3 ـ.ليس له محل وهو موجود في كل مكان
تمهيد
ليس من اليسير ادراك وجود مجرد من المادة من قبل افراد يعيشون دائمافي اسر سجن عالم المادة وقد تطبعوا عليه , ولم يفكروا باعلى منه .
ولـكـن وكما قلنا في بداية بحث الصفات الالهية , فان اول خطوة في طريق معرفته هي تنزيهه عن صفات مخلوقاته , خاصة عن صفات الموجودات المادية من قبيل الزمان , المكان , التغير , والحركة .
ويتضح من هنا اننا لا نعرف اللّه حق معرفته حتى ننزهه عن المكان والمحل .
ومـن الـبديهي ان الاتصاف بالمحل ملازم للقول بالتجسيم , وعرفنا في البحوث السابقة بان اللّه عز وجـل لـيـس بجسم ولا يتصف بصفات الاجسام ,لايحيطه مكان ولا يسعه زمان , وفي نفس الوقت يحيط بجميع الامكنة والازمنة بهذا التمهيد نتوجه الى القرآن الكريم لنصغي الى الايات التالية باسماع قلوبنا
1 ـ (وللّه المشرق والمغرب فاينما تولوا فثم وجه اللّه ان اللّه واسع عليم ).
( البقرة / 115 ).
2 ـ (وهو الذي في السما اله وفي الارض اله وهو الحكيم العليم ).
( الزخرف / 84 ).
3 ـ (وهو معكم اينما كنتم واللّه بما تعملون بصير) ( الحديد / 4 ).
4 ـ (مـا تـكـون من نجوى ثلاثة الا هو رابعهم ولا خمسة الا وهو سادسهم ولاادنى من ذلك ولا اكثر الا هو معهم اينما كانوا) ( المجادلة / 7 ).
5 ـ (ولقد خلقنا الانسان ونعلم ماتوسوس به نفسه ونحن اقرب اليه من حبل الوريد) ( ق / 16 ).
6 ـ (هو الاول والاخر والظاهر والباطن وهو بكل شي عليم ) (الحديد/ 3 ).
7 ـ (وانـتـم حـيـنـئذ تـنـظرون ونحن اقرب اليه منكم ولكن لاتبصرون )(الواقعة /84 و 85 )((160)) .
جمع الايات وتفسيرها
اينما نتوجه فثم وجه اللّه . حـاول الـيـهـود بـعـد مسالة تغير القبلة ( من بيت المقدس نحو الكعبة ) الى ايجاد شبهة في اذهان المسلمين من خلال هذه المسالة , واعتبار تغيير القبلة دليلا على عدم ثبات الرسول محمد ( (ص ) ) عـلـى رسـالته , فنزلت الاية الاولى من بحثنا وبينت (وللّه المشرق والمغرب فاينما تولوا فثم وجه اللّه ان اللّه واسع عليم ).فـهو حاضر في كل مكان وبكل شي عليم , لذا فاينما تولوا فثم وجهه ,واما الغرض من التوجه نحو الـقـبلة فهو لتمركز توجه المؤمنين الى ان اللّه عز وجل له محل خاص او جهة معينة وهي القبلة , فوجوده واسع الى درجة كونه حاضراورقيبا في كل مكان , وفي نفس الوقت ليس له محل او مكان خاص وطـبـعـا ليس المقصود من كلمتي المشرق والمغرب في الاية اعلاه الجهتين الجغرافيتين , بل هو تـعـبـير كنائي عن جميع العالم , كما اننا عندما نريدان نقول بان اعدا علي ( (ع ) ) حاولوا اخفا فـضـائلـه , وشـيعته اخفوها ايضاخوفا من اعدائه , ومع ذلك فان فضائله ملات العالم , نقول ( ان فضائله ملات الشرق والغرب ) وعلى اي حال فان تعبير (فاينما تولوا فثم وجه اللّه ) هو تعبير حي وواضح على عدم احاطة المكان باللّه تعالى .
لان الـتـواجد في كل مكان اما يعني امتلاك الموجود ابعادا واسعة واجزاكثيرة تملا المكان , وكل جـز مـنـه مـوجـود في جهة معينة , ونحن نعلم باستحالة هذا المعنى بالنسبة الى اللّه تعالى , لانه سـبـحـانه ليس له اجزا , وقول القرآن هو معكم ) لايعني ان جزا من وجود اللّه تعالى هناك ( فتامل جيدا ).
