّلأنّ موضوع كلّ علم[2].والمسائل عبارة عن جملة من قضايا متشتّة جمعها اشتراكها في الدخل في الغرض الذي لأجله دُوِّن هذا العلم[3].وقد انقدح بما ذكرنا أنّ تمايز العلوم إنّما هو باختلاف الأغراض الداعية إلى التدوين[4].وقد انقدح بذلك أنّ موضوع علم الأُصول هو الكلي المنطبق على موضوعات مسائله[5].إلاّ أنّ البحث عن غير واحد من مسائلها كمباحث الألفاظ.[6].ويؤيد ذلك تعريف الأُصول.[7].[1] قد جرت سيرة المصنّفين على ذكر مقدمة قبل الشروع في مباحث العلم ومسائله يتعرضون فيها لأُمور ترتبط بالعلم ولا تكون من مسائله، كبيان موضوع العلم وتعريفه وبيان الغرض والغاية منه، وتبعهم على ذلك الماتن (قدس سره) وجعل لكتابه هذا مقدّمة وبيّن فيها أُموراً كلّها خارجة عن مسائل علم الأُصول ولكنّها ترتبط بها بنحو من الارتباط، كما ستعرف إن شاء اللّه تعالى.
موضوع العلم ومسائله
[2] المعروف عند القوم أنّه لابدّ لكلّ علم من موضوع يبحث في مسائل العلم عن العوارض الذاتية لذلك الموضوع بأن تكون المحمولات المذكورة في مسائل العلم عوارض ذاتية له.وذكروا في تعريف العرض الذاتيإنّه ما يعرض الشيء بلا واسطة أو مع الواسطة المساوية داخليّة كانت أو خارجيّة.توضيح ذلكأن العارض (يعني المحمول على الشيء بمفاد كان الناقصة) إمّا أن يكون بلا واسطة أصلا أو يكون معها، وعلى الثاني إمّا أن تكون الواسطة داخلية أو خارجية.فالواسطة الداخلية بالإضافة إلى ذيها تكون أعمّ أو مساوية ولا يمكن أن تكون أخص لأنّها جزء الشيء وجزئه لا يكون أخصّ منه، حيث إنّه جنسه أو فصله، فالعارض للشيء بواسطة فصله مثل إدراك الكلّيات العارض للإنسان بواسطة الناطق، والعارض له بواسطة جنسه كالحركة القصديّة العارضة بواسطة الحيوان (ولايخفى أنّ الحركة القصديّة غير الحركة الإراديّة حيث إنّ الحركة الإراديّة لا تكون في غير الإنسان من سائر الحيوانات)(1).والواسطة الخارجية تكون بالإضافة إلى المعروض مساوية أو أعم أو أخصّ أو مباينة والأوّل كعروض الضحك للإنسان بواسطة التعجب المساوي له حيث لا يوجد في غيره من سائر الحيوان، والثاني كعروض الحركة القصدية للمتكلم بواسطة الحيوان، والثالث كعروض إدراك الكلّيات للحيوان بواسطة الناطق، والواسطة المباينة كالنّار في عروض الحرارة للماء وكالسفينة في عروض الحركة لجالسها.فهذه أقسام سبعة.والعرض الذاتي منها ما يعرض الشيء بلا واسطة أو مع الواسطة المساوية داخلية كانت أو خارجية.والغريب منها ما يعرض له بواسطة خارجية أعمّ أو أخصّ أو مباينة واختلفوا فيما كان بالواسطة الداخلية الأعم(2).ولذلك وقعوا في إشكال لزوم خروج كثير من مباحث العلوم عن كونها مسائل لها فإنّ المحمولات في مسائلها لا تكون غالباً عارضة لموضوعاتها بلا واسطة أو مع واسطة مساوية داخلية أو خارجية، مثلا المبحوث عنه في علم النحو في مسألة الفاعل رفعه، وفي مسألة المفعول نصبه، ونحو ذلك مع أنّ شيئاً من الرفع والنصب لا يعرضان الكلمة بنفسها بل يعرضانها بوساطة الفاعل والمفعول وكل منها أخص من الكلمة التي هي موضوع هذا العلم (على ما هو المعروف)، وكذا المبحوث عنه في علم الأُصول ظهور صيغة الأمر في الوجوب مثلا مع أنّ النسبة بينها وبين صيغة الأمر في الكتاب المجيد ليست هي التساوي(3) وهكذا.ذكر الماتن في المقام أمرين وكأنّه يندفع الإشكال بهما من أساسه: أحدهماأنّ موضوع العلم عين موضوعات مسائله خارجاً ولا تغاير بينهما إلاّتغاير الكلّي مع أفراده.وثانيهماأنّ كل عرض لا يكون عروضه للشيء مع الواسطة في العروض هو عرض ذاتيّ له سواء لم يكن في عروضه له واسطة أصلاً أو كانت بنحو الواسطة في الثبوت، ولا يخفى أنّ الواسطة في العروض نظير ما في نسبة الحركة إلى جالس السفينة حيث إن المتحرك خارجاً حقيقة هي السفينة ونسبتها إلى الجالس فيها بنحو من العناية وعلى ما ذكره (قدس سره) تكون تمام المحمولات في مسائل العلوم عوارض ذاتية لموضوعاتها فإنّه بعد كون الموضوع في علم النحو مثلا هي الكلمة (يعني اللفظ الموضوع لمعنى) وهي عين الفاعل في الكلام، يكون الرفع المحمول على الفاعل محمولا على الكلمة بلا واسطة في العروض.ثمّ إنّ المراد بالعارض هو المحمول لا العرض في مقابل الجوهر حيث إنّه ربّما لا يكون المحمول في المسألة عرضاً كما في بعض مسائل علم الكلام كقولهم «واجب الوجود عالم، قادر، بسيط» وكقولهم في الفقه «الماء طاهر» و«الخمر نجس» إلى غير ذلك.وعلى ما ذكر يكون قوله (رحمه الله)(4) «هو الذي يبحث فيه عن عوارضه الذاتية» جملة معترضة لبيان تعريف موضوعات العلوم، وقوله (رحمه الله)(5)«بلا واسطة في العروض» تفسير للعرض الذاتي وإشارة إلى الخلل فيما ذكروه في تعريفه من تقسيمهم العارض إلى سبعة أقسام وقولهم بأنّ أربعة منها عرض غريب.وقوله (رحمه الله)(6)«نفس موضوعات مسائله» خبر «إنّ» يعني موضوع كل علم هو نفس موضوعات مسائله.وقوله (رحمه الله)(7)«ما يتحد معها خارجاً» معطوف على «موضوعات مسائله» يعني موضوع كل علم ما يتحد مع نفس موضوعات مسائله خارجاً.وقوله (رحمه الله)(8)«الطبيعي وأفراده» معطوف على «الكلّي ومصاديقه» والمراد من المعطوف والمعطوف عليه واحد.وقد اتضح بما تقدّم أنّ ما يذكر موضوعاً لبعض العلوم مما لا تكون نسبته إلى موضوعات مسائله من قبيل الكلّي والفرد خطأ في تشخيص الموضوع إذ لا تغاير بين موضوع العلم وموضوعات مسائله إلاّ تغاير الكلي مع فرده كما مرّ (ويقتضيه البرهان المدّعى لإثبات لزوم الموضوع لكلّ علم).وعليه فما يقال مِن أنّ موضوع علم الطب مثلا هو بدن الإنسان وموضوعات مسائله الاعضاء المخصوصة ليس بصحيح لأن نسبة البدن إلى العضو نسبة الكلّ إلى الجزء لا الكلّي إلى الفرد فيكون الموضوع في علم الطب ما يعرضه المرض لا خصوص البدن.ثمّ إنّ المعروف أنّ وجه التزام الماتن (رحمه الله) ومن تبعه بلزوم الموضوع للعلوم، هو عدم إمكان صدور الواحد عن الكثير بدعوى أنّ الغرض من العلم واحد فاللازم صدوره عن واحد وهو الجامع بين موضوعات المسائل حيث إنّ الجامع بين محمولاتها ينتهى إليه كما هو مقتضى قولهم كل ما بالعرض لابدّ من أن ينتهي إلى ما بالذات.أقولليس في كلامه (قدس سره) في المقام ما يشير إلى الموجب لالتزامه بذلك، بل في كلامه ما ينافي الموجب المفروض حيث صرح في تداخل العلوم بإمكان غرضين متلازمين فيدوَّن لأجلهما علم واحدٌ، ومقتضى القاعدة المفروضة عدم إمكان غرضين في علم واحد بل ولا إمكان ترتب غرضين على بعض مسائل العلم حيث إنّه من صدور الكثير عن واحد.ثمّ إنّه (قدس سره) أضاف إلى تعريف علم الأُصول «أو التي ينتهي إليها في مقام العمل»(9)وذكر في وجهه أنّه لا موجب لخروج مباحث الأُصول العملية وحجيّة الظن الانسدادي على الحكومة من مسائل علم الأُصول، ولو كان المهم من علم الأُصول هو التمكن من الاستنباط فقط لكان مقتضاه الالتزام بالاستطراد في تلك المباحث والحاصل ان لعلم الأُصول غرضين ومع ذلك لا يخرج عن كونه علماً واحداً وارجاعهما إلى غرض واحد غير سديد، لإمكان إرجاع الأغراض في جملة من العلوم إلى غرض واحد ككمال النفس مثلاً.والذي يخطر بالبال أنّ تعيين الموضوع للعلوم، كذكر التعريف لمسائلها وبيان الغرض منها، إنّما هو لتبصرة طالب تلك العلوم على ما يظهر بعد ذلك لا لأجل لزومه في كلّ علم.وكيف ما كان فإنّ أُريد بالكلّي، الجامع العنواني لموضوعات مسائله نظير سائر العناوين الانتزاعية حتّى من المتباينات في تمام ذواتها ببعض الاعتبارات فهذا الجامع كالحجر في جنب الإنسان في عدم دخله في كون تلك المسائل من العلم، نعم لو بيّن بنحو حصل فيه الاطراد والانعكاس فهو يوجب معرفة موضوعات المسائل لطالب تلك المسائل.وإن أُريد به الجامع الذاتي، بأن يكون الموضوع للعلم كالجنس أو النوع لموضوعات المسائل، فلم يعلم وجه لزوم هذا الجامع، والاستناد في لزومه إلى قاعدة عدم صدور الواحد عن كثير، غير صحيح؛ لما ظهر مما تقدم أنّ الغرض من العلم يمكن أن يكون واحداً عنوانياً أو واحداً مقولياً له حصص متعدّدة يصدر عن بعض المسائل حصة منه وعن بعض آخر حصة أُخرى من غير أن يكون فيما يصدر عنهما جامع ذاتيّ، مثلا التمكن المترتب على العلم بمسألة من مسائل علم النحو، غير التمكن المترتب على العلم بمسألة أُخرى من مسائله فيكون العلم بمسألة رفع الفاعل موجباً للتمكن من حفظ اللسان عن الخطاء في التكلم بالفاعل، وبمسألة نصب المفعول التمكن من حفظه عن الخطأ في التكلم بالمفعول وهكذا، فيكون الغرض من علم النحو مستنداً إلى مسائله بخصوصياتها.ولا يخفى أنّ القاعدة المشار إليها بأصلها وعكسها(10) أسّسها أهل المعقول لإثبات وحدة الصادر الأوّل من المبدأ الأعلى.وقد ذكر في محلّه أنها على تقدير تماميّتها لا تجري في الفعل بالإرادة، بل موردها الفعل بالايجاب، لإمكان صدور فعلين عن فاعل بالإرادة مع كونهما من مقولتين، وبما أنّ الصادر من المبدأ الأعلى يعدُّ من الفعل بالإرادة فلا شهادة لها بوحدة الصادر الأوّل.فتحصّل من جميع ما ذكرنا أنه لا وجه للالتزام بلزوم الموضوع للعلم كما ذكر، كما لا وجه للالتزام بأنّه لابدّ في مسائل العلم من البحث عن العوارض الذاتيّة لموضوعه فإنّه يصحّ جعل مسألة من مسائل العلم مع ترتب الغرض منه عليها حتّى لو كان المحمول فيها من العوارض الغريبة لموضوع المسألة فضلا عن موضوع العلم، أو لم يكن المحمول فيها من العوارض أصلا، مثلا البحث عن الملازمة بين إيجاب شيء وإيجاب مقدمته من مسائل علم الأُصول بلا كلام مع أنّ المبحوث فيه الذي هو ثبوت الملازمة بين الايجابين ليس بحثاً عن العوارض، فإنّها ما يحمل على الشيء بمفاد «كان» الناقصة، والبحث عن ثبوت الملازمة بحث عنه بمفاد «كان» التامة، وكذا البحث عن اعتبار الإجماع مسألة أُصولية، مع أنّ حمل الاعتبار عليه على مسلك الأصحاب ـ بلحاظ كشفه عن قول المعصوم (عليه السلام) ـ حمله مع الواسطة في العروض وهو من العرض الغريب حيث يكون الاعتبار حقيقةً لقول الإمام (عليه السلام)، وإسناده إلى فتوى العلماء يكون بالعناية.[3] في توصيف الغرض بقوله (قدس سره)«الذي لأجله دوِّن هذا العلم» إشارة إلى أنّه ليس المراد خصوص الثمرة المترتّبة على كل مسألة من مسائل العلم كما يترتب على مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي التمكّن من استنباط حكم الصلاة في الدار المغصوبة ولا يشاركها في هذه الثمرة غيرها من مسائل علم الأُصول، بل المراد الغرض الملحوظ للمدوِّن ـ بالكسر ـ ابتداءاً أو ما يكون داعياً له إلى تدوين جملة من المسائل وتسميتها باسم واحد، وقد تقدّم أنّ هذا الغرض ليس واحداً شخصياً بل واحد عنواني أو نوعي ذو حصص مختلفة.تمايز العلوم
