حرکة التاریخ عند الامام علی (ع)

محمد مهدی شمس الدین

نسخه متنی -صفحه : 21/ 7
نمايش فراداده

التّاريخ في مجال الوعظ

حلّلنا في فصل (الوعظ) من كتابنا «دراسات في نهج البلاغة»1، مواعظ أمير المؤمنين علي (ع) في نهج البلاغة على ضوء الظروف السياسية والإجتماعية والنفسية الّتي كانت تسيطر وتوجه مجتمع العراق بوجه خاص في أيام خلافة الإمام عليه السّلام.

وكشفنا النّقاب هناك عن أنّ الإمام لم يكن في مواعظه داعياً إلى مذهب زهدي يقف موقفاً سلبياً من الحياة الدنيا والعمل لها والإستمتاع بها، وإنّما كان، في مواعظه وتوجيهه الفكري بوجه عام، يدعو إلى مواجهة الحياة بواقعية وصدق، محذّراً من اللّهاث المجنون وراء الآمال الخادعة والأحلام الكاذبة الّتي ليس لها في واقع الحياة سند ولا أساس.

وكشفنا النّقاب أيضاً عن أن النّظرة الشّائعة إلى مواعظ الإمام في نهج البلاغة قد تأثرت بالتّيار الزهدي السّلبي الّذي طبع المجتمع الإسلامي بطابعه في عصور الإنحطاط، وهو دخيل على الفكر الإسلامي وعلى أخلاقيات الإسلام وتشريعه، ولذا فإنّ هذه النظرة خاطئة لا تمثل مقاصد الإمام وأهدافه من المواعظ الّتي كان يوجّهها إلى مجتمعه.

________________

1 . محمّد مهدي شمس الدّين: دراسات في نهج البلاغة (الطّبعة الثّالثة) بيروت ص 247.

48

والمواعظ الّتي استخدم الإمام فيها عنصر التّاريخ كغيرها من مواعظه في أنه لا يدعو فيها إلى مذهب زهدي سلبي من الحياة الدنيا، وإنّما يعالج بها حالة خاصة في مجتمعه الّذي بدا غافلاً عن مصيره التعس، مهملاً لواجباته في جهاد النفس وجهاد العدو، متلهفاً على المتع والثراء اللّذَين لا يستحقهما الا مجتمع مستقر أحكم وضعه الأمني والسّياسي والإجتماعي، وقطع دابر الطامعين فيه المتآمرين عليه، وهذا ما لم يكنه مجتمع العراق في عهد الإمام عليه السلام، بل كان مجتمعاً قلقاً يعاني من اضطراب أمنه الخارجي وتدهور أمنه الداخلي، كما يعاني من التمزّق السياسي، وكان - نتيجة لذلك - يؤجّج مطامع الحكم الأموي في الشام ويدفع به نحو التآمر عليه.

ونقدّم فيما يلي نموذجاً من النّصوص الوعظية الّتي يكون التاريخ عنصراً بارزاً وأساسيّاً فيها.

قال عليه السّلام:

«أمّا بَعْدُ، فَإنِّي أُحَذِّرُكُمُ الدُّنْيَا، فَإنَّهَا حُلوَة خَضِرَة، حُفَّتْ بِالشَّهواتَ، وَتحبَّبت بِالعاجِلةِ، وراقت بِالقليلِ، وتحلَّت بِالآمالِ، وتزيَّنت بِالغُرُور، لا تدُومُ حبرتُها1، ولا تُؤمَنُ فجعتُها، غرَّارة ضرَّارة، حائلة2 زائلة نافدة بائدة3، أكَّالة غوَّالة4، لا تعدُو - إذا تناهت إلى أُمنيَّةِ أهلِ الرَّغبةِ فِيها والرِّضاءِ بِها أَن تكُون كما قالَ اللهُ تعالى سُبحانهُ «كماءٍ أَنزلناهُ مِن السماءِ، فاختلط به نباتُ الأرضِ، فأَصبح هشِيماً5 تذرُوهُ الرِّياح وكان اللهُ على كُلِّ شيء مُقتدراً»6، لم يكُنِ امرُؤ مِنها فِي حَبرةٍ اِلا أعقبتهُ بعدها عبرةً، ولم يلقَ فِي سرَّائها بطناً إلا منحتهُ مِن ضرَّائَها ظهراً7، ولم تطُلَّهُ فيها دِيمة8 رخاءٍ إِلا هتنت9 عليهِ مُزنةُ بلاءٍ. وحرِيّ إذا أَصبحت لهُ مُنتصرةً

________________

1 . الحبرة: بالفتح - النّعمة.

