كان أبي عمرو بن ثعلبة بن مالك البهراني أو البهراوي طريد قومه الذين يطالبونه بدم سفكه فلحق بحضرموت وحالف بني كندة، وتزوج عندهم، ثمّ ولدتُ بينهم، لهذا لقبت بـ (الكندي).
ولما كبرتُ وقع بيني وبين أبي شمر بن حجر الكندي شيخ القبيلة نزاعٌ، فشهرتُ سيفي بوجهه، ثمّ ضربت رجله، وكان جزاء عملي ذلك الموت. وقبل أن ينفذ بي العقاب تسللتُ من سجنهم حيث الصحراء الشاسعة، لا يأويني مكان، ولا يستقر بي أوان. أجوب الصحاري المترامية الأطراف، أقطع عشرات الأميال عَبر الأودية والتلال والجبال، ولم أعبأ بأهوال السفر ومشقة الطريق، وكيف يكون ذلك، وبين جنبي روح تحدّثني بالعزّة والأمل، وفي أن أعيش فارساً عزيزاً يهابني الآخرون، ولا تريحه ولا تستهويه إلاّ ميادين القتال وساحات الوغى؟
نزلتُ من على ظهر فرسي (سبحة) لأستريح قليلا على ظهر تلٍّ، وقد احتواني العراء الواسع، سرحتْ عيناي فيما يحيطني من جهات، حتى وقع بصري على شيء، دققتُ النظر فيه من بعيد .. إنّه مضارب بني زهرة، القبيلة التي عرفت بمنعتها بين قبائل العرب. أسرعتُ نحوهم، أويتُ إليهم، وألقيت رحلي عندهم، لم يكن لي خيارٌ إلاّ أن أُحالف الأسود بن عبد يغوث الزهريّ، الذي صرتُ اُدعى باسمه حتى نزل قوله تعالى: {ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله}1. فعدتُ إلى اسمي (المقداد بن عمرو بن ثعلبة ...) ولكني بقيت معروفاً بـ «ابن الأسود الكندي»، وبقي هذا يلازمني طيلة حياتي وبعد مماتي.
كنيتي: أبو الأسود، وأبو عمر، وأبو معبد أحبُّ كناي إليّ، لأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يدعوني أبا معبد.
أما صفاتي: فقد كنتُ طويلَ القامة، بطيناً عظيمَ الجثة، قويها، حينما أعلو فرسي تكاد رجلاي تخطّان الأرض، أما شعر رأسي فكثير، ولحيتي فكثيفة .. و ختاماً فإنّ الله ـ تعالى ـ منَّ عليّ بهيئة مهابة.
عشت ردحاً في مضارب بني زهرة، فاقداً لحقوق كثيرة ـ يتمتع بها أبناء القبيلة ـ وهذا شأن كلّ محالف. رافضاً حالة السلب والنهب، والغزو بغير حقّ، نابذاً عادات الجاهلية المقيتة التي لم تجد رضاً وقبولا عندي، وكم تمنّيت أن أجد مَن يشاطرني ذلك كلّه، ويشاركني الرأي .. فكانت الفرصة، إنّها لقائي بعمار بن ياسر وتعرفي عليه، فانشتشلني من ذاك الضياع، بعد أن سبقني إلى نور الإسلام، وعظمة الإيمان. اصطحبني معه في جوف الليل إلى دار الأرقم حيث رسول الله (صلى الله عليه وآله)والمؤمنون. أعلنتُ إسلامي بين يديه (صلى الله عليه وآله)فتخلّصتُ نفسي من ظلام الجاهلية. وتغيرت حياتي، فقد ملأ الإيمان قلبي، وأضاء التوحيد بصيرتي، وأخذتُ أروي ظمأي منه وأنهل من معين الإسلام بنهم وشوق عظيمين. حتى صرتُ من الأوائل الذين أظهروا إسلامهم، فتصدّت لنا قريش بكلّ جبروتها، ووسائل قمعها، وسياط تعذيبها، فنالت من أبداننا وأجسادنا شيئاً عظيماً، لكنها لم تنل من عقيدتنا وصمودنا وثباتنا أبداً، كنا نزداد قوّة أمام قوّتها، وشموخاً عظيماً وعزّة إزاءَ طغيانها وجبروتها.
