الاصول العامة للفقه المقارن - صفحه 49 الي 89 بحـوث تمهيديّة
( 4 )
مباحث الحكم أضواء على تعريف الاصول : ومن الحق ان نذكر ان تعريفنا السابق لاصول الفقه المقارن قد امتد في جذوره الى مدرسة النجف الحديثة في علم الاصول ، فاقتبس منها تعميمه في التعريف الى ما يشمل الحكم والوظيفة معاً ، خلافاً لما وقع على ألسن الاصوليين من القدامى والمحدثين في غير مدرسة النجف من الخلط بين مفهوميهما وطبيعة مصاديقهما .
وهذا ما يدعونا الى ان نفيض في الحديث حول تعريف كل منهما وتحديد أقسامه ، وذكر الفروق بينهما مع كل ما يلابس هذا الموضوع .
وأظن أن موضع الحديث في ذلك كله هو ما تقتضيه طبيعة التمهيد ، خلافاً لبعض أساتذتنا الذين عرضوا لذكره في بحوث الاستصحاب أو غيرها في الاصول ، مع أنها أقرب الى مبادئ علم الاصول منها الى الدخول في صميم بحوثه ، لبداهة أنها ليست من عوارض ما اعتبروه موضوعاً لعلم الاصول .
تعريف الحكم : للفظ الحكم اطلاقان يقابل أحدهما معنى الوظيفة ، وسيأتي الحديث عنه . وفي الثاني يعمهما معاً وهو موضع حديثنا الان .
وقد ذكروا له تعريفات ، لعل أنسبها بمدلوله هو : " الاعتبار الشرعي المتعلق بأفعال العباد تعلقاً مباشراً أو غير مباشر " .
وانما فضلنا كلمة ( اعتبار ) على ما جاء في تعريفه من أنه " خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين " (41) كما نقل ذلك الامدي عن بعض الاصوليين ، أو أنه
" خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع " (42) وهو الذي حكاه صاحب سلم الوصول عن الاصوليين ، لان كلمة خطاب لا تشمل الحكم في مرحلة الجعل ، وانما تختص بمراحله المتأخرة من التبليغ والوصول والفعلية ، لوضوح أنها هي التي تحتاج الى الخطاب لاداء جعل الشارع واعتباره ، فتعميمها الى جميع مراحله أقرب الى فنية التعريف من وجهة منطقية .
وكلمة الاعتبار تغنينا عن استعراض ما أورد أو يورد من الاشكال على التعريفين السابقين من عدم الاطّراد والانعكاس فيهما ، لعدم شمولهما لقسم من الاحكام الوضعية التي لم يتعلق بها خطاب من الشارع ، وانما انتزعت مما ورد فيه الخطاب من الاحكام التكليفية كالجزئية ، والشرطية ، والسببية ، وشمولها لما ورد فيه خطاب يتعلق بأفعال العباد وليس بحكم ، كقوله تعالى : ( والله خلقكم وما تعملون ) (43) .
وهذا الاشكال انما يرد على خصوص التعريف الاول لتقييد الخطاب في التعريف الثاني بخصوص الاقتضاء أو التخيير أو الوضع ، وانما عممنا في التعريف الى التعلق المباشر وغير المباشر بأفعال العباد لنعمم لفظ الحكم الى جميع ما كان فيه اعتبار شرعي وان لم يتعلق بالافعال ابتداء ، وانما تعلق بها باعتبار ما يستتبعها من الاحكام التكليفية ، سواء تعلق بها مباشرة أم بواسطة منشأ انتزاعها ، كما هو الشأن في الاحكام الوضعية المنتزعة .
وقد ذكروا للفظ الحكم ـ بهذا المعنى ـ تقسيمات متعددة نستعرضها جميعاً نظراً لاهمية الحديث فيها ، ولكثرة ثمراته العلمية المترتبة عليها وبخاصة في مجالات الابانة والتحديد .
وأول هذه التقسيمات تقسيمه الى : الحكم التكليفي والحكم الوضعي .
1 ـ الحكم التكليفي : وأرادوا به " خطاب الشارع المقتضي طلب الفعل من المكلف أو الكف عن الفعل ـ الترك ـ أو التخيير بين فعل الشيء وتركه على حد سواء " (44) وفي هذا التعريف عدة مجالات للتأمل :
أولها : في أخذ لفظة الخطاب في تكليف الشارع ، وقد سبق الحديث في نظيره عند تعريفنا لكلمة الحكم .
ثانيها : اعتباره خطاب الشارع من نوع الطلب ، مع ان مدلوله لا يتجاوز البعث أو الزجر ، كما حققه أعلامنا المتأخرون .
ثالثها : تفسير الكف عن الفعل بالترك مع انهما مفهومان متغايران ، فالكف من مقولة الافعال لما فيه من صد النفس عن الاتيان بالفعل ومنعها عنه ، والترك لا يزيد على عدم الاتيان بالفعل سواء كان عن صد للنفس أم عدم رغبة منها أم غير ذلك من أسباب التروك .
رابعها : اعتبار الاباحة ( التخيير ) قسماً من الحكم التكليفي ، وهو وان كان قد ورد على ألسنة أكثرهم إلا ان ذلك لا يعرف له وجه لمجافاته لطبيعة التعبير بالتكليف ، لان التكليف ما كان فيه كلفة على العباد ، والاباحة لا كلفة فيها فلا وجه لعدها من أقسامه . ولعل الانسب في ذلك اتباع الامدي فيما سلكه من تقسيم الحكم الشرعي الى " ثلاثة أنواع : حكم اقتضائي ، وهو الذي أرى أنه يرادف كلمة تكليفي وينبغي قصر كلمة تكليفي عليه ، وحكم تخييري ، وهو الخاص بالمباح ; ... والثالث الحكم الوضعي " (45) اللهم الا ان يكون ذلك مجرد اصطلاح منهم ، وليس لنا ان نؤاخذهم فيه ، واذا أردنا ان نجاريهم في ذلك فالانسب ان نعرف الحكم التكليفي بما عرّفه به بعضهم من أنه " الاعتبار الصادر من المولى من حيث الاقتضاء والتخيير " (46) لخلوه عن الاشكالات السابقة ، عدا أخذ التخيير
فيه .
أقسام الحكم التكليفي : قسّم غير الاحناف الاحكام التكليفية الى خمسة أقسام :
القسم الاول : الوجوب ويراد به الالزام بالفعل ، فيكون معنى الواجب بالطبع " الفعل الذي فرضه الله على العباد ولم يرخص لهم في تركه " أو " الفعل الذي ألزم الشارع بالاتيان به " على اختلاف في التعبير في مقام تحديده .
وهو ـ أعني الوجوب ـ انما يستفاد في مقام الاثبات من كل ما يدل عليه بالوضع أو بالقرينة ، كمادة الوجوب بأية صيغة كانت أو ما يرادفها من الالفاظ ، وكبعض الجمل الاسمية التي تقوم معها قرينة على ارادته ، والصيغ التي تؤدي اليه هي صيغة " إفعل " وما في معناها ، وقد اختلفوا في أن دلالتها بالوضع كما هو مدعى من يستدل عليها بالتبادر وعدم صحة السلب ، أو بدليل العقل بادعاء انها لا تدل على اكثر من الباعثية نحو الفعل ، والعقل يلزم بالانبعاث عن بعث المولى ما لم يأتِ المرخص من قبله . والذي عليه محققو المتأخرين من علماء الاصول هو الثاني ، ولا يهمنا تحقيقه الان ما دام الجميع يؤمنون بدلالة الصيغة على الوجوب مهما كانت أسباب هذه الدلالة وبواعثها .
وقد قسموا الوجوب الى أقسام انطوت عليها تقسيمات متعددة منها :
أ ـ تقسيمه الى : العيني والكفائي .
الوجوب العيني : وهو الذي يتعلق بجميع المكلفين ولا يسقط عنهم بامتثال البعض ، بل لابد لكل منهم من امتثال مستقل . ومثاله في الشريعة : الصوم والصلاة .
الوجوب الكفائي : ويراد به الوجوب الذي يتعلق بجميع المكلفين ويسقط عنهم بامتثال البعض ، وعند ترك الجميع يعاقب الجميع ، كتغسيل الميت ودفنه والصلاة عليه .
ب ـ تقسيمه الى : التعييني والتخييري .
الوجوب التعييني : ويراد به الوجوب الذي يتعلق بفعل بعينه ، ولا يرخص في تركه الى بدل .
الوجوب التخييري : وهو الوجوب الذي يتعلق بأحد الشيئين أو الاشياء على البدل ، على خلاف في تعلقه بالفرد المردد أو القدر الجامع أو في كل منهما ، مع سقوطه بفعل الاخر (47) ، ومثاله وجوب خصال كفارة الافطار العمدي على غير المحرم .
ج ـ تقسيمه الى : الموقت وغير الموقت .
الوجوب الموقت : وهو ما كان الوقت دخيلاً في مصلحته ، وله قسمان :
1 ـ المضيّق ، وهو ما يكون الزمان المأخوذ فيه بقدر ما يقتضيه من امتثال ، كصوم رمضان .
