الاهداء لن أهديه لأحد! لأنّ (ألمْ) مازالت خائفة، والأخضر الذي ارتدى الغياب، لم يعد بعد!
البداية
يبدو الحسينُ يُغطّي سيفَهُ بورودِ النّهرِ ثمَّ يرشُّ الماءَ فوقَ دم القتلى، فتظهرُ خلفَ الأفْقِ عاصفةٌ.
صوتٌ يجيءُ: رأينا غيمةً هبَطت ليلا تُفَتِّشُ بينَ الرملِ عن دمهِ الضمآنِ، ثمَّ توارتْ وهيَ حائرةٌ..
صوتٌ يجيءُ: هيَ الأشياءُ تُولدُ في كفَّيِه، والرّيحُ طفلٌ خلفَ قامتهِ يبكي، وللشَّمِس خيطٌ من توهّجهِ...
أرادَ أن يقولْ
شيئاً عن الفاصلةِ البلهاءِ
بينَ النومِ واليقظةِ،
فاستسلمت الأشياءُ للذهولْ!
أرادَ أن يقولْ
شيئاً عن الخصبِ،
فصلَّت وردةٌ.. موبوءةٌ،
واستغفرت آلهة الذبولْ!
أرادَ أن يُطفي عواءَ الريحِ،
أو يسترَ عُريَ هذهِ الخيولْ
فصاحَ: يا أمطارَ هذاالأُفُقِ المسلولْ،
مُرّي على خيمتنا،
فَخبَّأت خلفَ الضبابِ وجهَها،
وسمَّرت غيومَها الفصولْ!
وبعدَها.. أرادَ أن يقولْ:
لا تولدوا..
لا تولدوا في زمن مقتولْ! الرؤيا الثانية
صمتُهُ مئذنَهْ
والجراحُ قناديلُ من وهج،
والسيوفُ انطفاءْ
هكذا قالت الريحُ،
ثمّ رَمَتْ وجهها في العراءْ
هكذا تخشعُ الأزمنَة،
فوق أقدامِهِ،
وتؤدّي الفصولُ طقوسَ البكاءْ
صمتُهُ مئذنَهْ
كلَّما فَرشَت ظلَّها،
هوَّمت فيه عصفورةٌ،
وغَفَت سوسنَهْ! الرؤيا الرابعة
رشّي ولو شيئاً من السرابْ! الرؤيا السابعة
مشبوبةً...
لا كما تشتهينْ،
أن تكونَ مرقَّعةً من رماد وطينْ!
أَنْ اكونَ كما تشتهينْ،
أنتِ لابدَّ أنْ تحصدي سنبلا،
مِن حكايا المواويلِ،
أو أنجماً من شظايا القناديلِ،
أو فرحاً من زوايا الأنينْ...
ثمَّ قد لا أكونُ كما تشتهينْ! الرؤيا الثامنة
كيفَ يجيءُ الماءْ؟
وتحتَ كلِّ قطرة،
محرقةٌ حمراءْ؟
وخلفَ كلِّ قطرة،
جزيرةٌ منقوعةٌ بالملحِ والخواءْ؟
كيفَ يجيء الماءْ؟
وليسَ في زوّادةِ القتلى سوى الدماءْ
وليسَ في عباءةِ الحسينْ،
غير بقايا جسد مجرَّح، وصمتِ كبرياءْ
كيفَ يجيء الماءْ؟
والنهرُ صارَ فجأةً...
مقبرةً لألفِ ألفِ موجة بلهاءْ؟! الرؤيا التاسعة
كانَ لابدَّ أنْ ترتدي
وجهَكِ المستعارْ
يا رماحاً من الوهمِ،
تعلو.. وتعلو لتبلغَ في القِمَّةِ الأنحدارْ!
رئتي عالَمٌ من دخانْ،
وعيوني أراجيحُ للصبرِ،
يغفو عليها الهدوءُ.. فتحرسُهُ نجمتانْ!
