درّة نجفيّة ملتقطة من كتاب الدرر النجفية للمحدِّث الكبير الشيخ يوسف البحراني قدسسره
اعلم ـ أيّدك اللّه تعالي بتأييده ـ أنّه قد كثرت الأسئلة من الطلبة عن الفرق بين المجتهدين والأخباريين . وأكثرَ المسؤولون من وجوه الفروق في ذلك ، حتي أنّ شيخنا المحدِّث الصالح الشيخ عبد اللّه بن الحاج صالح البحراني قدسسره في كتاب ( منية الممارسين في أجوبة الشيخ ياسين ) قد أنهاها إلي ثلاثة وأربعين حيث كان من عُمَد الأخباريّين المتصلّبين . وقد كنت في أوّل الأمر من الجارين علي هذه الطريقة ، وقد أكثرت البحث في ذلك [ مع ]بعض مشايخنا المعاصرين من المجتهدين . وقد أودعت كتابي الموسوم بـ ( المسائل الشيرازية ) مقالة مبسوطة مشتملة علي جملة من الأبحاث الشافية والأخبار الكافية المتعلّقة بذلك والمؤيّدة لما هنالك ، إلاّ أنّ الذي ظهر لي ـ بعد إعطاء التأمل حقّه في المقام وإمعان النظر في تلك الفروق التي ذكرها اُولئك الأعلام ـ هو سدّ هذا الباب وإرخاء الستر دونه والحجاب وإن كان قد فتحه أقوام وأوسعوا فيه دائرة النقض والابرام .أمّا أوّلاً : فلاستلزامه القدح في علماء الطرفين والازراء بفضلاء الجانبين ، كما قد طعن به كلّ من علماء الطرفين علي الآخر ، بل ربّما انجرّ إلي القدح في الدين ، ولا سيّما من الخصوم المعاندين ، كما شنّع عليهم به الشيعة من انقسام مذهبهم ودينهم إلي المذاهب الأربعة ، بل شنّع به كلّ من أرباب المذاهب الأربعة علي الآخر .وأمّا ثانيا : فلأنّ ما ذكروه في وجوه الفرق بين الفرقتين وجعلوه مائزا بين الطائفتين جلّه بل كلّه عند التأمل بمُرّ الانصاف وتجنّب جانب التعصّب والاعتساف لا يوجب فرقا علي التحقيق ، كما سنوضّح لك ذلك في المقام بأوضح بيان تشتاقه الطباع السليمة والأفهام .ولقد كان العصر الأوّل مملوءا من المحدِّثين والمجتهدين مع أنّه لم يرتفع بينهم صيت هذا الاختلاف ، ولم يطعن منهم أحد علي الآخر بالاتصاف بهذه الأوصاف ، وإن ناقش بعضهم بعضا في جزئيات المسائل واختلفوا في تطبيق تلك الدلائل ، كما هو شأن العلماء من كلّ قبيل ، والأمر الدائر بينهم جيلاً بعد جيل .وحينئذٍ فالأولي والأليق بذوي التقوي ، والأحري في هذا المقام والأقوي هو أن يقال إنّ علماء الفرقة المحقّة وفضلاء الشريعة الحقّة ـ رفع اللّه تعالي درجاتهم وألحقهم بساداتهم سلفا وخلفا ـ إنّما يجرون علي مذهب أئمتهم المعصومين وطريقتهم التي أوضحوها لديهم ، فإنّ جلالة شأنهم وسطوع برهانهم وورعهم وتقواهم المشهور بل المتواتر علي مرّ الأيّام والدهور يمنعهم من الخروج عن تلك الجادّة القويمة والطريقة المستقيمة ، ولكن ربّما حاد بعضهم ـ أخباريّا كان أو مجتهدا ـ عن الطريق غفلة أو توهّما أو لقصور اطلاع أو قصور فهم أو نحو ذلك في بعض المسائل فهو لا يوجب تشنيعا ، ولا قدحا في أصل الاجتهاد .وجميع تلك الاُمور التي جعلوها مناط الفرق إنّما هي من هذا القبيل ؛ فإمّا أن تكون من جملة المسائل التي اختلفت فيها الأنظار وتصادمت فيها الآراء والأفكار أو أنّ ذلك القول كان ناشئا عن بعض هذه الأسباب المذكورة أو نحو ذلك ، كما سيظهر لك إن شاء اللّه تعالي .