فقه الثقلین فی شرح تحریر الوسیلة

یوسف صانعی؛ شارح: روح الله خمینی(ره)

نسخه متنی -صفحه : 118/ 24
نمايش فراداده

الاستدلال على كون القود على المكره المباشر

وكيف كان فما يستدلّ به على مذهب الإماميّة وجوه :

أحدها : الأخبار الدالّة على عدم التقيّة مع بلوغها الدم :

ففي صحيح محمّد بن مسلم عن أبي جعفر(عليه السلام) قال : «إنّما جعلت التقيّة ليحقن بها الدم ، فإذا بلغ الدم فليس تقيّة»[219] .

ومثله موثّق أبي حمزة الثمالي إلاّ أنّ فيه : «إذا بلغت التقيّة الدم»[220] .

وفي مرسل الصدوق في «الهداية» عن الصادق(عليه السلام) أ نّه قال : «لو قلت : إنّ تارك التقيّة كتارك الصلاة لكنت صادقاً ، والتقيّة في كلّ شيء حتّى يبلغ الدم ، فإذا بلغ الدم فلا تقيّة»[221] .

والتقيّة : إمّا عامّة ومحمولة على معناها اللغوي ، أي التجنّب والتحفّظ من كلّ سوء أوجبت ضرورة وعذراً ، كما يظهر من سيّدنا الاُستاذ ـ سلام الله عليه ـ في «رسالة التقية» إذ قال : «وبالجملة يظهر من مجموع ما ورد فيها أ نّها على أقسام (منها) كونها كسائر الأعذار والضرورات فرخصت للضرورة والاضطرار ، ويدخل فيها التقيّة الإكراهيّة التي لم نتعرّض لها هاهنا ، وفصلّنا حولها في الرسالة المعمولة في «المكاسب المحرّمة»[222] »[223] .

واستشهد عليه بما في الأخبار مثل : «التقيّة في كلّ ضرورة»[224] ، أو «التقيّة في كلّ شيء يضطرّ إليه ابن آدم فقد أحلّه الله له»[225] ومثل ما ورد في شأن نزول آية : (إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌ بِالاِْيمَانِ)[226] في عمّار ، ومثل غيرها من الواردة في أخبار التقيّة ، فعليه وجه الاستدلال واضح .

وإمّا خاصّة بالتحفّظ من السوء الحاصل من المخالفين للمذهب ، كما هو المعروف في معناه ، فعليه الاستدلال بالأولويّة ، فإنّ الدم إذا لم يكن إهراقه جائزاً مع التقيّة التي هي دين الله ، وأ نّه «لا دين لمن لا تقيّة له»[227] ، وأ نّه المجعول حفظاً للمذهب لئلاّ يذهب مذهب الحقّ ، فعدم جوازه مع الإكراه بطريق أولى . وإلى هذا الوجه ـ أي أخبار استثناء التقيّة في الدم ـ يرجع ما في كلامهم من الاستدلال للقصاص على المباشر بعدم استباحة الدم بالإكراه ، فلا أقوائيّة للسبب ـ أي المكرِه المُلجئ ـ حتّى يكون القصاص عليه .

فعلى هذا ، السبب والمباشر هنا متعادلان ، وإنّما القصاص على المباشر فقط في المورد ; لجهات خاصّة به كالإجماع والأخبار وآية النفس وأمثالها .

والإشكال على هذا الوجه بأنّ التقيّة لما كانت مجعولة لحقن الدم على ما في تلك الأخبار المستدلّ بها ، فعدمها مع عدم الحقن وإهراق الدم موافق للاعتبار ، وهذا بخلاف الإكراه الذي لم يكن لذلك ، بل كان رفعه للإمتنان على الاُمّة ، فالفرق موجود والقياس ممنوع ولو على نحو الأولويّة ; لأ نّها مع الخصوصيّة غيرمقطوعة .

مذبوب بأنّ المذكور في تلك الأخبار إشارة إلى أصل الجعل ومبدئه لا إلى العلّة والحكمة ، حيث إنّ التقيّة مجعولة ديناً وحفظاً للمذهب وسهولة على الملّة وضرورة واضطراراً ، كما يظهر من أخبارها ومن التأ مّل في الواقع منها في زمن الأئمّة (عليهم السلام) ، فالفرق غير فارق ; لأنّ الدم مبدء له للجعل لا منشأ ومناط وعلّة منحصرة كما عرفت .