عاصفاتٌ رماديّةٌ سكنت غمدَ سيفي
والأكفُّ التي بايعتني..
تَعرَّت على بركة،
من خواء وزيفِ!
يا ترى.. أينَ أُخفي روايَ وحبِّي؟
والرماحُ الصديئاتُ...
تعرفُ ألفَ طريق لقلبي! الرؤيا الحادية عشرة
اَلقمرُ المخبوءُ خلفَ حزِنهِ،
اَلقمرُ المخبوءْ
أطلَّ ذاتَ ليلة،
في زمن موَبوءْ
ليلمحَ ابتسامةً من جبل،
بألفِ.. ألفِ طعنة ينوءْ
تموتُ أظفارُ الرماحِ
في شغافِ قلبِهِ مرعوبةً،
وهو كقطرةِ الندى..
يموتُ في هدوءْ!
اَلقمرُ المخبوءْ
غادرَ كربلاءَ ذاتَ ليلة
وضوءُهُ محنّطٌ.. ووجهُهُ مفقوءْ! الرؤيا الثانية عشرة
لم نكنْ نسمعُ ما قالَ،
ولكنّا رأَينا قمراً غادرَ كفَّيهِ.. ونورَسْ
ورأينا ظلَّهُ الأخضرَ،
منقوشاً على الرملِ المدمّى،
ورأينا بينَ عينيهِ صلاةً تَتَيَبَّسْ!
لا تموتي فجأةً.. أيّتها الريحُ،
ولا تختصري صيحتَهُ الأولى،
ولا تحترفي الصمتَ،
ولا تطوي الشراعا
أسمعينا كلمةً.. نُوقظْ بها الموتى،
ونُطعِمْها الجياعا
أسمعينا كلمةً واحدة منه،
وإنْ كانت وداعا! الرؤيا الثالثة عشرة
هل يلْتَوي السّكَّينُ فوقَ دمي،
ويرتجفُ الفراتذ؟
هل تنحني الأمطارُ،
هل تتكسّرُ الألوانُ،
هل تَلتفُّ بالخجلِ الصلاةُ؟
ظّلانِ خلفَ خطايَ،
مَنْ في الضوءِ قد وُلِدوا،
ومَن في الجرحِ قد وُلِدوا..
وماتوا!
أمضي ولي وَهَجُ الجذورِ،
ولي بداياتُ التمرُّدِ،
لي مخاضُ الرفضِ،
لي شمسٌ،
وذاكرةٌ قديمَهْ
خَطَفَت حكاياها السيوفُ،
وَرَظَّها وهْمُ الجريمَهْ!
أمضي وَلي في الماءِ مملكةٌ،
وللموتِ الهزيمَهْ! الرؤيا الخامسة عشرة
يا سيوفُ خذيني،
وكانت يداهُ سواقيَ قمح،
تنادي الجياعْ
فاعبري من دروبِ الضياعْ
يا وجوهَ الرمادْ
واعبري يا بقايا الجيادْ
جسداً.. واحةً ثرَّةَ الضوءِ..
ممطورةً بالشعاعْ
يا سيوفُ خذيني،
الى شرفة من جراح مسوَّرة بالعنادْ!
أنّتي وجع الانبياءْ
وانهيارتُها كبرياءْ
يا سيوفُ خذيني،
فخلفَ اشتعالِ الدماءْ،
ربَّما رفَّ في شفتي طيفُ ماءْ! المشهد الثاني
مَن يمنحُ الطفلا،
قطرةَ ماء مرّة؟
مَن يمنحُ الطفلا؟
فليس في خيمتنا شيءٌ،
سوى جنائِز القتلى!