وأنت تعلم أنّ كلاًّ من المجتهدين والأخباريين يختلفون في آحاد المسائل ، بل ربما خالف أحدهم نفسه مع أنّه لا يوجب تشنيعا ولا قدحا . وقد ذهب رئيس الأخباريّين الصدوق رحمهالله إلي جملة من المذاهب الغريبة النادرة التي لم يوافقه عليها أخباري ولا مجتهد ، مع أنّه لم يوجب ذلك طعنا عليه ولا قدحا في علمه وفضله .ولم يرتفع صيت هذا الخلاف ولا ارتكاب هذا الاعتساف إلاّ من زمن صاحب الفوائد المدنية سامحه اللّه تعالي وعامله برحمته المرضية ، فإنّه قد جرّد لسان التشنيع علي الأصحاب وأسهب في ذلك أيّ إسهاب وأكثر من التعصّبات التي لا تليق بمثله من العلماء الأطياب ، وهو وإن أصاب الصواب في بعض ما ذكر في ذلك الكتاب إلاّ انّها لا تخرج عمّا ذكرناه من سائر الاختلافات ، بل هي داخلة فيما ذكرناه من التوجيهات . وكان الأنسب بمثله حملهم علي محامل السداد والرشاد إن لم يجد ما يدفع به عن كلامهم الفساد ، فإنّهم رضوان اللّه عليهم لم يألوا جهدا في إقامة الدين وإحياء شريعة سيد المرسلين ، ولا سيّما آية اللّه العلاّمة الذي قد أكثر من الطعن عليه والملامة ، فإنّه بما ألزم به علماء الخصوم والمخالفين من الحجج القاطعة والبراهين حتي آمن بسببه الجمّ الغفير ودخلوا في هذا الدين الكبير والصغير والشريف والحقير ، وصنّف من الكتب المشتملة علي غوامض العلوم والتحقيقات حتي أنّ من تأخّر عنه لم يلتقط إلاّ من درر نثاره ولم يغترف إلاّ من زواخر بحاره ، قد صار له من اليد العليا عليه وعلي غيره من علماء الفرقة الناجية ما يستحق به الثناء الجميل ومزيد التعظيم والتبجيل ، لا الذمّ والنسبة إلي تخريب الدين ، كما اجترأ به قلمه عليه وعلي غيره من المجتهدين ( 1 ) .إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ ما ذكره شيخنا الصالح المتقدّم ذكره من الفروق وأطال به من الشقوق كثير منه بل أكثره تطويل بغير طائل وترديد لا يرجع إلي حاصل . ونحن نذكر هنا ما هو المعتمد عندهم ، والأقوي ممّا صرّح به هو وغيره في دليل تلك الدعوي ، وهو وجوه :أحدها : إنّ أدلّة الأحكام الشرعيّة عند المجتهدين أربعة : الكتاب والسنّة والاجماع ودليل العقل ، وأمّا عند الأخباريين فليس إلاّ الكتاب والسنّة ، بل اقتصر بعضهم علي السنّة بناء علي أنّ الكتاب لا يجوز تفسيره والعمل بما فيه إلاّ بما ورد التفسير به عن أهل البيت صلوات اللّه عليهم ، وهذا الوجه من أقوي وجوه الفروق عندهم .