((384)) وفي مجال المديح خاض الشاعر ضربا مميزا منه وهو مديح علماء الدين لارتباطه بالعاطفة الدينية والاخـلاق الاسـلامية . وقد استاءثر هذا اللون من الشعر باهتمام الشاعر فنظم قصائد عديدة مدح فـيها علماء الدين العاملين الذين داءبوا في العمل الاسلامي ووقفوا مواقف مشرفة في الذود عن مهد الدين وكرامة المسلمين .
ومن العلماء المجاهدين الذين خصهم الشاعر بمدحه الحجة الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء. فق
ط نظم قصيدة في مدحه عند مجيئه من المؤتمر الاسلامي في الباكستان عام 1951م , قال في مطلعها:
((385))
ويتابع الشاعر سرد اءوصاف ممدوحه مبينا خصائصه المميزة التي حقق من خلالها اءهدافه السامية
ومطالبه العالية والرفيعة :
((386)) وعـلى هذا النحو يسير الشاعر في مدائحه لعلماء الدين المجاهدين الذين تحملوا اشد اءنواع الظلم والاضـطـهـاد مـن اءجل اعلاء كلمة اللّه في الارض , وصيانة الدين الاسلامي من كيد المنحرفين والمبغضين .
اءكـثـر الـشـيخ الفرطوسي من تناول شعر الرثاء بسبب الظروف العصيبة التي مر بها, والمصائب والنوائب التي حلت عليه طيلة حياته . وفي ديوانه حقل خاص باءشعار الرثاء دعاه دموع , قال عنه : يـضـم هـذا الـحـقـل الحزين باقة من العواطف نظمت سلسلة نشائدها من نثارة الدموع وجمرات الضلوع . غرست على اءلواحها شقائق من قطعات قلبي وسقيتها من جداول دموعي ولاطفت اءزهارها بـلـفـحـات مـن زفـرات صدري , وطارحتها من قيثار فمي باءهازيج من الحنين والانين تستعرض مـسـرحـهـا الـكـئيـب فـلاتـرى الا عينا باكية ومهجة دامية وعاطفة ذاكية فهي صورة صادقة مـن خـواطـري ولـوحة منحوتة من قلبي , طبعت على صفحاتها آلامي وعواطفي ونشرت صحائف مطوية من ذكرياتي ((387)) .
ومن اءبرز مرثيات الشيخ قصائده في الرثاء الخاص التي عبر فيها عن معاناة شخصية مؤلمة تفاقمت اثـر فقده لاعزافراد اسرته , من ابنيه علي وعبدالرزاق , واءخويه جبار وعبدالزهراء وعمه الشيخ علي الفرطوسي .
واءول قـصـيـدة تطالعنا في حقل المراثي قصيدة قلب مظلم التي نظمها الشاعر عام 1369 ه في
رثـاء ولده علي الذي مات اثر صدمة قاسية اءصابت قلبه من بعض اءترابه حين كان يمرح في ملعب
الطفولة . يقول الشاعر في مطلع القصيدة :
وينتقل الشاعر الى تصوير عمق الفاجعة التي المت به بعد اءن اءسهب في الحديث عن اءوصاف ولده
الذي طالما آنسه في وحشته , واءذهب عنه عناء الحياة وتعبها بابتساماته الجميلة وضحكاته الطفولية
البريئة :
((388))
وسـوى هـذه القصيدة قصائد اخرى في الرثاء الخاص , منها قصيدة يا شقيقي التي نظمها الشاعر
عـند مصرع اءخيه جبار الذي توفي وهو شاب اثر عملية جراحية فاشلة . وقد جاء في جانب من
هذه القصيدة :
((389)) والـى جـانب الرثاء الخاص تناول الشيخ الفرطوسي رثاء علماء الدين وكبار المصلحين ممن حازوا رهان السبق في الاصلاح الاجتماعي والتوعية الدينية , من اءمثال الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء, والشيخ محمد رضا الشبيبي ,وآخرين من اعلام الفكر والدين .