[4] وتقريره: لا ريب في أنّ كل مسألة من مسائل العلم لها موضوع ومحمول يغاير موضوع الأُخرى ومحمولها، مثلا مسألة ظهور صيغة إفعل في الوجوب وعدمه، وجواز اجتماع الأمر والنهي وعدمه، وحجّية خبر العدل وعدمها، كلّها من مسائل علم الأُصول والموضوع والمحمول فى كلٍّ منها يغاير الموضوع والمحمول فى الأُخرى، وهذا الاختلاف بعينه موجود بين كل مسألتين من مسائل علمين، مثلا مسألة رفع الفاعل غير مسألة ظهور صيغة الأمر في الوجوب بحسب الموضوع والمحمول فيقع السؤال عن وجه كون مسألة رفع الفاعل، من مسائل النحو وعدم كونه مسألة ظهور صيغة إفعل في الوجوب، منها.ولا يصحّ الجواب، بأنّ ذلك لاختلاف المسألتين بحسب الموضوع أو المحمول، فإنّ لازمه كون كل مسألة من مسائل علم النحو علماً على حدة لأنّها مختلفة كذلك.بل الصحيح هو القول بان جامع مسائل علم النحو هو الغرض الملحوظ لمدوّن العلم إبتداءً، وحيث لم يكن ذلك الغرض مترتباً على مسألة ظهور صيغة الأمر في الوجوب، فلم تجعل من مسائل علم النحو، وقد ظهر أنّ المراد بالتمايز هو التمايز عند تدوين العلم وأمّا تمايز العلوم عند المتعلّم وفي مقام التعلّم، فله طرق متعدّدة.وبالجملة كلّ مسألة من مسائل العلم، وإن كانت لها خصوصية واقعية، تكون موجبة لترتّب ثمرة مخصوصة عليها إلاّ أنّ تلك الخصوصية لا تكون موجبة لتمايزها عن مسائل العلم الآخر في نظر المدوّن بل المايز لها عنده هو الغرض الداعي إلى التدوين.هذا كلّه فيما كان المهم من مسائل العلم أمراً مترتباً عليها بأن يكون العلم بتلك المسائل موجباً لحصوله وفي مثل ذلك يكون المهم المفروض المعبّر عنه بغرض التدوين جامعاً لمسائل العلم ومميّزاً لها عن مسائل علم آخر.وأمّا إذا لم يكن المهم كذلك بل كان المهم نفس معرفة تلك القضايا، كما في علم التاريخ حيث إنّ المهم فيه معرفة أحوال الملل والبلاد وحوادثها في الماضي والحاضر، يكون امتياز قضاياه عن قضايا غيره بالموضوع ولو كان ذلك الموضوع أمراً واحداً عنواناً وجامعاً مشيراً إلى موضوعات قضاياه.موضوع علم الأُصول
[5] ما ذكره (قدس سره) لا يدفع الإشكال في المقام.فإنّ البحث في مسألة مقدمة الواجب مثلا بحثٌ عن ثبوت الملازمة بين إيجاب شيء وإيجاب مقدمته، وهذا بحث عن مفاد «كان» التامة، وحيث إنّ موضوع علم الأُصول متّحد مع موضوعات مسائله خارجاً يكون البحث المفروض بحثاً عن ثبوت الموضوع وعدمه، وليس هذا بحثاً عن العوارض فضلا عن كونها ذاتية.ثمّ إنّهم جعلوا موضوع علم الأُصول الأدلّة الأربعة يعني (الكتاب، والسنة، والاجماع، والعقل).وأورد الماتن عليهم بأنّ ذلك يوجب خروج مبحث حجية الخبر والتعارض بين الخبرين من المباحث الاصولية، حيث إنّ خبر الواحد غير داخل في السنة، يعني قول المعصوم وفعله وتقريره، فلا يكون البحث عن عارض الخبر بحثاً عن عوارض السنّة.وقد أُجيب عنه بأنّ المباحث المفروضة تدخل في مسائل علم الأُصول بناءً على أنّ المراد بالأدلّة ذواتها لا بما هي أدلّة، لأنّ مرجع البحث عن حجّية الخبر إلى البحث عن ثبوت السنة بخبر الواحد، أو ثبوتها بأيٍّ من الخبرين عند تعارضهما.وقد ردّ الماتن (قدس سره) الجواب المفروض بأنّه غير مفيد، فإنّ البحث عن ثبوت السنة بالخبر أو بأحد المتعارضين بحث عن مفاد «كان» التامة أي بحث عن وجود السنة به أو بأحدهما والبحث في المسائل لابدّ أن يكون عن العارض لموضوع المسألة وما هو بمفاد «كان» الناقصة.هذا في الثبوت الواقعي يعني الحقيقي.وأمّا الثبوت التعبدي بمعنى جعل الحجّة، فهو وإن كان بحثاً عن العارض إلاّ أنّ الحجيّة لاتترتّب على السنة بل على الخبر الحاكي لها.وبالجملة الثبوت الحقيقي ليس من العوارض، والتعبدي بمعنى وجوب العمل به وإن كان من العوارض إلاّ أنّه عارض للخبر لا السنة.ولا يخفى أنه لم يظهر معنى معقول لثبوت السنة بالخبر، بأن يكون الخبر علّة لقول المعصوم (عليه السلام) أو فعله أو تقريره، فإنّ الخبر على تقدير صدقه، يكون كاشفاً وحاكياً عنها.ولو أُغمض عن ذلك فيمكن الجواب عن إشكال مفاد «كان» التامة بأنّ البحث عن معلولية السنة للخبر بحث عن العارض وما هو مفاد كان الناقصة.نعم لا ينبغي التأمّل في أنّ البحث عن البراءة العقلية أو الاحتياط العقلي في الشبهة الحكمية بحثٌ عن ثبوت الموضوع وهو حكم العقل.وأمّا ما ذكره (قدس سره) من أمر الثبوت التعبدي، فهو عارض للسنة أيضاً فإنّ الثبوت التعبدي عند الماتن (قدس سره)ليس إيجاب العمل بالخبر على ما ذكره في بحث اعتبار الخبر وغيره، بل معناه تنزيل قول المخبر منزلة الواقع يعني قول المعصوم وفعله وتقريره(11)، وهذا التنزيل سنخ من الحكم يضاف إلى المنزّل (أي خبر العدل)، وإلى المنزّل عليه (أي السنّة)، وكما يمكن البحث في مسألة اعتبار الخبر أن يقع في أنّ قول المخبر العدل هل نُزّل منزلة السنة؟ فيكون البحث من عوارض الخبر الحاكي لها، كذلك يمكن أن يقع البحث في أنّ السنة هل نزل عليها خبر العدل؟ فيكون البحث من عوارض السنة.نعم المعيار في كون المسألة من مسائل العلم، هو عنوانها المذكور في البحث لا ما هو لازم ذلك العنوان، وإلاّ كانت المسألة الأُصولية فقهية، والمسألة الفقهية كلامية، فإنّ مرجع البحث عن ثبوت الملازمة بين الإيجابين إلى وجوب الوضوء ونحوه عند وجوب الصلاة، ومرجع البحث عن تعلّق التكليف الالزامي بفعل إلى البحث عن إيجاب المخالفة لاستحقاق العقاب، وإلى غير ذلك.[6] لا يخفى أنّ البحث عن ظهور صيغة إفعل في الوجوب، مثلا يكون بحثاً عن العارض الغريب للكتاب والسنة بناءاً على ما ذكروه من أنّ ما يكون عروضه بواسطة أعم فهو عرض غريب، وأمّا بناءً على ما ذكره (رحمه الله) في العارض الغريب فالبحث المفروض بحث عن العوارض الذاتية للكتاب والسنة، فالإشكال به عليهم مبنيّ على مسلكهم حيث يكون نظير بحث الملازمة بين الإيجابين في عدم اختصاصه بالواجبات الشرعية، وإن كان المهم معرفة حالها.[7] ووجه التأييد أنّ مقتضى تعريفهم كون كلّ قاعدة ممهّدة لاستنباط الحكم الشرعيّ مسألةً أُصولية ولو لم يكن المحمول فيها من العارض الذاتي للأدلّة الأربعة.(1).إن قلت: كيف لا تكون الإرادة في غير الإنسان مع أنّ المعروف عند أهل الميزان كون «متحرك بالإرادة» فصلاً للحيوان إنساناً كان أو غيره؟ قلتالإرادة في كلام شيخنا الاُستاذ (دام ظله) تكون بالمعنى المصطلح عند صاحب الكفاية (قدس سره) وأهل المعقول، التي هي الشوق الأكيد المحرّك للعضلات وهي تتوقف على العلم بالصلاح وانقداح الداعي في النفس وغير ذلك من المقدمات التي لا توجد في غير الإنسان، وبهذا المعنى لا تكون فصلاً لمطلق الحيوان، والتي تكون فصلاً هي ما عبّر عنها بالقصد، فالمقصود بالحركة القصدية هي الحركة الإرادية بحسب اصطلاح أهل الميزان الذين جعلوها فصلاً لا بحسب اصطلاح أهل المعقول.(2).كتاب البرهان من الشفاء: الفصل الثاني من المقالة الثانية ص 131؛ الأسفار1 / 30.(3).توضيحهانّ في مسألة «صيغة الأمر ظاهرة في الوجوب أم لا؟» يكون المبحوث عنه فيها مطلق صيغة الأمر، وموضوع المسألة خصوص «صيغة الأمر في الكتاب» والمحمول فيها العارض له «ظاهرة في الوجوب» فيعرض لموضوع المسألة الذي هو نوع بواسطة أعمّ، أي الجنس وهو مطلق صيغة الأمر المبحوث عنها وليس هو الموضوع في المسألة لعدم كونه فرداً لطبيعي موضوع العلم سواء كان الأدلة الأربعة أو ما يصلح أن يكون دليلاً على الحكم الشرعي، كما لا يخفى على المتأمّل، بل الموضوع فيها صيغة الأمر في الكتاب أو السنة مثلاً.(4).كفاية الأصولص 7.(5).كفاية الأصولص 7.(6).كفاية الأصولص 7.(7).كفاية الأصولص 7.(8).كفاية الأصولص 7.(9).كفاية الأصولص 9.(10).أصل القاعدة«الواحد لا يصدر عنه إلاّ الواحد».وعكس القاعدة«الواحد لا يصدر إلاّ عن الواحد».(11).الكفايةص 279. وإن كان الأولى تعريفه.[1].الوضع نحو اختصاص اللفظ بالمعنى[2].ثمّ إنّ الملحوظ حال الوضع إمّا أن يكون عامّاً[3].
