أقول: أما وجوب التكرار تحصيلاً لليقين، ففيه: أنه يجب تحصيل اليقين بالبراءة عما اشتغلت الذمة به يقينا و هو هنا ليس إلا المرة و ما تصدق عليه طبيعة الموصى
1 ـ الحدائق الناصرة: 14 /299 قال: «أقول: لايبعد أن يقال: إن الظاهر من إطلاق هذه الأخبار أنه بمجرد هذا القول المحتمل لان يراد منه حجة واحدة أو اثنان أو عشر أو نحو ذلك، يجب الحج ينفى ثلثه ولأن يقين البرائة من تنفيذ الوصية لايحصل إلا بذلك».
[146]
به.وأما دلالة الأخبار و أنها هل تدل على وجوب التكرار إن علم إرادة التكرار أو تدل عليه إن لم يعلم إرادة المرة؟ فنقول: إن الشيخ و من تبعه و صاحب الحدائق بنوا على أن قوله: «حجوا عني» يدل على مجرد الوصية بالحج، فلا يدري الوصي يكفي المرة أو يجب التكرار مرة أو إلى أن ينفد الثلث، فأجابه (عليه السلام)بالتكرار إلى تمام الثلث،ففيه: إن ذلك تعبد بعيد، فإن قوله: «حجوا عني» يدل على طلب طبيعة الحج التي تحصل بالمرة الاُولى وأما التكرار ثم التكرار إلى أن ينفد المال فلا يستفاد منه قطعاً و إن كانت الوصية إلى مجرد التكرار فحيث إنه يتحقق بالمرتين يلزم أن يكون الحكم بالتكرار إلى نفاد الثلث تعبدياً، و الإنصاف أن القول بظهور الرواية في كل من المعنيين في غاية الإشكال.ويمكن أن يكون مراد السائل أن الموصي أوصى إليه بالثلث و قال: «حجوا عني» فسأل عن الإمام (عليه السلام) هل بصرف جميع الثلث في الحج أو يصرف ما يزيد على الحج في سائر وجوه البر؟ فأجابه (عليه السلام) بصرفه في الحج إلى أن ينفد.والشاهد على ذلك قوله في الرواية الثالثة: «إن سعد بن سعد أوصى إلي فأوصى في وصيته حجوا عني، مبهماً فلم يفسر فكيف أصنع؟» وعلى هذا يندفع الإشكال في مفاد الرواية.ولاحول ولاقوة إلا بالله.وأما الجواب عن هذه الروايات بإعراض الأصحاب عنها فمردود بعمل مثل الشيخ ـ (قدس سره) ـ وغيره بها.والله العالم.
لو اتفق عدم كفاية المال
لو اتفق عدم كفاية المال مسألة 5 ـ لو أوصى بصرف مقدار معين في الحج سنين معينة وعين لكل سنة مقداراً معيناً واتفق عدم كفاية ذلك المقدار لكل سنة، صرف نصيب سنتين في سنة إن كان يكفي لها وإلا فثلاث وإلا فأربع وهكذا.وذلك لظهور حال الموصي فإنه أراد صرف مقدار معين من المال في الحج غير أنه تخيل كفاية مقدار معين منه لكل سنة فأوصى به.وبعبارة اُخرى: ظاهر حاله أنه يقيد وصيته بما إذا وفى هذا المقدار المعين لكل
[147]
سنة حتى إذا لم يف المال بذلك بطلت وصيته و لافرق في ذلك الحكم بين الحج وغيره كما لافرق في ذلك ظاهراً بين الوصية والوقف.و أما التمسك لذلك بقاعدة الميسور فهي مخدوشة كبرى و صغرى، أما من حيث الكبرى فما استدل لها من الأخبار مخدوشة سندا و دلالة.فمنها: «الميسور لا يسقط بالمعسور» و «ما لا يدرك كله لا يترك كله» و «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم».والأولان منقولان عن أمير المؤمنين (عليه السلام) و الثالث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).نقل الثلاثة ابن أبي جمهور في كتابه غوالي اللئالي(1) المشتمل على كثير من الأخبار الضعاف، التي لا يوجد لها أصل في كتب أصحاب الحديث منا و لا يعتمد على منقولاته و مع ذلك تفحصنا عنها في كتب أصحابنا ولم نجدها فيها و في كتب العامة أيضا لم نجد إلا الثالث الذي يأتي الكلام فيه.