ثانيها : أنّ قتل الغير رفعاً لتوعيد المكرِه بالقتل دفع ضرر عن نفسه بإيقاعه على الغير ، وهو قبيح عقلاً وغير جائز شرعاً .

ثالثها : صحيحة زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) في رجل أمر رجلاً بقتل رجل ، فقال : «يقتل به الذي قتله ، ويحبس الآمر بقتله في الحبس حتّى يموت»[228] .

الاستدلال بها لابدّ وأن يكون بالشمول للمفروض بترك الاستفصال ، فإنّه(عليه السلام) لم يستفصل من كون المأمور مكرَهاً (بالفتح) أو غير مكرَه ، وأنّ المكرِه الآمر هل كان ممّن توعّد بالقتل أو بما دونه .

رابعها : إطلاق مثل قوله تعالى : (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ)[229] .

خامسها : الإجماع .

سادسها : أنّ المسلمين تتكافؤ دماؤهم ، فلا يجوز قتل الغير لحفظ النفس .

وفي كلّ الوجوه مناقشة وإشكال ، ولا شيء منها قابل للاستدلال والاحتجاج به في مقابل القواعد والاُصول الشرعيّة المعتبرة النافذة والاعتبارات العقلائيّة .

ففي الأوّل : إنّه مختصّ بغير المفروض ، حيث إنّ الدم المانع من التقيّة موجود معها أيضاً ، لكون التوعيد به ، فترك التقيّة غير موجب لعدم الدم ; لتحقّقه بالنسبة إلى نفس المكرَه من جانب المكرِه (بالكسر) ، فنفي التقيّة منتفية بانتفاء علّته .

وبالجملة : التقيّة في الحديث معلول لعدم الدم وحفظاً للدم والنفس ، ومع فرض الدم ـ ولو دم المتّقي ـ النفي منفي قضاءً للعلّية ، فالحديث لمكان العلّية مختصٌ بغير التوعيد بالقتل ، وتوهّم اختصاص الدم بدم الغير ، كما ترى ، فإنّه مخالف لإطلاق العلية بل لظاهرها ; لعدم كون الدم المطلق عليه علّة ، بل العلّة الدم المقيّد المحتاج إلى القيد المباين للمطلق .

هذا مع أنّ مناط الحكم أهمّية الدم والنفس ، فعلى الخصوصيّة تكون الخصوصيّة ملغاة بالفحوى وبالإلغاءِ العرفي ; لعدم الفرق بين دماء الأفراد في الأهمّية عندهم .

هذا مع أ نّه على عدم الإطلاق في الدم فالاستدلال بالحديث غير تامّ أيضاً ; لاحتمال الانصراف إلى المتعارف في التقيّة في تلك الأزمنة من الإكراه والتقيّة بالتوعيد بغير القتل من الضرر بالمال أو العرض أو النفس ، فإنّ التوعيد بالقتل في تلك الأزمنة ـ بل في زماننا أيضاً ـ نادر جدّاً . وكيف كان تلك الأخبار غير مقيّدة لإطلاق أدلّة الإكراه ; لعدم شمولها لهذه الصورة حتّى تكون مقيّدة له كما بيّناه .

وفي الثاني : أنّ مفروض البحث ليس من ذلك الباب ، بل من باب عدم تحمّل الضرر على الغير بالضرر على النفس ، وهو أمرٌ جائز ، فإنّ الضرر في مفروض البحث متوجّه من أوّل الأمر إلى الثالث ، والمكرِه (بالكسر) يريد قتله بتوعيد الغير عليه ، فالمكرَه (بالفتح) مع قتله الثالث ليس بموقع ضرر نفسه على الغير ، لعدم توجّه الضرر من المُلجئ إليه من أوّل الأمر ، بل منه متوجّه إلى الثالث بدواً كما هو واضح . فتركه المكره عليه موجب لكونه موقعاً لضرر الثالث على نفسه ، عكس إيقاع ضرر النفس على الغير .