او يـعـني عدم احاطة المكان به , اي هو فوق الزمان المكان , وطبعا مثل هذا الوجود تتساوى لديه جميع الامكنة والازمنة ولا معنى للبعد والقرب عنده .
والملاحظة المهمة هنا هي ان التعبير بعبارة ( وجه اللّه ) تعني في القرآن الذات الالهية المقدسة .
ولـكون ( الوجه ) اشرف اعضا الانسان ويحتوي على اهم حواسه , فان هذه الكلمة تستعمل كناية عن ( الذات ) , ولكن بعض المفسرين فسروهابمعنى الرضا الالهي , او الثواب الالهي , او القبلة , ولا نعتقد بصحة اي من هذه المعاني .
قـال تعالى في الاية الثانية ـ ضمن رده على المشركين والذين جعلوا له ولدا , وتنزيه ذاته المقدسة عن هذه الصفات ـ (وهو الذي في السما اله وفي الارض اله وهو الحكيم العليم ).
ان الـوهـيـة اللّه تـعـالى لا تخص جهة معينة , او مكانا خاصا , ومساحة الوهيته وسعت كل مكان , وبـسبب وجوده في كل مكان فهو بكل شي عليم وخبير , وافعاله حكيمة , بل ان هذا التعبير يشير الى ان ( العليم ) و ( الحكيم )الوحيد في عالم الوجود هو اللّه سبحانه , لان علم وحكمة من سواه قاصرة وناقصة ومشوبة بالجهل .
ولـكـن المشركين على مدى التاريخ قالوا بان لكل واحدة من موجودات العالم الها وربااله السما , الـه الارض , الـه الـبـحر , اله البر , اله الحرب واله الصلح , وما شاكل ذلك , والاية اعلاه تنفي جميع هذه المعتقدات الباطلة ,وتؤكد على ربوبية اللّه الواحد الاحد على جميع عالم الوجود.
قـال بعض المفسرين ن هذه الاية خير دليل على هذا الموضوع , وهوعدم تواجد اللّه في السما , لانه يقول (في السما اله وفي الارض اله ) ويعني ان نسبة وجوده في السما وفي الارض متساوية , وبما ان الارض لا تعتبر مكانا له ,فكذلك السما ايضا ((161)) .
وقـال الـبـعض الاخر من المفسرين بان مقصود هذه الاية هو انه معبود في السما وفي الارض , فالملائكة تعبده في السما وفي الارض تسجد له موجوداتها.
وفـي حـديـث ظـريـف ورد بـان احـد زنادقة عصر الامام الصادق ( (ع ) ) وهو ((ابوشاكر الـديـصاني )) قال لهشام بن الحكم ن في القرآن آية هي قولنا قلت ماهي ؟ فقال وهو الذي في الـسـما اله وفي الارض اله فلم ادر بها اجيبه زنـديق خبيث اذا رجعت اليه فقل ما اسمك بالكوفة فانه يقول فلان , فقل له ما اسمك بالبصرة ؟ فـانه يقول فلان فقل كذلك اللّه ربنا في السما اله , وفي الارض اله , وفي البحار اله ن وفي القفار اله , وفي كل مكان اله , قال فقدمت فاتيت ابا شاكر فاخبرته فقال ذه نقلت من الحجاز ((162)) .
ان هذا التعبير يعد اشارة الى ان اللّه تعالى لامكان له من جهة , وحضوره في كل مكان من جهة اخرى , كقولنا ( اثنان زائد اثنين يساوي اربعة ) فان هذه المعادلة الرياضية كما انها في الارض , كذلك فـانـهـا فـي السما وفي جميع المجرات , وفي نفس الوقت ليس لهذه المعادلة الرياضية محل معين , فيمكن ان نقول بانها في كل مكان وليس لها مكان في آن واحد.
هو معكم اينما كنتم . تـقول الاية الثالثة بصراحة (وهو معكم اينما كنتم ) ولانه كذلك فهو بماتعملون بصير(واللّه بما تعملون بصير).
يشير هذا التعبير بوضوح الى انه جل وعلا لا مكان له , او بتعبير آخر , هوفوق الزمان والمكان , ولهذا فهو حاضر في كل مكان وقد احاط بكل شي علما.
قـال بـعض المفسرين ـ كما يظهر من تفسير ( روح المعاني ) يجب تاويل هذه الاية وحملها على المعنى المجازي والقول بان المقصود منها هو ( علمه معنا لا ذاته المقدسة ).