ومـن روائع مـرثـيـات الشيخ لعلماء الدين , قصيدته التي اءلقاها في الحفلة التاءبينية التي اقيمت في
مسجد براثا ببغدادبمناسبة مرور اءربعين يوما على وفاة الشيخ محمد رضا الشبيبي عام 1385 ه,
حيث قال في مطلعها:
والقصيدة طويلة احصى الشاعر من خلالها فضائل الشيخ الشبيبي ومثره العظيمة التي انجزها طيلة
عمله السياسي ونشاطه الوطني . وقد سلط الشاعر الضوء على جانب منها حين قال :
ثـم يـخـتـم الـشاعر قصيدته مشيدا بمواقف الشيخ الشبيبي البطولية التي قاوم بها قوى الاحتلال
الغاشمة بكل حزم وصلابة :
((390)) ولـم تـقتصر مراثي الشيخ على علماء الدين فقط بل شملت ايضا السياسيين والزعماء الوطنيين ممن داءبوا في تحقيق مصالح الشعب وتلبية مطالبه على قدر استطاعتهم وفي مدار صلاحياتهم المحدودة .
ومن هؤلاء الزعيم الوطني سعد صالح
((391)) الذي عرف بمواقفه السياسية الجريئة ومطالباته
الاستقلالية المتكررة في عهد الاحتلال البريطاني . وقد رثاه الشيخ الفرطوسي بقصيدة طويلة , جاء
في مطلعها:
من الاغراض الشعرية التي تناولها الشيخ الفرطوسي في شعره كثيرا الوصف . ولا يخفى ما للوصف من قيمة فنية في العمل الادبي وخاصة في الشعر. فمن خلال الوصف يمكن تمثيل الحقيقة على هيئة صـور ليلتقطها الحس بلا قطتيه الفاعلتين , السمع والبصر. ومن خلال الوصف يمكن تجسيد الواقع الـمـسـتتر واللامرئي بحيث يسهل ادراكه عن طريق الحس الباطني ان لم يكن ميسرا عن طريق الحس الظاهري .
وقد حرص الشيخ على توظيف الوصف توظيفا فاعلا باعتباره اءداة مؤثرة في نفس المتلقي , تاءخذه الى عالم من المناظر والمرئيات لا يدركها الا من خلال حس الشاعر المرهف الذي يستطيع بريشته الفنية اءن يعبر عن غرضه الاسمى والاهم بواسطة الوصف والتصوير.
ومـن هـنا اءصبح بامكان المتلقي اءن يرصد اءهداف الشاعر واءغراضه الاساسية في نهاية قصائده الوصفية , باعتبار ان الوصف ليس غاية الشاعر المنشودة وانما وسيلة يصل بها الى المضامين الرفيعة التي توخاها الشاعر من قصيدته .
فـنـجـد مثلا قصيدة بنت الريف التي صور فيها الشاعر الطبيعة اءجمل تصوير تبداء بالتصاوير
التقليدية والاوصاف الماءلوفة التي حرص الشعراء على تصويرها في اءشعارهم الوصفية :
((393))
ثـم يـواصل الشاعر وصف مظاهر الطبيعة في الريف , مفصلا جمالها الخلاب وصفاءها الرائع لكي
يـصـل فـي النهاية الى مقصوده الحقيقي من وصفه وهو تصوير حياة البؤس والشقاء التي كان يعانيها
الفلاح آنذاك في ظل نظام الاقطاع الجائر:
الى اءن يقول :
((394)) والـقـصيدة مليئة بمثل هذه الصور الاليمة والمناظر المريعة والحزينة . وقد حرص الشاعر على تجسيدها في شعره رغبة منه في توظيف الوصف لصالح الاهداف والمطالب الاجتماعية .
ولم يكن هذا المسلك قاصرا على وصف الطبيعة فقط. فقد شمل اءيضا وصف الاماكن التي عاش فيها الشاعر اءو مربها من خلال اءسفاره ورحلاته .