تعريف علم الأُصول
[1] ووجه العدول خروج أمرين عن التعريف المفروض: أحدهما: مسألة حجية الظن الانسدادي على الحكومة، فإنّ حجيّته على المسلك المفروض لا تكون موجبة لاستنباط حكم شرعى منها، وذلك لكون الحجية بناءً عليها عبارة عن استقلال العقل بكفاية الاطاعة الظنيّة للتكاليف الواقعية، وأنّه يقبح من الشارع مطالبة العباد بأزيد منها، كما أنه لا يجوز للمكلّف الاقتصار على ما دونها من الطاعة الاحتماليّة الوهميّة.وهذا الحكم من العقل، كحكمه بلزوم الاطاعة العلميّة حال الانفتاح لا يكون مستتبعاً لحكم شرعيٍّ مولويٍّ، كما يأتي بيانه في باب الانسداد.ثانيهماخروج مباحث الأُصول العملية الجارية في الشبهات الحكمية من النقلية والعقلية، فهي مع كونها من المسائل الأُصولية لا تكون إلاّ وظائف عملية بلا استنباط حكم شرعي واقعي منها بل تطبّق في الفقه، بتعيين مواردها، على صغرياتها.وقوله (قدس سره) (1)«بناءً على أنّ مسألة حجية الظن..إلخ» مفادهأنّ أولوية العدول مبنية على كون الأمرين من المباحث الاصولية كما هو كذلك، حيث لا وجه للالتزام بالاستطراد في مثلهما من المهمات.وبما أنّ التعاريف المذكورة للعلوم من قبيل شرح اللفظ، لأنّ وحدتها اعتبارية على ما تقدم من كون كل علم جملة من القضايا المتشتة التي اعتبرت الوحدة لها باعتبار دخلها في الغرض، فذكر (قدس سره) أولوية العدول لا تعيّنه، وجعل التعريف السابق مؤيداً لا دليلا، حيث لا يعتبر في هذه التعاريف الاطّراد والانعكاس.ولا يخفى أنّ المراد بالقواعد في تعريف علم الأُصول نتائج المباحث الأُصولية، وأمّا الصناعة فهي نفس مباحثها، فيكون حاصل تعريفهأنّ علم الأُصول مباحث، تعرف بها القواعد التي يمكن وقوعها في طريق استنباط الأحكام الشرعية الكليّة أو التّي ينتهي إليها الأمر في مقام العمل، أي بعد اليأس عن الظفر بالدليل على الحكم الواقعي.ولكن يرد عليه أنّ إضافة «أو التي ينتهي.إلخ» غير مفيد، فإنّ استنباط الحكم الشرعي الفرعي، بناءً على ما اختاره (قدس سره) من أنّ المجعول في الأمارات هو الحجية لها، أي المنجزية والمعذرية، يعمّ انكشاف حال الحكم الواقعي من حيث التنجز وعدمه، ولا ينحصر بالعلم بنفس الحكم الواقعي، وعليه فلا فرق بين الأمارات المعتبرة والأُصول العملية في أنّه يعيّن بهما حال الحكم الواقعي من حيث تنجزّه على تقدير الإصابة وعدمه على تقدير الخطأ.نعم يكون تعيينه بالأُصول العملية في طول التعيين بالامارة وهذا لا يكون فارقاً فإنّ بعض الأمارات أيضاً يكون اعتبارها في طول بعضها الآخر، كخبر العدل، فإنّه وإن كان معتبراً إلاّ أنّه لا اعتبار به في مقابل الكتاب الدال على خلافه.فالصحيح أن يقال في تعريفه: إنّه العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط حال الحكم الشرعي الكلي الفرعي أو حاله من حيث التنجيز والتعذير ومن البديهي أنّه يعتبر في الاستنباط تغاير الحكم المستنبَط والمستنبَط منه، إمّا بأن لا يكون المستنبط منه حكماً شرعياً ولكن يستخرج منه حكم شرعي فرعي، كقاعدة الملازمة بين إيجاب شيء وإيجاب مقدمته التي يستخرج منها وجوب الوضوء والغسل وتطهير الثوب أو البدن عند وجوب الصلاة في قياس استثنائي فيقال مثلاكلما كانت الصلاة واجبة، كان الوضوء الذي هو مقدمة للصلاة واجباً أيضاً.لكن الصلاة واجبة.فالوضوء واجب.وإمّا بأن يكون المستنبط منه حكماً شرعياً طريقيّاً لا عملياً لكن يحرز به تارة نفس الحكم الشرعي العملي وأُخرى حال الحكم الشرعي الفرعي لا نفسه.فالأوّل كحجية خبر الثقة بناءً على كون مفاد أدلّة الاعتبار جعل الخبر علماً تعبدياً فيقال مثلا العصير العنبي بعد الغليان مما قام خبر الثقة على حرمته.وكلّما قام خبر الثقة على حرمته فهو معلوم الحرمة.فينتجأنّ العصير العنبي بعد الغليان مما علم حرمته، وبعد إحراز الحرمة يفتي الفقيه بحرمة العصير العنبي بالغليان.والثاني كحجية خبر الثقة بناءً على كون مفاد أدلة الاعتبار جعل المنجزية والمعذرية، أو جعل المؤدّى (أي جعل الحكم الطريقي على طبق مؤدياتها) وكمباحث الأُصول العملية، فالحكم الشرعي العملي لا يستنتج منها بل يستنتج من هذه المباحث حاله من المنجزيّة والمعذرية.القواعد الفقهية
و كيف ما كان فقد ظهر مما ذكرنا افتراق القواعد الفقهية التي لا يستنبط منها نفس الحكم الشرعي الكلّي ولا حاله من حيث تنجزه وعدمه عن مسائل علم الأُصول، فإنّ تلك القواعد بأنفسها أحكام شرعية عملية تكليفيّة كانت أم وضعيّة، وضمّها إلى صغرياتها من قبيل تطبيق الكبرى الشرعية العملية على صغراها، لا من الاستنباط.وتوضيح ذلك: أنّ القواعد الفقهية على قسمين: الأوّلما يكون مدلولها حكماً فرعياً ثابتاً لعنوان تندرج تحته الجزئيات الخارجية فقط، كما في نجاسة الخمر وحرمة شربه، ولا مورد لتوهّم النقض في هذا القسم، حيث لا يثبت بضمّها إلى صغراها إلاّ الحكم الجزئي الفرعي لا الكلّي.الثانيما يكون مدلولها حكماً شرعياً ثابتاً لعنوان تندرج تحته العناوين الكلية، كقاعدة «ما يضمن وما لا يضمن» فإنّ موضوعها العقد، ويندرج تحته البيع والاجارة والقرض والمصالحة وغير ذلك من أنواع العقود، فتكون النتيجة في هذا القسم بعد تطبيقها على صغرياتها ثبوت الحكم الكلي، ولكن هذا من باب التطبيق لا الاستنباط فإنّ الملازمة على تقدير ثبوتها، شرعية بمعنى أنّ الشارع قد أخذ في موضوع حكمه بالضمان في العقد الفاسد، ثبوت الضمان في صحيحه، نظير الملازمة بين وجوب القصر على المسافر ووجوب الإفطار، فإنّ مرجعها إلى أنّ الشارع قد جعل السفر الموضوع لوجوب القصر موضوعاً لوجوب الإفطار أيضاً، إلاّ ما استثني، وهذا بخلاف الملازمة بين إيجاب شيء وإيجاب مقدمته، فإنّها أمر واقعي قد كشف عنه العقل أو هي بنفسها حكم العقل، ولذا يكون القول بها مصححاً لاستنباط حكم شرعي كلّي بقياس استثنائي على ما تقدم، أو قياس حملي تكون نتيجته الملازمة بين الأمر بالصلاة في أوقاتها والأمر بقدّماتها.والحاصل، تمتاز القاعدة الفقهية عن القاعدة الأصولية بأنّ مفاد القاعدة الأصولية إما أن لا يكون حكماً شرعياً ولكن ينتقل منه إلى حكم شرعي كلّي، أو يكون مفادها حكماً شرعياً طريقياً، ولكن تارةً يحرز به حكم شرعي كلي واقعي بأن تكون نتيجة قياس الاستنباط العلم بذلك الحكم لا نفس الحكم فيتم بذلك موضوع جواز الافتاء كما في موارد الأمارات المعتبرة، وأُخرى يحرز به حال الحكم الكلّي الواقعي من حيث التنجّز وعدمه كما في موارد الأصول العملية الجارية في الشبهات الحكمية.بخلاف القاعدة الفقهية فإنّ مفادها بنفسه حكم شرعي عملي كلّي لعنوان يكون تحته جزئيات حقيقية أو إضافية وتكون قياساتها من قبيل تطبيق الكبرى على صغرياتها ونتيجتها ثبوت نفس ذلك الحكم فيها، وإذا كان مفاد القاعدة حكماً طريقياً فيحرز به حال الحكم الجزئي من حيث التنجز وعدمه، كالاصول العملية الجارية في الشبهات الموضوعية وغيرها من القواعد المجعولة عند الشك في الموضوع.ومما ذكر يظهر أنّ قاعدة «لا حرج» أو «لا ضرر» قاعدة فقهية تطبّق على صغرياتها ويكون مفادها ثبوت نفس الحكم الشرعي أو عدمه، ولا يكون مفادها مما يستنبط منه الحكم الشرعي نفسه أو حاله من حيث التنجز وعدمه.نعم قاعدة الطهارة الجارية في الشبهات الحكمية قاعدة أُصولية، إذ يحرز بها حال الحكم الشرعي الواقعي الكلي من حيث التنجز وعدمه، وإنّما لم يبحث عنها في الأُصول لعدم الخلاف فيها ولاختصاصها بباب الطهارة، فتذكر في الفقه استطراداً بمناسبة الكلام في قاعده الطهارة الجارية في الشبهات الموضوعية.ومما ذكرنا يظهر ضعف ما عن المحقق النائيني (قدس سره) في الفرق بين القاعدة الأُصولية والقاعدة الفقهية من أنّ الأُولى لا تنفع العامي؛ لعدم تمكّنه من تشخيص صغراها، بخلاف الثانية فإنّها تنفعه فيما إذا أُلقيت إليه لتمكّنه من معرفة صغرياتها(2).ووجه الضعف؛ أنّ الفرق غير جار في القسم الثاني من القواعد الفقهية، فإنّ العامي لا يتمكّن من تشخيص صغرياتها كما في قاعدة «الشرط جائز ما لم يكن محلّلا للحرام أو محرّماً للحلال» و«الصلح جائز بين المسلمين ما لم يخالف الكتاب والسنة» إلى غير ذلك.الضابطة في المسألة الأُصولية
ثمّ إنّه يقع الكلام في المراد بالاستنباط من القاعدة الأُصولية، هل هو الاستنباط بلا ضمّها إلى قاعدة أُخرى من قواعد الأُصول أو المراد به الاستنباط ولو بضمّها إليها، فإن كان المراد هو الأوّل فمن الظاهر ان المسائل الأُصولية ليست كذلك، وإن كان المراد هو الثاني دخل في المسائل الأُصولية، مسائل علم الرجال أيضاً.ذهب سيدنا الاستاذ (قدس سره) إلى الأول ولكن لا بنحو كلّي، فذهب إلى أنّ القاعدة الأُصولية هي التي يكون ضم صغراها إليها كافياً في استنباط الحكم الفرعي الكلي ولو في مورد واحد، بخلاف القواعد في سائر العلوم فإنّها لا تكون كذلك، بل دائماً تحتاج إلى قاعدة أُصولية لاستنباط الحكم الشرعي منها، فمثلا مسألة «ظهور صيغة الأمر في الوجوب» مسألة أُصولية وإذا أُحرز الأمر بفعل بصيغته في الكتاب المجيد أو السنة القطعية يستنبط منه وجوب ذلك الفعل.لايقاللابدّ في الحكم بوجوب ذلك الفعل من ضمّ كبرى حجية الظواهر.فإنّه يقالإنّ المسألة الأُصولية هي التي لا تحتاج لاستنباط الحكم الشرعي منها إلى ضمّ قاعدة أُخرى من قواعد الأُصول إليها، لا أنها لا تحتاج إلى ضمّ مقدمة أُخرى أصلاً، وحجّية الظواهر من المسلمات التي لم يقع الخلاف فيها، وباعتبار ذلك لم تجعل من مسائل علم الأُصول، وإن وقع الخلاف فيها في موارد، كحجية ظواهر الكتاب المجيد، أو حجية الظاهر مع الظن بالخلاف، وحجية الظهور لغير من قصد إفهامه.والحاصل أنّ استنباط الحكم من قاعدة ظهور صيغة الأمر في الوجوب وإن كان يحتاج إلى مقدمة أُخرى إلاّ أنّ تلك المقدمة ليست من مسائل علم الأُصول ولا من مسائل سائر العلوم، وهذا بخلاف مسائل سائر العلوم، فإنّه يحتاج لاستنباط الحكم منها إلى ضمّ قاعدة أُصولية لا محالة.ثمّ أردف هذا القائل الجليل (قدس سره) أنّه لا يلزم أن تكون نتيجة المسألة الأُصولية على كل تقدير كذلك، بل يكفي في كون المسألة أُصولية كون نتيجتها كذلك، ولو على بعض التقادير.مثلا مسألة «اقتضاء الأمر بشيء للنهي عن ضدّه الخاصّ» وإن كانت لا تكفي بمجردها للاستنباط على تقدير القول بالاقتضاء، بل نحتاج لاستنباط الحكم منها إلى ضمّ مسألة أُصولية أُخرى هي «اقتضاء النهي عن عبادة، ولو كان غيرياً فسادها» إلاّ أنّه على القول بعدم الاقتضاء يستنبط منها بضمّ صغراها صحة العبادة المضادة للواجب، كالصلاة في أوّل الوقت مع وجوب إزالة النجاسة عن المسجد.لايقال: نفس ثبوت الحرمة الغيرية للضد الواجب وعدم ثبوتها له حكم شرعي يستنبط من نفس مسألة «اقتضاء الأمر بشيء النهي عن ضدّه» فكيف لا تكون المسألة كافية في الاستنباط؟ فإنّه يقالنفس الحرمة الغيرية لشيء لا يعدّ أثراً عملياً ولا تكون المسألة ـ بهذا الاعتبار ـ مسألة أُصولية، كما يأتي توضيحه في بحث مقدمة الواجب(3).أقولالصحيح أنّه لا يستنبط من مسألة «اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه» بمجرّدها الحكم الفرعي العملي، سواءً التزم فيها بالاقتضاء أو عدمه.فإنّه حتّى على القول بعدم الاقتضاء نحتاج ـ لتصحيح العبادة المضادة ـ إلى ضمّ قاعدة أُصولية أُخرى هي قاعدة جواز الترتب (أي جواز الأمر بالمتضادّين ترتّباً)، أو قاعدة عدم التزاحم بين الواجب الموسع والمضيَّق، أو قاعدة كشف الملاك الالزامي في الفرد العبادي المضاد من إطلاق المتعلّق في خطاب التكليف، كما ذكروا تفصيل ذلك في بحث الضدّ.ثمّ إنّه تكون مسألة من سائر العلوم بنفسها كافية في الاستنباط بضمّ صغراها إليها، ولو في بعض الموارد، كبعض مسائل علم اللغة التي يستفاد منها معنى الوجوب والحرمة والكراهة أو معنى النجس والطاهر، مما يدلّ على الحكم تكليفاً أو وضعاً، فإنّه إذا وقعت هذه الألفاظ في الكتاب أو في الخبر المحفوف بقرينة موجبة للقطع بصدوره وجهته، استنبط منه الحكم بلا ضمّ مقدمة أُصولية أُخرى.والحاصليتعيّن أن يراد بالاستنباط من القواعد الأُصولية ما هو الأعمّ من الاستنباط بضمّ قاعدة أُخرى من مسائله (حتّى في جميع الموارد).وإنما لم تُجعل مسائل علم الرجال وبعض مسائل علم اللغة من علم الأُصول، باعتبار وضوحها أو باعتبار البحث عنها في علم آخر.نعم المباحث التي تذكر في كتب الأُصول ولكن لاتكون واسطة في استنباط نفس الحكم بل يحرز بها الموضوع أو المتعلّق للحكم، كمباحث المشتق والحقيقة الشرعية والصحيح والأعم ونحوها، لا تدخل في مسائل علم الأُصول، بل تعتبر من المبادئ التصورية لعلم الفقه، بخلاف المسائل الأُصولية فإنّها من المبادئ التصديقيّة لعلم الفقه.ولذا ينبغي تقسيم المسائل الأُصولية إلى أربعة أقسام: الأوّلمباحث الدلالات اللفظية وتعيين الظهورات فيها.الثانيمباحث الاستلزامات العقلية، ولو كانت غير مستقلّة، كبحث الملازمة بين إيجاب شيء إيجاب مقدمته.الثالثمباحث الحجج الاعتبارية والأمارات.الرابعمباحث الأُصول العملية والوظائف المقرّرة للشاك عقلاً أو شرعاً.حقيقة الوضع