2 ـ الموسّع ، وهو ما كان زمانه أوسع مما يقتضيه امتثاله ، كالصلوات اليومية .
الوجوب غير الموقت : وهو الذي لا يكون الزمان دخيلاً في مصلحته ، وتكون نسبته الى جميع الازمنة نسبة واحدة ، كوجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر .
د ـ تقسيمه الى : المطلق والمشروط .
الوجوب المطلق : ويراد به الوجوب الذي ينسب الى شيء ما فلا يكون له مدخلية في أصل ملاكه ، ومثاله وجوب الصلاة بالنسبة الى الاستطاعة المالية ، حيث لم يقيد الشارع بها حكمه وجوداً أو عدماً .
وينقسم بلحاظ متعلقه الى قسمين : منجز ومعلق .
1 ـ المنجز : وهو ما كان مخلىً عن القيد الزماني وجوباً وواجباً ، ومثاله الصلاة بعد دخول وقتها .
2 ـ المعلق : وهو ما كان وجوبه فعلياً غير مقيد بالزمان وواجبه استقبالياً ، ومثاله الصلاة قبل دخول وقتها ، بناء على ان وقت الظهر قيد للواجب لا لاصل وجوب صلاة الظهر ، وهذا التقسيم مما تفرد به صاحب الفصول ، وتبعه بعض المتأخرين ، ولهم حول إمكان الواجب المعلق وعدمه حديث طويل لا يهم عرضه .
الوجوب المقيد : وهو ما قيد بما ينسب اليه من الاشياء لدخوله في أصل ملاكه ، كالاستطاعة
بالنسبة للحج ، ويسمى أيضاً ( الواجب المشروط ) .
ومن هنا يعلم ان الوجوب المطلق والمقيد نسبيان ، فقد يكون الوجوب بالنسبة الى شيء مطلقاً وبالنسبة الى آخر مقيداً .
هـ ـ تقسيمه الى : التعبدي والتوصلي .
الوجوب التعبدي : وهو ما توقف تحقق ملاكه على الاتيان به بقصد القربة ، وأمثلته كل ما انتظم في قسم العبادات من كتب الفقه ، كالصوم والصلاة والحج وغيرها .
الوجوب التوصلي : وهو ما لم يتوقف تحقق ملاكه على الاتيان به قربياً ، كدفن الميت ، وتطهير الثوب ، والصناعات والحرف التي يتوقف عليها النظام الاجتماعي .
و ـ تقسيمه الى : المحدد وغير المحدد .
الوجوب المحدد : ويراد به ما كان متعلقه محدداً بأن " عيّن له الشارع مقداراً معلوماً لا تبرأ الذمة إلا بأدائه بمقداره الذي حدّده الشارع وعيّنه ، كالصلوات الخمس ، وزكاة الاموال ، وصوم رمضان " (48) .
الوجوب غير المحدد : وهو مالم يحدد الشارع متعلقه ، وقد مثل له الشاطبي بالعدل ، والاحسان ، والوفاء ، ومواساة ذوي القربى ، والمساكين ، والفقراء ، والاقتصاد في الانفاق (49) ، وغيرها ، وهي تختلف باختلاف الحاجات والاحوال والازمان .
ز ـ تقسيمه الى : الوجوب النفسي والغيري .
الوجوب النفسي : وهو " ما كان واجباً لنفسه لا لواجب آخر " (50) ومثاله وجوب الصلاة وغيرها .
الوجوب الغيري : وهو " ما وجب لواجب آخر " (51) كالوضوء بالنسبة للصلاة ، وقد اختلفوا في وجود الواجب الغيري ، والتحقيق عدم الضرورة بالتزام وجوبه الشرعي ، وستأتي الاشارة الى ذلك في مبحث ( سد الذرائع وفتحها ) .
وهناك تقسيمات أخر لا نرى ضرورة الاشارة اليها لعدم أهميتها .
وهذه التقسيمات تكاد تكون موجودة في جلّ كتب الاصوليين المعنية ببحث أمثالها ، عدا ما نصَّ على التفرد فيه من قِبل بعض الاعلام ، وهي متحدة المفهوم وان اختلفت تحديداتهم لها لضيق في الاداء ، وبما أن الدخول في تفصيلاتها غير ذي جدوى لنا ، فقد آثرت الاشارة اليها بمقدار ما تدعو اليه الحاجة من ايضاح المصطلحات .
القسم الثاني : المندوب ويراد به ما دعا الشارع الى فعل متعلقه ولم يلزم به ، ويدل عليه لفظة الندب ومرادفاتها والصيغ الدالة على الوجوب مع اقترانها بما يوجب الترخيص ولو كان من طريق الجمع بين الادلة ، وقد ذكروا له اقساماً لا ترجع الى محصل ، وأهمها ثلاثة :
1 ـ ما يكون فعله مكملاً للواجبات الدينية ، كالاذان بالنسبة للصلاة ; وهذا النوع لا يوجب تركه العقاب ولكن يوجب اللوم والعتاب ; وربما سمي في ألسنة بعض الاصوليين بـ ( الاستحباب المؤكد ) .
2 ـ ما لا يكون كذلك وفعله النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) تارة وتركه أخرى ، كالتصدق على الفقراء والمساكين .
3 ـ ما كان استحبابه بالعنوان الثانوي ، أي بعنوان الاقتداء بالرسول ، كالتأسي بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في طريقة أكله أو نومه أو جلوسه ، مما لم يثبت استحبابه بالذات .
القسم الثالث : الحرمة ويراد بها إلزام المكلف بترك شيء ، فيكون معنى الفعل المحرم ـ بالطبع ـ هو ما ألزم الشارع بتركه ولم يرخص فيه ، ويؤدى عادة بمادة الحرمة وما يرادفها بأي صيغة وجدت ، والصيغ التي تؤديه صيغة ( لا تفعل ) على خلاف فيها من حيث كونها موضوعة للحرمة ، كما هو مقتضى دعوى من يدعي تبادر الحرمة منها ، أو ان الحرمة مستفادة بحكم العقل ، وهي لا تدل على أكثر من الردع ، إلا ان العقل يلزم بالارتداع عن ردع المولى ما لم يأت المرخص من قبله قضاء لحق المولولية .
وقد قسموها بلحاظ متعلقها الى قسمين :
1 ـ ما تكون حرمته ذاتية ، كالزنى والسرقة والقتل بغير الحق وبيع الميتة " وهذا النوع من المحرم يكون باطلاً ولا يترتب عليه حكم ، اذ لا يصلح سبباً شرعاً ليترتب عليه أحكام ، لان التحريم لذات الفعل يوجد خللاً في أصل السبب أو في وصفه بفقد ركن أو شرط ، فلا يثبت بالزنى نسب " (52) ولا بالسرقة أو بيع الميتة ملك ، وهكذا . وفي هذا القسم خلط بين نوعين من المحرمات ، نوع لم يجعل متعلقه سبباً شرعياً أصلاً ليقال بإمكان ترتب آثاره عليه ، كالزنى والسرقة
والقتل بغير الحق ، ونوع جعل فيه ذلك كبيع الميتة ، ومثل هذا القسم ان كان النهي فيه بداعي الارشاد الى المانعية أو فقد الشرط لم يترتب مسببه عليه ، وان كان للكشف فقط عن المبغوضية " فالمعروف أنه لا يدل على فساد المعاملة ، اذ لم تثبت المنافاة لا عقلاً ولا عرفاً بين مبغوضية العقد والتسبيب به وبين امضاء الشارع له بعد ان كان العقد مستوفياً لجميع الشروط المعتبرة فيه ، بل ثبت خلافها كحرمة الظهار التي لم تناف ترتب الاثر عليه من الفراق " (53) وقد حرّرت هذه المسألة في كتب الشيعة في باب ( النهي عن المعاملة يقتضي الفساد ) .
2 ـ ما تكون حرمته لعارض أجنبي عن ذاتها " أي ان حكم العقل في الاصل الوجوب أو الندب أو الاباحة ، ولكنه اقترن بأمر خارجي جعله محرماً ، وذلك مثل الصلاة في أرض مغصوبة ، والبيع يوم الجمعة وقت الاذان ، وهذا النوع من المحرم يصلح سبباً شرعياً فتترتب عليه آثاره ، لان التحريم لامر خارج عن الفعل عارض له وليس لذات الفعل ، فلا يوجب خللاً في أصل السبب ما دامت أركان الفعل وشروطه الشرعية مستوفاة ، فالصلاة في أرض مغصوبة صحيحة مجزئة ما دامت مستكملة لاركانها وشروطها الشرعية ، ولكن المصلي آثم لانه صلى في أرض مغصوبة " (54) .
وهذه المسألة محررة ايضاً في باب استغرق بحثه عشرات الصحف على يد أساتذة مدرسة النجف الحديثة ، ويدعى الباب بـ ( باب اجتماع الامر والنهي ) واستعراض كل ما جاء فيه يخرجنا عن طبيعة التمهيد . والمسألة قد تفرض مع الاضطرار تارة وعدمه أخرى ، وفي صورة وجود المندوحة من الصلاة في الدار المغصوبة وعدمه ، والاجتماع قد يفرض اجتماعاً موردياً وأخرى موحداً ، ولكل منها حساب ، فليراجع في كل من حقائق الاصول (55) و أجود التقريرات (56) وأصول الفقه (57) ، و غيرها .
