فإنه يقال: إن كون حجة الإسلام من غير ذلك المكان معجزاً لإتيانه منه متوقف على وقوعه صحيحاً، ووقوعه كذلك متوقف على عدم كونه معجزاً، فيلزم من وجوده عدمه، ومن ذلك يعلم أن الإتيان بكل منهما ليس معجزاً عن الإتيان بالآخر، غاية الأمر أن وجود أحدهما ملازم لعدم الآخر ككل واحد من الضدين فإن وجود كل واحد من الضدين ليس مقدمة لعدم الآخر ولا تعجيزاً عن الإتيان بالآخر.
1 ـ راجع مستمسك العروة: 10 / 317.
[19]
وبعبارة اُخرى: وجود أحد الضدين لا يجتمع مع وجود الآخر، لا أن اجتماعهما ممكن ووجود أحدهما مانع ومعجز عن وجود الآخر، إذاً فلا مانع من تحقق حجة الإسلام من غير هذا المكان.
مسألة 6 ـ فيها مسائل:
الاُولى: إذا نذر الحج ولم يقيده بزمان فهل يجوز له التأخير مطلقاً، أو لا يجوز مطلقاً، أو يجوز إلى الظن بالوفاة، أو يجوز إذا كان ظاناً أو مطمئناً بالأداء في آخر الوقت؟ وجوه.
أما القول بجواز التأخير مطلقاً فمقتضى الأصل والبناء على عدم دلالة الأمر إلا على طلب الطبيعة وإيجادها من دون دلالته على الفور أو التراخي، وعدم دلالة ما يدل على الفور من العقل وادعاء قطعهم بجواز تأخير النذر المطلق إلى ظن الوفاة
وفيه: أن التمسك بالأصل يتم إن لم يوجد دليل على الفور، وادعاء قطعهم بذلك ادعاء إثباته على مدعيه، نعم عدم جواز التأخير من زمان الظن بالوفاة كأنه مقطوع به.
وأما عدم الجواز فلا بد أن يكون إما مبنياً على القول بدلالة الأمر على الفور، أو لانصراف المطلق إلى الفورية، أو لأنّا إن لم نقل بها لم يتحقق الوجوب لجواز الترك ما دام حياً، أو لإطلاق بعض الأخبار الناهية عن تسويف الحج أو على حكم العقل بذلك، فإن مقتضى حق مولوية المولى إطاعة أمره وإيجاد مطلوبه إذا لم يكن للعبد عذر في التأخير، فيجب عليه أن يأتي به ولا يجعل المولى منتظراً لتحقق مراده، بل يمكن أن يكون مثل قوله تعالى: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم)(1) (فاستبقوا الخيرات)(2) إرشادا إلى ذلك، فلا يجب عليه المسارعة والمبادرة شرعاً بأن يكون عاصياً في تأخيره مطلقاً، بل العقل يلزم ذلك عليه ويراه مقتضى أدب عبودية العبد للمولى بأن يتحذر من الوقوع في ترك الطاعة بالتأخير.
وبعبارة اُخرى: يلزم عليه تحصيل مطلوب المولى فوراً نفسياً أو حذرا من الوقوع
1 ـ آل عمران / 133.
2 ـ البقرة / 148.
[20]
في ترك الامتثال (لا فعل المعصية)، فهو مع الاطمئنان بالأداء وبقاء إمكان الامتثال أو الظن بالبقاء، بل والإحتمال العقلائي إن لم يتمكن من الامتثال لم يكن عاصياً لأمره، إلاّ أنه فات منه إطاعته والفوز بقربه، ولذا لا يأذن له العقل في التأخير، فما هو الموضوع للعقاب هو عصيان أمر المولى ونهيه، وهو لا يتحقق هنا إلا إذا أفرط في التأخير وسوَّف على نحو الاستخفاف وعدم الاعتناء، وما هو الموضوع لإلزام العقل جلب منفعة الامتثال والإتيان بمطلوب المولى ودفع الوقوع في فوته منه.
