يـعتقد جميع من يؤمن بوجود اللّه تعالى بازليته وابديته سبحانه , وهاتان الصفتان عين بعضهما , لان الـوجود الازلي لايمكن ان يكون ذا عمر وزمان محدود , والا لما كان ازليا , وعندما يكون الوجود غير محدد بزمان فذلك يعني ابديته ايضا ( تامل جيدا ). وبـتعبير آخر , ان جميع الادلة الموجودة على اثبات وجود اللّه تعالى تدل بصورة مباشرة او غير مباشرة على كونه سبحانه وتعالى واجب الوجود. وبـديـهـي ان واجـب الـوجود الذي وجوده عين ذاته لا بد وان يكون ازلياوابديا , فالممكنات هي الـحـادثة , اي انها لم تكن في زمان معين ثم وجدت وستفنى بعد مدة وتموت , وواجب الوجود منزه عن الحدوث كليا. بـعـد هـذا الـتمهيد نعود الى القرآن الكريم لنصغي الى الايات المباركة التالية ونصغي اليها باسماع قلوبنا 1 ـ (هو الا ول و الا خرو الظـاهر و البـاطن و هو بكل شي عليم ) (الحديد/3 ). 2 ـ ( كل من عليهـا فـان ـ و يبقى وجه ربك ذوالجلا ل و الا كرام ) (الرحمن / 26و 27 ). 3 ـ ( واللّه خير و ابقى ) ( طه / 73 ). 4 ـ ( كل شي هـالك الا وجهه ) ( القصص / 88 ). جمع الايات وتفسيرها يـلاحـظ في بداية سورة الحديد (( آيات ستة )) تحتوي على الكثير من الصفات الالهية وبتعابير غـنـيـة وعميقة , لذا فقد ورد في بعض الاحاديث الاسلامية المنقولة عن الامام علي بن الحسين ( (ع ) ) , انه سئل عن التوحيدفقال ان اللّه عز وجل علم انه يكون في آخر الزمان اقوام متعمقون , فـانـزل اللّه تـعـالـى سورة ((قل هواللّه احد)) , والايات من سورة الحديد الى قوله (( وهو عليم بذات الصدور )) ((103)) . والاية التي محل بحثنا هي احدى الايات الست المذكورة . قال تعالى ( هو الا ول و الا خرو الظـاهر و البـاطن و هو بكل شي عليم ). اختلف المفسرون حول المقصود من ( الاول ) و ( الاخر ) , ولكن تعابيرهم قريبة من بعضها فقد قال البعض هو الاول من غير ابتدا , والاخر من غير انتها. وقال البعض الاخرهو الاول في التكوين , والاخر في اعطا الرزق . وقال جماعة هو اول الاولين , وآخر الاخرين . وقال آخرون هو الاول بازليته , والاخر بابديته . وقال البعض الاخر هو الاول بالخير والاحسان , والاخر بالعفووالمغفرة ((104)) . ولـكـن عـلى اية حال فان مفهوم الاية واضح , والمقصود من الاول هو كونه ازليا , ومن الاخر هو كونه ابديا , لذا فقد ورد في نهج البلاغة (( لم يزل اولا قبل الاشيا بلا اولية , وآخرا بعد الاشيا بلا نهاية ))((105)) . وكذلك ورد في خطبة الاشباح (( الاول الذي لم يكن له قبل فيكون شي قبله والاخر الذي ليس له بعد فيكون شي بعده )) ((106)) . وفي حديث نبوي انه ( (ص ) ) قال (( اللهم انت الاول فليس قبلك شي , وانت الاخر فليس بعدك شي )) ((107)) . وقال بعض المفسرين ان ( الاول ) و ( الاخر ) تشمل جميع الزمان , و( الظاهر ) و ( الباطن ) تشمل جميع حقيقة المكان , لذا فالاية اعلاه كناية عن حضور اللّه تعالى الدائمي في كل مكان وزمان ((108)) . وواضـح ان تعبير بـ الزمان وما شاكل في العبارات اعلاه هو لضيق البيان ,والا فاللّه سبحانه فوق الزمان والمكان . وفي الاية الثانية نجد الحديث عن فنا سكان الارض , لكنها بالحقيقة لاتنحصر بهم فقط , يقول تبارك وتعالى ( كل من عليهـا فـان ـ و يبقى وجه ربك ذوالجلا ل و الا كرام ). صـحـيح ان التعبير بعبارة ( من عليها ) اشارة الى الموجودات العاقلة من الجن والانس , لكنه وكما احـتـمل بعض المفسرين لا يستبعد ان يكون المقصودمنها جميع الكائنات الحية الارضية ( من باب الـتـغـلـيـب ) , وعـلى اي حال فالهدف الاساس من الاية هو بيان فنا جميع الموجودات وبقا الذات الالهية المقدسة . ولو ان ( وجه ) في اللغة يعني قرص الوجه , لكنه في مثل هذه الحالات يعني الوجود والذات . ولا يـسـتـبعد ان يكون التعبير بعبارة ((ذو الجلال والاكرام )) اشارة الى الصفات الالهية السلبية والـثـبوتية , لان ( ذو الجلال ) تحكي عن الصفات السلبية , بمعنى ان اللّه تعالى اجل واعلى من ان يوصف بها , و ( الاكرام ) اشارة الى الصفات المظهرة لكمال الشي , وهي الصفات الالهية الثبوتية , كعلم اللّه وقدرته . اجل , ان الاله صاحب الجمال والجلال باق دائما , ومن سواه فان . والـجـديـر بـالذكر هو كون الاية اعلاه من ((سورة الرحمن )) التي يفيض محتواها بذكر النعم الالهية المختلفة , فهل ان مسالة فنا وموت الكائنات الحية هي ايضا من زمرة النعم الالهية