وقبل أن أملأَ كفِّي من دمِ الرضيعْ
رأيتُ خلفَ وجهِهِ،
نافورةً من ألم فظيعْ
رأيتُ في عيونِهِ،
فراشةً تُصلبُ في مقبرِة الربيعْ
رأيتُ كلَّ رملة، مجنونةً... رعناءْ،
تهزأُ من شفاهِنا، تدقُّ فيها ألفَ مسمار،
لصلبِ قطرة من ماءْ!! المشهد الثالث
لهُ أنْ يْضيءْ
لهُ أنْ يفاجىءَ حدَ السيوفِ،
بجرح بريءْ
لهُ أنْ يكونَ الغريبَ الذي اختطفَ النهرَ،
والعابرَ المتمرّدَ في قافلاتِ الرمادِ،
ووجهاً تبادلُهُ الشمسُ سحنَتها،
في انطفاءِ الزمانِ الرديءْ
لهُ أنْ يُضيءْ
ليكسرَ صمتَ الفضاءِ،
جناحُ جريءْ!
لهُ أنْ يكونَ جذورَ الغيومِ،
وبدءَ المطرْ
ليستيقظَ الخصبُ.. يحكي الحجرْ
لهُ أنْ يكونَ المدى والسفرْ
لهُ أنْ يُضيءْ
ويُعلنَ أنَّ الشجرْ
ينثُّ النجومَ،
وأنّ زماناً شهيداً يجيءْ!
لهُ أنْ يكونَ...
ويهربُ وجهُ السحابَهْ
لنبقى نحوك الدموعَ،
ونحصدُ عُشبَ الكآبَهْ! المشهد الخامس
فامحُ زيفَ التأريخِ واكتبْ...
تناسى الماءُ وجهي،وخانتِ الأمطارُ! المشهد السادس
لِعينيكَ كلُّ النوافذِ مشرعةً،
أنتَ وحدَكَ تعرفُ عشبَ الطريقِ،
وتعرفُ سرَّ المسافَهْ
وأنت اغترفتَ من النهرِ كلَّ الحكايا
وغادَرتَهُ ورؤاهُ خرافَهْ
وقلتَ: المرايا صحارى من الوهمِ،
فانتحرتْ في يديهِ المرايا
وقلتَ: الشواطىءُ مجنونةُ الصخرِ،
والموجُ أُرجوحةٌ من سراب،
وأنشودةُ النخلِ مرثيةٌ،
والعصافيرُ منحوتةٌ من رمادْ
وقلتَ: الفراتُ المكفَّنُ يصلبُهُ ظمئي،
والنجومُ ثقوبٌ معبّأةٌ بالحدادْ
حنانيكَ.. ما عادَ للطينِ معنىً،
ولا البحرُ أزرقْ
لأنَّكَ غيّرتَ أشياءَها،
وتَمَرَّدتَ في زمن يتمزّقْ
غريبٌ أتفقِدُ أبعادَها الكلماتُ؟،
غريبٌ.. أتصمتُ أنتَ.. وجرحُكَ يشهقْ؟
لِعينيكَ سافرَ نهرُ الغناءْ
وغادَرتِ الأشرعَهْ
لِعينيكَ مرَّ المساءْ
على كِتَفَيْ زوبعَهْ! كورس
في الطريقِ الى الماءِ،
هاويةٌ من دم،
ضفّةٌ ترتدي الملحَ:
عشبٌ من الجمرِ.. أو شجرٌ من حديدْ
كانَ شيءٌ يهزُّ بكائي القديمَ،
ويفتحُ في القلبِ نافذةً لبكاء جديدْ
كانَ شيءٌ يسائلني:
أينَ خطوكَ؟
للماءِ
أين مرايا رؤاكَ؟
على الماءِ،
أين القناديلُ؟
في الماءِ،
هل كانَ شيءٌ يسائلني،
صوتُهُ بحّةٌ، والحروفُ جليدْ؟
لم أعدْ أذكرُ الآنَ،
غير الرماحِ العنيداتِ،
تضرى على نبضِ هذا الفؤادِ العنيدْ!
في الطريقِ رأيتُ الرمادَ وجوهاً،
مغلّفةً بالدخان البليدْ!