ودعوى انجبارها بالشهرة فإن اُريد منها الشهرة العملية بين القدماء فلا يستفاد منهم ذلك، مضافا إلى أنها يجبر ضعف السند إذا كان حصول الشهرة بينهم مستندا بالخبر و لو ثبت عنهم في بعض الموارد العمل على ما ينطبق على ذلك أي على الميسور فيما تعذر معسوره فلعله كان بدليل خاص ثبت لهم، لا يمكن به تأسيس القاعدة الكلية بإلغاء الخصوصية.و إن اُريد الشهرة الروائية فقد عرفت أنها لم ترو من طرقنا و من طرقهم أيضا لم ترو إلا الثالث، فالغريب مع ذلك قول من قال: اشتهار هذه الروايات بين الأصحاب يغني عن التكلم في سندها.وأما من حيث الدلالة فقوله: «الميسور لا يسقط بالمعسور» يمكن أن يكون مفاده: إن الحكم الثابت للميسور لا يسقط بالمعسور، مثلا الحكم الثابت للصلاة بدون الساتر أو بدون الطمأنينة لا يسقط بالمعسور و هو الصلاة مع الطمأنينة و الساتر و هذا لا يكون إلا في المأمور به المركب من الأجزاء.و المراد نفي الملازمة بين سقوط المعسور و الميسور لاإثبات الملازمة بين سقوط المعسور و1 ـ غوالي اللئالي: /4/58 و 409.
[148]
ثبوت الميسور، فهذه القاعدة أو الخبر لا تدل إلا على عدم سقوط الحكم الثابت للميسور و لادلالة لها على ثبوت حكم له.فعلى هذا اللازم في كل ميسور التكلم في ثبوت حكم له بقطع النظر عن هذه القاعدة، فلا يبنى بعدم ثبوت حكم للميسور.و بعبارة اُخرى: مفاد هذه الجملة: أنه لا يبنى على سقوط المعسور سقوط الميسور ، بل لابد للحكم بثبوت الحكم له أو عدمه من الأخذ بالدليل إن كان و إلا فالعمل بالأصل.و أما الخبر الثاني، فأولاً، على فرض كون قوله: «لا يترك» مستعملا في الإنشاء لا الإخبار، فلا يدل على أكثر من مرجوحية ترك الكل لا حرمته لعدم حرمة ترك الكل في المستحبات.و ثانيا: يمكن أن يقال فيه أيضاً: إن المراد منه: أن مالا يدرك كله لا يترك كله به و لا يحكم بعدم مرجوحية تركه.وثالثا: الظاهر أن لفظ الكل مشترك لفظي بين الكل المجموعي و الكل الأفرادي فإن كان الكل الأفرادي فهو ثابت بالعمومات و المطلقات فإن العام و المطلق إذا تعذر العمل بهما و امتثالهما بجميع أفرادهما يجب العمل بالباقي، بخلاف المركب و مثل العام المجموعي و الكلام في القاعدة في الأخير.وأما الخبر الثالث، والظاهر أنه هو العمدة في الإستدلال به للقاعدة و إن سميت القاعدة بالأول، فمن حيث السند هو مخرج في كتب العامة المعتبرة عندهم بأسناد متعددة إلا أنها كلها ضعاف، مضافاً إلى أن الجميع ينتهي إلى شيخ المضيرة أبي هريرة، ففي المسند روى هذا الخبر عنه با ثني عشر طريقاً.وأما من حيث اللفظ و المتن فألفاظه مختلفة، فبعضها: «ما أمرتكم فأتوا منه ما استطعتم» و بعضها: «إذا أمرتكم بأمر فأتمروا ما استطعتم» و بعضها: «فإذا أمرتكم بأمر فاتبعوه ما استطعتم» و بعضها: «فأتوه مااستطعتم» و بعضها: «فأتوا منه ما استطعتم» و بعضها: «فإذا أمرتكم بشيء فخذوا منه ما استطعتم».و تمام الخبر في بعض طرقه هكذا: «خطب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: أيها الناس إن الله عز و جل قد فرض عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟[149]
فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): لو قلت نعم لوجب ما استطعتم ثم قال: ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم و اختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم و إذا نهيتكم عن شيء فدعوه».(1)وأما من حيث الدلالة فيشكل دلالته على أن الكل إذا تعذر بعض أجزائه و شرائطه يجب الإتيان بأجزائه الباقية فإن مورده و هو الحج كلي، له أفراد طولية لا الكل المركب من الأجزاء.لايقال: إن المراد من الأمر و الشيء أعم من الكل و الكلي.فإنه يقال: و إن صح استعمال الشيء في الأعم من الكل و الكلي كما إذا قال: «إذا أمرتكم بشيء أو بأمر فأتوا به»، إلا أن استعمال (من) للتبعيض لا يصح في الأجزاء و الشرائط و الأفراد الطولية.هذا مضافا إلى أن بعض ألفاظ الخبر لا يقبل حمله على الكل المركب من الأجزاء.ثم إنه على القول بتمامية القاعدة، هل المستفاد منها أن الحكم الأول ثابت للميسور من الأجزاء أو أن الحكم الأول حيث كان متعلقاً بمجموع الأجزاء ينتفي بانتفاء المركب فالحكم الثاني المتعلق بالباقي حكم جديد؟
ظاهر قوله «الميسور لا يسقط بالمعسور» إن قلنا بدلالته هو بقاء حكم الميسور و عدم سقوطه و قوله: «فأتوا منه ما استطعتم» و قوله: «مالا يدرك كله لا يترك كله» ظاهر في أن الباقي محكوم بحكم جديد.و كيف كان هذا كله في كبرى القاعدة و أما من حيث الصغرى فالقاعدة لو ثبتت بما ذكر تختص بمجعولات الشارع دون غيرها فإنها هي التي له الكشف عنها فلا تشتمل مجعولات غيره التي لجاعلها الكشف عن مراده كالوصية.لا يقال: لا مانع من شمول القاعدة لمثل الوصية أيضا لأن العمل بالوصية إذا كان غير ممكن لامانع من العمل بالمقدار الممكن منها.فإنه يقال: المانع عدم شمول الوصية لمقدار غير الممكن و احتياج شموله له إلى بيان الموصي و الحكم الشرعي بالعمل بالمقدار الممكن إذا كان تعبدا من الشارع
1 ـ مستند الشيعة: 2 / 508
[150]
فلاربط له بالموصي و ليس كحكم الشارع في مجعولاته و واجباته الارتباطية فإنه يكشف عما أمره بيده و قاعدة الميسور راجعة إليه.ثم إنه قد استدل على الحكم المذكور بخبري إبراهيم بن مهزيار الذين رواهما الشيخ با سناده عنه، قال في أحدهما: «كتب إليه علي بن محمد الحضيني: إن ابن عمي أوصى أن يحج عنه بخمسة عشر ديناراً في كل سنة، وليس يكفي، ما تأمر في ذلك؟ فكتب (عليه السلام): يجعل حجتين في حجة فإن الله تعالى عالم بذلك».(1)وفي الثاني قال: «وكتبت إليه (عليه السلام): إن مولاك علي بن مهزيار أوصى أن يحج عنه من ضيعة صير ربعها لك في كل سنة حجة إلى عشرين ديناراً و إنه قد انقطع طريق البصرة، فتضاعف المؤن على الناس، فليس يكتفون بعشرين ديناراً وكذلك أوصى عدة من مواليك في حججهم، فكتب (عليه السلام): يجعل ثلاث حجج حجتين، إن شاء الله».(2)
و كان الأجدر بنا التعرض للخبرين في صدر المسألة و دلالة الخبرين على الحكم واضحة.وقد تكلم في سنده بعض الأعاظم بإبراهيم بن مهزيار، لعدم وثاقته في كتب الرجال و رد ما صرح به السيد ابن طاوس في ربيع الشيعة بأنه من سفراء مولانا صاحب الأمر أرواحنا لتراب مقدمه الفداء والأبواب المعروفين الذين لاتختلف الإثنا عشرية فيهم و تبعه غير واحد كالعلامة و الفاضل المجلسي، بأن هذا اجتهاد منه استنبطه من بعض الروايات، إذ لو كان سفيرا لذكره الشيخ في كتاب الغيبة الذي تصدى فيه لذكر السفراء و كذلك النجاشي و غيرهما ممن تقدم على ابن طاوس مع شدة اهتمامهم بذكر السفراء و الأبواب.كما أنه رد ما رواه الصدوق في اكمال الدين عن إبراهيم بن مهزيار الذي يدل على جلالة قدره و وثاقته و علو مقامه، بأنه هو الراوي لهذا الحديث ولا يمكن إثبات وثاقة شخص بقول نفسه، على أن هذه الرواية مشتملة على أمر مقطوع البطلان و الكذب و هو إخباره عن وجود أخ
1 ـ وسائل الشيعة: ب 3 من أبواب النيابة ح 1.2 ـ وسائل الشيعة: ب 11 من أبواب النيابة ح 2.