القسم الرابع : الكراهة وهي ردع الشارع المكلف عن الاتيان بشيء مع ترخيصه بفعله ، فالمكروه على هذا هو الفعل المردوع عن الاتيان به مع الترخيص ، ويسمى بـ ( النهي التنزيهي ) ويدل عليه من الصيغ ما يدل على الحرمة مع قرينة الترخيص .
القسم الخامس : الاباحة ويراد بها تخيير الشارع المكلفين بين اتيان فعل وتركه دون ترجيح من قبله لاحدهما على الاخر ، وليس لها صيغ محدودة بل تؤدى بكل ما يعبر عنها من الصيغ والمواد .
وقد اختلفوا في وجود المباح ، فالذي عليه جمهرة المسلمين انه موجود ، وخالف فيه الكعبي من المعتزلة وأتباعه ، حيث ادعى نفي المباح بل نفي الاحكام غير الالزامية على الاطلاق ، بتقريب : " انه ما من فعل يوصف بكونه مباحاً إلا ويتحقق بالتلبس به ترك حرام ما ، وترك الحرام واجب ، ولا يتم تركه دون التلبس بضد من أضداده ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب لما سبق " (58) وقد اعتبر الامدي هذه المسألة في غاية الاشكال ، وترجى ان يكون عند غيره حلها ((59 .
والجواب : ان تمامية رأيه موقوفة على تمامية مقدمات :
أولاها : ان النهي عن الشيء يقتضي الامر بضده العام .
ثانيها : ان الضد العام موقوف وجوده على الاتيان بأحد الاضداد الخاصة فهو مقدمة له .
ثالثها : الالتزام بالوجوب المقدمي تبعاً لوجوب ذي المقدمة .
والجواب عن هذه المقدمات متوقف على ادراك مناشئ التكاليف ، فالذي عليه المسلمون ان الاوامر والنواهي وليدتا مصالح ومفاسد في المتعلقات ، فالامر لا يكون إلا اذا كانت هناك مصلحة باعثة على الاتيان به ، والنهي لا يكون إلا مع وجود مفسدة فيه باعثة على الردع عنه ، وإن المصلحة والمفسدة من قبيل الضدين الذين لهما ثالث وهو ما لا يكون فيه مصلحة ولا مفسدة ، وعليه يتفرع الخطاب الشرعي الذي يفيد الاباحة ، فاذا صح هذا ، فالقول بأن الامر بالشيء يقتضي النهي عن ضده أو أن النهي عن الشيء يقتضي الامر بضده أمر لا ملزم له ، لجواز أن يكون في النهي عن الشيء مفسدة وليس في تركه مصلحة ملزمة ليؤمر به ، فالنهي اذن عن الشيء لا يستلزم الامر بضده . ولنفس السبب نقول : ان الامر بالشيء لا يستلزم الامر بمقدمته ، وعلى هذا الاساس أنكرنا وجوب المقدمة اذ لا ضرورة للقول به ، والقول بأن المتلازمين تلازم العلة والمعلول أو غيره يجب ان يأخذا حكماً متماثلاً لا مستند له ، لان طبيعة التلازم لا تستدعي أكثر من امتناع جعل الحكمين المتدافعين بأن يكون أحدهما واجباً والاخر محرماً ، لامتناع امتثالهما معاً لفرض التلازم ، أما ان يكون أحدهما واجباً والاخر مستحباً أو مباحاً فلا محذور فيه ، ولزوم الاتيان به تبعاً لملازمه لزوم عقلي محض لا يستدعي جعل أمر مولوي .
والسر فيه ما قلناه من ان تكاليف الشارع انما هي وليدة مصالح ومفاسد ، ولا يلزم ان يكون المتلازمان متشابهين في مصالحهما ليتماثلا في الحكم ، على ان ترك الضد ليس مقدمة لوجود الضد الاخر لكونه في رتبته ، وتوقف أحدهما على
الاخر يستدعي تقدم الموقوف عليه على الموقوف رتبة ، فلو قلنا بوجوب المقدمة تبعاً لذيها ، فإنا لا نقول به هنا لعدم المقدمية بين فعل الشيء وترك ضده ، نعم هما ـ أعني الضدين ـ متمانعان في الوجود .
وخلاصة الجواب : أولاً : انكار دعوى ان النهي عن الشيء يقتضي الامر بضده ، لجواز ان لا تكون في الضد مصلحة تستدعي مثل ذلك الامر .
وثانياً : إنكار ان يكون فعل الضد الخاص مقدمة لترك ضده المحرم ، لعدم المقدمية بين المتحدين رتبة ، وما دام احد الضدين في رتبة الاخر ; وكل ضد هو في رتبة عدمه ، فلا بد ان ينتج ان كل ضد هو في رتبة عدم ضده ، وطبيعة المقدمية تستدعي تقدماً في الرتبة على ذيها تقدم العلة على المعلول ، فمع عدم المقدمية تنتفي شبهة وجوب المقدمة المباحة من أصلها .
وثالثاً : إنكار وجوب المقدمية لو سلمت لنفس السبب الذي ذكرناه من عدم وجود المصلحة الملزمة في المباح .
واذا كان الغرض من الوجوب المقدمي هو جعل الداعي في نفس المكلف لامتثال ذي المقدمة ; فإن أمر ذي المقدمة كاف في جعل الداعي لامتثاله إن كان المكلف في مقام إطاعة أوامر مولاه ، وإن لم يكن في مقام الاطاعة فالامر بالمقدمة لا يضيف اليه شيئاً أصلاً ، فالشبهة الكعبية اذن شبهة لا تستند على أساس متين .
رأي الاحناف في تقسيم الاحكام التكليفية : ذكرنا رأي المسلمين ـ ما عدا الاحناف ـ في تقسيم الحكم التكليفي . أما الاحناف فقد قسموها الى ثمانية أقسام هي : الفرض ، الواجب ، الحرمة ، السنة
المؤكدة ، السنة غير المؤكدة ، كراهة التحريم ، الكراهة التنزيهية ، الاباحة . وأرادوا بالفرض الطلب الالزامي الذي قام عليه دليل قطعي ; وبالواجب الطلب الالزامي الذي قام عليه دليل ظني ; وبالسنة المؤكدة ما واظب على فعله الرسول من الطلب غير الالزامي ; وبالسنة غير المؤكدة ما لم يواظب عليه منها ، ووافقوا غيرهم في مفهوم الحرمة .
أما كراهة التحريم ، فقد أرادوا منها ما كان طلب الترك شديداً ، فهو أقرب الى الحرمة بخلاف النهي التنزيهي (60) ; وفي الاباحة وافقوا الجميع في مفهومها .
وهذا ـ فيما يبدو ـ تطويل في التقسيم لا طائل تحته ، وثمراته التي ذكروها لا تبرره ; ولعلنا سنتحدث عنها في مواضعها من بحوثنا الفقهية ، فالانسب الاقتصار على تقسيم جمهور الاصوليين للاحكام التكليفية .
الحكم الوضعي : وقد عرف بتعاريف لعل أسدّها " الاعتبار الشرعي الذي لا يتضمن الاقتضاء والتخيير " وقد اختلفوا في عد الاحكام الوضعية ، فقيل ثلاثة وهي : السببية ، والشرطية ، والمانعية ; وقيل خمسة ، بزيادة العلة والعلامة ; وقيل تسعة ، بزيادة الصحة ، والفساد ، والرخصة ، والعزيمة .
والحق انه لا موجب لتحديدها بعدد مخصوص ، بل يقتضي شمولها لكل ما انطبق عليه هذا التعريف ، على ان انطباق عنوان الحكم الوضعي على بعضها لا يخلو من تأمل ، لعدم إمكان تصور الجعل والاعتبار بنوعيه بالنسبة لبعضها وإمكان إلحاق بعض آخر منها بالاحكام التكليفية ، وسيتضح الامر فيها بعد عرض خلافهم في نوع الجعل والاعتبار بالنسبة للاحكام الوضعية ، وهل هو بالاصالة أو التبع ، ولاهمية هذا البحث وما يترتب عليه من ثمرات فقهية نعرض
له بشيء من الحديث .
الاحكام الوضعية مجعولة أو منتزعة : اختلف الاصوليون في كون الاحكام الوضعية مجعولة ابتداء أو منتزعة من الاحكام التكليفية ، أي مجعولة تبعاً لها .
والتحقيق ان حالها مختلف ، فبعضها مجعولة وبعضها منتزعة .
ولايضاح كلمة ( منتزع ) ورفع ما وقع من الالتباس لدى بعض الاعلام في مجال التفرقة بين الامور الانتزاعية والامور الاعتبارية نقول : إن الشيء الثابت المتصف بالوجود على ثلاثة أنواع :
1 ـ ما يكون وجوده متأصلاً في ظرفه المكاني ، كالجواهر والاعراض .
2 ـ ما يكون وجوده متأصلاً في عالم الاعتبار ، بحيث اذا تجرد عن اعتبار المعتبر لا يبقى له وجود ، كالقيمة النقدية للدنانير والدراهم المسكوكة ، فإنها لا وجود لها في غير عالم الاعتبار .