في الطريقِ البعيدْ
لم يعدْ غيرُ وجهي،
ووجهِ الزمانِ الشريدْ! كورس
عندما ماتَ الحسينْ،
ظامئاً،
صارت عصافيرُ البحارْ،
تتمنّى الأنتحارْ
وتمنّى الغيمُ لو أصبحَ شيئاً هامشياً،
كالغبارْ!
يومَها كانت عيونُ الخيلِ حمراءَ،
وكانت في شبابيكِ النهارْ
ذئبةٌ،
من عُريها تنسجُ كبريتاً... ونارْ!
يومَها كنّا بلا معنى،
كمن يحفرُ قلباً في الجدارْ! كورس
لِتفرحْ خيولُ الغبارْ
فَمِن أيّ خطو بدأْ،
أطلّت بعينيهِ بوّابةٌ للظمأْ
وضاعت على راحتيهِ البحارْ!
لِتهربْ خيولُ الغبارْ
فحينَ دفنتُ الحسينَ رأيتُ النجومْ
تسيلُ على وجههِ، والغيومْ
تلفُّ جراحاتِهِ،
والنهارْ،
تضاءلَ حتى توارى بجفنِ الحسينْ! كورس
كانوا يمرّونَ ولا يتركونْ،
شيئاً سوى الأضرحَهْ
فكيفَ صيَرتَ رؤانا جنونْ،
وجرحَنا بوّابةَ المذبحَهْ؟
يا أنتَ.. يا أشياءُ.. أصداؤها
تكسرُ صمتَ اللحظةِ المقفلَهْ
وتحفرُ الأسئلَهْ
في شَفَةِ الرملِ، وَوَجهِ الصخورْ
تسألُ عن مقتولة لا تثورْ
عن أمّة مهملَهْ
مسكونة بالقبورْ!
كانوا يمرّون وما في الطريقْ
غيرُ رماد عتيقْ
وخطوة تائهَهْ
تحلمُ أنْ تعبرَ زيفَ الحريقْ
تحلمُ أنْ تدنو من الآلهَهْ
فتختفي فجأةً،
بين نهاياتِ الزمانِ الغريقْ!!
كانوا يمرّون بلا ظلٍّ،
وكان الحسينْ
يزرع أقماراً على الشاطئينْ! كورس
الأبعاد البعد الثابت(1)
وابدئي، فالحسينُ قد أيقظَ الموتى، وناغى الأسى، ومسَّ الذهولا! البعد المتغير(2)
1ـ نموذج هذا البعد الرجال الذين قاتلوا مع الحسين بعناد، فاكتشفوا ان قطرة الدم أكثر بريقاً من قطرة الضوء.
2ـ نموذج هذا البعد الحر بن يزيد الرياحي، أحد قادة الجيش الأموي، الذي انتقل الى جانب الحسين في اللحظات الأخيرة، ليكتشف الجراح والورد.
1ـ نموذج هذا البعد عبد الله الجعفي، الرجل الذي ادرك الحسين قبل المذبحة. فخاف القتل وقبل أن يهرب أهدى الحسين سيفه وفرسه، فرفض الحسين الهدية لانها لم تكن منقوعةً بالدم.
البعد الأسود(1)
1ـ نموذج هذا البعد شمر بن ذي الجوشن، الرجل الذي ارتداه الشيطان وهو يذبح الحسين بسكّينة صدئة.
2ـ نموذج هذا البعد عمر بن سعد قائد الجيش الأموي، الذي كان يحلم ان يولّيه يزيد بن معاوية ولاية الري بعد قتل الحسين، الا أن حلمه هذا لم يتحقق.. فظلَّ يرى الورد بقعاً من الدم المتخثّر.
البعد المشوه(1)
في كفِّهِ الشوهاءْ
غمامةٌ مجدورةٌ،
وحفنةٌ من مَطر سوداءْ
وكلَّما حاولَ أنْ يدنوَ (للفراتِ)،
أو يمسَّ منهُ قطرة،
يسقطُ وجهُ الماءْ!