[2] مراده (قدس سره)؛ ان اللفظ يتصّف بكونه موضوعاً فيما إذا عيّن بازاء معنى لتفهيمه بذلك اللفظ في مقام التخاطب، ويتصّف أيضاً بكونه موضوعاً فيما إذا تكرّر استعماله في معنى بنصب القرينة ورعاية العلاقة إلى حدّ لا يحتاج تفهيم ذلك المعنى به إلى نصب القرينة بل يكون المعنى الأوّل مهجوراً عن الأذهان وينسبق إليها المعنى الثاني عند الإطلاق.واتّصاف اللفظ بكونه موضوعاً في الصورتين يكشف عن كون الوضع في الألفاظ أمراً يحصل بالتعيين تارةً، وبكثرة الاستعمال أُخرى، وذلك الأمر نحو علقة وارتباط بين اللفظ والمعنى يحصل بأحد الأمرين، وعلى ذلك فما ذكر من أنّ الوضع عبارة عن «تعيين اللفظ بازاء المعنى» غير سديد، فإنّه بهذا التعريف غير قابل للتقسيم إلى التعييني والتعيّني.أقولالوضع هو تعيين اللفظ بإزاء معنى، سواء كان إبتدائياً أو مسبوقاً بالاستعمال المجازي، إذ في الوضع التعيّني تلغى العناية ولحاظ العلاقة في الاستعمال ولو بعد شيوع ذلك الاستعمال لا محالة، وفي أيّ زمان فرض إلغائها يحصل التعيين.وبتعبير آخركما يحصل التعيين بإنشائه، كذلك يحصل بالاستعمال، كما صرح بذلك (قدس سره)في أوائل البحث في الحقيقة الشرعية، فيكون إلغاء العناية في الاستعمال بعد تكرّره من التعيين.وأمّا ما ذكره (قدس سره) في حقيقة الوضع من كونه نحو اختصاص وارتباط مخصوص بين اللفظ والمعنى، فإن أراد (قدس سره) من الارتباط والاختصاص أُنس الأذهان من لفظ خاصّ، بمعنى مخصوص، بحيث ينتقل الذهن عند سماعه إلى ذلك المعنى فهذا الارتباط صحيح، إلاّ أنّه معلول للعلم بالوضع فيكون الوضع غير الارتباط المفروض.وإن أراد من الاختصاص أمراً آخر فلا نعرفه.وقد يقال في المقام كما عن المحقق الاصفهاني (قدس سره)إن الارتباط بين اللفظ والمعنى مما يلازم الوضع وليس عينه، بل الوضع أمر اعتباري يشبه وضع العَلَم على الأرض أو الحجر على الحجر لغرض ما، غاية الأمر الوضع في المثالين حقيقي، يندرج تحت مقولة الوضع وفي اللفظ اعتباري لا يندرج تحت أيّ مقولة، فلا يكون مما بازاءه شيء في الخارج، ولا ممّا له منشأ انتزاع خارجي.ويشهد لذلك أنّ الارتباط حاصلٌ بين طبيعيّ اللفظ وطبيعيّ المعنى، ولو مع الإغماض عن وجود اللفظ خارجاً أو ذهناً، بحيث لو لم يتلفّظ أحد بلفظ الماء مثلا ولم يوجد معناه في ذهن أحد، لكان الارتباط بين لفظه ومعناه موجوداً، ومن ذلك يظهر أنّ الوضع ليس من الأُمور الاعتبارية الذهنية نظير الكلية والجزئية والنوعية والجنسية، لأنّه لو كان كذلك لاحتاج إلى لحاظ اللفظ ولكان المعروض ذهنياً مع أنّ الاختصاص الوضعي حاصل لطبيعي اللفظ لا بما هو موجود ذهناً ولا بما هو موجود خارجاً.ودعوى أنّ قول الواضع: (وضعت هذا اللفظ) منشأً لانتزاع الوضع فيكون من الأُمور الانتزاعية ـ نظير ما يقال من أنّ قول البائع(بعت المال) منشأً لانتزاع الملكية، فتوجد الملكية بمنشأ الانتزاع ـ لا يمكن المساعدة عليها، فإنّ الأمر الانتزاعي من منشأ يحمل العنوان منه، على منشائه مع أنّ العنوان من الملكية والوضع لا يحمل على صيغة بعتُ ولا على صيغة وضعتُ.ويشهد أيضاً لعدم كون اختصاص اللفظ بالمعنى، معنى مقولياً، اختلاف أنظار الأقوام والطوائف في ارتباط لفظ بمعنى، فيرى قومٌ ارتباط لفظ بمعنىً، ويرى آخرون ارتباطه بمعنىً آخر(4).أقولما ذكره (قدس سره) ـ من كون الوضع بنفسه أمراً اعتبارياً لا يندرج تحت مقولة ـ صحيح، والشاهد على ذلك إمكان إلغائه، ولو كان أمراً حقيقياً لما كان يقبل الإلغاء، إلاّ أنّ ما ذكره (قدس سره) من كونه أمراً اعتبارياً مسانخاً للوضع الخارجي ـ كما ذكره ـ مما لايمكن المساعدة عليه؛ إذ اللفظ وإن كان يتّصف بأنّه موضوع، إلاّ أنّ المعنى لايصحّ اتّصافه بالموضوع عليه، وإنّما يتّصف بالموضوع له، ولو كان وضع اللفظ أمراً اعتبارياً من سنخ الوضع الخارجي لصحَّ اتّصاف المعنى بالموضوع عليه.كما أنّ ما ذكره (قدس سره) من أنّ الارتباط والاختصاص لازم الوضع لايمكن المساعدة عليه أيضاً؛ وذلك لأنّ هذا الارتباط والاختصاص إنّما هو أُنس الذهن بالمعنى من اللفظ، بحيث ينسبق المعنى إلى الذهن عند سماع اللفظ، وهذا الأُنس يحصل من العلم بالوضع أو تكرار الاستعمال، لا من مجرّد الوضع.وإن أُريد من الارتباط والاختصاص معنىً آخر، فلا نعرفه.وعن المحقق الايرواني (قدس سره) أنّ حقيقة الوضع في الألفاظ عبارة عن تنزيل اللفظ منزلة المعنى وجعله عينه ادّعاءً، وهذه العينيّة الادعائيّة يصحّحها ترتّب غرض التفهيم والتفهم عليها، وهذا الغرض المهمّ كاف في تصحيح الادّعاء فإنّه بابٌ واسع.وذكر قبل ذلك أنّ دلالة الألفاظ على المعاني ذاتية، ولا يحتاج في أصل دلالتها إلى الوضع، وإنّما يحتاج إلى الوضع في تعيين المعنى وتمييز المراد من المعاني من غير المراد منها، ويشهد لذلك صحّة استعمال اللفظ وحصول دلالته على نوعه أو مثله حتّى لو كان اللفظ مهملا غير موضوع لمعنىً(5).أقول: لم يظهر وجه الاستشهاد، فأنّه عند إرادة النوع أو المثل لابدّ من وجود قرينة يكون اللفظ بها دالاًّ على إرادة نوعه أو مثله، وإن كانت تلك القرينة المحمول المذكور في الكلام، كما في قوله(ضرب فعل ماض).هذا مع الإغماض عمّا يأتي من عدم كون إرادة مثل اللفظ أو نوعه أو شخصه من استعمال اللفظ في المعنى.وأمّا ما ذكره (قدس سره) من كون حقيقة الوضع هو الادّعاء، بأنّ هذا اللفظ عين ذلك المعنى، فيكذّبه الوجدان عند ملاحظة الوضع في الأعلام الشخصية، فإنّ حقيقته لايختلف عن الوضع في سائر الألفاظ، مع أنّه لا تنزيل ولا ادّعاء في وضعها قطعاً، فإنّ قول الوالد(سميت ولدي محمّداً) ليس مفاده جعلته عين لفظ «محمّد» أو أنّ صورته عين ذلك اللفظ، ويوضّح ذلك كمال الوضوح، ملاحظة أسماء ذات الحق «جلّ وعلا».وأمّا دعوى(6) كون أصل الدلالة في الألفاظ ذاتية، بتقريب أنّه لو سمع شخص كلاماً وكان جاهلا بوضع ألفاظه، علم أنّ المتكلّم أراد معنىً ما، فيردّها أنّ علم السامع بذلك ليس ناشئاً من دلالة الألفاظ ذاتاً، بل من ظهور حال المتكلم العاقل بأنّه لا يفعل شيئاً بلا غرض، والغرض من الكلام عادةً إرادة المعاني.وأمّا الالتزام بأنّ دلالة الألفاظ ليست بذاتية محضة بل بها وبالوضع معاً ـ كما عن المحقق النائيني (قدس سره) ـ، بدعوى أنّ كل لفظ يناسب معنى واقعاً وتلك المناسبة مجهولة عندنا، واللّه (تبارك وتعالى) عيّن كلّ لفظ لمعناه المناسب له وألهمنا بالتكلم بذلك اللفظ عند إرادة ذلك المعنى، فيكون الوضع في الألفاظ أمراً متوسطاً بين الأحكام الشرعية التي يحتاج إبلاغها إلى الأنام إلى إرسال الرسل وإنزال الكتب، وبين الأُمور الجبلّيّة التي جُبل الإنسان على إدراكها من الأُمور التكوينية كالعطش والجوع عند احتياج البدن إلى الماء والغذاء، ولو كانت دلالة الألفاظ ذاتية محضة بلاتوسيط وضع لما جهل أحدٌ معنى لفظ، ولو عند قوم آخرين، واحتمال أنّ الواضع هو الإنسان غير صحيح؛ لأنّا نقطع بحسب التواريخ التي بأيدينا أنّه لم يكن شخص أو أشخاص وضعوا الألفاظ في لغة، فضلا عن سائر اللغات.ومما يؤكّد ذلك أنّ جماعة لو أرادوا وضع ألفاظ جديدة في لغة بقدر الألفاظ التي في تلك اللّغة لما قدروا عليه؛ لكثرة المعاني وتعذّر تصوّرها من قبل أشخاص، فضلاً عن شخص واحد.فقد ظهر أنّ حقيقة الوضع هو تعيين اللفظ لمعنى بمقتضى مناسبة له وأنّ هذا التعيين من اللّه (عز وجل)(7)، فغير صحيح؛ وذلك لأنّ دعوى المناسبة الواقعية بين كل لفظ ومعناه، مما لم يشهد بها شاهد، وما يقال من أنّ الوضع يستلزم الترجيح بلامرجح لولا مناسبة واقعية، غير صحيح؛ لأنّ الغرض من الوضع ـ وهو التسبيب إلى تفهيم المعاني والمرادات ـ بنفسه كاف في تعيين أيّ لفظ لأيّ معنى، وعدم وجود اسم شخص أو أشخاص في التواريخ التي بأيدينا لا تدلّ على أنّ واضع الألفاظ هو اللّه سبحانه، إذ يحتمل أن يكون أصل الوضع في أيّ لغة قد حدث قبل التاريخ، ثمّ كملت تلك اللغة على مرّ العصور نتيجة تطوّر الأفكار وكثرة الحاجات، كما نرى بالوجدان أنّ المصنوعات والمخترعات الجديدة تُوضع لها الأسماء من غير أن يذكر في التاريخ مَن سمّاها بها، ومما ذكر يظهر الجواب عن تعذّر وضع أشخاص لغةً جديدة، فضلا عن شخص واحد.وقد ذهب سيدنا الاستاذ (قدس سره) إلى أنّ وضع الألفاظ في حقيقته تعهّد وقرار من مستعمل اللفظ بأنّه كلّما أتى به أراد تفهيم المعنى الفلاني، ولا يفرق في ذلك بين أن يكون التعهّد والقرار إبتدائياً، أو كان مسبوقاً بالتعهد والاستعمال من الآخرين فيكون مستعمل الألفاظ مع ذلك التعهّد واضعاً، ولو كانت استعمالاته مسبوقة بالاستعمال من الآخرين، فإنّ عدم إعراضه عن استعمال السابقين وإقرار اللفظ على ما هو عليه إمضاءٌ للتعهّد والقرار، فكلّ مستعمل واضع، غاية الأمر السابق ـ لسبقه في التعهّد والاستعمال ـ يطلق عليه الواضع، وعلى ذلك فما يرى من خطور المعنى إلى الذهن عند سماع اللفظ ولو من غير شاعر فهو ليس من الدلالة الوضعيّة، بل منشأه أُنس الأذهان لكثرة الاستعمال(8).ولكن لا يخفى أنّه لو كان الأمر كذلك لكان الأُنس حاصلا بين اللفظ وإرادة تفهيم المعنى لا نفسه.والصحيح أنّ الوضع في الألفاظ عبارة عن جعلها علامات للمعاني، والغرض من جعل العلامة تفهيمها بها، فالمعنى هو الموضوع له ومسمّى اللّفظ، لا أنّ إرادة المعنى نفسها مسمّى اللّفظ، ثمّ إنّ هذا التعيين وجعل اللفظ علامة للمعنى قد يكون إبتدائياً، وقد يكون مسبوقاً بالاستعمالات المتكررة بالعناية وملاحظة العلاقة فيكون الوضع تعيّنيّاً.أقسام الوضع
[3] حاصل ما ذكره (قدس سره) في المقام: أنّ وضع اللفظ لمعنى يتوقّف على لحاظ ذلك المعنى، فإن كان المعنى الملحوظ عامّاً يعني كليّاً يكون في ذلك العامّ جهتان؛ إحداهما: أنّه معنىً من المعاني، وبهذا الاعتبار يكون وضع اللفظ له من الوضع العامّ والموضوع له العامّ.وثانيتهماجهة كونه عنوانا لأفراده ووجوداته وصورة لها، وبهذا الاعتبار يكون وضع اللفظ من الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ فإنّ الموضوع له في الحقيقة وجوداته وأفراده غاية الأمر لم تلاحظ تلك الأفراد تفصيلا بل إجمالا، يعني بعنوانها وبالصورة المشتركة بينها.وأمّا إذا كان المعنى الملحوظ جزئياً فبما أنّ لحاظه ليس إلاّ لحاظ نفسه لا غيره من سائر الأفراد ولا للصورة المشتركة بينها حيث إنّ الجزئي لا يكون صورة لغيره فيكون وضع اللفظ له من الوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ.نعم إذا لوحظ الجزئي فربّما ينتقل الذهن إلى أنّ له كليّاً ويوضع اللفظ لذلك الكلّي، فهذا أمر ممكن إلاّ أنّ الوضع في هذا الفرض كالموضوع له عامّ، فإنّه لوحظ المعنى العامّ ثانياً، بعد تصور الجزئي أوّلا، وفرق بين تصور الشيء بعنوانه وصورته المرآتيّة كما في الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ، وبين تصوّر الشيء بنفسه ولو بعد الانتقال إليه من تصوّر شيء آخر كما في حالة الانتقال إلى أنّ للجزئي كليّاً.لا يقالكون اللفظ موضوعاً للجزئي أو استعماله فيه يلازم إدخال الخصوصيات الموجبة للجزئية في ذلك المعنى الموضوع له أو المستعمل فيه، وتصور العامّ في مقام الوضع أو الاستعمال لا يكون إلاّ تصوّراً لنفسه وهي الجهة المشتركة بين أفراده مع حذف خصوصيات الأفراد في الملحوظ لا يكون الموضوع له خاصاً فلابدّ من جعل الموضوع له المعنونات بذلك العنوان بأن يلاحظ ما يكون إنساناً أو غيره بالحمل الشايع ويجعل الموضوع له هو المعنون، لا العنوان، وهذا في الحقيقة انتقال إلى الجزئي، و لحاظه إجمالا بعد تصوّر العامّ ويجري ذلك في الوضع الخاصّ والموضوع له العامّ الذي ذكر قسما رابعاً للوضع بان يلاحظ الجزئي أوّلا ويوضع اللفظ لما هو عنوان له، وبالجملة يكون في كلتا الصورتين تصور المعنى بنفسه ولو إجمالا، بعد تصور شيء آخر عامّ أو خاصّ.فإنّه يقالإنّ إمكان الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ إنّما هو باعتبار أنّ لحاظ معنى بخارجيّته كاف في جزئيّته، فإنّ المعنى الكلي يمكن تصوّره بحيث يكون لحاظاً لتلك الوجودات العينية، حيث إنّ الكلي عينها خارجاً، كما يمكن ملاحظته بحيث يقبل الاتصاف بالوجود والعدم.فإن كان اللفظ قد وضع له مع الإغماض عن العينيّات الخارجيّة، بحيث يكون قابلا للاتصاف بكل من الوجود والعدم، كان الموضوع له كالوضع عامّاً، وإن كان اللفظ قد وضع له بلحاظ العينيّات الخارجيّة بحيث لا يقبل الاتصاف بالوجود والعدم بل يكون الأمر فيه نظير ما في الأعلام الشخصية في عدم اتصافها بالوجود والعدم كان الموضوع له خاصّاً، مثلا؛ في العنقاء يصحّ أن يقال: إنّه معدوم، ولا يصح أن يقال: زيد معدوم، بل يقالإنّه غير باق.والحاصل أنّ الطبيعيّ عين وجوداته خارجاً، فلحاظه بجهة خارجيّته كاف في كون الموضوع له خاصاً، والمراد بجهة العينيّة واقعها لا مفهوم العينيّة فإنّ مفهومها هو عين مفهوم الوجود، كما هو ظاهر.(1).كفاية الأصولص 9.(2).فوائد الأُصول: 4 / 309؛ أجود التقريرات2 / 345.(3).المحاضرات1 / 12.(4).نهاية الدراية1 / 44.(5).نهاية النهاية1 / 7.(6).الدعوى منسوبة إلى عبّاد بن سليمان الصيمري، قوانين الأُصول: 1 / 194؛ والمحصول1 / 57.(7).أجود التقريرات1 / 11.(8).محاضرات في أُصول الفقه1 / 45. والتحقيق جسماً يؤدي إليه النظر الدقيق[1].قلتالفرق بينهما إنّما هو في اختصاص كلٍّ منها بوضع[2].