3 ـ ما يكون وجوده بوجود منشأ انتزاعه وليس له وجود وراء ذلك ، وهذا على قسمين :
قسم يقع منشأ انتزاعه في عالم الواقع ، ومثاله : الفوقية والتحتية والبنوة والابوة ; إذ لا وجود لهذه الامور إلا بوجود الاب والابن ، والفوق والتحت . والثاني يقع منشأ انتزاعه في عالم الاعتبار ، كالسببية والشرطية المنتزعة من بعض القيود التي أخذها الشارع في تكاليفه وأحكامه ، وذلك مثل سببية الدلوك لصلاة الظهر ، والعقد بالنسبة الى تحقق الملكية به .
وعلى هذا فالفارق بين الامور الاعتبارية والامور الانتزاعية فارق جذري ، لان الاُمور الاعتبارية لها تأصل في الوجود في عالمها بخلاف الاُمور الانتزاعية ،
إذ لا وجود لها إلا بوجود منشأ انتزاعها ، وهي مجعولة في الاُمور الاعتبارية تبعاً لها .
والخلاف بعد ذلك واقع في ان الاحكام الوضعية متأصلة في الجعل ، أو أنها تابعة للاحكام التكليفية ومنتزعة منها .
والظاهر أن بعضها متأصل بالجعل كالملكية والزوجية ، وليست هي منتزعة من الاحكام المترتبة عليها ، كحلّية التصرف وجواز التمتع بالزوجة ـ كما ذهب الى ذلك بعض الاعلام ـ لوضوح انها متأخرة في الرتبة عنها تأخر الحكم عن موضوعه ، ومن المستحيل انتزاع المتقدم من المتأخر للزوم الخلف أو الدور .
وبعضها منتزع منها كالسببية ، والشرطية ، والعلية (61) ، والمانعية ، بالنسبة الى التكاليف المقيدة بوجود شيء فيها أو في متعلقاتها ، فمن تعلقها بوجود الشيء ننتزع السببية أو العلية أو الشرطية على اختلاف في كيفية التعلق ، ومن تقييدها بعدمه ننتزع المانعية له .
واذا صح كونها من الامور المنتزعة ، فإن اعتبارها بالطبع يكون تبعاً لاعتبار منشأ انتزاعها وليس له وجود مستقل .
ولقد أنكر صاحب الكفاية كون الشرطية أو المانعية أو السببية بالنسبة الى التكليف قابلة للجعل التشريعي ، لكونها مجعولة بالجعل التكويني تبعاً لجعل موضوعها .
وفيما ذكره " خلط بين الجعل والمجعول ، فإن ما ذكره صحيح بالنسبة الى أسباب الجعل وشروطها من المصالح ، والمفاسد ، والارادة ، والكراهة ، والميل ، والشوق ; فإنها أمور واقعية باعثة لجعل المولى التكليف ومبادئ له ، وليست قابلة للجعل التشريعي لكونها من الامور الخارجية التي لا يعقل تعلق الجعل التشريعي بها ، بل ربما تكون غير اختيارية كالميل ، والشوق ، والمصلحة ، والمفسدة مثلاً ، وهي
خارجة عن محل الكلام ، فإن الكلام في الشرطية والسببية والمانعية بالنسبة الى المجعول وهو التكليف ، وقد ذكرنا أنها مجعولة بتبع التكليف ، فكلما اعتبر وجوده في الموضوع فننتزع منه السببية والشرطية ، وكلما اعتبر عدمه فيه فننتزع منه المانعية " (62) .
ومن هذا الحديث يتضح أنّ اعتبار :
الصحة والفساد : من الاحكام الوضعية غير صحيح على اطلاقه ، لان الصحة على قسمين : صحة واقعية ، ويراد بها مطابقة المأتي به للمأمور به واقعاً ، ويقابلها الفساد ، ومثل هذه الصحة تابعة لواقعها ، والجعل لا يتناول الاُمور الواقعية ، وكذلك الفساد . أما القسم الثاني وهو الصحة الظاهرية ، كالحكم بصحة الصلاة بعد الفراغ منها عند الشك فيها استناداً الى قاعدة الفراغ فهي التي تكون قابلة للجعل والاعتبار ، وكذلك الحكم بالفساد ظاهراً عند الشك في الصلاة الثنائية مثلاً .
وما يقال عن الصحة والفساد الواقعيين من إنكار كونهما حكمين وضعيين يقال عن :
العزيمة والرخصة : ولكن لا من حيثية واقعيتهما بل من حيث كونهما راجعين الى الاحكام التكليفية كما يتضح ذلك من معناهما المحدد لهما عند الاصوليين .
فلقد عرف غير واحد العزيمة بما يرجع الى " ما شرعه الله أصالة من الاحكام العامة التي لا تختص بحال دون حال ولا بمكلف دون مكلف " (63) .
وفي مقابلها الرخصة وهي " ما شرعه الله من الاحكام تخفيفاً على المكلف في
حالات خاصة تقتضي هذا التخفيف " (64) . و رجوعهما بهذين التعريفين الى الاحكام التكليفية من أوضح الامور ، فليست العزيمة إلا الحكم المجعول للشيء بعنوانه الاولي ، وليست الرخصة الا جعل الاباحة للشيء بعنوانه الثانوي ، وهما لا يخرجان عن تعريف الاحكام التكليفية بحال .
وأمثلة العزيمة التي ذكروها هي : ما ألزم به الشارع من الصوم ، والصلاة ، والحج ، وترك شرب الخمر ، وأكل الميتة ، وهكذا . ومثلوا للرخصة بما أحل لاجل الاضطرار والاكراه ، كأكل لحم الميتة ، وشرب الخمر ، وغيرهما من العناوين الثانوية .
والذي يبدو ان لفظتي : الرخصة والعزيمة ، وردتا على لسان النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) . ففي نهاية ابن الاثير " وحديث ابن مسعود أن الله يحب ان تؤتى رخصه كما يحب ان تؤتى عزائمه " (65) ، فمن هذا الحديث وتفسيرات الاُصوليين والفقهاء لهما بما سبق لا يتضح منشأ لتفسير العزيمة " بسقوط الامر بجميع مراتبه أو سقوط التكليف رأسا " وتفسير الرخصة " بسقوطه ببعض مراتبه " (66) كما ورد ذلك في بعض التحديدات ، لوضوح أنه لا معنى للتعبير بأنه " يحب ان تؤتى عزائمه " اذا كان معنى العزيمة سقوط الامر بجميع مراتبه لكون " الاتيان به استناداً الى المولى تشريعاً محرماً " (67) كما يصرح بذلك المحدد نفسه ، اللهم إلاّ ان يتعدد فيها الاصطلاح باختلاف المصطلحين من الفقهاء ، وتحديد العزيمة والرخصة بهذا المعنى يشبه الى حد بعيد تقسيمهم للحكم الى واقع أولي وواقع ثانوي مع اختلاف في بعض الخصوصيات .
1 ـ الحكم الواقعي الاولي : ويراد به الحكم المجعول للشيء أولاً وبالذات ، أي بلا لحاظ ما يطرأ عليه من العوارض الاخر ، كأكثر الاحكام الواقعية تكليفية ووضعية .
2 ـ الحكم الواقعي الثانوي : وقد أُريد به ما يجعل للشيء من الاحكام بلحاظ ما يطرأ عليه من عناوين خاصة تقتضي تغيير حكمه الاولي ، فشرب الماء مثلاً مباح بعنوانه الاولي ، ولكنه بعنوان انقاذ الحياة يكون واجباً ; والصناعات التي يتوقف عليها نظام الحياة واجبة على نحو الكفاية ، ولكنها مع الانحصار بشخص أو فئة خاصة ، تكون واجبة عيناً إن صح أن الوجوبين مختلفان بالسنخ وهكذا .
وما اكثر الاحكام الاولية التي يتبدل واقعها لطرو عناوين ثانوية عليها ، فالواجب ربما تحول الى حرام ، والحرام الى مباح ، والمباح الى مستحب وهكذا ... ومن هنا تتضح مرونة الاحكام الاسلامية وتمشّيها مع الظروف والاحوال ، ولذلك حديث خاص سيأتي في موضعه من أدلة القياس ، ان شاء الله تعالى .
ومن هنا يعلم ان الحكم الواقعي الثانوي أعمّ من الرخصة بالمعنى السابق لاختصاصها بإباحة الواجب او الحرام وشمول الواقعي الثانوي الى تبدل الحكم الى غيره حسبما تقتضيه البواعث الثانوية من إباحة ، أو حرمة ، أو وجوب ، أو رفع حكم وضعي وهكذا ، كما أن العزيمة مختصة بالاحكام الالزامية الاولية حسبما توحي به لفظة ( العزيمة ) من الالزام وان وسعوا في تعريفها " الى كل ما شرعه الله اصالة " .