في وجهِهِ جنازةٌ،
وخلفَ كلِّ بقعة من جلدهِ عواءْ
يصرخُ:
يا مواسمَ الموتِ الذي يحصدُني،
يا ريحُ.. يا أشلاءْ
هذا الذي تهربُ منهُ خطوتي،
قلبي.. أمِ الصحراءْ؟
وبعدَها سافرتِ الأشياءُ،
وهو ذاهلٌ،
سافرتِ الأشياءْ!
ولم يَزَلْ ينزعُ لونَ جلدهِ،
ويرتدي العراءْ! البعد الرمادي(2)
1ـ نموذج هذا البعد مالك بن النسر، الرجل الذي شتم الحسين وطعنه وهو يحتضر، وظل حتى آخر عمره يحس ان بين اذنيه ما يُشبه فحيح الافاعي.
2ـ نموذج هذا البعد شبث بن ربعي، الرجل الذي بايع الحسين ثمّ نقض بيعته، واصبح أحد قوّاد الجيش الأموي، الاّ أنّه ظل مسكوناً بالخوف والجنون قبل أن يتحوَّل الى رماد.
البعد الدموي(1)
ذاكرةٌ مشدودةٌ.. بخيطِ عنكبوتْ
ونظرةٌ كالقبرِ..
في فراغها ينطفىءُ الياقوتْ
وفي شراييني دمٌ.. رمادُ
وجثّةً للحُلُمِ المجدورِ،
صمتٌ للخرافاتِ، دخانٌ باردٌ،
أنشودةٌ مخصوبةٌ بالعارِ،
شيءٌ باهتٌ.. سوادُ!
هذا أنا..
ما زلتُ أنحتُ المنى..
مِن خشبِ التابوتْ!
ومنذُ أنْ قتلتهُ..،
غرقتُ في بُحيرة من دمِهِ المرِّ..،
فلا أقدرُ أنْ أحيا..
ولا أقدرُ أنْ أموتْ!! البعد المظلم(2)
1ـ نموذج هذا البعد حرملة بن كاهل، الرجل الذي رمى بسهم طفلا رضيعاً للحسين فذبحه، وبقي بعد ذلك هارباً في ازفة الكوفة خائفاً من عيون الأطفال.
2ـ نموذج هذا البعد سنان بن أنس، الرجل الذي حمل رؤوس القتلى الى الكوفة، وكان يشعر أن جسده يتحوَّل شيئاً فشيئاً الى عقرب كبير.
مَن عسانا نكونْ؟
حينَ نغمدُ هذي السيوفَ الصديئاتِ،
في قلبهِ المخمليِّ،
ونطفىءُ رغبتَنا في اشتعالِ الجنونْ،
من عسانا نكونْ؟
لم يكنْ غيمةً عابرَهْ
لم يكنْ وجهُهُ يُشبهُ الآخرينَ،
ولا خطوهُ يُشبهُ الآخرينَ،
وعيناهُ كانت تخبِّىءُ سرّاً غريباً،
وتحفرُ.. تحفرُ في الذاكرَهْ!
كيف نُخفي انكساراتِنا؟،
ربَّما نستطيعُ الهروبَ معَ الريحِ،
أو نستطيعُ الرحيلَ معَ الوهمِ،
أو نختفي في الضبابِ البريءْ،
غيرَ أنّا سنصحو على عارِنا ذاتَ يوم،
لنغفو على ألفِ سيف صديءْ!
1ـ نموذج هذا البعد رجال الجيش الاموي، الذين شعروا بالهزيمة بعد قتل الحسين، وأحّسوا ان سيوفهم ورماحهم تتحوَّل الى قطع من الخزف المهّشم.
النبوءات النبوءة الأولى
كان الحسينُ غيمةً،
حاصرها العطَشْ
وكان نقطةً من الضّوءِ،
على نافذةِ الغبَشْ!