ولما رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما حلّ بنا، واشتداد أذى قريش علينا وملاحقتها لنا أمرنا بالهجرة إلى الحبشة حيث قال: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإنّ بها مَلكاً لا يُظلم عنده أحد، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم مخرجاً مما أنتم فيه ...».
فكنتُ مع نحو ثمانين من المهاجرين، ممن وطأت أقدامهم أرض الحبشة حيث وجدنا ما قاله لنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) مَلكاً عادلا، أحسن ضيافتنا، ورفض تسليمنا إلى وفد المشركين من قريش الذي أتبعنا ... ثمّ عدنا إلى مكة ودخلها كلّ واحد منّا تحت أمان وعهد زعيم من زعمائها، وكبير من كبرائها، فعدتُ مرّة أُخرى حليفاً لأحدهم ... .
هاجر رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى يثرب وتبعه جمع من الصحابة، ولم أتمكن من اللحاق به (صلى الله عليه وآله)حتى أعدت قريش سرية قتال التحقتُ بها مع صاحبي عتبة بن غزوان ـ وكان هدفهم قتال سرية أرسلها رسول الله (صلى الله عليه وآله) بقيادة حمزة بن عبد المطلب، فلما اقتربنا منها انحزنا إليها والتحقنا بإخواننا الذين سبقونا إلى يثرب.
وفي المدينة لم يدم انتظارنا لقتال المشركين طويلا حيث تناهت إلينا أخبار عن استعداد مشركي مكة لقتالنا، وجاءوا بجيش فاق عددنا كثيراً. فأقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله) علينا ونحن مجتمعون يحدث بعضُنا بعضاً عن الأخبار تلك، وقال:
« .. هذه مكة قد أَلقت إليكم أفذاذ أكبادها .. فما ترون في قتالهم؟» فتحدث عدد من الصحابة حتى جاء دوري فقلتُ:
يا رسولَ الله اِمضِ لما أمرك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون}ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرتَ بنا إلى برك الغِماد (أو تل العماد، يعني مدينة الحبشة) لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه، .. فاستبشر رسول الله بذلك، وأشرق وجهه، ودعا لي بخير.
وسميتُ عند بعضهم بـ «صاحب المقال المحمود» إشارة إلى قولي هذا لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، ودفع مقالي ذاك أيضاً الأنصار إلى قولهم: فتمنينا نحن لو أنّا قلنا كما قال المقداد، أحبُّ إلينا من أن يكون لنا مالٌ عظيم ... .
كما حمل موقفي ذاك وقولي كبارَ الصحابة على الإشادة به وإكباره وتمنوه، فهذا الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود يقول: لقد شهدت من المقداد مشهداً لأن أكون أنا صاحبه أحبّ إليّ مما في الأرض من شيء; كان رجلا فارساً، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا غضب احمارّت وجنتاه، فأتاه المقداد على تلك الحال، فقال: «أبشر يا رسول الله! فوالله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون} ولكن والذي بعثك بالحق ... لنكوننّ من بين يديك ومن خلفك، وعن يمينك وعن شمالك، أو يفتح الله لك.
ثم قام سعد بن معاذ عن الأنصار فقال: ... بأبي وأُمي يا رسول الله! إنّا قد آمنّا بك وصدّقناك، وشهدنا أنّ ما جئت به حقّ من عند الله فمرنا بما شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، واترك منها ما شئت، والله لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر لخضناه معك، ولعلّ الله ـ عزّ وجلّ ـ أن يريك منّا ما تقرّ به عينك، فسر بنا على بركة الله.
ففرح رسول الله (صلى الله عليه وآله) بما سمع من أصحابه، وقال: «سيروا على بركة الله، فإنّ الله عزّ وجلّ قد وعدني إحدى الطائفتين، ولن يخلف الله وعده، والله لكأني أنظر إلى مصرع أبي جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وفلان وفلان ...».