[151]
لمولانا الحجة عليه الصلاة و السلام مسمى بموسى و قد رآه إبراهيم.و بعد ذلك كله صرح بوثاقة الرجل لأنه من رجال كامل الزيارات و قال: «فالرواية معتبرة و الدلالة واضحة، فلا ينبغي الريب في الحكم المذكور».(1)أقول: أولا، إن الروايتين ليستا مضمرتين و إن كانتا كذلك على ظاهر ما رواهما في التهذيب، لأن الكليني رواهما في الكافي(2) هكذا: محمد بن يحيى عمن حدثه عن إبراهيم بن مهزيار قال: «كتبت إلى أبي محمد(عليه السلام): إن مولاك علي بن مهزيار... (قال) إبراهيم: و كتب إليه علي بن محمد الحضيني...»،
فما ذكره محقق التهذيب من أن المراد من «إليه» يعني أبي الحسن الهادي (عليه السلام)، ليس في محله.و لعلهما رواية واحدة كما يظهرمن الكافي و التهذيب.و في الفقيه(3) هكذا: «و كتب إبراهيم بن مهزيار إلى أبي محمد (عليه السلام): اُعلمك يا مولاي إن مولاك...وكتب إليه علي بن محمد الحصيني»
و ثانياً، أنه يكفي ـ على ما ذكرناه كراراً ـ في الإعتماد على الرجل، أخذ مثل محمد بن علي بن محبوب شيخ القميين صاحب الكتب و عبدالله بن جعفر الحميري أيضا شيخ القميين و وجههم و سعد بن عبدالله شيخ هذه الطائفة و فقيهها و وجهها كثير التصانيف العلم منه و عدم نقل قدح فيه.وثالثا، ما ذكره عن السيد ابن طاوس في ربيع الشيعة محقق خلافه على ما ذكره فى الذريعة(4) من أن الكتاب هو عين كتاب إعلام الورى للطبرسي صاحب مجمع البيان و هو الذي صرح بكون إبراهيم بن مهزيار من الأبواب المعروفين وإليك لفظه في إعلام الورى قال: «غيبة الصغرى منهما فهي التي كانت فيها سفراؤه موجودين و أبوابه معروفين لا يختلف الإمامية القائلون بإمامة الحسن بن علي(عليهما السلام)فيهم، فمنهم أبو هاشم داود بن القاسم الجعفري و محمد بن علي بن بلال
1 ـ معتمد العروة: 2 /130.2 ـ الكافي: 4 / 310.3 ـ من لايحضره الفقيه: 2 / 172.4 ـ الذريعة الى تصانيف الشيعة: 2 / 172.