وكان في وريدهِ نهرٌ،
وقبضتاهْ
نبعانِ من رفض ومن صلاهْ!
وفي فم الحسين شاطئانْ
يبتكران الوردَ والامطارَ والبركانْ
يَضيعُ فيهما المدى... ويكتبُ الزمانْ
تأريخَ موتِ الماء فوق جثّةِ الدخانْ!
وكان الحسينُ طويلا كرمحِ
وكان الفراتُ ضئيلا.. ضئيلا،
بدى خلف خيمتهِ، خيطَ ملحِ
وكان يقولُ: إذا ما تكسَّرَ جُرحي،
فصارَ مرايا
وأمست عيوني شظايا
ستولدُ ساعةَ ذبحي،
عصافيرُ ماء عرايا
تُقبِّلُ جثّةَ طفلي القتيلِ،
وتغمرُها بالرؤى والحكايا!
ويوم توارى الحسينُ،
رأينا خيولا ملطّخةً بالخطايا
رأينا سكاكينَ بيضاءَ... بيضاءَ...
تولدُ خلفَ دموعِ السبايا! النبوءة الثالثة
النبوءة الخامسة
لا تسرقي خطوَتنا،
يا قافلاتِ الوحلِ والصدَأْ
لا تسرقي دمعةَ أطفالي،
فأنتِ يا خاويةً،
هيهاتَ أن تَكشفي عذوبةَ الظمَأْ!
لا تبحثوا عني،
في مدن صخرية،
ممطورة بالدمعِ.. والحزنِ
فإِنني ما زلتُ منذُ رحلتي أطوفْ
في مدن مسكونة، دونَ سواها،
بالسكاكينِ.. وبالسيوفْ!
لا تبحثوا فخلفَ كلِّ جرحْ
عصفورةٌ تُنبئكُم عن صبحْ! النبوءة السادسة
نحوَ أُفْق كلونِ الرمادْ
كانت الشمسُ تحملُ أشلاءَها،
وصهيلُ الجيادْ
عادَ محترقاً،
والسيوفُ التي شَربتْ قلبَهُ باشتهاءْ
ظمِئت فجأةً.. لا لِماءْ،
بل إلى قطرة من حياءْ!
يا عيوناً خرافيّةَ الحلمِ، مسكونةً بالجرادْ
أطفئي في الربيعِ الفتيِّ قناديلَهُ،
أطفئيهنَّ فالضوءُ متَّشحٌ بالسوادْ!
نحوَ أُفْق كلونِ الرمادْ
عَبَرت أمسِ اشباحُهم وهي مذعورةٌ...
لم تعدْ في الرمالِ سوى جثّة للحسينِ،
وعينينِ حَدَّقتا في عنادْ! النبوءة السابعة
أيُّ خيط من الماءِ،
هذا الذي يرسمُ القاحلَةْ؟
أيُّ خيط من الدمِ،
هذا الذي يفرشُ الوردَ للقافلَهْ؟
كان للماءِ لونُ الترابِ،
مساحةُ قبر قديم،
غموضُ الصحارى الخرافيُّ،
مرثيّةٌ... ونهايَهْ!
كان للدمِ لونُ النجومِ،
وشكلُ العصافيرِ،
وَهْجُ المراسي المضاءةِ،
انشودةٌ... وبدايَهْ!
كيفَ تفقدُ هذي المعاني انتماءاتِها؟
إنّها تتشكَّلُ ثانيةً، واللّغَهْ
هوّةٌ مُفرَغَهْ!
عندما يتقاطعُ خيطٌ من الماءِ،
في كربلاءَ
وخيطٌ من الدمِ، تَدفُنُ كلُّ الحروفْ
ذُلَّها في رمادِ السيوفْ!