تقسيم الحكم الى واقعي وظاهري : ولهم في كل من الكلمتين ـ الحكم الواقعي ، الحكم الظاهري ـ اصطلاحان ، يراد من الحكم الواقعي في الاول منهما : الحكم المجعول من قِبل الشارع للشيء بعنوانه الاولي أو الثانوي ، والمدلول عليه بالادلة القطعية أو الادلة الاجتهادية كالامارات والطرق الظنية التي قام على اعتبارها دليل قطعي ، ويقابله الحكم الظاهري ، أي الحكم المستفاد من الادلة ( الفقاهتية ) المأخوذ في موضوعها الشك ، كالحكم المأخوذ من الاستصحاب أو البراءة أو غيرهما ; ويراد من الحكم الواقعي في الاصطلاح الثاني الحكم المجعول من قِبل الشارع والذي دلت عليه الادلة القطعية ، ويقابله الحكم الظاهري ، وهو ما كان مدلولاً للادلة غير القطعية أمارة كانت أم أصلاً .
وقد اختلفوا في وجود الحكم الظاهري بالمعنيين معاً في مقابل الحكم الواقعي .
والذي عليه أكثر الباحثين من الاصوليين وجود جعلين واقعيين متعلقين بأفعال المكلفين أحدهما في طول الاخر ; أطلق على الاول منهما كلمة الحكم الواقعي ; وعلى الاخر ـ وهو الذي جعل في حال الشك أو أخذ في موضوعه الشك ـ كلمة الحكم الظاهري .
وقد أوردت عليهم عدة اشكالات ترجع في أسسها الى امتناع الجمع بينهما للزوم التضاد أو اجتماع المثلين أو التصويب .
بتقريب ان ما يسمى بالحكم الظاهري ان فرض مع وجوده الحكم الواقعي وكان على وفقه لزم اجتماع المثلين ، أو كان على خلافه لزم اجتماع الضدين ، وان فرض ارتفاع الحكم الواقعي عند قيامه لزم القول بالتصويب وهو ممتنع على مبنى المخطئة ، وهم جمهور المسلمين اليوم ، وسيأتي تحقيقه .
وقد كانت لهم محاولات في دفع هذا الاشكال لا يخلو أكثرها من مؤاخذة (68) ،
ولعل أبعدها عن المؤاخذات ما ذكره بعض أساتذتنا من أن الاحكام لما كانت من سنخ الامور الاعتبارية ـ والاعتبار خفيف المؤنة ـ فلا مضادة بين اعتبارين ذاتاً وإنما يقع التضاد بينهما عرضاً ، إما لتضاد مبادئهما أو لتضاد فيما ينتهيان اليه ; أما من حيث المبادئ فلا تضاد بينهما هنا " لما أفاده في الكفاية من ان الاحكام الظاهرية ناشئة عن مصالح في جعلها ، والاحكام الواقعية ناشئة عن المصلحة في متعلقاتها ، سواء كانت راجعة إلى المكلِّف ـ بالكسر ـ فيما أمكن ذلك أو الى المكلَّف ـ بالفتح ـ كما في الاحكام الشرعية ، فلا يلزم من اجتماعهما وجود المصلحة والمفسدة أو وجود المصلحة أو المفسدة وعدمه في شيء واحد ، وهكذا الشوق أو الكراهة ، ففي الاحكام الواقعية يكون الشوق أو الكراهة متعلقاً بنفس المتعلق ، وفي الاحكام الظاهرية بنفس الجعل كما في إيجاب الاحتياط حفظاً للواقع أو جعل البراءة تسهيلاً على المكلفين .
وأما من ناحية المنتهى ، فلانه لا يعقل وصولهما معاً الى المكلف ، إذ عند وصول الحكم الواقعي لا يبقى موضوع للحكم الظاهري ، وما لم يصل الحكم الواقعي يكون الواصل هو الحكم الظاهري فقط ، فأين وصولهما عرضاً ليبقى المكلف متحيراً في مقام الامتثال " (69) و غير قادر عليه ؟
وهذا الجواب متين جداً لو التزمنا بوجود أحكام ظاهرية ، اما مع إنكار وجودها من الاصل فلا حاجة الى محاولة للجمع بينها .
وإيضاح الامر ان المجعول في باب الطرق والامارات ليس هو مدلول ما قامت عليه الامارة ، وإنما المجعول فيها هو نفس الطريقية والوسطية في الاثبات ، وهي من الاحكام الوضعية القابلة للجعل بنفسها ، والشارع انما جرى في اعتبارها على وفق ما جرى عليه العقلاء ، وأكثر الامارات والطرق مما اعتمدوها وألغوا احتمال المخالفة للواقع بسيرهم على وفقها ، وأعطوها وظيفة العلم من حيث الكاشفية عن
الواقع ، فهم في الحقيقة انما تمموا كشفها باعتبارهم لها ، وجاء الشارع فأقرّهم عليها وألزمنا بها من طريق الامضاء . واذا كان العلم ـ وهو أتم كشفاً للواقع منها ـ لا يغير في الواقع ولا يبدل فيه بل لا يضيف اليه حكماً جديداً فيما قام عليه اذا وافقه أو أخطأه ، فحساب الامارة فيها أوضح ، فما قامت عليه الامارة لا يخلق حكماً ظاهرياً ليفكر في كيفية الجمع بينه وبين الحكم الواقعي ، وكل ما هنالك تبني الشارع لكشفها بتتميمه من قبله ، وهو لا يستدعي اكثر من ثبوت المنجزية والمعذرية كما سبق بيان ذلك .
وما يقال عن الامارة يقال عن الاصل الاحرازي ، اذ المجعول فيه أيضاً هو الطريقية والوسطية في الاثبات ، لكن لا من تمام الجهات كما كان في الامارات ، بل من حيث الجري العملي على وفق ما قام عليه الاصل واعتباره واقعاً ، ولهذا الفارق بينهما حكمت الامارة عليه كما يأتي إيضاح ذلك .
وأما الاُصول غير الاحرازية ، فهي غير ناظرة الى جعل حكم أصلاً أو إثباته ، وإنما هي ناظرة الى رفع الحيرة فقط عند الشك وألسنتها صريحة بذلك " احتط لدينك "(70) " الناس في سعة ما لا يعلمون "(71) ولذلك آثرنا تسميتها بالوظيفة تبعاً لبعض أعلامنا الاجلاء ; ونفي الحكم الظاهري في الاُصول العقلية أوضح ، إذ لا جعل شرعي ليفكر في كيفية الجمع بينه وبين الحكم الواقعي .
وعلى هذا فالحكم الواقعي باق على واقعه ، أقصاه أن باعثيته موقوفة على وصوله بإحدى الطرق السابقة ذاتية أو مجعولة ، ومع عدم الوصول والشك فيه يلجأ الى إحدى تلكم الوظائف لرفع الحيرة والتماس المؤمّن .
ومن هنا يتضح الفارق بين الحكم والوظيفة ، كما يتضح سر تقسيمهم للحكم بمعناه العام اليهما .
الفرق بين الحكم والوظيفة الشرعية : فالوظيفة ليس فيها نظر الى الواقع أصلاً ، وجعلها لا يستند الى مصلحة أو مفسدة في المؤدّى ، وانما يستند الى مصلحة في نفس الجعل ، وهي مصلحة التيسير أو المحافظة على الحكم الواقعي ، بخلاف الحكم فانه تابع للمؤدّى ، فإن كان فيه مصلحة ملزمة أو مفسدة كذلك ، كان الحكم تبعاً لذلك إلزامياً ; وان كانت المصلحة أو المفسدة غير ملزمة جعلت الكراهة أو الاستحباب ، ومع خلوّها عنهما أو تساويهما جعلت الاباحة .
والوظيفة وإن التقت أحياناً بالوجوب أو الحرمة كما في قاعدة الاحتياط ، أو بالحكم الترخيصي كما في البراءة ، إلا أن الفارق بينهما فارق جذري لتوفر الحكم على متابعة الواقع بخلاف الوظيفة ، فما ورد عن بعض الاساتذة من اعتبار البراءة إباحة شرعية لا يعرف له وجه ما دامت الاباحة وليدة خلو الواقع عن المصلحة والمفسدة معاً ، أو وجودهما وتساويهما من حيث الاهمية ، والبراءة الشرعية ليست ناظرة الى الواقع أصلاً ، وربما كان فيه مصلحة ملزمة أو مفسدة كذلك ، فكيف يقال برجوعها اليها ؟
وعلى هذا فالوظيفة ليست من سنخ الاحكام التكليفية ، وإنما هي من سنخ الاحكام الوضعية المجعولة بنفسها من قبل الشارع لغرض التيسير على العباد ورفع الحيرة عنهم .
هذا كله في الفرق بين الحكم والوظيفة الشرعية .
أما الفرق بينه وبين الوظيفة العقلية : فأمره أوضح لان الوظيفة العقلية لا تستند على جعل شرعي أصلاً ليلتمس الفارق بينها وبين الحكم ، وهما مختلفان بالسنخ وبالرتبة .
وهذا التعريف للحكم وتقسيماته المختلفة إنما يتم على مبنى من يؤمن بوجود جعل شرعي واعتبار يتعلق بأفعال العباد ; أما على مبنى من يدعي ان الحكم ليس هو في واقعه " إلا عبارة عن العلم باشتمال الافعال على المصالح والمفاسد من دون أن يكون في البين جعل يقتضي الارادة والكراهة "(72) فلا يتجه الحديث في اكثر هذه البحوث ، وقد حكي عن بعض احتمال هذا القول بل الالتزام به .
