الجميع يسبحون له
الايـة الاولـى مـن بـحثنا واردة في تسبيح عامة موجودات العالم , وهذامااكدته الكثير من الايات الـقـرآنية بتعابير مختلفة , ويعتبر من البحوث القرآنية الطريفة جدا, قال تعالى (يسبح للّه مافي السموات ومافي الارض الملك القدوس العزيز الحكيم ).
فـلـسـان حـال الكون واسراره المذهلة تحكي عن علم اللّه تعالى اللا محدودوقدرته اللا متناهية وكـمـالـه المطلق , والجميع يقدسون اللّه عز وجل وينزهونه وينفون عن ذاته المقدسة كل عيب ونقص , لان كل من ينظر الى هذه الموجودات بدقة يقف على عظمة خالقها ومديرها ومدبرها.
ويعتقد جماعة من المحققين ايضا ان موجودات العالم المختلفة تسبح اللّه تعالى حقيقة , وبلسان القول لا بلسان الحال فقط , لان لكل نوع منها حصة من الادراك والشعور والكيفية الخاصة لتقديس الباري تعالى , وما المانع في تحقق كلا الامرين ( لسان الحال والقال ) في بيان هذه الحقيقة ؟.
لذا فان كلمتي ( يسبح ) و ( القدوس ) في هذه الاية الشريفة تعدان كلاهمااشارة لطيفة الى جميع صفات اللّه تعالى السلبية , وهي من الامور التي يشترك في ذكرها جميع موجودات عالم الوجود.
واستعمال صيغة الفعل المضارع المستمر في فعل ( يسبح ) يدل على استمرار وديمومية هذا الامر , مـنـذ بد الخلق وسيبقى حتى النهاية , ويجب ان يكون كذلك , لان وجود الافعال يبين دائما صفات الفاعل ( لا حظ بدقة ).
والـطريف ان هذه الاية هي الاية الاولى من سورة الجمعة , وتعد مقدمة لبيان فريضة صلاة الجمعة الـعبادية السياسية لانها تلفت اذهان الناس الى كون مسالة العبادة والتقديس للّه سبحانه برنامجا عاما ومـستمرا من قبل جميع ذرات الوجود , وتحثهم على الانضمام معهم في هذا الذكر ومواكبة امواج الـوجـود فـي هـذا الـبـرنامج المقدس , والخضوع لساحة الباري الحاكم القدوس والقادرالحكيم ((119)) .
وفي الاية الثانية تجلى هذا الكلام بلباس آخر , فضمن تاكيدها على توحيد اللّه تعالى وبيانها لبعض صـفـاتـه واسمائه الحسنى , وصفته بصفة ( القدوس ) المبينة لجميع الصفات السلبية , قال تعالى (هو اللّه الذي لا اله الا هوالملك القدوس ).
وكـمـا اشـرنا في شرح مفردات الايات فان (القدوس ) صيغة مبالغة للقداسة , وتعني منتهى نزاهة الـذات والـصـفات والافعال والاحكام الالهية من كل عيب ونقص , وهي تعبير مختصر وغني جامع لجميع الصفات السلبية .
فـهو ليس منزه عن وجود نقص في ذاته فحسب , بل ان ايجاده وخلقه وتكوينه وتشريعه منزه عن اي عـيـب ونقص ايضا , لانها جميعا تنبع من ذلك الكمال المطلق , ومن فيوضاته وافاضاته سبحانه , وجميعها ذات صبغة الهية ,وجميعها كاملة .
امـا الايـة الـثـالـثة , فبعد ان نفت اي ولد وكف عن الذات الالهية المقدسة قالت سبحان اللّه عما يصفون ).
وقد وردت هذه الجملة في آيات عديدة من القرآن الكريم , وجات لتنفي اي شريك وكف او صاحبة وولـد عـن اللّه عز وجل كما كان يعتقد ذووالافكار الضيقة , ولها معنى واسع يشمل كل وصف لا يـلـيـق بـذاتـه وصـفاته وافعاله واحكامه , بل يشمل كل وصفنا له ايضا , لاننا وجميع المخلوقات الاخرى وبسبب تلوثنا بالنقصان والمحدودية , عاجزون عن فهم كنه صفاته , لذا نعجزعن شرحها في الوقت الذي نعرف صفاته المقدسة بصورة اجمالية .
وعليه فهو منزه عن كل وصفنا له ومنزه عما يصف الواصفون (سبحان اللّه عما يصفون ).
لـذا نـجد في بعض الروايات الواردة عن الامام الصادق ( (ع ) ) وضمن بيانه المذهب الصحيح في التوحيد انه (ع ) قال (( تعالى اللّه عما يصفه الواصفون )) ((120)) .
ثـم اكـد ( (ع ) ) فـي ذيـل نفس هذا الحديث على عدم التجاوز في وصف الباري عن الصفات التي وردت في القرآن الكريم .
وفـي الايـة الـرابـعـة والاخيرة من بحثنا قال تعالى ـ وبكلام مطلق ومجرد عن اي قيد وشرط ـ سبحان ربك رب العزة عما يصفون ).