2 . حائلة: متغيرة.

3 . نافدة: فانية.

4 . غوّالة: مهلكة.

5 . الهشيم: النبت اليابس.

6 . سورة الكهف (رقم 18 مكيّة) الآية: 45.

7 . البطن كناية عن إقبال الدّنيا، والظّهر كناية عن الإدبار.

8 . الطلّ: المطر الخفيف. والدّيمة: مطر يدوم في سكون لا يرافقه رعد وبرق.

9 . هتنت: إنصبّت.

49

أن تُمسِيَ لهُ مُتنكِرةً، وإن جانِب مِنها اعذوذبَ واحلولى أَمرَّ مِنها جانِب فأَوبى1 لا ينالُ امرُؤ مَن غضاريها رغباً2 إلا أرهقتهُ مِن نوائبِها تعباً، ولا يُمسِي مِنها في جناحِ أمنٍ إلا أصبحَ على قوادِمِ خوفٍ3. غرَّارةُ ما فِيها، فانية، فانٍ مَن عليها، لا خيرَ فِي شيءٍ مَن أزوادِها إلا التقوى.

«مَن أقلَّ مِنها استكثرَ مِمَّا يُؤمِنُهُ، ومَنِ استكثرَ مِنها استكثرَ مِمّا يُوبِقُهُ4، وزال عمَّا قلِيلٍ عنهُ».

«كم مِن واثقٍ بِها قد فجعتهُ، وذِي طُمَأنِينَةٍ إليها قد صرعتهُ، وذِي أُبهةٍ قد جعلتهُ حقِيراً5، وذِي نخوةٍ قد ردَّتهُ ذلِيلاً6.

«سُلطانُها دُوَّل7 وعيشُها ريق8، وعذبُها أُجاج9، وحُلوها صَبِر10، وغِذاؤُها سِمام11 وأسبابُها رِمام12.

«حيُّها بِعرضِ موتٍ، وصحِيحُها بِعرضِ سُقمٍ، وموفُورُها منكُوبٍ13 وجارُها محرُوب14.

«ألستُم فِي مساكِنِ من كان قبلكُم أطولَ أعماراً وأبقى آثاراً، وأبعدَ آمالاً، وأعدَّ عدِيداً. وأكثف جُنُداً ؟ تعبَّدُوا لِلدُّنيا أيَّ تعبُّدٍ، وآثرُوها أيَّ إيثارٍ، ثُمَّ ظعنُوا عنها بِغيرِ زادٍ مُبلغٍ، ولا ظهرٍ قاطِعٍ15».

________________

1 . أوبى: صار كثير الوباء.

2 . الغضارة: النّعمة، والرّغَب: الرغبة، والمرغوب فيه.

3 . القوادِم: جمع قادِمة، ريش في مقدم جناح الطائر.

4 . يُوبِقهُ: يُهلكهُ.

5 . أبّهة: عظمة.

6 . النّخوة: الإفتخار.

7 . دُوَّل - بضم الدال - المنحول.

8 . الريق: الكدر.

9 . أجاج: شديد الملوحة.

10 . الصّبر: عصارة الشّجر المرّ.

11 . سمام: جمع سم، وهو مثلث السين.

12 . الرّمام: جمع رمّة - بالضم، القطعة البالية من الحبل، ومنه (ذُو الرّمّة).

13 . موفورها..: من كان عنده وفر (كثرة) من الدنيا معرض للمصائب والنّكبات.

14 . محروب: المحروب من سلب مالُه.

15 . ظهر قاطع: وسيلة تقطع براكبها الطريق بأمان وتبلغه غايته.

50

«فهل بلغكُم أنَّ الدُّنيا سخت لهُم نفساً بِفِديةٍ1 أو أعانتهُم بِمَعُونةٍ، أو أحسنت إليهِم صُحبَةً.. ؟ بل أرهقتهُم بالقوادِحِ2 وأوهقتهُم بِالقوارِعِ3 وضعضعتهُم بِالنَّوائبِ4، وعفَّرتهُم لِلمناخِرِ5، ووطِئتهُم بِالمناسِمِ6، وأعانت عليهِم ريبَ المنُون».