وبالجملة : دفع ضرر المتوجّه إلى النفس بالإيقاع على الغير ـ كجريه السيل الوارد في بيته على بيت الجار ـ قبيح وحرام .

وأ مّا دفع الضرر المتوجّه إلى الغير بتوجيهه إلى نفسه ـ كدفع السيل عن بيت الغير لحفظه إلى بيت نفسه ـ فغير واجب ، وقتل المكرَه (بالفتح) الثالث المقصود للمكرِه مع التوعيد عليه بقتل المكرَه (بالفتح) مع تركه ـ كما في محل البحث ـ يكون من باب ترك تحمّل ضرر قتله الغير بإيقاعه على نفسه ، وهو غير واجب ، لا من باب إيقاع ضرر نفسه على الغير حتّى يكون قبيحاً ومحرّماً كما لا يخفى .

وفي الثالث : أنّ الاستدلال بالصحيحة كما عرفت موقوف على ترك الاستفصال ، والظاهر عدم المحلّ له لما بين الإكراه والأمر من المباينة مفهوماً ، فالاتحاد الموجب للسؤال لابدّ وأن يكون من جهة المصداق ، فإنّ الإكراه وإن كان أخصّ مطلقاً من الأمر بحبسه ، لكنّ المتعارف انفراد كلّ واحد منهما عن الآخر في السؤال والجواب والمكالمات ، ولذلك كان البحث في الكتب الفقهيّة عن كلّ واحد منهما مستقلاًّ ، فإنّ لكلٍّ منهما عناية خاصّة ، فالعناية في الأمر إليه وإلى الآمر القانوني أو الاجتماعي الأعمّ من المشروع وغير المشروع ، وفي الكراهة إلى حيث الإكراه والإجبار .

فعلى هذا ، لا موقع للاستفصال أصلاً كما لا يخفى ، وبعبارة اُخرى : حيثيّة الأمر حيثيّة استلزام تخلّفه العقوبة قانوناً وعقلاءً حقيقة ، أو ناشئاً من جهة سوء استخدام الآمر سلطته وحاكميّته ، فالعقوبة في الأمر تدخل في العقوبات المجعولة في الشرع والقانون والحكومة ، أو ناشئاً من سوء مُعاقبة المتخلّف بما يضرّه من الاُمور الاستخداميّة وغيرها ، وحيثيّة الإكراه حيثيّة التوعيد بإضرار المُلجئ على المكرَه (بالفتح) بما في يده واختياره الشخصي من التوعيد إضراراً في المال أو في العرض وغيرهما من دون ارتباطه بالحكومة والقانون .

هذا مع ما في موثّقة إسحاق بن عمّار والسكوني في أمر المولى عبده بالقتل من قتل السيد وسجن العبد[230] ، بل وفي «الشرائع» ما يؤذن بتوقّفه في حبس الآمر وإن جزم بقتل المكرَه المباشر ، فقد جاء هناك : «إذا أكرهه على القتل فالقصاص على المباشر دون الآمر ولا يتحقّق الإكراه في القتل ويتحقّق فيما عداه ، وفي رواية علي بن رئاب[231] يحبس الآمر بقتله حتّى يموت»[232] .

وفي «المسالك» اختياره : «ونسبة المصنّف الحكم (الحبس) إلى الرواية يؤذن بالتوقّف فيه ، ولا بأس به ـ أي بالحكم ـ لصحّة الرواية»[233] .

هذا كلّه ، مع أ نّه لا يبعد أن يكون السؤال في الصحيحه عمّا يتفق من أمر بعض من الأفراد بعضاً آخر بالقتل حقداً وحسداً وجنايةً وبُغضاً على المقتول ، مع اشتراكهم في تلك الرذائل الأخلاقيّة والدواعي المؤدّية إلى القتل .

