تأملات‌ فی‌ الخطاب‌ الحسینی‌ نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

تأملات‌ فی‌ الخطاب‌ الحسینی‌ - نسخه متنی

محمد مهدی‌ آصفی‌

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

تامّلات‌ في‌

الخطاب‌ الحسيني‌

الشيخ‌ محمد مهدي‌ الا´صفي‌

اولاً ـ تأمّلات‌ في‌ الخطاب‌ الحسيني‌ بمكّة‌ عشيّة‌ مغادرته‌ اءلي‌ العراق‌:

خطب‌ الحسين‌(ع) بمكة‌ عشية‌ خروجه‌ منها الي‌ العراق‌ في‌ ملا من‌المسلمين‌، ونعي‌ نفسه‌ اءليهم‌ واستنصرهم‌ ودعاهم‌ الي‌ الخروج‌ معه‌ علي‌حكومة‌ بني‌ أمية‌. وقد نقلنا الخطبة‌ برواية‌ السيد ابن‌ طاووس‌؛ في‌الملهوف‌:

وفي‌ هذه‌ الخطبة‌ يذكر الاءمام‌ الحسين‌(ع) الموت‌، وينعي‌ فيها نفسه‌الي‌ المسلمين‌ فيقول‌:

«خط‌ّ الموت‌ علي‌ ولد ا´دم‌ مخط‌ّ القلادة‌ من‌ جيد الفتاة‌، وما اولهني‌ الي‌ اسلافي‌اشتياق‌ يعقوب‌ الي‌ يوسف‌، وخيّر لي‌ مصرع‌ انا لاقيه‌، كاني‌ باوصالي‌ تقطّعها عُسْلان‌الفلوات‌ بين‌ النواويس‌ وكربلاء فملان‌ مني‌ اكراشاً جوفا واجربة‌ سغباً، لا محيص‌ عن‌يوم‌ خط‌ّ بالقلم‌، رضي‌' الله رضانا اهل‌ البيت‌، نصبر علي‌ بلائه‌ ويوفّينا اجور الصابرين‌،لن‌ تشذّ عن‌ رسول‌ الله لحمته‌، بل‌ هي‌ مجموعة‌ له‌ في‌ حظيرة‌ القدس‌، تقرّبهم‌ عينه‌،وينجز بهم‌ وعده‌».

ثم‌ يخاطب‌ المسلمين‌ فيقول‌:

«الا ومن‌ كان‌ باذلاً فينا مهجته‌، موطّناً علي‌ لقاء الله نفسه‌ فليرحل‌ معنا، فاءني‌ راحل‌مصبحاً اءن‌ شاء الله».

وسوف‌ نقتصر نحن‌ في‌ هذه‌ التاملات‌ علي‌ شرح‌ الخطاب‌الاخيرللاءمام‌(ع) .

يقول‌ (ع): «الا ومن‌ كان‌ باذلاً فينا مهجته‌، موطّناً علي‌ لقاء الله نفسه‌، فليرحل‌معنا فاءني‌ راحل‌ مصبحاً اءن‌ شاء الله».

واءليكم‌ عشر نقاط‌ في‌ هذه‌ الفقرة‌ من‌ خطاب‌ الحسين‌(ع):

1 ـ ألا ومن‌ كان‌ باذلاً فينا مهجته‌:

الحسين‌(ع) لا يطلب‌ من‌ الناس‌ مالاً، ولا زعامة‌، ولا سلطاناً، ولا شاناًمن‌ شؤون‌ الدنيا، واءنما يطلب‌ منهم‌ مهجهم‌، وهو اغلي‌ واعزّ ما يطلب‌ اءمام‌من‌ ماموميه‌، ولا يدعوهم‌ الي‌ الخروج‌ معه‌ لينالوا فتحاً او سلطاناً اويسقطوا سلطاناً، واءنما يدعوهم‌ للخروج‌ ليبذلوا مهجهم‌ وأفئدتهم‌ودماءهم‌. وهذا نموذج‌ فريد من‌ القادة‌.

اءن‌ القادة‌ لا يريدون‌ من‌ الناس‌ مهجهم‌ وأفئدتهم‌، واءنما يدعون‌الناس‌ لتحقيق‌ اهداف‌ سياسية‌ او عسكرية‌، ويدفعون‌ من‌ مهج‌ الناس‌وأفئدتهم‌ ما تحتاجه‌ هذه‌ الغايات‌، ضريبة‌ للمكاسب‌ والاءنجازات‌ التي‌يطلبونها .

امّا الحسين‌(ع) فيدعو الناس‌ منذ اول‌ يوم‌ الي‌ ان‌ يبذلوا له‌ مهجهم‌وافئدتهم‌ ودماءهم‌.

وهي‌ الميزة‌ الفريدة‌ التي‌ تتميز بها ثورة‌ الحسين‌(ع) عن‌ غيرها من‌الحركات‌ والثورات‌ ووعي‌ هذه‌ الخصلة‌ مسالة‌ مهمّة‌ في‌ فهم‌ ثورة‌الحسين‌(ع).

ـ مقارنة‌ بين‌ الحرّ الرياحي‌ وعبيدالله بن‌ الحر الجعفي‌:

وليس‌ كل‌ّ الناس‌ كانوا يفهمون‌ حقيقة‌ دعوة‌ الحسين‌(ع) يومئذٍ، وقدأدرك‌ ناس‌ من‌ الجبهة‌ الاخري‌ المواجهة‌ والمناوأة‌ للحسين‌(ع) جوهرهذه‌ الدعوة‌، وجهلها ا´خرون‌ من‌ موقع‌ المتخلّفين‌، وموقع‌ التخلف‌ اهون‌علي‌ كل‌ حال‌ من‌ موقع‌ المواجهة‌ علي‌ خارطة‌ الصراع‌.

ولنذكر علي‌ ذلك‌ مثالاً عن‌ هذا الموقع‌ وذاك‌:

لقد ادرك‌ الحر بن‌ يزيد الرياحي‌ ؛ ـ وهو يشغل‌ يومئذٍ رسمياً موقع‌المواجهة‌ من‌ معسكر الحسين‌(ع) ـ حقيقة‌ الدعوة‌ الحسينية‌، وعلم‌ ان‌الحسين‌ لا يطلب‌ من‌ الناس‌ مالاً ولا زعامة‌ ولا سلطاناً واءنما يطلب‌ منهم‌مهجهم‌ وأفئدتهم‌، بينما لم‌ يعرف‌ عبيدالله بن‌ الحر الجعفي‌ هذه‌ الحقيقة‌في‌ دعوة‌ الحسين‌، فلما دعاه‌ الحسين‌(ع) الي‌ ان‌ ينصره‌ ويقف‌ معه‌ اعتذرعن‌ الاستجابة‌، وقال‌: ما عسي‌ ان‌ اغني‌ عنك‌ ولم‌ اخلّف‌ لك‌ بالكوفة‌ناصراً؟ فانشدك‌ الله ان‌ تحملني‌ علي‌ هذه‌ الخطة‌ فاءن‌ نفسي‌ لا تسمح‌بالموت‌، ولكن‌ فرسي‌ هذه‌ (الملحقة‌) والله ما طلبت‌ عليها شيئاً قط‌ اءلاّلحقته‌، ولا طلبني‌ احد وانا عليها اءلاّ سبقته‌، فخذها فهي‌ لك‌.

فقال‌ له‌ الحسين‌(ع): «اما اءذا رغبت‌ بنفسك‌ عنا فلا حاجة‌ لنا في‌ فرسك‌».

ولو كان‌ يعي‌ ابن‌ الحر الجعفي‌ ما يطلبه‌ الحسين‌ منه‌ لم‌ يكن‌ يقدّم‌للحسين‌ فرسه‌ عوضاً عن‌ نفسه‌ ودمه‌ ومهجته‌.

وهذا فارق‌ في‌ الوعي‌ بين‌ الحر وابن‌ الحر، علماً بان‌ عبيدالله بن‌ الحرالجعفي‌ لم‌ يكن‌ يومئذٍ في‌ موقع‌ المواجهة‌ الرسمية‌ والمعلنة‌ مع‌الحسين‌(ع)، واءنما كان‌ يحرص‌ الاّ يلتقي‌ بالحسين‌(ع) لئلا يُحرجه‌ الاءمام‌ويطلب‌ منه‌ النصرة‌، ثم‌ لمّا طلب‌ منه‌ الاءمام‌(ع) النصرة‌ اعتذر وتخلف‌وكان‌ في‌ عداد (المتخلّفين‌) عن‌ نصرة‌ الاءمام‌، وندم‌ بعد ذلك‌ علي‌ تخلفه‌عن‌ الحسين‌ (ع)، فلم‌ ينفعه‌ ندمه‌.

وموقع‌ عبيدالله بن‌ الحر الجعفي‌، مهما كان‌ اهون‌ من‌ موقع‌ الحرالرياحي‌، ولكن‌ هذا قد ادرك‌ من‌ الحسين‌(ع) مالم‌ يدركه‌ ذاك‌، وهذا هوفارق‌ الوعي‌.

والفارق‌ الا´خر بين‌ الحرّين‌، أن‌ الحر الرياحي‌ اعطي‌ للحسين‌(ع) مايريد، اما عبيدالله بن‌ الحر الجعفي‌ فقد اعتذر الي‌ الاءمام‌ عن‌ النصرة‌، وقال‌للاءمام‌ بصراحة‌: (اءن‌ نفسي‌ لا تسمح‌ بالموت‌).

وهذا فارق‌ في‌ (العطاء).

والانسان‌ (وعي‌) و (عطاء).

وهذا هو الفارق‌ بين‌ الحر وابن‌ الحر .

2 ـ باذلاً:

والكلمة‌ الثانية‌ (باذلاً) وهذه‌ قضية‌ ثانية‌، القضية‌ الاولي‌ ان‌ الحسين‌يطلب‌ من‌ الناس‌ التضحية‌ بمهجهم‌، والقضية‌ الثانية‌ أن‌ الحسين‌(ع) يريدمن‌ الناس‌ ان‌ يبذلوا له‌ مهجهم‌ ودماءهم‌، بذلاً عن‌ وعي‌ واختيار من‌ غيرقسر ولا اءجبار، بل‌ بطوع‌ اءرادتهم‌ واختيارهم‌، فلا يريد ان‌ يغتصب‌ الناس‌مهجهم‌، ولا هو من‌ الذين‌ يخدعون‌ الناس‌ عن‌ مهجهم‌ ودمائهم‌.

وهذه‌ قضية‌ اصر عليها الحسين‌(ع) بشكل‌ غريب‌، منذ ان‌ خرج‌ من‌الحجاز الي‌ ان‌ صرع‌ مع‌ اهل‌ بيته‌ واصحابه‌ في‌ كربلاء.

اكثر من‌ مرة‌ اذن‌ لاصحابه‌ ولاهل‌ بيته‌ بالانصراف‌، وجعلهم‌ في‌ حل‌ّمن‌ بيعته‌.

وا´خر مرة‌ عرض‌ عليهم‌ الانصراف‌، والحل‌ من‌ بيعته‌ ليلة‌ العاشر من‌محرم‌ اءذ جمعهم‌ عنده‌، وقال‌ لهم‌ بنفس‌ الصراحة‌ والوضوح‌ الذي‌ عهدوه‌منه‌ من‌ قبل‌ «الا واءني‌ قد اذنت‌ لكم‌، فانطلقوا جميعاً في‌ حل‌ّ، ليس‌ عليكم‌ مني‌ ذمام‌،هذا الليل‌ قد غشيكم‌ فاتخذوه‌ جملاً، ثم‌ لياخذ كل‌ رجل‌ منكم‌ بيد رجل‌ من‌ اهل‌ بيتي‌،ثم‌ تفرقوا في‌ سوادكم‌ ومدائنكم‌ حتي‌ يفرّج‌ الله، فاءن‌ القوم‌ اءنما يطلبوني‌. ولو قداصابوني‌ لهوا عن‌ طلب‌ غيري‌».