«فقد رأيتُم تنكُّرَها لِمن دان لها7 وآثرها وأخلدَ إليها8 حِين ظعنُوا عنها لِفِراقِ الأبدِ... أفهذِهِ تُؤثِرون ؟ أم إليها تطمئنُّونَ ؟ أم عليها تحرِصُون ؟ فبِئستِ الدَّارُ لِمن لميتَّهِمها، ولم يكُن على وجلٍ مِنها».

«فاعلمُوا - وأنتُم تعلمُون - بِأنكُم تارِكُوها وظاعِنُون عنها، واتَّعظوا فِيها بِالَّذِين قالُوا (من أشدُّ مِنّا قُوَّةً..)9 حُمِلُوا إلى قُبُورِهِم فلا يُدعون رُكباناً10. وأُنزِلُوا الأجداث فلا يُدعَونَ ضِيفاناً11، وجُعِل لهُم مِنَ الصَّفِيحِ12 أجنانُ13 ومِن التُّرابِ أكفان...

استبدَلُوا بِظهرِ الأرِضِ بطناً، وبِالسَّعةِ ضِيقاً، وبِالأهلِ غُربةً، وبِالنُّورِ ظُلمَةً...»14.

*

ركّز الإمام عليه السّلام في هذه الخطبة الوعظية - كما هو شأنه في معظم مواعظه - على عاملين ثابتين في طبيعة الحياة على هذه الأرض:

________________

1 . لم تدفع عنهم الدّنيا بلاء الموت.

2 . أرهقتهم: أتعبتهم. والقوادِح: جمع قادح، مرض يصيب الأسنان والشجر. أراد به هنا المصائب والنكبات.

3 . الوهق: حبل تصطاد به الفريسة، والقوارع: المحن. أراد أنهم أسرى مشاكلهم المادية والإجتماعية.

4 . ضعضعتهم: جعلتهم قلقين، وحرمتهم الإستقرار وطنب العيش.

5 . عفرتهم: العفر التراب، مرغت آنافهم بالتّراب، كناية عن إذلالِهم.

6 . المنسم: خف البعير، كناية عن إذلالهم.

7 . دان: خضع.

8 . أخلد: إِطمأنَ.

9 . سورة فُصّلت (رقم 41 مكّيّة) الآية: 15.

10 . لا يُدعَونَ رُكباناً لأنّهم مقهُوُرون ولم يُحملوا مختارين. ولا يُدعون ضيفاناً لأنّهم يُقيمون في قبورهم.

11 . الاجداث: القبور.

12 . الصفيح: الوجه من كل شيء له مساحة، والمراد هنا الارض.

13 . أجنان: جمع جنن - بالفتح - القبر.

14 . نهج البلاغة - رقم الخطبة: 111.

51

1 - عامل التغيّر والتقلّب في الحياة:

الحياة بما هي حركة، وبما هي تفاعل، وبما هي طاقات وقوى تتفاعل فتتكامل أو تتقاتل في داخل كل شيء ومن حول كل شيء في الكون المادي كلّه - الحياة بما هي كل هذا متقلّبة متغيّرة متحوّلة باستمرار - هي في حالة صيرورة دائمة لا تستقر على حال ولا تثبت على وتيرة واحدة.

2 - عامل الزّمن:

أثر الزمن في الأشياء والأعمار ظاهر لكلّ ذي بصيرة، فالزّمن يفتت الحياة باستمرار، فما أن يبدأ وجود الحياة في شيء، بل ما أن يبدأ وجود شيء، حيّاً كان أو غير حيّ حتى يبدأ هذا الوجود بالذّوبان والتّفتّت والضّياع. إنّ الحياة تولد في الزّمن. ولكنّ الزّمن يغتالها باستمرار.

وهذان العاملان - التّغيّر والزمن - لا يختصان بعالم الإنسان وحده، إِنّهما يعملان في كلّ شيء ويحُولانِ دون ثبات كل شيء: الجماد، والنّبات، والحيوان، والإنسان. ويتميّز الإنسان - بالنسبة إليهما - عن العوالم الأخرى بأنّه - لما أوتي من عقل وإدراك - يستطيع أن يعي الوجه المأساوي لعمل هذين العاملين، وأثرهما في حياته وفي الوجود من حوله.