وهذا البعض لا نعرفه على التحقيق ، وهو في رأيه هذا خارج على إجماع المسلمين ـ فيما نعلم ـ فلا يستحق ان يناقش رأيه ويطال فيه الحديث ; على أن استاذنا النائيني أطال في ردّه بعد أن اعطى رأيه فيه بقوله : " ولكن احتمال ان لا يكون في البين إلا العلم بالصلاح والفساد من دون أن يستتبع العلم بذلك الجعل والتشريع في غاية الوهن والسقوط "(73) وربما استظهر من كلام الاستاذ خلاف نسبة نظيره الى القائلين بالتقبيح والتحسين العقليين(74) ، وسيأتي تحقيقه في مبحث ( العقل ) وبيان ان هذا الاستظهار لا مستند له لتصريحهم بوجود الحكم ، وان الحاكم هو الله تعالى لا غير .
بقيت أمور تتصل بمباحث الحكم وتلابسها ، إلا أن أكثرها مما يرجع الى مباحث الفقه ، لذلك آثرنا عدم عرضها في هذا التمهيد لعدم اتصالها المباشر بطبيعته .
( 5 )
منهج البحث
تحديد المنهج : وقبل ان ننهي الحديث في هذه البحوث التمهيدية التي امتدت بنا كثيراً ، نود ان نشير الى المنهج الذي نريد ان نسلكه في دراسة هذه الاصول والقواعد العامة التي عقدت هذه البحوث لدراستها ليكون القارئ الكريم على هدى في مسايرة فصولها القادمة .
وتحديد ذلك المنهج يدعونا الى : 1 ـ تشخيص تلكم الاصول واستنباطها من مصادرها .
2 ـ وضع هيكلها العام في الكتاب من حيث التبويب وتقديم بعضها على بعض .
3 ـ طريقة دراستها وتقييمها والاسس التي ترتكز عليها في مجال التقييم .
منهجنا في تشخيص الاصول : هناك منهجان لتشخيص الاصول واستنباطها : منهج الاحناف ، ومنهج المتكلمين ; ولكل منهما وجهة نظر ألّفت على أساسها جملة من كتب الاصول .
أما منهج الاحناف فقد ركز على أساس اعتبار الفروع الفقهية لامام المذهب هي المنطلق الى التماس الضوابط الاصولية العامة ، ووظيفتهم أقرب الى الوظيفة التأريخية منها الى الوظيفة العقلية التقييمية ، وهذا بالنسبة إليهم طبيعي جداً بعد سد أبواب الاجتهاد على أنفسهم ، إذ النظر في طبيعة الاصول وتقييمها والتماس أمثلها أو التماس أصول جديدة لم يعد ذي جدوى بالنسبة اليهم ما داموا لا يملكون لانفسهم حق استنباط الاحكام الشرعية من أدلتها .
وكلما يهمهم بعد ذلك ان يعرفوا ما اعتمده إمام المذهب من الاصول ، وخير الوسائل الى ذلك ان يجعلوا " أحكام الفروع التي نقلت عن أئمتهم مصدراً لهم لاستنباط الاصول التي اتبعوها عند الحكم فيها " (75) .
وقد ألف على طريقتهم هذه جملة من أعلام الاصوليين ـ فيما تحدث بعضهم ـ كالكرخي ، والرازي المعروف بالجصاص ، والسرخسي ، والنسفي ، وغيرهم .
منهج المتكلمين : ولكن منهج المتكلمين يختلف عن ذلك المنهج اختلافاً كبيراً ، حيث يقوم " على تجريد قواعد الاصول عن الفقه والميل الى الاستدلال العقلي ما أمكن ، فما أيدته العقول والحجج أثبتوه وإلا فلا ، دون اعتبار لموافقة ذلك للفروع الفقهية ، فهدفهم ضبط القواعد لتكون دعامة للفقه ضابطة للفروع من غير اعتبار مذهبي " (76) .
وقد ألف على هذه الطريقة ـ فيما يقال ـ كل من : الامدي ، والغزالي ، والجويني ، ومحمد بن علي البصري ، وغيرهم ، كتبهم في الاصول ، وجل كتب الشيعة الاصولية قائمة على هذا الاساس .
أما نحن ـ كمقارنين ـ فإن وظيفتنا هي أخذ واعتماد الطريقتين معاً .
اذ احتياجنا إلى الاولى انما يكون في التماس وتشخيص هذه الاُصول والتعرف
عليها من مصادرها لدى الائمة ، لان طبيعة المقارنة تستدعي جمع الاراء من مظانها ـ في الفقه والاُصول ـ والتأكد من نسبتها لاصحابها ثم التماس أدلتها لديهم تمهيداً لفحصها وإعطاء الرأي فيها .
واحتياجنا بعد ذلك لطريقة الكلاميين انما كان لتقييم هذه الاراء بتقييم أدلتها والتماس أمثلها الى الحجية والدليلية .
وليس للمقارن ان يستغني بإحدى الطريقتين عن الاُخرى من الوجهة المنهجية ، وإلاّ لاخل بطبيعة ما يقتضيه بحثه من نهج .
الهيكل العام للكتاب : وفي حدود ما ندّعيه لانفسنا من استقراء آراء العلماء في مصادر التشريع وتتبع هذه المصادر عند أئمة المذاهب وكبار مجتهديهم ، سواء ما يتصل منها في انتاج الحكم الشرعي أم الوظيفة عقلية أو شرعية ، فقد رأينا ان ما ينتظم في بحثنا منها لا يتجاوز العشرين أصلاً بعد غربلة وإقصاء ما يتمحض لانتاج الحكم الجزئي أو يغلب عليه إنتاجه ، وان انتج أحياناً الحكم الكلي مما آثرنا بحثه في كتابنا اللاحق عن القواعد الفقهية العامة ، إن شاء الله .
على ان هذه الاصول يمكن ارجاع بعضها الى بعض واختصار عددها الى النصف تقريباً ، إلاّ اننا رأينا ان مجاراة علماء الاصول في بحثها مستقلة والاشارة الى ما ترجع اليه أيسر على الباحث وأكثر جدوى له .
وعلى كثرة ما كتب الاصوليون في هذه القواعد والاصول ، إلا أنهم لم يلاحظوا وضع بعضها في موضعها الطبيعي من بابها الخاص ، بل خلطوا بينها فأدخلوا بعض
ما ينتج الحكم الكلي ضمن ما ينتج الوظيفة وبالعكس .
والنهج الذي نراه هو ان يبنى الكتاب على أساس ما لهذه الاُصول من ترتب في مقام إعمال المجتهد وظيفته في مجال الاستنباط .
فالمجتهد ـ بالطبع ـ مسؤول في الدرجة الاولى عن التماس الحكم الواقعي من أدلته الكاشفة له ، فإن أعياه العثور عليه لجأ الى الواقع التنزيلي لالتماسه من أصوله وقواعده ، فإن أعياه ذلك لجأ إلى التماس الوظيفة الشرعية من أدلتها ، فإن لم يعثر عليها التجأ الى ما يقرره العقل من وظائفه ، فاذا غمّ عليه مع ذلك كله كان عليه الرجوع الى القرعة على قول .
فمراحل البحث لدى المجتهد إذن خمسة :
1 ـ مرحلة البحث عن الحكم الواقعي والاصول التي يرجع اليها أو الى بعضها الفقهاء حسب استقرائنا لها من كتب الفقه والاصول هي : الكتاب ، السنة ، الاجماع ، دليل العقل ، القياس ، الاستحسان ، المصالح المرسلة ، سد الذرائع ، العرف ، مذهب من قبلنا ، مذهب الصحابي .
2 ـ مرحلة البحث عن الحكم الواقعي التنزيلي وأهم أصوله : الاستصحاب . أما الاصول التنزيلية الاخرى كأصالة الصحة ، وقاعدتي التجاوز والفراغ ، فالذي يغلب على انتاجها الحكم الجزئي ، لذلك آثرنا تأجيل الحديث فيها الى الكتاب اللاحق .
3 ـ مرحلة البحث عن الوظيفة الشرعية ، وأصولها هي : البراءة الشرعية ، الاحتياط الشرعي ، التخيير الشرعي .
4 ـ مرحلة البحث عن الوظيفة العقلية ، وأصولها : البراءة العقلية ، الاحتياط العقلي ، التخيير العقلي .
5 ـ مرحلة تعقد المشكلة وعدم التمكن من العثور على أدلة الحكم أو الوظيفة
بأقسامها ، والاصول التي يرجع اليها عادة هي القرعة بعد تمامية دليلها ودلالتها .
وهذا الترتيب في وظائف المجتهد ـ عند إعمال ملكته ـ هو الترتيب الطبيعي عادة ، وقد اقتضته طبيعة أدلة هذه الاصول وتقديم بعضها على بعض .
ولايضاح هذا الجانب ، وهو الاساس في بناء الكتاب ، فإن علينا أن نعرض المقياس في الجمع بين الادلة أو تقديم بعضها على بعض لنعرف السر في ذلك البناء فنقول :
إن الجمع بين الادلة أو تقديم بعضها على بعض من وجهة دلالية قد يكون لامور ، لعل أهمها أربعة هي : التخصيص ، التخصص ، الحكومة ، الورود .