وفي هذا القول أيضاً منع انصراف المطلق إلى الفورية، وعدم تحقق الوجوب إنما يلزم لو قلنا بجواز التأخير المطلق، لا إلى زمان الظن بالموت وصدق التسامح والتهاون، والأخبار الناهية عن التسويف موردها حجة الإسلام دون مطلق الحج الواجب ومطلق النذر.
وما ذكر من التوجيه العقلي لجواز التأخير يرجع إلى القول بلزوم دفع ما يحتمل من وقوعه فوت المنفعة، والظاهر أن العقل لا يستقل بدفعه كاستقلاله بدفع ما يحتمل من وقوعه الوقوع في الضرر والمفسدة، إذاً فيكفي في جواز التأخير عدم وصوله إلى حد يصدق عليه التسامح والاستخفاف وجعل النفس في معرض المخالفة والعصيان، وهو يتحقق بالظن بعدم القدرة سواء كان بالموت أو بغيره، فإذا وصل التأخير إلى هذا الحد ووقع في المخالفة ليس معذوراً ويجب عليه الكفارة.
إذاً فالقول بجواز التأخير ما دام لم يحصل له الظن بالعجز ولم يقع المأمور به في معرض الفوت وعدم صدق التسامح في الإطاعة والاستخفاف بأمر المولى هو الأقوى.
وقد يقال بعدم جواز التأخير إلا إذا كان مطمئناً بإمكان الإتيان في المستقبل بحسب الحال; وذلك لأن بعد اشتغال ذمته بالمنذور يجب عليه الخروج عن عهدة التكليف به، ولا يجوز له التأخير ما لم يكن هناك مؤمن من العذر في التأخير، أو حصول الاطمينان له بإمكان إتيانه في آخر الوقت، وإن لم يحصل له أحد الأمرين فليس له التأخير بعد حكم العقل بلزوم تفريغ الذمة وتسليم ما عليه إلى المولى، فجواز التأخير يدور مدار اطمينانه بالبقاء وإمكان الإتيان به، فإذا لم يكن له هذا
[21]
الاطمينان يجب عليه المبادرة إلى الامتثال(1).
وفيه: أن معنى تنجز التكليف هنا ووجوب كون المكلف في مقام إفراغ ذمته أن لا يكون متسامحاً في الأداء مستخفا بأمر مولاه، وإلاّ فمن أين يحصل الاطمينان بالبقاء؟ مضافاً إلى أنه لا وقت لمثل النذر المطلق غير المقيد بالوقت.
المسألة الثانية: في النذر المطلق غير المقيد بالوقت إذا ظن بالعجز والموت وتهاون في إتيان المنذور حتى حصل العجز والموت فيجب عليه الكفارة فهل يجب عليه القضاء فيوصي هو به، وإن لم يوص به يجب قضاؤه عنه من ماله من ثلثه أو من أصله كحجة الإسلام؟
حكى في الجواهر نقلاً عن المدارك: أن وجوب القضاء من أصل تركته مقطوع به في كلام أكثر الأصحاب.
بل حكى عن كشف اللثام نسبته إلى قطعهم، وإن قال: للنظر فيه مجال للأصل وافتقار وجوبه إلى أمر جديد تبعاً لما في المدارك، حيث إنه بعد ما حكى عنهم بأنه واجب مالي ثابت في الذمة فيجب قضاؤه من أصل المال كحج الإسلام قال: (وهو استدلال ضعيف، للأصل بعد احتياج القضاء إلى أمر جديد، ولمنع كونه واجباً مالياً، فإنه عبارة عن أداء المناسك، وليس بذل المال داخلاً في ماهيته ولا من ضرورياته).(2)
والذي ينبغي أن يقال: إن ما استدل به في كلامهم لإثبات وجوب القضاء من أصل ماله وجوه:
أحدها: دعوى بعضهم قطع الأصحاب به، ولا ريب أنه لا يثبت بذلك إجماعهم على ذلك.