فها هو ينظم قصيدة في وصف طاق كسرى لا لمجرد الوصف فقط بل لنيل العبر والدروس :
وتتقارن المعاني الشعرية مع الاوصاف دون انفصال وانقطاع مما يجعل الوصف جزءا من المعاني التي
توخاهاالشاعر في قصيدته :
((397))
والـجـديـر ذكره ان الشاعر نهج المسلك ذاته في وصف الاشياء اءيضا. فهو عندما يصف قلمه مثلا
يخاطبه وكاءنه كائن ذو روح يتوخى منه الخير والصلاح , ويضع على عاتقه مهمة البناء والاصلاح :
تـنـاول الـشـيـخ الفرطوسي الغزل باعتباره غرضا من اءغراض الشعر التقليدية وليس تعبيرا عن تـجـربـة حـب واقـعـيـة اءوتبادل عاطفي حقيقي . ففي بيئة متشددة كالنجف حيث القيود الصارمة الـمفروضة على اختلاط الجنسين , والاعراف التقليدية المتزمتة على المراءة , لا مجال لبلورة مثل هذه الظواهر الاجتماعية على الاطلاق .
ومن هنا اءصبح التغزل الحسي شائعا لدى الشعراء, يكثرون من ابراز المحاسن الجسدية للمراءة في مـحـاولـة مـنـهم لمحاكاة شعراء السلف , والتعبير عن لواعج النفس التي طالما عانت كبت الغرائز الفطرية , والحرمان النفسي والعاطفي .
ولم يكن الفرطوسي بمناءى عن اءترابه الشعراء. فقد تطرق هو الاخر الى الغزل الحسي , والتغني
بمرئيات الجمال النسوي دون اءن يظهر فيه مجون اءو نزول الى حضيض الشهوات :
((399))
ولكن ظاهره الغزل الحسي ظهرت متاءخرة في شعر الفرطوسي وتحديدا عند خروجه من العراق
واقـامـتـه مدة في سويسرا و لبنان . ففي مثل هذا المحيط المتحرر استطاع الشاعر اءن يصف
مشاهداته العينية بكل حرية وبدون قيداءو شرط:
((400))
اءمـا غـزل الشاعر قبل هذه الفترة فهو اءقرب الى التعبير العاطفي الصادق تجاه مفهوم الحب لا الى
لـوازمـه وعناصره .ويظهر هذا الاتجاه واضحا في كثير من قصائد الفرطوسي كقصيدة عواطف
الحب التي نظمها عام 1943م :
((401))
وعـلى الرغم من توسع الشاعر في وصفه الحسي لمفاتن المراءة ومحاسنها الانثوية , فقد التزم في
نفس الوقت بمبادئ الشريعة الاسلامية التي تدعو المراءة الى الحجاب والتعفف , والابتعاد عن التحلل
والابتذال . وقد ذكر الشاعر بهذه القيم في مواضع عدة , منها هذه الرباعية :
((402))
وكذلك في الثنائية التالية :
((403)) وحـصـيلة الكلام ان الغزل عند الفرطوسي معظمه محكاة وتقليد, وقليل منه شعور وعاطفة . وهو في الحالتين عفيف البيان , نزيه الوصف , بعيد عن الابتذال والانحطاط البذي ء .
((404)) ان شعر التاريخ من الصناعات الادبية التي اءولع بها المتاءخرون . وشاع استعمالها كثيرا عند شعراء النجف لارتباطها الوثيق بالمناسبات المختلفة التي يراد لتاريخها اءن يذكر ويخلد.
ولا يـخـفـى مالهذا الفن الشعري من تكلف شديد وصنعة ظاهرة , فهو يتطلب مهارتين , مهارة اعداد الجمل التي يكون حاصل جمعها موافقا للتاريخ المطلوب , وهي مهارة حسابية لا شاءن لفن الشعر فيها, ومهارة انتقاء تلك الجمل بحيث تحمل خاصية العلوق في الذاكرة , كاءن تكون اقتباسا مناسبا من القرآن الـكـريـم , اءو اسـم الـشـخـص اءو الـشي ء المؤرخ له , اءو تكون في اختصارها واصابتها المعنى كـالـتـوقيعات المعروفة للملوك والامراء المسلمين . وهي مهارة تعتمدعلى ذكاء الشاعر وسرعة بديهته وسعة اطلاعه ((405)) .
والـفـرطوسي واحد من الشعراء الذين طرقوا هذا الفن الشعري الا انه لم يتوسع في تناوله لشدة تكلفه وابتعاده عن الطبع .