ولم‌ يكن‌ الحسين‌(ع)، يومئذ، وهو يعلن‌ لاصحابه‌ واهل‌ بيته‌ أنهم‌ في‌حل‌ من‌ بيعته‌، وياذن‌ لهم‌ في‌ الانصراف‌ الي‌ سوادهم‌ ومدائنهم‌، ليلة‌مصرعه‌، في‌ كربلاء، لم‌ يكن‌ الحسين‌(ع) يزهد في‌ نصرة‌ اصحابه‌، واءنماكان‌ في‌ امس‌ِّ الحاجة‌ الي‌ الانصار، وكان‌ لا يُفرّط‌ في‌ فرصة‌ تمر عليه‌يستطيع‌ ان‌ يدعو فيها الناس‌ علي‌ العموم‌، او بالخصوص‌ الي‌ نصرته‌ اءلاّويعلن‌ فيها الاستنصار والدعوة‌، فلماذا هذا التاكيد المكرر لاصحابه‌وللذين‌ التحقوا به‌ ان‌ ينصرفوا الي‌ بلادهم‌ واهلهم‌؟ ولماذا يصرّالحسين‌(ع) الي‌ جنب‌ ذلك‌، علي‌' اءعلان‌ الاستنصار؟

وكيف‌ يجتمع‌ هذا الاءصرار علي‌ الاستنصار مع‌ هذا التاكيد علي‌ الاءذن‌لاصحابه‌ وأنصاره‌ بالانصراف‌ في‌ نفس‌ الوقت‌، والتحلل‌ من‌ بيعته‌؟

اءن‌ الامر عند الحسين‌(ع) واضح‌، فهو يريد من‌ الناس‌ ان‌ يبذلوا له‌مهجهم‌ (بذلاً) عن‌ وعي‌ وبصيرة‌ وبمحض‌ اءرادتهم‌، من‌ دون‌ قهر اوحرج‌ اوحياء، ولماذا؟

لان‌ الطريق‌ الذي‌ يريد الحسين‌(ع) ان‌ يقطعه‌ لا يمكن‌ ان‌ يقطعه‌الناس‌ اءلاّ اءذا مضوا معه‌ بوعي‌ وبصيرة‌ واءرادة‌ وعزم‌، أما اذا قطعوا هذاالطريق‌ عنوة‌ أو من‌ غير وعي‌ وطواعية‌، فلا يبلغون‌ ما يريده‌ الحسين‌(ع) .

اءن‌ّ الحسين‌(ع) يريد ان‌ يستصفي‌ من‌ هذه‌ الاُمّة‌ انقاها جوهراً،واصفاها قصداً ونيّة‌ واءخلاصاً ليصطحبهم‌ معه‌ الي‌ لقاء الله في‌ كربلاء، ولوكان‌ يشوب‌ نفوسهم‌ شي‌ء من‌ الحرج‌ أو الحياء في‌ خروجهم‌ مع‌الحسين‌(ع) الي‌ مصارعهم‌ في‌ كربلاء ولو بنسبة‌ قليلة‌؛ لفقدوا في‌ نفوسهم‌وقصدهم‌ هذا الصفاء والخلوص‌ الذي‌ يطلبه‌ الحسين‌(ع) من‌ اصحابه‌ في‌خروجهم‌ الي‌ لقاء الله.

اءن‌ هذه‌ الرحلة‌ رحلة‌ الي‌ لقاء الله، وهي‌ تختلف‌ عن‌ أية‌ رحلة‌ أخري‌'،ومثل‌ هذه‌ الرحلة‌ تتطلب‌ من‌ الصفاء والنقاء في‌ القصد والنية‌ مالا تتطلبه‌رحلة‌ أخري‌، ولذلك‌ كان‌ الحسين‌(ع) يحرص‌ حرصاً بليغاً أن‌ يكون‌خروج‌ اصحابه‌ معه‌ عن‌ (بصيرة‌) و (اختيار).

هذا من‌ ناحية‌ (ربّانية‌ الحركة‌) التي‌ كان‌ الحسين‌(ع) يحرص‌ علي‌تحقيقها في‌ حركته‌.

وامّا من‌ الناحية‌ (السياسية‌) ـ وهو الهدف‌ الا´خر للحسين‌ ـ فاءنّه‌(ع)يريد ان‌ يهزّ ضمائر المسلمين‌ وقلوبهم‌ بمصرعه‌ ومصرع‌ من‌ معه‌ من‌المؤمنين‌ وان‌ يعيدهم‌ الي‌ انفسهم‌ بعد ان‌ سلخهم‌ بنو امية‌ عن‌ انفسهم‌. ولن‌يتم‌ للحسين‌(ع) مثل‌ هذا الانقلاب‌ العميق‌ في‌ نفوس‌ الناس‌، وهذه‌ العودة‌الي‌ الذات‌ اءلاّ اءذا كانت‌ العناصر التي‌ تشارك‌ في‌ صنع‌ هذه‌ الملحمة‌ الخالدة‌تتصف‌ بالبصيرة‌ والعزم‌.

وبعكس‌ ذلك‌ لو كانت‌ هذه‌ العناصر من‌ العناصر الضعيفة‌ والرجراجة‌التي‌ تقدّم‌ خطوة‌ وتؤخر اخري‌ فاءن‌ مردود عملها ومشاركتها يكون‌بالاتجاه‌ السلبي‌.

ومن‌ هنا كان‌ الحسين‌(ع) يريد باءصرار من‌ الناس‌ ان‌ يبذلوا له‌ انفسهم‌ومهجهم‌ بذلاً، عن‌ اءرادة‌ واختيار وبصيرة‌.

3 ـ فينا:

وهذه‌ قضية‌ ثالثة‌ في‌ دعوة‌ الحسين‌(ع) فهو يريد اوّلاً من‌ الناس‌ ان‌يضحّوا بمهجهم‌.

ويطلب‌ منهم‌ ثانياً ان‌ تكون‌ هذه‌ التضحية‌ عن‌ اختيار وبصيرة‌ وبذل‌.

ويطلب‌ منهم‌ ثالثاً ان‌ يكون‌ هذا الجهد وهذه‌ التضحية‌ (فيهم‌)(ع)،وهي‌ مسالة‌ الانتماء والولاء، لا في‌ جهة‌ أخري‌ ولغاية‌ أخري‌ من‌ الغايات‌التي‌ يعمل‌ لها الناس‌.

وهذه‌ مسالة‌ في‌ غاية‌ الاهمية‌ فاءن‌ قيمة‌ العمل‌ ليس‌ في‌ حجمه‌ ونوعه‌وشكله‌ فقط‌ واءنما في‌ انتمائه‌ ايضاً.

فقد خرج‌ كثيرون‌ علي‌ بني‌ امية‌ ونقموا عليهم‌، ونشروا مثالبهم‌،وقاتلوهم‌، وتحمّلوا العذاب‌ والمطاردة‌ والخوف‌ والرعب‌ في‌ سبيل‌ ذلك‌،وضحوا بأنفسهم‌ في‌ ذلك‌، ولكن‌ لغايات‌ شخصية‌ او سياسية‌ او قبلية‌وعشائرية‌ . وليس‌ علي‌ خط‌ الولاء السياسي‌ والعقائدي‌ الذي‌ فرضه‌ اللهتعالي‌ في‌ قوله‌ تعالي‌: (اءنّما وليكم‌ الله ورسوله‌ والذين‌ ا´منوا الذين‌ يقيمون‌ الصلاة‌ويؤتون‌ الزكاة‌ وهم‌ راكعون‌).

لقد خرج‌ عليهم‌ عبدالله بن‌ الزبير، وخرج‌ عليهم‌ الخوارج‌، وخرج‌عليهم‌ ابو مسلم‌ الخراساني‌ وا´خرون‌ من‌ الناس‌، وليس‌ باءمكاننا ان‌ نستهين‌بالجهد والتضحية‌ التي‌ بذلوها في‌ هذا السبيل‌، ولكن‌ كان‌ ينقصهم‌ الانتماءوالولاء والذي‌ يعبر عنه‌ الاءمام‌(ع) بهذه‌ الكلمة‌: (فينا).

ولا قيمة‌ للعمل‌ اذا فقد حالة‌ (الانتماء) والارتباط‌ والولاء، علي‌ الخط‌الذي‌ يحدده‌ الله ورسوله‌.

وهذه‌ المقولة‌ خاصة‌ بهذا الدين‌، وليس‌ في‌ الانظمة‌ الفكرية‌والسياسية‌ الاخري‌ قيمة‌ لارتباط‌ العمل‌ وانتمائه‌، وانما يقيّم‌ العمل‌ بنوعه‌وحجمه‌ وصفته‌. واما في‌ الاءسلام‌ فالامر يختلف‌ اختلافاً كبيراً، ويكتسب‌العمل‌ قيمته‌ الحقيقية‌ بنوعية‌ العمل‌ وارتباطه‌ وانتمائه‌. ولمحاور الولاءحلقات‌ يتصل‌ بعضها ببعض‌، وينتهي‌ الي‌ الله تعالي‌ وهو مبدا الولاءواساسه‌ في‌ الاسلام‌.

والحسين‌(ع) حلقة‌ في‌ هذه‌ السلسة‌؛ ولذلك‌ فهو يشترط‌ في‌ هذه‌الدعوة‌ ان‌ تكون‌ التضحية‌ والبذل‌ (فيه‌).

4 ـ موطّناً علي‌ لقاء الله نفسه‌:

وهذه‌ هي‌ النقطة‌ الرابعة‌ والخامسة‌ في‌ الخطاب‌ الحسيني‌، فالاءمام‌(ع)في‌ هذه‌ الفقرة‌ يشير الي‌ قضيتين‌ أُخريين‌ في‌ دعوته‌ وهما (الاءخلاص‌) و(التوطين‌).

ولابد منهما معاً في‌ مثل‌ هذا المشروع‌ الثوري‌ الضخم‌ الذي‌ ينهض‌ به‌الحسين‌(ع).

والاءمام‌(ع) يشير الي‌ (الاءخلاص‌) بقوله‌: «موطّناً علي‌ لقاء الله نفسه‌»،ويطلب‌ ممّن‌ يصحبه‌ في‌ هذه‌ الرحلة‌ ان‌ يوطّنوا أنفسهم‌ فقط‌ للقاء الله،وليس‌ لايّة‌غاية‌ أخري‌. وأيّة‌ غاية‌ أخري‌ غير لقاء الله لا قيمة‌ لها في‌ هذه‌الرحلة‌.

وهذا النص‌ هو أول‌ رواية‌ يذكرها البخاري‌ في‌ كتابه‌ (الجامع‌الصحيح‌) عن‌ رسول‌ الله(ص):

«اءنّما الاعمال‌ بالنبيات‌، واءنما لكل‌ امري‌ ما نوي‌؛ فمن‌ كانت‌ هجرته‌ الي‌ دنيايصيبها او الي‌ امراة‌ ينكحها فهجرته‌ الي‌ ماهاجر اليه‌).

والارتباط‌ به‌(ع) الذي‌ عبّر عنه‌ بكلمة‌ (فينا)، والذي‌ شرحناه‌ من‌ قبل‌انتماء وليس‌ غاية‌، واءنما هو واسطة‌ للارتباط‌ بالله. واءبتغاء وجه‌ اللهومرضاته‌ هو الغاية‌، وفي‌ نفس‌ الوقت‌ هو المبدأ في‌ تسلسل‌ حلقات‌الولاء، واءذا انقطعت‌ أية‌ حلقة‌ من‌ حلقات‌ الولاء من‌ الله تعالي‌ سقطت‌،وفقدت‌ كل‌ قيمتها.

ومحاور الولاء، ومنها الحسين‌(ع) جسور، وسبل‌ الي‌ لله، والي‌ هذاالمعني‌' تشير الفقرات‌ الواردة‌ في‌ زيارة‌ (الجامعة‌ الكبيرة‌) المعروفة‌:

السلام‌ علي‌ محال‌ّ معرفة‌ الله، ومساكن‌ بركة‌ الله ومعادن‌ حكمة‌ الله.السلام‌ علي‌ الدعاة‌ الي‌ الله والادلاّء علي‌ مرضاة‌ الله والمستقرين‌ في‌ امرالله.

ولكيلا نتصور أن‌ كلمة‌ (فينا) الواردة‌ في‌ هذه‌ الدعوة‌ الحسينية‌ غاية‌في‌ حدّ ذاتها، يتدارك‌ الاءمام‌(ع) سريعاً ويقول‌: «وموطّناً علي‌ لقاء الله نفسه‌»وهذا هو معني‌ الاءخلاص‌ والتوحيد في‌ (الولاء).

ـ التوطين‌:

والقضية‌ الخامسة‌ التي‌ يشير اليها الاءمام‌(ع) في‌ هذه‌ الدعوة‌:(التوطين‌) ولابد منه‌ في‌ هذه‌ الرحلة‌ العسيرة‌ والشاقة‌.

فهذا الذي‌ يدعو اليه‌ الحسين‌(ع) من‌ بذل‌ المهج‌ والدماء، لله ليس‌بالامر السهل‌ اليسير، وقد عبّر عنه‌ القرا´ن‌ في‌ سورة‌ الانفال‌ بـ (ذات‌الشوكة‌). وقد يندفع‌ الاءنسان‌ في‌ هذا الطريق‌ من‌ دون‌ اءعداد وتوطين‌، ثم‌يتزلزل‌ في‌ أثناء الطريق‌، وتهتز قدمه‌، ويدخله‌ الخوف‌ والرعب‌ويتراجع‌.

ولنا في‌ مسيرة‌ الرسالات‌ شواهد كثير علي‌ ذلك‌.

