وقد جاء في آية اخرى: ( و لا يُسأل عن ذنوبهم المجرمون ) ، فحينما يبلغ الإنسان درجة عالية من الاجرام، فان الله - تعالى- لا يحاسبه ولا يكلمه، لانه مجرم بالكامل فليست هناك حاجة الى محاكمته.
مرتزقة القلم بين الماضي و الحاضر:
وفي يوم القيامة يخاطب الله - تعالى- العالم ليقرّعه على خيانته للامانة، وهؤلاء العلماء موجودون في كل مكان وزمان كما كانوا موجودين قبل الاسلام في عهد اليهود والنصارى حيث كانوا يحرفون التوراة والانجيل، فاؤلئك الذين يفسرون اليوم آيات الجهاد في القرآن الكريم و يحصرونها في عهد الرسول- صلى الله عليه وآله - قائلين ان هذه الفريضة قد غابت عن الأمة مسمّين إياها ( الفريضة الغائبة )، هؤلاء ايضاً يلوون السنتهم بالكتاب، ويحرفونه عن مواضعه.
ومن مظاهر تحريف هؤلاء للكتاب قولهم ان الامر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان ولكن عند القدرة والاستطاعة ، ولذلك تراهم لا يذكّرون الناس باحكام الدفاع عن بيضة الاسلام، فيحرفون مفاهيم الاسلام من خلال إشاعة انه دين بلا دولة، وان السياسة معدومة في الدين.
ونحن لا نقصد هنا بالعلماء علماء الدين فقط، بل كل من حمل مسؤولية الدين اياً كان، فالصحفي المأجور المرتزق هو ايضاً مشمول بتلك الآية ، لانه يغير الحقائق، و يكتب الباطل، ويكتم الحق.
مواصفات العالم حسب المفهوم القرآني:
ثم يحدد القرآن الكريم مواصفات العالم؛ فالعالم يدعو الى الله، ولا يدعو الى نفسه، يدعو الى الله ولا يدعو الى الطاغوت، بل انه لا يدعو الى عبادة الملائكة على عظمتهم كما قال تعالى: ( ما كان لبشر ان يؤتيه الله الكتاب والحكم و النبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله، ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب، و بما كنتم تدرسون، ولا يأمركم ان تتخذوا الملائكة والنبيين ارباباً ايأمركم بالكفر بعد اذ انتم مسلمون )[81].
ترى لماذا هذا التشدد الذي يبديه القرآن مع العلماء، و لماذا يضع أعظم المسؤوليات في رقابهم؟ ولماذا جاء في الحديث الشريف: ( لنحملن ذنوب سفهائكم على علمائكم ) و( يغفر للجاهل سبعون ذنباً قبل ان يغفر للعالم ذنب واحد)؟ او ليس العالم بشراً مثلنا، او ليس الله ارحم الراحمين؟
السبب في ذلك الآثار السلبية الكبيرة والمأساوية التي يستتبعها انحراف العلماء كما قال- صلى الله عليه وآله-: ( طائفتان من امتي ان فسدتا فسدت امتي ، وان صلحتا صلحت امتي، الأمراء والعلماء ).
الخيانة سبب الهزيمة:
علينا ان نعلم ان مصائب البشرية تكمن في كتمان العالم لعلمه، وسكوته عندما تظهر البدع، ولقد وجد العدو الشغرات لاقتحام بلادنا رغم ان العالم الاسلامي مشحون بالقوى والطاقات المادية والمعنوية، فكيف استطاع العدو تفريقنا والسيطرة علينا؟
وهناك احصائية تقول ان جيوش البلدان العربية تبلغ الآن مليوني مجند، و(1440) طائرة حربية من أحدث أنوع الطائرات، وتملك كذلك سبعة آلاف مدفع، و ثمانية آلاف دبابة، وتسعة آلاف مدرعة، ولكنها مع ذلك لا تستطيع مقاومة اسرائيل، في حين ان الاخيرة لا تمتلك سوى ( 150) الف جندي و(650) طائرة و (1000) مدفع.
اما بالنسبة الى الموارد المادية التي تمتلكها البلدان العربية فحدث عنها ولا حرج الى درجة ان بنوك اليابان حينما تشرف على الافلاص تعمد الى الاقتراض من الدول العربية، والمصانع الاوروبية عندما تشرف على الافلاس تبادر السعودية الى شرائها ، فلماذا هذه المفارقة؟
هل تعلمون لماذا لم يستطع الجيش المصري التغلب على اسرائيل، ولماذا انهزمت الجيوش العربية أمامها؟ السبب في ذلك يعود الى خيانة القادة، و ضعف السياسة والستراتيجية العسكرية، والسبب الاهم من كل ذلك انعدام الروح الاسلامية، فالجيش الذي يبتعد عن روح الاسلام والجهاد في سبيل الله لا يمكنه أن يحارب اسرائيل.
وفي مقابل هذه الاوضاع نرى الاسرائيليين يضعون التلمود على دباباتهم- وهو الكتاب المقدس عندهم- في حين ان تفاسير القرآن كانت ممنوعة على الجيوش العربية ولا تزال ممنوعة، فماذا تنفع الطائرات عندما يكون قادتها خائنين غير مقتنعين بهذه الحرب وماذا تجدي الدبابات والمدافع حينما ينفصل الجيش عن روحه الدينية؟؟
ان العلماء اذا قاطعوا الطغاة فإن هؤلاء الطغاة سيسقطون لا محالة، وعلى هؤلاء العلماء ان يوطنوا انفسهم على تحمل المكاره والصعاب في هذا الطريق، فالله قد كفل للانسان رزقه، والامر بالمعروف و النهي عن المنكر لا يمنعان رزقاً ولا يقربان اجلاً.
السبب الحقيقي لمآسينا:
لماذا وصلنا الى هذه الحالة، ولماذا هذه الاوضاع المزرية التي انتهينا اليها؟
السبب الرئيسي في ذلك يعود الى فصل الدين عن السياسة، الى عدم اداء عالم الدين لدوره الفاعل في التوعية، و نشر اليقظة بين المسلمين ، لقد كان علماء ايران بعد واثناء الثورة انموذجاً للعلماء العاملين كالشهيد ( مطهري ) الذي استطاع نشر الاسلام في الجامعات، ويعبىء الطاقات الشابة في الامة لخدمة الاسلام، هذا العالم هو الذي صنع بفكره وقلمه الخلفية الثورية والفكرية للمجاهدين، وهو الذي أعلن للناس ان الجهاد جزء من الدين، و لذلك فقد اغتالته الايادي الآثمة التي لاتريد للاسلام الاصيل ان يشارك في توجيه الحياة، ومع ذلك فقد ازداد فكره إشراقا و تجلياً.
كما اغتالوا ايضاً الشهيد الصدر في العراق، و الشهيد الشيرازي في لبنان ، انهم يغتالون الفكر ولكن ليس كل فكر بل الفكر الذي يربط بين الدين و الثورة ، وبين العقيدة والحياة، فهذا الفكر يجب ان يغتال برأيهم، فهم يعلمون انه اذا انتشرت الفكرة الاسلامية الحقة، واذا عرف الناس الحقيقة، فلابد ان يرحل المستعمرون عن بلادنا.
اغتيال الثقافة الثورية هدف أعدائنا:
ان المرحلة التي نعيشها الآن هي المرحلة التي يحاول فيها الغرب تغيير مسار الثقافة الاسلامية، و بتعبير آخر؛ اغتيال الثقافة الثورية الاسلامية، ونشر الثقافة المنحرفة؛ ثقافة التجزئة، ثقافة القشور، ثقافة التخلف ، ثقافة التبعية، كل ذلك في مقابل ثقافة الاسلام، و ثقافة الوحدة والتقدم والحضارة والاستقلال.
انهم ينشرون تلك الثقافة مقابل هذه الثقافة وهذه العملية هي التي تدفعهم الى توجيه التهم في هذه الصحيفة او تلك الى الاسلاميين المتحلّين بالثقافة الاسلامية الثورية الاصيلة، وهم يلجؤون الى اسلوب الصاق التهم لأنهم يعجزون عن معارضة الثقافة الثورية بثقافة معاكسة، فهم يعلمون ان كل انسان يقرأ القرآن يدرك ان الجهاد واجب من واجبات الدين ، فهناك العديد من السور القرآنية تؤكد على هذه الفريضة وتحث عليها من مثل سورة البقرة، وآل عمران، و النساء، والمائدة، والانعام، والانفال، والتوبة، وهم إزاء هذا التأكيد على الجهاد لا يستطيعون اغتيال الثقافة الثورية ، فيبحثون عن اسلوب آخر هو الصاق التهم الرخيصة بالمثقفين الرساليين كوصفهم بانهم ارهابيون.