ثانيها: أن الحج المنذور كحجة الإسلام من الواجبات المالية، ولا ريب أنها تؤدَّى من أصل التركة بالإجماع.
وفيه: أن الواجب المالي عبارة عما تعلق الوجوب فيه بأداء المال كالزكاة والخمس وديون الناس، لا مايتوقف أداؤه على صرف المال مثل الحج للنائي،
1 ـ معتمد العروة: 1 / 396.
2 ـ مدارك الأحكام: 7 / 96، جواهرالكلام: 17 / 340.
[22]
فصرف المال فيه يكون من مقدمات تحققه، واشتماله على الهدي وإن كان هو واجباً مالياً لا يدخل الحج الذي من الأصل ليس موضوعه أداء المال تحت معقد الإجماع .
وثالثها: أن النذر اعتبر في صيغته ديناً لله على ذمة الناذر كالحج، والتعبير عنه بتلك الصيغة والخصوصية كالتعبير بوجوب حجة الإسلام بقوله تعالى: (لله على الناس)ليس إلاّ لإفادة كونه ديناً على المكلف، فلو مات الناذر يكون على عهدته وكالدين يؤدَّى من تركته.
اُورد عليه: بأن هذا يتم لو كان مفاد قول الناذر: «لله علىَّ» جعلَ حق وضعي له سبحانه، بدعوى أن الظاهر من اللام كونها للملك، ومن الظرف كونه مستقراً، نظير قولك: «لزيد عليّ مال» فمقتضى أدلة نفوذ النذر وصحته هو ثبوت مضمونه، فيكون فعل المنذور ملكاً له تعالى نظير ملك المستأجر لفعل الأجير، وديناً عليه كسائر الديون المالية يؤدى من تركته إن مات أو عجز عنه، وأما إذا كان مفاد النذر مجرد الالتزام بالمنذور بأن يكون معنى «لله عليّ كذا»: التزمت لله عليّ فيكون اللام متعلقة بالتزمت والظرف لغو، فليس هناك ما يقتضي ثبوت حق له تعالى، فلا موجب لإطلاق الدين عليه إلاّ على سبيل التجوز كسائر الواجبات الشرعية، إلا أن يقال بقول السيد: إن جميع الواجبات الإلهية ديون لله تعالى، سواء كانت مالاً أو عملاً مالياً أو غير مالي، ولذا جاء في بعض الأخبار: «دين الله أحق أن يقضى».
وفيه أن الوجوب إما يكون متعلقاً بفعل ابتداءً كصلاة الظهر ـ مثلاً ـ أو صيام شهر رمضان، فهذا وإن كان يشتغل ذمة المكلف بأدائه إلاّ أنّه مستقلّ لم ينتزع من اعتبار أمر وضعي عليه، فليس عليه إلا أداؤه، وإن فات منه لا شيء عليه ولا قضاء له.
وإمّا يكون الواجب منتزعاً من الوضع كما إذا اعتبر أمر أولا في عهدة المكلف، ثم ينتزع من ذلك وجوب أدائه ففي مثل ذلك عليه القضاء إن فاته.
وبعبارة اُخرى: إذا كان التكليف منشأً لانتزاع الأمر الوضعي فما ينتزع منه من اشتغال الذمة به لا يوجب القضاء، وإذا كان الوضع منشأً لانتزاع التكليف فيجب القضاء بالنسبة إليه، أي إلى الوضع.
وأما استدلاله بخبر «دين الله أحق أو هو أحق أن يقضى» ففيه: أن الخبر بإرساله
[23]
ضعيف لا يحتج به هذا ما به، يرد قول السيد.
وأما في أصل المسألة فالإنصاف أن قوله: «لله علىَّ» يدل على الوضع، وكون الظرف مستقراً كقوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت).
لا يقال: هذا يرجع إلى اعتبار ملكية شيء لله تعالى ملكية اعتبارية، وهي لا تتصور لله تعالى; لأنه مالك الملوك والأكوان وجميع الاُمور طرّاً بيده وتحت سلطانه وقدرته ومشيئته من دون اعتبار أىّ جاعل، وملكه تعالى وسلطانه ليس بالاعتبار، فإن إحاطته إحاطة وجودية لارتباط جميع الوجودات بنفس ذواتها به بنفس وجودها، فهي ثابتة له بذواتها من دون حاجة إلى اعتبار ثبوتها له، وهي محاطة له تعالى بنفس وجودها الارتباطي ومقهورة تحت قهره وسلطانه، والاعتبار في مورد الثبوت الحقيقي لغو واضح، فالملكية الاعتبارية لا معنى لها بالنسبة إليه سبحانه إلا بمعنى التكليف والإلزام والإيجاب ووجوب الوفاء، ووجوب الوفاء بالشيء بمعنى لزوم إنهائه ونحو ذلك، وإلا فالملكية الاعتبارية الثابتة للأشياء الخارجية غير ثابتة لله تعالى.(1)
فإنه يقال: إن المالكية الحقيقية لله تعالى بأن وجود كل شيء منه وكل شيء خاضع له، ومطيع له محكوم بأمره لا يملك لنفسه أمراً مع أمره، وما يملكه لنفسه فإنما هو بأمره وتقديره، فكما أن حدوثه ووجوده كان بإرادته كذلك بقاؤه أيضاً يكون بإرادته، ناصية الكل بيده يفعل فيهم ما يشاء بقدرته ويحكم فيهم ما يريد بحكمته، ليس لأحد من الأمر شيء إلا به، فهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم، كل ذلك صفاته العليا الحقيقية.
إلا أن كل ذلك لا يمنع من اعتبار الملكية الاعتبارية التي لا أثر لها إلا انتزاع بعض الآثار له، فالفعل الذي في مراتبه المتأخرة ملك للعبد يكون له أن يفعله أو يتركه يجعل له حتى لايكون له في عالم التشريع تركه ويجب عليه فعله.
وبعبارة اُخرى: يجعل العبد بهذا الاعتبار ما كان له قدرة تكوينية في فعله وتركه لله تعالى ويجعله له حتى لا يكون مختاراً في تركه أو في فعله حسب الموارد.
ولا
1 ـ معتمد العروة: 1 / 401.
[24]
ندري ما المنافاة بين مثل ذلك ومالكيته الحقيقية عز اسمه؟
وبعبارة ثالثة: يعتبر هنا عدم مالكية نفسه واختياره بالنسبة إلى الفعل والترك فيعتبر اختياره التكويني اعتباراً لا اختياراً.
وبالجملة: فبمثل ذلك واعتبار ضد الأمر التكويني وهو اختياره بالنسبة إلى الفعل والترك كلا اختيار يصحح المالكية الاعتبارية لله تعالى.
وأما سائر ما أفاده من إحاطته إحاطةً كذائيةً وارتباط جميع الموجودات بنفس ذواتها به وأمثال هذه الكلمات فنحن لا نتجسر بالقول عن حقيقة ذلك ونرى أنفسنا عاجزين عن كيفية إحاطته، غير أنا نعلم أنا عباده وخلقه محتاجون إليه في الوجود والبقاء وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وبالجملة: فالمالكية الاعتبارية بمثل هذه المعاني متصورة له تعالى.
ثم إن مقتضى كون النذر ديناً وجوب إخراجه من صلب المال كسائر الديون، غير أنه ذهب جمع من الفقهاء بأنه يخرج من الثلث.