ولكيلا يتراجع‌ الاءنسان‌، ولا تفاجئه‌ اهوال‌ الطريق‌ يجب‌ عليه‌ ان‌ يعدّنفسه‌ للقاء الله اءعداداً خالصاً، ويوطّن‌ نفسه‌ لهذه‌ الرحلة‌ العسيرة‌ علي‌طريق‌ ذات‌ الشوكة‌ توطيناً.

و(التوطين‌) اعلي‌ درجات‌ الاءعداد النفسي‌ لمواجهة‌ الابتلاء، وكانمايعدّ الانسان‌ نفسه‌ ليكون‌ منزلاً وموطناً للابتلاء، ويحضّر نفسه‌ لنزول‌البلاء ويهيئها لاستقبال‌ الموت‌ والابتلاء، فلا تفاجئه‌ الابتلاءات‌ عندماتنزل‌ عليه‌.

والاءعداد النفسي‌ لاستقبال‌ الابتلاء علي‌ أنحاء، وأعلاها وأفضلهاوفي‌ نفس‌ الوقت‌ أشقّها، هو هذه‌ الحالة‌ الي‌ يشير اليها الاءمام‌ بكلمة‌(التوطين‌).

وهو يشبه‌ الي‌ حدّ كبير الحديث‌ المعروف‌ «موتوا قبل‌ ان‌ تموتوا»! فاءن‌الموت‌ الاول‌ حالة‌ اءيحائية‌ نفسية‌ بتقطيع‌ العلاقات‌ التي‌ تربط‌ الاءنسان‌بالدنيا، استعداداً لتلقي‌ الموت‌، فاءذا نزل‌ به‌ الموت‌ لم‌ يفاجئه‌، وبهذه‌ الحالة‌من‌ الاءيحاء النفسي‌ يمتص‌ صدمة‌ مفاجاة‌ الابتلاء والموت‌ الحقيقي‌ كثيراً.

والاءيحاء الثاني‌ للتوطين‌ توطين‌ النفس‌ للرضا بقضاء الله، وما قدّره‌تعالي‌ لعبده‌ علي‌ طريق‌ ذات‌ الشوكة‌.

والي‌ هذا المعني‌ التربوي‌ الدقيق‌ تشير النصوص‌ الاءسلامية‌؛ ففي‌دعاء كميل‌: «واجعلني‌ بقسمك‌ راضياً قانعاً».

وفي‌ زيارة‌ (امين‌ الله):

«اللهم‌ اجعل‌ نفسي‌ مطمئنة‌ بقدرك‌، راضية‌ بقضائك‌، صابرة‌ علي‌ نزول‌ بلائك‌».

وكلمة‌ (التوطين‌) تحمل‌ هنا هذا المعني‌ التربوي‌ العميق‌، وتُعِدُّالاءنسان‌ لاستقبال‌ الابتلاء من‌ جانب‌ الله بحالة‌ التسليم‌ والرضا بقضاء الله.وحالة‌ (الرضا) في‌ تلقي‌ الابتلاء من‌ جانب‌ الله اعمق‌ من‌ حالة‌ التسليم‌.

وكلمة‌ (التوطين‌) تشير الي‌ هذا المعني‌ النفسي‌ العميق‌ بالرضا بقضاءالله.

وهذا الاءيحاء الثاني‌ يقوم‌ أيضاً بدور مؤثّر في‌ امتصاص‌ صدمة‌مفاجاة‌ الموت‌ والابتلاء من‌ نفس‌ الاءنسان‌ في‌ ساحة‌ المواجهة‌ والصراع‌.

ـ لقاء الله:

والنقطة‌ السادسة‌ في‌ الخطاب‌ الحسيني‌ علي‌ (لقاء الله) نفسه‌. وهذه‌الكلمة‌ هي‌ التعبير الشفّاف‌ والرقيق‌ الذي‌ اختاره‌ الاءمام‌ للموت‌ وهو (لقاءالله).

وللموت‌ وجهان‌: وجه‌ سلبي‌ ووجه‌ اءيجابي‌، والوجه‌ السلبي‌ هو حالة‌(الفصل‌) والوجه‌ الاءيجابي‌ هو حالة‌ (الوصل‌).

فاءن‌ الموت‌ يقوم‌ بتقطيع‌ كل‌ العلاقات‌ التي‌ كوّنها الاءنسان‌ لنفسه‌،وبناها في‌ الحياة‌ الدنيا بجهد وحرص‌ وتعب‌ خلال‌ ايام‌ عمره‌ مرة‌ واحدة‌،من‌ العلاقة‌ بالاموال‌ والبنين‌ والازواج‌ والقناطير المقنطرة‌ من‌ الذهب‌والفضة‌ والخيل‌ المسوّمة‌، وما الي‌ ذلك‌ من‌ العلاقات‌ التي‌ يكوّنها الانسان‌لنفسه‌ في‌ عمره‌ بجهد وحرص‌، ويأنس‌ بها انساً شديداً منقطع‌ النظير،فيقوم‌ الموت‌ بفصل‌ الانسان‌ عن‌ كل‌ هذه‌ العلاقات‌ مرة‌ واحدة‌، وليس‌بصورة‌ تدريجية‌.

وهذا هو الوجه‌ السلبي‌ المرعب‌ والمخيف‌ للموت‌ وهو وجه‌(الفصل‌) من‌ هذه‌ الحتمية‌ الاءلهية‌ التي‌ تنزل‌ باي‌ اءنسان‌.

والوجه‌ الا´خر للموت‌، وهو الذي‌ يشير اليه‌ الاءمام‌ الحسين‌(ع) في‌ هذه‌الكلمة‌، هو وجه‌ (الوصل‌) وهو الجانب‌ الاءيجابي‌ من‌ الموت‌، فاءن‌ الموت‌هو النافذة‌ التي‌ فتحها الله تعالي‌ علي‌ عباده‌ للقائه‌، ومن‌ خلال‌ نافذة‌ الموت‌يتم‌ للصالحين‌ من‌ عباده‌ لقاؤه‌؛ فان‌ الدنيا تحجب‌ الاءنسان‌ عن‌ لقاء الله فاءذاحل‌ّ به‌ الموت‌ انكشفت‌ عنه‌ الحجب‌ (فكشفنا عنك‌ غطاءك‌ فبصرك‌ اليوم‌حديد)، وأمكنه‌ ان‌ يرقي‌' الي‌' لقاء الله تعالي‌.

(قد خسر الذين‌ كذّبوا بلقاء الله).

(قد خسر الذين‌ كذّبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين‌).

(يفصّل‌ الا´يات‌ لعلّكم‌ بلقاء ربّكم‌ توقنون‌).

(فمن‌ كان‌ يرجو لقاء ربه‌ فليعمل‌ عملاً صالحاً).

(من‌ كان‌ يرجو لقاء الله فاءن‌ اجل‌ الله لا´ت‌).

(اءن‌ الذين‌ لا يرجون‌ لقاءنا ورضوا بالحياة‌ الدنيا واطمانوا بها).

وهذا هو الوجه‌ المشرق‌ للموت‌.

ويختلف‌ موقف‌ الناس‌ النفسي‌ من‌ الموت‌ باختلاف‌ الوجه‌ الذي‌ينظرون‌ من‌ خلاله‌ الي‌ الموت‌، فالذين‌ ينظرون‌ الي‌ الموت‌ من‌ خلال‌وجهه‌ السلبي‌ يرعبهم‌ الموت‌ ويصدمهم‌ عند المفاجاة‌، والذين‌ ينظرون‌الي‌ الموت‌ من‌ الوجه‌ الثاني‌ يجدون‌ في‌ الموت‌ نافذة‌ الي‌ لقاء الله فيحبون‌الموت‌ ويقبلون‌ عليه‌ ويتمنونه‌، ويجدون‌ في‌ الموت‌ فوزاً بلقاء الله؛ كماقال‌ امير المؤمنين‌(ع) لمّا ضربه‌ اللعين‌ ابن‌ ملجم‌ وسقط‌ في‌ محراب‌صلاته‌: «فزت‌ ورب‌ الكعبة‌»، والي‌ هذا المعني‌ يشير القرا´ن‌ الكريم‌ عندمايتحدّي‌' اليهود في‌ دعواهم‌ (فتمنوا الموت‌ اءن‌ كنتم‌ صادقين‌ ولا يتمنونه‌ أبداً بماقدّمت‌ أيديهم‌).

وقبل‌ أن‌ نختم‌ الحديث‌ عن‌ هذه‌ الفقرة‌ من‌ كلام‌ الاءمام‌(ع) نتساءل‌:كيف‌ يتمكن‌ الاءنسان‌ ان‌ يوطّن‌ نفسه‌ للموت‌ ولنزول‌ البلاء حتي‌ لاتصدمه‌ مفاجأة‌ الابتلاء في‌ ساحة‌ الباساء والضراء، التي‌خلق‌ الله تعالي‌الاءنسان‌ فيها، وحتي‌ لا يهتز الانسان‌ في‌ زلزال‌ الابتلاء؟

وللاءجابة‌ علي‌ هذا السؤال‌ نقول‌: اءن‌ هناك‌ عاملين‌ تربويين‌ في‌ حياة‌الانسان‌ يساعدان‌ الاءنسان‌ في‌ توطين‌ نفسه‌ للابتلاء والموت‌، وهماالاءكثار من‌ ذكر الموت‌ اولاً، وتركيز الشوق‌ الي‌ لقاء الله تعالي‌ في‌ النفس‌،والنظر الي‌ الموت‌ من‌ خلال‌ هذا الوجه‌ الاءيجابي‌ والمشرق‌ ثانياً.

ففي‌ المحاولة‌ التربوية‌ الاولي‌، يانس‌ الاءنسان‌ الي‌ الموت‌، ويالف‌التفكير فيه‌ فلا يصدمه‌ الموت‌ والابتلاء عندما ينزل‌ بالانسان‌، وفي‌المحاولة‌ التربوية‌ الثانية‌ يجد الاءنسان‌ في‌ الموت‌ نافذة‌ الي‌ لقاء الله، وكانماالحياة‌ الدنيا كانت‌ تعيقه‌ عن‌ ذلك‌ فيحرّره‌ الموت‌ عن‌ عوائق‌ الدنيا ليلقي‌'الله تعالي‌ في‌ الا´خرة‌ وتقر عينه‌ بلقاء الله.

5 ـ فليرحل‌:

هذه‌ الرحلة‌ تختلف‌ عن‌ كثير من‌ الرحلات‌ الاخري‌'. فلها ظاهروباطن‌.

ظاهر هذه‌ الرحلة‌ من‌ الحجاز الي‌ العراق‌ لنصرة‌ الحسين‌(ع)، وباطن‌هذه‌ الرحلة‌، الرحلة‌ من‌ الانا الي‌ الله، ومن‌ الدنيا الي‌ الا´خرة‌، ومن‌ الاستئثارالي‌ الاءيثار، ومن‌ الخمول‌ واءيثار العافية‌ الي‌ التضحية‌ والجهاد. والرحلة‌الاولي‌ علي‌ وجه‌ الارض‌ في‌ ساحة‌ الصراع‌ السياسي‌، والرحلة‌ الثانية‌ في‌داخل‌ النفس‌. وما لم‌ يجتمع‌ هذان‌ البعدان‌ ـ معاً ـ في‌ هذه‌ الرحلة‌ فلا تنفع‌هذه‌ الرحلة‌ ولا تبلغ‌ غايتها.

والبعد الباطني‌ لهذه‌ الرحلة‌ قبل‌ البعد الظاهري‌، وهو الذي‌ يقوّم‌ البعدالظاهري‌.

والذين‌ لم‌ يستجيبوا لدعوة‌ الحسين‌(ع) في‌ هذه‌ الرحلة‌، والذين‌تراجعوا عنها عندما جدّ الجد كانوا من‌ الذين‌ لم‌ يرحلو الرحلة‌ الثانية‌ داخل‌نفوسهم‌.

لقد تجسدت‌ هذه‌ الرحلة‌ بصورة‌ واضحة‌ فيمن‌ تجسّدت‌ فيه‌ من‌اصحاب‌ الحسين‌(ع)، زهير بن‌ القين‌1. فقد كان‌ اموي‌ الهوي‌، فاصبح‌حسينياً. وكان‌ يؤثر العافية‌ في‌ حياته‌، فا´ثر الخوض‌ في‌ صراع‌ عنيف‌ مع‌الجيش‌ الاموي‌ علي‌ العافية‌، وكان‌ من‌ ابناء هذه‌ الدنيا، فانقلب‌ الي‌ الا´خرة‌،وامر بفسطاطه‌ وثقله‌ الي‌ جهة‌ الحسين‌، وطلّق‌ زوجته‌ الشجاعة‌ الصالحة‌التي‌ علّمته‌ كيف‌ ياخذ القرار الصعب‌ في‌ الازمات‌ الصعبة‌، كل‌ّ ذلك‌ خلال‌دقائق‌ معدودة‌. ولسنا نعلم‌ الي‌ اليوم‌ ماالذي‌ حدّثه‌ الحسين‌(ع) عندما خلي‌'به‌ (ع)؟ وما الذي‌ جري‌ بينه‌ وبين‌ الحسين‌(ع)؟ ولكنّا نعلم‌ ان‌ هذا اللقاءكان‌ حدّاً فاصلاً بين‌ مرحلتين‌ من‌ حياة‌ زهير؛، وان‌ زهيراً؛ تعرّض‌ بعدهذا اللقاء مرة‌ واحدة‌ لانقلاب‌ عميق‌ في‌ شخصيته‌ وحالته‌؛ فامر بفسطاطه‌وثقله‌ الي‌ جهة‌ الحسين‌.

