4 ـ.ادلة القائلين بالرؤية الظاهرية
وكـما اشرنا فيما مضى , فان هناك جماعة من علما اهل السنة الماضين وحتى المعاصرين المؤيدين لـمـسالة الرؤية , يصرحون احيانا بامكانية رؤية اللّه بالعين الظاهرية هذه , ولكن لا فى الدنيا , بل فـي الاخـرة السادسة التي يخلقهالعباده المؤمنين , او بعين غير هذه العين والتي يتملكها حتى الاعمى .
ويـظهر ان الشي الاساس الذي قادهم الى التسليم بهذا المعتقد والاشتباه في تفسير الرؤية وتوجيه كـلامـهم بتوجيهات عجيبة , هو الروايات الواردة فى كتبهم عن الرسول محمد ( ص ) , بالدرجة الاولى , وبالدرجة الثانية هو ظواهربعض الايات القرآنية التي لم تفسر بصورة صحيحة .
1 ـ ورد فـي الحديث عن رسول اللّه (ص ) ((انكم سترون ربكم كما ترون هذاالقمر لاتضامون في رؤيته )) ((140)) .
2 ـ وفي حديث آخر عن ابي هريرة ان رسول اللّه (ص ) سال اصحابه (تضامون في رؤية القمر لـيـلة البدر ؟ فقالوا كلا ((اي اننا نرى القمر بدون ان نزدحم في رؤيته )) ((141)) فقال ( كذلك لا تضامون في رؤية ربكم يوم القيامة )).
3 ـ وفـي روايـة اخـرى فـي نفس هذا الكتاب عن ((ابو رزين )) عن رسول اللّه (ص ) انه قال ضحك ربنا من قنوط عبادة وقرب غيره .
فقال الراوي فسالته هل يضحك ربنا يارسول اللّه ؟.
فقال نعم .
فقلت لن نعدم من رب يضحك خيرا ((142)) .
4 ـ وفـي حـديث آخر عن ((ابو عاصم العباداني )) عن جابر بن عبد اللّه , عن رسول اللّه (ص ) انه قال ((بينا اهل الجنة في نعيمهم اذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم فاذا الرب قد اشرف عليهم مـن فوقهم فقال السلام عليكم يااهل الجنة اليهم وينظرون اليه )) ((143)) .
بعد ان نقل ابن ماجه الحديث اعلاه نقل عن السيوطي في مصباح الزجاجة كلاما يدل على عدم الوثوق باحاديث ابي عاصم العباداني .
وقـد ورد الـحـديـث الاول ايضا في صحيح البخاري , الذي يعد من اشهرمصادر الحديث لدى اهل السنة , عن ( جريربن عبداللّه ) في كتاب ( مواقيت الصلاة ) في بابين مختلفين مع اختلاف بسيط ((144)) .
وقد نقل بصراحة في قسم تفسير الايات من المجلد السادس لصحيح البخاري ايضا مسالة رؤية اللّه يوم القيامة ((145)) .
5 ـ يلاحظ في كتاب الصلاة من ((صحيح مسلم )) وجود عدة روايات منقولة عن ((ابي هريرة )) حـول نزول اللّه تبارك وتعالى كل ليلة الى السما الدنيا , من جملتها عن الرسول ( (ص ) ) انه قال ((146)) .
مـع ان هـذه الـروايـة لاتتحدث عن مسالة الرؤية لكنها تشتمل على مسالة تجسيم اللّه عز وجل , ونسب العوارض اليه ايضا , كالمكان والحركة والنزول والصعود ان هـذه الـروايـات ـ ومـع الاسف ـ قد وردت مرارا في مصادرهم الشهيرة التى ذكرنا قسما منها اعـلاه , وبما انها تخالف صراحة الايات القرآنية التي تقول (لاتدركه الابصار ) و (فانك لن تراني ) ومـخـالفة لحكم العقل ايضا فيحب ان تهجر ,وان لم يعثر لها على تفسير وتوجيه واضح , فيجب القول بانها روايات مجهولة ونسبت الى رسول اللّه ( (ص ).
والعجيب , ان اكثر هذه الروايات منقولة عن طريق ابي هريرة المشكوك في امره من عدة جوانب .
وكـمـا نقلنا في رواية الامام الرضا ( (ع ) ) كيف يمكن لاجير ان يبلغ عن اللّه عبارات صريحة تقول بعدم امكانية رؤية اللّه ابدا , ثم يدعي بان المؤمنين يرون اللّه في القيامة , او بان اللّه ينزل الى الـسما الدنيا كل ليلة ؟ وهذا تضاد غيرممكن , اضافة الى هذا , فالروايات اعلاه كما تقول بامكانية رؤيـة اللّه , تـصـرح ايـضـا بـجسمانية اللّه , وتنسب اليه الصعود والنزول والضحك والقهقهة , وهـذاشي لا يتقبله حتى الاشاعرة الذين يعتقدون بالرؤية , وذلك لانهم يقولون بصراحة ان رؤية اللّه لاتعني تجسيمه , وهذا شاهد آخر على كون هذه الروايات موضوعة .
وكـذلك ماورد في ( سنن ابن ماجة ) عن عبد اللّه بن عمر انه سمع رسول اللّه ( (ص ) ) قال (( يدني المؤمن من ربه يوم القيامة حتى يضع عليه كنفه ))((147)) .
فـلـو لـم تـحـمل هذه التعابير على المعاني المجازية والكنائية , فهي حتماتدل على مجهولية هذه الـروايـات الـتـي تجعل للّه ذراعا وصدرا وجناحا ,وبواسطتها تعرض الافكار المنحطة للقائلين بالجسمية , فى قالب احاديث مجعولة .
والاعجب من ذلك وهو وجود جماعة لحد الان يؤيدون مسالة رؤية اللّه ,وذلك بسبب تقيدهم بمثل هذه الروايات المبتدعة .
في حين ان مذهب اهل البيت ( (ع ) ) قد نفى هذه العقيدة مطلقا لانهامرفوضة من قبل العقل والايات القرآنية .
ومن بين الايات الشريفة التي يستند عليها القائلون بالرؤية هي ( وجوه يومئذ ناظرة الى ربها ناظرة ) (سورة القيامة , الايتان 22 , 23 ).
فـي حـين ان كلمة ( ناظرة ) المشتقة من مادة ( نظر ) تاتي بمعنى المشاهدة ,وبمعنى الانتظار , وعـلـى اي حـال يـجب ان توضع هذه الاية الى جنب الايات القرآنية الاخرى التي تقول ( لاتدركه الابصار ) وان تفسر هذه المتشابهة بتلك المحكمة .
وتـستعمل هذه التعابير الكنائية بكثرة , كقولنا( فلان ينظر اليك فقط , اوعينه عليك ) اي يتوقع مـنـك الـمـحبة واللطف والرافة , فاصحاب الجنة ايضاينظرون يوم القيامة الى ربهم ويرجون منه اللطف والرحمة .
والملفت ان تقدم الجار والمجرور في جملة ( الى ربها ناظرة ) يعطي معنى الحصر ( اي انها ناظرة الـى ربـهـا فـقط ) , في حين انهم يشاهدون انواع نعم الجنة باعينهم , كالاشجار والانهر والثمار وحـور الـعين وغير ذلك بنفس الوقت , ممايدل بحد ذاته على ان هذه النظرة اليه تعالى والمختصة بذاته المقدسة , هي انتظار كرمه وعفوه .
والاحـتـمـال الاخـر الـوارد فـي تفسير الاية , هو ان المقصود من النظرة هي الشهود الباطني , والرؤية الصريحة بعين القلب والبصيرة , والخالية من كل الوان الشك والترديد.
والـحـديـث النبوي المنقول عن انس بن مالك يعد خير دليل على هذاالادعا وهو (( ينظرون الى ربهم بلا كيفية ولا حد محدود ولا صفة معلومة )) ((148)) .
ومـن الـمـسـلم انه لو كان المقصود من الرؤية هو الرؤية البصرية الظاهرية فهي مستحيلة بدون وجود كيفية وصفة معلومة .
يقول العلامة الكبير المرحوم ( السيد شرف الدين ) في كتاب ( كلمة حول الرؤية ) ـ بعد ان تطرق الـى الاحـاديـث التي نقلها محدثو اهل السنة بخصوص رؤية اللّه يوم القيامة ـ( انهم بحملهم هذه الـروايـات عـلى الصحة اضطروا الى سلوك الطريق الذى سلكه القائلون بجسمانية اللّه , الطريق الـمـخـالـف لـلعقل والنقل , في حين انه لا هذه الاحاديث صحيحة , ولا ماورد فيها شي يقبله العقل والـشرع , ولكن كثرتها ادت بهم الى تعطيل حكم العقل , وحتى الى تطبيق آيات من القرآن الكريم معها.
انه عمل غير متوقع , انا للّه وانا اليه راجعون ثـم تـطرق الى آية (وجوه يومئذ ناظرة الى ربها ناظرة ) , واضاف قائلالتعبير بكلمة ( نظر ) خـصـوصـا عندما تتعدى بـ ( الى ) لا يعني الرؤية والمشاهدة ابدا , بل يعني صرف النظر الى شي حتى وان لم يكن مرئيا , كما صرح بذلك ارباب اللغة , وورد في القرآن الكريم (وتراهم ينظرون الـيـك وهم لايبصرون )الاعراف ـ 198 مضافا الى ذلك , فما يتبادر الى الذهن من الاية اعلاه هو ذلـك الانـتظار للفضل الالهي يوم القيامة , ( وكما اشرنا سابقا) فان استعمال هذه الكلمة بهذا المعنى والـمـفهوم يعد حقيقة لا مجازا , وهي ملحوظة في الاشعاروالكلمات اليومية التي تمر علينا كقول الشاعر
وجوه ناظرات يوم بدر الى الرحمن تنتظر الخلاصا. الى الرحمن تنتظر الخلاصا. الى الرحمن تنتظر الخلاصا.
ويقول الشاعر الاخر
اني اليك لما وعدت لناظر نظر الفقير الى الغني الموسر. نظر الفقير الى الغني الموسر. نظر الفقير الى الغني الموسر.
ثـم اضـاف قـائلاانـي اتـعـجـب من هؤلا الاخوة كيف استدلوا بهذه الاية على امكانية رؤية اللّه وحصولها , وغاب عنهم معناها الظاهري ؟ في حين انهم عندما يصلون الى الايات المشابهة لهذه الاية يـؤولـونها , كالاية (الرحمن على العرش استوى ) ( طه ـ 5 ) , و (يد اللّه فوق ايديهم ) ( الفتح ـ10 ) وامـثـالـها , ولايحملونها على معنى جسمانية اللّه والمكان والحركة , بل يعتبرون الاولى بمعنى سلطة اللّه الربوبية على العرش , والثانية كناية عن قدرته الفائقة جل وعلا.
ولا يعلم سبب هجرهم للمعنى الجلي لجملة (الى ربها ناظرة ) واندفاعهم نحو مسالة الرؤية .
مـضافا الى ذلك فيمكن ان تكون هذه الاية كناية عن الرؤية بعين البصيرة ,كما ورد في كلام امير الـمؤمنين علي ( (ع ) ) عندما قال (( لوكشف الغطا ماازددت يقينا )) او يقول في موضع آخر ( او اعبد ربا لم اره ) ؟ ثم صرح قائلا( لاتراه العيون بمشاهدة العيان ولكن تدركه القلوب بحقائق الايمان ).
او مـاورد في كلام ولده الامام سيد الشهدا الحسين ( (ع ) ) في دعا عرفة مخاطبا ربه (( عميت عين لاتراك عليها رقيبا )) ((149)) .
والاية الاخرى التي استندوا عليها لاثبات مقصودهم هي (كلا انهم عن ربهم يومئد لمحجوبون ) ( المطففين / 15 ).
ويستفيدون منها كون المؤمنين غير محجوبين عن الرؤية , ويرون ربهم حتما.
ولكن كما ان كلمة ( حجاب ) تستعمل للحجاب الظاهري , فكذلك تستعمل للحجاب المعنوي ايضا , والمقصود في هذه الاية هو المعنى الثاني لاالاول , وذلك بقرينة الاية التي سبقتها حيث تقول (كلا بل ران على قلوبهم ماكانوا بكسبون ) لان المقصود هنا من الرين هو الرين المعنوي لا الظاهري .
والـشـاهـد الاخر هو الاية الخامسة من سورة فصلت التي تخبر عن قول الكفارومن بيننا وبينك حجاب ) ومن المسلم ان الحجاب الذي كان بين الرسول ( (ص ) ) والكفار لم يكن حجابا ظاهريا.
وفي الاية 45 من سورة الاسراجلعنا بينك وبين الذين لا يؤمنون حجابامستورا).
وعـليه فان الكفار محرومون من اللقا المعنوي مع ذلك المحبوب , وذلك لوجود الحجاب بينهم وبين اللّه تعالى والاية الثالثة التي استعانوا بها لاثبات مقصودهم هي (انهم ملاقوا ربهم ) ( البقرة46 ) , وقالوا ان الملاقاة تعني المشاهدة .
فـي حين ان الايات القرآنية تدل بوضوح على ان اللقا يوم القيامة باي مفهوم كان لا يخص المؤمنين , بـل يتساوى فيه المؤمن والكافر , بينما نجد انهم يعتقدون بان رؤية اللّه في القيامة خاصة بالمؤمنين فـقـط , والـدليل على عمومية اللقا ماورد في الاية السادسة من سورة الانشقاق (ياايها الانسان انك كادح الى ربك كدحا فملاقيه ).
اذن فـالـمـخـاطـب في هذه الاية جميع الناس والاية 77 من سورة التوبة قالت (فاعقبهم نفاقا في قلوبهم الى يوم يلقونه بما اخلفوا اللّه ما وعدوا وبما كانوايكذبون ).
