بسم الله الرحمن الرحيم قال الشيخ المفيد رضي الله عنه حضرت مجلس رئيس من الرؤساء فجرى كلام في الإمامة فانتهى إلى القول في الغيبة. فقال صاحب المجلس أ ليست الشيعة تروي عن جعفر بن محمد ع أنه لو اجتمع على الإمام عدة أهل بدر ثلاثمائة و بضعة عشر رجلا لوجب عليه الخروج بالسيف. فقلت قد روي هذا الحديث. قال أ و لسنا نعلم يقينا أن الشيعة في هذا الوقت أضعاف عدة أهل بدر فكيف يجوز للإمام الغيبة مع الرواية التي ذكرناها. فقلت له إن الشيعة و إن كانت في وقتنا كثيرا عددها حتى تزيد على عدة أهل
بدر أضعاف مضاعفة فإن الجماعة التي عدتهم عدة أهل بدر إذا اجتمعت فلم يسع الإمام التقية و وجب عليه الظهور لم تجتمع في هذا الوقت و لا حصلت في هذا الزمان بصفتها و شروطها و ذلك أنه يجب أن يكون هؤلاء القوم معلوم من حالهم الشجاعة و الصبر على اللقاء و الإخلاص في الجهاد و إيثار الآخرة على الدنيا و نقاء السرائر من العيوب و صحة العقول و أنهم لا يهنون و لا ينتظرون عند اللقاء و يكون العلم من الله تعالى بعموم المصلحة في ظهورهم بالسيف و ليس كل الشيعة بهذه الصفة و لو علم الله تعالى أن في جملتهم العدد المذكور على ما شرطناه لظهر الإمام ع لا محالة و لم يغب بعد اجتماعهم طرفة عين لكن المعلوم خلاف ما وصفناه فلذلك ساغ للإمام الغيبة على ما ذكرناه. قال و من أين لنا أن شروط القوم على ما ذكرت و إن كانت شروطهم هذه فمن أين لنا أن الأمر كما وصفت. فقلت إذا ثبت وجوب الإمامة و صحت الغيبة لم يكن لنا طريق إلى تصحيح الخبر إلا بما شرحناه فمن حيث قامت دلائل الإمامة و العصمة و صدق الخبر حكمنا بما ذكرناه. ثم قلت و نظير هذا الأمر و مثاله ما علمناه من جهاد النبي ص أهل بدر بالعدد اليسير الذين كانوا معه و أكثرهم أعزل راجل ثم قعد ع في عام الحديبية و معه من أصحابه أضعاف أهل بدر في
العدد و قد علمنا أنه ص مصيبا في الأمرين جميعا و أنه لو كان المعلوم من أصحابه في عام الحديبية ما كان المعلوم منهم في حال بدر لما وسعه العقود و المهادنة و لوجب عليه الجهاد كما وجب عليه قبل ذلك و لو وجب عليه ما تركه لما ذكرناه من العلم بصوابه و عصمته على ما بيناه. فقال إن رسول الله ص كان يوحى إليه فيعلم بالوحي العواقب و يعرف الفرق من صواب التدبير و خطأه بمعرفة ما يكون فمن قال في علم الإمام بما ذكرت و ما طريق معرفته بذلك. فقلت له الإمام عندنا معهود إليه موقف على ما يأتي و ما يذكر منصوب له أمارات تدله على العواقب في التدبيرات و الصالح في الأفعال و إنما حصل له العهد بذلك عن النبي ص الذي يوحى إليه و يطلع على علم السماء و لو لم نذكر هذا الباب و اقتصرنا على أنه متعبد في ذلك بغلبة الظن و ما يظهر له من الصلاح لكفى و أغنى و قام مقام الإظهار على التحقيق كائنا ما كان بلا ارتياب لا سيما على مذهب المخالفين في الاجتهاد و قولهم في رأي النبي ص و إن كان المذهب ما قدمناه. فقال لم لا يظهر الإمام و إن أدي ظهوره إلى قتله فيكون البرهان له و الحجة في إمامته أوضح و يزول الشك في وجوده بلا ارتياب. فقلت إنه لا يجب ذلك عليه كما لا يجب على الله تعالى معاجلة العصاة بالنقمات و إظهار الآيات في كل وقت متتابعات و إن كنا نعلم أنه لو