[152]
و أبو عمرو عثمان بن سعيد سمان و ابنه أبو جعفر محمد بن عثمان و عمر (و) الأهوازي و أحمد بن إسحاق و أبو محمد الوحيائي و إبراهيم بن مهزيار و محمد بن إبراهيم في جماعة اُخرى ربما يأتي ذكرهم عند الحاجة إليهم في الرواية عنهم».(1)و لايخفى أن مثل الطبرسي لا ينقل مثل ذلك بدون التثبت العام و لا يرد ذلك بأنه لو كان سفيراً لذكره الشيخ في كتاب الغيبة الذي تصدى فيه لذكر السفراء و كذلك النجاشي و غيرهما ممن تقدم عليه مع شدة اهتمامهم بذكر السفراء و الأبواب فإن اهتمامهم كان في ذكر السفراء الأربعة المشهورين و أما اهتمامهم باستقصائهم فلم يعلم منهم ذلك.فهذا الشيخ في كتاب الغيبة بعد ما يذكر أسماء عدة من خواص الأئمة(عليهم السلام)يقول: «فهؤلاء جماعة المحمودين و تركنا ذكر استقصائهم لأنهم معروفون مذكورون في الكتب».(2)
ومن كل ما ذكرنا يظهر أن الإعتماد على الخبرين المذكورين لما ذكر، في محله فلا نحتاج إلى إثبات و ثاقة إبراهيم بن مهزيار بكونه من رجال كامل الزيارات حتى يقال: إنه لم يثبت وثاقة جميع رجال أسناده و إنما الثابت وثاقة من يروي عنه مؤلفه.وأما حديث اكمال الدين، فقد أشبعنا الكلام فيه في رسالتنا الموسومة بـ «النقود اللطيفة على كتاب الأخبار الدخيلة» التي يظهر منها ـ و إن لم ننقد كل الكتاب واكتفينا بما ذكره حول بعض روايات مولانا المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف ـ حال الكتاب.و لا حول ولا قوة إلا بالله.هذا و الإعتماد في الحكم ينبغي أن يكون على هاتين الروايتين.ثم إنه لايخفى عليك أن مقتضى إطلاق الروايتين جعل حجتين في حجة بلدية و ثلاث حجج في حجتين بلديتين و إن أمكن الميقاتية في كل سنة إن هو أوصى
1 ـ اعلام الورى / 254.2 ـ الغيبة /351.
[153]
بالبلدية و لو لم يكن دلالة هاتين الروايتين على ذلك لما يمكن للفقيه استكشاف الحكم من قاعدة الميسور على القول بها و من الإستناد بظهور حال الموصي أنه أراد صرف مقدار معين من ماله في كل سنة في الحج و تخيل كفايته لحج واحد، فإنه تمكن معارضته بأنه أراد الحج عنه في كل سنة بصرف هذا المقدار من المال و تخيل كفايته للحج البلدي فأوصى به.ولو كنا و هذا الظهور أو قاعدة الميسور، لايمكن لنا ترجيح إحدى الصورتين على الأخرى بل لايمكن لنا القول ـ إذا لم يف المال في كل سنة لا بالبلدي و لا بالميقاتي ـ بجعل المال المعين لسنتين أو أزيد لخصوص الحج البلدي أو الميقاتي، أما إذا أخذنا بالروايات فالحكم على جميع الصور واضح.إن قلت: فما تقول فيما رواه الشيخ بإسناده عن عبدالله بن بكر عن أبي عبدالله(عليه السلام): «إنه سئل عن رجل أوصى بماله في الحج فكان لا يبلغ ما يحج به من بلده؟ قال: فيعطى في الموضع الذي يحج به عنه.»(1)قلت: الظاهر إن السؤال فيه عن الوصية بحج واحد و بمال لا يفي بالحج من بلده فلا إطلاق له يشمل مسألتنا هذه.تذنيب ـ قال السيد في ذيل هذه المسألة: (و لو فضل من السنين فضلة لا تفي بحجة فهل ترجع ميراثا أو تصرف في وجوه البر أوتزاد على اُجرة بعض السنين، وجوه) ومراده منه أن في صورة ضم السنين بعضها إلى بعض إن زاد منه مالا يفي بحجة، فهل ترجع ميراثا أو تصرف في وجوه البر أو تزاد على أجرة بعض السنين وجوه.أقول: أما وجه الإحتمال الأول أن تركة الميت بعد إخراج الوصية تكون ميراثاً بين الورثة و في المثال بعد صرف ما أمكن منها في الحج الذي هو الموصى به يرجع الباقي ميراثاً.لايقال: إن ظاهر وصيته صرف هذا المقدار من تركته لنفسه و لكن عين المصرف في الحج بتخيل أنه لا يزيد عليه، فعلى هذا يجب صرف الباقي له.
1 ـ وسائل الشيعة: ب 2 من أبواب النيابة، ح 2.