وكلمتا ( الحكومة ) و ( الورود ) ، مصطلح متأخر جرى على ألسنة بعض أعلام النجف ، منذ ما يزيد على القرن (77) وتداول على ألسنة جميع الاعلام بعد ذلك وبحثوا كل ما يميزهما عن التخصيص والتخصص ، وهما المصطلحان اللذان شاع استعمالهما على ألسنة الاصوليين قديماً وحديثاً .
وكان الباعث لهم على هذا المصطلح الجديد أنهم وجدوا ان طريقتي التخصيص والتخصص لم تعودا وافيتين بحاجة الفقيه الى معرفة الجمع بين الادلة أو تقديم بعضها على بعض ، لان بعض الادلة تقتضي ألسنتها التقديم وهي ليست تخصيصاً ولا تخصصاً ، وليس لدى القدماء ما يوجبه من الاصول التي وضعوها لذلك .
واذا اقتصر التخصيص والتخصص على الادلة اللفظية ، فإن الحكومة والورود يعمان حتى الاصول المنتجة للوظائف على اختلافها .
ومن الحق ان نشير الى هذه المصطلحات بشيء من الايضاح .
التخصيص : فالمراد بالتخصيص إخراج من الحكم مع دخول المخرج موضوعاً ، ومثاله : كل مكلف يجب عليه الصوم في شهر رمضان إلا المسافر ، فالمسافر مكلف ولا يجب عليه الصوم .
التخصص : أما التخصص فالمراد به الخروج الموضوعي الوجداني ، وهو الذي يسميه النحويون بـ ( الاستثناء المنقطع ) ومثاله : كل مكلف يجب عليه الصيام إلا الطفل ، فان الطفل خارج عن موضوع ( المكلف ) وجداناً .
الحكومة : والمراد بالحكومة ان يكون أحد الدليلين ناظراً الى الدليل الاخر ، موسعاً أو مضيقاً له ، فمن القسم الاول ما ورد من أن " الفقاع خمر استصغره الناس " (78) ، فالفقاع ، وإن لم يكن خمراً بمفهومه اللغوي ، إلا ان الشارع بدليله هذا وسّع مفهوم الخمر الى ما يشمل الفقاع ، وأعطاه جميع أحكام الخمر بحكم عموم التنزيل . وأمثال هذا في الادلة كثيرة .
ومن القسم الثاني ما ورد في أدلة نفي الضرر ، كقوله(صلى الله عليه وآله وسلم) : " لا ضرر ولا ضرار " (79) وسمة هذه الادلة الى أدلة الاحكام الاولية ، سمة المضيق لها الى ما لا يشمل الاحكام الضررية ، ولسان الكثير من أدلة هذا النوع من الحكومة لسان نفي للموضوع تعبدا ، ونفي الموضوع يستدعي نفي الحكم إذ لا حكم بلا موضوع .
ومن مزايا الادلة الحاكمة ان النسبة لا تلحظ بينها وبين الادلة المحكومة ، كما هو الشأن في الادلة المخصصة ، فليس من الضروري ان يكون الدليل الحاكم
أخص من الدليل المحكوم لنلتزم بتقديمه عليه ، بل يكفي ان يكون شارحاً ومبينا له ليقدم عليه ، وان كانت النسبة بينهما هي العموم من وجه .
وسر الفرق بينهما أن التقديم في التخصيص إنما كان لاجل أن ظهور الخاص في مصاديقه أقوى من ظهور العام في مصاديق الخاص ، أو أن الخاص نص فيها والعام ظاهر ، والنص والاظهر يقدمان على الظاهر عادة ، أو أن الخاص بمنزلة القرينة على المراد الجدي ، والظهور لا يتجاوز الكشف عن المراد الاستعمالي للامر ، ومن عدم القرينة على تغاير المراد الاستعمالي للمراد الجدي نستفيد تطابقهما ، فإذا جاءت القرينة على المغايرة لم يبق مجال للاستدلال ـ بما يكشف عن المراد الاستعمالي ـ على المراد الجدي ، على اختلاف في فلسفة التقديم .
ولكن ذلك لا يتأتى في العامّين من وجه ، لان نسبة كل منهما الى موضع الالتقاء من حيث الظهور نسبة واحدة ، فلا يصلح ان يكون أحدهما قرينة على التخصيص بالنسبة الى الاخر ; ومن هنا التزمنا بالتساقط في العامين من وجه عند تعارضهما في موضع الالتقاء .
ولكن لسان الحكومة لما كان لسان شرح وبيان للمراد من الادلة الاولية ، كان قرينة على كل حال ، فلا بد ان ينزل ذوالقرينة عليها عرفاً ; ومن هنا لم يلحظ العلماء النسبة في أدلة العناوين الثانوية مع العناوين الاولية ، ولا أدلة الرخصة مع العزيمة ، فيعارضون بينها مع ان النسبة بينهما ـ في الغالب ـ هي نسبة العموم من وجه ، فأدلة نفي الاكراه أو الاضطرار عندما تنسب الى أي حكم تكون نسبته اليها نسبة العموم من وجه ; خذوا على ذلك مثلاً نسبتها الى حرمة أكل لحم الميتة ، فان أدلة حرمة الاكل تقول : يحرم أكل الميتة على المضطر وغيره ; وأدلة نفي الاضطرار ، تقول : ان الحكم المضطر اليه مرتفع كان أكل الميتة أو غيره ، وموضع الالتقاء الميتة المضطر الى أكلها ، وهكذا ، والسر هو ما قلناه من تقديم العرف لهذا
النوع من الادلة بعد ان كان لسانه لسان بيان وشرح للمراد من الادلة الاولية .
الورود : أما الورود ، فالمراد به الدليل النافي للموضوع وجداناً ، ولكن بتوسط تعبد شرعي ، ومثاله ما ورد عن الشارع من قوله : " رفع عن أمتي ما لا يعلمون "(80)ولسانه لسان المؤمّن للعبد فيما لو ترك التكليف المشكوك ولم يأت به مع عجزه عن الوصول اليه بالادلة الاجتهادية المنجزة له ، فلو ترك استناداً الى هذا الحديث فانه لا يحتمل الضرر ، فالقاعدة العقلية القائلة بـ " وجوب دفع الضرر المحتمل " لا يبقى لها موضوع إذ لا احتمال للضرر مع وجود المؤمّن الشرعي .
فسمة حديث الرفع الى هذه القاعدة سمة الوارد عليها ، المزيل لموضوعها وجداناً ، ولكن بواسطة التعبد الشرعي .
والفارق بينه وبين التخصص : ان التخصص خروج موضوعي وجداني ، ولكن لا بتوسط تعبد من الشارع ، والورود خروج موضوعي وجداني ، ولكن بواسطة تعبد الشارع ، فلو لم يأت حديث الرفع كان احتمال الضرر موجوداً ، وكان حكمه العقلي بلزوم دفعه قائماً أيضاً ، ولكن التعبد الشرعي ازال الاحتمال وجداناً فأزيل معه حكمه تبعاً لذلك ، كما أن الفارق بينه وبين الحكومة واضح ، فالحكومة وإن كان لسان بعضها لسان نفي الموضوع ، إلا أن نفيها له نفي تعبدي لا وجداني ، فقول الشارع : " لا ضرر ولا ضرار " (81) وان كان فيه نفي للموضوع تعبداً ، إلا أن نفيه التعبدي لم يؤثر على بقائه الوجداني ، فالضرر الخارجي قائم وإن نفاه الشارع لنفي آثاره الشرعية بخلاف الورود ، فإن قيام المؤمّن الشرعي ينفي احتمال الضرر وجداناً ; ولعل لنا تفصيلاً أوسع في كيفية الجمع بين الادلة على اختلافها يأتي في مبحث الاستحسان . وفي حدود ما عرضناه هنا كفاية لايضاح
وجهة نظرنا في منهجة البحث وبيان السر في تقديم هذه البحوث بعضها على بعض .
( 3 ) وإذا تم هذا ، عدنا الى أدلة اعتبار هذه المراحل التي لا بد وان يتوفر عليها المجتهد لنرى أن أدلة الطرق والامارات بعد ما كان لسانها لسان كشف عن الواقع واثبات له ، وان الشارع أمضى طريقيتها كما سبق ، فمع قيامها لا مجال للرجوع الى أدلة الواقع التنزيلي كالاستصحاب ، فالاستصحاب مثلاً ، لا يريد منك أكثر من اعتبار مشكوكك متيقناً ، ومع فرض كونك متيقناً ـ ولو بواسطة التعبد الشرعي ـ لا شك لديك ـ تعبداً ـ لتحكم باعتبارك متيقناً ، فأدلة الطرق والامارات حاكمة على أدلة الاستصحاب ومزيلة لموضوعه .