ومن مؤرخاته الشعرية تاءريخه لعمارة الروضة الحيدرية عام 1370ه التي قال فيها:
((406))
1370 ه
وله اءيضا قصيدة في تجديد ضريح اءبي الفضل العباس (ع ) عام 1383ه, جاء فيها:
((407)) 1964م1383 ه
الـمـلـحمة في اللغة بمعنى الحرب وانما سميت بذلك لامرين : اءحدهما تلاحم الناس اءي تداخلهم بعضهم في بعض ,والاخر اءن القتلى كاللحم الملقى ((408)) .
وذكـر ابـن مـنـظور اءن : الملحمة : الوقعة العظيمة القتل , وقيل موضع القتال . واءلحمت القوم اذا قـتـلـتهم حتى صاروا لحما.واءلحم الرجل الحاما واستلحم استلحاما اذا نشب في الحرب فلم يجد مخلصا... والجمع الملاحم ماءخوذ من اشتباك الناس واختلاطهم فيها كاشتباك لحمة الثوب بالسدى , وقـيـل هـو مـن الـلـحم لكثرة لحوم القتلى فيها... والملحمة :الحرب ذات القتل الشديد... والوقعة العظيمة في الفتنة ... ((409)) .
وقد وردت الملحمة ومشتقاتها في الشعر كثيرا, من ذلك قول الاخطل
((410)) :
((411))
وقول عجير السلولي
((412)) :
((413))
وقول القطامي
((414)) :
((415))
وكذلك ما ذكره اءبو تمام عن لسان امراءة من بني الحارث
((416)) :
((417)) اءمـا الـمـلحمة في المصطلح الادبي فهي : نوع خاص من الشعر القصصي البطولي , الذي لم تعرف الـعربية شبيها له , من حيث البناء القصصي المكتمل , ومن حيث الحجم العددي للابيات الشعرية التي تبلغ الالاف , ومن حيث الشخصيات التي تسمو فوق المستوى العادي للناس الاسوياء, وتتصف بما هو مـن سـمـات الابـطـال الاسطوريين , ومن سمات الالهة , اءو اءنصاف الالهة , في المعتقدات الوثنية الـبـدائيـة , ومن حيث الاحداث والوقائع الخارقة التي تتخللها, ومن حيث اءن الوقائع الحربية التي يـخـوض الابـطـال الـملحميون غمارها, والمثر الخارقة التي يحققونها, تدخل في صميم الصراع الـوطـنـي والـقـومـي , دفـاعـا عـن حق مغتصب , وفي سبيل اءن تحيا الامة التي يمثلونها بحرية وكرامة وهناء ((418)) .
قـسـم الغربيون الشعر منذ اءقدم عصوره اءربعة اءقسام : شعر قصصي وتعليمي وغنائي وتمثيلي .
وتـدخل الملحمة بقصائدها القصصية الطويلة في الضرب الاول كما تبين من تعريفها. والشاعر في هذا الضرب القصصي لا يتحدث عن عواطفه واءهوائه , فهو شاعر موضوعي ينكر نفسه , ويتحدث فـي قـصته عن بطل معتمدا على خياله , ومستمدا في اءثناء ذلك من تاريخ قومه , وكل ماله اءنه يخلق القصة ويرتب لها الاشخاص والاشياء, ويجمع لها المعلومات , ويكون من ذلك قصيدته , وعادة ينظمها من وزن واحد لا يخرج عنه ((419)) .
ويـمـكـن حـصر الشعر الملحمي تاءريخيا في ثلاث مراحل : مرحلة التعبير عن اءزمة وجودية بـالـنـسبة الى ما وراءالوجود, حيث المزيج من روحانية ومادية , من عقائد وخرافات , ومن حقائق واءسـاطـيـر. ومـرحلة تعبير عن اءزمة اجتماعية في تنازع وجودي , ثم مرحلة تعبير عن اءزمة قومية ((420)) .