المعنى الحرفي
[1] وبتعبير آخر إنّ مثل لفظ «من» ولفظ «الابتداء» موضوعان لمعنى واحد غاية الأمر، ذلك المعنى يلاحظ تارةً بما هو هو فيستعمل فيه لفظ «الابتداء»، وأُخرى يلاحظ آليّاً فيستعمل فيه لفظ «من» وليس المراد أنّ اللحاظ الآلي أو الاستقلالي داخل في المستعمل فيه، بل هما نحوان من اللحاظ يتعلّقان بنفس المعنى في مقام الاستعمال، ونفس ذلك المعنى ـ الذي يتعلّق به اللحاظ الآلي تارةً والاستقلالي أُخرى ـ هو الموضوع له والمستعمل فيه، فيهما.ويدلّ على عدم كون معاني الحروف جزئيات بل كمعاني الأسماء كليّات؛ أنّ القائل بالجزئية إن أراد الخصوصية الخارجيّة الموجبة لكون المعنى جزئياً خارجياً، فمن الظاهر أنّ تلك الخصوصية غير داخلة في معاني الحروف، فإنّه كثيراً ما يكون معنى لفظ «من» كلّياً يصدق على كثيرين، كما إذا وقع تلو الأمر أو النهي، كقوله «سر من البصرة» ولذا إلتجأ بعض الفحول إلى جعله جزئيّاً إضافياً، وهو كماترى؛ لأنّ ما يوجب كونه جزئيّاً إضافياً غير داخل في معناها بل هو مستفاد من دالٍّ آخر، كمدخولها كما لا يخفى.وإن أراد جزئيّة معاني الحروف باعتبار خصوصية ذهنيّة مأخوذة فيها، موجبة لكونها جزئيات ذهنيّة، بأن يكون الموضوع له نفس الوجود العرضي الذهني، بأن يقالكما أنّ الموجود الخارجيّ قد يكون قائماً بنفسه فيعبّر عنه بالجوهر وقد يكون قائماً بالغير فيعبّر عنه بالعرض، كذلك الموجود الذهني فإنّ المعنى قد يلاحظ بنفسه، فيكون إسميّاً، وقد يلاحظ آليّاً، حالة لمعنى آخر (بأن يكون الموجود ذهناً بما هو، المعنى الآخر) فيكون حرفياً، وعليه يكون معنى الحرف باعتبار أخذ واقع اللحاظ الآلي فيه وتقوّمه بمعنى آخر، جزئياً ذهنياً.ففيه: أن هذا اللحاظ لا يمكن أخذه في معاني الحروف بشهادة أُمور: الأوّل: ما أشار إليه بقوله (قدس سره): «وإلاّ فلابدّ من لحاظ آخر» وتوضيحهأنّه لو كان واقع اللحاظ الآلي داخلا في معنى الحرف لزم تعدد اللحاظ في استعماله، ضرورة أنّ الاستعمال موقوف على لحاظ المعنى وتصوّره، وقد فرضنا واقع اللحاظ الآلي دخيلا في معنى الحرف، فلابدّ من لحاظ الابتداء آلياً أوّلا، ثمّ لحاظ الملحوظ باللحاظ الأوّل، وهذا ممّا يكذّبه الوجدان.أقولتوقّف الاستعمال على لحاظ المستعمل فيه، وإن كان صحيحاً إلاّ أنّ لحاظ المستعمل فيه ليس إلاّ إحضاره في أُفق النفس، وإذا فُرض حضور المستعمل فيه عند النفس باللحاظ الأوّل ـ كما في المعلوم بالذات ـ فلا معنى لإحضاره فيها بلحاظ آخر وفي الجملة لو كان واقع اللحاظ الآلي مأخوذاً في معاني الحروف لم يكن في استعمالها حاجة إلى أزيد من ذلك اللحاظ.الثانيما ذكره (قدس سره) من أنّه لو كان اللحاظ مأخوذاً في معاني الحروف لما صحّ أن تصدق معانيها على الخارجيّات؛ لأنّ الصدق عليها هو الانطباق عليها، والانطباق هو العينية، والمعنى المركب والمقيد باللحاظ أمر ذهني لا ينطبق على الخارج بوجه.نعم عدم الانطباق لا يمنع الحكاية عن كثيرين فإنّ الطبيعي المقيّد بالكلّي المنطقي لا يمكن حصوله في الخارج، مع ذلك يكون كلّياً باعتبار حكايته عن كثيرين ـ كما في الكلي العقلي المصطلح ـ وعلى ما ذكر فيمتنع امتثال قوله «سر من البصرة» إلاّ بالتجريد بإلغاء خصوصية اللحاظ عن متعلّق الأمر.الثالث: ما أشار إليه بقوله«مع أنّه ليس لحاظ المعنى.إلخ» يعني ليس اللحاظ الآلي في استعمالات الحروف إلاّ نظير اللحاظ الاستقلالي في استعمال الأسماء، وكما أنّ اللحاظ الاستقلالي غير مأخوذ في معانيها في الوضع والاستعمال كذلك اللحاظ الآلي في استعمالات الحروف ووضعها.ثمّ إنّ قوله (قدس سره): «لامتناع صدق الكلّي العقلي عليها، أي الخارجيات» ليس كما ينبغي، فإنّ معنى الحرف بناءاً على تقيّده باللحاظ الآلي وإن كان كالكلّي العقلي من حيث حكايته عن كثير من الخارجيّات إلاّ أنّه ليس من الكلي العقلي المصطلح عليه، و الصحيح أن يقاللامتناع صدقه نظير امتناع صدق الكلي العقلي على الخارجيّات.[2] وبتعبير آخر معنى لفظي «من وابتداء» وإن كان أمراً واحداً يتعلّق به اللحاظ الآلي تارةً، والاستقلالي أُخرى، وشيء من اللحاظين غير مأخوذ في ناحية الموضوع له والمستعمل فيه إلاّ أنّ الوضع في الحروف مقيّد بتعلّق اللحاظ الآلي بمعانيها عند الاستعمال، وفي الأسماء بتعلّق اللحاظ الاستقلالي بها كذلك، واختلافهما بحسب الوضع واختلاف شرط الوضع في كلّ منهما يوجب عدم صحّة استعمال أحدهما في موضع الآخر، وليس المراد بشرط الوضع ما يرادف معنى الشرط في المعاملات، أعني الالتزام بشيء في ضمن معاملة، ليقال إنّ اتّباع شروط الوضع والعمل بها غير لازم، كما لو فرضنا أنّ الواضع اشترط دفع درهم على من استعمل هذا اللفظ في هذا المعنى، بل المراد بالشرط هو ما في لسان علماء الأدب من أنّ وضع الحرف لذلك المعنى معلّق على لحاظه آلياً وفي الإسم على لحاظه استقلالا.أقولغاية ذلك عدم صحة استعمال الحرف في موضع الإسم حقيقةً؛ لكونه بغير الوضع، وأمّا عدم صحته أصلاً ولو بنحو المجاز، فلا موجب له، مع أنّ استعمال أحدهما موضع الآخر يعدّ غلطاً، وهذا كاشف عن اختلاف المعنى في الحرف والإسم ذاتاً، وأنّ معنى الأوّل غير الآخر، لا أنّهما يختلفان باللحاظ أو بتقيد الوضع مع اتحاد المعنى، فيبقى الكلام في ذلك الاختلاف.وعن المحقق الاصفهاني (قدس سره) أنّ الحرف موضوع للوجود الرابط الذي ذكره بعض الفلاسفة، في مقابل وجود الجوهر والعرض (الذي يعبّر عنه بالوجود الرابطيّ).وحاصل ما ذكره (قدس سره) في المقامأنّ الألفاظ الموضوعة للجواهر والأعراض ـ وهي الأسماء ـ تكون معانيها من قبيل الماهيّات، سواء كانت متأصّلة (أي منتزعة من نفس وجوداتها)، أو من الاعتبارات (أي المنتزعة من الشيء باعتبار أمر آخر)، ولا يكون الوجود الخارجي أو الذهني مأخوذاً في معاني الأسماء أصلاً، بل تتّصف معانيها بالوجود والعدم، وفي مقابل هذه الماهيّات من الجواهر والأعراض والانتزاعيّات وجودٌ آخر ضعيف ودقيق في الغاية زائداً على وجود الجوهر والعرض، يظهر بالبرهان على ما استدلّوا عليه فإنّه ربّما يعلم بوجود كلٍّ من الجوهر (كوجود الإنسان) والعرض (كحصول الحركة)، ولكن يشكّ في قيام الحركة بالإنسان أو بغيره، وهذا دليلٌ واضح على أنّ الحصّة الخاصّة من الحركة القائمة بالإنسان لها نحو وجود، نعبّر عنه بالوجود الرابط زائداً على أصل الحركة، ووجود الإنسان لقضاء تعلّق الشك به وتعلّق الجزم بالأخيرين وهذا الوجود الرابط لضعفه وخفائه لا يكون له مهيّة، ليكون وضع اللفظ لها، بل الحروف موضوعة لنفس الوجودات الروابط، وتلاحظ هذه الوجودات في مقام الوضع، وعند الاستعمال بنحو الإشارة إليها، فتكون معاني الحروف مباينة ذاتاً لمعاني الأسماء؛ لأنّ الأسماء توضع للصور الذهنيّة المنطبقة على الخارج ويكون الوجود الخارجي كالوجود الذهني، خارجاً عن الموضوع له والمستعمل فيه فيها، بأن يكون الموضوع له والمستعمل فيه نفس الماهيّات بخلاف الحروف، فإنّها موضوعة لما هو رابط خارجاً، لا عنوان الرابط، فإنّه معنىً إسمي ويلزم على ذلك أن يكون الوضع في الحروف عامّاً والموضوع له خاصّاً(1).أقول: يناقش فيما ذكره (قدس سره): أولابأنّه لا سبيل إلى الجزم بأنّ في الخارج وجوداً آخر غير وجود العرض والجوهر يسمّى بالوجود الرابط، والدليل عليل، إذ تعدّد متعلقي اليقين والشك، لايلزم أن يكون بتعدّد الوجود، بل يكفي فيه تعدّد الاعتبار والجهة مع الاتحاد خارجاً، فإنّه ربّما يعلم حصول الطبيعي ويشكّ في أفراده، ومن الظاهر أنّ الطبيعي عين أفراده خارجاً ولا وجود له غير وجودها، وعلى ذلك لو علم بوجود الإنسان خارجاً ووجود الحركة يكون الشكّ في إضافة ما تقوم به الحركة من كونه معنوناً بعنوان الإنسان أو غيره.وثانياًإنّ الوجود الرابط ـ على فرض تسليمه ـ لا يكون الموضوع له في الحروف، فإنّ الحروف تستعمل في موارد لا يكون فيها ذلك الوجود قطعاً، كما يقال «الوجود للإنسان ممكن» و«لشريك الباري ممتنع» و«لذات الحق (جل وعلا) واجب» مع أنّه لا رابط في شيء منها بالمعنى المتقدّم أصلاً.وثالثاً: يلزم ـ على ماذكر ـ أن لا يكون قول المخبر(لزيد علم، ولعمرو خوف، ولبكر شجاعة) كذباً، فيما إذا لم يكن لهم شيء ممّا ذكر، فإنّه في الفرض لايكون للكلام مستعمل فيه بالإضافة إلى الحرف ليقال إنّ مدلوله غير مطابق للواقع كما هو الفرض من عدم الرابط، المدّعى كون اللام مستعملة فيه، ويتضّح ذلك أكثر بملاحظة الحروف المستعملة في النفي وفي الجواب والاستفهام والنداء والتعجّب، إلى غير ذلك، مما لا يعقل فرض الوجود الرابط فيها.وللمحقق النائيني (قدس سره) في اختلاف معنى الإسم والحرف كلامٌ، ملخَّصهأنّ المعنى في الأوّل إخطاريّ، وفي الثاني إيجادي، سواء كان معنى الحرف نسبيّاً أو غير نسبيّ، فالثاني كحروف النداء والتشبيه والجواب ونحوها، ممّا يتحقّق باستعمالها فرد من النداء والتشبيه والجواب أو غيرها، بخلاف الأوّل ـ يعني الحروف النسبيّة ـ فإنّه يتحقّق باستعمالها فرد من النسبة والربط بين أجزاء الكلام بحسب معانيها.وتوضيح ذلكأنّ الأسماء ـ سواء كانت معانيها من الجواهر خارجاً أو من الأعراض ـ موضوعة لنفس المعاني التي تتّصف بالوجود الخارجيّ أو الذهنيّ تارةً، وبالعدم أُخرى، وهذه المعاني كلّها مستقلّة ذاتاً، بمعنى أنّه يخطر عند سماع ألفاظها معانيها في الأذهان ولو لم يكن سماعها في ضمن تركيب كلاميّ، وهذا بخلاف الحروف، فإنّه ليس لها معان استقلاليّة وإخطارية، بحيث تخطر إلى الذهن عند سماعها منفردةً عن التركيب الكلامي.ثمّ لا يخفى أنّ العرض لمّا كان لا يرتبط مفهومه ومعناه ـ بما هو مفهوم ومعنى ـ بمعنى المعروض ومفهومه كذلك، بل كان العرض خارجاً، مرتبط بمعروضه الخارجي وملابساته من الزمان والمكان والآلة والمفعول وغير ذلك من الملابسات، فدعت الحاجة إلى إيجاد الربط بين معنى اللفظ الدال على العرض ومعنى اللفظ الدال على المعروض، وكذا سائر الملابسات في مقام المعاني ليقوم الربط بين المداليل في الكلام بحيث يعدّ نسبة الربط فيه إلى النسبة الخارجية مثل الظل إلى ذي الظلّ.و ليس المراد أنّ النسبة الخارجيّة محقّقة للنسبة الكلامية، نظير فرد الإنسان خارجاً، حيث إنّه يكون تحققاً لطبيعيّ الإنسان، بل المراد أنّ قيام الحركة مثلاً بالإنسان كاف في ارتباطها به خارجاً ولكن معنى لفظ الحركة غير مرتبط بمعنى الإنسان، فوضعت الحروف لإيجاد الربط بينها في مقام التكلّم، ثمّ إنّه ربّما يكون هذا الارتباط الكلاميّ متّفقاً مع الإضافة الخارجية، توافق الظلّ وذيه، فيكون الكلام صادقاً، وربّما لا يوافقها، فيكون كاذباً، فالمستعمل فيه في الحروف إيجادي، لكن لا كالإيجاد في إنشاء البيع والطلب، بأن يوجد البيع والطلب خارجاً وفي عالم الاعتبار، بل الإيجاد في الحروف بمعنى تحقيق الربط بين مدلول أجزاء الكلام.نعم في الحروف غير النسبيّة يكون الموجود فرداً خارجياً من النداء والتشبيه والجواب وغير ذلك(2).أقوليرد عليه (قدس سره) أنّ دعواه بأنّ المعاني الإسمية لا يمكن لحاظها مرتبطة بنحو ارتباط بعضها ببعض إلاّ بالتكلّم بالحروف، لا يمكن الالتزام بها، حيث يمكن للإنسان لحاظ شيئين مرتبطين خارجاً بما هما عليه من الارتباط، فكما أنّ اللفظ الموضوع لكلٍّ منهما يحكي عنهما خارجاً بصورتهما المرآتيّة، كذلك الحرف بصورته المتدلّية في معناهما، يحكي عمّا هما عليه من الارتباط خارجاً، فيمكن وضع لفظ للصورة المتدلّية في صورتي الشيئين المرتبطين خارجاً، ويكون اللفظ بحكايته عن تلك الصورة المتدلّية (الحاكية عن الخارج) موجباً لحصول الارتباط بين معنى كلٍّ من الإسمين.وبتعبير آخريكون الفرق بين معاني الأسماء والحروف أنّ معاني الأسماء إخطارية، بمعنى أنّه ينسبق منها معانيها إلى الأذهان ولو عند التلفّظ بكلٍّ منها منفرداً، بخلاف الحروف فإنّه لا ينسبق منها المعاني إلاّ إذا تلفّظ بها في ضمن تركيب كلامي، وهذا معنى كون معاني الحروف غير إخطاريّة.وهو لا يقتضي الإيجاديّة، فلا ملازمة بين الإيجاديّة وغير الإخطاريّة.نعم للمعنى الحرفي نوع خاصّ من الإخطار وهو الإخطار الضمني، أي في ضمن التراكيب الكلاميّة، بخلاف المعنى الإسمي فهو إخطاري استقلالاً.وممّا ذكر ظهر أنّه لا مقابلة بين إخطاريّة معنى اللفظ وبين كونه إيجادياً حتّى يكون نفي الأول مستلزماً لإثبات الثاني.ثمّ إنّه (قدس سره) ذكر أنّ معاني الحروف تكون آليّة ومغفولا عنها، بخلاف الاسماء.فهذا لا يمكن المساعدة عليه أيضاً، فإنّه إن كان المراد بالآليّة عدم كون تفهيمها هو المقصود الأصلي للمتكلم، فمن الظاهر أنّه كثيراً ما يكون الغرض الأصلي من التكلّم تفهيم الارتباط بين شيئين خارجاً، لعلم السامع بحصول كلٍّ منهما وعدم علمه بالارتباط الخاصّ بينهما، وإن كان المراد أنّ نظر المتكلّم إلى صورها المتدلّية في غيرها نظر مرآتي، فهذا النظر المرآتي حاصل في معاني الأسماء وغيرها، حيث إنّ المتكلّم عند التكلّم ينظر بالمعاني التي هي في حقيقتها صور للأشياء إلى نفس الأشياء في مواطنها.إذن فالحقّ في المقام والذي يقتضيه التأمّل في معاني الحروف هو أنّها موضوعة لإفادة خصوصية في مدلول مدخولاتها بحسب الوعاء المناسب لتلك المدخولات، فمثلا لفظة «في» موضوعة لتدخل على الإسم وتدلّ على أنّ مدخولها متّصفٌ بكونه ظرفاً بحسب الخارج.وليس المراد أنّ لفظة «في» ترادف لفظ «الظرف» ليكون معنى «في» ظرفاً بالحمل الأوّلي أو بالحمل الشائع، بل المراد أنّ معنى لفظ «ظرف» معنى إسمي وأنّ لفظة في وضعت لتكون بعد دخولها على الإسم دالّة على أنّ ذلك المدخول موصوف خارجاً بكونه ظرفاً لشيء يذكر في الكلام أو ذكر سابقاً، كما أنّ «كاف التشبيه» موضوعة لتكون دالّة على أنّ المعني بذلك الإسم خارجاً مشبّه به، ولفظة «من» وضعت لتكون دالّة على أنّ مدلول ذلك الإسم خارجاً معنون بعنوان المبدأ، وكلمة «نعم» موضوعة لتدخل على الجملة ولتدلّ على أنّ مضمونها هو الجواب ولفظة «لا» موضوعة لتدخل عليها فتدل على انتفاء مضمون تلك الجملة بحسب الخارج وهكذا وهكذا، كما هو الحال في الاعراب والهيئات الداخلة على الأسماء والجُمل.وبتعبير آخر: كما أنّ حالات الإعراب موضوعة لتدلّ على أنّ معنى مدخولها بحسب الخارج متّصف بكونه مصداقاً للفاعل أو المفعول أو غيرهما، كذلك الحروف موضوعة لتكون بدخولها على الإسم أو غيره دالّة على خصوصية مدخولها بحسب الخارج، فمثلا إذا قيل(الصلاة في المسجد أفضل من الصلاة في غيره) يكون لفظ «في» دالاًّ على أنّ المسجد متّصف بكونه ظرفاً فتكون الهيئة الكلامية دالّة على أنّ الصلاة المفروض كون المسجد ظرفاً لها محكومة بما ذُكر، وعليه فلفظة «في» لم توضع لتقييد معنى الصلاة وتضييقها بالظرف.نعم بما أنّها موضوعة للدلالة على كون مدخولها ظرفاً، تكون الصلاة المفروض لها الظرف الخاصّ أخصّ من طبيعيّ الصلاة، وأمّا إذا لم يكن في البين شيء قابل للتضييق لم يحصل ذلك التقييد كما في قولنا (زيد كالأسد) أو (في الدار) إلى غير ذلك.والحاصل؛ أنّ الفرق بين الحروف والأسماء يكمن في أنّ الأسماء موضوعة للعناوين (ولذا تكون معانيها إخطاريّة بالمعنى المتقدّم) بخلاف الحروف، فإنّها موضوعة لتدل على اتّصاف مدخولاتها بالعناوين بحسب الوعاء المناسب لتلك المدخولات (ولذا تكون معانيها في مداليل مدخولاتها).ومما ذكر يظهر ضعف القول بأنّ الحروف موضوعة لتضييق معاني الأسماء وتقييدها(3).فإنّ التضييق وإن كان يحصل في المورد القابل له عند استعمال الحروف في معانيها إلاّ أنّه لم يكن بموضوع لها، بل التضييق والتقييد لازم للمعاني الحرفية في المورد القابل.لا يقالما الفرق بين لفظ «زيد» الحاكي عن مصداق خاصٍّ للإنسان، وبين لفظة «في» الحاكية عن مصداق الظرف، فلو كان مجرّد الحكاية عن مصداق عنوان موجباً لكونه حرفاً، لزم كون معنى لفظ «زيد» أيضاً حرفياً.فإنّه يقالمعنى لفظ «زيد» إخطاري يحكي عن نفس المصداق ولو بعنوان مشير إليه ولا يحكي عن جهة كونه مصداقاً لعنوان الإنسان، بل الحاكي عن هذه الجهة الهيئة التركيبية في قولنا «زيد إنسان»، وهذا بخلاف لفظة «في» حيث إنّ معناها لا يكون إخطارياً، ولفظة «في» لا تحكي عن نفس مصداق عنوان الظرف، بل الحاكي عن نفس المصداق مدخولها، وهو لفظ الدار، فيكون مدلول لفظة «في» اتّصاف مدخولها بكونه ظرفاً.وبما ذكرناه من معنى الحروف تبيَّن صحّة تعريف الحرف بأنّهما دلّ على معنىً في غيره، على أن يكون المراد بالغير مدخوله.كما تبيّن أيضاً أنّ ما اشتهر من عدم المعنى للاعراب، غير صحيح على إطلاقه، فإنّ الاعراب وإن لم يكن له معنىً إخطاري إلاّ أنّه إذا دخل على المعرَب دلَّ على خصوصية في معناه بحسب الوعاء المناسب له، فما قيل من أنّ الحروف لو كانت كالاعراب في عدم المعنى، لزم أن يكون معنى مفردات الكلام مساوياً لمعنى الكلام، بأن يكون معنى «زيد» «دار» مساوياً لمعنى «زيد في الدار» غير صحيح؛ إذ هو يبتني على أن يكون الإعراب لا معنى له، وقد عرفت خلافه.لا يقالما الفرق بين معاني أسماء الأعراض ومعاني الحروف، فكما أنّ العرض يكون خصوصية بحسب الخارج لمعروضه، كذلك معاني الحروف.فإنّه يقالإنّ أسماء الأعراض تحكي عن نفس الخصوصية بنحو الإخطار، ولو لم تكن في ضمن تركيب كلامي، غاية الأمر تكون وجوداتها قائمة بالمعروض، وكون وجوداتها كذلك بإدراك العقل لا بدلالة اللفظ، بخلاف الحروف فإنّه ليس لها معان إخطارية، بل حيث تدخل على الأسماء تكون دالّة على أنّ مدخولاتها متّصفة بالعناوين الإسميّة في الوعاء المناسب لها، ويعبّر عن تلك العناوين الإسمية بالأعراض والخصوصيّات.وقد انقدح ممّا تقدّم أنّ معاني الحروف لا تتّصف بالكلّية والجزئية؛ لكونها متدلّيات بمعاني دخولاتها، فإن كان مدخول الحروف كلّياً أو مما يصدق على الكلّ والأبعاض، كانت معاني الحروف الداخلة عليه كذلك، فيكون معناها قابلا للتقييد بتبع تقييد المدخول، وإن كان مدخولها جزئيّاً كان معنى الحرف الداخل عليه قابلا للتعيين بحسب ما يقبله ذلك الجزئيّ من التعيين بحسب الحال والزمان.وبتعبير آخر: الأزمنة التي توجد فيها الدار المفروضة كحالاتها متعددة فيمكن تقييدها ببعضها، والحرف الداخل على كلمة الدار يقبل هذا النحو من التقييد، وإن لم يكن مدخول الحرف قابلا حتّى لهذا النحو من التقييد، لم يكن معنى الحرف قابلا للتقييد أصلاً، كما في أوّل ساعة من يوم الجمعة من الشهر الفلاني من السنة الفلانية، فإذا قيل(مات زيد في أوّل ساعة من ذلك اليوم) فلا يكون المعنى الحرفي قابلا للتقييد.هذا كلّه في تقييد معاني الحروف، وأمّا تقييد معاني الهيئات فيأتي الكلام فيها في بحث الواجب المطلق والمشروط إن شاء اللّه تعالى.(1).نهاية الدراية1 / 51.(2).أجود التقريرات1 / 16.(3).محاضرات في أُصول الفقه1 / 75. ثمّ إنّه لا يبعد أن يكون الاختلاف في الخبر والإنشاء أيضاً كذلك[1].ويمكن أن يقال المستعمل فيه في مثل أسماء الإشارة[2].صحة استعمال اللفظ فيما يناسب ما وضع له بالطبع أو بالوضع[3].