ووعيُ الإنسان لهذين العاملين وأثرهما في الحياة والأشياء يجعله قادِراً على مواجهة الحياة ومباهجها الموقتة، ووعودها السّخيّة، وآمالها اللامعة. بعقل صافٍ خالٍ من الأوهام، ويعزّز فيه النّزعة الواقعية في أخذ الحياة والتعامل مع الدّنيا - هذه النّزعة الّتي من شأنها أن تجعل الآمال أقل بريقاً وجذباً واستهواءً، والإنتصارات أقل مدعاة للغرور والصلف، والمآسي أقل إيلاماً. ويعزّز مناعة الإنسان أمام تكالب صروف الدهر، وخيبات الأمل وضياع الجهود، ونوازل المرض والموت... فلا ينهار بسبب ذلك ولا ييأس ولا يستسلم، ولا يستكين ولا يهرب من العمل، وإنّما ينبعث للعمل والكفاح في سبيل نفسه وأهله ومجتمعه وعالمه من جديد لأنّه لم يفاجأ بالخيبة والإخفاق، بل كان مهيء النفس لتقّبلهما ومن ثم فقد كان مهيء النفس لتجاوزهما، واستئناف

52

العمل مرة أخرى بأملٍ واقعي جديد.

بالإجمال: إنّ وعيَ الإنسان لهذين العاملين، وإدراكهُ لأثرهما العميق والمصيري في حياته وفي الوجود من حوله يجعله قادِراً على مواجهة الحياة بكلّ وجوهها وما فيها من حسن وقبح، وألم ولذّة، وواقع وخيال، ونجاح وإخفاق ... يواجهها بروح واقعية.

وحين يدخل الإمام عليه السّلام في وعظه عنصر التاريخ فيتحدّث عن الماضين وما حلّ بهم من كوارث وآلام وما انتهت إِليه حياتهم على عظمة توهجها من انطفاء فإنه يقدّم لتحليله النظري الّذي تناول واقع حياة معاصريه الّذين يخاطبهم - يقدّم نماذج تطبيقيّة من حياة أقوام آخرين .. إنّه يقدّم لمعاصريه تجربة الآخرين الّتي يعرفونها، ويبعثون حياتهم في ساحاتها، ويرون آثارها الباقية من الماضي في هذه الساحات.

فهذه المدن والمساكن، وهذه الضياع والمزارع، وهذه القلاع والحصون عمرها في عصور سابقة أناس تقلبت بهم صروف الحياة وأفراحها وأحزانها، والآمال الّتي سعدوا بإنجازها وخيبات الأمل، ثم ماتوا وانقطعوا عن كل ما كان يملأ عليهم حياتهم من أحلام وأماني. ومطامح ومطامع، وحب وبغضاء، وصداقات وعداوات...

وكان هؤلاء أطول أعماراً، وأكثرُ قوةً .. «وأعد عديداً»، وقد وجّهوا كل ما أوتوا من قدرة وذكاء ومعرفة لدنياهم، فأعدوا لها واستعدوا، ولم يشغلهم عنها تفكير بالآخرة أو عمل لها، ولكن كلّ ذلك لم ينفعهم ولم يعد عليهم بطائل، لأنَّ عامل التغيّر والتقلّب من جهة وعامل الزمن من جهة أخرى، عملا دائماً - كما لا يزالان يعملان، وكما سيعملان في المستقبل - على تفتيت حياة أولئك الناس، وكانت حياتهم - كما هي الحياة الآن، وكما ستبقى الحياة - تحمل في جوهرها وفي أعماقها أثناء ولادتها ونموها وازدهارها بذور تقلصها وذبولها وأنطفائها في آخر المطاف.

*

هذا نموذج من وعظ الإمام عليّ الّذي يدخل فيه عنصر التاريخ باعتباره يُضيء الحاضر لأنه يضيف إِليه تجربة الماضي ويجعله - بذلك أكثر غنى، ويجعل الإنسان أكثر قدرة على مواجهته بروح واقعية وبعقل خالٍ مِنَ الأوهام، فلا يهن ولا يستسلم تحت وطأة الكارثة، ولا يطغى ولا يطوّح به الغرور وهو في ذرى النجاح.