وهـؤلا غـافلون عن ان علم اللّه تعالى علم حضوري , لا كعلمنا الذي يتم عن طريق تصوير الاشيا في الذهن , والعلم الحضوري معناه حضور كل شي بين يديه , وبحضور ذاته في كل مكان فهي تحيط بها جميعا ((163)) .
وقـال بـعـض الـمفسرين في تفسير هذه الاية ل ممكن فوجوده من الواجب , فاذن وصول الماهية الـمـمـكـنة الى وجودها بواسطة فيض الواجب الحق ذلك الوجود لتلك الماهية فالحق سبحانه هو المتوسط بين كل ماهيه وبين وجودها , فهو الى كل ماهية اقرب من وجود تلك الماهيه((164)) .
وقد ورد في تفسير الميزان بان هذه المعية نابعة من احاطته بكم , فلاتغيبون عنه اينما كنتم , وفي اي زمان عشتم , وفي اي حال فرضتم , فذكر عموم الامكنة ( اينما كنتم ) لان الاعرف في مفارقة شـي شيئا , وغيبته عنه ان يتوسل الى ذلك بتغيير المكان , والا فنسبته تعالى الى الامكنة والازمنة والاحوال سوا ((165)) .
ولـكـن مـن لم يستطيعوا فهم احاطة اللّه الوجودية بجميع الممكنات بصورة صحيحة , حملوا هذه الايـة عـلى المعنى المجازي فقالواان المراد من معية اللّه للموجودات , هو شمول علمه وقدرته وحاكميته عليهم ((166)) .
امـا الاية الرابعة فقد اشارت الى مسالة النجوى فقالت (ما يكون من نجوى ثلاثة الا هو رابعهم ولا خمسة الا هو سادسههم ولا ادنى من ذلك ولا اكثر الا هو معهه اين ما كانوا).
( النجوى ) في الاصل بمعنى المكان المرتفع المنعزل عما حوله لارتفاعه , ولكون اذا اراد شخص ان يسر شيئا لصاحبه ياخذه الى معزل عن الناس فان كلمة نجوى استعملت بمعنى الهمس في الاذن .
يعتقد البعض بوجوب وجود ثلاث اشخاص او اكثر لتحقق معنى النجوى , وان كانا اثنين يطلق على هـذا الـعمل ( سرار ) , لكن هذه المسالة لم تثبت , خصوصا ان كلمة نجوى وردت في آيات سورة المجادلة للتعبير عن الذين كانوا يناجون الرسول ( ص ) بصورة انفرادية .
ولـلـمـفـسـرين بيانات متعددة بسبب ذكر ثلاثة وخمسة اشخاص بالخصوص وعدم ذكر الاربعة اشـخـاص الـتي تقع بين الثلاثة والخمسة , اقواهاهو انه لو ذكر الاربعة اشخاص لتكرر العدد ( اربـعـة ) في الجملة الاولى والثانية ,وهو ينافي البلاغة والفصاحة ( سوى في حالات خاصة ) , مـضـافـا الـى ذلك فان قوله تعالى في نهاية الاية (ولا ادنى من ذلك ولا اكثر) سيشمل مالم يذكر بـيـن هـذيـن الـعددين , وعليه يشمل ماقبل العدد ثلاثة ( اي اثنين ) وما بعده ( اي اربعة ) وكذلك الاكـثـر مـن الخمسة , وهذه نقطة اخرى تدل على فصاحة هذه الاية , وعلى ان تعبير ( نجوى ) يشمل الشخصين ايضا.
وقال البعض الاخر بان الاية اعلاه تتحدث عن حادثتين من قبل المنافقين اشترك في الاولى ثلاث اشخاص , وخمسة اشخاص في الثانية .
وعـلـى اي حـال فان المراد من المعية ( معية اللّه لعباده في نجواهم ) هونفس الاحاطة الوجودية المشار اليها في الاية السابقة , والعجب من بعض المفسرين الذين ايدوا هذا المفهوم في الاية السابقة , لـكـنـهـم فسروا المعية هنابمعنى الاحاطة العلمية , ولعل ذلك بسبب تحدث الاية في البداية عن سـعة علم اللّه وشموله جميع مافي السموات والارض (الم تر ان اللّه يعلم ما في السموات وما في الارض ).
ولكن من البديهي ان احاطة اللّه الوجودية بكل شي هي عين احاطته العلمية , لانه وكما اشرنا سابقا فان علم اللّه علم حضوري , ولازمه حضوره عزوجل في كل مكان ( فتامل جيدا ).