وإزاء هذا الوضع ينسى المستعمرون بانهم هم الارهابيون، أفليس قتل مليون انسان في فيتنام ارهاباً وكذلك الحال في كمبوديا، او ليس ذبح المسلمين في صبرا وشاتيلا ارهاباً ، أوليس ارهابياً ذلك الذي قاد عملية القتل الجماعي في كفرقاسم و دير ياسين؟ انهم يصفون تظاهرات الشعوب في منطقة ما بالارهاب، وعملية نشر الكتب الاسلامية بالارهاب و خصوصاً الكتب التي تدعو الىالجهاد، والى الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولنا في رسول الله و اهل بيته - عليهم السلام- اسوة في هذا المجال ، فجميعهم عاشوا طيلة حياتهم المباركة في السجون والمهاجر متعرضين للمطاردة والاضطهاد، ذلك لأنهم اطلقوا صرخات في وجوه الطغاة، لأنهم كانوا يريدون تطبيق الاسلام الحق، لانهم رفضوا تحريف القرآن الكريم، لانهم أرادوا تطبيقه كما نزل، لانهم يهددون الطغاة بفكرهم هذا .
ونحن نقول لأولئك الكتاب من المثقفين ومرتزقة القلم بان الفكر السلامي قد انتشر رغماً عنهم، وان النهار قد اقترب، وان هذا الحركات اليائسة لا يمكن أن تجديهم نفعاً، فمن أقصى بلاد الاسلام الى أقصاها بدأ المسلمون يقرؤون القرآن من جديد ، ويتمثلونه من جديد على اثر الجهود التي قام بها المثقفون الرساليون.
عندما تكون الهمّة عالية، والطموح سامياً فلا بدّ ان يتعب الجسد من اجل الوصول اليهما، والجسد بدوره لا يلبث ان يستجيب لطموح النفس عندما تكون النيّة قويّة ، والعزيمة راسخة، كما يشير الى ذلك الامام الصادق (ع) في قوله: ( ما ضعف بدن عمّا قويت عليه النيّة ).
وعلى هذا فانّ على الانسان ان يطرح على نفسه التساؤلات التالية، ويبحث عن اجابة عليها قبل ان يبرمج لحياته، ويضع الخطط لها: ما هي همّتي و طموحي؟ وماذا عليّ ان اعمل؟ و كيف أعمل؟
هذه هي التساؤلات الاساسيّة في حياة الانسان، وللاسف فانّ الكثيرمن الناس يعيشون الاعمار الطويلة دون ان يعرفوا لماذا عاشوا، ولأيّ سبب سيموتون، في حين ان هناك اناساً يحاولون البحث عن اجابات لتلك التساؤلات، و يضغطون على افكارهم للاجابة عليها قبل ان تستدرجهم الحياة، و تلفّهم في احداثها المتغيّرة.
وانا اوصي المشتغلين بالدراسة ان يطرحوا تلك الاسئلة على انفسهم كاستراتيجيّة حياتيّة بالنسبة الى كلّ واحد منهم، و كاستراتيجيّة مرحلية بالنسبة اليهم جميعاً؛ أي انّ الدراسة لابدّ ان تكون في خدمة الهدف ومن اجله، وان لا تكون مجرّد هواية او رغبة مؤقّتة بل من اجل هدف اسمى.
ضرورة تعيين الهدف من الدراسة:
وعلى طالب العلم ان يطرح على نفسه هذه التساؤلات حتّى وهو يدخل الى قاعة الدرس، فطبيعة الاستيعاب تختلف بين انسان يدرس من اجل الدرس فتتحوّل الدراسة عنده الى غاية، وبين انسان يستوعب الدرس ليلقيه غداً على الجمهور. فالعلم الذي لا ينفع، والذي لم ترسم له ستراتيجيّة واضحة يجب على الانسان المؤمن ان يستعيذ منه: ( واعوذ بك (يارب) من علم لا ينفع)، لانّ هذا العلم يضر بالانسان، و يسبب له الغرور، فيكون عوضاً له عن العمل.
والآن نطرح هذا السؤال: ما هو العلم المفرغ من العمل ؟ قد يكون الانسان هو السبب في عدم العمل بعلمه، كالانسان الذي يعلم أنّ الامر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب شرعيّ، ولكنّه لا يلتزم به.
شروط العلم النافع:
انّ العلم النافع هو الذي تتوفّر فيه الشروط التالية:
1- ان يكون الهدف من تعلّمه العمل به، فالبعض يبحث عن العلم من اجل ارضاء شهوة التطلّع في نفسه، في حين انّ هدف الانسان من العلم يجب ان يكون هدفاً عمليّاً لا لأجل التسلية، ولذلك فانّ الاحاديث الشريفة تؤكّد على ضرورة اخلاص النيّة في التعلّم: (من تعلّم للّه، وعلّم لله، وعمل لله ، دعي عند الله عظيماً).
2- ان يكون اختيار موضوع العلم حسب الظروف الموضوعية التي يعيشها المجتمع.
3- ان يكون مقدار العلم الذي يتعلّمه الانسان بقدر حاجة الناس اليه.
هذه الشروط يجب ان نوفّرها في عمليّة تعلّمنا، وفي عمليّة تعليمنا ايضاً، فالذي يدوّن العلم عليه ان لا يفعل ذلك لمجرّد التسلية، ابراز الافكار.
واذا ما وصل الانسان المتعلّم الى مستوى الدعوة والتبليغ فعليه ان لا يحوّل هذا التبليغ الى عملية روتينّية، او من باب رفع التكليف، فيستخرج بعض المعلومات من هذا الكتاب او ذاك ليلقيها على الناس ثم ينتهي كلّ شيء دون ان يفكرّ في الفائدة التي يقدّمها الى الآخرين من خلال دروسه ومحاضراته، لانّ مثل هذا العمل الذي يقوم به انّما هو استهانة بقدرة الناس على الفهم، واستهانه بالنفس قبل كلّ شيء.
و هكذا فان كلام الانسان المبلّغ ينبغي ان يكون بحيث ينتشر بين الناس، و ينتفعون به، امّا ان اتكلّم بمجموعة من المكرّرات، والمحفوظات فانّ المنبر سيصبح منبراً عاديّاً وكلاسيكّياً، وسيقلّ اهتمام الناس به.
وعلى هذا فانّ طالب العلم الداعي الى الله- تعالى- يجب عليه اوّلاً ان يحدّد هدفه من كلامه، فهل هدفه ان ينهي الحديث ليقول الناس له: احسنت، وطيّب الله انفاسك ، ام انّ هدفه ان يجعل الناس يتأثرون بكلامه، وينتفعون من علمه؟
هناك من الخطباء من يصعد المنبر ليخرّج منه ثوّاراً وعلماء ومفكرّين، ذلك لانهم يعرفون الاسلوب الصحيح لالقاء محاضراتهم ودروسهم، وكيف يرضون الناس بجميع شرائحهم اعتباراً من الشاب وحتّى الشيخ الكبير.
المنبر مسؤوليّة خطيرة:
وبناء على ذلك فانّ المنبر يعتبر بحدّ ذاته مسؤوليّة خطيرة يجب على طالب العلم ان يتحمل اعباءها بالشكل الصحيح، فيفكر في كيفيّة التأثير على الجمهور، و تحريكهم في الاتجاه الصحيح ، وهذا ما يجعل للدارسة هدفاً وغاية محدّدة تدفعني الى ان اسير على هدىّ وبصيرة.
وفي غمرة ارشاد الناس وموعظتهم علي ان لا انسى نفسي، فالكلام الذي القية من على المنبر يجب ان اّتعظ به انا اوّلاً قبل ان اعظ به المستمعين، لكي يكون كلامي هذا مؤثراً على الآخرين، لانّ الكلام الذي يخرج من القلب يدخل في القلب، امّا اذا خرج الكلام من اللّسان فانّه سوف لا يتجاوز الآذان، لانّ المتكلّم لم يطبّق كلامة على نفسه.
ولذلك فانّ بعض الخطباء يتحرّجون من ذكر الكلام الذي يشكّون في صحّته، فلا يتكلّمون به ، وعلى هذا فانّ الخطيب يجب ان يكتفي بذكر الكلام الذي يقتنع به لكي يستطيع اقناع الآخرين به، ثمّ انّ الناس لا ينظرون الى كلام الخطيب فحسب بل ينظرون اليه من خلال مواقف هذا الخطيب وسلوكه، و لذلك فانّنا عندما نستمع الى الكلام فانّنا نستمع اليه في الحقيقة مرّتين؛ مرّه لكي نستفيد منه، ومرّة اخرى لكي نفيد به الآخرين.