والجواب :1 ـ إنّه لا يخفي أنّ المجتهدين وإن عدّوا الاجماع في الأدلّة الشرعية في كتب الاُصول وربما استسلفوه في الكتب الاستدلالية أيضا إلاّ انّ المحققين منهم في مقام التحقيق والبحث في المسائل بالفكر الدقيق ينازعون في تحقيق الاجماع المذكور غاية النزاع ويطعنون فيه ويمزِّقونه تمزيقا لا يرجي له جماع ، كما لا يخفي علي من راجع كتبهم الاستدلالية ككتاب المعتبر والمسالك والمدارك والذكري والذخيرة للفاضل الخراساني وغيرها ، وهذا بحمد اللّه تعالي ظاهر لمن تتبّع الكتب المذكورة ، وحينئذٍ فليس مسألة الاحتجاج بالاجماع وجعله دليلاً شرعيا إلاّ من جملة المسائل الخلافية بين العلماء ـ مجتهدا كان أو أخباريّا ـ فلا يصلح لأن يكون فرقا في المقام .2 ـ وأمّا دليل العقل الذي هو عبارة عن البراءة الأصلية والاستصحاب فالخلاف في حجيّته بين المجتهدين موجود في غير موضع ، والمحققون منهم علي منعه ، وقد فصّل المحقق في أوّل كتاب المعتبر ( 2 ) والمحقق الشيخ حسن في المعالم ( 3 ) وغيرهما في غيرهما الكلام في البراءة الأصلية والاستصحاب علي وجه يدفع تمسّك الخصم به في هذا الباب ، وبعض كالسيد السند في المدارك جوّز العمل بالبراءة الأصلية ومنع العمل علي الاستصحاب ، وسيأتيك ما فيه تأييد الكلام في المقام .وحينئذٍ فهذه المسألة أيضا من جملة المسائل الخلافية بين العلماء ، فلا تصلح لأن تكون وجه فرق في المقام ، كما لا يخفي علي ذوي الأفهام .وثانيها : إنّ الأشياء عند الأخباريين مبنيّة علي التثليث : حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك ، وأمّا عند الاُصوليين فليس إلاّ الأولان .والجواب : أنّ فيه :أوّلاً : إنّ هذا الاختلاف متفرّع علي جواز العمل علي البراءة الأصلية وعدمه ، فمن اعتمد عليها وقال بها فالأشياء عنده إمّا حلال أو حرام ، ومن منع العمل عليها اتّجه عنده القول بالتثليث ، فهذا الوجه راجع إلي الوجه الأوّل ، فليس فيه إلاّ تكثير الأعداد وإضاعة المداد .وثانيـا : إنّه قد تقدّم في الدرّة الموضوعة في مسألة البراءة الأصلية ( 4 ) : أنّ مذهب الشيخ وشيخه مفيد الطائفة الحقة ورئيس الفرقة المحقة ـ كما تقدّم نقله عن كتاب العدّة ـ هو القول بالتثليث ، كما هو المنقول عن الأخباريين . وهذان الشيخان عمدتا المجتهدين ، ومثلهما أيضا المحقق في المعتبر كما تقدّم نقله ثمة .وحينئذٍ فلا يكون هذا القول مختصا بالأخباريين وكلام الصدوق في كتاب الاعتقادات صريحا وفي الفقيه ظاهرا ممّا ينادي بالقول بالتثنية ، كما هو المنقول عن الاُصوليين ، قال في كتاب الاعتقادات باب الاعتقاد في الحظر والاباحة : « قال الشيخ رضي اللّه عنه : اعتقادنا في ذلك أنّ الأشياء كلّها مطلقة حتي يرد في شيء نهي » ( 5 ) ، انتهي . فالأشياء عنده إمّا حلال أو حرام ، والصدوق هو عمدة الأخباريين ومستندهم في هذه الطريقة .وبذلك يظهر لك أنّ هذا الوجه لا يصلح لأن يكون فرقا ، بل هو من المسائل الخلافية بين العلماء ، كما قدّمنا ذكره .وثالثها : إنّ المجتهدين يوجبون الاجتهاد عينا أو تخييرا ، والأخباريين يحرّمونه ويوجبون الأخذ بالرواية إمّا عن المعصوم أو من روي عنه وإن تعددت الوسائط ، كذا قرّره شيخنا الصالح المشار إليه آنفا في كتابه المذكور .والجواب : إنّه لا ريب أنّ الناس في وقت الأئمة عليهمالسلام يكلّفون بالرجوع إليهم والأخذ عنهم مشافهة أو بواسطة أو وسائط ، وهذا ممّا لا خلاف فيه بين كافّة العلماء من أخباري ومجتهد ، وأمّا في زمان الغيبة كزماننا هذا وأمثاله فإنّ الناس فيه إمّا عالم أو متعلّم . وبعبارة اُخري : إمّا فقيه أو متفقّه . وبعبارة ثالثة : إمّا مجتهد أو مقلِّد .