[154]
فإنه يقال: نعم الأمر يدور مدار الإستظهار العرفي من كلامه، فعلى أي الوجهين كان يعمل به و لكن إذا تردد الأمر و لم يكن هناك ظهور، لأمكن أن يقال بالأخذ بالقدر المتيقن لأن الوصية بالمال بالمقدار الذي صرف في الحج متيقن و في الزائد عليه، الأصل عدم الوصية به.إن قلت: إن الإرث بعد إخراج الوصية فما دام لم يحرز العجز عن العمل بالوصية لاحتمال تعدد المطلوب لا يرجع ميراثاً.قلت: الكلام في أن الوصية المتعلقة بهذا المال هل تكون على نحو وحدة المطلوب ـ أي صرفه في خصوص الحج ـ أم على نحو تعدد المطلوب ـ بأن يكون الموصى به البر و الحج ـ بما أنه بعض مصاديقه ـ فإن كان على الأول لم يتعلق الوصية بهذا المقدار من الاول وإن كان على الثاني يكون هذا الباقي أيضا متعلقا للوصية لانحلالها إلى الوصايا المتعددة بالنسبة إلى تقدير المال و الأصل عدم تعلقها به.وأما وجه الإحتمال الثاني و هو صرف الزائد في وجوه البر فمبني على ظهور حال الموصي في كون الوصية على نحو تعدد المطلوب و صرف تمام المال فيما يرجع ثوابه إليه و هو في محله إذا كان حاله ظاهراً في ذلك.وأما وجه الإحتمال الثالثفهو الإستظهار من حال الموصي أنه أراد صرف هذا المال في الحج مهما أمكن، فما دام يمكن توزيعه على الأفراد يعمل به و إن لم يمكن كما إذا عين ما يزيد على حج واحد و لا يكفي لحجتين يصرف ما زاد على الحج الواحد بزيادة بعض الخصوصيات و الكيفيات و رعاية بعض المستحبات و غير ذلك.فالمسألة تدور مدار الإستظهار من الموصي و القرائن الحالية والمقالية و إن لم يكن استظهار في البين فالحكم هو الأخذ بالقدر المتيقن و رجوع الباقي إلى الورثة للأصل.هذا و لكن مع ذلك قال سيدنا الاُستاذ الأعظم (قدس سره) في بعض حواشيه على المسائل المطروحة في المقام: (وجوب صرف ما تعذر مصرفه من الوصايا و الأوقاف و شبهها في وجوه البر ثابت من الأخبار الكثيرة الواردة في هذه الأبواب، و لا[155]
حاجة إلى إحراز تعدد المطلوب بحسب قصد الموصي و غيره، نعم منشأ هذا الحكم ظاهرا هو رعاية ما هو المرتكز في أعماق أذهانهم من تعدد المطلوب و لو بحسب النوع).و يمكن أن يكون من الأخبار التي أشار إليها ما رواه الكليني بإسناده عن علي بن مزيد (فرقد) عن الصادق (عليه السلام) قال: «قلت: مات رجل فأوصى بتركته أن أحج بها عنه فنظرت في ذلك فلم تكف للحج، فسألت من عندنا من الفقهاء فقالوا تصدق بها فقال(عليه السلام): ما صنعت؟ قلت: تصدقت بها فقال (عليه السلام): ضمنت إلا أن لا تكون تبلغ أن يحج بها من مكة فإن كانت تبلغ أن يحج بها من مكة فأنت ضامن».(1)فعلى هذا يمكن أن يقال بصرف الزايد في وجوه البر و إن لم يحرز تعدد المطلوب بحسب قصد الموصي فلا يرجع ميراثاً إلا في صورة العلم بالتقييد و إحراز وحدة المطلوب و تعذر الإتيان به.و الله هو العالم.
لو صالح شخصاً على مال و شرط عليه الحج بعد موته
لو صالح شخصاً على مال و شرط عليه الحج بعد موته مسألة 6 ـ قال في العروة: «إذا صالحه على داره مثلا و شرط عليه أن يحج عنه بعد موته صح و لزم و خرج من أصل التركة و إن كان الحج ندبياً و لا يلحقه حكم الوصية و يظهر من المحقق القمي (قدس سره) في نظير المقام إجراء حكم الوصية عليه بدعوى أنه بهذا الشرط ملك عليه الحج و هو عمل له اُجرة فيحسب مقدار اجرة المثل لهذا العمل، فإن كانت زائدة على الثلث توقفت على إمضاء الورثة».أقول: إذاً على ما اختاره المحقق القمي (قدس سره) إذا كانت الاُجرة زايدة على الثلث كيف يجري حكم الوصية و ينتقل الزايد إلى الوارث و كيف يعمل الوارث و يتملك الزايد فهل له مطالبة المشروط عليه بما يزيد على الثلث مع أنه يترتب عليه إما بقاء وجوب الحج عليه للمصالح أو سقوطه عنه و الا لتزام بكل منهما غير صحيح ففي الأول يلزم الجمع بين العوض و المعوض على المصالح أو الشارط و على الثاني يسقط عنه الوجوب و لايمكن استيفاء الأجرة أم ليست له مطالبة ذلك سواء
1 ـ وسائل الشيعة: ب 37 من الوصايا ح 2.