ثمّ أمرنا (صلى الله عليه وآله) بالتوجه إلى بدر الذي نزلناه عشاء ليلة السابع عشر من رمضان، وكانت الآبار ومنابع الماء إلى جانب المسلمين. وكان عددنا 300 رجل كنتُ الفارس الوحيد فيهم، فيما كان عدد المشركين قرابة ألف رجل .. فيهم من الفرسان عدد كثير.
كانت عيوننا متجهة صوب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو يناجي ربَّه ويدعوه: «اللّهمّ هذه قريش قد أقبلت بخُيلائها وفخرها، تحادك، وتكذب رسولك، اللّهمّ فنصرك الذي وعدتني ...».
واشتدّ أوار المعركة، وخفقت رايات القتال ولمعت الأسنة والسيوف، وعندها تيقنتُ أن الفروسية في الإسلام غيرها في الجاهلية، وتعلمتُ وقتها الفرق بينها وهي تحمل راية الحق وتدافع عنه وبينها وهي تحمل راية الضلال وتدافع عن الباطل، إنّ لها حلاوة وطعماً حينما تكون دفاعاً عن المبدإ الحق والعقيدة الصحيحة. لا دفاعاً ولا قتالا من أجل الثأر والنهب والسطو.
إنّه القتال والجهاد والنضال المقدس الذي تعلّمته وإخواني من الإسلام ونبي الإسلام. قتال عظيم هذا الذي ترعاه السماء بآيات القرآن وبإمدادها الرباني، ويرعاه رسول الله(صلى الله عليه وآله)، بدعواته التي لا يحجبها عن السماء شيء ولا يمنعها مانع، وتتخلله استغاثة المؤمنين ... .
{إذ تستغيثون ربّكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ...} 2 والرسول (صلى الله عليه وآله) يقول: «والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلا غير مدبر إلاّ أدخله الله الجنة».
فكانت تلك الآيات وهذهِ الكلمات باعثاً عظيماً قوياً لنا، يثبت أقدامنا ويشدّ عزمنا نحو الشهادة ... فكان النصر حليفنا، وكان القتل وكانت الهزيمة والعار والذل يلاحق المشركين الذين تركوا كبار زعمائهم صرعى على أرض المعركة ينتظرهم القليب الذي أمر بحفره رسول الله لتلقى به جثثهم. كما وقع آخرون أسرى، منهم النضر بن الحارث بن علقمة الذي يكنّى أبا القائد وقع أسيراً بيدي، وكان أشدّ قريش تكذيباً للنبي (صلى الله عليه وآله)وأذًى لأصحابه، كما كان ينظر في كتب الفرس ويخالط اليهود والنصارى وهو من الذين قالوا:
{وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكوننّ أهدى من إحدى الأُمم فلما جاءهم ما زادهم إلاّ نفوراً ... }.
وهو الذي نزلت فيه هذه الآية:
{وإذا تتلى عليه آياتُنا قالوا قد سمعنا لو نشاءُ لقلنا مثل هذا إن هذا إلاّ أساطيرُ الأولين} .
وكان يقول: إنما يأتيكم محمد بأساطير الأولين. وقع هذا أسيراً بيدي وأتيت به إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وما إن رآه حتى أمر علياً (عليه السلام) بقتله.
فقلت: يا رسول الله! أسيري.
فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله): إنه كان يقول في كتاب الله ورسوله ما يقول.
وأنا أقول: إنه أسيري.
حتى قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): اللّهمّ أغن المقداد من فضلك.
فقلت: هذا الذي أردتُ.
فقتله عليٌّ (عليه السلام) صبراً.
وفي معركة أُحد، هذهِ المعركة التي كنتُ فيها فارساً مقداماً، ومقاتلا عنيداً ... أُنزلت هزيمةٌ مروعة بالمشركين الذين ولّوا هاربين وقد تركوا قتالهم تملأ ساحة المعركة، وكاد النصر النهائي يكون حليفنا لولا أن ترك بعض الرماة مواقعهم التي حدّدها لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) طمعاً في الغنائم التي خلّفها مشركو قريش وراء ظهورهم، فلمّا أحسّ خالد بن الوليد ومن كان معه من المشركين بضعف هذا الموقع، وثبوا عليه، وقتلوا ما بقي من الرماة، ثمّ عادوا من خلفنا، فوقفتُ مع نفر من أجلّ الصحابة مدافعين عن رسول الله ذابّين بأرواحنا وأجسادنا عنه، إنها لحظات كادت تودي برسول الله (صلى الله عليه وآله)وبدينه لولا رحمة الله تعالى به وبنا.
