كـانت هنالك اسئلة على شكل مناضرات بين الفلاسفة والمتكلمين حول علم اللّه منذ قديم العصور , وقد اتسعت فيما بعد , وذلك لكون مسالة العلم بصورة عامة ومسالة علم اللّه بصورة خاصة , معقدة , واهم هذه الاسئلة ما يلي 1 ـ كيف يمكن ان يحيط اللّه علما بذاته المقدسة , في حين ان العالم والمعلوم يجب ان يكونا شيئين ؟ فهل يوجد تفاوت بين علم اللّه وذاته المقدسة ؟ وبعبارة اخرى هل يمكن ان يكون اللّه عالما ومعلوما في نفس الوقت ؟.
الجواب
اولا ان هـذا الـسـؤال لا ينحصر بعلم اللّه بذاته المقدسة , فهو يجري حتى على علمنا بوجودنا ,فنحن نعلم يقينا بوجودنا وندرك باننا موجودون , فهل يجب ان يكون العالم والمعلوم هنا شيئين ايضا ؟ في حين اننا لسنا باكثر من شي واحد , خصوصا وان علمنا بانفسنا من النوع الحضوري ايضا. ثـانيا نورد هنا مااجابه العلامة المرحوم (الخواجة نصير الدين الطوسي )على نفس هذا السؤال , قال انه يكفي التغاير الاعتباري اي ان موجودا واحدامن حيث كونه مبدعا عاقلا يستطيع ان يدرك حـضوره بذاته , فهو عالم , ومن حيث كونه حاضرا عند ذاته , يكون معلوما , وبتعبير آخر ننظر الـى هـذا الـوجـودالـواحـد من زاويتين من زاوية ادراكه لذاته فنسميه عالما , ومن زاوية انه مدرك فنسميه معلوما (فتامل ). 2 ـ كـيـف يحيط اللّه علما بموجودات العالم وهي في حالة تغير دائم ,فهل ان ذاته المقدسة تتغير ايضا الـجـواب ـصـح هـذا الاشـكال فيما اذا كان علم اللّه بالاشيا الخارجية كعلمنا حاصل عن طريق (انعكاس صور الاشيا) , لان تغير هذه الموجودات يؤدي الى تغير هذه المفاهيم والصور لكن بما ان عـلم اللّه علم حضوري وجميع الاشيا ماثلة بين يديه , فان هذاالاشكال لامعنى له لان التغير يحصل فـي مـوجـودات هذا الكون فقط , لافي ذاته المقدسة فوجوده ثابت ومحيط بهاجميعا والمتغير هو الـموجودات المحاطه , كما هو الحال فيما لو تحرك شخص معين امامنا فان صورته سوف تقع على شبكية العين , وستتغير هذه الصورة بتغير حاله , فتتغير المفاهيم الذهنية الموجودة عنه في اذهاننا تبعا للتغييرات ,وكل هذا لسبب كون علمنا هنا انعكاسا للاشيا الخارجية فينا , فلو كان علمنابالاشيا الـخارجية علما ناجما من الاحاطة بجميعها , لما حصل اي نوع من التغير , بل لكان التغير فيها فقط (فتامل ). 3 ـ كـيـف يـحصل العلم للّه بالجزئيات , مع ان الجزئيات متعددة ومتكثرة ,وذاته المقدسة واحدة لاتعرف التعدد؟. الـجـواب ان هـذا الخطا ايضا نجم عن مقايسة علم اللّه بعلمنا الذي نحصل عليه عن طريق انتقال المفاهيم والصور الذهنية , في حين ان علمه بالموجودات ليس علما حصوليا , بل حضوري , اي ان جـميع الموجودات ماثلة بذاتها بين يديه عز وجل , وهو يحيط بها جميعا دون الحاجة الى مفاهيم او صور ذهنية معينة ((50)) . 4 ـ كيف يمكن تصور علم اللّه بالحوادث المستقبلية التي ليس لها وجودخارجي في الوقت الحاضر حـتـى تقع في دائرة علم اللّه ؟ فهل توجد لدى اللّه مفاهيم وصور ذهنية عنها ؟ مع تقدسه سبحانه عـن ان يـكون له ذهن , او ان يكون علمه حصوليا ؟ اذا ماعلينا الا ان نستسلم ونقول بانه سبحانه لايـعلم بالحوادث المستقبلية تعالى غير صحيح ايضا. عـلـى الـرغـم من ان هذا السؤال والاشكال قد طرح حول العلم بالحوادث المستقبلية , الا انه يرد بـنـفسه حول الحوادث الماضية المعدومة ايضا , لان الحوادث الماضية لا وجود لها الان , فصورة (فرعون ) او بني اسرائيل واصحاب (موسى ) مثلا لا وجود لها حاليا وقد تلاشت ,كما ان تاريخها قـد فـات ايضا ,فنحن نستطيع الوقوف على الماضي بمجرد ان نستحضر في اذهاننا صوره فحسب لان عـلـمـنـا عـلم حصولي يتحقق بواسطة المفاهيم والصور الذهنية فقط ,وبما ان علم اللّه علم حضوري فهو لايعرف اي لون من الوساطة والمفاهيم ,فكيف يمكن تصور علمه بالحوادث الماضية ؟. الجواب يمكن الاجابة على هذا السؤال والاشكال بثلاث طرق 1 ـ ان اللّه مـحـيـط دائما بذاته المقدسة التي هي علة جميع الكائنات ,وهذا العلم الاجمالي بجميع حوادث وموجودات الوجود ازلي وابدي (اي قبل الايجاد وبعده ). وبـتـعـبـيـر آخـر لو علمنا علل الاشيا , لاستطعنا ان نعلم نتائجها ومعلولاتهاايضا , لان كل علة تستبطن جميع كمالات معلولها واكثر. ويـمـكـن شـرح هذا الكلام بشكل اوضح كما يلي ان الحوادث الماضية لم تنمح تماما , فان آثارها مـوجودة في طيات الحوادث الانية , وكذلك بالنسبة الى الحوادث المستقبلية فهي غير منفصلة عن الحوادث الانية , ولها علاقة معها ,وعليه فـ((الماضي )) و((الحاضر)) و((المستقبل )) يشكلون مـعـا سـلـسـلـة شـبيهة بالعلة والمعلول , بحيث لو اطلعنا على كل واحدة منها بدقة , لشاهدنا فيه الحلقات القبلية والبعدية لهذه السلسلة . فـمـثـلا لو احطت علما وبدقة بمناخ جميع الكرة الارضية , وبكل مميزاته ,وجزئياته , وعلله , ومـعلولاته , وحركة الكرة الارضية , ومسالة الفعل وردالفعل , لاستطعت ان احيط علما بوضعية الـمـناخ قبل او بعد ملايين السنين بصورة دقيقة لان شواهد الماضي والمستقبل موجودة فعلا , لا الشواهدالاجمالية بل تفصيلات الشواهد المنعكسة في جزئيات الحاضر. فالحاضر يعكس الماضي , والمستقبل يعكس الحاضر , والاحاطة العلمية الكاملة بجزئيات الحاضر , معناها الاحاطة الكاملة بحوادث الماضي والمستقبل . لـذا فـعـندنا تكون حوادث الحاضر ماثلة بين يدي اللّه تعالى بجميع خصوصياتها , فانها بمعنى مثول الماضي والمستقبل ايضا بين يديه عز وجل . فـالحاضر مرآة للماضي والمستقبل , ويمكن مشاهدة جميع الحوادث الماضية والمستقبلية في مرآة الحاضر (فتامل ). 2 ـ ويـوجـد طـريـق آخـر للاجابة على هذا السؤال نوضحه بالمثال التالي صوروا ان شخصا مـحـبوس في غرفة صغيرة لايوجد فيها سوى ثقب صغير يطل على الخارج , فعندما تمر قافلة من الابـل مـن امـام هذا الثقب , فان هذا السجين سوف يشاهد اس بعير اولا , ثم رقبته , ثم سنامه , ثم ارجـلـه , ثـم ذنـبه , وهكذاالحال بالنسبة لسائر الابل الاخرى , فصغر الثقب هذا هو السبب في ايجادحالات من الماضي والحاضر والمستقبل لدى الناظر السجين , لكن المسالة تختلف تماما بالنسبة لـلواقف على سطح الغرفة وينظر الى الصحرا نظرة شاملة , فهو يشاهد جميع ابل القافلة في وقت واحد. ومـن هنا يتضح ان ايجاد مفاهيم الماضي والحال والمستقبل ناجمة عن محدودية نظرة الانسان , فما هـو مـاض بـالنسبة لنا كان مستقبلا لاقوام قد سبقوناوماهو مستقبل بالنسبة لنا الان ماضيا بالنسبة لاقوام ستاتي فيما بعد. امـا الـذات الـمـوجودة في كل مكان وقد احاطت بالازل والابد , فان الماضي والحاضر والمستقبل بالنسبه لها لامعنى له , فجميع حوادث الدهرماثلة بين يديها (ولكن كل واحدة في موقعها الخاص ) , وهـي مـحـيـطـة عـلـمـابـجـمـيـع الـحوادث وموجودات العالم , سوا بالماضي , وبالحاضر , وبالمستقبل بصورة متساوية . ونحن نقر طبعا بان تصور هذه المسالة بالنسبة لنا نحن المحبوسين في سجن والزمان والمكان , امر صعب ومعقد , ولكنه في نفس الوقت قابل للتدقيق والمطالعة . 3 ـ الطريق الاخر الذي الذي استند عليه الكثير من الفلاسفة , هو ان اللّه تعالى عالم بذاته المقدسة , وبما ان ذاته علة جميع المخلوقات , فان العلم بالعلة سيكون سببا للعلم بالمعلول , وبتعبير آخر فان اللّه تـعالى جامع لجميع الكمالات الموجودة في جميع المخلوقات باتم صورة , وما هو غير موجود في ذاته المقدسة هو نقائص المخلوقات فقط. اذن , فـعـلمه تعالى بذاته هو بالحقيقة علمه بجميع المخلوقات (وهناك فرق دقيق بين هذا الطريق والطريق الاول يتضح من خلال التامل ).