إبداع السیاسی عند الامام الخمینی قدس سره

خضیر جعفر

نسخه متنی -صفحه : 4/ 2
نمايش فراداده

الابداع السياسي عند الامام الخميني(قدس سره)

الفرادة التاريخية التي اتسمت بها شخصية الإمام الخميني(قدس سره) صيّرت منه رجلا استثنائياً بكلّ ما تحمل الكلمة من معان فرضت نفسها على الواقع ، الذي أطلّ عليه الإمام(رضي الله عنه) ليهبه من روحه ما لوّن به وجه الحياة وألبسها من برود الثورة وأردية الثوار أكاليل فخار سوف تظل معالم مجدها تحكي قصة الثورة الاسلامية ، التي فجرها الخميني الخالد في عصر جديب راهن فيه الكثيرون على استحالة عودة الاسلام الى صلب الحياة برنامج عمل ونظام حكم ومنهج حياة ، وإلى الحد الذي كان يتراءى للمحللّين السياسيين أنّ هذا الثائر المارد لا يمكن إلاّ أن يكون أحد الساسة اليساريين ، وإلاّ كيف يمكن لعالم دين يناهز السبعين عاماً أن ينطلق في نهايات القرن العشرين من خارج اللعبة الدولية; ليؤسس نظاماً إسلامياً في منطقة امتيازات استراتيجية لا يمكن أن تغفل الدول الكبرى عنها لتنتصب بؤرة ثورة ومثابة ثوار يتبنون الاسلام فكراً وعقيدة ونظاماً ، ولذلك جاءت الثورة الاسلامية مباغتة للعالم الذي صحا في الحادي عشر من شباط 1979م على صوت زلزال هزّ العالم .

وكما حيّر الخميني العظيم دهاقنة السياسة وأساطينها عند انتصاره ، فقد حيّرهم أيضاً أداؤه السياسي بعد الانتصار حينما قلب الطاولة على رؤوس المنظّرين السياسيين وأثبت بطلان مقولاتهم ، فظلّوا أمام إبداعاته مبهورين ، قد سمّرت عمامته السوداء أبصارهم ، وهم في حالة ذهول لا يدرون ماذا تخفي تلك العمامة من أفكار في رأس رجل أبى إلاّ أن يتمرد على الدنيا ، ويلوي أذرع الممسكين بأسباب القوة فيها ; ليعلن عندها قانون (عجز القوة المادية) عن قهر إرادة الشعوب وقادتها الأحرار الكبار .

فلقد كانت ولادة الثورة الاسلامية بقيادة ربّان سفينها الامام الخميني ولادة قيصرية عسيرة راهن الكثيرون على إمكانية إجهاضها من قبل القوى الكبرى ، التي لا يروق لها ولادة ثورة خارج رحم اللعبة الدولية في عالمنا الاسلامي ، لكن الخميني العظيم الذي أصرّ على الإبحار باتجاه معاكس لمجاري المياه الاستكبارية وتياراتها الجارفة كان مع النصر على موعد قد آمن به من الأعماق معتمداً على الأمل بنصر الله ومتوكئاً على الثقة التي منحتها له الجماهير .

فانطلق الإمام عملاقاً مارداً لا يعرف التوقف ولا الالتفات الى الوراء; ولذلك تميّز بصلابة المواقف رافضاً أنصاف الحلول أو الهدنة المؤقتة رغم علمه بفداحة الخسائر ، وأنهار الدماء التي سالت في شوارع طهران والمدن الايرانية الأخرى ، وكأنه يعلم أنّ شجرة الثورة عطشى لتلك الدماء النازفة ، ولا يمكن أن يتوقف النزف إلاّ عند الانتصار ، أو كأن شجرة الثورة لا يمكن أن تثمر نصراً حتى ترتوي ; ولذلك كلما أصرّ شاه ايران على تصفية الحساب مع الشارع الثائر بالمزيد من الرصاص والموت والدماء أصرّ الخميني على المواجهة ومهما كانت التضحيات الى أن أبطل نظريّة الحكم الشاهنشاهي القائمة على القمع والمراهنة على العنف ، فسقط الشاه بسقوط تلك النظرية، التي لم تقوَ على مقاومة تيارالثورة الهادر والمصمم على مواصلة الدرب حتى النهاية . عندها لم يجد الشاه مخرجاً من هذا النفق المسدود غير التوجه الى مطار مهرآباد ليترك إيران فارّاً بجلده غير مأسوف عليه .