هكذا صارتِ الشمسُ في رمشِهِ تتكسَّرْ
هكذا صارَ ظلُّ الحسينِ،
على الماءِ.. أحمرْ! النبوءة الثامنة
اَلفراتُ المسافرُ
يُشبهُ خابيةً من دموعْ
اَلفراتُ المسافرُ غادَرَنا،
وهو يحملُ وجهَ المساءاتِ،
ينسابُ ما بينَ مقبرة للسيوفِ،
ومقبرة للشموعْ
يومَها كانَ صوتُ الحسينِ،
يهزّ القلوبَ الصديئَهْ
يا إلهيَ قطرةَ ماء جريئَهْ
لا لأُطفي الحرائقَ في رئتيَّ،
ولكن لأمسحَ لونَ الخطيئَهْ!
اَلفراتُ المسافرُ... والخوفُ،
يبتكرانِ الهزيمةَ،
مَن قالَ إنَّ الرماحَ التي خَطَفت قلبَهُ،
انتصرتْ؟،
لم يزلْ في خيامِ الحسينِ رمادٌ،
وكسرةُ سيف،
ورفضْ!
لم يزلْ في وريدِ الحسينِ المقطّعِ نبضْ!
اَلمسافاتُ تُفقدُ أبعادَها،
والحسينْ
لم يزلْ يحرسُ الضفَّتَينْ! النبوءة التاسعة
هوَ وحدَهُ الممتدُّ بينَ الضوءِ والدمْ،
هوَ وحدَهُ المصلوبُ خلفَ جنازة للماءِ،
في زمن رماديٍّ.. مهشَّمْ
شَفَةٌ لجرحِ القلبِ،
أُغنيةٌ لشهقِتهِ الأخيرَهْ
عصفورةٌ خضراءُ،
تخشعُ فوقَ رايتِهِ الأسيرَهْ!
اَلشمسُ تعرفُ وجههُ النبويَّ،
والصحراءُ قد خَطَفت عذابَهْ
وبكفِّهِ اشتعلَ الندى المجنونُ،
واحترقت سَحابَهْ!
لا تحملي يا ريحُ صرخَتَهُ
الى زمنِ الترابِ،
أقولُ:
لا تتسمرَّي كالظلِّ،
في بوّابةِ الندمِ القديمِ،
ولا تكوني كسرةً من رمحهِ القرشيِّ،
لا يا ريحُ،
صيري قطرتينِ، دماً سماويّاً.. وماءا،
فالدمُّ يرسمُ وجهَهُ،
والماءُ يرسمُ أنبياءا!!
يا أيُّها الممتدُّ بينَ الضوءِ والدمِ،
والمكفَّنُ بالغبارْ،
ظمِئتْ إليكَ الأنهرُ الخجلى،
وأومأتِ البحارْ!
يا أيُّها الممتدُّ بينَ جراحِنا والأمسِ،
علِّمْنا الرحيلَ معَ النهارْ،
وجعٌ.. ونحنُ مُسَمَّرونَ
على صليبِ الإنتظارْ! النبوءة العاشرة
وهذهِ الصحراءْ
تعرفُ أنّي عاشقٌ،
يخبّىءُ البحارَ في تابوتهِ،
وأنَّ بيتي الماءْ!
وهذهِ الصحراءْ
تَقمَّصتني فجأةً،
فاتخذتْ من وَجَعي مرسىً،
ومن تمرُّدي ميناءْ!
وهذهِ الصحراءْ
تتفتحُ في وجهيَ عينيها،
وتحكي عن سقوطِ المدنِ العمياءْ!
وهذهِ الصحراءْ
تفتَّحت من عَطشي ورداً،
وإصراراً، وكبرياءْ
ولم تعدْ تذكرُ، لا قوافلَ التيهِ،
ولا مواسمَ العراءْ! النبوءة الثانية عشرة
لغةٌ واحدَهْ،
كيفَ تُلغي المسافاتِ،
بين التوهُّجِ.. واللحظةِ الباردَهْ؟
لم تزلْ بين جرحِ الحسينِ،
وبين قصائدِنا..
مدنٌ قانيَهْ
ولكي نقرأَ الجرحَ، لابدَّ من لغة ثانيَهْ!!