وليست مخالفة ذلك الآمر مستتبعة ومتعقبة للجزاء والعقوبة القانونية ، ولا الناشئة من سوء استخدام الآمر سلطته ووجاهته ومقامه ، ولا للضرر الشخصي المتوعّد به ، بل مخالفته مخالفة لتلك الدواعي المشتركة ، ومخالفة في قتله المحبوب للمأمور وللآمر معاً ، فهذا النحو من الآمر مفارق مع غيره من الأوامر في الجزاء والعقوبة أوّلاً ، وفي داعي الامتثال ثانياً ، فإنّ الداعي في غيره هو الخوف من العقوبة القانونيّة أو الضرر المتوعّد عليه من جهة الإكراه ، أو من جهة سوء الاستفادة من السلطة القانونيّة دونه فإنّه البغض والتواطؤ على القتل ، وفي الآمر ثالثاً ، فإنّ الآمر في غيره له القدرة والآمرية دونه فليس في آمره تلك القدرة .

نعم ، يكون الآمر في هذا القسم محرّكاً للمأمور ودافعاً له فيه فيقول مثلاً : «اقتله فعليّ دمه» ، أو «ليس بينكم رجل يقتل فلاناً» وغير ذلك ممّا يظهر للمطّلع على ما بين الناس وعداوة بعضهم لبعض ، لا سيّما العداوة الطائفيّة والتعصبيّة وأمثالها .

وعلى ذلك ، الصحيحة مربوطة بأمر عرفي خارجيٍّ بين الناس ، ولا ارتباط لها بالأمر مع القدرة ، فضلاً عن صورة الإكراه ، وإن أبيتَ عن ظهور الرواية في هذا ، فلا أقلّ من الاحتمال المبطل للاستدلال ، فتدبّر جيّداً فإنّه ممّا ينبغي التدبّر فيه ; لتزداد المعرفة في محاسن كلامهم وحسن الاتّباع لهم صلوات الله عليهم أجمعين .

وفي الرابع : أ نّه لا كلام في كون المراد من الآية قصاص القاتل وأنّ نفس القاتل بنفس المقتول ; ولا بحث فيه من حيث الكبرى أصلاً ، وإنّما الكلام في المسألة في الصغرى من أنّ القاتل المباشر ، لمباشرته أو السبب أي الملجئ المكرِه لأقوائيّته ، فإنّ ثبوت القصاص على السبب الأقوى من مسلّمات الفقه في القصاص وفي غيره من الضمانات ، والقائل بكون القصاص على الملجئ المكرِه قائل بأقوائيّته في القتل من المباشر المكرَه (بالفتح) ، فذلك القائل عامل بالآية كغيره من القائلين بقصاص المباشر كما لا يخفى .

وبالجملة : مقتضى الآية في المقام هو مقتضاها في كلّ ما كان السبب أقوى ، ولا إشكال عندهم في قصاص السبب الأقوى دون المباشر .

وفي الخامس : فمضافاً إلى أنّ الأصل في هذا الإجماع هو ما نقله الشيخ في «الخلاف» ، كونه في مسألة اجتهاديّة فلا يكون حجّة ، فإنّ الإجماع حجّة حيث ما ليس للعقل إليه سبيل ولا للنقل فيه دليل .

ولننقل عبارة «الخلاف» بأجمعها ; لما فيها من الفائدة ومن الشهادة على عدم البُعد في كونه إجماعاً حدسيّاً لا حسيّاً ، وعبارة المبسوط أيضاً ; لما فيها من الإشعار أو الظهور على كون المسألة اتفاقيّه ، بل هي ممّا لا خلاف فيها :

ففي الخلاف : «إذا أكره الأمير غيره على قتل من لايجب قتله فقال له : «إن قتلته وإلاّ قتلتك» ، لم يحلّ له قتله بلا خلاف ، فإن خالف وقتل فإنّ القود على المباشر دون الملجئ ، وفرض الفقهاء ذلك في الإمام والمتغلّب مثل الخوارج وغيرهم ، والخلاف في الإمام والأمير واحد .

وللشافعي فيه قولان :

أحدهما : يجب عليهما القود كأ نّهما باشرا قتله معاً ـ وبه قال زفر ـ قال : وإن عفا الأولياء فعلى كلّ واحد منهما نصف الدية والكفّارة .