وقد حقّقنا في الفائدة الرابعة ( 6 ) من الفوائد التي في شرح مقبولة عمر بن حنظلة أنّ هذا العالم والفقيه الذي يجب علي من عداه الرجوع إليه لابدّ أن يكون له ملكة الاستنباط للأحكام الشرعية من الأدلّة التفصيلية ؛ إذ ليس كلّ أحد من الرعية والعامة ممّن يمكنه تحصيل الأحكام من تلك الأدلّة واستنباطها منها ، كما هو ظاهر لكلّ ناظر لما حققّناه في الموضع المشار إليه . والاجتهاد الذي أوجبه المجتهدون إنّما هو عبارة عن بذل الوسع في تحصيل الأحكام من أدلّتها الشرعيّة واستنباطها منها بالوجوه المقرّرة والقواعد المعتبرة .ولا ريب انّ من كان قاصرا عن هذه المرتبة العلميّة والدرجة السنيّة فلا يجوز الأخذ عنه ، ولا الاعتماد علي فتواه . وبذلك يظهر لك ما في قوله : « إنّ الأخباريين يوجبون الأخذ بالرواية » فإنّه علي إطلاقه ممنوع ؛ لما عرفت من التفصيل ؛ إذ أخذ عامة الناس بالرواية في زمن الغيبة أمر ظاهر البطلان وغنيّ عن البيان ، وكيف لا ؟ ! والروايات علي ما هي عليه من الاطلاق والتقييد والاجمال والاشتباه متصادمة في جملة الأحكام ، واستنباط الحكم الشرعي منها يحتاج إلي مزيد قوة وملكة راسخة قدسية ، كما ذكرناه في الموضع المشار إليه آنفا ، فأنّي للعاميّ باستعلام ذلك ؟ ! فلابدّ البتّة من الرجوع إلي عالم له تلك الملكة المذكورة .نعم ، بقي الكلام في أمر آخر : وهو أنّ ذلك الفقيه إن استند في استنباطه الأحكام إلي الكتاب والسنّة فهذا مما وقع الاتفاق علي الرجوع إليه ، وإن كان إنّما استند إلي أدلّة اُخري من إجماع أو دليل عقل أو نحوهما فهذا هو الذي منعه الأخباريون وشنّعوا به علي المجتهدين ، وحينئذٍ فيرجع هذا الوجه إلي الوجه الأوّل ، وليس في عدّه وجها علي حدة إلاّ مجرّد التهويل بتكثير الأعداد وإضاعة المداد . علي أنّك قد عرفت في جواب الوجه الأوّل الخلاف بين المجتهدين في أدلّة الزائد علي الكتاب والسنّة وأنّ ذلك لا يصلح لأن يكون وجها فارقا بين الفرقتين ، بل هو من سائر المسائل الخلافية الجارية في البين .ورابعها : إنّ المجتهدين يجوّزون أخذ الأحكام الشرعية بالظن ، والأخباريين يمنعونه ولا يقولون إلاّ بالعلم ، والعلم عندهم قطعيّ وهو ما وافق نفس الأمر ، وعاديّ واصليّ وهو ما وصل عن المعصوم ، ولم يجوّزوا فيه الخطأ عادة وأنّ الشارع وأهل اللغة والعرف يسمّونه علما ، وأنّ الظنّ ما كان بالاجتهاد والاستنباط بدون رواية ، وأنّ الأخذ بالرواية لا يسمّي ظنّا . ولهم بالمنع من العمل بالظنّ أدلّة من الكتاب والسنّة . والاعتراض بأنّ العامل بالأخبار لا يخرج عن العمل بالظنّ ممنوع ؛ لأنّه لا يسمّي ظنّا لغة ولا عرفا ولا شرعا . وتجويز احتمال النقيض فيه لا يخرجه عن ذلك ؛ لأنّ العلم الشرعيّ إنّما هو ما لا يجوز احتمال النقيض فيه عرفا وعادة لا مطلقا ؛ لورود الإذن بالأخذ من الرواة مع النهي عن الظنّ ، والتناقض في كلامهم غير جائز . هكذا قرّره شيخنا المشار إليه في كتابه المذكور آنفا .