وأدلة الاستصحاب هي الاُخرى لا تبقي مجالاً لالتماس الوظيفة الشرعية ، لان الوظيفة الشرعية إنما يلجأ اليها اذا اختفى الواقع بجميع مراتبه ، حتى التنزيلية منها ، و مع قيام الواقع التنزيلي ـ بأدلة الاستصحاب ـ لا مجال لمثل حديث الرفع المأخوذ فيه عدم العلم " رفع عن أمتي ما لا يعلمون " لحكومتها عليه بإزالتها لعدم العلم تعبداً ، وهو الذي أخذ في موضوعها ـ أي البراءة ـ بمقتضى هذا الدليل ، وهكذا بالنسبة الى الاحتياط والتخيير .
ومع قيام أدلة الوظيفة الشرعية ، لا مجال للوظيفة العقلية ، لورودها عليها بإزالتها لموضوعها وجداناً .
فالوظيفة العقلية مأخوذ في موضوعها عدم البيان الشرعي ، كما هو مقتضى
القاعدة القائلة بقبح العقاب بلا بيان ، أو احتمال الضرر كما هو مقتضى قاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل .
ومع قيام المؤمّن الشرعي بأدلة الوظيفة يزول موضوع القاعدتين وجداناً ، لوجود البيان الشرعي بالنسبة الى القاعدة الاولى ، وعدم احتمال الضرر مع وجود المؤمّن بالنسبة للقاعدة الثانية ، وإنما زال الموضوع فيهما بواسطة التعبد الشرعي ( وهو معنى الورود ) والقرعة لا مجال لها مع توفر الوظيفة العقلية لعدم الاشكال فيها ، وقد أخذ فيها انها لكل أمر مشكل ، وأين الاشكال مع قيام المؤمن العقلي ؟ فهو وارد على أدلة القرعة ومزيل لها وجداناً ، وهو في إزالته لموضوعها أقرب الى التخصص الواقعي منه الى الورود ، لعدم توسط التعبد الشرعي في إزالة الموضوع وجداناً .
( 4 )
أما الجواب على التساؤل الثالث وهو :
منهج الدراسة : فأظنه يتضح اذا تذكرنا الاسس التي ركزنا عليها في التمهيد الثاني في دراسة أصول الاحتجاج .
وبناء على هذا فإن مهمتنا تنصب في الدرجة الاولى ـ بعد استقراء الاُصول ـ
على تتبع أدلتها عند جميع الاطراف والتماس كيفية دلالتها عندهم ، ثم محاولة تقييم هذه الادلة وإقرار ما نراه ملزماً بالحجية ، ومناقشة ما لا نتفق عليه معهم ، ثم عرض وجهة نظرنا فيه .
وكل مناقشة لا تعود بالدليل الى احدى تلكم الاوليات أو القضايا المسلّمة لدى الطرفين لا تكون ملزمة لذلك الطرف المناقش ويبقى رأيه حجة عليه ، والمسألة تتحول اذ ذاك الى مسألة مبنائية ، كما هو الشأن في عوالم الاستظهار ودعوى التبادر ، وهي غاية ما تلزم مدعيها ومن قامت لديه ، كما أن دعوى القطع ـ وهو أساس الحجج ـ لا يكون ملزماً لغير من قام عنده ما لم يستند الى إحدى تلكم الاوليات والمسلّمات ، فيكون حجة على الغير لاستحالة تخلفه عنها بعد تنبهه له ، و بهذا يصح الاحتجاج والتقييم .
وخلاصة ما انتهينا اليه من ذلك كله :
اننا بعد استقرائنا لمختلف الكتب الفقهية والاُصولية لدى أئمة ومجتهدي المذاهب ـ فيما وقع منها بأيدينا ـ رأينا ان الذي ينتظم منها في كتابنا هذا ـ بحكم تحديدنا لمفهوم أصول الفقه ـ هو هذه الاُصول التي سبق عرضها لا غير ، لذلك ركزنا عليها الحديث دون غيرها ، وعند التماس هيكل الكتاب رأينا ان نخرج على الطريقة التقليدية ، فنبوبه على أساس ما لبعض هذه الابواب من تقدم رتبي على بعضها الاخر ، وخلص لنا من ذلك ان أبواب الكتاب ستكون خمسة :
1 ـ ما يكون سمته سمة الكاشف عن الحكم الواقعي .
2 ـ ما يكون سمته سمة المحرز للواقع تنزيلاً .
3 ـ ما يكون مثبتاً للوظيفة الشرعية .
4 ـ ما يكون مثبتاً للوظيفة العقلية .
5 ـ ما يكون رافعاً للامور المشكلة بعد تعقدها وفقد الدليل عليها .
هذا مضافاً الى ما سبق ان قرأتموه من بحوث التمهيد .
وقد آثرنا ان نلحقه بخاتمة وهي أقرب الى البحوث الفقهية ، وان اعتادوا إلحاقها بالاُصول وهي بحوث :
الاجتهاد والتقليد : وانما آثرنا إلحاقها بهذا الكتاب نظراً لاهميتها أولاً ، ولانها تصلح ان تكون نماذج تطبيقية لهذه الاُصول وكيفية استنباط الاحكام الشرعية منها ثانياً .
وأبعدنا عن طريقنا كل ما لا ينتج الحكم الكلي من الكبريات وكلما يقع موقع الصغرى من قياس الاستنباط ; وأشرنا الى بحوثها المهمة جداً في ملابساتها من هذه التمهيدات أو الاصول .
ينحصر بحثنا حول هذه الاُصول من حيث انتاجها للحكم الكلي الشرعي فقط ، لا من الحيثيات الاُخرى كصلوحها للدليلية على نفس الاُصول أو إثباتها لما يتعلق بأصول الدين أو غيرها ، فإن لذلك مجالاً آخر غير هذا الكتاب وإن كان ملاك الحجية فيها واحدا .
(40) مباحث الحكم عند الاصوليين : 40 .
(41) مباحث الحكم عند الاصوليين : 1 / 55 ، والاحكام : 1 / 49 .
(42) المصدر السابق نفس الصفحة ، وسلم الوصول : 29 .
(43) سورة الصافات : الاية 96 .
(44) سلم الوصول : 32 .
(45) مباحث الحكم عند الاصوليين : 1 / 58 نقلاً عنه .
(46) مصباح الاصول : ص78 .
(47) لاحظ حقائق الاصول : 1 / 332 .
(48) مباحث الحكم :1 / 81 .
(49) المصدر السابق .
(50) أصول الفقه للمظفر : 2 / 54 .
(51) المصدر السابق .
(52) سلّم الوصول : 54 .
(53) أصول الفقه للمظفر : 2 / 145 .
(54) سلم الوصول : 54 .
(55) للامام الحكيم(قدس سره) : 1 / 349 ـ 402 .
(56) لاية الله الخوئي(قدس سره) في باب اجتماع الامر والنهي .
(57) للحجة المظفر(رحمه الله) : 2 / 105 ـ 136 .
(58) الاحكام : 1 / 64 .
(59) المصدر السابق .
(60) مباحث الحكم عند الاصوليين : 1 / 63 وما بعدها .
(61) سيأتي في باب القياس تحديد المراد من هذه المصطلحات تفصيلاً ، فراجعه .
(62) مصباح الاصول : 81 .
(63) علم أصول الفقه لخلاّف : 138 .
(64) المصدر السابق ; وقريب منه ما ذكره الامدي في الاحكام : 1 / 68 وغيره .
(65) مادة " عزم " : 3 / 93 .
(66) مصباح الاصول : 86 وما بعدها .
(67) المصدر السابق : 87 .
(68) لاحظ تفصيل ذلك في مبحث الظن في كل من :
ـ فرائد الاصول : للشيخ الانصاري(قدس سره) .
ـ كفاية الاصول : للمحقق الاخوند الخراساني(قدس سره) .
ـ حقائق الاصول : للسيد الحكيم(قدس سره) وغير ذلك .
(69) دراسات : 3 / 75 .
(70) الاستبصار : 1 / 264 ، الباب : 149 الحديث : 13 . باختلاف يسير .
(71) عوالي اللالي : 1 / 424 ، الحديث 109 ، باختلاف يسير .
(72) فوائد الاصول :4 / 138 .
(73) المصدر السابق .
(74) مصادر التشريع الاسلامي : 76 .
(75) مباحث الحكم عند الاصوليين : 1 / 50 .
(76) المصدر السابق : 1 / 48 .
(77) المعروف أن الشيخ الانصاري(قدس سره) المتوفى سنة 1281هـ ، هو أول من وضع هذا الاصطلاح وتبنى مفاهيمه ، إلا أن استاذنا الشيخ حسين الحلي(رحمه الله) تتبع هذا الاصطلاح ، فوجده في كتاب " الجواهر " في أكثر من موضع ، وصاحب الجواهر ( الشيخ محمد حسن(قدس سره) ) أقدم طبقة منه وان كانت بينهما معاصرة ; ولم يسعني تحقيق ذلك لمعرفة واضع هذا المصطلح ، والله أعلم بحاله ( المؤلف ) .
(78) فروع الكافي : 6 / 423 ، الحديث : 9 ، باختلاف يسير .
(79) المصدر السابق : 5 / 280 ، الحديث : 4 .
(80) اصول الكافي : 2 / 463 ، الحديث : 2 ، بلفظ "وضع عن امتي ... " .
(81) فروع الكافي : 5 / 280 ، الحديث : 4 .