ولذلك فانّ في الآيات القرآنيةّ جانبين؛ جانباً يسمىّ بـ (الحكمة) أو( التزكية)، و جانباً يطلق عليه اسم ( العلم ) او( التعليم)، فنحن يجب ان نأخذ ظاهر سياق القرآن بنظر الاعتبار من اجل ان نستوعبه، ثمّ نركّز على باطنه باعتباره علماً.
الاسلوب الصحيح للاستفادة من الدورس:
وهكذا ففي نفس الوقت الذي نستمع فيه الى الدروس لكي نحصل منها على المادّه العلميّة ، فانّنا يجب ان نستمع اليها لكي نستفيد منها شخصيّاً، وهناك من الطلبة من يخرج من الدرس وهو محمّل بالعلم، وهناك من يخرج منه صفر اليدين لانّ فكره لم يكن مشغولاً بدرسه، ولاّنه لم يفرّغ نفسه لعملّية التعلّم، فهناك من الطلاّب من يجلس في قاعة الدرس بجسمه، ولكنّ روحه وفكره شاردان الى مكان آخر، ومثل هذا الشخص لا يمكن ان تثبت في ذهنه المعلومات التي درسها، امّا الطالب الذي يركّز فكره على الدروس، و يعيش معها، ويراجعها بشكل مستمر فانّ الدروس التي درسها ستبقى في ذهنه حتّى وان مرّ عليها خمسون عاماًَ.
و هكذا فانّ على طالب العلم ان يجلس في قاعة الدرس مركّزاً تفكيره على دروسه، ومحاولاً ان يستفيد من وقت الدراسة بشكل كامل ، وان يفكّر في الكلام الذي يلقى اليه، بل و يحاول ان يحفظ العبارات الموجودة فيه، لكي يصبح بذلك في المستقبل مدرساً قديراً للدروس التي تلقّاها اثناء فترة دراسته.
وللاسف فانّ هناك البعض من الطلاب لا ينتبهون ، ولا يركزون فكرهم على النقاط التي يطرحها الاستاذ في الدرس، وعلى اسلوبه في التدريس، وكيفيّة تبيينه لجوانب الدرس المختلفة، الامر الذي ينعكس على قدرة الطاب نفسه على التدريس مستقبلاً، فيتورّط في الكذب مثلاً عندما يُسأل عن موضوع ليست لديه معلومات حوله، اوان يتذرّع بذرائع مختلفة من اجل التهرّب من الاجابة، والسبب في كلّ ذلك انّ هذا الطالب كان قد بنى كيانه العلميّ على اساس هشّ ضعيف لم يؤهّله لان يكون استاذاً قديراً عندما يتولّى مسؤولية التدريس.
فلنكن- اذن حريصين ونحن ندرس ونتعلّم على ان نستوعب دروسنا بشكل كامل، ومن جميع جوانبها من خلال الاخذ بنظر الاعتبار الملاحظات والارشادات التي ذكرناها في هذا الخصوص.
قيم المعهد الأسلامي
بين العلم و التقوى
كلنا نعلم انّ العلم و التقوى صنوان يكمل أحدهما الآخر، فلا خير في علم لا تقوى فيه، كما انّ التقوى التي ينقصها العلم تعتبر ناقصة، فكما امر- تعالى - بطلب العلم فقال: ( وقل ربي زدني علماً )[82] ، أمر كذلك بطلب التقوى في آيات عديدة منها قوله- تعالى-: ( فاتقوا الله ما استطعتم )[83].
للعلم درجات ومراحل:
والعلم على درجات ومراحل، فليست العلوم في مستوى واحد، فهناك علوم الأبدان وعلوم الأديان والأرواح، وعلم الأبدان بدوره ينقسم الى مئات بل آلاف العلوم، فقد إكتشف الانسان لحد الآن المئات من الحقول العلمية، و كذلك الحال بالنسبة الى علوم الدين، ففي علم التفسير- مثلاً- هناك من يعرف تفسير آية واحدة، وهناك من يحيط بتفسير القرآن كله، هناك من يتقن التفسير من وجه واحد، وهناك من يتقنه من أوجه مختلفة.
كذلك التقوى:
وكما ان العلم درجات و أقسام فكذلك التقوى، وربما كان هناك الكثير منا يجهل هذه الحقيقة، فنحن نحسب ان التقوى حالة واحدة، في حين انها مجموعة متكاملة من الروادع و الملكات النفسية تجتمع الى بعضها البعض لتشكل التقوى، ولتوضيح ذلك أضرب المثالين التاليين على انواع وحقول التقوى ودرجاتها:
فبالنسبة لأنواع التقوى هناك من الناس من يخدعه المال فإن أعطيته ديناراً باع لك دينه ومن الناس من لا يخدعه المال بل يخدعة الجاه فإن أسبغت عليه بكلمة مدح تنازل لك عن دينه وعن تقواه ، ومن الناس من لا يخدعه المال والمنصب ولكن تخدعه شهواته الجنسية، فلا يمتلك نفسه في مواجهة الإغراء الجنسي..
التقوى هي مناعة الانسان ضد المغريات المختلفة:
وعلى هذا الأساس فإن حقول التقوى مختلفة ، وفي جميع هذه الحقول يكون الانسان بحاجة الى مناعة تصونه من المغريات المختلفة التي تحاول أن تهذم التقوى في داخله، وهناك الكثير ممن يفتقر الى هذه المناعة فنرى إن أبسط المغريات من الممكن ان تؤدي به الى الكفر وبالتالي الى النار.
ومناعة الجسم تختلف من مرض لآخر، فبعض الناس لديهم مناعة ضد الحمى، في حين يفتقرون اليها إزاء مرض آخر وهكذا، وهكذا الحال بالنسبة الى مناعات الروح، وثمة التفاتة ان سورة البقرة تدور من أولها الى آخرها حول التقوى ولكن في مجالات مختلفة؛ في الجهاد، وفي الحج، وفي العبادات، وفي العلاقات الزوجية، والشؤون القتصادية.
المثال الثاني هو حول درجات التقوى في المجال الواحد، و يتلخص هذا المثال في ذلك الرجل الذي بعث معاوية في طلبه وقال له: أريد منك ان تختلق حديثاً في ذمّ علي ابن ابي طالب ، وأن تثبت انّ هذه الآية الكريمة ( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ) قد نزلت في إبن ملجم وان الآية ( ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا) نزلت في علي بن ابي طالب .
فقال الرجل : هذا الحديث يتطلب مالاً كثيراً فكم تعطيني؟، فقال: خمسين ألف درهم، فقال: البصناعة أغلى، فقال: خذ مائة ألف درهم، فقال: هذا قليل أيضاً، فأخذ معاوية يضاعف هذا المبلغ حتى إتفقا على نصف مليون درهم.
انّ تقوى هذ الرجل تعادل في الحقيقة نصف مليون درهم! كما وهناك أناس جاؤوا الى كربلاء لمحاربة الامام الحسين - عليه السلام- مقابل الدراهم والمناصب التي وعدهم إبن زياد بها!
العلماء أولى الناس بتحصيل التقوى:
وهكذا نرى إنّ الانسان يواجه في حياته مشاكل عديدة وإبتلاءات عظيمة، ولابدّ أن يحصّن نفسه ضد هذه المشاكل والابتلاءات بالتقوى في كافة الحقول و بمختلف الدرجات وخصوصاً العلماء الذين يبحثون عن درجات عالية من العلم والعمل في سبيل الله.
وفي كل يوم يمر علينا ونكتسب فيه علماً جديداً علينا أن نكتسب تقوى بنفس هذا المقدار، فإذا زاد العلم ، ونقصت التقوى كان ضرر العلم أكثر من نفعه، كما يقول الحديث الشريف: ( من ازداد علماً ولم يزدد خشوعاً، لم يزدد عن الله ألاّ بعداً ).
ولقد كان إبليس عالماً ولكن علمه هذا أخلده الى الارض بدل أن يرفعه منها لأن علمه انفصل عن التقوى ، والى ذلك أشار الشاعر:
لوكان في العلم من غير التقى شرف لكان أشرف خلق الله إبليس
ومن العلماء من هو تلميذ و فيّ لإبليس، العلماء الذين لم يفوا بمسؤولياتهم، فخدموا السلاطين، وباعوا علمهم. إذ العلم بدون التقوى لا يساوي شيئا، فحاول إذن ان تحصل على مستوى جديد من التقوى كلما حصلت على علم جديد وإلاّ فإن علمك سوف يتزايد دون أن ينفعك.