والجواب عمّا ذكرناه هنا يؤخذ ممّا حققناه في الفائدة الخامسة عشر ( 7 ) من الفوائد التي في شرح مقبولة عمر بن حنظلة ومن الدرّة الموضوعة في البحث مع صاحب الفوائد المدنية في هذه المسألة ، فلا حاجة إلي الاطالة هنا باعادته ، فارجع إليه يتّضح لك ما في هذه الدعوي ، ويظهر لك ما هو الأرجح والأقوي .وخامسها : إنّ المجتهدين ينوّعون الأحاديث إلي أربعة أنواع : صحيح وحسن وموثّق وضعيف ، والأخباريين إلي : صحيح وضعيف . والتحقيق : إنّ غير الصحيح من الحسن والموثّق إن جاز العمل به فهو صحيح ، وإلاّ فهو ضعيف ، فالاصطلاح مربّع لفظا ومثنّي معني .وسادسها : إنّ المجتهدين يعرّفون الصحيح بما رواه الإمامي العدل الثقة عن مثله إلي المعصوم ، والحسن ما كان رواته أو أحدهم إماميّا ممدوحا غير منصوص عليه بالتوثيق . . . ثمّ ذكر قسم الموثّق والضعيف باصطلاحهم إلي أن قال : والأخباريين يعرّفون الصحيح بما صحّ عن المعصوم وثبت ، ومراتب الصحّة تختلف ، فتارة بالتواتر وتارة بالأخبار الآحاد المحفوفة بالقرائن التي تشهد بصحة الخبر ، ثمّ ذكر القرائن الموجبة لصحة الأخبار ، كما ذكره الشيخ في العدّة ( 8 ) وغيره .والجواب : عن هذين الوجهين أنّه وإن جعلهما وجهين لتكثير العدد إلاّ أنّ مرجعهما إلي أمر واحد ، كما لا يخفي علي المتأمّل . ومع هذا فيرد عليه :أوّلاً : إنّ هذا الاصطلاح باتفاق الكلّ إنّما حدث من عصر العلاّمة عطر اللّه مرقده ، فهو اصطلاح محدث من مجتهدي المتأخرين ، وأمّا مجتهدوا المتقدّمين ـ كالشيخ الطوسي وشيخه المفيد والسيد المرتضي وأضرابهم وأتباعهم ـ علي عصر العلاّمة فطريقتهم في الأخبار بالنسبة إلي الوجهين المذكورين إنّما هو طريق الأخباريين ، فكيف يصلح هذا وجها فارقا بين المجتهدين مطلقا والأخباريين ، وأساطين المجتهدين المعتمدين لم يروا هذا ولم يذكروه بالكلية ! ما هذا إلاّ خلط واضح وعثار فاضح .ولو تمّت هذه الدعوي بالنسبة إلي بعض المجتهدين لجاز للخصم أن يقلبها عليه ، فيقول إنّ المجتهدين والأخباريين متفقون علي عدم هذا الاصطلاح وبطلان ما يتفرّع عليه باعتبار ما عليه متقدّموهم الذين عليهم المعوّل .وثانيا : إنّ أصحاب هذا الاصطلاح وإن صرّحوا به كما نقل إلاّ أنّك تري أكثرهم في كتب الاستدلال لا يخرجون عن كلام المتقدمين من العمل بالأخبار الضعيفة باصطلاحهم ويتستّرون عن مخالفة ذلك الاصطلاح بأعذار ، منها : قبول مراسيل ابن أبي عمير ومثله ممّن اجتمعت العصابة علي تصحيح ما يصحّ عنه ؛ فانهم لا يرسلون إلاّ عن ثقة ، ومنها : تصحيح الحديث المشتمل علي بعض مشايخ الاجازة وإن لم ينص عليه بتوثيق ، ومنها : كون الخبر مرويا في الفقيه بناء علي ما ضمنه صاحبه في صدر كتابه ، ومنها : كون ذلك الرجل الذي به ضعف الحديث من أصحاب الاُصول ، ومنها : كون الحديث مجبورا بالشهرة ، ومنها : كونه متّفقا علي العمل بمضمونه ، وأمثال ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع لكلامهم .