قال في المستند: (وعن الإسكافي والصدوق و النهاية و التهذيب و المبسوط و المعتبر و المختصر النافع والجامع وجوب قضائه من الثلث لصحيحتي ضريس وابن أبي يعفور).(1)
أقول: قال الشيخ في النهاية: (ومن نذر أن يحج لله تعالى ثم مات قبل أن يحج ولم يكن أيضاً قد حج حجة الإسلام اُخرجت عنه حجة الإسلام من صلب المال، وما نذر فيه من ثلثه).(2) ونحوه كلامه في المبسوط.(3)
وقال في الشرايع في ضمن كلامه: (والمنذورة من الثلث). (4).
وفي المختصر النافع في موضع منه قال: (قضي عنه من أصل التركة).
وفي موضع
1 ـ مستند الشيعة: 2 / 167.
2 ـ النهاية / 283.
3 ـ المبسوط: 1 / 306.
4 ـ شرائع الإسلام: 1 / 172.
[25]
آخر قال: (المنذورة من الثلث). (1)
وفي الجامع للشرايع قال: (وحجة النذر من الثلث)(2).
وفي السرائر قال: (الحجة المنذورة أيضاً تخرج من صلب المال). (3)
وفي القواعد: (ويقضى من صلب التركة).(4).
وأما ما استدلوا به لإخراجه من الثلث فهو فحوى صحيح ضريس قال: « سألت أبا جعفر(عليه السلام) عن رجل عليه حجة الإسلام نذر نذراً في شكر ليحجن به رجلاً إلى مكة، فمات الذي نذر قبل أن يحج حجة الإسلام ومن قبل أن يفي بنذره الذي نذر؟ قال(عليه السلام): إن ترك مالاً يحج عنه حجة الإسلام من جميع المال، واُخرج من ثلثه ما يحج به رجلاً لنذره وقد وفي بالنذر، وإن لم يكن ترك مالا بقدر ما يحج به حجة الإسلام حج عنه بما ترك، ويحج عنه وليه حجة النذر، إنما هو مثل دين عليه».(5)
وصحيح ابن أبي يعفور قال: «قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): رجل نذر لله إن عافى الله ابنه من وجعه ليحجنه إلى بيت الله الحرام، فعافى الله الابن ومات الأب، فقال(عليه السلام): الحجة على الأب يؤديها عنه بعض ولده، قلت: هي واجبة على ابنه الذي نذر فيه؟ فقال(عليه السلام): هي واجبة على الأب من ثلثه أو يتطوع ابنه فيحج عن أبيه».(6)
وجه الإستدلال به والفحوى: أن إحجاج الغير ليس إلا بذل المال لحجه وهو دين مالي محض وهو مع ذلك يخرج من الثلث فالحج المنذور أولى بعدم الخروج من الأصل.
وفيه أولا: أن الأصحاب ـ كما قيل ـ أعرضوا عن هذين الخبرين، ولم يفتِ أحد
1 ـ المختصر النافع / 78.
2 ـ الجامع للشرايع / 176.
3 ـ السرائر: 1 / 649.
4 ـ قواعد الأحكام: 1 / 76.
5 ـ وسائل الشيعة: باب 29 من أبواب وجوب الحج وشرائطه ح 1.
6 ـ وسائل الشيعة: باب 29 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ، ج 3.
[26]
منهم بالحكم المذكور في موردهما، بل أخرجوه من الأصل.
قال في المستند: (قيل: لم يفت به فيه أحد، بل أخرجوه من الأصل; لِمَا دلّ على وجوب الحق المالي من الأصل، ونزّلوا الصحيحين تارةً على وقوع النذر في مرض الموت، واُخرى على وقوعه التزاماً بغير صيغة وثالثةً على ما إذا قصد الناذر تنفيذ الحج المنذور بنفسه فلم يتفق بالموت فلا يتعلق بماله حج واجب بالنذر.
ويكون الأمر بإخراج الحج المنذور وارداً على الاستحباب للوارث وكونه من الثلث رعايةً لجانبه) (1).
فعلى هذا إما أن نقول بعدم وجوب القضاء أصلاً فلا كلام، ولو قيل بالخروج من التركة فلابد من الخروج عن الأصل لأنه واجب مالي وحاله حال سائر الديون، كما اختاره جماعة منهم.
وثانياً: لو التزم أحد بحجية الخبرين في موردهما وعدم سقوطهما عن الاحتجاج بهما بالإعراض كما بنى عليه بعض الأعاظم من المعاصرين فلا وجه للتعدي عنه من موردهما إلى غيره والقول بإخراج حج نفسه من الثلث.
أقول: التمسك بالخبرين إن كان لإثبات وجوب الإخراج من خصوص الثلث قبال ما دل على وجوب إخراج حج نفسه بالنذر من الأصل فلا يتمّ الاحتجاج به; لإمكان منع الفحوى والأولوية، فالقائل بخروجه عن الأصل على حجته.
وإن كان لإثبات الخروج من الثلث بعد عدم تمامية الاستدلال على خروجه من الأصل فلا وجه لدعوى الأولوية.
وكيف كان فالاستدلال بالخبرين لإثبات وجوب إخراج الحج المنذور لنفسه من الثلث ساقط، فنبقى نحن وما استدل به على الخروج من الأصل، فإن تمّ نقول به، وإلاّ فلايخرج من التركة أصلاً.
المسألة الثالثة: إذا نذر الحج وقيّده بسنة معيّنة لا ريب أنه لا يجوز التأخير إن تمكن من إتيانه في تلك السنة، فلو أخر عصى وعليه الكفارة.
وهل يجب عليه القضاء؟ فيه وجهان:
1 ـ مستند الشيعة: 2 / 167.
[27]
من جهة أن الحج كان ديناً عليه فيجب عليه أن يقضيه، وخصوصية تلك السنة وإن لا يمكن تداركها إلا أنها كتعدد المطلوب والدين الصادق على الأقل، والأكثر، فإن لم يمكن أداء الأكثر لا يسقط به الأقل وهذا كالصوم المنذور في يوم خاص فإنه فيه القضاء إذا صادف يوم العيد أو أيام مرضه أو سفره، كما في صحيح علىّ بن مهزيار الذي رواه الكليني: عن أبي علي الأشعري (1)، عن محمد بن عبدالجبار (2)، عن علىّ بن مهزيار (3)في حديث قال: «كتبت إليه (يعني إلى أبي الحسن (عليه السلام)): يا سيدي، رجل نذر أن يصوم يوماً من الجمعة دائماً ما بقي، فوافق ذلك اليوم يوم عيد فطر أو أضحى أو أيام التشريق أو سفر أو مرض هل عليه صوم ذلك اليوم أو قضاؤه؟ وكيف يصنع يا سيدي؟ فكتب إليه: قد وضع الله عنه الصيام في هذه الأيام كلها، ويصوم يوماً بدل يوم إن شاء الله.
وكتب إليه يسأله: يا سيدي، رجل نذر أن يصوم يوماً فوقع ذلك اليوم على أهله ما عليه من الكفارة؟ فكتب إليه: يصوم يوماً بدل يوم وتحرير رقبة مومنة».(4)
ولا يخفى أن القول بكون الرواية على خلاف القاعدة لعدم صحة نذر صوم عيد الفطر أو الأضحى أو أيام التشريق أو في المرض والسفر فيجب الاقتصار على موردها، يرده ذيلها، فإنّها النصّ في عدم ترك الصوم في يوم كان واجباً عليه بالنذر من غير هذه الأيام.(5)
وبالجملة: فبإلغاء الخصوصية يمكن أن يقال بوجوب قضاء الحج أيضاً، وكذا سائر النذور بعد ذلك.
ومن جهة أن القضاء يحتاج إلى أمر جديد، وليس نفس العمل الواجب سابقاً ـ فإنه قد فات ـ وهذا العمل الذي يقع خارج الوقت عمل آخر مغاير له بالحقيقة وإن كان
1 ـ أحمد بن إدريس الثقة من الثامنة.