ومـن هـنا تميز نوعان من الملاحم : الملاحم الطبيعية والملاحم الاصطناعية . فالاولى وهي التي تظهر في المراحل البدائية من حياة الامم وتاريخ الشعوب , وتصاغ بصورة تلقائية وعضوية , ويكون نـاظموها ورواتها والذين يتداولونها, مؤمنين بما تتضمنه من ذكر الخوارق , وتدخل الالهة في حياة البشر, ايمانا مطلقا لا تشوبه شائبة من الريبة والشك . والثانية وهي التي يصنعها الشعراء في الازمنة المتاءخرة , وينظمونها على نهج الملاحم الطبيعية ,ومحاكاة لمضامينها واسلوبها من غير اءن يكونوا بـالـضـرورة مـؤمـنـيـن بـمـا يـصـفـون مـن حـوادث , ويـنسجون من خوارق ,ويصورون من بطولات ((421)) .
ومـن الـنـقاد من قسم الملحمة قسمين : ملحمة اءدبية وملحمة شعبية . ففي الاولى يعلن الشاعر في مـسـتـهل قصيدته عن موضوعها, ثم يبتهل لربة الشعر ويذكر القصة واءحداثها, وتدخل الالهة في شؤون البشر, مستخدما التشبيهات الطويلة والمعقدة , واءسماء الابطال والاشياء الهامة لحياة الابطال كـالاسـلـحة والسفن وما الى ذلك ... اءما الثانية فيتضح فيها النقل مشافهة والتكرار وتجرؤ السرد, الامر الذي يدل على اءنها لم تكن نتاج زمن واحد اءو قريحة واحدة ((422)) .
ومـن اءبـرز الـمـلاحـم الـشـعـريـة الـتي عرفها التاءريخ ملحمة الالياذة للشاعر الاغريقي هوميروس ((423)) , وقد نقلها الى العربية في مستهل هذا القرن سليمان البستاني . والالياذة قصة شـعـريـة طـويلة تدور اءحداثها حول معارك طاحنة وحروب عظيمة واءساطير واءمور خارقة , تـنـشب بين شعبين متصارعين دفاعا عن مثل ومبادى ء انسانية . ويبرز من كل جانب جماعة من القادة والابـطـال الاسـطوريين , وتدخل الالهة في حوادثها ووقائعها الخارقة , وقد ابدع هوميروس في صـيـاغـة مـلـحـمـته صياغة فنية رائعة من حيث التسلسل القصصي المتناسق , والتوالي المنتظم لـلاحـداث ,والتعبير المؤثر عن اءغراضه ومراميه . وقد اءشار اءرسطو الى الميزة الرئيسية في الملحمة حيث قال ((424)) : ومن بين المناقب التي تجعل هو ميروس خليقا بالثناء اءنه كان الوحيد مـن بين الشعراء, الذي لا يجهل متى يتدخل بنفسه في القصيدة . فالحق اءن الشاعر يجب اءن لا يتكلم بنفسه ما استطاع الى ذلك سبيلا, لانه لو فعل غير هذا لما كان محاكيا ((425)) .
ولـمـا كان الشعر الملحمي من الفنون الادبية العريقة ذات الجذور التاريخية الطويلة , فقد تداولته اءمـم وشـعـوب مختلفة غير اليونان , اءمثال الرومان في ملحمة الانياذة لفرجيليوس , والهنود في مـلاحـم الاوبـا نـيـشاد و الفيدا و الرماياناو المهابهارتا, والفرس في ملحمة الشاهنامه لـلـشاعر الكبير الفردوسي , والترك في شاهنامه الشاعر الفردوسي الطويل , واضافة الى الامم الـقـديمة فان الشعوب الحديثة قد تغنت بهذا الفن الادبي وانتجت شعرا ملحميا على غرارالملاحم الـقـديـمـة , مـنـهـا اءنشودة رولان الفرنسي , واءشعار ملتون الانجليزي , ومنظومات هيلدبراند الالماني ,والكوميديا الالهية لدانتي الايطالي , وغيرها من الملاحم الحديثة ((426)) .