فهذه الاية خاصة بالمنافقين , وفي نفس الوقت فانها تثبت ان لهم لقااللّه وعلى هذا يتضح ان لقا اللّه , باي مفهوم كان , يشمل كلا من المؤمنين والكافرين , في حين انهم يعتقدون باختصاص هذا الموضوع بالمؤمنين .
والـجـديـر بـالـذكر ان كلمة ( لقا ) في الاصل اللغوي بمعنى حدوث تماس بين شيئين , لا بمعنى الرؤية والمشاهدة , ونحن نعلم باستحالة تحقق هذا الامربخصوص الباري تعالى , والاشاعرة ايضا لا يقولون بذلك , لذا يجب ان يحمل على المعنى الكنائي .
ومـا يـستفاد من الايات القرآنية المختلفة هو ان ( يوم لقا اللّه ) , كناية عن يوم القيامة الذي سيلقى الناس فيه الجزا والحساب والقصاص الالهي , لذا فقدورد في آيات متعددة بدلا عن ( لقااللّه ) (لقا يـومـهم هذا) ( الاعراف ـ51 ) او(لقا يومكم هذا) (السجدة ـ 14 والجاثية 34 ) وورد التعبير عنه في آيات اخرى بملاقات يوم الحساب ويؤل باللقا مثل (اني ظننت اني ملاق حسابيه ) ( الحاقة ـ 20 ).
لهذا فقد حمل الكثير من ارباب اللغة آيات لقا اللّه على هذا المعنى .
يقول الراغب في المفردات ( ملاقاة اللّه عز وجل عبارة عن القيامة ).
وكذلك يقول ابن الاثير في النهاية ( المراد بلقا اللّه المسير الى دار الاخرة ).
وقد نقل ابن منظور في لسان العرب نفس هذا المعنى ايضا.
ويـلاحظ نفس هذا المعنى في الروايات ايضا , كما ورد في الحديث النبوي انه ( (ص ) ) قال (( من حلف على يمين ليقتطع بها مال امر مسلم لقى اللّه وهوعليه غضبان )) ((150)) .
والـظاهر ان التعبير عن القيامة بـ ( يوم لقا اللّه ) ينبع من هذا المعنى , وهو ن الانسان ـ في ذلك الـيـوم ـ يشعر بالامر الالهي في كل مكان , في الحساب , في عرصة المحشر , في الجنة والنار , ويتجلى وجود اللّه عز وجل للجميع , بحيث يراه المؤمن والكافر بعين القلب والبصيرة بوضوح .
والعجب هو استدلال الاشاعرة بيات اخرى لا تدل على مقصودهم ادنى دلالة مما يؤيد انهم مصرون عـلـى تـحـميل الايات القرآنية آرائهم ,كالاية (للذين احسنوا الحسنى وزيادة ) (يونس ـ 26 ) , فقالوا ان المقصود من (زيادة ) رؤية اللّه في حين عدم وجود ادنى اشارة في هذه الاية الشريفة على هذا المفهوم ,بل ان الاية تشير الى نفس ذلـك الـشـي الـذي ورد فـي الاية 60 من سورة الانعام حيث قال تعالى (من جا بالحسنة فله عشر امثالها).
وكذلك استدلوا بالاية 35 من سورة ق (لهم مايشاؤن فيها ولدينا مزيد).
فـقـالوا ان المقصود من ( لدينا مزيد ) هو رؤية الخالق المفهوم .
وخلاصة الكلام هو ان مسالة رؤية اللّه , ـ علاوة على كونها مخالفة للدليل القطعي العقلي والنقلي ـ كـانت تستلزم جسمانية اللّه ( الا ان يكون المقصود منهاالرؤية بعين القلب والباطن فلا احد يناقش في ذلك ).
ولا يوجد دليل روائي او قرآني عليها , والامر الوحيد هو استعانتهم بالمتشابهات لتصديق معتقدهم هذا , في حين ان القرآن امرنا بمطابقة وتفسيرالمتشابهات بالمحكمات .
وان قـسما من الروايات المنقولة في كتب هؤلا القوم بخصوص هذاالموضوع , هي روايات تتنافى مع حكم العقل والقرآن , ونحن مامورون بتركهاوعدم الاهتمام بها.
وقـد انتقد المرحوم العلامة (السيد شرف الدين ) بدوره اسناد هذه الاحاديث ايضا في كتابه القيم ( كلمة حول الرؤية ) واثبت بانها موضوعة ( ولزيادة التوضيح راجع الكتاب المذكور ) ((151)) .
فما اقبح عصرنا الحاضر اذ يوجد به من لا يزالون يؤيدون خرافة ( رؤية اللّه بالعين الظاهرية في القيامة ) , على الرغم من كون البحوث العقائدية فيه تدورحول محور الادلة العقلية , وقد اتضحت المسالة بصورة كافية من خلال آيات القرآن .