الخبر والإنشاء
[1] يعني كما أنّ الفرق بين الإسم والحرف لم يكن إلاّ في ناحية الوضع مع كون الموضوع له والمستعمل فيه واحداً فيهما، فلا يبعد أن يكون الفرق بين الجملة الخبرية والجملة الإنشائيّة كذلك، بأن يكون الموضوع له والمستعمل فيه فيهما واحداً، غاية الأمر الوضع في الجملة الإنشائيّة مشروط بإرادة المعنى بنحو خاصّ، وفي الجملة الخبرية بإرادته بنحو آخر.توضيح ذلك أنّ ثبوت النسبة في موطنها وانتفائها فيه على اختلاف أنحائها لها صور عند النفس، ولو كانت تلك الصور متدلّية في طرفيها، مثلا نسبة المحمول إلى الموضوع واقعها اتّحادهما وجوداً بنحو خاصّ، أو مفهوماً أيضاً، ونسبة المبدأ إلى الفاعل عبارة عن قيام المبدأ به صدوراً أو حلولا أو غيرهما، والصور في جميع ذلك هي الموضوع لها في الهيئات وتلك الصور وإن كان لها وجودات في أُفق النفس إلاّ أنّ الهيئات لم توضع لتلك الوجودات بل وضعت لذواتها وإذا خاطب المتكلم شخصاً بقوله: (أطلب منك ضرب زيد) بنحو الإخبار، أو (طلبت ضربه منك)، وقال الآخر لمخاطبه(اضرب زيداً) إنشاءاً، فالكلامان مترادفان في المعني، وإنما يختلفان في نحو إرادة ذلك المعنى، فإنّه في الإخبار يقصد المتكلم الحكاية عن ثبوت المضمون في موطنه، وفي الإنشاء يقصد أن يثبت ذلك المضمون ويتحقّق في موطنه.ومما ذكرنا يظهر أنّ في عبارته (قدس سره) حيث قال«في حكاية ثبوت معناه» و«في قصد تحقّقه» تسامحاً، فإنّ المناسب تبديل لفظة «في» باللاّم؛ لأنّ الحكاية أو التحقّق غاية للاستعمال في الإخبار والإنشاء كما هو المدّعى، لا أنّهما داخلان في الموضوع له أو المستعمل فيه.وبتعبير آخر: الفرق بين مثل قول المولى لعبده (أطلب خروجك إلى السفر) بنحو الإخبار، وبين قوله لعبده الآخر(أُخرج إلى السفر) إنشاءاً، بعد اشتراكهما في أنّ مدلول كلٍّ منهما ثبوت طلب الخروج من المولى، هو أنّ الشرط في وضع هيئة فعل المضارع كون الداعي للمستعمِل من نقل ثبوت الطلب إلى ذهن المخاطب، حكاية ثبوته، بينما الشرط في وضع صيغة إفعل كون الداعي إرادة ثبوت الطلب بذلك الاستعمال.وقد ظهر مما ذكرنا أنّه لا فرق عند الماتن (قدس سره) بين قول القائل: (بعت داري بكذا) إخباراً، وبين قوله: (بعت داري بكذا) إنشاءاً، إذ الهيئة فيهما قد استُعملت في معنىً واحد، وهو ثبوت بيع الدار، وكذا قوله: (اضرب زيداً) إنشاءً، و(أطلب منك ضرب زيد) إخباراً، فإنّهما قد استُعملا في ثبوت الطلب والبيع، وإنّما الاختلاف في أنّ إنشاء البيع بقوله(بعت داري) استعمال بغير الوضع وإنشاء الطلب في (اضرب زيداً) استعمال بالوضع.نعم ربّما لا يكون ثبوت الشيء أو ثبوته لشيء آخر قابلا للإنشاء، نحوزيد أسود اللون، وهذا لا يوجب أن لا يكون المستعمل فيه ثبوت سواد اللون لزيد، بل المستعمل فيه ذاك، فلا يكون قصد الحكاية داخلا في الموضوع له والمستعمل فيه.وذكر المحقق الاصبهاني (قدس سره) أنّ الأمر في مثل قوله «بعت داري» من الصيغ المشتركة بين الإخبار والإنشاء هو كما ذكره (قدس سره)من أنّ المستعمل فيه للهيئة نسبة بيع الدار إلى المتكلّم، وهذه النسبة تكون لقصد الحكاية تارةً، ولقصد الإنشاء أُخرى.وأمّا في مثل قوله: (اضرب زيداً) وقوله(أطلب منك ضرب زيد) ممّا لا اشتراك فيه بين الجملة الإنشائية والجملة الخبرية لفظاً وهيئةً، فلا يتمّ ذلك؛ لأنّ الأوّل موضوع للبعث الاعتباري لا بما هو هو، بحيث يكون البعث ملحوظاً بذاته، بل بما هو نسبة بين المتكلّم والمادّة والمخاطب، ولذا لا تكون لتلك النسبة واقعية لتطابقها أو لاتطابقها.وبتعبير آخر: كما أنّه إذا حرّك شخص غيره نحو الفعل تحريكاً خارجياً لايكون ذلك التحريك الخارجي ملحوظاً بذاته، بل الملحوظ هو الفعل من المحرَّك، كذلك في التحريك والبعث الإنشائي الاعتباري، يكون الملحوظ بالذات نفس المادّة من المخاطب، كما في قوله: (اضرب زيداً)، وأمّا إذا قال: (أبعثك نحو ضرب زيد) أو (أُحرّكك نحو ضرب زيد) أو (أطلب منك ضرب زيد) إخباراً، فليس الملحوظ بالذات ضرب زيد (بأن يكون البعث مفاد الهيئة وملحوظاً لا بذاته) حتّى يقال لا فرق في المعنى بين الهيئة الإنشائية والإخبارية؛ لأنّ البعث معنى واحد، والتفاوت باللّحاظ غير المقوّم للمستعمل فيه، بل مضمون الهيئة ومدلولها في موارد الإخبار نسبة نفس البعث إلى المتكلّم بنسبة صدورية، وكم فرق بين النسبة البعثية وبين نسبة البعث(1)؟ أقول: يرد على المصنّف (قدس سره) أنّه لو لم يكن فرقٌ في ناحية المستعمل فيه والموضوع له في قوله(اضرب زيداً) إنشاءً، و(أطلب منك ضرب زيد) إخباراً؛ لكان استعمال الأوّل في مـورد الثاني صحيحاً، غاية الأمر لا يكون الاستعمال على طبق الوضع فيحتاج إلى القرينة، كما تقدّم في استعمال الحروف في موضع الإسم.ويرد على ما ذكره المحقّق الاصفهاني (قدس سره) أنّ ما ذكره هو بيان للفرق بين الهيئة الداخلة على المادّة المضاف إليها الطلب، كما في قوله: (إضرب زيداً) وبين الهيئة الداخلة على مادة الطلب عند إرادة الحكاية عن نفس الطلب، كقوله: (أطلب منك ضرب زيد) وأنّه يكون الطلب في الأوّل ملحوظاً آليّاً، وفي الثاني ملحوظاً استقلالا، وهذا الفرق ممّا لابدّ منه على مسلكهم، حيث إنّ استعمال الهيئة في الأوّل في الطلب لا يزيد على استعمال الحروف، بخلاف قوله(أطلب منك ضرب زيد» فإنّ دلالته على الطلب بمادّته وبمدخول الهيئة، ومعنى الطلب فيه لابدّ أن يكون ملحوظاً بذاته، كالمعنى الإسمي في استعمال سائر الأسماء إلاّ أنّ هذا ليس فرقاً بين الإنشاء والإخبار، فإنّه لو قصد من قوله (أطلب منك ضرب زيد) الإنشاء لكان بين مدلوله ومدلول قوله (إضرب زيداً) ذلك الفرق، بمعنى أنّ المنتسب إلى المتكلّم في الثاني هو الضرب بنسبة طلبيّة وبعثية، وفي الأوّل المنسوب إليه طلب الضرب بنسبة قياميّة، وليس هذا محل الكلام وإنّما الكلام في المائز بين الإنشاء والإخبار وأنّ ذلك الميز داخل في المستعمل فيه والموضوع له، أو أنّه أمرٌ خارج عنهما وأنّه شرط للوضع في كلّ من الجملة الإنشائية والخبرية.ويشهد لما ذكرنا أنّه لو أراد من قوله (أطلب منك ضرب زيد) الإنشاء تارةً والإخبار أُخرى، لما كان بينهما فرقٌ في كون الطلب المتعلّق بضرب زيد ملحوظاً بذاته، كما لا يخفى.وذكر سيدنا الاستاذ (قدس سره) أنّ الجملة الخبريّة لا يمكن وضع هيئتها للنسبة الخارجيّة ـ أي وضعها لثبوت شيء لشيء خارجاً ـ فإنّه ربّما لا تكون في الخارج نسبة كما في (الإنسان موجود) أو (شريك الباري ممتنع) أو (الإنسان ممكن) والالتزام باستعمال الهيئة في مثل هذه الموارد بالعناية خلاف الوجدان، مع أنّه لا معنى لدلالة الهيئة على النسبة الخارجيّة فإنّها لا تفيد الظن بالثبوت الخارجي، فضلا عن العلم به، ولا معنى لدلالة الهيئة على النسبة الخارجيّة، غير كونها كاشفة عنها علماً أو ظناً، كما لا معنى لوضعها للنسبة الكلامية بأن توجد النسبة بين أجزاء الكلام ـ نظير ما تقدّم في الحروف من أنّها موضوعة لإيجاد الربط بين المعاني الإسميّة ـ.نعم الجملة الإسميّة يوجب سماعها انتقال الذهن إلى ثبوت المحمول للموضوع بنحو التصوّر، ولكنّ ذلك المتصوّر لا يمكن أن يكون مستفاداً من الهيئة ومدلولا لها، فإنّها من قبيل التصوّر، ومفاد الهيئة في الجملة الخبريّة تصديقي.فالصحيح أنّ الهيئة في الجملة الخبرية موضوعة للدلالة على قصد المتكلم الحكاية عن الثبوت الواقعي، أي ثبوت شيء لشيء، ويعبّر عن ذلك بثبوت المحمول للموضوع أو ثبوت شيء في موطنه من ذهن أو خارج.وبتعبير آخرتكون الهيئة بحسب وضعها كاشفة عن قصد المتكلّم الإعلام بالثبوت الواقعي، حيث إنّ الوضع في الألفاظ ـ كما تقدم ـ بمعنى التعهّد والالتزام، والتعهّد من شخص إنّما يتعلّق بفعل نفسه وعلم الغير بثبوت شيء لشيء، أو ظنّه به خارج عن اختيار المتكلّم، فلا يتعلّق به التعهّد، والذي هو فعل اختياري له، هو قصد الحكاية عن ثبوت شيء لشيء أو نفس ثبوته أو لا ثبوته، وعلى ذلك فلا يكون الصدق والكذب من أوصاف نفس مدلول الجملة الخبريّة، بل من أوصاف متعلّق المدلول، (يعني الحكاية).هذا بالإضافة إلى الجملة الإسمية المستعملة في مقام الإخبار، وأمّا إذا كانت فعليّة فهيئتها أيضاً تدلّ على قصد الحكاية عن تحقّق المبدأ بنحو المضي أو الترقّب(2).أمّا الإنشاء فهو عبارة عن إبراز اعتباره فيما يكون ثبوت الشيء بذلك الاعتبار، والاعتبار وإن كان أمراً نفسانيّاً إلاّ أنّه غير قصد الحكاية.وما اشتهر من أنّ الإنشاء عبارة عن إيجاد المعنى خارجاً باستعمال اللفظ، لا يمكن المساعدة عليه؛ وذلك لأنه إن أُريد من المعنى في إنشاء البيع مثلا الملكيّة التي يعتبرها المتكلّم، فلا يكون إيجادها باللفظ، بل وجودها بالاعتبار القائم بالنفس ولا يحتاج إلى اللفظ، بل اللّفظ مبرز لذلك الاعتبار، وإن أُريد الملكيّة العقلائيّة أو الشرعيّة ـ يعني إمضاء العقلاء أو الشارع لتلك الملكيّة ـ فمن الظاهر أنّ إمضاء العقلاء أو الشارع لا يكون من فعل المستعمل ليوجده باللفظ أو بغيره، بل هو فعل العقلاء والشارع، فيكون حكماً مترتباً على الإنشاء أو المنشأ لا موجوداً بفعل المستعمل للجملة الإنشائية(3).أقول: أوّلاً: إنّه قد اعترف (نوّر اللّه مضجعه الشريف وجزاه عن العلم وأهله خيراً) بأنّ سماع الجملة الخبريّة الإسمية يوجب انتقال الذهن إلى ثبوت المحمول للموضوع، وكذا ثبوت الشيء لشيء أو وقوعه منه، فيما كانت الجملة الخبرية فعليّة، مثل ضربتُ أو قمتُ، وحينئذ نقولما الموجب لهذا الانسباق؟ هل هو إلاّ الوضع، فلو كانت الهيئة موضوعة لقصد الحكاية عن النسبة الخارجية لكان الذهن ينتقل إلى قصد الحكاية عنها، لا إلى نفس صورة الثبوت الخارجي أو لا ثبوته، مع أنّه لا يحرز قصد الحكاية إلاّ إذا أحرز أنّ المتكلّم شاعر يريد بكلامه تفهيم المعنى، فليست الهيئة موضوعة لقصد الحكاية كما أنّها ليست موضوعة للثبوت الخارجي ـ أي نفس النسبة الخارجية ـ ليلزم أن لا يكون في مورد كذب المتكلّم استعمال أصلا.بل الموضوع له والمستعمل فيه للهيئة هي صورة النسبة الخارجية.ولكن هذه الصورة ليس لها استقلال بل متدلية في أطرافها وخصوصية لها على نسق ما ذكرنا في معاني الحروف، وقد أغمض في وضع الهيئات عن كون تلك الصورة في أُفق النفس، كما هو الحال في وضع الأسماء وغيرها، ومعنى دلالة الهيئة على تلك النسبة انتقال تلك الصورة إلى ذهن سامع الهيئة في ضمن سماع أسامي الأطراف والمواد، فإن كان غرض المتكلّم من إحضار تلك الصورة (التي تلاحظ مرآة للخارج) إرادة تفهيم فعلية ذي الصورة مع قطع النظر عن الاستعمال المفروض كان ذلك إخباراً وإن كان غرضه حصول ذي الصورة بذلك الاستعمال والاحضار كان إنشاءً.وثانياًإنّ ما ذكره (قدس سره) من أنّ الجملة الخبرية مفادها التصديق، وتلك الصورة من قبيل التصور لا التصديق.