وبالرغم من انتشار اءدب الملحمة بين مختلف الشعوب والامم فاننا لانجد لهذا الفن اءثرا في الشعر الـعـربـي سـوى قـصائد معدودة ومقطوعات قصيرة ذات نفس ملحمي لا يمكن ضمها الى الملاحم العالمية المعروفة . وقد شغل الباحثون في تعليل هذا الامر واءوردوا اءسبابا عدة . منها: قول من زعم اءن الـعرب نظموا فيه كثيرا وضاع مانظموه , فلم يبق لعهد التدوين والرواية الا القليل مما ذكرت فـيـه اءخبار الحروب ((427)) وهو قول ترده الشواهد والدلائل التاريخية . ومنها : اءن خيال الـجـاهـلـيـيـن لم يتسع للملاحم والقصص الطويلة لانحصاره في بادية متشابهة الصور,محدودة المناظر, ثم لماديتهم وكثافة روحانيتهم , ثم لفرديتهم وضعف الروح القومية والاجتماعية فيهم , ثم لقلة خطر الدين في قلوبهم وقصر نظرهم عما بعد الطبيعة , فلم يلتفتوا الى اءبعد من ذاتهم , ولا الى عـالـم غـيـر الـعالم المنظور,ولا تولدت عندهم الاساطير الخصيبة , ولم يكن لاصنامهم من الفن والـجـمـال مـا يـبـعث الوحي في النفوس شاءن اءصنام اليونان والرومان , فقل من ذكر منهم اءوثانه واسـتـوحـاهـا فـي شعره . ولم يساعدهم مجتمعهم على التاءمل الطويل وربطالافكار وفسح آفاق الـخيال , لاضطراب حياتهم برحيل مستمر, فجاء نفسهم قصيرا كاقامتهم , وخيالهم متقطعاكحياتهم , صـافـيـا واضحا كسمائهم , داني التصور محدود الالوان كطبيعتهم . وكانت ثقافتهم الادبية فطرية خـالصة يتغذى بعضهم من بعض , ولا يقبلون لقاح الاداب الاجنبية الراقية لجهالتهم واعتزال باديتهم وتـمـردهـا, وكـذلـك كـانـت عـلـومهم ساذجة لا تفتح نوافذ النور للنظر في النفس وما بعد عالم الهيولى ((428)) .
وثـمـة تعليلات اخرى فسرت انعدام الفن الملحمي في الشعر العربي , منها: اءن القصة في الشعر الـجـاهلي ضعيفة الفن لاقتصارها على الخبر البسيط والسرد السريع ... ولا جرم ان الايجاز الذي درج عـلـيـه الـجـاهـلـي كان يحول بينه وبين الاسهاب في اءخباره ... فلم يتوفر له عمل الملاحم والقصص الطويلة ((429)) . ومنها اءن الوثنية العربية في الجاهلية لم تكن تلك الوثنية المكتملة , الـمعقدة والمركبة بل كانت وثنية في اءبسط اءشكالها وكانت تتعايش مع مذاهب توحيدية , كاليهودية والـنـصـرانـيـة ((430)) . ومـنـهـا اءن الـتـقليد الشعري الاصولي السائد, والمتمثل بسلطة الـقـصـيـدة الـغنائية ذات القافية الواحدة والوزن الواحد لم يكن يسمح بنظم المطولات القصصية الملحمية ((431)) .
ومـهـمـا تكن العلل والاسباب فان الشعر العربي قد افتقر الى الشعر الملحمي بشكله المتكامل في
الملاحم المطولة .ولكن هذا لا يعني اءن الشاعر العربي لم يطرق المعاني التي تطرق اليها اءصحاب
الـمـلاحـم , وخاصة ما يتعلق بذكرالبطولة والشجاعة , والفخر والحماسة . فالمعروف عن الشعر
الـعـربـي غـزارته بالمعاني المذكورة , وشغف الشعراءبتداولها والاكثار من استعمالها. ومن اءبرز
الـقـصـائد الـمـلحمية العربية التي جسدت معاني البطولة والاقدام اءروع تجسيد المعلقات السبع ,
وخاصة معلقة عمرو بن كلثوم
((432)) الذي يقول في مطلعها:
((433))
ومعلقة الحارث بن حلزة
((434)) الذي يستفتحها بقوله :
((435))
ومعلقة عنترة بن شداد
((436)) الذي يستهلها قائلا:
((437)) واذا ما انتقلنا الى الـشـعـراء فـي الـعـصـر الاسـلامـي فـاننا نلمس بوضوح النفس الملحمي الصاعد من شعر تلك الفترة وخاصة ابان الغزوات والفتوح الاسلامية .