ولنقرأ القصّة‌ برواية‌ الطبري‌ عن‌ أبي‌ مخنف‌:

يروي‌ ابو مخنف‌ عن‌ السدي‌عن‌ رجل‌ من‌ بني‌ فزارة‌، كان‌ مختبئاً معه‌في‌ دار الحرث‌ بن‌ ابي‌ ربيعة‌ في‌ (التمارين‌) أيام‌ الحجّاج‌ بن‌ يوسف‌الثقفي‌، وكان‌ هذا الرجل‌ الفزاري‌ مع‌ زهير بن‌ القين‌؛.

فسالته‌ عن‌ خبرهم‌ مع‌ الحسين‌(ع).

فقال‌ الفزاري‌: (كنّا مع‌ زهير بن‌ القين‌ البجلي‌، حين‌ اقبلنا من‌ مكة‌نساير الحسين‌(ع). فلم‌ يكن‌ شي‌ء ابغض‌ الينا من‌ أن‌ نسايره‌ في‌ منزل‌، فاءذاسار الحسين‌(ع) تخلّف‌ زهير بن‌ القين‌، واذا نزل‌ الحسين‌ تقدم‌ زهير؛حتي‌ نزلنا يومئذٍ في‌ منزل‌ لم‌ نجد بداً من‌ أن‌ ننازله‌ فيه‌، فنزل‌ الحسين‌(ع)في‌ جانب‌، ونزلنا في‌ جانب‌، فبينا نحن‌ جلوس‌ نتغذي‌ من‌ طعام‌ لنا اءذ أقبل‌رسول‌ الحسين‌(ع) حتي‌ سلّم‌، ثم‌ دخل‌، فقال‌: يا زهير بن‌ القين‌، اءن‌ أباعبدالله الحسين‌ بن‌ علي‌8 بعثني‌ اليك‌ لتاتيه‌. قال‌: فطرح‌ كل‌ اءنسان‌ منا مافي‌ يده‌ حتي‌ كأننا علي‌ رؤوسنا الطير).

قال‌ ابو مخنف‌ فحدثتني‌ دلهم‌ بنت‌ عمرو امراة‌ زهير بن‌ القين‌ قالت‌:قلت‌: أيبعث‌ اليك‌ ابن‌ رسول‌ الله ثم‌ لا تاتيه‌؟ سبحان‌ الله! لو أتيته‌ فسمعت‌من‌ كلامه‌ ثم‌انصرفت‌. قال‌: فاتاه‌ زهير بن‌ القين‌، فما لبث‌ أن‌ جاءمستبشراً قد اسفر وجهه‌، قالت‌: فأمر بفسطاطه‌ وثقله‌ ومتاعه‌ فقدم‌ وحمل‌الي‌ الحسين‌.

ثم‌ قال‌ لامراته‌: (أنت‌ طالق‌، اءلحقي‌ بأهلك‌ فاءني‌ لا أحب‌ أن‌ يصيبك‌سوء بسببي‌ الاخير). وهذا هو البعد الظاهري‌ من‌ الرحلة‌.

وكان‌ زهير؛ ضمن‌ اُسرة‌ سياسية‌ واجتماعية‌ وعائلية‌، مرتبطاًبمجموعة‌ من‌ العلائق‌ المادية‌ والسياسية‌ والاجتماعية‌، ومحاطاً بسياج‌ من‌العوائق‌ المادية‌ والسياسية‌ والاجتماعية‌، فحل‌ّ نفسه‌ بحركة‌ سريعة‌ وقوية‌من‌ هذه‌ (العلائق‌) جميعاً، وتحرر منها، وأزاح‌ هذه‌ العوائق‌ جميعاً من‌امامه‌، والتحق‌ بالحسين‌(ع)؛ فأصبحت‌ علائقه‌ حسينية‌، ولكل‌ّ أسرة‌علائقها وعوائقها، وولاؤها وبراءتها. ولا تخلو أسرة‌ حضارية‌ من‌ هاتين‌الخصلتين‌ في‌ الجاهلية‌ والاءسلام‌، والحق‌ والباطل‌.

وقد كان‌ هوي‌ زهير للاسرة‌ الاموية‌ فتحول‌ الي‌ الاسرة‌ العلوية‌،وانقلب‌ ولاؤه‌ وبراءته‌ وعلائقه‌ وعوائقه‌ من‌ الاموية‌ الي‌ العلوية‌.

وهذا هو البعد الباطني‌ لهذه‌ الرحلة‌، وهو جوهر هذه‌ الرحلة‌، والذين‌تخلّفوا عن‌ الحسين‌(ع) في‌ هذه‌ الرحلة‌، كانوا متخلفين‌ في‌ الرحلة‌ الاخري‌داخل‌ نفوسهم‌، وما لم‌ تتم‌ للاءنسان‌ هذه‌ الرحلة‌ الشاقة‌ في‌ داخل‌ نفسه‌ لايتوفق‌ الي‌ الرحلة‌ المماثلة‌ لها في‌ ساحة‌ الصراع‌.

وتلك‌ الرحلة‌ هي‌ الهجرة‌ الكبري‌، امّا الرحلة‌ في‌ ساحة‌ الصراع‌، وعلي‌وجه‌ الارض‌ فهي‌ الهجرة‌ الصغري‌ في‌ حياة‌ الاءنسان‌.

والهجرة‌ الكبري‌ هي‌ الاساس‌ للهجرة‌ الصغري‌، واءن‌ الجهاد الاكبرهو أساس‌ النجاح‌ في‌ الجهاد الاصغر.

ولا يزال‌ الخطاب‌ الحسيني‌ (: فليرحل‌ معنا) يدوّي‌ في‌ التاريخ‌، في‌آذان‌ الخائفين‌ والمستضعفين‌، يدعوهم‌ الحسين‌(ع) أن‌ يرحلو من‌ دنياهم‌الي‌ دنياه‌، من‌ دنيا الخنوع‌ والتهافت‌ علي‌ حطام‌ الدنيا، وحب‌ الدنيا الي‌ دنياالعزّ والترفع‌ عن‌ حطام‌ الدنيا والزهد في‌ الدنيا.

ولا تزال‌ قافلة‌ الحسين‌(ع) تتحرك‌ وتقطع‌ اشواطاً في‌ طريق‌ ذات‌الشوكة‌، يلتحق‌ بها ناس‌ ا´ثروا الا´خرة‌ علي‌ الدنيا ورضوان‌ الله علي‌ حطام‌الدنيا، ويتخلف‌ عنها ناس‌ طال‌ املهم‌ في‌ الدنيا فاثّاقلوا الي‌ الارض‌.

ـ الكلمة‌ الثامنة‌: (معنا):

وليهنأ اصحاب‌ الحسين‌(ع) بمعيّة‌ الحسين‌ في‌ هذه‌ الرحلة‌، وقد كان‌الناس‌ يقولون‌ عندما كانت‌ الرحلات‌ الطويلة‌ شاقة‌ وخطرة‌ وعسيرة‌:(الرفيق‌ قبل‌ الطريق‌).

وطريق‌ كربلاء، طريق‌ شاق‌ وعسير وطويل‌، ليس‌ في‌ ذلك‌ شك‌.وطريق‌ صاعد، وعر، كثير المزالق‌.

يبدا من‌ نقطة‌ الانا وينتهي‌ الي‌ الله تعالي‌، ومن‌ الدنيا الي‌ الا´خرة‌، ومن‌التعلّق‌ بالدنيا الي‌ التجرد والترفع‌ عن‌ الدنيا، وتكثر المزالق‌ والمخاطر علي‌هذا الطريق‌. و يكثر المعرضون‌ عنه‌ ويقل‌ّ روّاده‌، ولكن‌ (معيّة‌)الحسين‌(ع) علي‌ هذا الطريق‌ تخفّف‌ من‌ متاعب‌ الطريق‌، وتؤمّن‌ للاءنسان‌سلامة‌ الحركة‌ والوصول‌ الي‌ الغاية‌.

وفي‌ كل‌ طريق‌ صعب‌ وشاق‌ يحتاج‌ الانسان‌ الي‌ (دليل‌) و (قدوة‌).

ومهمة‌ (الدليل‌) هو التوجيه‌ والدلالة‌ . كما تشير اللوحات‌ الموضوعة‌علي‌ مفارق‌ الطرق‌ الي‌ الجهات‌ التي‌ يقصدها الروّاد.

والطرق‌ السهلة‌ واليسيرة‌ لا يحتاج‌ فيها الاءنسان‌ الي‌ أكثر من‌ (دليل‌).

وامّا الطرق‌ الصعبة‌ فيحتاج‌ الاءنسان‌ فيها بالاءضافة‌ الي‌ الدلالة‌ الي‌(القدوة‌) التي‌ تتقدمه‌ وتتحرك‌ معه‌ وامامه‌، وتبعث‌ في‌ نفسه‌ القوة‌ والثقة‌،لئلا يتعب‌، ولئلا يياس‌، ولئلا يتمكن‌ منه‌ الرعب‌ والخوف‌ والتعب‌والياس‌.

والحسين‌(ع) للسالكين‌ علي‌ طريق‌ ذات‌ الشوكة‌ دليل‌ ومعلم‌ اولاً،وقدوة‌ وأسوة‌ ثانياً، وكان‌ يقول‌ للناس‌ عندما يستنصرهم‌: (ونفسي‌ مع‌أنفسكم‌ واهلي‌ مع‌ اهليكم‌).

ولست‌ ادري‌ ماذا في‌هذه‌ الجملة‌: (فاءني‌ راحل‌ مصبحاً اءن‌ شاء الله) من‌عزم‌ واءرادة‌ علي‌ تغيير مسار التاريخ‌. والاعمال‌ العظيمة‌ تحتاج‌ الي‌ اءرادة‌حاسمة‌ وعزم‌؟ والعزم‌ دليل‌ القوة‌، كما أن‌ التردد في‌ العزم‌ دليل‌ العجز.يقول‌ الاءمام‌ الصادق‌(ع): «ما عجز جسم‌ عمّا قويت‌ عليه‌ النية‌».

ولست‌ أدري‌ ماذا اودع‌ الله في‌ هذه‌ الرحلة‌ بهذه‌ الكوكبة‌ الصغيرة‌ من‌المؤمنين‌ من‌ التاييد والتسديد والتوفيق‌ والنصر؟ فقد غيّرت‌ هذه‌ الرحلة‌علي‌ بساطتها مسار تاريخ‌ الحضارة‌ الاءسلامية‌، ولولا هذه‌ الرحلة‌ لتمكن‌بنو امية‌ من‌ تغيير معالم‌ هذا الدين‌ وتحريفه‌، وتقديم‌ صورة‌ أخري‌للاءسلام‌ هي‌ اقرب‌ الي‌ بطر الملوك‌ واءسرافهم‌ منه‌ الي‌ دين‌ الله.

ولو تغيّر هذا الدين‌ لتغيّر مسار الحضارة‌ البشرية‌

اءن‌ شاء الله:

وهي‌ النقطة‌ العاشرة‌ في‌ هذا الخطاب‌ الحسيني‌.

في‌ هذه‌ الجملة‌ نلمس‌ اءرادتين‌ تندك‌ اءحداهما في‌ الاخري‌. ولايكتسب‌ العمل‌ قيمته‌ الحقيقية‌ اءلاّ بحضور هاتين‌ الاءرادتين‌ معاً، واندكاك‌احداهما في‌ الاخري‌.

الاءرادة‌ الاولي‌ هي‌ اءرادة‌ العبد، والاءرادة‌ الثانية‌ هي‌ اءرادة‌ الله تعالي‌،وتذوب‌ الاولي‌ في‌ الثانية‌.

اءن‌ الاءنسان‌ (خليفة‌) الله، ينفّذ مشيئة‌ الله واءرادته‌ علي‌ وجه‌ الارض‌ في‌عمارة‌ الارض‌، واءصلاح‌ الاءنسان‌ من‌ خلال‌ اءرادته‌ واختياره‌، من‌ دون‌ ان‌يفقده‌ ذلك‌ حرية‌ الاختيار والقرار.