[156]
كان المشروط عليه باذلاً أم ممتنعاً؟نعم تستقيم النتيجة على هذا القول و يمكن إجراء حكم الوصية عليه إذا لم تكن أجرة مثل الحج زائدة على الثلث و كأنه يكفي ذلك في رد مختار المحقق.و مع ذلك ينبغي الإشارة إلى ما أفادوه في رد كلام المحقق في هذه المسألة التي حكى بعض الأعلام وقوع الإختلاف فيها بين السيد صاحب العروة و بين معاصريه على حد لم يتفق لأكثر المسائل العلمية.(1)
فمن الوجوه التي رد بها مختار المحقق القمي: أن الوصية تصرف في المملوك بعد المفروغية عن الملكية له، مثل أن يوصي بداره لزيد و ليس المقام من ذلك فإن المملوك هو الحج عن نفسه و لم يؤخذ موضوعا لتصرف زائد عليه، فلا يدخل في الوصية و لا تجري أحكامها عليه.و بعبارة اُخرى: موضوع الوصية الملكية في المرتبة السابقة عليها مثل صرف منافع الدار في الخيرات و في المقام لا يمكن فرض ذلك، لأن الحج عن الشارط بالشرط يصير ملكاله لا متعلقا لوصيته فكيف يجري عليه حكم الوصية؟
و منها: أن الحج عن الميت ليس كالحج المطلق الذي تملكه الورثة فإنه متعلق به و طرف حقه لا ينتقل إلى الوارث على حد انتقال سائر تركته، فليس للوارث إبراء المشروط عليه تبرعا أو بالعوض.نعم يمكن أن يقال بأن له مطالبة المشروط عليه بالوفاء بالشرط و الأخذ بخيار تخلف الشرط.و لكن لا يخفى عليك أن هذا وجه لعدم انتقال الحج عنه إلى الوارث كسائر التركة لا عدم إجراء حكم الوصية عليه، و هذا الوجه وجه لعدم انتقال الحج عنه إذا كان المورث ملكه بالإجارة و نحوها على حد انتقال سائر التركة إليه و قول من يقول بانتقاله إلى الوارث ويفعل فيه ما يشاء، فله إبراء ذمة المشروط عليه أو مصالحة جديدة معه، كما أن له مطالبته بالإتيان به ضعيف.والظاهر أن أكثر القائلين بتمامية الشرط و لزومه و تمليكه الحج للميت و كذا القائلين بمقالة المحقق القمي الذي
1 ـ مستمسك العروة: 11/102.
[157]
يقول بإجراء حكم الوصية في المسألة متفقون في عدم انتقال مثل هذا الحج إلى الوارث كسائر التركة.ومنها: انصراف دليل انتقال التركة إلى الوارث إلى ما إذا لم يكن تصرفاً خاصاً في التركة متعينا كما هو الحال في جميع الموارد إلا ما شذ وندر، مثل موردنا هذا فإن الحج عن الميت المشروط و المملوك بالإجارة تعين كونه للميت و صرفه له، فلا يدخل في عموم أدلة انتقال المال إلى الورثة.وبالجملة أدلة «ما ترك الميت من مال أو حق لورثته»، قاصرة عن الشمول لما نحن فيه،وهذا أيضا وجه آخر لعدم انتقال الحج عنه إلى الورثة، إلا أنه يمكن توجيه دلالة هذه الوجوه على عدم شمول أدلة الوصية له أيضا بأن الوصية استثناء عما يدخل من التركة في ملك الوارث و ينتقل إليه و هو ما لم يكن متعينا للتصرف الخاص فيه، فإذاً كما لا تشمل أدلة الإرث مثل ما نحن فيه لا تشمله أدلة الوصية أيضا.