والقول الثاني : على المُلجئ وحده القود ، وعلى المكرَه نصف الدية ، فإن عفا عن الإمام فعليه نصف الدية ، وعلى كلّ واحد منهما الكفّارة . ولا يختلف مذهبه أنّ الدية عليهما نصفان وعلى كلّ واحد منهما الكفّارة ، وأنّ على الإمام القود ، وهل على المكره القود ؟ على قولين .

وقال أبو حنيفة ومحمّد : القود على المكرِه وحده ، ولا ضمان على المكرَه من قود ، ولا دية ولا كفّارة .

وقال أبو يوسف : لا قود على الإمام ولا على المكرَه ; أ مّا المكرَه فلأ نّه مُلجأ ، وأ مّا الإمام فلأ نّه ما باشر القتل . دليلنا : قوله تعالى : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومَاً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانَاً)[234] ، وهذا قُتِل مظلوماً ، وعليه إجماع الصحابة .

وروي : أنّ رجلين شهدا عند علي(عليه السلام) على رجل بالسرقة ، فقطعه علي(عليه السلام) ، ثمّ أتياه بآخر وقالا : هذا الذي سرق وأخطأنا على الأوّل فردّ شهادتهما على الثاني ، وقال : «لو علمت أ نّكما تعمّدتما على الأوّل لقطعتكما» .

فموضع الدلالة أ نّه(عليه السلام) قضى بالقصاص على مَن ألجأ الحاكم إلى القطع بالشهادة مع قدرة الحاكم على الامتناع من قتله بأن يعزل نفسه عن النظر ، والمكرَه أغلظ حالاً من الحاكم ، فإنّه مُلجأ إليه على وجه لا يمكنه إلاّ قتله خوفاً على نفسه ، فإذا كان على الشاهد القود فبأن يكون على المكرَه أولى وأحرى .

وهذا دليل الشافعي ، وليس فيه دلالة ; لأ نّه قياس ، ونحن لا نقول به ، ومعوّلنا على الآية قوله تعالى : (الحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ والاُْنْثَى بِالاُْنثَى)[235] ، وعلى إجماع الفرقة .

وأيضاً روى عثمان بن عفان أنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال : «لا يحلّ دم امرء مسلم إلاّ باحدى ثلاث : كفر بعد إيمان ، أو زناً بعد إحصان ، أو قتل نفس بغير نفس» . وهذا قتل نفساً بغير نفس ، فيجب أن يحلّ دمه»[236] .

وفي «المبسوط» : «فأ مّا إن أكرهه على قتله ، فقال : «إن قتلته وإلاّ قتلتك» لم يحلّ له قتله وإن كان خائفاً على نفسه ; لأنّ قتل المؤمن لا يُستباح بالإكراه على قتله ، فإن خالفه وقتل فقد أتى كبيرة بقتل نفس محترمة . فأ مّا الضمان فعندنا أنّ القود على القاتل ، وعند قوم منهم ، وقال بعضهم : عليه وعلى الآمر القود ، كأ نّهما باشرا قتله واشتركا فيه»[237] .

ولا يخفى أنّ عبارة «الخلاف» وإن كانت ظاهرة في الإجماع ، إلاّ أنّ ظهور (عندنا) في «المبسوط» المتأخر عن «الخلاف» تأليفاً ، كما يظهر من قوله في مقدّمة «المبسوط» : «ولا أذكر أسماءَ المخالفين في المسألة لئلاّ يطول به الكتاب ، وقد ذكرت ذلك في مسائل «الخلاف» مستوفاً»[238] إن لم يكن قرينة على وحدة المراد وأنّ ذلك مقتضى المذهب فلا أقل من احتمالها .