ويوم فتح مكة معقل قريش، كنتُ يومها على ميمنة الجيش الإسلامي الذي يقوده رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فتهاوت بدخوله (صلى الله عليه وآله) وجيشه الأوثان والأصنام التي كانت تمثل الشرك والكفر كلّه، وقد أحاطت الكعبة من كلّ جوانبها، وبلغ عددها 360 صنماً، فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بتهديمها وإخراجها من البيت الحرام. وارتفعت راية التوحيد خفاقةً، وملأ التكبير سماءَ مكّة، وكانت فرحتُنا بهذا النصر الذي طال انتظاره، عظيمة، وابتهاجنا به كان كبيراً ... .
وإذ نحن في غمرة أفراحنا بهذا النصر تناهت إلينا أنباءُ حشود عظيمة خطيرة بلغ تعدادها أكثر من 12 ألفَ مقاتل من قبائل الطائف وفي مقدمتها قبيلتا هوازن وثقيف. فراح رسول الله(صلى الله عليه وآله) يعدُّ منّا جيشاً كبيراً بلغ تعداده 12 ألف مقاتل أو يزيد، وأمرنا بالتحرك، وكان اللقاء في وادي حنين حيث حلّت بنا هزيمة مفاجئة، تحوّلت ـ برحمة من الله ـ إلى نصر كبير لنا بعد أن ثبت رسول الله (صلى الله عليه وآله)وأكثر من ثمانين من الذين بايعوه حتى الموت وكنتُ أحدهم، وبعد أن عاد المسلمون الذين لاذوا بالفرار من ساحة المعركة فاندفعت جموعهم نحو ساحة المعركة التي حمي وطيسها وهم ينزلون بالعدو هزيمة ساحقة.
لم أتخلّف أبداً عن معارك رسول الله وغزواته كما أني شاركت في معركة اليرموك وفي فتح مصر وحمص ودمشق وغيرها حتى قال لي أحدُ الذين كنت أُحدّثهم عن الجهاد ـ يوم فتح حمص ودمشق ـ وقد كبر عمري وضعف جسمي، يومذاك، قال لي: لو قعدتَ العامَ عن الغزو.
فقلت: أبتِ البحُوث، فقد قال الله عزّ وجلّ فيها: {اِنفروا خفافاً وثقالاً}3.
وكنت في كل تلك المعارك فارساً أخوض غمارها، وأُبلي بها بلاءً حسناً، مستبشراً بإحدى الحسنيين: الشهادة أو النصر.
قال لي ـ يوماً ـ عبد الرحمن بن عوف وقد جلسنا نتحدّث:
ما يمنعك أن تتزوّج؟
فقلتُ له: زوّجني ابنتك.
فما كان منه إلاّ أن أغلظ لي في الكلام وجَبهني.
وكان الصحابة إذا أصاب أحدٌ منهم غمٌّ أو غيظ أو فتنة شكى ذلك إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله). فقمتُ من فوري وأتيتُ رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فما إن نظر إليّ حتى عرف الغمّ في وجهي.
وقال: ما شأنك يا مقداد؟
فقلت: يا رسول الله! بأبي أنت وأُمّي، كنتُ عند عبد الرحمن بن عوف جالساً فقال لي:
ما منعك يا مقداد أن تزوّج؟
فقلت له: زوّجني أنت ابنتك، فأغلظ لي وجبهني.
فقال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله): لكنّي أُزوّجُك ـ ولا فخر ـ ضُباعةَ بنت الزبير بن عبد المطلب.
فتزوّجتها وكانت من العقل والجمال بدرجة عالية مع قرابتها من رسول الله (صلى الله عليه وآله).