التقوى حصانة الانسان يوم القيامة:
هذه التقوى هي التي تقي الانسان من أهوال يوم القيامة ففي هذ اليوم العصيب يشعر الانسان بحاجة ماسة الى من يحفظه من كروب هذا اليوم كالصلاة التي يؤديها الانسان كاملة بشروطها فإنها تأتي اليه يوم القيامة في صورة إنسان حسن الوجه، طيب الريح، ثم يقول له: أنا معك، سوف أساعدك، وفي غير هذه الحالة تأتي هذه الصلاة الى الانسان في صورة كائن مسخ مشوّه، ولذلك جاء في الحديث الشريف: ( لا يقبل من صلاة المرء إلاّ ما يلتفت فيه ).
فنحن بحاجة الى أن نؤدي الصلاة بكاملها، فهذه الصلاة هي التي تزيد من تقوى الانسان بشرط ان يصليها بخشوع ويتوجه الى الله - تعالى- فيها.
وهكذا نرى ان للعلم درجات وحقولاً وكذلك التقوى، والانسان الكامل هو الذي يتقدم في العلم في مختلف الدرجات والحقول و بموازاة هذا التقدم يتقدم أيضاً في التقوى بمختلف درجاتها ومجالاتها، أي أن تكون لديه مناعة ضد كل وساوس الشيطان سواء كانت وساوسه هذه من خلال المال، أم الشهوات، أم المنصب والجاه أم المدح
فدرجات التقوى عديدة وعلينا ان نطلب اعلى الدرجات، وحقول التقوى كثيرة و علينا أن نتقي الله في كافة هذه الحقول، فالله- تعالى- يقول: ( يا أيها الناس اتقوا ربكم) دون أن يحدد درجة ومجال هذه التقوى لأنه يأمرنابها في كل مكان، وفي كل مجال ، وفي مواجهة جميع المصاعب.
هناك مسؤوليات على الانسان ان يقوم بها في حياته ايّاً كان انتماؤه من مثل مسؤولية الحفاظ على الذات؛ فكل انسان مسؤول عن نفسه بأن يحافظ عليها، ولا يدع الخطر يحدق بها، والذي لا يلتزم بواجبات هذه المسؤوليّة فانه متّهم في بشريته وانسانيته، اذ أنها ترتبط بطبيعة الانسان ككائن حيّ يعيش على هذه الارض.
المسؤولية الاخرى هي مسؤوليّة العلم التي تشبه مسؤوليّة الحفاظ على الحياة لسببين:
1- انّ هذه المسؤوليّة جزء لا يتجزأ من المسؤولية الاولى، فالعلم هو الذي يدفع عنك الاخطار، وهو الذي يزيل المشاكل، فالذي يعرف الطريق لا يمكن ان يضلّ ويتيه فتحدق به الاخطار، هكذا فانّ المعرفة هي التي تجنّب الانسان من الاخطار.
2- انّ العلم جزء من كيان الانسان، فانسانيته ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالعلم ، فالانسان مسؤول عن تعلّمه الذاتي.
وللاسف فانّ كثيراً من الناس يفقدون الاحساس بهذه المسؤوليّة في حياتهم ، فيفقدون بذلك سرّ النجاح في الحياة، فيحسبون انّ الآخرين هم المسؤولون عن تعليمهم، في حين انّهم يجهلون انّ العلم هو حاجتهم قبل ان تكون حاجة الآخرين اليه، واذا استخدم هنا مصطلح العلم في اطاره العام لا في اطاره الخاص، فالعلم ليس فقط ما تدرسه في الكتب، او تسمعه من الدروس والمحاضرات، بل هو اوسع مدى من ذلك بكثير، انّه سيطرة الانسان عقليّا على الحياة، أي ان يعرف الانسان الوسط المحيط به ، وان يعرف متغيّرات الحياة، والقضايا الاجتماعيّة الاقتصادية والسياسية العامّة والخاصّة، وكلّ ذلك يمكن ان نطلق عليه تسمية (العلم)، لكي يستطيع الانسان تكييف نفسه مع ما يحيط به في الحياة.
وعندما اراد الفلاسفة تحديد فلسفة العلم وهدفه وهدف الاحاسيس والمشاعر التي تؤدّي الى العلم، قالوا انّ الهدف من كلّ ذلك ان يتكيّف الانسان مع ما يحيط به، و قولهم هذا صحيح فالعلم بمعناه الاوسع هوكل ما يسهم في تحقيق هذا التكيّف، و كلّ ما يجعلك تسيطر على حياتك سيطرة افضل.
وللاسف فانّ بعض الناس لم يكتشفوا هذا السرّ،فاصبحت حياتهم مظلمة، بعيدة عن العلم والنجاح ، واكتشاف والاحساس بهذه المسؤولية هما احد اركان بناء الانسان لنفسه بناء قياديّاً.
ولقد ذكرت في أحد كتبي السابقة انّ الامّة الاسلامية ، والحركات الاسلامية بالذات بحاجة ماسّة الى عناصر عصاميّة، تربي نفسها بنفسها، وبينت القواعد الاساسية لبناء القائد الرسالي، وهنا سأوضح جانباً آخر من تلك القواعد واوّلها انّ الانسان ان لم يدرك ان المسؤول عن تعليمه في الحياة هو ذاته، وان العلم هو احدى المسؤوليات الملقاة على عاتقه طبيعياً كمسؤولية الحفاظ على النفس، فانّ عجزاً كبيراً سينفذ في حياته، وهذا العجز سوف يؤدّي به الى الفشل قطعاً.
والسؤال المطروح هنا هو : كيف يمكن ان يتحسّس الانسان هذه المسؤوليّة، وكيف يؤدّيها، وكيف يمكن لبعض الناس الذين اصيبوا في بداية حياتهم بعقدة تجاه العلم ، فأصبح عبئاً ثقيلاً عليهم، ان يقبلوا على التعلّم بنشاط ورحابة صدر من دون ان يواجهوا الدراسة بكراهية مبطّنة؟
انّ على هؤلاء ان يكتشفوا انفسهم، وان يزيلوا هذه العقدة، ويوحوا الى ذواتهم ان الكتاب هو خير صديق للانسان، وانّ المعلّم هو احبّ الناس اليهم، وانّ ساعة الدراسة هي من الذّ الاوقات، فمثل هذا الايحاء سوف يقضي شيئاً فشيئاً على تلك العقدة الكامنة في نفوسهم منذ ايّام الطفولة، والتي تفصل بينهم وبين الاحساس بضرورة العلم.
ولكن كيف يستفيدون من هذا الاحساس؟
انّ الاجابة على هذا السؤال يمثّل محور البحث والحديث في هذا الفصل، وادّل ما نقوله في هذا المجال انّ العالم المحيط بنا فيه اشارات عديدة الى حقيقه، ولنفترض انّ الانسان اصيب بمرض في اصبع من اصابع رجله نتيجة بعض الطفيليات التي تكاثرت عليه، انّ هذا المرض سوف يخلق اثره في كلّ جزء من اجزاء جسم الانسان؛ وهذه الآثار بعضها مكشوفة للعلم و البعض الآخر ما يزال غامضاً، وقد اكتشف العلماء اخيراً طريقة لاكتشاف مرض القلب من خلال خطوط اليد الموجودةعلى الكفّ، هذه حقيقة فالعلم يسير بخطى حثيثة نحو فهم العلاقة بين وقوع الشيء و بين الايحاءات والاشارات المحيطة به، فكلّ حقيقة تحدث في هذا الكون صغيرة كانت ام كبيرة تحيط بها مجموعة اشارات و دلالات نستطيع بواسطتها ان نكتشف تلك الحقيقة.
وعلى هذا فانّ العلم له عدّة طرق، والكتاب ليس هو المعلّم الوحيد للانسان، فالحياة هي بحدّ ذاتها افضل معلّم للانسان، ولكنّ الناس لا يبصرون، ولا يستخدمون مشاعرهم واحاسيسهم ليعرفوا ما يجري حولهم وكيف يجري ليربطوا بين بعض الدلالات والحقائق التي تقع.
انّ الكثير من الناس يكتشفون الحقيقة اليوم في حين انّ البعض الآخر لا يكتشفها الا بعد عام او عامين، والفريق الاول ليسوا رجال غيب ولكنهّم بصروا ما لم يبصره الآخرون، وادركوا اهميّة الدلالات والاشارات المحيطة بالحقيقة في حين انّ الآخرين لم يلتفتوا اليها.