وبالجملة : ظهور الإجماع في اتفاق الكلّ وإن كان أقوى من كلمة (عندنا) فإنّها ظاهرة في المذهب ومثله ، إلاّ أنّ تأخر «المبسوط» عن «الخلاف» موجب للتصرّف في عبارة «الخلاف» أو لإجمالها ، فنقل الشيخ الإتفاق غير ثابت علي أيّ حال أوّلاً ، وأنّ المظنون كون الإجماع حدسيّاً ثانياً ، لا لما ذكره الشيخ الأعظم في الإجماع في المقصد الثاني من كتابه المسمّى بـ «الرسائل» من كون الأصل في الإجماعات المنقوله كونها حدسيّة لما قال : «والحاصل ، أنّ المتتبّع في الإجماعات المنقولة يحصل له القطع من تراكم أمارات كثيرة باستناد دعوى الناقلين للإجماع ـ خصوصاً إذا أرادوا به اتّفاق علماء جميع الأعصار ، كما هو الغالب في إجماعات المتأخّرين ـ إلى الحدس الحاصل من حسن الظنّ بجماعة ممّن تقدّم على الناقل ، أو من الانتقال من الملزوم إلى لازمه مع ثبوت الملازمة باجتهاد الناقل واعتقاده»[239] ، لما حقّقناه من عدم التماميّة ، بل لما في مثل هذا الإجماع من خصوصيّة مسبوقيّته وملحوقيّته بالآية المتّفق دلالتها على القصاص ، واستدلاله (رحمه الله) على ذلك الادّعاء في «المبسوط» أيضاً بقاعدة اتّفاقيّة وهي «أنّ قتل المؤمن لايستباح بالإكراه على قتله» ، ومن عدم التعرّض للمسألة في المتون الفقهيّة التي بأيدينا من كتاب «الجوامع الفقهية» فضلاً عن ادّعاء الإجماع عليه .

وهذه الوجوه الثلاثة ـ فضلاً عن واحد منها ـ كافية في الشهادة والقرينة على أنّ مثل ذلك الإجماع حدسيّ لا حسيّ ، وكون الإجماع دون الأدلّة الاجتهادية لا فوقها ولو احتمالاً ثالثاً ، فإنّ الإجماع حجيّته موقوفة على إحراز عدم الاستناد إلى الأدلّة الموجودة التي بأيدينا كما هو واضح ، ومع كون المسألة مصبّ الآية والرواية ، الإحراز مشكل بل ممنوع ، هذا كلّه في الإجماع ، وفي كلامه في «الخلاف» موارد للنقض والإيراد :

أحدها : الإشكال على الشافعي وردّه عليه بعدم الدلالة وأ نّه قياس .

ففيه : أنّ الدلالة بالأولويّة وتنقيح المناط ، حيث استدلّ بأنّ المكرِه (بالكسر) أغلظ حالاً من المكرَه ; لما له من القدرة على الامتناع بعدوله عن النظر ، دون المكرَه فإنّه ملجأ على وجه لايمكنه إلاّ قتله خوفاً على نفسه ، فإذا لم يكن القصاص على الحاكم فعلى المُلْجَأ والمكرَه (بالفتح) بطريق أولى .

ولك أن تقول : إنّ الاستدلال بإلغاء الخصوصيّة المعتبرة في الفقه ، وأ نّى ذلك بالقياس المطرود عند الشيعة ؟ !

نعم ، لعلّه هو قياس اسماً لكنّه غير مضرّ قطعاً .

ثانيها : تعويله واعتماده على قوله تعالى : (الحُرُّ بالحُرِّ . . .)[240] .

ففيه : أنّ الآية ليست في مقام بيان أصل القصاص ، بل في مقام بيان الكيفيّة باعتبار الاتحاد في النوع وأنّ الحرّ بالحرّ ، فلا يُقتل الحرّ بقتل العبد مثلاً ، أو في مقام بيان عدم قتل غير القاتل بدلاً عنه كما استظهرناه من الآية ، فالتعويل والتمسك بإطلاقها على ما رامه (رحمه الله) كما ترى ، وكان الأولى بل المتيقّن التعويل على مثل : (وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيـوةٌ)[241] ومثل : (جَزَاءُ سَيِّئَة سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا)[242] .

ثالثها : استدلاله بالنبوي ، وأنّ المكرَه المباشر للقتل هو القاتل للنفس ، فيجب أن يحلّ دمه .

ففيه : أنّ القاتل هو المكرِه المُلجئ ; لأ نّه السبب الأقوى ، فالمورد كغيره من موارد الأقوائية ، فالقتل منتسب عرفاً إلى السبب الأقوى .