نـلاحـظ نـفس هذا المفهوم في الاية الخامسة وبتعبير جديد , حيث قال تعالى ولقد خلقنا الانسان ونعلم ماتوسوس به نفسه ونحن اقرب اليه من حبل الوريد).
تـطـلـق كـلمة ( وريد ) على اي نوع من انواع عروق البدن , لكن الكثير من المفسرين فسروها بـمـعنى الوريدين الرئيسين الموجودين في جانبي الرقبة ,وفسرها جماعة بمعنى الوريد الرئيس المتصل بالقلب .
ولـكـن عـنـدما نضيف كلمة ( حبل ) الى كلمة ( وريد ) فلا يراد منه الاوردة الصغيرة والعادية الـمـوجـودة فـي الـبدن , بل يقصد به احد الاوردة الكبيرة والمعروفة في البدن , وقد ورد كلا التفسيرين فى تفسير ذيل هذه الاية في كلام المفسرين وارباب اللغة ((167)) .
لـكـن الـمناسب لهذه الاية هنا , هو الوريد الرئيس في القلب لانه ورد ايضافي الاية 24 من سورة الانـفـال واعـلـموا ان اللّه يحول بين المر وقلبه ) وكلا الايتين كناية عن منتهى قرب اللّه تعالى لـجميع عباده , لاننا لو اعتبرنا قلب الانسان مركزوجوده , لما كان هنالك شي اقرب اليه من وريد القلب , فالقرآن يريد ان يقول ونحن اقرب اليه حتى من هذا ايضا ).
وعـلاوة عـلـى هذا فان الاية قد تحدثت في البداية عن علم اللّه بماتوسوس به نفس الانسان , مما يتناسب مع القلب لا الرقبة .
عـلـى اي حـال , ان هذه المسالة تصور عموم المكان للّه تعالى بافضل وجه , لانها تقول بانه تعالى اقـرب الـى كل انسان من وريد قلبه , اذا فهو حاضرفي كل مكان , حتى في ارواحنا وقلوبنا , ومن الـواضـح ان وجـودا كـهذا هو فوق المكان , لان الشي الواحد لا يمكن ان يكون بجميع وجوده في مكانات متعددة , الا ان يكون ذا اعضا يشغل كل واحد منها مكانا معينا.
وقـد ورد نفس هذا المفهوم في الاية السادسة والاخيرة من بحثنا والذي يخص المحتضرين الذين اشـرفـوا عـلـى نـهاية حياتهم , قال تعالى (وانتم حينئذتنظرون ونحن اقرب اليه منكم ولكن لا تبصرون ).
فـيقول نحن نعلم جيدا بما يجري في باطن ذلك المحتضر , واي غوغاقائمة في عمق وجوده هو سرور لتحرره من سجن البدن وانطلاقه الى رياض الجنة , ام هموم لمشاهدته العقوبات الالهية بسبب اعماله المظلمة ؟ لكنكم لا ترون اي واحدة من هذه المسائل ولا تعرفونها.
وقـد حـمل بعض المفسرين ـ الذين لم يدركوا مفهوم القرب الالهي من الانسان بصورة صحيحة , ـ هذه الاية على المعنى المجازي , فقالوا ان ملائكة الموت اقرب اليه منكم ولكنكم لاتبصرونهم .
ولـكـن بـالالـتـفـات الى كون هذا التعبير وامثاله ـ كما عرفنا ذلك في الايات السابقة ـ لاينحصر بالشخص المحتضر , فقد عم جميع الناس بتعابير مختلفة ,فقد اتضح بطلان هذا التفسير.
وما تاكيد الاية على قرب اللّه تعالى من المحتضر فقط , الا لكون الكلام يدور حول هذا الموضوع , وبصورة عامة فان هذه الاية تعد دليلا واضحا آخرعلى انعدام المكان بالنسبة الى اللّه تعالى .
نتيجة البحث
يـتـضـح جليا من مجموع الايات اعلاه انها تتطرق الى حقيقة واحدة بتعابيرمتنوعة , وهي ان اللّه مـوجـود في كل مكان , ويشرف على الكون , في الوقت الذي ليس له مكان معين يحده , وان وجوده فوق الزمان والمكان , ولكون جميع الموجودات تستمد وجودها من وجوده , ولا تستغني عنه ابدا , فـانـه تعالى يحيط بجميع موجودات العالم احاطة وجودية , هي عين احاطته الربوبية والقيومية ( فتامل جيدا ).التوضيحات