ولكي نكون ممّن يكتشف هذه الاشارات قبل الآخرين لابدّ ان يختلي كلّ واحد منا بنفسه ساعة، ويبتعد عن المؤثّرات الخارجيّة، فهذه الخلوة تقدّم للانسان منافع كثيرة منها معرفة طريقة الاستفادة من ايحاءات الحياة، فعندما تجلس و تفكّر فيما جرى حولك؛ من الذي احسن واصلح، ومن الذي أساء وأفسد، من يسير في الاتجاه الصحيح ،ومن ينتهج الطريق الخاطىء وما شاكل ذلك من قضايا، فانّك ستثري بذلك فكرك، وتدفع نفسك الى اكتشاف الكثير من الحقائق.
انّ فكر الانسان يشبه الى حدّ كبير المصباح الكهربائّي الذي ينتشر ضوؤه في كلّ مكان محيط به فهو ثابت في نقطة واحدة ولكن امواجه تترامى و تتسع لتلتقي هنا وهناك، فمن الطبيعيّ انّك عندما تفكّر في قضية فان فكرك سوف يعمل بشكل متواصل ليكشف لك اكثر من قضية واحدة، واكثر من علاقة واحدة بين حدثين، وهذا ما يجعلك قريباً من الحقائق مكتشفاً لها قبل الآخرين، بل انك ستكتشف الاسلوب الى الحقيقة ، ففي المرّة الاولى التي اكتشفت فيها الحقيقة فانّك ستكتشف الطريق المناسب الى مثيلاتها من الحقائق الاخرى.
انّ المنطق الذي يبحث في سبل اكتشاف الحقائق مؤخّر عن العلم لا مقدّم عليه لانّ الانسان بعلمه يكتشف شيئاً ثمّ يكتشف المنهج الذي اعانه على اكتشاف هذا الشيء، وبذلك يصل الى قاعدة من قواعد المنطق، فكلّ انسان بامكانه ان يكتشف مناهج جديدة للفهم شريطة ان تكون له خلوة.
وللخلوة بالاضافة الى ذلك فوائد اخرى منها تركيز الارادة، و شحذ العزيمة، واكتشاف والنواقص و اسباب العجز الذاتي، والابتعاد عن المؤثّرات النفسيّة، ولكن الفائدة الرئيسية التي اريد التحدث عنها هي ( فهم الحياة) ، فلنتدبر في هذه الكلمة، ولنعمل بها فـ ( تفكّر ساعة خير من عبادة سبعين سنة) كما يقول النبي (ص) ، فلنجعل منها مفتاح النجاح في حياتنا فالذي يفشل في الدنيا يفشل ايضاً في الآخرة، لانّ الانسان الذي يفقد مفتاح النجاح فانّما يفقد طريق انسانيته.
انّ الانسان من الممكن ان يصاب بانحرافات كثيرة دون ان يشعر بها، ودون ان تتسنى له لحظة تفكير واحدة يكتشف من خلالها هذا الانحرافات، فيجعل كلّ واحد منّا من الاخرين مقياساً لتقييم نفسه، فنحن نعرف انّ الآخرين لهم انحرافات ، و يعانون من نقاط شعف، وبالتالي فانّنا ايضاً لابد وان نعاني من بعض تلك الانحرافات و نقاط الضعف، فلأجعل من نفسي و اعظاً وزاجراً لها، ولأكن مربّي نفسي بدلاً من الآخرين من خلال الساعات التي اخلو فيها اليها، ولذلك تجد في الاحاديث الشريفة تأكيداً على ضرورة وجود ساعا معيّنة يختلي فيها الانسان بنفسه.
ولكي لا ينغّص عليك الشيطان خلوتك هذه ينبغي ان تكون هذه الساعات ساعات الاختلاء بالله -تعالى- كذلك ، ففي نفس الوقت الذي تحاول فيه ان تفكّر من الافضل ان تقرأ الادعية والقرآن و تتدبّر فيهما لكي تتفاعل معهما، ونكون بعيدين عن الاجواء الماديّة المحيطة بانفسنا، ونخرج من تلك القوالب الحديديّة التي وضعنا فيها انفسنا، فنكتشف بذلك نواقص انفسنا لنبادر الى اصلاحها.
فلنتفاعل مع آيات القرآن الكريم و مواعظه وعبره، وهكذا الحال بالنسبة الى الادعية والصلاة، فلا بأس ان تفكّر اثناء الصلاة في شؤونك و تتذكّر ذنوبك واخطاءك التي لو قال الآخرون أنها موجودة فيك لنهرتهم، ورفضت الاستماع اليهم، امّا في الصلاة فانّك تشعر بالخجل والحياء من ربّك ، ولا تستطيع انكار وجود تلك الانحرافات في نفسك، فتبكي اوتتباكى على ذنوبك في الصلاة عند القنوت.
وعندما تقنت الى ربّك - تعالى- فليس من الضروري ان تكرر نفس العبارات التي تعلّمتها وورثتها من ابيك او جدّك، بل حاول ان تبحث عن ادعية قريبة من نفسك، و معبّرة عن واقعك وتطلّعاتك، واذا لم تجد مثل هذه الادعية، فاقرأ الادعية المأثورة ولكن اشفعها بأدعية تنطلق من قلبك لتشعر بواقعك، وتذكر ذنوبك، وادعُ الله ان يغفر لك هذه الذنوب ذنباً ذنباً لتكون الصلاة معلمة لك، وهذه هي الخلوة المطلوبة التي هي الخلوة الرحمانيّة لا الخلوة الشيطانيّة.
صحيح انّ بعض الناس يختلون بانفسهم ولكن في ايّ شيء يفكّرون، ولأيّ شيء يخططون؟ انّهم يخطّطون ليركزوا مفاسدهم وانحرافاتهم ، ويكّرسوا منهجهم المنحرف، امّا الانسان المؤمن فانّه يختلي بنفسه و بينه وبين الله عز وجل- شاهداً عليه، هذا هو سرّ من اسرار النجاح.
واّني إن لم استطع ان اعبر للقارىء الكريم تعبيراً دقيقاً عن كلّ ما يحيط بهذه الفكرة، فانّي اطلب منه ان يجرّب هذه العمليّة بنفسه لكي يكتشف مدى فائدتها، فليجلس بعيداً عن الاضواء، ولا يفكّر في شيء واحد بل في مختلف اموره؛ دراسته، موقفه من الحياة، طريقة تعامله معها، ليفكّر في كلّ هذا ، فمجرّد التفكير هو سرّ النجاح في حياة كلّ العظماء الذين درستُ حياتهم، فقد كانت لهم ساعات للتفكير.
و هكذا فانّ ساعات الخلوة هي ضرورة من ضرورات الحياة، وهذه هي القاعدة الثانية في بناء الانسان لنفسه، فالانسان عندما يكون طموحه عالياً فانّ هذا الطموح سوف يصبح وقوداً يدفع الانسان الى الامام ، و حديث الامام الصادق (ع) بليغ كلّ البلاغة في بيان هذه الحقيقة فهو (ع) يقول: ( ما ضعف بدن عمّا قويت عليه النيّة)، فاذا كانت نيتك قويّة، وارادتك فولاذيّة فانّ جسمك سيتبعك شاء ام ابى.
ان الهمة العالية هي من طبيعة الانسان الذي استوعب رسالة السماء، وعرف لماذا خُلق، والى ايّ مدى يستطيع ان يصعد، ولكنّ المشكة الاساسية عند الانسان هي المشكلة اليأس الذي يجب ان يعالج بالتوكّل على الله - تعالى-، ففي كلّ لحظة نحن بحاجة الى التوكّل و خصوصاً القائد، فعندما تختار ان تصبح قائداً فهذا يعني انّك اخترت تحمّل مسؤوليّة الآخرين بالاضافة الى مسؤوليتك ، فالآخرون سوف يحمّلونك مسؤوليّاتهم و مشاكلهم، ويطالبونك بتشجيعهم، بان تفيض من روحك روحاً عليهم، ومن ارادتك عزيمة.
ولكن كيف تقتبس انت هذه العزيمة، و تستوحي هذه الروح، وكيف تدفع نفسك الى الأمام؟
انّ ذلك ممكن من خلال الاستعانة بالله - تعالى- والتوكّل عليه، وعندما اقول انّنا يجب ان نعالج اليأس بالتوكّل فانّ هذا لا يعني ان تأخذ اليأس و ترشّ عليه ورشة من التوكّل وعندئز يموت اليأس الى الابد، بل يجب ان تعيش حالة التوكّل دائماً، فنحن نعيش في كلّ لحظة بين اليأس والرجاء ولابدّ ان نستمد من التوكل روح الرجاء، وهنا تكمن آفة من آفات القيادة الكبيرة الا وهي (خور العزيمة)، والتردد في اتخاذ القرارات، متعلّلة بذرائع شتى منها الحرص على عدم اراقة دماء المسلمين.