عاجل العصاة لكان البرهان على قدرته أوضح و الأمر في نهيه أوكد و الحجة في قبح خلافه أبين و لكان بذلك الخلق عن معاصيه أزجر و إن لم يجب ذلك عليه و لا في حكمته و تدبيره لعلمه بالمصلحة فيه على التفضيل فالقول في الباب الأول مثله على أنه لا معنى لظهور الإمام في وقت يحيط العلم فيه بأن ظهوره منه فساد و أنه لا يؤول إلى إصلاح و إنما يكون ذلك حكمة و صوابا إذا كانت عاقبته الصلاح و لو علم ع أن في ظهوره صلاحا في الدين مع مقامه في العالم أو هلاكه و هلاك جميع شيعته و أنصاره لما أبقاه طرفة عين و لا فتر عن المسارعة إلى مرضاة الله جل اسمه لكن الدليل على عصمته كاشف عن معرفته لرد هذه الحال عند ظهوره في هذا الزمان بما قدمناه من ذكر العهد إليه و نصب الدلائل و الحد و الرسم المذكورين له في الأفعال. فقال لعمري إن هذه الأجوبة على الأصول المقررة لأهل الإمامة مستمرة و المنازع فيها بعد تسليم الأصول لا ينال شيئا و لا يظفر بطائل. فقلت من العجب إنا و المعتزلة نوجب الإمامة و نحكم بالحاجة إليها في كل زمان و نقطع بخطإ من أوجب الاستغناء عنها في حال بعد النبي ص و هم دائما يشنعون علينا بالقول في الغيبة و مرور الزمان بغير ظهور إمام و هم أنفسهم يعترفون بأنهم لا إمام لهم بعد أمير المؤمنين ع إلى هذا الزمان و لا يرجون إقامة إمام في قرب هذا من الأوان فعلى كل حال نحن أعذر في القول بالغيبة و أولى بالصواب عند الموازنة للأصل الثابت من وجوب الإمام و لدفع الحاجة إليها في كل أوان.
فقال هؤلاء القوم و إن قالوا بالحاجة إلى الإمام فعذرهم واضح في بطلان الأحكام لعدم غيبة الإمام الذي يقوم بالأحكام و أنتم تقولون إن أئمتكم ع قد كانوا ظاهرين إلى وقت زمان الغيبة عندكم فما عذركم في ترك إقامة الحدود و تنفيذ الأحكام. فقلت له إن هؤلاء القوم و إن اعتصموا في تضييع الحدود و الأحكام بعد الأئمة الذين يقومون بها في الزمان فإنهم يعترفون بأن في كل زمان طائفة منهم من أهل الحل و العقد قد جعل إليهم إقامة الإمام الذي يقوم بالحدود و تنفيذ الأحكام فما عذرهم عن كفهم عن إقامة الإمام و هم موجودون معروفو الأعيان فإن وجب عليهم لوجودهم ظاهرين في كل زمان إقامة الإمام المنفذ للأحكام و عانوا ترك ذلك في طول هذه المدة عاصين ضالين عن طريق الرشاد كان لنا بذلك عليهم و لن يقولوا بهذا أبدا و أن كان لهم عذر في ترك إقامة الإمام و إن كانوا في كل وقت موجودين فذلك العذر لأئمتنا ع في ترك إقامة الحدود و إن كانوا موجودين في كل زمان على أن عذر أئمتنا ع في ترك إقامة الأحكام أوضح و أظهر من عذر المعتزلة في ترك نصب الإمام لأنا نعلم يقينا بلا ارتياب أن كثيرا من أهل بيت رسول الله ص قد شردوا عن أوطانهم و سفكت دماؤهم و ألزم الباقون منهم الخوف على التوهم عليهم أنهم يرون الخروج بالسيف و أنهم ممن إليهم الأحكام و لم ير أحد من المعتزلة و لا الحشوية سفك دمه و لا شرد عن
وطنه و لا خيف على التوهم عليه و التحقيق منه أنه يرى في قعود الأئمة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بل هؤلاء القوم يصرحون في المجالس بأنهم أصحاب الاختيار و أن إليهم الحل و العقد و الإنكار على الطاعة و أن من مذهبهم الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فرضا لازما على اعتقادهم و هم مع ذلك آمنون من السلطان غير خائفين من نكره عليهم من هذا المقال. فبان بذلك أنه لا عذر لهم في ترك إقامة الإمام و أن العذر الواضح الذي لا شبهة فيه حاصل لأئمتنا ع من ترك إقامة الحدود و تنفيذ الأحكام لما بيناه من حالهم و وصفناه و هذا واضح فلم يأت بشي ء و لله الحمد و لرسوله و آله الصلاة و السلام. و الله الموفق للصواب