* نزلت فيّ وفي نفر من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) (ابن مسعود، صهيب، عمار، بلال) هذهِ الآية: {ولا تطرد الذين يدعون ربّهم بالغداة والعشي يريدون وجهه}.
حين كنّا جلوساً عند رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وجاءَ بعض زعماء قريش، فقالوا لرسول الله:
إنّا لا نرضى أن نكون أتباعاً لهؤلاء، فاطردهم عنك حتى نجلس معك فنزلت فينا تلك الآية.
* كما نزلت فيّ وفي رهط من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) هذه الآية {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيّبات ما أحلّ الله لكم}4.
حينما اجتمعنا في دار الصحابي الجليل القدر عثمان بن مظعون، واتّفقنا على أن نصوم النهار ونقوم الليل، ولا ننام على الفرش، ولا نأكل اللحم ولا الوَدَك، ولا نقرب النساء والطيب، ولا نلبس المسوح، ونرفض الدنيا ونسيح في الأرض ونترهب ونجبّ المذاكيرَ.
فبلغ ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله)فجمعنا، وقال: ألم أُنبَّأ أنكم اتّفقتم على كذا وكذا؟
فقلنا: بلى يا رسول الله! وما أردنا إلاّ الخير.
فقال لنا: إني لم أُومَر بذلك، إنّ لأنفسكم عليكم حقاً، فصوموا وأفطروا، وقوموا وناموا، فإني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وآكل اللحم والدّسم، ومن رغب عن سنّتي فليس منّي، ثمّ خرج إلى الناس وخطبهُم فقال: ما بال أقوام حرّموا النساءَ والطعام، والطيب والنوم، وشهواتِ الدنيا؟
أما إني لست آمركم أن تكونوا قسّيسينَ ولا رهباناً، فإنّه ليس في ديني تركُ اللحم والنساء، ولا اتخاذ الصوامع، وإن سياحة أُمتي الصوم، ورهبانيتها الجهاد; واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وحُجُّوا واعتمروا، وأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وصوموا رمضان; فإنّما هلك مَنْ كان قبلكم بالتشديد، شدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم، فأُولئك بقاياهم في الدِّيارات والصوامع. فأنزل الله تعالى تلك الآية.
وقلنا: يا رسولَ الله! كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها؟
وكنّا حلفنا على ما عليه اتّفقنا.
فأنزل الله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم}.
ومما قاله رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيّ وما سمعته منه:
* أمرني اللهُ ـ عزّ وجلّ ـ بحبّ أربعة من أصحابي، وأخبرني أنه يحبّهم: عليّ، وأبو ذر، وسلمان، والمقداد الكندي.
* ألا إنّ الجنّة اشتاقت إلى أربعة من أصحابي، فأمرني ربّي أن أُحبَّهم: فانتدب صُهيب، وبلال بن رَباح، وطلحة، والزُّبير، وسعد بن وقّاص، وحذيفة بن اليمان، وعمار بن ياسر.
فقالوا: يا رسول الله! مَن هؤلاء الأربعة حتى نحبَّهم؟
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا عمّار أنت عرّفك الله المنافقين، وأما هؤلاء الأربعة فأحدهم عليّ بن أبي طالب، والثاني المقداد بن الأسود الكندي، والثالث سلمان الفارسي، والرابع أبو ذر الغفاري.
* بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) سرية وأمّرني عليها، فلما رجعتُ قال لي (صلى الله عليه وآله): كيف وجدتَ الإمارةَ يا أبا معبد؟
قلتُ: خرجتُ يا رسول الله! وأنا كأحدهم، ثمّ رأيتُ أنّ لي على القوم فضلا، ورجعتُ وأنا أراهم كالعبيد لي.
فقال (صلى الله عليه وآله): كذلك الإمارة يا أبا معبد، إلاّ من وقاه الله شرَّها، فخُذ أو دَع.
فقلت: لا جرم، والذي بعثك بالحق يا رسولَ الله! لا أتأمّر على اثنين بعدها أبداً.