وما إن انتهت ملحمة المواجهة الخمينية مع قوات الشاه ، إلاّ لتبدأ مرحلة ثانية في مواجهة واجهة أخرى من صنائع الشاه من عسكريين مغامرين ومدنيين طامحين في السلطة ، لكن الإمام ظلّ مصرّاً على المواجهة حتى أسقط من خلّفهم الشاه بطهران فسقطوا واحداً تلو الآخر; ليعلن عندها بثقة واطمئنان كلمته الشهيرة في مقبرة (جنة الزهراء) بطهران: (أنا الذي سأعيّن الحكومة) .

وما إن أعلن الحكومة المؤقتة حتى التفت الى الجماهير ليستفتيها في نوع الحكم الذي تريد محدداً خياراتها بين أمرين: نعم للجمهورية الاسلامية أم لا .

فجاءت النتائج لتقول (نعم) وبنسبة تناهز الإجماع; ليثبّت بذلك حجر الزاوية للنظام الاسلامي ، وليؤسس عليه دستور البلاد ، فيقطع الطريق على كلّ محاولات الالتفاف المستقبلية ، التي ربما يسعى لها الذين في قلوبهم مرض يوماً ما ، وليظل ذلك التصويت الجماهيري وذلك الدستور صمام أمان وضمانة كبرى لديمومة الحكم الاسلامي الذي اختارته الأمة وصوّتت لصالحه الجماهير المسلمة ، ومن هنا يمكن القول : إنّ الإمام الخميني قد قسّم التاريخ المعاصر الى حقبتين: حقبة ما قبل الخميني وحقبة ما بعده ، وإذا ما كانت الحقبة الأولى قد تميّزت بالهيمنة الاستكبارية والتفرعن الطاغوتي في مقابل الانسحاق والشعور بالتبعية من قبل المسلمين ، وإذا ما اتسمت الحقبة الأولى أيضاً بالاستئثار; الاستكباري والاستهتار; ليشعر معها المسلمون بالتهميش والإلغاء والمصادرة والحيف ، فإنّ حقبة ما بعد الخميني قد غيّرت المعادلة لصالح الاسلام والمسلمين ، وحوّلتهم من مواقع الهزيمة الى خنادق المقاومة ، ومن مواضع الإنزواء والإنكفاء الى خطوط التحدي والتصدي ، بل ومن مواضع الدفاع الى مواقع الهجوم ، وبذلك صيّر الإمام الخميني من الأرقام المهمشة للجماهير رقماً صعباً يستعصي على الإلغاء والشطب والتغييب في كلّ المعادلات السياسية ، وكان رهان الإمام في منازلته مع الحكم الطاغوتي على الأمة وحركتها ومقاومتها وتضحياتها ، رافضاً ما تعارف عليه ثوار العالم الثالث من منطق الانقلابات العسكرية ، التي لا دور فيها للجماهير إلاّ الاستماع الى الراديو والتلفزيون ، وهما يعلنان البيان الأول للثورة ، وعندها تتساءل الجماهير عن هوية الثورة وقادتها الذين يمتطون ظهور الدبابات ويعلنون حالة الطوارئ ومنع التجول الى إشعار آخر . في حين تحرك الإمام الخميني من وسط الجماهير وقادها لمواجهة الدبابات والقوات العسكرية ، التي عجزت عن مواجهة الشارع حتى أذعنت لصموده وإصراره بعد حين .