يلاحظ في الايتين الاولى والثانية انهما ـ وضمن اشارتهما الى وحدانية اللّه تعالى ـ تحدثنا عن حياة الباري وقيمومته , قال تعالى ( اللّه لا اله الا هو الحي القيوم ). وكـمـا اشـرنا سابقا فان حياة الباري تتفاوت كليا عن حياة الانسان والحيوان والنبات , فحياته حياة حقيقية لانها عين ذاته , لا عارضة ولا مؤقتة . حـياته بمعنى العلم والقدرة ( نفس الصفتين اللتين شرحناهما في البحوث السابقة ) , لانهما العلامة الاصيلة للحياة . فهو ليس قائم بذاته فحسب , بل ان قيام الموجودات الاخرى ومربوبيتهاوتدبير جميع امورها بيده سبحانه . وخـلاصة الكلام , ان حياته ليس لها ادنى شبه بحياة سائر الموجودات الحية , حياته ( ذاتية ) , ( ازلية ) , ( ابدية ) ( ثابتة ) و ( خالية من كل الوان النقص والمحدودية ) , حياته تدل على احاطته العلمية بكل شي , وقدرته على كل شي . اما الاية الثالثة , فبعد ان اشارت الى يوم القيامة قالت وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما). (( عنت )) من مادة ( عنوة ) وقد وردت بمعنى الخضوع والذلة , لذلك يطلق على الاسير (( عاني )) , لانه ذليل وخاضع بيد الاسر. وقـد نسب الخضوع والذل هنا للوجوه , لان الوجه اشرف عضو في الانسان , علاوة على ان ردود الفعل النفسية ومن جملتها الخضوع تظهر على وجه الانسان قبل كل شي . والتاكيد على صفتي ( الحي ) و ( القيوم ) في مسائل عالم الاخرة يعد اشارة لطيفة الى هذه الحقيقة , وهـي ان حـياة اللّه تعالى الخالدة وقيمومته الشاملة ستظهر وتتجلى في ذلك اليوم بصورة افضل , وسـيـتجلى ايضا ضعف الانسان وعجزه واحتياجه للذات الالهية المقدسة بصورة اوضح لان جميع الـنـاس قـدبـعثوا بعد موتهم وقد يظهر عليهم العجز والضعف والحاجة الى لطف اللّه تعالى في تلك المحكمة الالهية العظيمة . وامـا الايـة الـرابـعة فقد وصفت الباري سبحانه وتعالى بالوجود الحي الذي لايموت ابدا , وامرت الرسول بالتوكل عليه حيث قالت (وتوكل على الحي الذي لايموت ). وبديهي ان الانسان المؤمن بامتلاكه لهذا الاساس المتين سوف لا يخشى من اي احد , ولا يهاب , او يستوحش من اي حادثة . يـتـضح هنا ان هذه الاية مع انها تبين اصلا عقائديا , فهي ذات مردودات اخلاقية وعملية في نفس الوقت , وتقوي اسس التوكل في روح الانسان وقلبه . وفـي الايـة الـخـامـسـة والاخـيرة نلاحظ انعكاس نفس هذا المعنى والمفهوم بمردودات عملية واخلاقية اخرى , قال تعالى (هو الحي لا اله الا هو) , ولانه كذلك (فادعوه مخلصين له الدين ). يظهر من لحن الاية اعلاه ـ كما قال الفخر الرازي في تفسيره انها تفيدالحصر ((114)) , اي ان الحي حقيقة هو اللّه وحده , وان كان للاخرين حياة فهي زائلة ومقرونة بالموت التدريجي , ولذلك لـيـسـت لهم اللياقة للالوهية والمعبودية ,ومن هنا يتضح ضرورة الاخلاص له في الدين والعبادة ونفي كل انواع الشرك عنه . يـستفاد من مجموع الايات اعلاه ان وصف اللّه عز وجل بالحياة الباقية لايقصد منه الحياة المشوبة بالموت والهلاك والفنا او التغير , بل هي الحياة الملازمة لقيامه بذاته وقيام الموجودات الاخرى به , الـحـيـاة الـتـي تـشع على المخلوقات , وتلهم التوكل والاخلاص , و بالنتيجة حياة تعطي درسا في التوحيد وتنفي كل الوان الشرك . التوضيحات