كلّ ذلك يعني انّ الانسان ضعيف اقتضاء لطبيعته البشريّة ، ولكي لا يسيطر الضعف عليه في الاوقات الحرجة في حياته فعليه ان يكتشف الطريق الى الله - سبحانه وتعالى-، واذا اراد ان يصبح قائداً فعليه ان يكتشف مفتاح التوكّل على الله، لكي يستمد العزيمة من الله كلّما خارت عزيمته هذه، شريطة ان لا نغلق الباب بيننا و بينه - تعالى-.
انّ هناك البعض من الناس يدعون الى التوكّل ولكنهّم لا يفهمون معناه، فالانسان العاصي الذي قطع علاقاته مع ربّه، فغضب عليه، مثل هذا الانسان لا ينفعه توكله لان الانسان المؤمن هو الجدير بالتوكل : ( وعلى الله فليتوكل المؤمنون )[84] فالذي لا يمتلك الايمان كيف يمكنه ان يتوكل؟
و هكذا فانّ من شروط التوكل هو فتح الطريق الموصل بينك و بين الله عز وجل- من خلال التوبة الدائمة عن المعاصي، ومحاولة تجنّبها ما استطعنا الى ذلك سبيلاً.
بين تنمية العقل و تراكم المعلومات
ماهي العلاقة بين العقل والعلم؟ ولماذا نجد في آيات الذكر الحكيم تاكيداً على دور العقل كذلك في السنة الشريفة؟ وايهما الافضل؛ ان يكون الانسان عاقلا أم ان يكون عالماً؟
لكى نوضح الاجابة على تلك التساؤلات اجدني بحاجة الى ان اضرب مثلا؛ نفترض العقل بمثابة الظرف، والعلم بمثابة ما فيه،فماهي العلاقة بين الظرف والمظروف؟ لو افترضنا انك تملك كأساً، ثم جعلت في هذا الكأس ماءً، فمن الطبيعي انّ هذا الكأس بامكانه يحمل من الماء بمقدار حجمه
العلاقة بين العقل والعلم علاقة مصيرية:
والعقل ايضاً هو ذلك المظروف ، والعلم هو بمثابة ما في هذا الظرف، والعلاقة بينهما هي بمنزلة علاقة الأم بوليدها، والاصل بفرعه، وعلاقة الجذر بالساق؛ فكلما كان الظرف اكبر كلما كان استيعابه للمظروف اكثر، وكلما كان عقل الانسان أكبر كان استيعابه للعلم اكثر.
وللاسف فاننا نجد ان هناك الكثيرين ممن يقتنون في بيوتهم الكتب والمجلدات الكثيرة في مختلف العلوم، الا إنّ قدرة استيعابهم للافكار التي تحويها تلك الكتب ضعيفة، فهم لا يستطيعون الربط بين ما يمكلونه من الكتب و بين ما يقدمونه من معلومات، مخالفين بذلك مضمون الحديث الشريف: ( حديث واحد تدريه خير من الف حديث ترويه ).
وهناك أيضاً الكثير من الطلاب لا يفكرون إلا في زيادة علمهم، وهناك عدد قليل منهم أوتي الحكمة ففكر أن يزيد من عقله، اولئك يدخلون الصف فيحدثهم الاستاذ -مثلاً- عن الموت والحياة ، ويضرب لهم الامثال فيحفظونها، ويحفظون النصوص، و ينتبهون الى إعرابها، دون أن يلتفتوا الى جوهر ما قاله، و دون ان يسائلوا انفسهم ان الموت هو الذي يهددهم في كل لحظة، وهكذا لا يعملون على زيادة عقولهم، بل يحاولون زيادة محفوظاتهم في حين انّ هذه المحفوظات ستزول و تذهب ، والعقل هو الذي يبقي و يخلد.
لا شك ان العقل مهما كبر فانه غير قادر على استيعاب العلوم الكثيرة الغزيرة، فعلينا ان نجدد منذ الآن موقفنا إزاء العلم ، هل هو موقف التكديس والزيادة في المعلومات أم هو موقف رفع نوعية وكيفية تلك المعلومات ، فعلينا اذن ان نزداد فهماً وخبرة وعقلاً، والا فما الفائدة من زيادة العلم إذا لم نزدد تدبيراً، و تواضعاً لله ومعرفة وعرفاناً به - تعالى- ، فاذا اردنا ان تصبح عقولنا اكبر من علمنا، فعلينا ان لا نختار على العقل شيئاً.
والقرآن الكريم نفسه يؤكد على دور العقل في الكثير من آياته، فكثيراً ما نجد فيه تعبيرات من مثل( يا أولي الالباب) و( أفلا تعقلون) و( قوم لا يفقهون) ، فهي تؤكد على العقل و تمنحه الثقل الاكبر في الحياة، وهذا هو جوهر الحضارة الاسلامية في حين ان الحضارات الاخرى تفتقر الى قدرة العقل الواعية التي من شأنها ان تضبط الجانب المادي من الحضارة.
الابتعاد عن العقل سبب المآسي:
فالعالم اليوم قد قطع اشواطاً طويلة في مجال التقدم المادي، ولكن عقله مع ذلك ما يزال صغيراً عاجزاً عن ضبط هذا التقدم وتوجيهه انسانياً، وكان من نتيجة ذلك ان ارتكب هذا العالم المادي الكثير من الجرائم بسبب غياب العقل، فلقد استطاعت البلدان الغربية وعلى رأسها اميركا إختراع القنبلة الذرية والنووية ولكن لتسخرها لأغراض القتل والدمار، فلم يحل عام (1945) حتى ألقت اميركا قنبلتيها الذريتين على اليابان لا لشيء الاّ لتثبت للعالم إنها تمتلك امكانيات هائلة في مجال التسلح العسكري.
وقد اصبحت هذه الامكانيات الآن من المفاخر التي تتشدق بها البلدان الغربية، ومن مجالات التسابق المحموم بينها، فاحصائيات الاخيرة تفيد ان العالم يصنع الآن في كل ربع ساعة قنبلة ذرية بحجم القنبلة التي القيت على اليابان و في حين ان الازمات الاقتصادية تعصف بالبلدان الغربية نرى حكوماتها مشغولة بانفاق الاموال الطائلة على التسلح بدلاً من مبادرتها الى حل تلك الازمات.
كل ذلك يعني انّ العالم يمتلك العلم، ولكنه يفتقر الى العقل، فالعالم اليوم هوعالم غير رشيد، قد قطع أشواطاً بعيدة في مضمار التقدم المادي، ولكنه لم يقطع ولو شوطاً بسيطاً في مجال الرقي العقلي، فالعالم تسوده اليوم الحروب الطاحنة المدمرة، فالاحصائيات تقول ان هناك ما يقرب من عشرين حرباً مشتعلة في هذه المنطقة أو تلك، وكل ذلك يدل على ان عقل الانسان قد بلغ من الضعف درجة متناهية.
زيادة العقل هدف الانبياء:
ولقد جاء الانبياء- عليهم السلام - لإكمال و انضاج عقول البشر لا لزيادة علمهم ، فرسالتهم تستهدف رفع المستوى العقلي للناس، و منحهم الرشد الفكري ، ولكننا نجد للاسف الشديد عكس هذه الحالة حتى في بلداننا الاسلامية، في حين انّ هناك بلدانا غير اسلامية استطاعة من خلال رفع مستواها الفكري والعقلي ان تطور نفسها وان تنافس البلدان المتقدمة في تطورها، والمثال الوضح على ذلك اليابان، فلقد فتح اليابانيون ابواب بلادهم للغرب ولكن لعلمه لا لعقله، فحافظوا على ثقافتهم، و تقاليدهم، وتركيبة مجتمعهم وما يزالون محافظين عليها.
وفي الحقيقة فان سر المعجزة اليابانية يكمن قبل كل شيء في احتفاظهم بعقولهم ، في نفس الوقت الذي استفادوا فيه من علوم الآخرين.
بامكاننا بناء أعظم حضارة ولكن:
وازاء ذلك نجد بلداننا للاسف الشديد عاجزة عن منافسة الغرب رغم انها تمتلك ثروة هائلة من البترول تستطيع بواسطتها بناء اعظم حضارة كما ذكرت المجلات الاجنبية عام (1983) عندما ارتفعت أسعار النفط، إذ أبدت هذا الصحف والمجلات مخاوفها من ان يسيطر المسلمون والعرب على الاسواق الاوربية اذا ما استمرت تلك الحالة، وقد اشرت الى ذلك في كراسات نشرتها آنذاك، واكدت فيها على ان حضارتنا في عصر البترول هي حضارة واهية، وان بامكاننا ان نبني حضارة عظمية بفضل الثروات الهائلة التي نتمتع بها.