وهذا هو الفارق‌ بين‌ (الا´لة‌) و(الخليفة‌) كل‌ منهما يحقّق‌ اءرادة‌الطرف‌ الا´خر، ولكن‌ الا´لة‌ تحقق‌ اءرادة‌ الطرف‌ الا´خر دون‌ اختيار واءرادة‌،و (الخليفة‌) يحقق‌ اءرادة‌ الطرف‌ الا´خر من‌ خلال‌ اءرادته‌ واختياره‌.

والجماد والنبات‌ والحيوان‌ أدوات‌ مسخرات‌ لتحقيق‌ اءرادة‌ الله تعالي‌ومشيئته‌، وفق‌ قوانين‌ اءلهية‌ ثابتة‌ في‌ الطبيعة‌، ولكن‌ من‌ دون‌ اءرادة‌واختيار.

وأمّا الاءنسان‌ فهو خليفة‌ الله تعالي‌، خلقه‌ الله تعالي‌ واكرمه‌ بخلافته‌علي‌ وجه‌ الارض‌: (قال‌... اءني‌ جاعل‌ في‌ الارض‌ خليفة‌) ليقوم‌ بتنفيذ مشيئة‌الله واءرادته‌ علي‌ وجه‌ الارض‌، ولكن‌ من‌ خلال‌ اءرادة‌ الانسان‌ نفسه‌ومشيئته‌، لا من‌ دون‌ اءرادة‌ واختيار.

وفي‌ هذه‌ الفقرة‌ من‌ خطاب‌ الحسين‌(ع) نلمس‌ نحن‌ هذه‌ الحقيقة‌بشكل‌ واضح‌.

فهو يقول‌ اولاً:

«فاءنّي‌ راحل‌ مصبحاً».

في‌ هذه‌ الجملة‌ تبرز (الانا) و (الاءرادة‌ الاءنسانية‌) بصورة‌ واضحة‌.«اءني‌ ـ راحل‌».

ولكن‌ الجملة‌ الثانية‌:

ـ «اءن‌ شاء الله»

تاتي‌ مباشرة‌ بعد الجملة‌ الاولي‌'، لتكفكف‌ من‌ بروز (الانا) في‌ الجملة‌الاولي‌' ولتوجّه‌ (الانا) و (الاءرادة‌) للاندكاك‌ في‌ اءرادة‌ الله تعالي‌'، ولتوظّف‌الانا واءرادته‌ في‌ تنفيذ اءرادة‌ الله ومشيئته‌.

اءن‌ الحسين‌(ع) هنا، يعبّر في‌ الجملة‌ الاولي‌: (فاءني‌ راحل‌) عن‌ عزم‌واءرادة‌ لاحدّ لهما في‌ التضحية‌ والفداء. وهذه‌ التضحية‌ تنم‌ّ وتنبع‌ عن‌(اءرادة‌ قوية‌ وصارمة‌).

وهذه‌ الاءرادة‌ تُبرز بصورة‌ قهرية‌ (الانا)، وتركّزه‌ في‌ رحلة‌الحسين‌(ع) الي‌ الله تعالي‌، ولاشك‌ ان‌ (الانا) تبرز هنا في‌ ساحة‌ طاعة‌ اللهتعالي‌، وليس‌ في‌ ساحة‌ الشيطان‌، وليس‌ تركيز الانا وبروزه‌ في‌ ساحة‌طاعة‌ الله، كتركيز الانا وبروزه‌ في‌ ساحة‌ الشيطان‌.

اءلاّ ان‌ الحسين‌(ع) ماض‌ٍ في‌ هذه‌ الرحلة‌ الي‌ الله تعالي‌، ويريد ان‌يتجرّد عن‌ (الانا) حتي‌ في‌ ساحة‌ طاعة‌ الله، و لا يريد أن‌ يأخذ معه‌ُ (الانا)الي‌ الله تعالي‌، فاءذا عزم‌ علي‌ الرحيل‌ الي‌ الله يقول‌:

(اءن‌ شاء الله)، ويربط‌ مشيئته‌ بمشيئة‌ الله، ويصهر اءرادته‌ و اختياره‌ في‌اءرادة‌ الله، ويوظّفها لتنفيذ مشيئة‌ الله تعالي‌ واءرادته‌.

ونحن‌ نمر بهذه‌ الجملة‌ من‌ الخطاب‌ الحسيني‌ ونشعر بالرحيل‌،ونشعر بمشيئة‌ الله، ولكن‌ لا نجد بينهما (الانا).

وما اشبه‌ موقف‌ الحسين‌(ع) في‌ هذه‌ الجملة‌ بموقف‌ ابيه‌ اءسماعيل‌(الذبيح‌ الاول‌) عندما عرض‌ عليه‌ ابوه‌ اءبراهيم‌ خليل‌ الله أن‌ يذبحه‌، كماأراه‌ الله تعالي‌ ذلك‌ في‌ المنام‌!

(فلما بلغ‌ معه‌ السعي‌ قال‌: يابني‌ اءني‌ أري‌ في‌ المنام‌ أني‌ أذبحك‌ فانظرماذاتري‌).

(قال‌: يا ابت‌ افعل‌ ما تؤمر، ستجدني‌ ان‌ شاء الله من‌ الصابرين‌).

اءن‌ في‌ جملة‌: (يا ابت‌ افعل‌ ما تؤمر) التي‌ نطق‌ بها اءسماعيل‌(ع) في‌سن‌ المراهقة‌ من‌ التضحية‌، والفداء، والعطاء، والبذل‌، واليقين‌، والشجاعة‌،والحزم‌، والقوة‌، والصبر، ومقاومة‌ الهوي‌، والتنكر للذات‌، والترفع‌ عن‌الدنيا، والاءقبال‌ علي‌ الله، والاءعراض‌ عن‌ الدنيا، والاءخلاص‌ لله، والعزوف‌عن‌ غير الله، وما لست‌ ادري‌ من‌ القيم‌ الانسانية‌، ما لا حدّ له‌.

ولكن‌ في‌ هذه‌ التضحية‌ والعطاء تبرز (الاءرادة‌)، ومن‌ خلال‌ الارادة‌يبرز (الانا).

وهو ما لا يريد ذبيح‌ الله اءسماعيل‌(ع) ان‌ ياخذه‌ معه‌ في‌ رحلته‌ الي‌ الله.

صحيح‌ أن‌ (الانا) يبرز هنا في‌ ساحة‌ طاعة‌ الله، وليس‌ في‌ ساحة‌الطغيان‌ والهوي‌ والشح‌ والبخل‌ والضعف‌ والجبن‌ وحب‌ الدنيا.

ولكن‌ هذه‌ الساحة‌ وما فيها يجب‌ ان‌ يكون‌ كله‌ لله تعالي‌، وليس‌لاءسماعيل‌(ع) فيها شي‌ء، واءسماعيل‌(ع) لا يريد ان‌ يدخل‌ هذه‌ الساحة‌الربانية‌ محمّلاً بـ (الانا) ومثقلاً بـ(الانا). بل‌ يريد ان‌ يتخفف‌ عن‌ ثقل‌الانا، ويندك‌ّ وتندك‌ّ اءرادته‌ وفعله‌ وتضحيته‌ في‌ مشيئة‌ الله تعالي‌ واءرادته‌،وكانه‌ (وليس‌ كانه‌ بل‌ تحقيقاً) ليس‌ له‌ دور ولا أثر ولا فعل‌ ولا فضل‌ في‌هذه‌ التضحية‌ النادرة‌، واءنما كل‌ ذلك‌ لله تعالي‌ وبمشيئة‌ الله واءرادته‌،وبفضله‌ ورحمته‌ وهو كذلك‌، فيقول‌:

(ستجدني‌ اءن‌ شاء الله من‌ الصابرين‌).

فتشعر بالتضحية‌ والعطاء العظيم‌، وتشعر بمشيئة‌ الله تعالي‌ وفضله‌ورحمته‌ علي‌ اءسماعيل‌ بهذه‌ التضحية‌، ويختفي‌ اءسماعيل‌(ع) ويختفي‌ظلاله‌ تحت‌ كلمة‌ (اءن‌ شاء الله) حتي‌ لا تكاد تشعر به‌، رغم‌ ضخامة‌التضحية‌ وعظمة‌ الفداء.

صلّي‌ الله عليك‌ يا ابن‌ اءبراهيم‌ خليل‌ الرحمن‌ تضاءلت‌ أمام‌ عظمة‌ الله،فعظّمك‌ في‌ محكم‌ كتابه‌، وذبت‌ في‌ مشيئة‌ الله فأبرزك‌ الله تعالي‌ في‌ قرا´ن‌عظيم‌ يتلوه‌ الناس‌ ليلاً ونهاراً عبر القرون‌: (واذكر في‌ الكتاب‌ اءسماعيل‌ اءنّه‌كان‌ صادق‌ الوعد وكان‌ رسولاً نبياً وكان‌ يامر اهله‌ بالصلاة‌، والزكاة‌، وكان‌ عند ربّه‌مرضياً).

ولقد كان‌ مشهد هذه‌ التضحية‌ الفريدة‌ في‌ التاريخ‌ صغيراً في‌ الارض‌عظيماً في‌ السماء. ولقد اجتمع‌ الملائكة‌ يومئذٍ عند هذا المشهد العظيم‌،ليروا أن‌ ابا الانبياء اءبراهيم‌(ع) قد اضجع‌ فلذة‌ كبده‌ اءسماعيل‌ علي‌ الارض‌،وتلّه‌ للجبين‌، واهوي‌ بالسكين‌ علي‌ نحره‌ ليذبحه‌، واءسماعيل‌ مستسلم‌لامر الله لا يضطرب‌ ولا يتحرك‌، ولم‌ يشهد يومئذٍ هذا المشهد العظيم‌ علي‌الارض‌ من‌ الناس‌ أحدٌ؛ فضجّت‌ الملائكة‌ الي‌ الله تعالي‌ يدعون‌ اللهالرحمن‌ الرحيم‌ أن‌ يفدي‌ اءسماعيل‌ بذبح‌ عظيم‌ .

ولقد كانت‌ الدنيا يومئذٍ غارقة‌ في‌ ظلمات‌ الكفر والجهل‌. ومن‌ بين‌هذه‌ الظلمات‌ كان‌ يرتفع‌ عمود من‌ النور من‌ وادي‌ مِني‌' الي‌ السماء،يجتمع‌ حوله‌ ملائكة‌ الله ليروا مشهد هذه‌ التضحية‌ العظيمة‌، تضحية‌ الابن‌وتضحية‌ الاب‌.

ولست‌ أدري‌ أيهما كان‌ اعظم‌ عند الملائكة‌ يومئذٍ، وهم‌ يشهدون‌هذا المشهد العظيم‌: تضحية‌ الاب‌ بابنه‌، ام‌ تضحية‌ الابن‌ بنفسه‌ علي‌' يدابيه‌؟

ثم‌ أيهما كان‌ أعظم‌ لدي‌ الملائكة‌، هذه‌ التضحية‌ النادرة‌ والعجيبة‌ من‌ذلك‌ الشاب‌ اليافع‌ المراهق‌ اءسماعيل‌(ع)، ام‌ تعليق‌ ذلك‌ كله‌ علي‌ مشيئة‌ الله:(ستجدني‌ اءن‌ شاء الله من‌ الصابرين‌)؟

ولكن‌ مهلاً يا ملائكة‌ ربّي‌ لا تسجّلوا المثل‌ الاعلي‌ لهذا الوالد وماولد8 وتريّثوا حتي‌ ياتي‌ الله من‌ ذرية‌ هذا الاب‌ وابنه‌ في‌ كربلاء، بابي‌الشهداء يحمل‌ رضيعه‌ علي‌ يده‌ وهو يتلظي‌' عطشاً، ويطلب‌ له‌ الماءفيرميه‌ الخبيث‌ حرملة‌ بن‌ كاهل‌ الاسدي‌ بسهم‌ فيذبحه‌ من‌ الوريد الي‌الوريد علي‌ يده‌ أبيه‌!

فيضع‌ الحسين‌ كفّه‌ تحت‌ نحر الطفل‌، ويرمي‌ بدمه‌ الي‌ السماء لئلاينزل‌ غضب‌ الله علي‌ الارض‌.

ثم‌ لا يستعظم‌ شيئاً من‌ فعله‌، ولا يكبر شيئاً من‌ تضحيته‌ وعطائه‌، ولايدخله‌ العجب‌ بشي‌ء من‌ هذا البذل‌ العظيم‌ في‌ سبيل‌ الله، ويري‌ أن‌ كل‌ ذلك‌من‌ الله، وبمشيئة‌ الله تعالي‌، وبفضله‌، ورحمته‌، وليس‌ له‌ في‌ ذلك‌ دور أوشان‌، واءنما الشان‌ كل‌ الشان‌ لله تعالي‌ وحده‌، وهو منفّذ لامر الله تعالي‌ فقط‌فيقول‌: «اءني‌ راحل‌ مصبحاً اءن‌ شاء الله». ويقول‌ يوم‌ عاشوراء، في‌ ساحة‌التضحية‌ والفداء: «اللهم‌ اءن‌ كان‌ هذا يرضيك‌، فخذ حتّي‌ ترضي‌'».