وبالجملة فإنك إذا تتبّعت كلامهم وجدت أنّهم لا يخرجون عن طريقة المتقدمين إلاّ نادرا ، وحينئذٍ فمجرّد ذكرهم هذا التقسيم والاصطلاح كما شنّع به مع كون عملهم علي ما ذكرناه لا يوجب فرقا معنويا حقيقيا .وبالجملة فكلامه قدسسره هنا ممّا لا محصّل له عند ذوي التحصيل إلاّ مجرّد تكثير للقال والقيل .وسابعها : إنّ المجتهدين يحصرون الرعية في صنفين مجتهد ومقلِّد ، و [ عند ] الأخباريين أنّ الرعية كلّها مقلِّدة المعصوم ، ولا مجتهد أصلاً .والجواب : إنّك قد عرفت في جواب الوجه الثالث أنّ الناس في زمن الغيبة لا يخرجون عن القسمين المذكورين سواء عبّر عن ذينك القسمين بلفظ مجتهد ومقلِّد أو لفظ عالم ومتعلّم أو لفظ فقيه ومتفقّه ؛ إذ لا مشاحّة في التسمية إذا كان المعني واحدا ، وإنّما مظهر الخلاف والنزاع فيما إذا كان العالم والفقيه والمجتهد يستند في استنباط الأحكام إلي غير الكتاب والسنة ، وإلاّ فمتي كانت أدلّته التي يستنبط منها الأحكام مخصوصة بهذين الدليلين فهو ممّا لا خلاف في وجوب اتّباعه إذا استكمل باقي الشروط من العمل والتقوي والزهد ونحوها إن سمّيته مجتهدا أو سمّيته أخباريّا ، وحينئذٍ فمرجع هذا الوجه إلي الوجه الأوّل كما لا يخفي .وأمّا قوله : إنّ الرعية كلّها مقلِّدة المعصوم فهو علي إطلاقه محلّ نظر ؛ لأنّ التقليد ـ كما عرّفوه ـ عبارة عن قبول قول الغير من غير دليل . وهذا المعني لا يتمّ بالنسبة إلي العامي ، بل ولا بالنسبة إلي الفقيه الأخباري فيما إذا احتاج الحكم إلي استنباط ومزيد تأمّل في الأدلّة ؛ لما حققناه في الدرّة الموضوعة في البحث مع صاحب الفوائد المدنية ( 9 ) من تفاوت الأفهام في مراتب الادراك ، وأنّ جلّ الاختلافات بين العلماء إنّما نشأت من ذلك ؛ ولهذا اختلف الأخباريون في المسائل كما قد اختلف المجتهدون ، كما فصّلنا جملة من ذلك في الدرّة المشار إليها .وحينئذٍ فالعامي إنّما أخذ بقول هذا الأخباري الذي أفتاه بناء علي ما فهمه من الأخبار وأنّ الحكم في تلك المسألة كذلك ، فكيف يكون مقلِّدا للامام ، والأخباري الآخر يفتي بخلافه باعتبار ما أدّي إليه فهمه ووصل إليه ادراكه ، وحينئذٍ فكيف يمكن أن يقال إنّ هؤلاء العلماء الأخباريين مع اختلافهم فكلّهم مقلِّدون للامام وأتباعهم أيضا مقلِّدون للامام ، ما هذا إلاّ تعسّف ظاهر .وثامنها : إنّ المجتهدين يقولون بطلب العلم في زمن الغيبة بطريق الاجتهاد وفي زمن الحضور بالأخذ من المعصوم ولو بالوسائط ، ولا يجوز الاجتهاد حينئذٍ وهو طريق الأخباريين ، والأخباريين لا يفرّقون بين زمن الغيبة والحضور ، بل حلال محمّد حلال إلي يوم القيامة وحرامه حرام إلي يوم القيامة لا يكون غيره ولا يجيء غيره ، كما في الحديث ( 10 ) .