نـعم , هي نعمة , لانها من جهة تخلع عن الانسان لباس الشرك وتدعوه الى التوحيد الخالص وتفهمه بـان الـمـستحق للعبادة والالوهية هو ذات ((ذو الجلال والاكرام )) الباقية فقط , لا الموجودات الفانية الزائلة ومن جهة اخرى تحذرالانسان ليستفيد من ساعات عمره بافضل وجه واكمله . ومن جهة ثالثة تسلي الانسان وتصبره امام مصائب ومشكلات الدهر التي لا يمكن ان تخلو الدنيا منها على اي حال , من حيث كونها زائلة ايضا ومن جهة رابعة ان هذا الفنا مقدمة للبقا وطريق الخلاص من سجن هذه الدنيا والانتقال الى عالم الاخرة ونعيمها الذي لا يزول . وردت الايـة الثالثة فى ذيل قصة ايمان سحرة فرعون وتهديد فرعون لهم بالقتل , وهي ذات مفهوم عـميق واسع , فقد نقلت كلام اولئك السحرة الذين آمنوا وقالوا لفرعون ( انا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما اكرهتنا عليه من السحر ,واللّه خير وابقى ). ((البقا المطلق )) معناه الابدية , وكما قلنا سابقا فان ((الابدية )) لا تنفصل عن الازلية ايضا. ومـن المسلم به ان ابدية ذاته المقدسة متلازمة مع ابدية لطفه وانعامه ,لذا فقد علم اولئك السحرة الذين آمنوا بوجوب ترجيح هذه النعمة الخالدة على النعم الفرعونية الحقيرة الزائلة . بعد ان ابطلت الاية الرابعة والاخيرة من بحثنا كل الوان الشرك , فندت ماسواه من المعبودات , قالت ( كل شى هالك الا وجهه ). وهـذه الجملة بالحقيقة هي بمنزلة دليل على الحكم السابق , لان الموجودات الفانية الزائلة لا تليق بالالوهية والعبادة , والوجود الوحيد الذي يليق بهذا المقام هو الباقي والقائم دائما فقط. وقد قلنا ان ( الوجة ) في اللغة يعني قرص الوجه , لكنها تستعمل في بعض الاحيان ايضا بمعنى ( الذات ) ـ كما هو في بحثنا هذا , وما فسره البعض بمعنى الدين او العمل الصالح وما شاكله لا دليل له , الا ان يؤل بمعنى الذات الالهية المقدسة . وعلى اي حال , فان هذه الاية دليل واضح على ابدية الذات الالهية المقدسة , ونعلم جميعا ان الابدية غير مفصولة عن الازلية . والـمـوجودات الاخرى من الاموال , الثروات , والمقامات والسموات والارض , جميعها في زمرة الـمـمـكنات ولا تفنى وتهلك في النهاية فحسب , بل هي فانية وهالكة حتى في حالها الحاضر , لانها لاتـمـلك في ذاتها شيئا , ولولاالذات الالهية المقدسة التي تفيض عليها بالوجود لحظة بعد اخرى , لفنت وهلكت . ويـظـهر ان ( الفنا ) هنا بمعنى موت الموجودات الحية , او بمعنى تلاشي الموجودات الاخرى , وعـلـيـه فـلا تضاد بينها وبين الايات التي تقول بان تراب الانسان يبقى ليصير مصدرا لحياته في الاخرة , او التي تقول بان اجزا الارض والجبال تبقى بعد ان تتلاشى لينشا منها عالم جديد. ويـرد هـنا السؤال التالي وهو يستنتج من الايات القرآنية ان كلا من الجنة والنار موجودتان حاليا ومـعـدتـان , حـيـث قـال تعالى بخصوص الجنة ( اعدت للمتقين ) ( آل عمران ـ 133 ) , وقال بخصوص النار ( اعدت للكافرين ) ( آل عمران ـ 131 ) , افهل تفنيان في النهاية ايضا؟. فـي الـجواب على هذا السؤال , قيل انه لاتنافي بين عمومية الاية اعلاه مع استثنا بعض الموارد الخاصة التي تحصل بارادة اللّه تعالى ايضا ((109)) . عـلاوة عـلـى ذلك وكما قلنا سابقا ان الموجودات الامكانية هي فانية في حال وجودهاايضا , لان بقائها قائم ببقا اللّه سبحانه ( تامل جيدا ). يتضح من مجموع ماذكرناه ان القرآن الكريم وضح مسالة ازلية وابدية وجود اللّه تعالى بصورة تامة , على الرغم من عدم استعماله كلمتي ( الابد ) و( الازل ) , لكنه استعمل تعابير من قبيل ( الاول ) و ( الاخر ) و ( الباقي ) و ( عدم الفناوالهلاك ) والتي تفصح عن مفهومي الازلية والابدية . واللطيف ان البعض قالوا بان كلمة ( ازل ) ماخوذة من جملة ( لايزال ) ,والتي هي بالاصل ماخوذة من مادة ( زوال ) , اي التحول والتغير , ولعل هذا هوالسر في عدم استعمالها في الايات القرآنية , بل استعملت كلمة ( اول ) بدلاعنها , والتي لها مفهوم اوضح وابقى . و ( الابـد ) فـي اللغة ايضا بمعنى ( الزمن الطويل ) ولا تعطي مفهوم ( الاخر) , لذا فما ذكر في الـقـرآن الكريم بخصوص اللّه سبحانه ( الاول والاخروالباقي وغير الفاني ) ابلغ من كلمة الـ ( ازل ) وكلمة الـ ( ابد ) من كل ناحية , ولوان هاتين الكلمتين قد وصلتا مرحلة الوضوح في عصرنا وزماننا الحاضر على اثركثرة استعمالها في هذين المفهومين .