ثانياً: تأملات‌ في‌ الخطاب‌ الحسيني‌ يوم‌ عاشوراء:

«سللتم‌ علينا سيفاً لنا في‌ ايمانكم‌، وحششتم‌ علينا ناراً اقتدحناها علي‌ عدوناوعدوكم‌. فأصبحتم‌ اءلباً لاعدائكم‌ علي‌ اوليائكم‌، بغير عدل‌ أفشوه‌ منكم‌، ولا امل‌اصبح‌ لكم‌ فيها».

هذا خطاب‌ الحسين‌(ع) للناس‌ يوم‌ عاشوراء. وهو خطاب‌ عجيب‌،خاطب‌ به‌ الناس‌ في‌ تلك‌ الساعة‌ الحرجة‌ قبل‌ ان‌ يسلّوا عليه‌ السيوف‌،يحمل‌ هذا الخطاب‌ ما لا حد له‌ من‌ الاسي‌ والحسرة‌ علي‌ اولئك‌ الناس‌الذين‌ سلّوا سيوفهم‌ بوجه‌ ابن‌ بنت‌ رسول‌ الله(ص). وسوف‌ اتحدث‌ عن‌جملة‌ من‌ النقاط‌ في‌ هذا الخطاب‌.

1 ـ سللتم‌ علينا سيفاً في‌ ايمانكم‌:

الناس‌ علي‌ خارطة‌ الصراع‌ ثلاث‌ طوائف‌:

الاولي‌ والثانية‌ طرفا الصراع‌ والثالثة‌ الفئة‌ المتفرّجة‌ علي‌ ساحة‌الصراع‌، المتخلّفة‌ عن‌ الحق‌، وهي‌ شريحة‌ واسعة‌ من‌ المجتمع‌.

امّا الاولي‌ والثانية‌ فهما يدفعان‌ ضريبة‌ الصراع‌، وضريبة‌ الصراع‌ ان‌تتساقط‌ الايدي‌ والرؤوس‌، وهي‌ تعم‌ّ طرفي‌ الصراع‌ علي‌ نحو سواء، ولايختص‌ بجانب‌ (الحق‌) او (الباطل‌)، وهذه‌ سنّة‌ الله تعالي‌ في‌ كل‌ صراع‌،يقول‌ تعالي‌: (اءن‌ تكونوا تالمون‌ فاءنهم‌ يالمون‌ كما تالمون‌، وترجون‌ من‌ الله ما لايرجون‌).

ويقول‌ تعالي‌: (اءن‌ يمسسكم‌ قرح‌ فقد مس‌ّ القوم‌ قرح‌ مثله‌، وتلك‌ الايام‌نداولها بين‌ الناس‌).

ويتميّز جانب‌ الحق‌ في‌ هذا الصراع‌، بتاييد الله تعالي‌ واءسناده‌ تعالي‌ونصره‌ لهم‌ في‌ الصراع‌، وقد وعد الله تعالي‌ المؤمنين‌ بذلك‌، يقول‌ تعالي‌:(اءن‌ تنصروا الله ينصركم‌ ويثبت‌ أقدامكم‌) (كتب‌ الله لاغلبن‌ انا ورسلي‌).

وهو ما يرجوه‌ المؤمنون‌ من‌ الله في‌ ساحة‌ الصراع‌ (وترجون‌ من‌ الله مالا يرجون‌).

ولهذا الرجاء اثر في‌ تطمين‌ ودعم‌ نفوس‌ المؤمنين‌ في‌ ساحة‌المعركة‌. امّا النصر الاءلهي‌ فهو الذي‌ يقرّر نتيجة‌ الصراع‌ لصالح‌ المؤمنين‌.

هذا عن‌ الفئتين‌ المتقاتلتين‌.

وأمّا الفئة‌ الثالثة‌ فهي‌ فئة‌ معقّدة‌، شديدة‌ التعقيد، سهلة‌ الانزلاق‌ الي‌جانب‌ الباطل‌ مكشوفة‌ للعدو.

وهذه‌ الخصائص‌ تجعل‌ هذه‌ الفئة‌ معرّضة‌ للانزلاق‌ الي‌ جانب‌ الباطل‌في‌ كل‌ حال‌.

وهؤلاء هم‌ الذين‌ يخاطبهم‌ الحسين‌(ع) في‌ يوم‌ عاشوراء، فقد غمدهؤلاء سيوفهم‌ في‌ ايام‌ علي‌(ع) والحسن‌(ع)، وتخاذلوا عن‌ نصرة‌ علي‌(ع)في‌ صفين‌، وعن‌ نصرة‌ الحسن‌(ع) بعد ذلك‌، حتي‌ التجا الاءمام‌ الحسن‌(ع)،لان‌ يهادن‌ معاوية‌ للاءبقاء علي‌' من‌ تبقي‌' من‌ شيعة‌ أبيه‌ علي‌(ع).

فلمّا غمدوا سيوفهم‌ عن‌ نصرة‌ علي‌ (ع) والحسن‌(ع) سلّها معاوية‌،وبعده‌ يزيد في‌ وجه‌ الحسين‌(ع) يوم‌ عاشوراء.

ولم‌ يطل‌ الغمد بهذه‌ السيوف‌، فاءن‌ ساحة‌ الصراع‌ ترفض‌ المتفرجين‌والمتخلّفين‌، ومن‌ لم‌ يقف‌ مع‌ الحق‌ في‌ ساحة‌ الصراع‌، وا´ثر العافية‌ علي‌ضرّاء القتال‌ لابد ان‌ يقف‌ الي‌ جانب‌ الباطل‌ في‌ وقت‌ قريب‌، فاءن‌ مواقف‌انصار الحق‌ ثابتة‌ وحصينة‌ لا ينال‌ منها العدو، ومواقف‌ المتخلفين‌ سهلة‌الانزلاق‌ الي‌ جانب‌ العدو، ومكشوفة‌ لهم‌، يسهل‌ لهم‌، الوصول‌ اليها،واءغراؤهم‌ واستمالتهم‌ اليهم‌، أو اءرهابهم‌ واءرعابهم‌ علي‌ مثل‌ هذا الانقلاب‌الي‌ جهة‌ الباطل‌.

ومن‌ هنا نقول‌: اءن‌ مواقع‌ الناس‌ في‌ ساحة‌ الصراع‌ تؤول‌ الي‌ موقعين‌في‌ النتيجة‌ النهائية‌: اما الوقوف‌ الي‌ جانب‌ الحق‌، ولاءً، وبراءة‌ً، واماالوقوف‌ الي‌ جانب‌ الباطل‌ من‌ الولاء والبراءة‌، كذلك‌.

هؤلاء هم‌ الذين‌ يخاطبهم‌ الحسين‌(ع) في‌ كربلاء:

غمدوا سيوفهم‌ عن‌ اخيه‌ الحسن‌(ع) من‌ قبل‌، وهاهم‌ يسلّون‌ سيوفهم‌عليه‌ اليوم‌ في‌ كربلاء.

فيقول‌ لهم‌:

سللتم‌ علينا سيفاً لنا في‌ أيمانكم‌..

والسيف‌: القوة‌، وقد كان‌ العرب‌ قبل‌ الاءسلام‌ امّة‌ معزولة‌ في‌ الصحراءعن‌ العالم‌، ضعيفة‌، لا قوة‌ لها ولا سلطان‌ ولا مال‌، فمكّنهم‌ الاءسلام‌ من‌القوة‌ والمال‌، وحمّلهم‌ رسالة‌ التوحيد، وفتح‌ لهم‌ مشارق‌ الارض‌ومغاربها، وجعلهم‌ سادة‌ وأئمة‌ وحكّاماً علي‌ وجه‌ الارض‌.

والشام‌ كانت‌ يومئذٍ مركزاً لهذا السلطان‌ الذي‌ جاء به‌ الاءسلام‌ الي‌العرب‌، وكانت‌ الشام‌ تبسط‌ نفوذها السياسي‌ والعسكري‌ علي‌ أجزاءواسعة‌ من‌ ا´سيا وأفريقيا.

فيقول‌ لهم‌ الحسين‌(ع) في‌ كربلا، يوم‌ عاشوراء:

اءن‌ الله هداكم‌ بجدّي‌ رسول‌ الله ورزقكم‌ به‌(ص) هذا السلطان‌ الواسع‌ علي‌ وجه‌الارض‌. وجعلكم‌ به‌ أئمة‌ وسادة‌ في‌ الارض‌.. فهذا السلطان‌ (السيف‌) لنا في‌ أيمانكم‌،ولكنكم‌ تخاذلتم‌ من‌ نصرة‌ ابي‌ واخي‌ من‌ قبل‌ وغمدتم‌ سيوفكم‌ عن‌ نصرتهم‌، وها أنتم‌اليوم‌ تسلّون‌ السيف‌ الذي‌ جعله‌ رسول‌ الله(ص)في‌ أيمانكم‌، بوجه‌ ابن‌ بنت‌ رسول‌ اللهوتقاتلونه‌ به‌.

وقد كان‌ أحري‌ بكم‌ ان‌ تقاتلوا بهذا السيف‌ معاوية‌ بن‌ ابي‌ سفيان‌ من‌ قبل‌ الي‌جانب‌ ابي‌ واخي‌، ويزيد بن‌ معاوية‌ اليوم‌ الي‌ جانبي‌.

2 ـ وحششتم‌ علينا ناراً اقتدحناها علي‌ عدوّنا وعدوّكم‌:

ما هي‌ هذه‌ النار التي‌ يتحدث‌ الحسين‌(ع) عنها يوم‌ عاشوراء؟

ومن‌ اقتدحها؟

وأين‌ اقتدحها؟

هذه‌ النار هي‌ انفجار النور الهائل‌ في‌ جزيرة‌ العرب‌، وكانت‌ تحمل‌الي‌ البشرية‌ وهجاً ساطعاً، انار قلوب‌ الناس‌ وعقولهم‌ في‌ الشرق‌ والغرب‌،ودخل‌ كل‌ بيت‌، وبهذا النور اذهب‌ الله عن‌ الناس‌ ظلمات‌ الجاهلية‌؛فتحول‌ هذا النور الي‌ اءيمان‌ واءخلاص‌ وعطاء ويقين‌، وقيم‌، وتضحية‌وصلاة‌، ودعاء، والي‌ مدارس‌ للعلم‌ ومساجد للعبادة‌، انتشرت‌ علي‌ وجه‌الارض‌، والي‌ ثورات‌ وحركات‌ للمظلومين‌ علي‌ الظالمين‌، كما اُحرقت‌هذه‌ النار عروش‌ الطغاة‌ والجبابرة‌ في‌ فارس‌ والروم‌ ومصر، وكسرت‌الاغلال‌ والقيود من‌ معاصم‌ الناس‌ وأقدامهم‌، وأطلقتهم‌ من‌ أسر الظالمين‌.

واقتدح‌ رسول‌ الله(ص) هذه‌ النار في‌ جزيرة‌ العرب‌، ثم‌عمّت‌ الدنياكلّها، فلم‌ يمض‌ علي‌ هذه‌ القدحة‌ خمسون‌ سنة‌؛ حتي‌ كانت‌ هذه‌ النار تنيرمشارق‌ الارض‌ ومغاربها.

اقتدحها رسول‌ الله(ص) في‌ هذا الوسط‌ الجاهلي‌ من‌ جزيرة‌ العرب‌،ولم‌ ينتق‌ لهذه‌ الدعوة‌ طبقة‌ معينة‌، وانما فجّر كوامن‌ الفطرة‌ والعقل‌ في‌نفوس‌ من‌ استجاب‌ منهم‌ لهذه‌ الدعوة‌، وجعل‌ منهم‌ قوة‌ هائلة‌ هزمت‌جيوش‌ الفرس‌ والروم‌، واطاحت‌ بعروش‌ كسري‌ و قيصر.

تماماً كما يستخرج‌ المهندس‌ من‌ صخرة‌ معتمة‌ باردة‌ النوروالحرارة‌، وكما تعطينا الخشبة‌ المعتمة‌ الباردة‌ النور والحرارة‌.