* قلتُ ـ يوماً ـ لأصحاب لي: العجب من قوم مررتُ بهم آنفاً يتمنّون الفتنة، يزعمون ليبتليهم الله فيها بما ابتلى به رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأصحابه، وأيم الله، لقد سمعتُ رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول:
«إنّ السعيد لمن جنب الفتن» يردّدها ثلاثاً «وإن ابتلي فصبر».
وأيم الله، لا أشهد لأحد أنه من أهل الجنة حتى أعلم بما يموت عليه بعد حديث سمعتُه من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، سمعته يقول:
«لقلب ابن آدم أسرع انقلاباً من القدر إذا استجمعت غلياً».
* {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات لَيستخلفنّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ولَُيمكننّ لهم دينَهُم الذي ارتضى لهم وليبدّلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبُدُونني لا يُشركون بي شيئاً ومَن كفر بعد ذلك فأُولئك هم الفاسقون}5.
وعقب نزول هذه الآية، سمعتُ رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: ما على ظهر الأرض بيت حجر أو مَدر إلاّ أدخله الله كلمة الإسلام بعزّ عزيز أو ذلّ ذليل: أما بعزّهم فيجعلهم من أهلها، وأمّا بذلّهم فيدينون بها.
وما عرفتُ الحزنَ واللوعةَ، وألمَ الفراق وقسوته، حتى داهمني الخبر المشئوم (نعي الحبيب رسول الله (صلى الله عليه وآله)) فكان نبأً عظيماً، وفاجعة جسيمة، ما لبثت حتى زلزلة الدنيا، وانتشر دويها في الخافقين ... حقّاً، إنّها لصدمةٌ، وكيف لا تكون كذلك وقد وصلت برسول الله القلوب، وجبلت على حبّه النفوس، واعتادت على التشرّف بطلعته الوجوه، وقد انتشلها من الضلالة إلى الهدى ومن الظلام إلى النور ... .
لقد عاهدتك يا سيدي على أن لا أكون أكثر من جنديّ في خدمة الإسلام، وفدائيٍّ نذر نفسه دفاعاً عنه، فجزاك الله يا رسولَ الله! عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، ونسأله ـ تعالى ـ أن يرزقنا شفاعتك وصحبتك يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون ... .
من أحاديثي:
كنتُ مع جمع من أصحابي إذ مرّ رجل فقال لي: طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسولَ الله (صلى الله عليه وآله)! والله لودِنا أنّا رأينا ما رأيت، وشهدنا ما شهدتَ.
فاستغضبني قولُه هذا، وأقبلت عليه قائلا:
ما يحمل الرجل على أن يتمنّى شيئاً غيَّبه الله عنه، لا يدري لو شهده كيف يكون فيه؟
واللهِ، لقد حضر رسولَ الله (صلى الله عليه وآله)أقوام أكبَّهم اللهُ على مناخرهم في جهنم، لم يُعينوه ولم يصدِّقوه، أوَلا تحمدون اللهَ أن أخرجكم لا تعرفون إلاّ ربَّكم؟ وأنتم مصدِّقون لما جاء به نبيُّكم، قد كفيتُم البلاء بغيركم; والله، لقد بعث النبيُّ(صلى الله عليه وآله) على أشدّ حال بُعث عليه نبيٌّ من الأنبياء في فترة وجاهلية، ما يرون أنّ ديناً أفضلُ من عبادة الأوثان، فجاء بفُرقان يُفرقُ به بين الحقِّ والباطل، وفرَّق بين الوالد وولده، حتى إن كان الرجلُ لَيَرى والدَهُ أو ولدَه أو جدَّه كافراً وقد فتح الله قُفلَ قلبه للإيمان ... ثمّ قرأت هذه الآية: {ربّنا هب لنا من أزواجنا وذريّاتنا قُرّةَ أعيُنٍ}6.
توفّاه الله تعالى سنة 33 هـ بأرض كانت له تسمى «الجرف» وحمله أصحابه إلى المدينة فدفن فيها. فسلامٌ عليك فارساً مؤمناً قوياً في ذات الله مجاهداً في سبيله، لم تدخر شجاعة ولا نصيحة ولم تبخل بشيء، فكنت حقّاً حبيباً لله ولرسوله.