ففيهأنّ الاعتقاد بثبوت شيء لشيء خارجاً تصديق بالإصطلاح المنطقي، وغير داخل في مدلول الجملة الخبرية بوجه، والتصديق في مدلول الجملة الخبرية هو التصديق باصطلاح علماء الأدب، وهو الدلالة على النسبة التي يصحّ سكوت المتكلّم عليها، وهذا حاصل في استعمال الجملة الخبرية لا محالة فهو تصديق بالإصطلاح الأدبي، وإن كان تصوراً بالإصطلاح المنطقي.وثالثاً: إنّ ما ذكره (قدس سره) من أنّ الأُمور الإنشائيّة يكون حصولها بالاعتبار القائم بالنفس ولا يحتاج إلى اللفظ، بل اللفظ مبرز لذلك الاعتبار، لا يمكن المساعدة عليه، فإنّ الإنشائيّات وإن كان اعتبارها بالنفس، إلاّ أنّها أُمور إبرازيّة أيضاً، فما لم يكن في البين إبراز لا يحصل ذلك الأمر الاعتباري حتّى في اعتبار المعتبر، فلو اعتبر الدائن براءة ذمّة المديون، ولكن لم يبرز أصلا، لم يكن إبراءً بوجه، حتّى بنظره (قدس سره)، فلو سألناه عن إبرائه ذمّة زيد ـ مثلاً ـ فلا يصحّ له أن يقول إخباراً (إنّه بريء الذمّة) ويصحّ أن يقول(إنّه بريء الذمّة) إنشاءاً، فإبراء الذمّة لم يحصل حتّى بنظر المعتبِر قبل الإبراز، فكيف يعتبره موجوداً قبل الإبراز؟ فالمختار في المقام هو أنّ الموضوع له و المستعمل فيه للهيئة هي صورة النسبة الخارجية، ولكن هذه الصورة ليس لها استقلال بل متدلّية في أطرافها وأنّها خصوصية لها على نسق ما ذكرنا في معاني الحروف، وقد أُغمض في وضع الهيئات عن كون تلك الصورة في أُفق النفس كما هو الحال في وضع الأسماء وغيرها.ومعنى دلالة الهيئة على تلك النسبة انتقال تلك الصورة إلى ذهن سامع الهيئة في ضمن سماع أسامي الأطراف والمواد، فإن كان غرض المتكلّم من إحضار تلك الصورة (التي تلاحظ مرآة للخارج) إرادة تفهيم فعليّة ذي الصورة مع قطع النظر عن الاستعمال المفروض، كان ذلك إخباراً، وإن كان غرضه حصول ذي الصورة بذلك الاستعمال والإحضار، كان إنشاءً.وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ قول المخبر (بعت داري بكذا) في مقام الإخبار، وقول منشيء البيع في مقام إنشائه (بعت داري بكذا) لا يختلفان في المستعمل فيه، بل المستعمل فيه في كلا المقامين هو صورة وقوع البيع خارجاً، ولكنّ الغرض من إلقاء تلك الصورة إلى ذهن المخاطب يختلف، ففي مقام الإخبار يكون غرضه أن يُفهم السامع الوقوع الخارجي، مع قطع النظر عن هذا الاستعمال، سواء كان السامع بعد إلتفاته إلى وقوعه بصورته جازماً به أو ظانّاً أو شاكّاً أو حتّى جازماً بالعدم؛ ولذا يصحّ أن ينسب إلى المتكلّم أنّك ذكرت لنا وقوع البيع، كما يصحّ للمتكلّم أن يقول: ذكرت لكم وقوع البيع، وفي مقام الإنشاء يكون غرضه من إحضار صورة وقوع البيع هو أن يتحقّق ذو الصورة خارجاً بذلك الإحضار بالتكلّم أو بغيره، فلو باع الوكيل متاعاً وحين إنشاء الوكيل البيع قال المالك لشخص آخر: (بعت مالي) إخباراً ببيع وكيله، لم يكن قول المالك إنشاءاً، بل هو إخبار، يخالف قول وكيله لمشتري المتاع(بعت) فإنّه إنشاء.وبالجملة الإنشاء هو إحضار صورة وقوع الشيء بالتكلّم أو بغيره، لغرض تحقّق ذي الصورة خارجاً بالاعتبار، سواء كان إحضار تلك الصورة بنحو المعنى الحرفي أو بنحو المعنى الإسمي، فقوله للمخاطب: (إضرب زيداً) وقوله(أطلب منك ضرب زيد) إنشاءاً كلاهما إحضار لصورة البعث المتعلّق بضرب المخاطب إلاّ أنّه في الأوّل بنحو المعنى الحرفي، وفي الثاني بنحو المعنى الإسمي، وبكل منهما يحصل البعث خارجاً ولو بالاعتبار.نعم مقتضى ما تقدّم هو أنّ الإنشائية والإخبارية إنّما تنشئان من الغرض من نقل صورة وقوع الشيء خارجاً إلى ذهن السامع، لا أنّ الهيئة في الجملات لا دلالة لها على تعيين الغرض من الإحضار بالوضع، فإنّ هذا أمر لا يمكن إنكاره، فهيئة (إضرب) وإن كانت توجب انتقال صورة بعث المخاطب نحو الضرب ولو بنحو المعنى الحرفي، إلاّ أنّها تدلّ أيضاً على تعيين الغرض وهو إيجاد الطلب خارجاً.كما أنّ الجملة الخبرية بهيئتها تدلّ على أنّ الغرض من الإحضار حكاية حصول ذي الصورة، ولذا تكون إرادة الإنشاء من الجملة الخبرية محتاجة إلى القرينة ولكن لا يصحّ إرادة الإخبار من الهيئة الموضوعة للإنشاء فلا يصحّ قوله للمخاطب (بع المال) إخباراً بالبيع؛ لأنّ الكلام الدالّ على طلب البيع من المخاطب لا يناسب إخباره به، فإنّ الطلب منه يستلزم عدم حصول البيع فعلا، والإخبار والحكاية يتوقّف على الفراغ عن حصوله، فالإخبار بوقوع شيء بالجملة الإنشائية يشبه طلب الحاصل الركيك، بخلاف استعمال الجملة الإخبارية لغرض إنشاء طلبه، فإنّ التعبير عن طلب شيء بوقوعه ولو مستقبلا يناسب شدّة الطلب والشوق والوثوق بالفاعل، وهذه مناسبة توجب حسن استعمال الجملة الخبرية في مقام الإنشاء.الوضع في أسماء الإشارة
[2] ظاهر كلامه(قدس سره) أنّ الموضوع له والمستعمل فيه في أسماء الإشارة والضمائر وسائر الأسماء المبهمة كالموصولات، هو معنى عامّ كالمفرد المذكر، بأن يكون لفظ (هذا) مرادفاً للفظ المفرد الموصوف بالتذكير، غاية الأمر الاختلاف بينهما بالوضع حيث أنّ لفظ (هذا) موضوع لذلك المعنى العامّ على أن يشار إليه عند استعماله فيه بالإشارة الخارجيّة، كما أنّ الضمير الغائب كلفظ (هو) موضوع له بشرط أن يشار إليه بالإشارة المعنوية، ولم يؤخذ في ناحية الموضوع له والمستعمل فيه قيد، وإنّما أُخذ في ناحية نفس الوضع، كما تقدم في معاني الحروف، وعلى ذلك فضمير المخاطب مثلا يكون لنفس ذلك المعنى العامّ يعني الفرد الموصوف بالتذكير، ويكون وضعه له مشروطاً بالتخاطب معه عند استعماله في ذلك المعنى.وبالجملة دعوى أنّ الموضوع له والمستعمل فيه في الأسماء المفروضة كالوضع فيها عامّ وإنّما الخصوصية والتشخّص ناشئة من الإشارة والتخاطب، حيث أنّ الإشارة لا تكون إلاّ إلى الشخص، والخطاب لا يكون إلاّ مع الشخص، غير بعيدة.أقول: لا ينبغي التأمّل في أنّ لفظ (هذا) لا يكون مرادفاً للمفرد المذكر المشار إليه أو معنى لفظ المفرد المذكر عند الإشارة إليه، نعم لو قيلإنّ (هذا) إسم لما يصحّ إطلاق عنوان المفرد المذكّر عليه عند الإشارة إليه، صحّ، سواء كان ما يطلق عليه من قبيل الموجود الخارجي أو الموجود الذهني أو معنىً من المعاني المفردة أو التركيبية.ولا يعتبر في استعمال (هذا) كون الإشارة خارجية، بل ربّما تكون الإشارة معنوية، كما في قولك: (الإنسان مدرك للكليات)، وبهذا يمتاز عن سائر الحيوانات حيث إنّ الإشارة بهذا في المثال معنوية، وكما في قولك(الإنسان كلي يصدق على كثيرين، وهذه الكلية ليس موضعها الإنسان الخارجي).نعم ضمير الغائب كـ«هو» تكون الإشارة فيه معنوية إلى السابق ذكراً أو ذهناً، بخلاف ضمير الخطاب، فإنّه للإشارة إلى المخاطب الحاضر حقيقةً أو ما يكون بمنزلة الحاضر، وبما أنّ خصوصيّة الإشارة مستفادة من اللفظ، فكيف لا تكون داخلة في معناه ولو بنحو التقيد؟ ثمّ إنّ الإشارة في استعمال (هذا) في الخارجيات بمثل الاصبع ونحوه إنّما هو لتعيين المشار إليه لا لخصوصية الإشارة، كما يظهر للمتدبر.وممّا ذكرنا يظهر أنّ الوضع في تلك الأسماء عامّ، والموضوع له خاصّ، ولا نعني بالخاصّ، الجزئي الخارجي، بل ما ينطبق عليه عنوان الفرد المذكر ولو كان في نفسه معنى من المعاني وطبيعة من الطبائع، كما لا يخفى.الاستعمال المجازي
[3] المراد بصحة الاستعمال حُسنه عند أهل المحاورة، بأن لا يستهجن عندهم استعمال اللفظ في المعنى المفروض، وهل الصحة محتاجة إلى الوضع بمعنى ترخيص الواضع في خصوص ذلك الإستعمال (ويسمّى بالوضع الشخصي) أو ترخيصه في نوع ذلك الاستعمال بأن يرخص الاستعمال فيما كانت بين الموضوع له والمستعمل فيه إحدى العلاقات المعروفة، أو لا تحتاج إلى شيء من ذلك، بل كل استعمال لايكون مستهجناً عندأهل اللسان وكان استعمالا للفظ فيما يناسب معناه عندهم فهو صحيح، حتّى مع منع الواضع عنه فضلا عن عدم ترخيصه، وكل مايكون مستهجناً عندهم ولاتقبله الطباع فهو غير صحيح حتّى لو رخّص الواضع فيه.قال سيّدنا الأُستاذ (قدس سره): إنّ البحث في أنّ المجاز محتاج إلى وضع شخصي أو نوعي، يتوقّف على أمرين: أحدهما: ثبوت الاستعمالات المجازيّة، بأن يستعمل اللفظ الموضوع لمعنى في غير ذلك المعنى، وأمّا بناءً على ما ذهب إليه السكاكي في باب الاستعارة من أنّ اللفظ يستعمل دائماً في معناه الموضوع له ويكون تطبيقه على غير مصداقه، بدعوى أنّه فرده، فلا يبقى مجال لهذا البحث، والصحيح ما ذهب إليه السكاكي والوجه فيه أنّه يفهم الفرق بين قول القائل: (زيد أسد، أو أنّه قمر) وبين قوله(زيد شجاع، أو أنّه حسن الوجه) حيث يفهم المبالغة من الأوّل دون الثاني، ولو كان لفظ (أسد) أو (قمر) مستعملا في معنى الشجاع أو حسن الوجه لما كان بينهما فرق.ثانيهماالالتزام بأنّ الوضع غير التعهّد والالتزام بإرادة المعنى الفلاني عند ذكر هذا اللفظ، وإلاّ فبناءً على مسلك التعهّد يكون كل مستعمل متعهّداً بإرادة ذلك المعنى منه عند ذكره بلا قرينة وإرادة مناسبه عند ذكره مع القرينة سواء كان تعيين ذلك المعنى المناسب أيضاً بالقرينة كما في الوضع النوعي، أو بما عيّنه أولا، كما في الوضع الشخصي(4).أقول: ما ذهب إليه السكاكي من الالتزام بالعناية والمجاز في الإسناد والتطبيق، لا يعمّ جميع الاستعمالات المجازيّة ليقال إنّ أمر التطبيق خارج عن شأن الواضع، بل ذكر ذلك في الاستعارة وهي ما يكون بعلاقة المشابهة في أظهر الأوصاف والخواصّ، وأمّا في موارد سائر العلاقات فلا ينبغي إنكار استعمال اللفظ في غير معناه الموضوع له، كما في قوله: (من قتل قتيلا) وقوله(رأس القوم) وإرادة رئيسهم، و(عين القوم) وإرادة حارسهم، و(أعتق رقبة) وإرادة العبد والمملوك، إلى غير ذلك من الموارد التي لا ينتقل ذهن السامع فيها إلى المعاني الأوّلية للألفاظ، وإنّما ينتقل إلى المعاني التي يستعمل فيها اللفظ (ولو بالقرينة)، حتّى مع جهله بالمعاني الحقيقية، وهذا بخلاف (زيد أسد) أو (أنّ وجهه قمر).وأمّا عدم جريان النزاع على مسلك التعهّد فلا يتمّ أيضاً، وعلى تقديره أيضاً يكون للبحث مجال؛ وذلك لأنّ الوضع ينسب إلى المتعهّد الأوّل؛ ولذا يقال في جواب من سألمن سمّى الولد بهذا الإسم؟ سمّاه أبوه، ولو لم يكن الوضع مستنداً إلى السابق في التعهّد لم يكن للسؤال والجواب مجال، وعلى ذلك يقع الكلام في أنّ استعمال اللفظ المفروض في معنىً آخر يحتاج إلى رخصة الشخص المفروض شخصاً أو نوعاً، أو أنّ كلّ ما تقبله الطباع من الاستعمال يصحّ ولو مع منع ذلك الشخص.(1).نهاية الدراية1 / 61.(2).محاضرات في أُصول الفقه1 / 85.(3).محاضرات في أُصول الفقه1 / 88.(4).المحاضرات1 / 92. كما إذا قيل «ضرب مثلا فعل ماض[1].أو صنفه كما إذا قيل (زيد ـ في ضرب زيد ـ فاعل) إذا لم يقصد شخص القول أو مثله كضرب في المثال فيما إذا قصد.بل يمكن أن يقال إنّه ليس أيضاً من هذا الباب ما إذا أطلق اللفظ وأُريد به نوعه أو صنفه[2].لا ريب في كون الألفاظ موضوعة بإزاء معانيها[3].كما توهّمه بعض الأفاضل[4].لا وجه لتوهّم وضع المركبات غير وضع المفردات[5].