والجواب : إنّ هذا الوجه أيضا يرجع إلي الاختلاف في الأدلّة فإنّه متي كان ذلك العالم ـ إن سمّي مجتهدا أو أخباريّا ـ إنّما استند في الأحكام الشرعية إلي الكتاب والسنة ؛ فإنّه لا خلاف في صحة ما بني عليه ولا خلاف في جواز الأخذ عنه والعمل بقوله . وأمّا إنّ زمن الغيبة وزمن الحضور واحد بالنسبة إلي الرعية فهو غلط محض ؛ لما عرفت في جواب الوجه الثالث . والايراد بالحديث المذكور إنّما يتجه لو قلنا بجواز الاجتهاد علي طريق العامة من الاستناد إلي الآراء والأقيسة والعقول ؛ لاختلافها واضطرابها .نعم ، ربّما يتفق ذلك أيضا مع الاستناد إلي الكتاب والسنة في مقام اختلاف الأفهام وتفاوت الأنظار ، كما هو الواقع بين العلماء في جملة الأمصار والأعصار من مجتهد وأخباري ، كما أوضحنا ذلك في الدرّة الموضوعة في البحث مع صاحب الفوائد المدنية ، وإن كان الأخباريّون ينكرون ذلك ويدّعون أنّ الاختلاف الواقع بينهم إنّما نشأ من اختلاف الأخبار ، إلاّ أنّا قد أوضحنا في الدرّة المشار إليها ما يردّ هذه الدعوي وبيّنا أنّ الاختلاف الواقع بينهم علي حسب الاختلاف الواقع بين المجتهدين من أنّه ربما نشأ من اختلاف الأخبار ، وربّما نشأ من اختلاف الأفهام الذي هو السبب التام في أكثر الأحكام .وبالجملة : فإنّ كلامه يدور في جميع هذه الوجوه علي الاجتهاد بمعني الأخذ بالآراء والظنون المستندة إلي غير الكتاب والسنّة ، وهو حق لو كان إطلاق الاجتهاد مخصوصا بهذا المعني ، وإلاّ فالاجتهاد علي ما عرّفوه إنّما هو عبارة عن استفراغ الوسع في تحصيل الأحكام من أدلّتها الشرعية . والخلاف بين المجتهدين والأخباريين هنا في التحقيق يرجع إلي تلك الأدلّة ، فالأخباريّون يخصونها بالكتاب والسنة أو السنة وحدها علي رأي بعضهم ، والمجتهدون يفسرونها في الاُصول بالأربعة المشهورة وإن كانوا في الكتب الاستدلالية يناقشون فيما عدا الكتاب والسنة ، كما تقدّم ذكره في المقام وفي غير موضع من الدرّة المتقدمة في هذا الكتاب .وحينئذٍ فتعريف الاجتهاد صادق علي من اقتصر في استنباط الأحكام علي الكتاب والسنة وإن كان الأخباريون يتحاشون عن التعبير به للطعن علي المجتهدين ، وهو في غير محلّه كما لا يخفي علي المنصف .وكيف كان فمع فرض خروج بعض المجتهدين في بعض جزئيات الأحكام عن الأخذ بالكتاب والسنة والعمل بالاستنباطات الظنية المحضة فهو لا يوجب طعنا في أصل الاجتهاد بالمعني الذي ذكرناه ، كما أنّ بعض الأخباريين لو خرج في فهمه للخبر عن كافّة أفهام العلماء الأعلام بحيث يصير ذلك غلطا ظاهرا لجميع ذوي الأفهام فانّه لا يوجب طعنا علي طريقة أهل الأخبار ، كما وقع للصدوق قدسسره في غير موضع من الأحكام ، واللّه العالم .( 6 ) الدرر النجفية : 48 .( 8 ) عدّة الاُصول 1 : 367 وما بعدها .( 1 ) إلي هنا قد ورد في المقدّمة الثانية عشرة من الحدائق الناضرة ( 1 : 167 ـ 170 ) مع اختلاف .( 5 ) الاعتقادات للمفيد : 114 .( 3 ) معالم الدين : 234 . ط ـ جماعة المدرّسين .( 2 ) المعتبر 1 : 32 .( 7 ) المصدر السابق : 62 .( 4 ) الدرر النجفية ( حجرية ) : 24 .( 10 ) الكافي 1 : 51 ، ح 19 .( 9 ) الدرر النجفية : 84 .