وفي السادس : أنّ المراد منه تساوي المسلمين من حيث الدم ، ويُقتل القاتل كائناً من كان ، ودمه ليس بأحمر من الآخر حتّى لايقتل به ، وقتل السبب ـ أي المكرِه ـ دون المباشر غير مخالف له ، بل يكون موافقاً له كمال الموافقة ، فإنّه القاتل عرفاً لا المباشر كما مرّ مراراً .

هذا تمام الكلام في المناقشة والإشكال على الوجوه المستدلّة بها على كون القود على المكره المباشر ، وقد عرفت المناقشة في كلّها ، كما قد عرفت أنّ مقتضى التحقيق كون الإكراه على القتل مع التوعيد به ـ أي بقتل المكرَه (بالفتح) ـ رافعاً للقود والدية عليه كالإكراه على غيره من الاُمور الموجبة للضمان والجزاء ، وفقاً لقاعدة الإكراه وحديث الرفع ، فلا قود على المباشر المكرَه (بالفتح) ، بل القود والدية على السبب المكرِه المُلجئ قضاءً لقاعدة أقوائيّة السبب على المباشر كما هو ظاهر .

وتوهُّم أنّ حديث الرفع حديث امتنان ، فرفع الإكراه عن المباشر مخالف للامتنان على الثالث وهو المقتول ، لاستلزامه جواز قتله للمكرَه أي المباشر .

مدفوعٌ بالنقض بالاكراه بما دون القتل مع التوعيد به أو بما دونه ، بل والإكراه بجميع حقوق الناس أوّلاً .

وبالحلّ بأنّ الامتنان لعلّه من جهة التسعة ومجموعها ، لا كلّ واحد منها مستقلاًّ ، فإنّ رفع الجميع من مختصّات الاُمّة ، وإلاّ فبعضها كان مرفوعاً من الاُمم السابقة أيضاً ثانياً . وأنّ الامتنان على تسليم كونه لكلّ واحد منها بالخصوص لما كان عن الاُمّة لا عن الشخص ، فلابدّ من رعايته لا رعاية الشخص ثالثاً .

والرعاية على الاُمّة موجودة ; لأنّ الثالث مشمول للرفع مع فرض صيرورته مباشراً مكرَهاً .

وبالجملة : الحديث كما أ نّه جار في حقوق الله فكذلك في حقوق

الناس ، ولا منافاة بين الامتنان والرفع في حقوق الناس ; لما ذكرناه من الوجوه الثلاثة . هذا مع أ نّه على المنافاة لابدّ من الاختصاص بحقوق الله ، وهو كما ترى لإيجابه خروج المورد للنزول في آية الإكراه : (إلاّ مَنْ أُكْرِهَ)[243] ، وهو قضيّة عمّار[244] التي كانت في حقّ الناس وحقّ الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) .

ولاستدلال أبي الحسن(عليه السلام) بالحديث[245] في الإكراه على الحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك ، فإنّه كان من ذلك القبيل أيضاً . وكيف كان ، لا إشكال في عموميّة الحديث كما يظهر من مراجعة الموارد .

ثمّ إنّ ما في المتن وغيره من حبس الآمر في المسألة ، المراد منه المكره ، فالدليل عليه صحيحة زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) في رجل أمر رجلاً بقتل رجل ، فقال : «يقتل به الذي قتله ، ويحبس الآمر بقتله في الحبس حتّى يموت»[246] .

وفي «الجواهر» : «ولا بأس بالعمل بها بعد صحّتها وعمل غير واحد من الأصحاب بها ، فما عساه يظهر من المتن من التوقّف في ذلك في غير محلّه»[247] .

وقد مضى الكلام منّا فيها مفصّلاً وأ نّها مربوطة بغير الإكراه ، بل الظاهر كونها مربوطة بالأوامر العاديّة ممّا لاتكون إطاعتها واجبة على المأمور لا قانوناً ولا سلطة ، والعمل بها في موردها لازم ; لأ نّها صحيحة وحجّة أيضاً . ومضى الكلام بما لا مزيد عليه أنّ على المكره القود والدية ، وأ نّه القاتل من دون شيء على المكرَه (بالفتح) كالمكره على غير القتل من سائر الاُمور .