كذلك‌ فجّر رسول‌ الله(ص) كوامن‌ الفطرة‌ والعقل‌ والضمير في‌ نفوس‌هؤلاء الناس‌ الخاملين‌ في‌ الجزيرة‌ فجعل‌ منهم‌ قمماً في‌ الصلاح‌ والتقوي‌والقوّة‌ والصمود والاءيمان‌ والخشوع‌، استطاعوا فيما بعد ان‌ ينشروا هذه‌الدعوة‌ علي‌ وجه‌ الارض‌، ويكونوا سادة‌ وائمة‌ وقادة‌ للبشرية‌، بعد أن‌كانوا منزوين‌ عن‌ الحضارات‌ في‌ رقعة‌ صحراوية‌ غير ذات‌ زرع‌.

اجل‌، ثم‌ لم‌ يمض‌ خمسون‌ سنة‌ علي‌ وفاة‌ رسول‌ الله(ص) الذي‌ اقتدح‌هذه‌ النار فيهم‌ ليحرق‌ بها عروش‌ الظالمين‌، حتي‌ حرق‌ الناس‌ بهذه‌ النارابيات‌ ا´ل‌ رسول‌ الله(ص)، وحرقوا بها باب‌ علي‌ وفاطمة‌، وحرقوا بها خيام‌اهل‌ بيت‌ رسول‌ الله(ص) في‌ كربلاء.

فاي‌ّ حق‌ اضاعه‌ هؤلاء الناس‌؟

وكيف‌ ردّوا لرسول‌ الله(ص) الجميل‌؟

يا حسرة‌ علي‌ العباد!!

وقد قال‌ الله تعالي‌ لهم‌: (قل‌ لا اسالكم‌ عليه‌ أجراً اءلاّ المودة‌ في‌ القربي‌).

3 ـ فاصبحتم‌ اءلباً لاعدائكم‌ علي‌ اوليائكم‌:

وهذه‌ هي‌ الردّة‌ الثانية‌، وهي‌ اعظم‌ من‌ الاولي‌. وتحدّث‌ الاءمام‌(ع) عن‌الردّة‌ الاولي‌ في‌ قوله‌ (ع): «سللتم‌ علينا سيفاً لنا في‌ ايمانكم‌...» في‌ الردّة‌ الاولي‌تحوّلت‌ السيوف‌ من‌ جانب‌ اهل‌ بيت‌ رسول‌ الله الي‌ جانب‌ اعداء اهل‌البيت‌ وخصومهم‌، وقد حدّدها الفرزدق‌ عندما التقي‌' بالحسين‌(ع) في‌الطريق‌ الي‌ العراق‌ بشكل‌ دقيق‌ حيث‌ قال‌ للاءمام‌(ع): «قلوبهم‌ معك‌ وسيوفهم‌عليك‌». وهو تشخيص‌ دقيق‌ للحالة‌ النفسية‌ والسياسية‌ للناس‌ يومئذٍ؛ فقدكانت‌ قلوبهم‌ مع‌ الحسين‌(ع) حتي‌ ذلك‌ الوقت‌، ولكن‌ مواقفهم‌ السياسية‌كانت‌ لبني‌ اُمية‌.. وهذه‌ هي‌ البداية‌، وهي‌ الردّة‌ الاولي‌'.

والحالة‌ السوية‌ أن‌ تتوافق‌ القلوب‌ والسيوف‌ في‌ جانب‌ الحق‌ّ فاءذاتخالفت‌ السيوف‌ والقلوب‌ فتلك‌ هي‌ المحطة‌ الاولي‌' للردّة‌.

والمحطة‌ الثانية‌ للردّة‌، هي‌ أن‌ تتوافق‌ القلوب‌ والسيوف‌ علي‌ عداءوقتال‌ أهل‌ البيت‌:.

وهذا هو الذي‌ يحدّثنا عنه‌ الاءمام‌(ع) في‌ هذه‌ الفقرة‌:

«فأصبحتم‌ اءلباً لاعدائكم‌ علي‌ اوليائكم‌».

والاءلب‌: القوم‌ يجمعهم‌ عداء واحد.

ولابد من‌ توضيح‌ وشرح‌ لهذه‌ الكلمة‌:

اءن‌ (الاُمة‌) مجموعة‌ من‌ الناس‌، يجمعهم‌ ولاء واحد وبراءة‌ واحدة‌،وهذا هو اسلم‌ وادق‌ّ تعبير للامة‌.

وهذه‌ الامة‌ يجمعها الولاء لله ولرسوله‌ ولائمّة‌ المؤمنين‌ (اءنّما وليكم‌الله ورسوله‌ والذين‌ ا´منوا الذين‌ يقيمون‌ الصلاة‌ ويؤتون‌ الزكاة‌ وهم‌ راكعون‌) فمن‌يقبل‌ بهذا الولاء، فهو من‌ هذه‌ الاُمة‌، ومن‌ يرفض‌ هذا الولاء او بعضه‌،فليس‌ من‌ هذه‌ الاُمة‌.

وتجمع‌ هذه‌ الاُمة‌ براءة‌ من‌ الطاغوت‌ الذي‌ امرنا الله تعالي‌ ان‌ نكفربه‌، وبراءة‌ من‌ المشركين‌؛ فمن‌ تبرا منهما دخل‌ في‌ هذه‌ الامة‌، ومن‌ لم‌يتبرا منهما لم‌ يدخل‌ في‌ هذه‌ الاُمة‌: (ان‌ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت‌).

فيقول‌ لهم‌ الاءمام‌ (ع) يوم‌ عاشوراء: لقد كانت‌ تجمعنا بكم‌ براءة‌واحدة‌ من‌ اعداء الله، وعداء واحد لهم‌، وولاء واحد لاولياء الله، وقداصبحتم‌ اليوم‌: (اءلباً لاعدائكم‌ علي‌ اوليائكم‌).

يجمعكم‌ بأعدائكم‌ العداء لاوليائكم‌، بعكس‌ ما يجب‌ ان‌ يكون‌تماماً. والحالة‌ السويّة‌ ان‌ يجمعكم‌ باوليائكم‌ العداء لاعدائكم‌، وهذه‌ ردّة‌كاملة‌ بعد الردّة‌ الاولي‌، وهي‌ المحطة‌ الثانية‌ من‌ الردّة‌، وهو تعبير دقيق‌جداً لحال‌ الناس‌ الذين‌ خاطبهم‌ الحسين‌ (ع) في‌ عاشوراء.

وهذا هو الانقلاب‌ في‌ بؤرتي‌ (الحب‌ والبغض‌) او (الولاء والبراءة‌).وهو أقصي‌ درجات‌ الردّة‌ في‌ شخصية‌ الانسان‌.

4 ـ بغير عدل‌ أفشوه‌ فيكم‌ ولا امل‌ أصبح‌ لكم‌ فيهم‌:

يقول‌ لهم‌ الاءمام‌ (ع): اءن‌ّ الذي‌ تغيّر هو القلوب‌، تحولت‌ من‌ الهدي‌ الي‌الضلال‌، ومن‌ أولياء الله الي‌ أعداء الله، وانقلبت‌ من‌ الولاء الي‌ البراءة‌، ومن‌البراءة‌ الي‌ الولاء دون‌ أن‌ يتغيّر بنو امية‌ عمّا كانوا عليه‌.

«بغير عدل‌ افشوه‌ فيكم‌»:

هاهم‌ بنو امية‌ يمارسون‌ الظلم‌، كما كانوا يمارسونه‌ من‌ قبل‌، وامعنوافي‌ الظلم‌ والضلال‌، وأسرفوا علي‌ أنفسهم‌ في‌ ذلك‌ ايّما اءسراف‌.

فلم‌ يحدث‌ انقلاب‌ في‌ واقع‌ بني‌ امية‌، اءنما الذي‌ حدث‌ ردّة‌ في‌القلوب‌، من‌ محور الولاء الي‌ البراءة‌، ومن‌ محور البراءة‌ الي‌ الولاء. فاءن‌هؤلاء الناس‌ انقلبوا من‌ ولاء اهل‌ البيت‌ الي‌ ولاء بني‌ أمية‌، دون‌ أن‌ يتغيراهل‌ بيت‌ الرسالة‌: عمّا كانوا عليه‌ من‌ الهدي‌ والصلاح‌، او يتغير بنوأمية‌ عمّا كانوا عليه‌ من‌ الضلال‌ والظلم‌.

ولكن‌ الناس‌ انقلبوا من‌ البراءة‌ من‌ بني‌ أمية‌ الي‌ البراءة‌ من‌ اهل‌البيت‌: وقتالهم‌، ومن‌ الولاء لاهل‌ البيت‌: الي‌ الولاء لبني‌ أميّة‌.

«ولا امل‌ اصبح‌ لكم‌ فيهم‌»:

وكما لم‌ يكن‌ هذا الانقلاب‌ بسبب‌ حصول‌ انقلاب‌ في‌ بني‌ أمية‌ من‌الظلم‌ الي‌ العدل‌، كذلك‌ لم‌ يكن‌ بسبب‌ أن‌َّ الناس‌ اصبح‌ لهم‌ أمل‌ في‌ عدل‌بني‌ أمية‌ بعد ذلك‌.

اذن‌، لم‌ ينخدع‌ الناس‌ ببني‌ اُمية‌ حينما والوهم‌، وقاتلوا أعداءهم‌وخصومهم‌.

فاءن‌ لم‌ يكن‌ الناس‌ مخدوعين‌، فماذا جري‌ في‌ نفوسهم‌ حتي‌ انقلبوامن‌ ا´ل‌ رسول‌ الله الي‌ ا´ل‌ اُمية‌؟ اءن‌َّ الذي‌ حدث‌ هو أن‌ بني‌ اُمية‌ اذلّوهم‌بالاءرهاب‌ والطمع‌.

وفرق‌ بين‌ الخداع‌ والاءذلال‌؛ فاءن‌ّ الذي‌ ينخدع‌ بعدوّه‌: يُحِب‌ُّ عدوه‌ويواليه‌ ويحارب‌ اعداءه‌ خطاً، وهذا عجز في‌ الوعي‌ والمعرفة‌، وليس‌ ذُلاًوعجزاً في‌ الكرامة‌. واما الذي‌ يوالي‌ عدوّه‌ ويعطيه‌ سيفه‌ وماله‌ ثم‌ يعطيه‌قلبه‌ وحبه‌ وهو يعلم‌ انه‌ له‌ عدوّ فهذا هو الذل‌ّ بعينه‌ وانعدام‌ الكرامة‌.

وهذا لن‌ يكون‌ في‌ امة‌ اءلا بالاءذلال‌، والاءذلال‌ قد يكون‌ بالاءرهاب‌والقوة‌، وقد يكون‌ بالمال‌ والذهب‌.

وقد استعمل‌ بنو أمية‌ كلا الامرين‌: الاءذلال‌ بالقوّة‌ والاءرهاب‌ والاءذلال‌بالمال‌ والسلطان‌ فأذلوا الناس‌، نعم‌ استعملوا التغرير والاعلام‌ والخداع‌، اءلاّأن‌ اءسرافهم‌ في‌ الظلم‌ والترف‌ والمعصية‌ كان‌ اظهر من‌ أن‌ يخفي‌ علي‌ احد.

5 ـ ويّحكم‌، اهؤلاء تقصدون‌ وعنّا تتخاذلون‌؟:

وهذه‌ اعجب‌ ردّة‌ في‌ حياة‌ الاءنسان‌؛ ينقلب‌ فيها الاءنسان‌ علي‌ نفسه‌،فيحب‌ عدوّه‌ ويعادي‌ وليّه‌، وهو بمعني‌ أن‌ ينسي‌ الاءنسان‌ نفسه‌.

لان‌ّ نفس‌ الاءنسان‌ حب‌ وبغض‌، يحب‌ اولياءه‌ يبغض‌ أعداءه‌، فاءذانسي‌ الاءنسان‌ نفسه‌، نسي‌ من‌ يجب‌ ان‌ يحب‌ ومن‌ يجب‌ ان‌ يبغض‌،واعظم‌ من‌ ذلك‌ ان‌ ينقلب‌ عنده‌ الحب‌ والبغض‌، فيحب‌ عدوّه‌ ويبغض‌وليه‌.

وهذه‌ الحالة‌ هي‌ التي‌ يعاقب‌ الله بها الذين‌ ينسونه‌، فينسيهم‌ أنفسهم‌(نسوا الله فانساهم‌ انفسهم‌).

والذين‌ خاطبهم‌ الحسين‌(ع) يوم‌ عاشوراء، كانوا من‌ الذين‌ نسوا اللهفأنساهم‌ أنفسهم‌، ونسوا حبهم‌ وبغضهم‌، فأحبوا بني‌ اُمية‌، وكان‌ عليهم‌ أن‌يعادوهم‌، لما جنت‌ ايديهم‌ من‌ الظلم‌ والعصيان‌، وقاتلوا اولياءهم‌ الذين‌امر الله تعالي‌ المسلمين‌ بمودّتهم‌ واتباعهم‌ في‌ ا´يات‌ محكمات‌ من‌كتابه‌.