وللاسف فان اسعار البترول سرعان ما هبطت لترتفع اسعار السلع التي يصدرها الينا المستعمرون بمقدار اربع مرّات حتى انّ ميزانيات البلدان المنتجة للنفط اخذت تعاني من العجز!
والسبب في كل ذلك يعود الى ان بلداننا تمتلك العلم و تمتلك الخبراء ولكنها لا تمتلك العقل، فاموالها تهدى الى اميركا، وثرواتها تمتص من قبل البلدان الغربية بثمن بخس، في حين انها تستورد السلع و البضائع من الغرب بأثمان باهضة، والعجيب انّ هذه السلع و البضائع قد اعتمد الغرب في انتاجها على تلك الثروات التي نهبها من البلدان الاسلامية.
وهكذا استحوذوا على ثرواتنا، وجعلوا اموالنا في بنوكهم يتصرفون بها كيف شاؤوا، وافتعلوا الازمات في المنطقة، وقضوا على بنيتنا الاقتصادية، وسلبوا منا كل مقومات التطور.
من كل ذلك نستنتج ان على طلبة العلوم الدينية ان يفكروا في رفع مستواهم الفكري والعقلي قبل ان يفكروا في التعلم وزيادة المعلومات، كما على كل واحد منّا ان يفهم طبيعة مجتمعه، وأن يستوعب المعلومات التي يتلقاها إستيعاباً عميقاً، من خلال التفكر والاعتبار.
هناك تعارض بين العلم والمعلومات، وعصرنا هو عصر المعلومات، ولذلك فانّ من اراد ان يكون عالماً فانّه سيتحرّك باتّجاه مضادّ للتيّار السائد، فالمعلومات هي هذه الاخبار والافكار والتحليلات التي تلفظها المطابع يومياً بكميّات هائلة، وتبثّها محطات التلفزيون والاذاعة، وتختزنها الكومبيوترات ذات القدرة الهائلة على التخزين.
وبعد فهذه هي المعلومات، في حين انّ العلم هو مقدار استيعاب الانسان لهذه المعلومات بالاضافة الى قدرته على تقييمها، وعرضها على ما يمتلكه من قيم .
مشكلة تضخيم المعلومات:
انّ هذا التعارض يشتد يوماً بعد آخر في عالمنا، لانّ عمليّة نقل المعلومات من مكان الى آخر تزداد سرعة، و تزداد اتساعاً، فالى الامس القريب كان الكومبيوتر شيئاً مثاليّاً بالنسبة الى الانسان، ووجوداً مقتصراً على وزارت الدفاع والتخطيط والجامعات الكبرى في العالم .
والى الامس القريب ايضاً كان الكومبيوتر يتّسع حجمه لغرفة كاملة، في حين انك اليوم تستطيع ان تضعه في جيبك، بل انّ الاطفال الذين لا تتجاوز اعمارهم الثماني سنوات بدؤوا الآن يتسلّون به، ويزوّدنه بالبرامج.
وعلى هذا فانّ العلم يتّجه اليوم الى تضخيم المعلومات، علماً انّ هذه المعلومات كلّما ازدادت و تضخّمت فانّ قدرة الانسان على استيعاب هذه المعلومات سوف تقلّ لاّنها قدرة محدودة، ولذلك فانّ الكثير ممّن يستمعون الى نشرات الاخبار لا يستطيعون ان يخبروك بدقّة كاملة عندما تسألهم عن النتيجة التي خرجوا بها، بل انّ اكثر الذين يطالعون الصحف ليس بمقدورهم ان يزوّدوك بشيء، ذلك لانّ هذه الصحف لم تضف الجديد الى حياتهم الداخليّة والعمليّة.
ولذلك فان احد الكتاب في الغرب يعرب في هذا المجال قائلاً: ان اكثر الناس اصبحوا اليوم اميين، رغم انّهم يتعاملون مع اجهزة علميّة بالغة الدقة والتقنية، ذلك لاّنه لم يستوعبوا في الواقع المعلومات التي حصلوا عليها.
وهكذا فان مثل الناس اليوم اصبح كمثل الشاحنة الكبيرة التي وضعت فيها معلومات الاولين والآخرين، ولكنّ صاحب هذه السيّارة لا يعرف عن هذا المعلومات شيئاً، لانّ قدرة الانسان على الاستيعاب شرط لمقدار ومدى استفادته من العلم.
ونحن اذا اردنا ان نخرج من هذا المسار الخاطىء الذي وقع فيها الآخرون فلابدّ اوّلاً وقبل كلّ شيء ان نقول انّ المسافة بين العلم والمعلومات كالمسافة بين الانتاج والاستهلاك، فالعلم يشبه الانتاج بينما المعلومات هي كالاستهلاك ، فكما انّ الانسان يميل الى الاستهلاك اكثر من ميله الى الانتاج، فانّه يميل الى المعلومات اكثرمن ميله الى العلم.
وعلى هذا فاننا اذا ما اردنا ان نقاوم هذا التيّار فانّ علينا ان نغيرّ مسيرتنا من الاستهلاك الى الانتاج، ومثل هذا التغيير بحاجة الى عزيمة، والى تحمّل للصعوبات، وقد كان الأئمة (ع) يكرّرون دائماً هذا الحديث: ( ان امرنا صعب مستصعب، لا يحتمله الاّ ملك مقرب، او نبي مرسل، او مؤمن امتحن الله قلبه للايمان) . فمن الصعب علينا ان نستوعب حديثاً في مستوى القرآن الكريم، او الأئمة (ع) ، الاّ اذا كانت لدينا الارادة الكافية لتحمّل الصعوبات. كيف نكون انتاجيّين في علمنا؟
امّا السبيل الى ذلك فيتمثّل في ان نخصص جزء من اوقاتنا لدراسة الكتب التي هي في مستوى ثقافتنا، وعلينا ان لا ننهزم اما صعوبة الكتاب لانّه في الواقع انهزام من تربية انفسنا، ورفع مستوانا العلميّ. فنحن عندما نستمرّ في قراءة الكتاب المفيد الى نهايته فاّننا سنشعر انّ اسلوب كلامنا قد تغيّر.
هكذا فانّ علينا ان نفكر كثيراً فيما نقرؤه ، وان لا نفكر في اتمام مطالعة الكتاب، و حفظ المعلومات التي جاءت فيه، فهذا الاسلوب مغلوط في تعلّم العلم، ولذلك فانّ طرق التعليم في جامعاتنا كانت فاشلة، لاّنها كانت تعتمد على ذاكرة الطالب و قدرته على الحفظ و تخزين المعلومات ، وللاسف فانّ بعض الاسلامّيين قد وقعوا ايضاً في اسر هذا الاسلوب.
و بناءً على ذلك فانّ من الواجب علينا في هذا المجال ان ننظر الى الكيفيّة؛ فعلينا ان نطالع الكتاب دون ان تهمّنا نهايته، فلنقرأ ما تحت سطوره. ولذلك جاء في الحديث الشريف: ( خذوا العلم من افواه العلماء ولا تكونوا صحّافين) ، و هكذا يجب ان يكون همّنا استيعاب ما في الكتاب وفهمه لا نهايته.
بالاضافة الى ذلك فانّ علينا ان نسجّل دائماً ما يتبادر الى اذهاننا من افكار، و نقاط حسّاسة اينما تبادرت هذه الافكار والنقاط الى اذهاننا، فمثل هذه اللحظات الاكتشافّية لا تأتي الا بعد معاناة طويلة، ونحن نحتاجها في معرفتنا للحقائق، لانّ تلك الافكار سوف تبقى و تترسّخ في اذهاننا، و تصبح جزءً من وجودنا .
فالى مزيد من العلم حتىّ وان كان ذلك على حساب المعلومات، لانّ هذه المعلومات من دون العلم لا يمكن ان تجدي على الانسان بفائدة سوى انّها ستجعله حمّالاً دون ان يعي و يستوعب ما يحمله.
بين العلم و المال
تعتمد الحياة على قاعدتين اساسيتين هما: العلم العمل ، والعمل حينما يتكثف يتحول الى رصيد متراكم يسمى مالاً، فالمال في الواقع ليس الاّ عملاً مركزاً ومتراكماً، أما العلم فهو جانب الرؤية الى الحياة ، ومعرفة الانظمة السائدة فيها، و طريقة تسخير الارض، ومعرفة النظام الكوني الذي نعيش فيه.