وقـد اشـتـهـرت في هذه الفترة سبع قصائد طويلة عرفت بالملحمات ((438)) , وهي من صنع : الـفـرزدق ((439)) ,وجـريـر ((440)) , والاخـطـل , وعـبـيـد الـراعي ((441)) , وذي الرمة ((442)) , والكميت ((443)) , والطرماح ((444)) .
وبعد هذه الفترة شهد الشعر العربي وعبر اءعصره المختلفة اءلوانا من الشعر الحماسي والملحمي الـفـت فـيـه دواويـن خاصة عرفت بدواوين الحماسة . ومن اءشهرها: حماسة اءبي تمام , وحماسة البحتري , وحماسة ابن الشجري ,والحماسة المغربية والحماسة البصرية ((445)) .
واسـتمرت محاولات الشعراء في طرق الشعر الملحمي حتى مستهل القرن العشرين حيث ظهرت الـمـلحمة ظهوراملفتا للنظر وبثوب جديد وبمواضيع قومية وعقائدية وتاريخية قلما تطرق اليها الشعراء في العصور السابقة . وقد ردبعض الادباء هذه الظاهرة الى يقظة العرب القومية منذ بدء هذا القرن والتفاتهم الى اءمجادهم السالفة ((446)) .
ولـعـل اءول مـحـاولـة مـلـحـمـيـة ظـهرت فـي هـذا العصر هي ملحمة الشاعر الشيخ كاظم الازري ((447)) المعـروفة بـالازرية .
والازريـة مـلحمة فـي مـدح الـرسول الاكرم (ص ) وذكـر مولده ومعجزاته , ومدح الامـام علي (ع ) وذكر مناقبه والحـروب التي شـارك فيها والاحـداث التي عاصرها (ع ).
وتبلغ الملحمة اءلـف بيت اءكـلت الارضـة جملة مـن اءبياتها وبقي منها 580 بيتا, ومطلعها:
((448)) وقد تبارى غير واحد
مـن الـشـعـراء فـي مـحـاكـاة هـذه الـقـصـيـدة والسير على نهجها, منهم الشاعر محمد جواد
الكربلائي ,المتوفى سنة 1281ه, وقد بلغت اءبيات قصيدته 1265 بيتا. يقول في مطلع قصيدته :
((449))
وكــذلـك الـشـاعـر عبد الحسين الحـويـزي (1287 ـ 1374ه) فـي ملحـمته المعـروفـة
بـفريدة البيان والتي تـربـو على الالـف بيت ,
ومطلعها:
((450)) ومن الملاحم العربية المهمة التي ظهرت في مستهل القرن العشرين القصيدة العلوية المباركة لعبد الـمـسـيح الانطاكي ((451)) , وقد قال عنها: عنيت على نوع خاص اءن اءجعل القصيدة المباركة الـعـلـوية تاريخا شعريا لصدرالاسلام , لا يتخلله نثر اءبدا. ويعرف الشعراء ما في ذلك من الوصب ولكنه وصب محبوب لقلب شغف بثاني الكاملين واءخي الرسول الامين اءحد سيدي الثقلين سيدنا علي بـن اءبـي طـالب اءبي الحسنين عليهم وعلى المصطفى الصلاة والسلام ... ولقد دعوت هذه القصيدة الـمباركة باسم ملحمة اتباعا للمغاربة الذين اءطلقوا هذه الكلمة على ما وضعوه نثرا اءو نظما من وقائعهم الحربية وقصصهم التاريخية ونوادرهم الادبية ((452)) .
وقـد بلغ عدد اءبيات العلوية المباركة 5595 بيتا انتهى الشاعر من نظمها سنة 1338ه . ومطلع
القصيدة :
((453))
والـملاحم في هذا الخصوص كثيرة جدا
((454)) الا اءن الباحثين والمحققين اهتموا بملحمتين
كـبيرتين هما ملحمة الشاعر بولس سلامة
((455)) المعروفة بـعيد الغدير وهي منظومة في
3085 بيتا, اءولها: