تشریع الاسلامی، مناهجه و مقاصده

سید محمد تقی مدرسی

جلد 2 -صفحه : 6/ 3
نمايش فراداده

وصايا الكتاب سنن وحكم: في سورة الاسراء وابتداء من آية(20) والى آية(39) يأمرنا الله بوصايا رشيدة ويختمها بقوله سبحانه: ( ذلك مما اوحى اليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله الها اخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا).

تعال نتلو معا ايات من هذه المجموعة ثم نتدبر فيها.

(لا تجعل مع الله الها اخر فتعقد ملوما مخذولا).

(وقضى ربك الا تعبدوا الا اياه وبالوالدين احسانا إما يبلغن عندك الكبر احدهما او كلاهما فلا تقل لهما اف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما* واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ربكم اعلم بما في نفوسكم ان تكونوا صالحين فانه كان للاوابين غفورا).

من خلال التدبر في هذه الايات الكريمة نجد مثالا رائعا لنهج القران في التذكرة بالسنة، والحكمة عند الامر بالوصية الالهية، مما تتمثل الهرم المتين: الله واسماءه الحسنى، سنن الله في الخليقة، الحكمة القائمة على تلك السنن، الوصية المنبعثة منها الاحكام الفرعية: 1-اسماء الله الحسنى (التوحيد) قال الله سبحانه: (لا تجعل مع الله الها اخر فتقعد مذموما مخذولا* وقضى ربك الا تعبدوا الا اياه).

2-السنة الالهية (الجزاء الحسن، وقبول توبة الاوابين) قال سبحانه: (ربكم اعلم بما في نفوسكم ان تكونوا صالحين فانه كان للاوابين غفورا).

3-الحكمة (التربية عند الصغر) قال الله سبحانه: (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا).

4- الوصية (الاحسان الى الوالدين).

(وبالوالدين احسانا).

5- الحكم الفرعي (حقوق الوالدين) قال سبحانه: ( اما يبلغن عندك الكبر احدهما او كلاهما فلا تقل لهما اف ولاتنهرهما وقل لهما قولا كريما* واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا).

وليس بالضرورة ان تذكر هذه المنظومة جميعا كلما ذكرت مفردة منها، بل قد يكتفي السياق ببعضها، لان ماسواها قد بينت في ايات اخرى، كما ليس بالضرورة ان تذكر بذات الترتيب الذي استعرضناه آنف، لان للقران منهجه الفريد الذي ينظم الحقائق حسب البلاغة وفصل الخطاب.

تعال نتلو ونتدبر-مرة بعد اخرى-في وصايا القران في هذه السورة: قال ربنا تعالى: (وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا* ان المبذرين كانوا اخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا* واما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا* ولاتجعل يدك مغلولة الى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا* ان ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر انه كان بعباده خبيرا بصيرا).

اذا تدبرنا ضمن المنهج السابق في هذه الايات: اين اسماء الله واين سننه واين الحكمة والوصية الحكم في هذه الايات الكريمة؟ لعرفنا ما يلي: 1/اسماء الله نجدها في خاتمة المجموعة(الخبير البصير) قال الله سبحانه: (انه كان بعباده خبيرا بصيرا).

2/السنة الالهية التي نراها في الخليقة اعتمادا على هذين الاسمين المباركين تتمثل في (تقدير الرزق حسب حكمته البالغة سبحانه) قال الله سبحانه: (ان ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر).

وهناك سنة الهية اخرى ذكر بها في قوله سبحانه: (ان المبذرين كانوا اخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا).

3/اما الحكمة فهي المتمثلة في الاقتصاد في المعيشة، والاعتدال في المواقف قال الله سبحانه: (ولا تجعل يدك مغلولة الى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا).

4/وعن الوصية(حرمة التبذير) قال سبحانه: (ولا تبذر تبذيرا).

5-الاحكام الفرعية(ايتاء حقوق الفقراء) قال سبحانه: (وات ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل.

وكذلك حكم اخر: (القول الميسور لمن لاتقضي حاجته) قال سبحانه: ( واما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا).

وفي الاية التالية جمع القران بين السنة والحكمة والوصية، بينما ذكر فيما سبق باسماء الله الحسنى، ولم يذكر ربنا سبحانه الاحكام الفرعية للوصية ربما لانها مفصلة قال الله تعالى: (ولا تقتلوا اولادكم خشية املاق نحن نرزقهم واياكم ان قتلهم كان خطأ كبيرا).

هنا نجد البصائر الثلاث: 1/ السنة الالهية: (نحن نرزقهم واياكم).

2/ الحكمة: (ان قتلهم كان خطأ كبيرا).

3/ الوصية: (ولا تقتلوا اولادكم خشية املاق).

اما الحديث عن اسماء الله الحسنى التي تتجلى في سنة هذه الامة فهي قوله سبحانه: (انه كان بعباده خبيرا بصيرا).

وفي آية كريمة اخرى نجد فقط الحكمة والوصية، لان غيرهما قد ذكر بما في هذا السياق او في مواضع اخرى، قال ربنا سبحانه: (ولا تقربوا الزنى انه كان فاحشة وساء سبيلا).

لقد ذكرنا ربنا بالوصية.

وشفعها بحكمتها.

اما الاية التالية فقد بينت الوصية وحدها، لان حكمتها بينة او مذكورة في ايات اخرى، قال ربنا سبحانه: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله الا بالحق* ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل انه كان منصورا).

وعندما حدد السياق العلاقات الاقتصادية بين ابناء المجتمع واوصى باحترام حقوق الضعفاء المالية(مثل مال اليتيم)، وبالوفاء بالعهد(ولعل من ابرز مصاديقه العقود)، وبايفاء الكيل ثم بين حكمة هذه الوصايا جميعا(فيما يبدو لي) والتي تتمثل في انها عمل صالح ذات عاقبة حسنى فقال سبحانه: (ولا تقربوا مال اليتيم الا بالتي هي احسن حتى يبلغ اشده واوفوا بالعهد* ان العهد كان مسؤولا* واوفوا الكيل اذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير واحسن تاويلا).

وفيما يرتبط باعراض الناس، وما يفرق بينهم من نميمة اوغيبة فتهدم بنيانهم، يوصي ربنا عباده بتحري الحقائق، ويذكر بالسنة الالهية التي هي المسؤولية، حتى عن مواقف الانسان القلبية تجاه الاخرين، فقال سبحانه: (ولا تقف ما ليس لك به علم ان السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسئولا).

وينهى ربنا عن التكبر، ويبين سنة هذه الوصية الاجتماعية، بان الانسان كيان ضعيف فقال سبحانه: (ولا تمش في الارض مرحا انك لن تخرق الارض ولن تبلغ الجبال طولا).

ويبين حكمة ذلك ايضا( فيما يبدو)، والتي تتمثل في ان هذه الصفات قد تكون حميدة، ولكنها اذا كانت تعكس روح التعالي والتكبر تكون مكروهة، فيقول سبحانه: (كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها).

وفي خاتمة هذه الايات ذات الوصايا الثمانية يذكرنا ربك بانها من الحكمة الالهية (التي تتشعب منها احكام شرعية كثيرة) كما انها بدورها تتشعب من توحيد الله، واخلاص العبودية له فيقول سبحانه: (ذلك مما اوحى اليك ربك من الحكمة ولاتجعل مع الله الها اخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا).

تدبر كيف وصل السياق بين الحكمة وبين التوحيد(والنهي عن الشرك بالله) باعتباره ينبوع الحكم، وقد قال النبي صلى الله عليه واله: رأس الحكمة مخالقة الله.

وهكذا نستوحي من التدبر في هذه الايات الكريمة، ان احكام الشريعة تتفرع من شجرة التوحيد، وان اصولها الحكمة والسنن الالهية، وان الراسخين في العلم يسعون ابدا لمعرفة اصول الحكمة، وآفاق السنن، كما يسألون ربهم المزيد من معرفته سبحانه، والقرب منه، ومشاهدة اسماءه الحسنى، حتى يزدادوا فقها بدينه واحكام شريعته، ووعيا بمراميها السامية.

وقد جاء في الدعاء المأثور.

ايد ظاهري في تحصيل مراضيك.

ونور قلبي وسري بالاطلاع على مناهج مساعيك.

وهكذا يعلمنا الدين كيف ينبغي ان نتعامل مع الاحكام الشرعية، فنعمل بظاهرها ونتعرف على باطنها.

فظاهرها-كما جاء في صفة القران الكريم-: ظاهره حكم وباطنه علم.

الباب الثاني:التطوير بين الحدود والعقبات الفصل الاول:عوامل الجمود

غرباء عن انفسهم:

ليس اشرف في وجود الانسان من العقل.

وليس اعظم في الخليفة من الانسان حين يستثير عقله، وينير بالوحي بصيرته.

ولم تكن امانة في الخلق افدح اصرا من امانة العقل التي اشفقت منها السماوات والارض والجبال وحملها الانسان، او تدري لماذا؟ لان العقل قبس من نور الله الذي اودعه في ضمير الانسان، ومن دونه لا يكون الانسان سوى حفنة من تراب الارض تتجاذب معا وتتفاعل، واذا تصورنا تلك المسافة التي تفصل قبس النور الالهي، وحفنة التراب!.

عرفنا انه ليس سهلا على الانسان، قطع هذه المسافة المترامية، للتسامي الى حيث النور الالهي، وقد احاطت به الجواذب المادية، واثاقلت به الى الارض، وكذلك كان الانسان ظلوما جهولا، حيث قال رب العزة سبحانه: (ان عرضنا الامانة على السموات والارض والجبال فأبين ان يحملنها واشفقن منها وحملها الانسان انه كان ظلوما جهولا).

من اجل ذلك كانت معدودة تلك الايام التي تعالت فيها البشرية الى ذرى الكمال الالهي، ولم تمر عبر التاريخ المديد على الانسان فوق هذا الكوكب، الا لحظات قليلة تجلى فيها عقله وسمى به الى ذروة الوعي، حيث عاد الى وطن نفسه بعد غربة متمادية، فعرف افاقها، واكتشف كنوزها، وتحرر من قيودها وحطم اصنامها المتمثلة في تقديس الغابرين، وتقليد الاخرين، وتطلع الى حيث الحقيقة المشهودة له بلا حجاب.

وليس ما نجده اليوم من حضارات بشرية شامخة نفتخر بها، او تقدم علمي عظيم ننعم بخيراته، الا ببركة تلك التجليات حيث انتفض العقل في بعض الناس، وفي بعض الحالات فقط.

اما في الحالات الاخرى فان الناس- اكثر الناس- تراهم في غيبة من عقولهم فماذا كانوا يفعلون؟ انما كانوا يتبعون الاخرين، اتباع الفصيل لأمه، فربما قلدوا السلف، وربما اطاعوا الكبراء، او انبهروا بتقدم الاخرين وغلبهم، فذابوا فيهم كما ذابت حبة الملح في محيط هائج.

ان نزعة الاتباع مغروزة في البشر، لا يكاد يتحرر منها، وان الخشية من عواقب التمرد، والهيبة من اقتحام المجهول، لتؤكدان فيه هذه النزعة.

والنفس الأمارة بالسوء.

والشيطان الغوي يزينان للإنسان سلبياته ويبرران له تخلفه، وطاعته للجبت والطاغوت.

وهكذا يعيش الانسان في نسيج من الافكار التبريرية.

الاعذار والتسولات ويصبح الانسان خصيما مبينا، كما يكون اكثر شيئا جدلا.

من ذلك افتراءه على ربه كذبا، فتراه يحرم بهواه على نفسه ما يخشاه او يهابه، وكذلك تجده يقدس تراث اباءه، وتقاليدهم، ويرى الخروج عليها هرطقة وكفرا.

هكذا يسمي هيبته من افتحام غمار الحياة، حكمة وتقوى، واحتياطا وحذرا.

لذلك فان الشعوب المتخلفة يهتمون بالحرام اكثر من اهتمامهم بالواجب وسلسلة المحظورات عندهم اعرض من قائمة الفرائض، وهم يميلون الى التوقف، لا الإقدام والى الجمود لا الكدح والعمل لأنهم لا يثقون بانفسهم، وانى لهم الثقة بها وهم لم يستثيروا عقولهم ومن لم يكتشفوا كنوز انفسهم وقدراتها، ولم يتمتعوا بلذة التحرر والانطلاق.

وقد ذكر الوحي بهذه البصائر المرة بعد الاخرى وردع الانسان عن اتباع الآباء، كما عن الافتراء على الله والقول كذبا بأنه حرم هذا وذاك بغير سلطان مبين.

فلما حرمت الجاهلية العربية، قبل الاسلام، كثيرا من الطيبات، نزل القرآن ليبين ان الله لم يحرمها فقال الله سبحانه: (ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب واكثرهم لايعقلون).

اما اليهود فقد حرموا على انفسهم كثيرا من الطيبات فردعهم الله عن ذلك قائلا: (كل الطعام كان حلا لبني اسرائيل الا ماحرم اسرائيل على نفسه من قبل ان تنزل التوارة قل فاتوا بالتوراة فاتلوها ان كنتم صادقين) وقد افرط النصارى في ذلك عندما ابتدعوا رهبانية وحرموا على انفسهم بها مجمل الطيبات فنزل الوحي منددا بهم وقائلا: (ثم قفينا على اثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الانجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم الا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين امنوا منهم اجرهم وكثير منهم فاسقون).

بلى، بسبب نقص حاد في الاحساس بالذات والمواهب الالهية التي منحها الرب.

ينكفأ الانسان الجاهلي على نفسه، ويتقوقع كآلية دفاعية عنها امام مشاكل الحياة، انه يهرب الى داخل ذاته، ويدس عقله في الاحلام والتمنيات، كالذي يغض طرفه امام النور.

وهذا الانكفاء يجعله يحد من تطلعاته، ويقتل حتى حاجاته الفطرية، ويجعل كل شئ على نفسه حراما لا زهدا فيها بل عجزا عن تحصيلها اوكسلا، في ذلك يقول الدكتور مصطفى الحجازي: (يحد الانسان المقهور من طموحاته- اذا - وذلك بان يتقبل مصيره، اويحاول ايهام ذاته بتقبل هذا المصير، ويغرق، في بؤسه الذي يتخذ عندها طابع القدر والنصيب (كتب عليه الشقاء) اللذين ليس الى تغييرهما من سبيل، وهو بالتالي يحد من مجالات نشاطه الى ابعد مدى ممكن، او يترك نفسه للظروف، تسير حياته في كل اتجاه ودون اتجاه لا يدري كيف سيكون غده، والى اين ستستقر به الامور، واقفا مما يلم به موقف المتفرج).

ويقول: في كل هذه الحالات - حالات فشل الانسان عن تحقيق طموحاته- يدير الانسان ظهره للعالم، يتعلم ان يقمع رغبته كي لا تثير في نفسه قلق الخواء.

وقد ينشأ عن الجاهلية- المتمثلة في رفض العقل- الحالة القشرية التي تدعو الفرد الى التمسك بالتقاليد والاعراف وحروف النصوص تمسكا شديدا وتجاهل روحها، وقيمها، والحكم والمصالح التي ورائها.

يقول الدكتور الحجازي: الانسان المتخلف كالمجتمع المتخلف، سلفي اساسا يتوجه نحو الماضي ويتمسك بالتقاليد والاعراف، بدل التصدي للحاضر والتطلع الى المستقبل.

ولعل سبب القشرية، وشدة اهتمام الانسان الجاهلي بالماضي، وجعله البديل عن الحاضر، انه لا يريد ان يتحمل مسؤولية التفكر، فيعوض بالتقليد ويحسب ان فكر الاخرين يغنيه عن تفكره، لذلك تراه يرتضي التقليد منهجا لحياته، ويجعل كل اهتمامه في فهم كلمات الذين يقلدهم، يقول الدكتور الحجازي: المجتمع التخلف مجتمع تقليدي جامد، متوجه نحو الماضي، يضع العرف كقاعدة للسلوك وكمعيار للنظرة الى الامور، والانسان المتخلف كائن تتحكم به التقاليد وتقيد كل حركة وانطلاقة نحو المستقبل لديه.

ويضيف: والتمسك بالتقاليد يشكل اولية دفاعية ضد قلق المسؤولية الذاتية فهي (التقاليد) بما يسبغ عليها من صفات القانون الطبيعي تتضمن تبريرا للعجز الذاتي عند الانسان المقهور، فاذا كان راضخا او فاشلا او بائسا، واذا كان عاجزا عن تحمل تبعة مصيره، والنهوض للتحديات التي تطرحها عليه علاقة القهر، وضرورة التحرر منها، فليس الذنب ذنبه، بل هو نظام الحياة التي قسم له دوره، وحدد له مكانته، والتمسك بالتقاليد يحمي الانسان المقهور من مشاعر الخزي الذاتي.

هكذا الانسان الجاهلي الذي فقد لبه، وروح وجوده، وفقد -بالتالي- احساسه بذاته وبمواهب الله له، يحتمي بظل التقاليد من خزي ذاته، ووخز ضميره ويلقي مسؤولية عذابه على الاقدار، انه انسان هارب خائف متردد.

والجاهلي البدائي- المتوغل في الجهالة- يعبد الحجر والشجر والانواء والنجوم، والشمس، والقمر، وكثيرا من الكائنات، ويحترمها ويكرمها ويفتدي بنفسه لها، لانه يخشاها، وينهزم نفسيا امامها ويخطب ودها عبر التسليم لها وتفديسها، ومن هنا، ومن اجل اعادة الانسان الى ذاته- كان ومن ابرزاهداف الرسالات الالهية- انقاذ الانسان من عبادة الجبت والطاغوت، كان ومن ابرز اهداف الرسالات الالهية- انقاذ الانسان من عبادة الجبت والطاعوت، وتحريره من الخشية والرهبة، والاستسلام امام الطبيعة، انى كانت، وامام البشر انى كانوا.

الاسلام دين التحرر والانطلاق:

والاسلام جاء تتويجا لرسالات الله ومهيمنة عليها، وقد حدد القرآن اهم اهداف الرسالة فقال سبحانه وتعالى: (الذين اتبعوا الرسول النبي الامي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم اصرهم والاغلال التي كانت عليهم فالذين امنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي انزل معه اولئك هم المفلحون) ترى كيف وضع الاسلام عن البشرية الاصر وفك عنهم الاغلال؟.

فيما يلي نسعرض الحقول التي تجلت فيها هذه الميزة الاساسية في الرسالة الالهية.

اولا: الاسلام رسالة التوحيد، وجوهر التوحيد رفض الشركاء والانداد، والكفر بالجبت والطاغوت، وقد وضع القران برنامجا تربويا فذا لانقاذ الانسان من رواسب الشرك، بدرجاته ابتداء من السجود للاصنام، وانتهاء بالرياء ومرورا بالطاعة العمياء لاولي الامر او الكبراء روالآباء.

ومن تخلص من الشرك لم يخش الا الله، ولم يرج سوى ربه، وتحرر - بالتالي- من الانطواء الذي يبرر الجبن والشح، ومن عقدة الحرام التي يغلفها البعض بالاحتياط على الدين وقيمه.

قال الله سبحانه: (الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون احدا الا الله وكفى بالله حسيبا).

(الذين قال لهم الناس ان الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم ايمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل).

ثانيا: وحين يطهر الاسلام القلب من دنس الشرك، والهيبة من الاشياء والاشخاص، او الخوف والحذر والجين والتردد..

يذكر الانسان بآفاق الحياة الرحيبة التي تنفتح امامه، كل شئ حلال وكل شئ طاهر، والحياة نعمة الهية، ورحمة الله تسبق غضبه، والكائنات خليقة الله، وهكذا..

يكرس في ضمير الانسان الروح الايجابية، والنظرة المتفاءلة.

تعالوا نتلو معا ايات من الذكر الحكيم ونتدبر فيها، ثم نتأمل في انفسنا لنرى كيق تغمرها روح التحرر وزخم الانطلاق..

قال ربنا سبحانه: (هو الذي انزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون* ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والاعناب ومن كل الثمرات ان في ذلك لاية لقوم يتفكرون* وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ان في ذلك لايات لقوم يعقلون).

(وما ذرأ لكم في الارض مختلفا الوانه ان في ذلك لاية لقوم يذكرون* وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون).

(والقى في الارض رواسي ان تميد بكم وانهارا وسبلا لعلكم تهتدون* وعلامات وبالنجم هم يهتدون* افمن يخلق كمن لايخلق افلا تذكرون* وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها ان الله لغفور رحيم).

الا تحس بأن، الطبيعة تبتسم في وجهك، وانها قد فتحت ايديها الرحيمة لاستقبالك، وان الرب الذي خلقها ويدبر امرها غفور رحيم، هذه هي البصيرة التي يلقيها القرآن في روعك، ترى كم هي ايجابية، وما مدى عنفوان زخمها، وقوة بعثها لنفسك وانهاضها لهمتك؟.

ثالثا: هناك دعوة الهية بالغة الصراحة بالانطلاق للانتفاع من الطبيعة، والتمتع بها، والانطلاق من نعمها المادية نحو الكمال الروحي..

لقد دعا القرآن الى السير في الارض للاعتبار والتزود بالعلم التجريبي قال سبحانه: (قل سيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين).

وامرنا بالانتشار في افاق الارض طلبا للرزق قال سبحانه: (هو الذي جعل لكم الارض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه واليه النشور).

(فاذا قضيت الصلاة فانتشروا في الارض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون).

ودعانا الى الأكل والشرب فقال: (يابني ادم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا انه لا يحب المسرفين).

واخرج التمتع بالجنس من اطار الحرمة او القذارة - كما كان الجاهلون يزعمون- الى افق الحياة، بل الى افق الدين فقال سبحانه: (نساؤكم حرث لكم فاتوا حرثكم انى شئتم وقدموا لانفسكم واتقوا الله واعملوا انكم ملاقوه وبشر المؤمنين).

وقال سبحانه: (اليوم احل لكم الطيبات وطعام الذين اوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم، والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين اوتوا الكتاب من قبلكم، اذا آتيتموهن اجورهن، محصنين غير مسافحين، ولا متخذي اخدان، ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله وهو في الاخرة من الخاسرين).

وقال سبحانه: (والمحصنات من النساء الا ما ملكت ايمانكم كتاب الله عليكم واحل لكم ما وراء ذلكم ان تبتغوا باموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فأتوهن اجورهن فريضة ولاجناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة ان الله كان عليما حكيما).

واجاز الانتفاع باكثر من امرأة فقال سبحانه: (وان خفتم الاتقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع وان خفتم الا تعدلوا فواحدة او ما ملكت ايمانكم ذلك ادنى الا تولوا).

رابعا: ولم يكتف بذلك وانما حذر من الانطواء، ومن الافكار التي حرمت زينة الله فقال سبحانه: (قل من حرم زينة الله التي اخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين امنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الايات لقوم يعلمون).

وقال سبحانه: (يا بني ادم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا انه لايحب المسرفين).

وقال تعالى: (يا ايها الذين امنوا لا تحرموا طيبات ما احل الله لكم ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين).

خامسا: اسس الوحي اصول عامة اصبحت اطارا للتفكير الديني وللفقه الاسلامي وقواعد للسلوك الاجتماعي، وهي التالية: قاعدة الحلية: قال الله سبحانه: (يا ايها الناس كلوا مما في الارض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان انه لكم عدو مبين).

وقال سبحانه: ( قل لا اجد في ما اوحي الي محرما على طاعم يطعمه الا ان يكون ميتة او دما مسفوحا او لحم خنزير فانه رجس او فسقا اهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فان ربك غفور رحيم).

قاعدة نفي الحرج: قال ربنا سبحانه: (وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة ابيكم ابراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فاقيموا الصلاة واتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير ).

قاعدة صحة المعاملات: قال الله تعالى: ( يا ايها الذين امنوا اوفوا بالعقود).

( الا ان تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم).

وقال سبحانه: (يسألونك ماذا احل لهم قل احل لكم الطيبات).

وقال تعالى: ( اليوم احل لكم الطيبات وطعام الذين اوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين اوتوا الكتاب من قبلكم اذا اتيتموهن اجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي اخدان ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله وهو في الاخرة من الخاسرين).

سادسا: ندد بقوة وبلا هوادة بأولئك الذين حرموا على انفسهم الطيبات افتراء على الله سبحانه، قال سبحانه: (ومن الابل اثنين ومن البقر اثنين قلء آلذكرين حرم ام الانثيين اما اشتملت عليه ارحام الانثيين ام كنتم شهداء اذ وصاكم الله بهذا، فمن اظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم ان الله لايهدي القوم الظالمين).

وتذكر آيات الوحي اكثر من مرة، وفي مناسبات شتى، بفضاعة الافتراء على الله، والتشريع باسمه سبحانه، وبالذات فيما يتصل بتحريم ما احل الله، مما يهدينا الى شيوع هذه الجريمة في امم كثيرة.

ولولا تتابع الايات في ذلك وتأكيدها المكرر على قبحه، لما اقلع الناس عنها لانها كانت قد اصطبغت بالقداسة المزيفة.

كل ذلك يدل على ان الانسان الجاهلي يميل نحو الانطواء والابتعاد عن الحياة، وتحريمها على نفسه، وانه لابد ان يجتهد المصلحون، حتى يردعوه عن هذه العادة السيئة، ويزرعوا -بدلا عنها- في نفسه حب الحياة، والانطلاق في رحابها الواسعة.

وفيما يلي نستعرض امثلة من ذلك: الف: في الاية 119 من سورة الانعام يستنكر الوحي الامتناع عن اكل بعض الحيوانات التي ذبحت بالطريقة الشرعية، ويؤكد ان المحرمات محصورة بما بينها الرب ويقول: (ومالكم الا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم الا ما اضطررتم اليه وان كثيرا ليضلون باهوائهم بغير علم ان ربك هو اعلم بالمعتدين).

ويكفيك تلاوة هذه الاية حتى تعرف كيف ينكر الوحي على أولئك البشر الذين ضلوا بأهواءهم، ينكر عليهم تحريم بعض الطعام على انفسهم فضيعوا متعة الدنيا، ولم يحصلوا على ثواب الاخرة، لانهم لم يتبعوا العلم بل تطرفوا، واعتدوا عن الصراط السوي.

باء: ونهى ربنا سبحانه عن التشدد في الدين بالاكثار من الأسئلة التي تسبب المزيد من التكليف، والذي يؤدي -بالتالي- الى الكفر قال سبحانه: (يا ايها الذين امنوا لاتسألوا عن اشياء ان تبدلكم تسؤكم، وان تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبدلكم، عفا الله عنها والله غفور حليم، قد سألها قوم من قبلكم ثم اصبحوا بها كافرين).

جيم: ثم اشار الى طائفة من الشرائع الجاهلية فنفاها وقال: (ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب واكثرهم لا يعقلون).

دال: وفي ايات مفصلات من سورة الانعام، يبيّن ربنا سبحانه مدى الخسارة التي الحقت بالكفار بسبب هذه التشريعات الجاهلية، قال ربنا سبحانه: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والانعام نصيبا، فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا، فما كان لشركائهم فلا يصل الى الله وما كان لله فهو يصل الى شركائهم ساء ما يحكمون).

(وكذلك زين لكثير من المشركين قتل اولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون).

وبعد ان نهى عن مجموعة من القوانين الجاهلية التي كانت سائدة يومئذ قال سبحانه: (قد خسر الذين قتلوا اولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين).

وهذه عاقبة الجهل، ان صاحبه يخسر دنياه حين يحرم نفسه الاولاد والاموال مما احله الله، كما يخسر آخرته لانه يفتري على الله بغير عليم، واي سفاهة اعظم من ذلك؟ وبعد ان يقيم الله حجته البالغة على المشركين يحدد المحرمات تحديدا لا يجوز تجاوزه، فيقول: (قل لا اجد فيما اوحي الي محرما على طاعم يطعمه الا ان يكون ميتة او دما مسفوحا او لحم خنزير فانه رجس او فسقا اهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فان ربك غفور رحيم).

بهذه البلاغة النافذة وبلا غموض او لبس يحدد ربنا المحرمات، ثم ينفي تحريم غيرها على اليهود، الذين لا يزالون يحرمون انفسهم من طيبات رزق الله، لان جدهم الاعلى يعقوب (اسرائيل) حرم على نفسه بعض الامور ثم يقول سبحانه: ( قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم اجمعين قل هلم شهداءكم الذين يشهدون ان الله حرم هذا فان شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع اهواء الذين كذبوا باياتنا والذين لا يؤمنون بالاخرة وهم بربهم يعدلون).

ان التحريم بحاجة الى حجة بالغة، والى شهادة صادقة، اما بدون ذلك فانه اتباع للهوى، وتكذيب بايات الله، وكفر بالاخرة، وشرك مبطن، لانه تشريع لم يأذن به الله.

ونستوحي من هذه الاية الكريمة، ان ما يدعو البعض الى الزيادة في الدين ليس المزيد من الايمان والتقوى، بل حالة التطرف -الاعتداء- التي هي ظاهرة نفسية - وليست هدى عقليا- ، وبالتالي يعتبرها الدين هوى يؤدي إلى الضلالة، وما ابتلي به اليهود من التزمت والغلو في الدين في بعض التفاصيل والمفردات، تورط النصارى فيه بالجملة وفي كل حقول الدين تقريبا.

فنهاهم القران عن ذلك وقال سبحانه: (يا اهل الكتاب لاتغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله الا الحق انما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته القها الى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم انما الله اله واحد سبحانه ان يكون له ولد له ما في السموات وما في الارض وكفى بالله وكيلا).

ويبدو ان النهي عن الغلو في الدين يشمل- باطلاقه وشمول مفهومه- جعل غير الله - انى كان- مصدرا ذاتيا للتشريع، مثلا جعل عيسى بن مريم مصدر الامر والنهي لا بصفته رسولا عن الله سبحانه، بل بصفته الذاتيه، حيث ان اليهود والنصارى اتخذوا احبارهم ورهبانهم اربابا من دون الله، فجعلوهم مشرعين من دونه، فنهاهم الله عن ذلك بقوله: (اتخذوا احبارهم ورهبانهم اربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا الا ليعبدوا الها واحدا لا اله الا هو سبحانه عما يشركون).

وفي معنى هذه الاية، ذكرت نصوص التفسير انهم لم يسجدوا لهم، ولكنهم اتبعوهم فيما شرعوا من احكام بخلاف ما امر الله.

وقد ابتدع النصارى الرهبانية التي تعني تحريم المزيد من الطيبات من الطعام والجنس والاثاث جملة واحدة، فنهاهم الوحي عن ذلك وقال سبحانه: (ثم قفينا على اثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الانجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رافة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم الا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فاتينا الذين امنوا منهم اجرهم وكثير منهم فاسقون).

وحين ندرس تاريخ سائر الاديان التي لا يزال الناس يتوارثونها مثل البوذية والبراهمية والكنفوسوسية وغيرها، نجدها ابتليت بهذه المشكلة حين فسرها المنتمون اليها، بعد عدة اجيال، تفسيرا انطوائيا بعيدا عن روحها الوثابة التي ابتدات بها هنالك تغرق الديانة، في سلسلة من التشريعات الانطوائية، التي تبعد اصحابها عن طيبات الحياة، وبالتالي عن الجهد من أجلها، وتلك نهاية الحضارات الدينية.

وحتى الحضارات التي انبثقت من ثقافة ارضية، تتحول مع الزمن الى اغلال، يرسف فيها، الذين يفسرون نصوصها بما يتوافق وروحهم الانطوائية البعيدة عن التحدي والانطلاق .

وباختصار، اننا نجد عند الشعوب المتخلفة ميلا نفسيا الى الانطواء، يتنامى بينهم عندما ينحسر عنهم الروح، وان كثيرا من التشريعات التي اضافها السابقون الى الدين الاسلامي هو من هذا القبيل.

الشريعة بين الحروف والحقائق:

كما هو معروف لمن رافقنا في دراستنا حتى الان تهدف احكام الشريعة تحقيق قيم سامية هي روحها ولبابها وحقائقها.

وعندما تعيش الامة او عناصر منها عنفوان الروح، فانهم يسلكون الى الحقائق طريق الاحكام، ويهتمون بمعاني الشريعة من خلال التزامهم بحدودها، يقيمون الصلاة اقامة ليس فقط بتلاوة آياتها وسبحاتها، واداء ركوعها وسجودها، وانما ايضا بالخشوع فيها، والاخبات بها، وتمثل روحها في حياتهم.

والزكاة طهارة لقلوبهم من الشح، والحج ذكر الله ذكرا كثيرا يصبغ حياتهم بصبغة التوحيد.

وهكذا سائر شرائع الاسلام يؤدونها كما انزلها بحدودها وحقائقها.

بينما الجيل المتخلف الذي يأتي من بعدهم، يضيع الصلاة، ويتبع الشهوات، فتراه يزداد اهتماما بحروف الاحكام، وحدود الشرائع، دون معانيها وحقائقها وقيمها.

وكلما ازداد عن المعاني بعدا التصق بالحروف، وجلعها هدفا لا وسيلة، فاذا صلى كان همه الإفصاح عن كلمات التلاوة، اكثر من اخبات قلبه بها، بل قد يكون ذلك، تعويضا عن ذلك، او تدري لماذا يزداد تمسك البعض بالحدود والحروف وربما القشور والهامشيات كلما ابتعد عن القيم والمعاني؟ انما للسبب التالي: ان فطرة الانسان مجبولة على الايمان بالله، والتمسك بهداه، ولا يستطيع البشر الانفلات من ضغط الفطرة الا بالخداع الذاتي، والتمسك بالقشور يوفر لصاحبه ذلك الخداع.

انك ترى مثلا، المشركين في مكة كيف تمردوا على رسالة النبي صلى الله عليه واله وسلم، ثم راحوا يعمرون مساجد الله، ويسقون الحاج، واعتبروا ذلك مثل الايمان والجهاد، فردهم القرآن وقال الله سبحانه عنهم: (اجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الاخر وجاهد في سبيل الله، لا يستون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين).

(الذين امنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وانفسهم اعظم درجة عند الله واولئك هم الفائزون).

وكذلك كانت اليهود، حينما اعترضوا على النبي صلى الله عليه واله وسلم تغيير القبلة فجاءت الاية الكريمة: (ولله المشرق والمغرب فاينما تولوا فثم وجه الله ان الله واسع عليم).

ثم ذكر السياق القراني في سورة البقرة موارد مما احله الله (وحرمه اليهود على انفسهم) وندد باتباع الأنداد من دون الله ثم قال سبحانه: (ليس البر ان تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من امن بالله واليوم الاخر والملائكة والكتاب والنبين واتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب واقام الصلاة واتى الزكاة والموفون بعهدهم اذ عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس اولئك الذين صدقوا واولئك هم المتقون).

ترى كيف ان استقبال هؤلاء لقبلتهم لم يسميه الذكر صلاة لانها لم تكن ذات صلة حقيقية بالله سبحانه، وانما كان عملا ظاهرا بعيدا عن سائر الواجبات التي تشكل بمجموعها روح الشريعة الغراء.

والملاحظ ان التضخم لا يكون عادة عند هؤلاء في القضايا العامة التي تحتاج الى تزكية النفس، والايثار، والجهاد، بل في الامور الثانوية التي لا تكلف جهدا ولا تشكل عليهم خطرا.

مثلا: لقد احل الله الطيبات من الرزق، ولكن حرم وشدد في تحريم ما يفرق ابناء المجتمع عن بعضه، مثل التنابذ بالالقاب، والتجسس، وسوء الظن والغيبة، ولكن الناس استهانوا بهذه المحرمات رغم تأكيد الوحي على النهي عنها، بينما اهتموا بالمحرمات حتى اضافوا الى قائمتها بعض الطيبات وهكذا قال الله سبحانه: (يا ايها الذين امنوا اجتنبوا كثيرا من الظن ان بعض الظن اثم ولاتجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا ايحب احدكم ان ياكل لحم اخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله ان الله تواب رحيم يا ايها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم ان الله عليم خبير).

وبعد هاتين الايتين يصعقنا السياق بآية بالغة الشدة، حيث يقول ربنا سبحانه: (قالت الاعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا اسلمنا ولما يدخل الايمان في قلوبكم، وان تطيعوا الله ورسوله لايلتكم من اعمالكم شيئا ان الله غفور رحيم).

الا تجد علاقة بين هذه الايات الثلاث؟ الايهدينا سياقها المشترك الى ان تجاوز العصبية القومية والفئوية وسائر الحواجز التي تفرق بين ابناء البشر هو مقياس الايمان الحق، وليس الادعاء بالايمان ادعاء فارغا، وهكذا نعرف ان الاهتمام بهذا الجانب هو دليل الايمان وهو روح الاسلام، وليس تحريم الطيبات من الرزق و الاهتمام بكلمات التلاوة ورسوم العبادة فقط.

وفي سورة النور وعند بيان قصة الافك، واشاعة الاراجيف التي تمزق وحدة المجتمع، او تضعف ولاءه لقيادته، يقول ربنا سبحانه: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والاخرة لمسكم في ما افضتم فيه عذاب عظيم، اذ تلقونه بالسنتكم وتقولون بافواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم).

وهكذا ترى كيق يستهين الانسان بالكبائر التي هي عند الله عظيم، بينما قد تجده يهتم كثيرا ببعض الحدود او الرسوم ذات الاهمية الثانوية، وقد يبالغ فيها حتى يفتري على الله كذبا.

ولعلنا نستلهم من الاية التالية هذه المفارقة عند البعض حيث نتلو في سورة الحج قوله تعالى: (ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه واحلت لكم الانعام الا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من الاوثان واجتنبوا قول الزور).

فمن حرم على نفسه بعض الانعام، ثم اشرك بالله بعبادة الاوثان الحجرية او البشرية، فانه قد ضل ضلالا بعيدا، لانه غير وجهة الفطرة الدينية، فلم تعد تنفعه او تردعه عن باطله، انه ضل الطريق وهو يحسب انه على هدى مستقيم وجاء في الحديث الشريف ما يؤيد هذا: اقسم بالله سمعت رسول الله صلى الله عليه واله يقول: (ان الشيطان اذا حمل قوما على الفواحش مثل الزنا وشرب الخمر والربا وما اشبه ذل من الخنى والماثم، حبب اليهم العبادة الشديدة والخشوع والركوع والخضوع والسجود، ثم حملهم على ولاية الائمة الذين يدعون الى النار).

الفصل الثاني:الاحتياط في الدين

الاحتياط بين التقوى والجمود:

ولعل البعض يندفع نحو التطرف في طقوس دينية معينة بحافز التقوى، فيزعم ان تشديده على نفسه علامة زيادة النقص، ولكن عليه ان يتذكر، ان الدين بناء رصين متكامل الابعاد لايجوز الاخذ ببعضه وترك البعض الاخر، فهناك العبادات التي لايجوز التفريط فيها،.

وهناك الفرائض العامة كاداء حقوق الله المالية، حقوق الامة والدفاع عن مقياسات الدين.

والامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهناك المسؤوليات الاجتماعية، حيث يجب الكدح من اجل الحصول على المال الحلال ، والاجتهاد في صرفه بالمنهج الشرعي.

وهناك واجبات اخلاقية لايجوز اهمالها، كصلة الرحم، واداء حقوق الجوار والدفاع عن حق المحروم و المستضعف وغيرها، وهكذا.

فمن اراد التقرب الى الله، والتزود بالتقوى بكل ما استطاع اليه سبيلا، فعليه ان يجتهد في تطبيق كل الدين، وهناك يعرف انه بالكاد يستطيع ان يلتزم بالواجبات ويتجنب المحرمات مع بعض السنن فقط.

جاء في الحديث ان الامام عليا عليه السلام راى نجله الامام الحسن عليه السلام مجتهدا في العبادة فقال له.

(يابني ان هذا الدين متين فاوغل فيه برفق).

هكذا كانت متانة الدين توجب الحذر من التطرف في بعض جوانبه على حساب غيرها.

الايات القرانية التالية لا يطبقها الا الذين ينظرون الى الدين بشمولية كقوله سبحانه: (فاتقوا الله ما ستطعتم واسمعوا واطيعوا وانفقوا خيرا لانفسكم، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون).

(وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة ابيكم ابراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة واتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير).

(واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم واخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف اليكم وانتم لا تظلمون).

ماذا يعني الاحتياط في الدين؟ وهذا احد ابرز مصاديق الاحتياط في الدين، وهو وعي الدين بحقيقته، ثم تطبيقه كله، ومخالفة الهوى، هوى النفس، واتباع هدى الشريعة، وقد تهوي النفس التطرف، او الاستخفاف، او التطرف في جانب والاستخفاف بجانب اخر، وقد يزين الشيطان للانسان الاشتغال بالصلاة عن اداء واجب الجهاد والاهتمام بحروف القران دون معانيه ومن معانيه اجتناب الطاغوت، واقامة حكم الله في الارض، والجهاد في سبيل الدعوة الى الله.

وعلى هذه قد تحمل الروايات التي شددت علينا امر الدين واكدت الاهتمام به، مثل قوله عليه السلام: (اخوك دينك فاحتط لدينك).

ولكي نحتاط للدين ، لابد ان نتجنب المزالق التي تنتهي الى الحرام، انك تستطيع ان تعيش في منطقة مؤمنة، وتحيط نفسك باصدقاء صالحين، وتتلو القران، والكتب النافعة، كل ذلك يعطيك حصانة عن التورط في الذنوب، بينما اذا عشت في بلد كافر، وبين اصدقاء سوء، وكتب ضلال، فقد عرضت نفسك للذنب، من هنا امرتنا الاحاديث باجتناب الشبهات، وهي التي يختلط الحرام فيها بالحلال، حكما اوموضوعا جاء في الحديث عن الامام امير المؤمنين عليه السلام: (حلال بين، وحرام بين، وشبهات بين ذلك فمن ترك ما اشتبه عليه من الاثم فهو لما استبان له اترك، والمعاصي حمى الله فمن يرتع حولها يوشك ان يدخلها).

و في حديث مأثور عن الامام الباقر عليه السلام عن جده الرسول صلى الله عليه واله قال: ( من رعى غنمه قرب الحمى، نازعته نفسه الى ان يرعاها في الحمى، الا وان لكل ملك حمى، و ان حمى الله محارمه).

و هذه النصوص ترشدنا الى ضرورة الجدية في تنفيذ احكام الشريعة لا الزياده فيها، بل عدم الاستهانة بها، كما يفعل المستخفون بصلاتهم الذين يقول عنهم ربنا سبحانه: (ويل للمصلين* الذين هم عن صلاتهم ساهون).

فان السهو في الصلاة، والاستخفاف بها، اوجب التقريع، كذلك لايجوز التهاون في سائر الفرائض، فهي وارده في اطار تنفيذ الاحكام لا تشريعها مما يسمى بالاحتياط العملي: الاحتياط العملي: و الاحتياط العملي يرتبط بواقع الفرد وليس بالتشريع العام، مثله مثل سائر القواعد الثانوية( التي جاءت للطواريء) مثل قاعدة الضرر، او قاعدة العسر و الحرج، وبعض موارد الاصول العملية، كالبراءة والاستصحاب، هذه القواعد لايجوز ان نستنبط منها احكاما عامة لكل المسلمين، بل للذي ابتلي بها فقط، فاذا كان التكليف مسببا للحرج بالنسبة الى عشرين رجلا، لا ينسحب على الفرد الواحد و العشرين، اذا لم يكن بالنسبة اليه بالذات مسببا للحرج، كذلك الاحتياط لايجوز ان يكون منشأ لحكم شرعي عام، بل لحكم شرعي خاص بمن تشمله حالة الاحتياط فقط.

فالاحتياط شرع كأسلوب لتطبيق الاحكام الشرعية، وليس كمنهج تشريع، لذلك يختص بالافراد، حيث ينبغي ان يتثبت كل فرد من الاحكام الشرعية ، ومن موضوعاتها الخارجية، ولا يستخف بالاحكام فيأخذها من المصادر المشكوكة، ولا يجوز له ان يستهين بطريقة اجرائها و تنفيذها فيقتحم الشبهات.

و يبدو ان الاحاديث التي امرت بترك الشبهات تعود الى هذا الجانب، حيث انك لاينبغي ان تاكل مالا لاتعرف انه لك، ولا تصلي الى جهة لا تعرف انها القبلة، ولا تعادي شخصا لاتعرف بالضبط انه فاسق او ما اشبه.

ذلك لان الاسلام دين العلم.

و يعتمد في احكامه عليه، سواء في اصل اثبات الاحكام، او في منهج تطبيقها.

الاحتياط في الفتيا: اننا نقرء ايات كثيرة في كتاب ربنا تأمرنا بالتثبت و الاستبانة، وتنهانا عن اتباع الظن، والشائعة، وكل السبل غير العلمية، قال سبحانه: ( ولاتقف ماليس لك به علم ان السمع و البصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسئولا).

وقال تعالى: ( يا ايها الذين امنوا ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ان تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين).

وقال سبحانه: ( ان هي الا اسماء سميتموها انتم وآباؤكم ما انزل الله بها من سلطان ان يتبعون الا الظن وما تهوى الانفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى، ام للانسان ما تمنى، فلله الآخرة والاولى، وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا الا من بعد ان يأذن الله لمن يشاء ويرضى، ان الذين لايؤمنون بالاخرة ليسمون الملائكة تسمية الانثى، وما لهم به من علم ان يتبعون الا الظن وان الظن لايغني من الحق شيئا).

واذا لم يصل القلب الى حالة السكينة والطمأنينة، فان الموضوع يكون في مستوى الشبهة والظن وكثير من احاديث الاحتياط - التي اتخذها البعض دليلا على توسيع دائرة الشرع- لا تامر ألا ما امرت به هذه الايات الكريمة، وهو التثبت من الحكم الشرعي قبل الافتاء به، لا توسيع دائرته، لان التثبت كما يتم في اثبات حكم كذلك يتم في نفي حكم، دعنا نقر معا بعض تلك الروايات:( الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات).

وزاد عليه في حديث اخر: ( ان على كل حق حقيقة وعلى كل صواب نورا، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه).

وفي حديث ثالث: ( انه لايسعكم فيما نزل بكم مما لاتعلمون الا الكف عنه، والتثبث والرد الى ائمة الهدى، حتى يحملوكم فيه الى القصد، ويجلوا عنكم العمى وعرفوكم فيه الحق، قال الله: فاسألوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون).

لذلك قال العلامة الانصاري بعد ذكر هذه الاحاديث وتفنيد استدلال البعض بها على ضرورة الاحتياط في التشريع قال: وبعضها وارد في مقام النهي عن ذلك (المضي في الشبهة) لاتكاله في الامور العملية على الاستنباطات العقلية الظنية.

ومن هنا فان الميل النفسي نحو التشديد في الدين، وبالذات في جوانب معينة منه، ثم الفتوى على اساسه يتنافى في هذه النصوص التي امرت بالتثبث في امر الدين،و البحث بجدية تامة، حتى يتبين الحكم الالهي، اما ان نبادر الى تحريم امور، او النهي عنها، فانه عين الاقتحام في الشبهات.

ويظن البعض ان التحريم واختيار اخذ جانب النهي، موافق للتوقف حتى يتم التثبث، وقد فاته ان المراد من التوقف، هو الكف عن اصدار حكم شرعي، فهو توقف علمي، وليس توقفا عمليا، والا لم يكن يسمى توقفا، بل كان تحريما، وكان بمثابة ان يقال: كل شئ حرام لايجوز ممارسته، الا ما عرف انه حلال، وهذا مخالف لما هو معروف من الشريعة السمحاء.

البدعة والتكلف:

والنصوص التي انكرت البدعة والمبتدعين تدل هي الاخرى على حرمة الزيادة في الدين، وتوسيع دائرة التشريع انطلاقا من الهوى، او اتباعا لضغط، او حتى عملا بالاحتياط.

وقد اتخذ البعض هذه النصوص غطاء لتحريم كل شئ، والتشديد في الدين، وبالتالي، الابتداع فيه، مما يدل على ان التفسير الخاطئ للدين قد يقلب الحقائق رأسا على عقب ويجعل حتى النصوص التي جاءت لمعالجة مرض نفسي او منهج اجتماعي عرضة للتأويل حتى تبدو وكأنها تؤديهما..

لان الروح اذا فسدت فسد كل شئ في الانسان ونتساءل: ماهو المعنى الصحيح للبدعة، وماذا تريد ان تعالجه الاحاديث الورادة في هذا الحقل؟ للاجابة تعالوا نرجع الى القران الكريم، الذي اليه يرد علم الدين كله ونستوحي منه تغير كلمة البدعة وحكمها والاية الوحيدة التي بينت بصراحة حرمة البدعة (بهذا النص) هي الاية التالية: ( ثم قفينا على اثارهم برسلنا، وقفينا بعيسى ابن مريم، وآتيناه الانجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة، ورهبانية ابتدعوها، ما كتبناها عليهم الا ابتغاء رضوان الله، فما رعوها حق رعايتها، فآتينا الذين امنوا منهم اجرهم وكثير منهم فاسقون).

وهذه البدعة تتصل بتحريم النصارى على انفسهم اكثر الطيبات باسم الدين والتي نفاها الاسلام بصراحة وقد روي النبي صلى الله عليه واله وسلم عنها حين قال: (لارهبانية في الاسلام).

(رهبانية امتي الجهاد).

ويبدو ان كلمة البدعة من الناحية اللغوية تطلق على الاضافة وليس على النقصان، ولكن اضافة منسوبة الى الدين، تأمل في الحديث الشريف: ( اذا ظهرت البدع في امتي فليظهر العالم علمه، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله) .

( وما احدثت بدعة الا ترك بها سنة، فاتقوا البدع و الزموا المهيع، ان عوازم الامور افضلها و ان محدثاتها شرارها).

( اياك ان تستن سنة بدعة، فان العبد اذا سن سنة سيئة لحقه وزرها ووزر من عمل بها).

فالذي يظهر من هذه الاحاديث ان البدعة اضافة الى الدين، ولاريب ان تحريم شيء او ايجاب شيء، يعتبر زيادة في الدين، و يلحق بالبدعة.

قال العلامة المجلسي في بيان معنى كلمة البدعة، التي وردت في الاحاديث: البدعة كل رأي، او دين، او حكم او عبادة، لم يرد (نص) من الشارع بخصوصها ولا في ضمن حكم عام.

وجاء في حديث شريف عن امير المؤمنين علي عليه السلام في معنى السنة والبدعة (السنة: ما سن رسول الله، والبدعة ما احدث من بعده والجماعة اهل الحق وان كانوا قليلا والفرقة اهل الباطل وان كانوا كثيرا).

وفي ذلك يقول الكاتب علال الفاسي: ان البدعة الشرعية لاتشمل الا مايقع في امر الدين مع قصد معناها في الشريعة.

وعليه فالعاديات (الامور الحياتية المعتادة) ليست من البدع وان كانت واقعة على غير مثال سابق.

ويحكي عن الشاطبي قوله: وانما قيدت بالدين، لانها فيها تخترع، واليه يضيفها صاحبها، وايضا فلو كانت طريقة مخترعة في الدنيا على الخصوص (أي دون النسبة الى الدين) لم تسم بدعة، كأحداث الصنائع والبلدان التي لاعهد بها فيما تقدم ووصفها بالاختراع على اعتبار انها لااصل لها في الدين، فلو كان لها اصل لم تسم بدعة.

ويضرب الفاسي مثلا على ذلك بما يفعله دراويش الهنود، وبعض متطرفي الرهابنة المسيحيين، مثل الاقتصاد على نوع خاص من المآكل والمشارب المباحة، ومواصلة الصيام مع القيام ومد اليد في الشمس.

وهكذا نعرف ان حرمة البدعة انشأت سياجا عاليا حول الدين لكي لايضاف اليه شيء جديد وفي ذلك يقول الفارسي: والغاية من تحريمها هو البعد عن الزيادة في الدين ماليس منه، وذلك ما شنع الله على الكافرين وروءسائهم حين قال: (ام لهم شركاء شرعوا لهم من الدين مالم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم وان الظالمين لهم عذاب اليم).

واضاف: وهذا الوجه الذي ذكرناه هو مسلك السلفيين المصلحين وعليه بنى الامام الشاطبي كتابه (الاعتصام) وفي مقابل هذا الوجه يذكر وجها يرى ان البدعة كل شيء جديد ثم يقسمها الى اقسام من الاحكام الخمسة ثم يقول: ولكن منهج السلفيين اولى، لانه لايترك مجالا لتبرير المبتدعات في الدين.

ونستفيد هذا المعنى للبدعة من روايات اهل البيت عليهم السلام فقد جاء عن الامام الصادق عليه السلام وقد سأله صاحبه الحلبي وقال له: ما ادنى مايكون به العبد كافرا؟ فأجاب الصادق عليه السلام.

ان يبتدع شيئا فيتولى عليه ويبرأ ممن خالفه.

ومعنى التولي والتبري، اعتبار البدعة معيارا دينيا كأن يشكل احد حزبا ثم ينسبه الى الدين ويرى ان من لاينتمي اليه فهو غير ملتزم بالدين، وان من ينتمي أليه فهو ملتزم انى كانت اعماله.

وكثيرا ماتكون البدعة ذريعة لكثرة العمل، ولكنه عمل لاينفع صاحبه شيئا، لانه في اطار البدعة ولذلك جاء في حديث شريف: (عمل قليل في سنة، خير من عمل كثير في بدعة).

وهكذا حدد الاسلام منهج التقرب الى الله باتباع السنة، اما ان يضيف المرء شيئا الى الدين، ثم يتعبد به فانه لايجديه نفعا حتى ولوا اجتهد في عمله هذا ايما اجتهاد.

وامر الدين بمحاربة اهل البدع.

ومحاصرتهم اجتماعيا حتى لاتنتشر بدعهم فجاء في الحديث الشريف: من اتى ذا بدعة فوقره فقد سعى في هدم الاسلام.

وامر العلماء بالتصدي للبدع حتى تفتضح، فجاء في الحديث الشريف: عن يونس بن عبد الرحمن قال: روينا عن الصادقين -عليهم السلام- انهم قالوا: اذا ظهرت البدع فعلى العالم ان يظهر علمه، فان لم يفعل سلب نور الايمان.

وجاء في عقاب الاعمال للشيخ الصدوق (رقم 1044).

1-قال الامام الصادق- عليه السلام-: كان رجل في الزمن الاول طلب الدنيا من حلال فلم يقدر عليها وطلبها من حرام فلم يقدر عليها، فأتاه الشيطان فقال له: يا هذا انك قد طلبت الدنيا من حلال فلم تقدر عليها وطلبتها من حرام فلم تقدر عليها افلا ادلك على شيء تكثر به دنياك ويكثر به تبعك؟ قال: بلى.

قال: تبتدع دينا وتدعو اليه الناس.

ففعل، فاستجاب له الناس فاطاعوه، واصاب من الدنيا، ثم انه فكر فقال: ما صنعت، ابتدعت دينا ودعوت الناس، ما رأى لي توبة الا آتي من دعوته اليه فارده عنه، فجعل يأتي اصحابه الذين اجابوه فيقول: ان الذي دعوتكم اليه باطل، وانما ابتدعته، فجعلوا يقولون: كذبت وهو الحق ولكنك شككت في دينك فرجعت عنه.

فلما رأى ذلك عمد الى سلسلة فوتد لها وتدا، ثم جعلها في عنقه وقال: لا احلها حتى يتوب الله تعالى علي، فأوحى الله تعالى الى نبي من الانبياء، قل لفلان: وعزتي لو دعوتني حتى تنقطع اوصالك، ما استجبت لك حتى ترد من مات الى ما دعوته اليه فيرجع عنه.

ومحاربة الاسلام للبدعة لاتعني توقف مسير التطور والتقدم في الامة، انما العكس تماما هو الصحيح، اذ ان الاضافات التي يزيدها كل جيل في الدين، ثم يجعلها من الدين تشكل عقبة في طريق التقدم والتطوير، اما اصل الدين وسننه فهي صالحة لكل زمان.

ويزعم البعض ان الدين يمنع أي تطور لانه يصبح بدعة، كلا انما نسبة أي شيء مستحدث الى الدين هي البدعة والا فان الدين الاسلامي، لايمنع التطوير في الحياة بما لايخالف حقائق الدين والقيم السامية التي امرالله بها سبحانه.

هل يمنع الاسلام ركوب السيارة لتحقيق هدف مشروع؟ كلا.

ولكن ان تركب السيارة وترى انه جزء من الدين وتمنع تغييرها بالطيارة غدا.

ان ذلك من البدعة، كذلك ليس من البدعة استخدام الاذاعة لبث الدعوة، انما البدعة ان تعتبر اعواد المنبر جزء من الدعوة الى الله.

وليس من البدعة ان تبتكر تنظيما عصريا لخدمة الامة، ولكن من البدعة ان تنسب ذلك الى الدين وتكفر من لاينتمي اليه.

وليس من البدعة ان تسن قانونا للمرور حسب المصالح العامة اما ان تقول انه جزء من الدين وانه لاولن يتغير فهو من البدعة.

وهكذا كان النهي عن البدعة مانعا عن الجمود والتحجر، ويبعث الامة نحو التطوير ابدا، ضمن قيم الشريعة دون أي توقف عند منعطف معين، لان هذا التوقف اذا نسب الى الدين فهو بدعة مرفوضة.

وهكذا اقترنت البدعة في نصوصنا باتباع الهوى، او باتباع الطغاة، او بإدعاء امامة الناس بغير حق، مما يعتبر جميعا اضافة الى الدين، وبالتالي سببا لتجميد الحياة.

جاء في تفسير قوله تعالى: ( ان الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ انما امرهم الى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون).

جاء: (هم اصحاب البدع، واصحاب الاهواء ليس لهم توبة انا منهم بريء وهم برآء).

تصوروا كيف يختلف المسلمون عن بعضهم؟ هل هناك اختلاف في اصول الدين ومبادئ الوحي؟ لا انما الاختلاف في تفسير هذه المباديء وتطبيق تلك الاصول على المتغيرات، فاذا فسر كل واحد منهم النصوص حسب رأيه ثم نسبه الى الدين وقال: هذا هو الدين ولاغير فقد ابتدع، وافترى على الله كذبا.

وجاء في حديث آخر ما يدل على ان كثرة العاملين بالبدعة، لاتجعلها سنة، فان لفهم مقاصد الشريعة واحكامها طرقا معروفة ليس منها شيوع نسبة الشيء الى الدين، واشتهار العمل به.

ولهذا يدعو الدين الفقهاء العدول، والصلحاء والدعاة الى الله سبحانه الى رفض البدع التي تنتشر بين العوام من دون خوف من تفرقهم عنهم، الا ترى كيف تسبب سكوت علماء النصارى عن بدع التثليث، ورواسب الشرك اليونانية، التي دخلت في المسيحية، تسبب سكوتهم عنها، في تحريف واحد من اعظم الديانات السماوية، وضلالة مئات الملايين من البشر عن دين الله الحق.

لذلك جاء في الحديث: اما اهل البدعة.

فالمخالفون لامر الله وبكتابه ورسوله العاملون برأيهم وأهوائهم، وان كثروا.

وفي حديث آخر: من دعا الناس الى نفسه وفيهم من هو اعلم منه فهو مبتدع ضال.

والسؤال: لماذا كان من دعا الناس الى نفسه مبتدعا اذا كان في الامة من هو احق منه بالامر؟ الجواب- فيما يبدو لي- ان منصب القيادة في الامة الاسلامية، منصب الهي، وانما يتبع الناس القائد لانه يمثل الرسول وآل بيته المعصومين- عليه وعليهم السلام- فالتصدي للمنصب يعني: دعوة الناس الى نفسه باسم الدين، فاذا كان في الامة من هو احق منه، علما وزهدا وكفاءة، يعتبر هذا التصدي نوعا من الافتراء على الله، اذ ان الله لم ينصبه قائدا، بل نصب من هو احق منه، فكيف يدعي ان الله اجتباه، انه يكون آنئذ كمن يدعي منصب النبوة او الامامة بغير حق.

التكلف في الدين: والتكلف في الدين سبب من اسباب البدع، حيث ان البعض يتطرف في بعض ابعاد الدين (السهلة او المنسجمة مع نفسيته او ظروفه) وعلى حساب سائر ابعاده الاساسية، فيدعوه ذلك الى تضخيم هذا الجانب ببعض الامور المبتدعة.

لذلك جاء في الحديث الشريف عن امير المؤمنين علي بن ابي طالب (ع) قال: قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: ان الله تعالى حد لكم حدودا فلا تعتدوها وفرض عليكم فرائض فلا تضيعوها، وسن لكن سننا فاتبعوها، وحرم عليكم حرمات فلا تنتهكوها، وعفى لكم عن اشياء رحمة منه من غير نسيان، فلا تتكلفوها.

والتكلف في الدين يبعث على التشدد فيه وذلك اقتراح شعائر جديدة وطقوس مستحدثه ثم نسبتها الى اصل الدين، وقد نهى الاسلام عن الافتراء على الله.

اليس وهذا التكلف يدعو الى البدعة، والبدعة تدعو الى الضلالة، والضلالة في النار؟ قال ربنا سبحانه: ( قل ما اسألكم عليه من اجر وما انا من المتكلفين، ان هو الا ذكر للعالمين، ولتعلمن نبأه بعد حين).

وجاء في الحديث المأثور عن الامام الصادق عليه السلام: (المتكلف مخطئ وان اصاب، والمتطوع مصيب وان اخطأ، والمتكلف لا يستجلب في عاقبة امره الا الهوان، وفي الوقت الا التعب والشقاء، والمتكلف ظاهره رياء وباطنه نفاق فهما جناحان يطير بهما المتكلف).

علماء السوء والتكلف في الدين: يهتم علماء الاسلام الربانيون باصلاح النفس، وتزكية الباطن، وحماية روح الاسلام من الدجالين والمزورين، بينما علماء السوء يهتمون فقط بالمظاهر، ويتركون القيم السامية عرضة لانتهاك الطغاة.

الذين يشتركون معهم في استلاب المحرومين حقوقهم، ويعيشون حياة البذخ على حساب المستضعفين.

وقد سبق الحديث حول مايتميز به جيل الضياع والتخلف من التشدد في بعض مظاهر الدين، وتوسيع نطاقها، على حساب التغافل عن روحه وقيمه، ونسوق هذه طائفة من النصوص لنزداد هدى، ولعلنا نتجنب مثل هذه المزالق الشيطانية.

جاء في الحديث على لسان نبي الله عيسى بن مريم عليه السلام الذي كان يخاطب علماء اليهود المهتمين جدا بالمظاهر على حساب القيم فقال: (ياعبيد السوء تلومون الناس على الظن ولاتلومون انفسكم على اليقين.

يا عبيد الدنيا تحلقون رؤوسكم وتقصرون قمصكم وتنكسون رؤوسكم، ولا تنزعون الغل من قلوبكم.

ياعبيد الدنيا مثلكم مثل القبور المشيدة يعجب الناظر ظهرها، وداخلها عظام الموتى مملوءة خطايا.

ياعبيد الدنيا انما مثلكم كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه).

وجاء في حديث شريف: (اقسم بالله سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ان الشيطان اذا حمل قوما على الفواحش، مثل الزنا، وشرب الخمر، والربا، وما اشبه ذلك من خنى والمآثم، حبب اليهم العبادة الشديدة، والخشوع والركوع والخضوع والسجود، ثم حملهم على ولاية الائمة الذين يدعون الى النار).

وجاء في حديث مأثور عن الامام الرضا عليه السلام:( اذا رأيتم الرجل قد حسن سمته وهديه وتماوت في منطقه، وتخاضع في حركاته، فرويدا لايغرنكم، فما اكثر من يعجزه تناول الدنيا وركوب الحرام منها لضعف فيه ومهانته، وجبن قلبه، فنصب الدين فخا لها، فهو لايزال يختل الناس بظاهره، فان تمكن من حرام اقتحمه).

الشريعة السمحاء: من صفات الشريعة الاسلامية انها سمحاء.

فماذا تعني هذه الصفة؟ وما هي افاق السماحة في الدين؟ وهل السماحة تعني اطارا لفهم الدين، ومنهجا لتفسيره؟ تعالوا نتلو معا ايات الذكر: (شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا او على سفر فعدة من ايام آخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ماهداكم ولعلكم تشكرون).

وقال سبحانه: ( ياايها الذين امنوا اذا قمتم الى الصلوة فاغسلوا وجوهكم وايديكم الى المرافق وامسحوا برؤوسكم وارجلكم الى الكعبين وان كنتم جنبا فاطهروا وان كنتم مرضى او على سفر او جاء احد منكم من الغائط او لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وايديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون).

وقال سبحانه: (لا يكلف الله نفسا الا وسعها لها ماكسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا ان نسينا او اخطأنا ربنا ولا تحمل علينا اصرا كما حملته على الذين من قبلنا ولاتحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا انت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين).

وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (رفع عن امتي تسعة، الخطاء، والنسيان، وما اكرهوا عليه، ومالا يطيقون، ومالا يعلمون، وما اضطروا اليه، والحسد، والطيرة، والتفكر في الوسوسة في الخلق مالم ينطق بشفه).

وعندما تسبب سمرة بن جندب ضررا على الانصاري لسوء استخدامه لحقه في رعاية عذقة قال النبي للانصاري: اذهب فاقلعها وارم بها اليه فانه لاضرر ولاضرار).

حين ننظر الى هذه النصوص تعطينا منهجا في فهم الدين يميل الى اليسر لا العسر و الحراج، والى البراءة لا التكليف والاشتغال، والى التحرر والانطلاق لا الانطواء والانغلاق.

لقد استفاد فقهاءنا رضوان الله عليهم كثيرا من القواعد الاصولية من هذه النصوص، كأصل البراءة، واصل الاباحة، وقاعدة نفي العسر، الحرج والضرر وما اشبه، الا اننا حين نجمعها الى بعضها وننظر اليها نظرة شمولية وتكاملية نستفيد منها اكثر من ذلك، الا وهو ان الدين الاسلامي لايدعو الى التكلف والتشدد والانطواء والانغلاق بعكس ما فهمه البعض.

وقد جاء في القرآن في صفة الرسول- صلى الله عليه وآله وسلم- انه جاء ليضع عن الناس اصرهم والاغلال التي كانت عليهم قال الله سبحانه: ( الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل يامرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم اصرهم والاغلال التي كانت عليهم فالذين امنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي انزل معه اولئك هم المفلحون).

وقد قرأنا في آية مباركة كيف سأل المؤمنون ربهم الا يحمل عليهم اصرا كما حمله على الذين من قبلهم.

واستحباب لهم عندما بعث الرسول ليضع عنهم اصرهم، وهكذا جاءت الرسالة الخالدة سمحاء ميسورة بلا تكلف.

وهكذا جاءت النصوص تترى في اصل الاباحة المطلقة( الا عند وجود حجة بالغة) واصل الطهارة، واصل البراءة، واصل تغليب الحلال على الحرام عند الاختلاط.

ونضرب فيما يلي بعض الامثلة ومن اراد التفصيل فليراجع المصادر التي اعتمدنا عليها.

عن الامام الصادق عليه السلام: (كل شيء يكون فيه حرام وحلال فهو لك حلال ابدا حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه).

وجاء عن العالم الكبير البزنطي، وقد سأله صاحبه: عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبة فراء، لايدري أذكية هي ام غير ذكية، ايصلي فيها.

فقال: نعم ليس عليكم المسألة، ان ابا جعفر (الباقر(ع)) يقول: (ان الخوارج ضيقوا على انفسهم بجهالتهم، ان الدين اوسع من ذلك).

وروي عن الامام الصادق عليه السلام: (كل شيء مطلق حتى يرد فيه نص).

وعنه عليه السلام: ان عليا كان يقول: (ابهموا ما ابهمه الله).

وعن الصادق عليه السلام: ( الاشياء مطلقة مالم يرد عليك امر ونهي، وكل شيء يكون فيه حلال وحرام فهو لك حلال ابدا مالم تعرف الحرام منه فتدعه).

من هنا نقل العلامة الانصاري كلمات فقهائنا رضوان الله عليهم التي استوحى منها الاجماع على اصل البراءة فقال: انك لاتكاد تجد من زمان المحدثين (في القرآن الثالث والرابع الهجريين حيث كانوا يعتمدون فقط على الاحاديث) الى زمان ارباب التصنيف في الفتوى (امثال السيد المرتضى والشيخ المفيد والشيخ الطوسي) لاتجد منذ اصحاب الحديث حتى اصحاب الفتوى من يعتمد على حرمة شيء من الافعال بمجرد الاحتياط.

ثم نقل كلام المحقق ابن ادريس الحلي حيث ذكر (الادلة الشرعية) من الكتاب والسنة والاجماع (وذكر انه) اذا فقدت (هذه الادلة) الثلاثة فالمعتمد في المسألة الشرعية عند المحققين الباحثين عن مأخذ الشريعة، التمسك بدليل العقل، واضاف العلامة الانصاري: ومراده بدليل العقل- كما يظهر من تتبع كتابه-هو اصل البراءة.

وهكذا كانت الشريعة، سمحاء بعيدة عن التشدد والتطرف، وعن التعقيد والانغلاق.

انها شريعة الله سبحانه للانسانية عبر العصور وفي كل مكان ولكل الطبقات، فحق لها ان تكون سمحاء قابلة للتطبيق.

الباب الثالث: عن الادلة الشرعية الفصل الاول: الامارات بينما ظل نظام المتغيرات، مهملا بصفة عامة، ترانا وسعنا اطار الادلة الشرعية التي تعالج الثوابت.

فلم نتحدث جديا عن حكم الشرائع.

او حدود ولاية الفقيه، و الاسس التي يعتمدها في اصدار الاحكام، كما لم نعالج فقه الأهم و المهم.

ولا القضايا السياسية و الاقتصادية المستحدثه، ولا ابعاد قوانين الطواريء ( العناوين الثانوية) مثل قاعدة الضرر و الحرج والاضطرار.

في المقابل، و للاحساس بالفراغ، ترانا وسعنا مجال الثوابت من الشريعة.

مما جعلنا نحتاج الى المزيد من الادلة، التي اعتمدناها بالرغم من ضعف بعضها او عدم قيامها بمعارضة ادلة المتغيرات..

من هنا كانت الحاجة ، شديدة الى فتح هذا الملف الهام، و بحث مدى حجية الادلة الشرعية، قبل ان ندرس نظام المتغيرات في الاسلام ، و قبل كل شيء دعنا نبحث عن اساس حجية الادلة، فكيف اصبح خبر الثقة حجة ، او ظاهر الكلام حجة ؟ وما هي شروط حجية هذه الادلة، او بتعبير آخر ماهي ابعاد حجيتها؟ ولاننا بحثنا في خاتمة الجزء الاول موضوع الامارات.

فاننا نشير الى الافكار التي التي طرحت ثمة، ثم نضيف اليها ماينفع سياق حديثنا ان شاء الله.

سبق الحديث في الجزء الاول ان فقهائنا رضوان الله تعالى عليهم - اعتمدوا السيرة العقلائية دليلا على حجية الامارات ، كقولهم مثلا: لاشك في ان العقلاء من الناس..

الخ او ان هذا حجة بالفطرة العقلائية، او: و اذا كانت الطرق المجعولة طرقا عقلائية.

و استندوا في ذلك، الى أن الشريعة لم تبتدع طرقا خاصة بها ، في ابلاغ رسالاتها.

او حسب تعبير بعضهم: و ما كان للنبي طريقة خاصة في التفاهم انفرد به من معاصريه.

وقلنا: ان ابتعاث الرسل كان لاستثارة العقل و تزكية النفس، و تهذيب العرف، و انه لم نفهم من عقولنا ان مراد الشرع ما تحري اوامره بأكثر من هذه السبل العرفية.

و حين استقرأنا سبل الشريعة لم نجدها تشذ عن طرق العقلاء الا بشروطه، المفقودة في قضايا الشريعة عادة ( مثل اليقين بالملاك).

و نضيف الى هذه الافكار التي فصلناها في الجزء الاول عدة حقائق لتكتمل الصورة قبل ان يأخذنا السياق الى شروط حجية الامارات.

حجية الامارات: اولا: ان هذا البحث يتصل بما اسسناه في اكثرمن مناسبة من ان رسالات الله جاءت لبعث العقل و تزكية النفس، و ان الكارثة العظمى كانت عندما انفصم العقل عن الوحي.

فألغي دور الوحي في تظهير النفس و ايقاظ الفكر، و تفعيل موهبة العقل، بالتذكرة و التعليم.

كما الغي دور العقل في وعي الوحي، و فض معانيه، و تطبيق قيمه على الحقائق فبقي العقل كنزا مخفيا.

و اضحى الوحي ومضات نور بلا مصباح تتعلق به، او مشكاة تشع من خلالها.

ثانيا: من المعروف ان الله اتم حجته على الناس بالعقول، فلم يبعث نبيا إلا بلسان قومه، ثم كلفه بان يكلم الناس على قدر عقولهم و يحتج عليهم بما يعرفون من حقائق فطرتهم و بصائر وجدانهم.

ومن دون ذلك لم تتم الحجة عليهم.

والله سبحانه يقول: ( قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم اجمعين) اوليست الحجة هي الكلمة التي يتفق عليها الطرفان، فلو كانت الكلمة عند كل طرف مختلفه، ولم تكن بلسان الطرف الثاني، ولم تكن الحقائق الاساسية التي يطرحها معروفة عنده ، اولم تكن مقبولة لديه، اذا كيف كانت تتم الحجة؟ من هنا قال سبحانه: ( وما ارسلنا من رسول الا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء و هو العزيز الحكيم) واللسان يتسع هنا لما هو ابعد من مجرد معاني الالفاظ.

اللسان يتسع لمستوي المجتمع العلمي، و لظلال الكلمات، و اللاعراف المقبولة لديه.

و كما ذكرنا في الجزء الاول ان العقل يحكم بأن الشرع المقدس يعتمد في ابلاغ احكامه على السبل العقلائية، و انه لولم يردع عنها ردعا مبينا.

اعتمدنا عليها لان عدم ردعه يكفينا حجة على مراده منا، يكفيه حجة على ابلاغ رسالته الينا.

وقد نقلنا هناك اقوال الفقهاء عند اثبات حجية الامارات، فلولا اعتمادنا على طرق العقلاء في اثبات مرادهم في حجية ظواهر الكلام، وخبر الثقة، والاجماع الكاشف عن رأي المعصوم اوما اشبه، لكان للفقه وضع آخر.

و الشبهة التي ساقها البعض في هذا المجال مرفوضة، انهم قالوا ان نهي القرآن، عن اتباع الظن يكفي رادعا عن الطرق العقلائية التي لاتورث إلا ظنا .

اولم يقل ربنا سبحانه،( وما لهم به من علم ان يتبعون الا الظن و ان الظن لا يغني من الحق شيئا) .

او تدري لماذا هي مرفوضة؟ لما يلي: اولا: لان الظن هو التصور و التخيل و التمني، ولايسمى اتباع السبل العقلائية ظنا، و قد بينا في التفسير هذا المعنى معنى للظن في القرآن الكريم،و في اللغة العربية.

ثانيــــا: ان الظن الذي تورثه الامارات العقلائية، يخرج من دائرة النهي عن اتباعه.

ويدخل في دائرة الامر باتباعه، لانه من التبين و التثبت و من العلم العرفي.

من هنا يقول العقلامة النائيني- ره- في معرض تفسيره لايات النهي عن اتباع الظن يقول: فالطرق التي جرى عليها بناء العقلاء خارجة عن موضوعها حقيقة، اذ الطريق الذي ثبت حجيته ببناء العقلاء ، او بدليل تعبدي، ولو في غير موارد بنائهم، و ان كان هذا فرضا غير واقع يكون خارجا عن موضوعها ( آيات النهي عن الظن) بالحكومة، فان الطريق اذا كان حجة فلا محالة يكون محرزا للواقع، و علما طريقيا فكيف يمكن ان يعمه الايات الناهية عن العمل بالظن.

و هكذا كان بناء العقلاء، او بتعبير اخر السيرة العقلائية حجة فيما اتبعوه من السبل.

ولكن اذا كانت هذه الامارات حجة بسبب بناء العقلاء، فان بناء العقلاء يحدد حجية هذه الامارات لانه اصلها، و محورها، ولابد ان نراجع العقلاء في مدى سعة او ضيق حجيتها، و هذا هو موضوع بحثنا التالي.

شروط حجية الامـــارة: ولكن العقلاء هل يعتمدون دليلا بلا شروط؟ هل كل خبر يرويه شخص حجة عندهم، و هل كل بينة حجة؟ او كلما يظهر من معاني الالفاظ حجة عندهم؟ كــــلا.

ان هناك عدة شروط للحجة عندهم، نذكر بعضها فيما يلي: 1/ هناك شرط اساسي بعدم التعارض مع دليل اقوى، فظاهر الكلام حجة ان لم يعارض النص و خبر الواحد حجة، ان لم يعارض خبر اثنين، و هكذا..

2/ و شرط اخر يتمثل في عدم مخالفته للقواعد ( ظروف الخبر) مثلا: اذا قال احد كلاما في ظروف الخوف، فانه ليس بحجة ، مثل الاعتراف في السجن او اخبر بما لايكون عادة، مثل المطر في الصيف .

ففي حالات مثل هذه يعتمد الخبر بقدر محدود، ثم يبحث عن مدى صحته، او اخبر احد بحق مالي لغيره، فهنا نبحث عن ادلة اخرى لاثباته، لان مثل هذا تكثر التهمة فيه، فلا يعتمد العقلاء على اقل من خبر شخصين ( شاهدين).

3/ يوازن العقلاء بين حجم الدليل، وطبيعة الموضوع، فلا يبادر العقلاء بشن حرب لمجرد خبر شخص واحد، لان حجم الموضوع لا يتناسب و حجم الدليل عليه.

والذي يجمع بين شروط العقلاء في اعتماد الأدلة فيما يتصل بشؤونهم، هو مدى الثقة بالدليل مع الاخذ بعين الاعتبار كل الظروف و الملابسات و بلا تسرع في الحكم او ميل عاطفي.

والادلة الشرعية ايضا يجب اعتمادها بالشروط السابقة، وربما غيرها ايضا و التي يجمعها الثقة العقلائية بها بالنظر الى كل الملابسات المحيطة بها او بموضوعاتها، دعنا نوضح الامر عبر نقاط: اولا: الاسلام بناء شماخ رصين يشيد بعضه بعضا، فالتوحيد سنام هذا البناء، و السنن الالهية التي هي - بدورها - تجليات اسماء الله الحسنى، تعتبر قاعدة هذا البناء، و تعتمد عليها جميعا اصول الاحكام، وكل اصل تعتمد عليه- بدوره- منظومة متكاملة من الشرائع الفرعية، و تكامل هذا البناء يجعل كل جزء منه متصلا بسائر الاجزاء متوافقا منسجما معها، و هكذا يشهد الاصل على الفرع كما يشهد الفرع عليه، و القيم السامية تشهد عليها..

و هكذا لا تشذ المفردات عن بعضها، ولا تختلف و انما تتوافق وتتكامل، وقد قال سبحانه و تعالى: ( افلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا).

وجاء وصف القرآن، على لسان الامام اميرالمؤمنين عليه السلام: ( ان الكتاب يصدق بعضه بعضا وانه لا اختلاف فيه).

و نهى القرآن عن التبعيض فيه، فقال سبحانه: ( الذين جعلوا القرآن عضين فوربك لنسألنهم اجمعين).

و قد ارشدنا النبي و خلفاءه المعصومون، عليه و عليهم السلام إلى هذا المنهج في تقييم النصوص، فأمرونا بأن نعرض كلماتهم المباركة على كتاب الله فما وافقه اخذناه، كما اخبروا بأن الكتاب و العترة( أي الاحاديث التي نقلت عنهم) لا يفترقان حتى قيام الساعة مثلما نقرء في حديث الثقلين الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: ( اني تركت فيكم الثقلين احدهما اكبرمن الاخر كتاب الله و عترتي فانظروا كيف تخلفوني فيهما فانهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض).

و قد جاء في حديث ترويه عامة المسلمين عن الرسول صلى الله عليه وآله انه قال: (اذا جاءكم الحديث عني تعرفه قلوبكم، وتلين له اشعاركم، وأبشاركم، و ترون انه منكم قريب، فأنا أولاكم به، وإذا سمعتم بحديث تنكره قلوبكم، وتند منه أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكر فانا ابعدكم منه) .

و هذا المنهج لا يقتصر على كتاب الله سبحانه اذ انه يشمل ايضا الاحاديث فهي كلها تشع من مشكاة واحدة.

فلابد من اخذها جملة واحدة ثم دراستها على ضوء بعضها، فاذا رأينا حديثا يطرح فكرة شاذة لاتنسجم مع سائر الاحاديث لم نأخذ به.

ان دراسة محتوي الكلام،و تقييمه على اساس سائر المنظومة الفكرية، او على معيار سائر المعلومات التي يملكها الانسان، انها شرط اساس من شروط اعتماده عند العقلاء.

ثانيا: اذا ورد حديث يخالف اجماع الامة، او كان اجماع يخالف ضرورة العقل او نص الكتاب، اوكان ظاهر يخالف ضرورة العقل..

فان كل هذه الملابسات تدعونا الى المزيد من التثبت في الدليل ، لماذا؟ لان قوة كل دليل محدودة بقدر معين، و لايمكن ان تعارض دليلا اقوى ، اما الدليل المشابه فإنه تضعف دلالته، الى درجة التعادل مما نضطر معه الى البحث عن دليل اخر.

ثالثا: من المعروف ان البينة حجة واليد حجة، و الشياع حجة ، ولكن اذا افترضنا ان البينة قامت في موضوع متشابه مثلا فيما اختلفت الامة اختلافا سياسيا او دينيا، فقامت البينة في موضوع الاختلاف بالذات ، فان العقلاء يتريثون في قبولها، لان هناك شكوكا في الحالة النفسية للشهود، او في مصادر معلوماتهم التي تعتمد على اقوال حزبهم و تجمعهم فقط.

و كذلك لو انتشرت السرقة و النهب في بلد اصيب بالزلزال، او بالاحتلال او ما اشبه، فجلا عنه اهله، و كثرت الايادي الدخيلة بما جعل دلالة استيلاء يد شخص على مال ضعيفة على ملكيته له..

فهل يعتمد العقلاء على مثل هذه اليد؟ كلا.

و كما اليد حجة عند العقلاء في الظروف العادية، كذلك حسن الظاهر، فاذا كانت الظروف استثنائية فهي ليست بحجة! كذلك قال الامام علي عليه السلام: ( اذا استولى الصلاح على الزمان واهله، ثم اساء رجل الظن برجل لم تظهر منه حوبة فقد ظلم، و اذا استولى الفساد على الزمان واهله، فاحسن رجل الظن برجل فقد غرر).

ولك ان تعترض و تقول: ما هذه الشروط التي اضفتها على حجية الادلة؟ بلى ان الاعتقاد بوجود صلة دائمة بين العقل و الوحي هو الذي دعاني الى اعتماد هذه الشروط وربما غيرها ايضا.

لان العقل لا يعطي ثقة مطلقة لاي دليل، و انما في حدود الثقة العقلائية به، أما الادلة الشرعية التي قد تقام على صجية بعض هذه الادلة مثل الشهرة او الاجماع او اليد او البينة.

فلانها امضاء للسيرة العقلائية، وتأكيد عليها، فهي الاخري، لاتعطي ثقة مطلقة بها، بل فقط في حدود ثقة العقل بها و اعتماد العقلاء عليها.

مثلا: ظواهر الكتاب حجة.

و الدليل الشرعي على ذلك اننا امرنا شرعا باتباع القرآن كقوله سبحانه: ( افلا يتدبرون القرآن ام على قلوب اقفالها) ( لو اعتبرنا هذا النص نصا صريحا) ولكن هذا النص لم يؤسس منهجا جديدا في التفاهم ولم ينشئ دليلا مختلفا عن الادلة العقلائية، انما امضى الدليل العقلائي في الاخذ بظاهر الكلام، فلا يفهم منه شيئا مختلفا عما يتعارف عليه العقلاء في محاوراتهم فيكون محدودا بشروطهم، مثلا العقلاء يرون ان حجية الظاهر مخصوصة بما اذا كان المتحدث ملتفتا وكان في مقام البيان، ولم يترك قرينة مخالفة وما اشبه فهل نفهم من هذا الدليل الشرعي اكثر مما يتعارف عليه العقلاء، لوكان كذلك لكان الامر بحاجة الى مزيد من البيان و هذا معدوم، بل مجرد وجود الاحتمال في حدود الحجية فيما يتصل بالشروط اللبية يكفي دليلا على عدمه، لان الحجة يجب ان تكون في مستوى رفيع يمكن الاحتجاج بها عند الخصومه، ومع وجود الاحتمال المضاد لايستحسن من الحكيم الاعتماد عليها.

ومن هنا قلنا: ان شرط حجية الامارات اني كانت قوتها، هي بعث الثقة في النفس عند العقلاء فلو انعدمت هذه الثقة فانها ليست بحجة..

وانما نركز ابدا على الثقة العقلائية لان الحالة الفردية ليست معيارا، اليس الفرد يتعرض لظروف مختلفة من الشك و اليقين و الحب و البغض ، بينما العقلاء ، اذا اخذوا بصفة عامة معيارا، تقل نسبة تعرضهم لذلك، و بما ان نور العقل واحد، فان ما يعرفه هذا الانسان لابد ان يعرفه كل انسان.

ثم ان كثيرا من الادلة جاءت لفصل الخصوصات وتحديد المعايير، و لذلك لابد ان تكون ذات صفة عمومية.

وباختصار: حجية الامارات ليست مطلقة، و انما ينبغي تقييمها في كل موضوع من موضوعات الفقه، وكل حكم جزئي من احكامه.

وذلك ضمن سلسلة من الملابسات التي تتصل بمحتوى الدليل.

وبالقرائن المحيطة، وبالادلة الاخرى، وهذا مانجده عند كبار فقهائنا رضوان الله تعالى عليهم حيث تراهم في الفقه يتركون- كثيرا- القواعد التي اسسوها في علم الاصول، ويدرسون كل واقعة ضمن تلك السلسلة من الملابسات، انهم لايقيدون انفسهم بالقوالب الجاهزة، انما يطلقون لفكرهم العنان، ليصل الى الحقائق من دون حجب او عقبات.

حوار مع النائيني (ره): العلامة النائني تبعا لغيره من الفقهاء يرى ان حجية الظاهر انما هي لبناء العقلاء، فيقول: ان اصل حجية الظهور في الجملة مما هو مسلم بين الكل و عليه يدور المدنية و الالتيام بين الانام .

ولكنه لايشترط حصول الاطمئنان بالظهور في الادلة الشرعية، بينما يشترطه في المحاورات العرفية، مما يدعونا الى التساؤل، عن الفرق بينهما؟ فيجيب قائلا: الفرق ان المقام في الظواهر الشرعية مقام الاحتجاج، فلا يجوز تعليق المسألة على الظن به او عدم الظن بخلافه، بينما في المحاورات العرفية المطلوب فهم المراد.

و العرف لايرى ذلك ممكنا مع الظن بالخلاف، يقول العلامة النائيني: ( ان الظن القائم على خلاف الظهور ان كان ظنا غير معتبر فصريح شيخنا العلامة الانصاري -قدس سره- عدم تقيد حجية الظواهر بعدمه فضلا عن التقيد بالظن بالوفاق، واستدل على ذلك بصحة احتجاج المولى على عبده عند عدم اخذه بظاهر كلامه).

واضاف قائلا: ولكن الحق في المقام هو التفصيل بين الظهورات الصادرة من الموالي الى العبيد، كالاخبار الواردة من المعصومين سلام الله عليهم، بحيث يكون المقام مقام الاحتجاج من المولى على العبد، او العكس، فيلتزم فيها بعدم التقييد كما افاده - قده- و بين الظهورات التي لايكون لها ارتباط بمقام الاحتجاج، بل يكون الغرض فيها كشف المرادات الواقعية، و ترتيب الاثر على طبقها، كما اذا فرضنا وقوع كتاب من تاجر الى تاجر اخر( وقوعه) بيد ثالثة، فأراد كشف ما فيه من تعيين الاسعار، فانه اذا احتمل عدم ارادة الكاتب ظواهر مكتوباته، لايرتب عليه الاثر يقينا، فالاخذ بالظهور في غير مقام الاحتجاج مقيد بأعلى مراتب الظن، و هي مرتبة الاطمئنان و بمجرد احتمال ارادة خلاف الظاهر احتمالا عقلائيا يسقط تلك الظهورات عن الكاشفية فضلا عن وجود الظن بالخلاف.

بل الاطمئنان هو محور عمل العقلاء ، ولكن ليس الاطمئنان الشخصي بل النوعي، او ان شئت قلت: العرفي، وهو الحجة ايضا في مقام الاحتجاج، واذا كان الظهور بحيث لايورث الاطمئنان العرفي فانه لايصلح ايضا للاحتجاج، كما اذا كانت الالفاظ محفوفة بالقرائن الحالية اوالمقالية او تعارضها ادلة اخرى.

وهنا نلاحظ على العلامة النائيني انه- قدس سره- جعل حجية الظواهر في بداية كلامه، العرف وبناء العقلاء.

و اعترف في نهاية حديثه ان العقلاء يعتمدون فقط على الظواهر المورثة للاطمئنان، ولكنه تراجع عن ذلك فيما يتصل بالنصوص الشرعية، لماذا؟ لانها جاءت في مقام الاحتجاج(فهي حجة) ، وهذا غريب منه، اذ ليست النصوص واردة في المخاصمات القضائية، او الجدل الجتماعي، انما هدف الفقهاء هو الوصول الى مراد الشارع بوازع نفسي، فكيف ندخله في باب المخاصمات.

والله سبحانه لايحتج علينا الابقدر معرفتنا، و معرفتنا قائمة على لسان قومنا الذي تحدث به الشارع ، ويبدولي ان هناك خلطا بين مقامي الثبوت و الاثبات في مناهجنا، واننا نتأثر ابدا بحالات الجدل و المخاصمة، و كأننا دائما في حلبة صراع، كما ان هناك خلفية ثقافية تضغط على كتب الاصول باتجاه توفيق مصطلحاتها، وحتى مناهجها ، و افكارها مع المنطق الارسطي، والفلسفة اليونانية، والعلماء يجدون انفسهم بين الفكر الاسلامي الخالص ، و بين الفلسفة والمنطق الأرسطي ، و يحاولون التوفيق بينهما، على غرار ما نجده في علم الكلام و كبار الفقهاء يسعون لاثبات مايعرفونه ببصائر قلوبهم، و بثقافتهم القرآنية من افكار ومناهج حديثة، اثباتها بالاساليب المنطقية التي كانت شائعة في اجوائهم الثقافية، من هنا تجد - عادة - فصاما بين المقدمات و النتائج! ولو اعدنا الامور الى المنهج القراني الميسور القائم على اساس الفطرة و العقل و العرف العام، لتخلصنا من تعقيدات كثيرة.

مثلا: الحجة بين العباد و بين ربهم، هي ذات الحجة بين العباد بعضهم ومع بعض ، و معرفة الحجة بين العباد ليست صعبة، ولكن الفلسفة اليونانية عرفت القطع بانعدام الاحتمال المضاد، و اعتبره علم الاصول هو العلم المطلوب شرعا، و الذي هو الحجة، ولذلك ارتبك الوضع كله لان العلم غير القطع، ثم الحجة ليس القطع ، انما الحجة الاطمئنان النوعي او قل: العلم العرفي الذي به يحتج العباد على بعضهم ، وقد جاءت رسالات السماء بلسان الناس فيكفي ذلك حجة بين العباد وربهم.

بل يمكن ان نوافق العلامة النائيني على كلامه اذا راد من الثقة والاطمئنان ثقة الفرد بمعنى الكلام، و اطمئنانه الى ما يفهمه من مراد المتكلم، اذ ان هذا الشرط يجعل جميع المحاورات غير قابلة للاحتجاج و بالتالي يفقدها فائدتها، و لهذا فنحن نشترط الثقة عند العقلاء ، لاعند الفرد المخاطب وحده، و عندئذ يمكن الاحتجاج بالظواهر ويرتفع اشكال العلامة النائيني ايضا.

الامارات: الاطمئنان العرفي: و الامارات الشرعية كلها ابتداء من ظواهر الالفاظ، فيما يتصل بالقسم الاول من علم الاصول، القائم على اساس التبادر العرفي و انتهاء بالاستصحاب و مرورا بالخبر الواحد، و ظواهرالكتاب و الاجماع و الشهرة و غير ذلك ، الامارات هذه حجة لانها تورث الطمأنينة عند اغلب الناس، وبناء العقلاء على حجية مثل ذلك ، وقد اقام الشرع بناءه على ما بنى عليه العقلاء.

و لذلك تجد كثيرا من الفقهاء استعاضوا عن العلم - الذي اعتبروه قطعا و يقينا- بالاطمئنان، اما لان ذلك النوع من العلم لا يوجد عادة في المسائل الفقهية المبتلى بها، ( مما اسموه بانسداد باب العلم) او لان هذا المقدار من العلم كاف عند العقلاء و يستوحى من كلمات العلامة النائيني في باب الانسداد ما هو قريب من نظريتنا في كفاية الظن المورث للإطمئنان، بالرغم من انه لايقول بانسداد باب العلم ..

يقول: ان الظن الاطمئناني اذ كان وافيا بمعظم الفقه بحيث يكون الباقي داخلا في الشبهات البدوية(التي لايعتني بها) فهو كاف لانه يغنينا عن الظنون الضعيفة، فلا موجب لكشف حجة غيره كمالا يبعد ان يكون الامر كذلك ( أي وجود قدر كاف من الظنون الاطمئنانية يغنينا عن التماس عيرها من الظنون) فان عمدة ما يعتمد عليه في الفقه هو الخبر الواحد الصحيح القدمائي ( الذي اعتمده قدماء الاصحاب) ، و الظهور ( ظهور الفاظ الكتاب)، و الظن الحاصل منهما ظن اطمئناني و هما وافيان بمعظم الفقه.

حقا لو اننا اعتمدنا السبل العقلائية في فهم الاحكام فانها تكفينا للاحاطة بمعظم الاحكام الشرعية، وهي حجة عقلاء، والله المسدد.

والعلامة الميرزا القمي الذي يرى انسداد باب العلم، وحجية الظنون،يقول في بعض كلامه عند الاستدلال على حجية الظواهر ، يقول كلاما،يظهر منه انه قائل بحجية الامارات العرفية التي يعتمد عليها الناس، فيقول : و كذلك ( يحب العمل وفق) ما حصل الظن به لهم( للناس المخاطبين بالشرع) على مقتضى ( استخدام) الحقائق و المجازات بحمل الالفاظ على حقائقها عند عدم القرينة على خلافها،و البناء على القرائن في حمل على المعاني المجازية ، لان ذلك كان طريقة العرف، و العادة من لدن خلقة آدم الى يومنا هذا ،و انهم كانوا يبنون المحاورات على ذلك ،يعلم ذلك بملاحظة احوال العرف و العادة علما وجدانيا، فالشارع اكتفى في المحاورات مع اصحابه بما حصل لهم الظن به في التكاليف ايضا.

و بعد ان فصل القول في ان العلم لايمكن بكل تفاصيل الشريعة، واننا نعلم يقينا ثبوت التكليف قال: فثبت من جميع ذلك انه لامناص من العمل بالظن إلا ما اخرجه الدليل، كالقياس و الاستحسان،و ونحوهما فمن جميع ماذكرنا ثبت حجية خبر الواحد.

و هكذا نعرف من خلال التأمل في كلامه ان مراده من الظن ما يورثه ظواهر الكلام،او خبر الواحد ،او سائر الامارات العرفية، وهذا ما نذهب اليه ايضا.

الفصل الثاني: بحوث في الاجماع هل الاجماع حجة، و الشهرة كيف و التي تعني فتوى الاكثرية،؟ هناك مفارقة غريبة، فبينما نجد البعض لا يقطع في حجية الاجماع بضرس قاطع في علم الاصول ، تجده في الفقه يعمد كثيرا على الاجماع، بل تراه يصعب عليه الخروج عن رأي الاكثرية ( الشهرة) ..

هل لان الاجماع طريق عقلائي يورث الاطمئنان فعلا، و يعتمد الفقهاء بفطرتهم عليه بالرغم من انهم لم يبلوروا نظرية في حجيته؟ كما ينقل عن الشافعي انه التحف واخذ يجول في ايات القران بفكره ليجد اية تدل على حجية الاجماع حتى اكتشفها وهي قوله سبحانه ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى و يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى و نصله جهنم وساءت مصيرا).

فقال في نفسه، بلى الاجماع هو سبيل المؤمنين - فهو حجة- فهو اذا كان يرى في نفسه ان الاجماع حجة، ولكنه لم يكن يعرف دليل حجيته فبحث في القران عن ذلك، حتى اعتقد انه يتمثل في هذه الاية.

و بتعبير اخر: ان حجية الاجماع قد سبقت عندهم الدليل عليها لانها كانت مسلمة لديهم بالفطرة؟ ام لان الحذر والاحتياط في امر الدين دعا البعض الى ترك رأيه والاعتماد على ما ذهب اليه الفقهاء ، ام لان المزيد من الثقة بالفقهاء السابقين ( والسلف الصالح) جعل المتأخرين يفقدون الثقة بآرائهم في مقابل آراء أولئك الذين كانوا اقرب منهم الى مصادر التشريع.

ام ان قلة الانفتاح على كتاب الله اما ضعف ملكة الاجتهاد.

او للاعتقاد بانه لايخاطب كل الاجيال، بل الجيل الاول، او حتى النبي وحده، فلا يجوز الانفتاح عليه مباشرة.

بل من خلال السنة او تفسير الرعيل الاول ، فكان ذلك سببا لانغلاق باب الاجتهاد عملا لان السنة كانت المصدر الوحيد للتشريع والسنة- بدورها- قد وصلت الينا عبر السلف الصالح ، وفهمهم لها كان ذا امر بالغ في معرفة الدين، وبالتالي لم يكن التفريق بين السنة وآراء السلف ،ولم يجرء احد من الخلف على الادعاء بانه اعرف بمراد الشرع من السلف ، فاختلط الدين بالتراث،و توقف الفكر عن الاجتهاد.

هذه طائفة من العوامل التي يظن انها وراء استرسال البعض مع الاجماع و حتى رأي الأكثرية.

ولكن الفقهاء الكبار تحرروا من اثر هذه العوامل عند بحثهم عن حجية الأجماع في علم الأصول، وان لزموا جانب الإحتياط في علم الفقه إذا دعنا نبحث قليلا عن آراء الفقهاء في الاجماع.

آراء في حجية الاجماع:

قبل ان نخوض في بيان آراء الفقهاء في الاجماع و مدى حجيته، لابد من التذكير بان الاجماع قسمان: الاول: ما يكون في ثوابت الشريعة، فمعناه- عندي- اتفاق عدد من الفقهاء يكشف اتفاقهم عن حكم الشريعة، وهو امارة من الامارات، و حجيته قائمة على اساس افادته للاطمئنان عند العقلاء ، ولانه طريق عقلائي، و يتحدد بشروط سائر الامارات التي سبق ذكرها.