ولست‌ أدري‌ ماذا في‌ هذا الخطاب‌ من‌ الم‌ يعتصر قلب‌ الاءمام‌(ع) ؟الم‌نابع‌ من‌ الاءشفاق‌ عليهم‌ لهذه‌ الحالة‌ التي‌ وصلوا اليها من‌ البؤس‌، وليس‌لان‌ّ الاءمام‌ فقد نصرتهم‌ له‌ في‌ محنته‌.

6 ـ يا عبيد الاُمة‌ وشذّاذ الا´فاق‌ (الاحزاب‌):

هذه‌ اخلاقية‌ العبيد، اءن‌ العبيد ولاؤهم‌ لمن‌ يشتريهم‌، ليس‌ لولائهم‌اصل‌ ثابت‌، فمن‌ يشتريهم‌ من‌ سوق‌ النخاسة‌ يستحق‌ ولاءهم‌، كانوايحبونهم‌ ام‌ يحقدون‌ عليهم‌، فيتحول‌ ولاؤهم‌ من‌ مولي‌ الي‌' مولي‌ في‌ سوق‌النخاسة‌ في‌ لحظة‌ واحدة‌، عندما يدفع‌ المولي‌' الجديد الثمن‌ الي‌ المولي‌القديم‌، وعندما يدفع‌ المولي‌ القديم‌ السوط‌ الي‌ المولي‌ الجديد.

اءنهم‌ في‌ ساعة‌ واحدة‌ ينسون‌ ولاءهم‌ وحبهم‌ القديم‌، ليقدّموا الي‌المولي‌' الجديد ولاءهم‌ الجديد.

(وشذّاذ الاحزاب‌) اءن‌ّ الناس‌ ولاؤهم‌ لاحزابهم‌، في‌ السرّاء والضرّاء،وفي‌ الهزيمة‌ والانتصار، ولكن‌ شذّاذ الاحزاب‌، ولاؤهم‌ للمنتصر دائماً،حقاً كان‌ ام‌ باطلاً.

وهذه‌ حالة‌ ولاء سياسية‌ عائمة‌، لها مدلولات‌ نفسية‌ خطيرة‌، تكشف‌عن‌ فقدان‌ الاصالة‌ والقيم‌ في‌ النفس‌، والتبعية‌ المطلقة‌ للمنتصر والقاهر،والانسلاخ‌ الكامل‌ من‌ الذات‌ والقيم‌.

7 ـ فَسُحقاً لكم‌ يا عبيد الاُمة‌، وشذّاذ الاحزاب‌:

وهنا يدعو عليهم‌ الاءمام‌(ع) بالبعد من‌ رحمة‌ الله، والسحق‌ هو البعد،والاءمام‌(ع) ينطق‌ هنا في‌ هذا الدعاء عن‌ سنن‌ الله؛ ذلك‌ ان‌ لرحمة‌ الله تعالي‌منازل‌ في‌ حياة‌ الاءنسان‌، تنزل‌ عليه‌ منها الرحمة‌، فاذا ابتعد الانسان‌ عن‌هذه‌ المنازل‌ ابتعد عن‌ رحمة‌ الله، وهذه‌ سنة‌ الله في‌ عباده‌، ولنتامل‌ في‌ هذه‌السنة‌: اءن‌ بين‌ رحمة‌ الله الهابطة‌ علي‌ الناس‌ ومنازل‌ هذه‌ الرحمة‌ علاقة‌متبادلة‌.

فالرحمة‌ النازلة‌ تُفَعّل‌ مواضع‌ نزولها، فاءذا نزل‌ المطر علي‌ أرض‌اخضرت‌ وأثمرت‌ وأينعت‌ وازدهرت‌ وا´تت‌ اُكلها. وهذا هو فعل‌(الرحمة‌ النازلة‌) بـ (مواضع‌ نزولها).

ومواضع‌ الرحمة‌ تستنزل‌ الرحمة‌، ولا تنزل‌ الرحمة‌ علي‌ مواضعهااءلاّ اءذا كانت‌ مؤهلة‌ لنزول‌ الرحمة‌، وهذا التاهيل‌ هو (الطلب‌ التكويني‌)لرحمة‌ الله بلسان‌ الاستعداد، ولابد من‌ هذا التاهل‌ والاستعداد لقبول‌الرحمة‌ حتي‌ تنزل‌ الرحمة‌، وبعكسه‌ الاءعراض‌ عن‌ رحمة‌ الله، فاءنه‌ يدفع‌الرحمة‌ ويُبعّدها. والرحمة‌ الاءلهية‌ نازلة‌ لا تنقطع‌، ولكن‌ هناك‌ عوامل‌لاستقبال‌ رحمة‌ الله، تستنزل‌ الرحمة‌، وعوامل‌ لرفض‌ رحمة‌ الله.

تاملوا في‌ دعاء العبد الصالح‌ نوح‌(ع) علي‌ قومه‌: (وقال‌ نوح‌ رب‌ّ لا تذرعلي‌ الارض‌ من‌ الكافرين‌ دياراً، اءنّك‌ اءن‌ تذرهم‌ يُضلّوا عبادك‌ ولا يلدوا اءلاّ فاجراًكفّاراً).

وهو دعاء عجيب‌، ينطق‌ فيه‌ نوح‌(ع) بسنن‌ الله في‌ نزول‌ الرحمة‌وانقطاعها، لقد نضب‌ فيهم‌ كل‌ استعداد لقبول‌ الخير، وكل‌ استعداد بطلب‌الرحمة‌: (ولا يلدوا اءلا فاجراً كفّاراً) فعلي‌ ماذا تنزل‌ رحمة‌ الله؟

اءن‌ لرحمة‌ الله تعالي‌ في‌ حياة‌ الانسان‌ منازل‌ تتنزّل‌ عليها، فاءذا انعدمت‌هذه‌ المنازل‌ ونضب‌ معينها في‌ نفس‌ الاءنسان‌، فلا يبقي‌ لرحمة‌ الله تعالي‌موضع‌ في‌ حياة‌ الاءنسان‌، فيستحقون‌ عندئذٍ البعد من‌ رحمة‌ الله.

والحسين‌(ع) يدعو الله تعالي‌ علي‌ أولئك‌ الناس‌ يوم‌ عاشوراء؛ لان‌هذه‌ القلوب‌ فقدت‌ كل‌ّ القيم‌ التي‌ هي‌ منازل‌ الرحمة‌ في‌ نفوسهم‌، فلم‌ يبق‌لنزول‌ رحمة‌ الله موضع‌ في‌ نفوس‌ هؤلاء وحياتهم‌، فيقول‌ لهم‌: (فسحقاً ياعبيد الاُمة‌).

8 ـ غدر قديم‌ وشجت‌ عليه‌ أصولكم‌:

في‌ هذه‌ الحالة‌ يتحول‌ الشر من‌ حالة‌ طارئة‌ عارضة‌ الي‌ حالة‌ أصيلة‌عريقة‌ داخل‌ النفس‌، وكما ان‌ للخير عراقة‌ وأصالة‌ كذلك‌ للشر عراقة‌واصالة‌، وجذور الخير تمتد الي‌ الفطرة‌ والعقل‌ والضمير والقلب‌، وجذورالشر تمتد الي‌' الهوي‌'، وعندما يتاصّل‌ الشر والهوي‌' في‌ النفس‌ يفقدصاحبه‌ كل‌ منابع‌ الخير في‌ نفسه‌، وتنضب‌ في‌ قلبه‌ وضميره‌ وعقله‌وفطرته‌ كل‌ جذور الخير وأصول‌ الخير.

ويدخل‌ عامل‌ الوراثة‌ في‌ تاصيل‌ حالة‌ الخير وحالة‌ الشر معاً. ولست‌اقول‌: اءن‌ الوراثة‌ عامل‌ قهري‌ في‌ تاصيل‌ الخير والشر، ولكن‌ اقول‌: اءن‌عامل‌ الوراثة‌ له‌ دور هام‌ في‌ تاصيل‌ الخير والشر.

اءن‌ الوراثة‌ تنقح‌ الخير وتنقح‌ الشر، ولكن‌ من‌ دون‌ اءجبار وقهر .

ومن‌ هنا فاءن‌ البشرية‌ تنشطر الي‌ شطرين‌: الشجرة‌ الطيّبة‌ والشجرة‌الخبيثة‌، كل‌ منهما شجرة‌، وللشجرة‌ جذور وثمار، وتتشابه‌ الجذوروالثمار في‌ الشجرة‌، اءن‌ الجذور أصل‌ الشجرة‌ والثمار فرعها، والشجرة‌واسطة‌ في‌ نقل‌ الخصائص‌ من‌ الجذور الي‌ الثمار.

وكذلك‌ الشجرة‌ الطيّبة‌ والشجرة‌ الخبيثة‌، كل‌ منهما ينقلان‌ الطيّب‌والخبيث‌ من‌ الاسلاف‌ الي‌ الابناء فيتعرق‌ في‌ كل‌ منهما الخير والشر.

وبالتالي‌ فهاتان‌ الشجرتان‌ تشكلان‌ خطين‌ في‌ تاريخ‌ البشر: خطّاًصاعداً، مستمراً في‌ الصعود، وخطّاً هابطاً مستمراً في‌ السقوط‌. الاسرة‌النمرودية‌ في‌ سقوط‌، والاسرة‌ الاءبراهيمية‌ في‌ صعود. والاسرة‌ الموسوية‌في‌ صعود، والاسرة‌ الفرعونية‌ في‌ سقوط‌.

وقانون‌ الوراثة‌ ينقّح‌ هذا الصعود، وذلك‌ الهبوط‌، لا ينقل‌ فقط‌خصائص‌ الخير والشر من‌ الاسلاف‌ الي‌ الابناء، واءنما ينقّحه‌ ويصفّيه‌،ويفرز الشرّ عن‌ الخير، ويفرز الخير عن‌ الشر، وكلما يمر الزمن‌ علي‌هاتين‌ الاسرتين‌ تتسع‌ الفاصلة‌ بينهما، حتي‌' اءذا خلصت‌ نفوسهم‌ عن‌الخير، ونضب‌ معين‌ الخير في‌ نفوسه‌، نزل‌ عليهم‌ العذاب‌؛ لانهم‌ لايستحقون‌ الرحمة‌ عندئذٍ كما حدث‌ في‌ عهد نوح‌(ع). والذي‌ حدث‌ في‌عهد نوح‌(ع) يحدث‌ في‌ اي‌ وقت‌ ا´خر؛ فتنتهي‌ الاسرة‌ الخبيثة‌ وتسقط‌،فتبدا دورة‌ جديدة‌ من‌ التاريخ‌.

اءن‌ قانون‌ الوراثة‌ ينقل‌ خصائص‌ الطيّب‌ والخبيث‌ من‌ جيل‌ الي‌ جيل‌،وينقّح‌ الطيّب‌ والخبيث‌ معاً.

والي‌ هذا القانون‌، (قانون‌ الوراثة‌) يشير الاءمام‌ الحسين‌(ع): «اجل‌ واللهغدر فيكم‌ قديم‌، وشجت‌ عليه‌ اصولكم‌، وتازّرت‌ عليه‌ فروعكم‌، فكنتم‌ اخبث‌ ثمر،شجي‌ للناظر وأكلة‌ للغاصب‌».

(وشجت‌: اشتبكت‌، تازرت‌: هاجت‌) .

يقول‌ لهم‌ الاءمام‌(ع): اءن‌ هذا الغدر والخبث‌ فيكم‌ أصيل‌ وعريق‌، ورثه‌الابناء من‌ الا´باء، اشتبكت‌ عليه‌ أصولكم‌ وتازّرت‌ وهاجت‌ وتفتحت‌عليه‌ فروعكم‌، فأنتم‌ أخبث‌ ثمر للشجرة‌ الخبيثة‌.

ويبقي‌' أن‌ نضيف‌ الي‌ هذا: أن‌ الوراثة‌ هنا، في‌ القيم‌ والسلوك‌ لا ينطبق‌مع‌ الوراثة‌ الحياتية‌ (البايولوجية‌)، وقانون‌ الوراثة‌ الحياتية‌ لا ينطبق‌بالضرورة‌ علي‌ قانون‌ الوراثة‌ في‌ القيم‌ والسلوك‌ والافكار.

وقد يتخالفان‌ تماماً، كما حدث‌ ذلك‌ في‌ ابن‌ نوح‌(ع). اءن‌ وراثة‌ العمل‌،وهي‌ غير الوراثة‌ البايولوجية‌، وتعبير القرا´ن‌ عن‌ ابن‌ نوح‌ (ع) تعبير دقيق‌،(اءنّه‌ عمل‌ غير صالح‌)، واءن‌ كان‌ من‌ ذرية‌ نوح‌(ع)، وهو اءمام‌ الصالحين‌.

المجمع‌ العالمي‌ لاهل‌ البيت‌: قم‌ المقدسة‌

/ 1