العلم هو المقياس المتفوق:
وحينما نقيس العلم والمال فلا ريب ان العلم يسمو على المال، فلولا معرفة الانسان للحياة لما كان هناك فرق بين البشر و سائر الاحياء، بل لما كان هناك فرق بين الانسان والطبيعة، فالانسان انما سخر الطبيعة بعلمه، ولذلك نجد الآيات القرآنية تذكر بهذه الحقيقة، حيث يقول الله - تعالى- في قصة نبينا آدم ( عليه السلام) .
( وعلم آدم الاسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلاّ ابليس أبى و استكبر..)[85].
فالملائكة سجدت للانسان لان الله علّم الانسان ما لم يعلم حينما زود- تعالى- أبانا آدم بالعلم ، واذا كانت الملائكة هي الحقائق الغيبية الموكلة بالطبيعة فلقد اسجد الله للانسان كل الطبيعة وسخرها له باستثناء شيء واحد هو نفس الانسان الامارة بالسوء التي تمثل تمرد ابليس وعصيانه لامر الخالق- جل شأنه-، و اذا استطاع الانسان ان يخضع نفسه الامارة بالسوء فعندها سينتصر على الشيطان و بذلك تكون الطبيعة قد سخرت للانسان بشكل تام، و يكون قد حقق السيادة الكلية على الكون، وهذا هو مايريده الله- عز وجل -.
بالعلم نكبح جوامحنا:
والآن يتبادر الى الذهن السؤال التالي: كيف يستطيع الانسان اخضاع نفسه الشهوانية لعقله النير، و ينتصر على عدوه الاكبر الشيطان؟
ان هذا يتم بالعلم أيضاً، ذلك العلم الالهي الذي اودعه الله - تعالى- في الانسان، فابليس حينما عصى وتمرد لم يكن خارجاً عن حكم الله وسلطانه، فالله - تعالى- قادر على اخذه متى شاء، فكذلك الانسان الذي يحمل العلم الالهي بامكانه ان يقهر ابليس و ينتصر عليه اذا اراد ذلك، كما اشار الى ذلك- تعالى- في الآيات التالية:
( انه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون)[86].
( ان عبادي ليس لك عليهم سلطان إلآ من اتبعك من الغاوين)[87].
( فقاتلوا اولياء الشيطان ان كيد الشيطان كان ضعيفا)[88].
وعندما يسلب من الانسان علمه فانه لا يصبح كسائر الحيوانات فحسب وانما اقل قيمة منها واضل سبيلا، والسبب في ذلك ان الحيوانات التي لم تزود بالعلم قد زودت بالغرائز وبالقدرة على التكيّف مع ظروف البيئة و قوانين الحياة، في حين ان الانسان لم يزود على نفس المستوى بهذه القدرات، وانما وُهب ما هو افضل من ذلك، الا وهو العقل الذي يتعلم به الطريق الى التغلب على الطبيعة.
فالحمام - مثلاً- يطير في السماء بغريزته و قدرته على التكيف مع المجال المغناطيسي للارض، ولذلك نجد الحمامة تستطيع ان تهتدي الى عشها حتى وان كان يبعد عنها عشرات الكيلومترات دون ان تخطىء، ولكن الانسان لا يستطيع الطيران، ولا يمتلك في جسمه جهازاً رادارياً، غير أنه بعقله وعلمه استطاع ان يتفوق على الحمامة، فاخترع الطائرات السريعة الجبارة، واخترع اجهزة الرادار الالكترونية التي مكنته من الاتصال بكل بقعة من بقاع الارض بحرية و سهولة و سرعة.
وكذلك الحال بالنسبة الى قدرة السمع عند الانسان فانها اقل بكثير مما عند بعض الحيوانات ولكن الانسان المزود بالعلم استطاع ان يخترع اجهزة سمع كالتلفون واللاسلكي واذا به يتفوق على الحيوانات بخطوات شاسعة ويتمكن من سماع اصوات تصدر على بعد الاف الاميال.
وعندما نقارن بين العلم والمال نجد ان المال اقل قيمة من العلم، ولو قارنا ايضاً العمل بالعلم لوجدنا ان العمل لا قيمة له الا اذا اهتدى بضوء العلم ، ولذلك نرى ان الامام علي (عليه السلام) يؤكد على افضلية العلم على المال في حديثه المعروف مع كميل بن زياد حيث يقول ( عليه السلام):
( ياكميل؛ العلم خير من المال، العلم يحرسك وانت تحرس المال، المال تنقصه النفقة، العلم يزكو على الانفاق، وصنيع المال يزول بزواله.
ياكميل؛ هلك خزان المال وهم احياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر)
العلم بدون التقوى لا يساوي شيئاً:
ولكن، هل يستطيع العلم وحده ان يقود المجتمع ويدير شؤونه؟ وهل تنجح دولة تقام على اسس علمانية مادية مجردة وبعيدة عن القيم؟ وعندما نطرح هذين السؤالين على الاسلام فسرعان ما سيجيبنا بالنفي، فالعلم بدون التقوى لا ينفع شيئاً، بل ان ضرره يكون اكبر من نفعه. فالعلم طاقة كبرى كما ان المال طاقة كبرى ايضاً، و اذا وجه العلم او المال باتجاه الشر فسوف يكون ضررهما كبيراً بقدر خطورة وعظمة هاتين الطاقتين.
ان العلم والمال اذا أسيء استعمالهما فسيكونان سبباً في تدمير العالم من خلال نتاج الاسلحة النووية المدمرة وما الى ذلك من وسائل الدمار، واذا ما وجها توجيهاً خاطئاً فسيكونان اداة بيد الاجهزة الحاقدة في العالم التي تسعى لتحطيم الحضارة الانسانية، والعلم عندما لا يحدد بالتقوى فانه سيصبح اداة بيد شخص مثل ( بلعم بن باعوراء) الذي استعمل علمه لتدمير حياة المجتمع من خلال دعمه لسلطة الطاغوت، وبيد شخص مثل ( شريح القاضي) الذي افتى بقتل الامام الحسين بن علي ( عليهما السلام ) في جريمة نكراء لم يشهد ولن يشهد التاريخ لها مثيلا، و قد احسن الشاعر عندما قال في بيان عدم قيمة العلم دون التقوى:
لوكان في العلم من دون التقى شرف لكان أشرفُ خلق الله إبليس
ضرورة الفصل بين العلماء الابرار و علماء السوء:
ولذلك يفصل الاسلام و بكل قوة السلطة عن اصحاب المال ليؤسس نظاماً اقتصادياً واجتماعياً رصيناً لا ينفذ فيه صاحب المال الى مركز السلطة، وهذه قضية اساسية في تركيبة المجتمع الاسلامي ، و هكذا الحال بالنسبة الى العلم ، فمع ان الاسلام يعطي المزيد من الوجاهة لاهل العلم والعلماء الا انه يفصل فصلاً واضحاً بين العلماء الابرار الاتقياء، وبين علماء الشر، وبهذا الفصل يبعد الاسلام عن المجتمع اولئك الذين يستخدمون العلم من اجل إشباع شهواتهم، وبالتالي فانهم يجعلون العلم تابعاً للمال، فالانسان الذي يرتزق بعلمه فيبيعه لمن يؤمّن له مصالحه فانه يجعل بعلمه هذا اصحاب المال والثروة قادة للامة.
ان الملوك حكام على الناس، والعلماء حكام على الملوك، كما يشير الى ذلك الحديث الشريف المروي عن النبي( صلى الله عليه وآله ): ( اذا وجدتم العلماء على ابواب الملوك فبئس الملوك وبئس العلماء ، واذا وجدتم الملوك على ابواب العلماء فنعم الملوك، و نعم العلماء).
واذا اردنا مثالاً على هذه الظاهرة السلبية التي طالما حطمت العالم ، و سحقت المحرومين، وعذبت البشرية المستضعفة فيكفينا ان ننظر الى البنتاغون وان نبحث في اروقة البيت الابيض وفي كل مكان يباع فيه العلم لصاحب المال والسلطة، لنجد ان بروفسوراً قضى عمره في البحث والدراسة يصبح موظفاً بسيطاً عند رجل اعمال مثل ( ديفيد روكفلر) ليدعم سلطته بالعلم الذي انعم به الله من اجل تحرير الانسان من ضعفه وعجزه ومحدوديته، وليقهر المستضعفين، وبهضهم حقوقهم.
وبيع العلم يتمثل في اختراع رجل خبير في الكيمياء لبعض العقاقير التي يستخدمها الطغاة لانتزاع الاعترافات من السجين لادانته ثم اعدامه، ولذلك نرى القرآن الكريم يؤكد دائماً على عدم بيع العلم بدراهم معدودة، فمهما كان الثمن المدفوع ضخماً فانه لا يساوى شيئاً أمام العلم الذي هو دائما اغلى من كل شىء ولا يقدر بثمن.