وكـمـا قـلـنـا فان هذا التعبير يمكن ان يكون اشارة الى تنزيه اللّه عز وجل عما وصفه به ذوو الافكار الضيقة , فاحيانا يتخذون من المسيح ولدا له , واحيانااخرى يتخذون من الملائكة بناتا له واحـيانا كانوا يعتقدون بوجود صلة قرابة بينه وبين الجن , واحيانا كانوا يعرفون الاصنام كشركا واكفا له او شفعا عنده ,واحيانا كانوا يصفونه باوصاف الاجسام المادية .
وبعبارة اخرى ان هذه الاية الشريفة تنفي عنه جميع هذه الاوهام الخاطئة وتبطلها.
ويـمكن ان يكون المقصود هو تنزيهه سبحانه عن كل وصف صادر من اي احد , لان البشر لا يقدر على ادراك كنه صفاته , كما انه عاجز عن ادراك كنه ذاته .
يتضح من مجموع هذه الايات ان الذات الالهية منزهة عن اي صفة تحمل اقل درجة من النقصان , او ادنى عيب .
ومـعـرفـتـنـا بالصفات الثبوتية الالهية انما هي بقدر طاقاتنا وقدرتنا لا بقدرمايليق بالذات الالهية المقدسة .
وهـذا الـتنزيه مضافا الى شموله لذات الباري وصفاته , فانه يشمل احكامه وتشريعاته ايضا , فكلها منزهة عن النقصان والعيب , لانها نابعة من ذات هي عين الكمال والكمال المطلق .
التوضيحات
(( التشبيه )) من اعظم الذنوب . ان تـنـزيـه وتقديس الباري تعالى عن صفات المخلوقين المشوبة بالنقائص دائما , هو مااكدنا عليه كـرارا , وهـو ما حثت عليه الاحاديث الاسلامية بصورة مستمرة , لانه لايمكن التوصل الى حقيقة معرفة اللّه تعالى بدونه , او بتعبير آخرسيكون التوحيد مقترنا مع الشرك .ومن جهة اخرى فان فصل الصفات ((الثبوتية )) عن ((السلبية )) يحصل في افق اذهاننا فقط , والا فـالـذات الالـهـية المقدسة حقيقة واحدة , فقد ننظر اليها من زاوية الوجود فنرى كماله المطلق , وعـلمه المطلق , وقدرته المطلقة سبحانه ,واحيانا من زاوية نزاهتها عن الحاجة والنقص , فنراه منزها عن الجهل والعجز ,وكل الوان النقصان .
لذا فعدم معرفة الصفات السلبية يؤدي الى عدم معرفة الصفات الثبوتية ,ونقصان المعرفة في مرحلة يؤدي الى نقصانها في مرحلة اخرى .
وفي هذا المجال لابد لنا من التوجه الى بعض الاشارات الواردة في الاحاديث الاسلامية التالية
1 ـ قـال امـيـر المؤمنين علي ( (ع ) ) في بداية خطبة له (( لا يشغله شان ولايغيره زمان ولا يحويه مكان ولا يصفه لسان )) ((121)) .
2 ـ وقـال ( (ع ) ) فـي خـطبة اخرى ضمن اشارته الى عجز الانسان عن فهم المسائل المرتبطة بالحياة والموت (( كيف يصف الهه من يعجز عن صفة مخلوق مثله )) ؟ ((122)) .
3 ـ ورد في حديث ان رجلا من اصحاب الامام الصادق ( (ع ) ) سال الامام ( (ع ) ) اخبرني اي الاعمال افضل ؟ فاجابه ( (ع ) ) (( توحيدك لربك )) فسال الرجل (( فما اعظم الذنوب )) ؟ فقال ( (ع ) ) (( تشبيهك لخالقك )) ((123)) .
4 ـ وورد فـي حديث آخر عن الامام الصادق ( (ع ) ) انه قال (( ان اللّه تبارك وتعالى لا يوصف بـزمـان ولا مكان ولا حركة ولا انتقال ولا سكون بل هو خالق الزمان والمكان والحركة والسكون والانتقال , تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا ))((124)) .
5 ـ ورد فـي حديث آخر عن امير المؤمنين ( (ع ) ) في تفسير صفة ( الصمد ) انه قال ((تاويل الـصمد لا اسم ولا جسم ولا مثل ولا شبه ولا صورة ولاتمثال ولا حد ولا حدود ولا موضع ولا مـكـان ولا كـيـف ولا ايـن ولا هنا ولا ثمة ولا ملاولا خلا , ولا قيام ولا قعود , ولاسكون ولا حـركـة , ولا ظلماني ولا نوراني , ولا روحاني ولا نفساني ولا يخلو منه موضع ولا يسعه موضع ولا على لون , ولا على خطر قلب , ولاعلى شم رائحة , منفي هذه الاشيا)) ((125)) .
ولا يخفى , ان المقصود من نفي الاسم عن اللّه سبحانه هو نفي اسما المخلوقات .
وبهذه المعرفة الاجمالية التي حصلنا عليها عن الصفات السلبية ننطلق الى معرفتها بالتفصيل .