2 ـ قمي ثقة من السابعة.
3 ـ من كبار السابعة، ثقة صحيح الرواية، جليل القدر، له ثلاثة وثلاثون كتاباً.
4 ـ وسائل الشيعة: ب 10 من كتاب النذروالعهد ح 1.
5 ـ راجع معتمد العروة: 1/402 .
[28]
مشابهاً له صورةً، فيحتاج وجوبه إلى دليل مستقل، فوجوب الحج المنذور المقيد بسنة خاصة في غير ذلك الزمان يحتاج إلى دليل يخصه.
قال في الجواهر في وجوب القضاء: (بلا خلاف أجده فيه، بل هو مقطوع به في كلام الأصحاب، كما اعترف به في المدارك).(1)
وفي المستمسك قال: (فالعمدة (إذاً) في وجوب القضاء هو الإجماع، كما عرفت من المدارك والجواهر، وهو ظاهر غيرهما، فإن وجوب القضاء بعد الوقت مذكور في كلامهم ومرسل فيه إرسال المسلمات، وأما الكفارة فلمخالفة النذر)(2).
هذا، وأما وجوب القضاء عنه فالظاهر عدمه; لأنّ الحكم بوجوب القضاء على نفسه مستند إما إلى الرواية أو الإجماع وكلاهما مختص بوجوبه عليه.
اللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ الحكم بوجوب القضاء عليه من جهة كونه ديناً عليه على نحو تعدد المطلوب والأقلّ والأكثر، فإذا تعذر الأكثر لا يسقط الأقل، ولا فرق في ذلك بين قضائه بنفسه أو عنه من تركته، ولكن الفتوى بهذه الاستظهارات الضعيفة في غاية الإشكال.
المسألة الرابعة: من نذر الحج مطلقاً أو معيناً ولم يتمكن من الإتيان به إلى أن مات لم يجب القضاء عنه; لعدم وجوب الأداء عليه حتى يجب عليه القضاء، فهذا يكشف عن عدم انعقاد نذره لأنه مشروط بتمكنه من أداء المنذور.
نعم، لو نذر الحج مطلقاً من حيث المباشرة والاستنابة أو الإحجاج وترك الاستنابة أو الإحجاج مع تمكنه منهما فالكلام فيه يجري على ما أجريناه في نذر الحج المطلق والمعيَّن.
إذا مات الناذر قبل تحقق ماعلق عليه نذره
إذا مات الناذر قبل تحقق ماعلق عليه نذره
مسألة 7 ـ إذا نذر الحج معلّقاً على أمر كشفاء مريضه أو مجيء مسافره فمات قبل حصول المعلق عليه هل يجب القضاء عنه، أم لا؟
يمكن أن يقال بأن مجيء المسافر إمّا هو شرط للنذر بأن يكون الحج لله عليه
1 ـ جواهر الكلام: 17 / 345.
2 ـ مستمسك العروة: 1 / 320.
[29]
مشروطاً به فلا يجب; لعدم وجود أحد أركان تحقق النذر وهو الناذر عند حصول شرطه، وإما أن يكون شرطا للمنذور بأن يكون عليه لله فعلاً ـ وقبل تحقق المجيء ـ الحج في ظرف المجيء كما يقال في الواجب المعلق، وعليه يجب القضاء عنه لكشف مجيء مسافره عن كون الحج عليه قبل موته، لكن الظاهر وقوع النذر على الصورة الاُولى.
ويمكن أن يقال: إنه إن كان وجوب الوفاء بالنذر مشروطاً بمجيء مسافره فلا يجب القضاء; لعدم وجوبه عليه بعد فرض موته قبل حصول الشرط، كما هو الحال في الواجب المشروط، وإن كان بنحو الوجوب المعلق وكون الوجوب فيه فعلياً قبل حصول المعلق عليه والواجب استقبالياً فيمكن أن يقال بالوجوب لكشف حصول الشرط عن كونه واجباً عليه من أول الأمر.
ولكن هذا أيضاً خلاف الظاهر فلا يجب عليه القضاء; لأن الظاهر أن الوجوب من باب الشرط والواجب المشروط.
ويرد على التقريبين: أن الحكم هو عدم وجوب القضاء عليهما حتى إذا كان الوجوب على النحو الواجب المعلق أو كان الشرط شرطاً للمنذور; وذلك لأن التمكن من المنذور في ظرف العمل معتبر في انعقاد النذر فيكشف بالموت عدم انعقاده.
إذا استقرّ الحج النذرىّ عليه ثمّ صار معضوباً عن الحجّ
إذا استقرّ الحج النذرىّ عليه ثمّ صار معضوباً عن الحجّ
مسألة 8 ـ إذا نذر الحج واستقر عليه بتمكنه منه ثم صار معضوباً لمرض أو نحوه، أو مصدوداً بعدوٍّ أو نحوه فهل يجب عليه الاستنابة في حال حياته؟
بدعوى دلالة الأخبار الواردة في حجة الإسلام(1) بدعوى شمول بعضها بالإطلاق له، كصحيح محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «كان علي(عليه السلام) يقول: لو أن رجلا أراد الحج فعرض له مرض أو خالطه سقم فلم يستطع الخروج فليجهز رجلا من ماله ثم ليبعثه مكانه»(2).
1 ـ وسائل الشيعة: ب 24 من أبواب وجوب الحج وشرائطه.
2 ـ وسائل الشيعة: ب 24 من أبواب وجوب الحج وشرائطه ح 5.
[30]
أو بدعوى إلغاء الخصوصية بين الحج الذي استقر عليه بالاستطاعة والحج الذي استقر عليه بالنذر.
وعن المحقق: أن وجوب الاستنابة حسن (1)
و في التذكرة: (الأقرب وجوب الاستنابة). (2)
وقال سيدنا الأعظم (قدس سره) في هذه الأخبار: شمول منطوقها لغير حجة الإسلام ممنوعة.
نعم، لو ادّعي انفهام غيرها منها بإلغاء الخصوصية لم يكن بعيداً، أو بدعوى استظهار الدينية من دليل النذر، فعليه إن استقر عليه يجب أداؤه بنفسه أو بالاستنابة.
قال السيد الاُستاذ الفقيه الكلپايكاني (قدس سره): وعلى اختصاص المورد ـ يعني حجة الإسلام ـ بها (يعني بالأخبار) كما هو الظاهر يمكن دعوى انفهام العموم بإلغاء الخصوصية، مع أن الاستنابة مطابقة للقاعدة على ما استظهرنا من تعلق النذر على نحو الدين، فإنه بعد الاستقرار لابد من أدائه بنفسه إن كان متمكناً، وإلا فبالاستنابة.
أو لا يجب عليه الاستنابة؟ لاختصاص الأخبار بحجة الإسلام كما يظهر ذلك لمن نظر فيها، والمراد من صحيح محمد بن مسلم أيضاً بقرينة سائر الروايات هو حجة الإسلام، وإلاّ فلا يدلّ على الوجوب; لشمول إطلاقه الحج المندوب أيضاً.
وبعبارة اُخرى: يدل على مطلق المشروعية، ودعوى إلغاء الخصوصية ممنوعة، للفرق بين حجة الإسلام والحج الواجب بالنذر، وعدم دلالة الدليل الدالّ على وجوب الاستنابة في حجة الإسلام أن ملاك الوجوب فيه هو كون الحج واجباً بلا دخل لكونه حجة الإسلام أو غيرها، فيمكن أن يكون هذا الحكم مختصاً بحجة الإسلام.
اللهمّ إلاّ أن يقال: إنه يفهم من الحكم بوجوب الاستنابة أن ذلك لكون حجة الإسلام ديناً على المكلف فيجب أداؤه بالمباشرة، وإلا فبالاستنابة، والنذر أيضاً