فقه الثقلین فی شرح تحریر الوسیلة

یوسف صانعی؛ شارح: روح الله خمینی(ره)

نسخه متنی -صفحه : 118/ 54
نمايش فراداده

جناية الأعمى

(61) منشأ التردّد ما أشار إليه «الشرائع» من العمد ، وعمومات القصاص ، ومن رواية الحلبي[804] الدالّة على أنّ جنايته خطأ تلزم عاقلته .

وعن أبي علي[805] ، والشيخ في «النهاية»[806] ، والصهرشتي والطبرسي المحكـي عنهما في «الجواهر»[807] ، وابني البرّاج[808] وحمزة[809] ، بل والصدوق في ظاهـره العمل بها ; لنقلها فـي «الفقيـه»[810] المحتوي على ما يفتى به ، ويحكم بصحّتـه ، حيث قال : «ولم أقصد فيه قصد المصنّفين فـي إيـراد جميع ما رووه ، بـل قصدت إلى إيـراد ما أفتي بـه وأحكم بصحّتـه ، وأعتقد فيه أ نّـه حجّـة فيما بيني وبين ربّي تقدّس ذكره وتعالت قدرته»[811] .

بل وفي «غاية المراد» : «هذا القول مشهور بين الأصحاب»[812] .

لكنّ المتأخّرين[813] يقولون بكون الأعمى كالمبصر وأنّ عليه القود ، وطعنوا بتلك الرواية ورواية أبي عبيدة[814] اللتين كانتا دليل المتقدّمين .

وكيف كان ، فلتحقيق الحقّ في المسألة وبيانه ننقل عبارة «المسالك» أوّلاً ، ونتبعها بعبارة «الجواهر» مع ما فيه من الإيراد ثانياً ، ونبيّن الحقّ ثالثاً .

ففي «المسالك» : «وفي الأعمى تردّد . . . إلى آخره ، ذهب الشيخ في «النهاية» إلى أنّ عمد الأعمى وخطأه سواء ، تجب فيه الدية على عاقلته ، وتبعه ابن البرّاج ، وهو قول ابن الجنيد وابن بابويه . والمستند رواية الحلبي عن الصادق (عليه السلام) أ نّه قال : (الأعمى جنايته خطأ تلزم عاقلته ، يؤخذون بها في ثلاث سنين ، في كلّ سنة نجماً ، فإن لم يكن للأعمى عاقلة لزمته دية ما جنى في ماله ، يؤخذ بها في ثلاث سنين)[815] الحديث .

وروى أبو عبيدة عن الباقر (عليه السلام) قال : سألته عن أعمى فقأ عين رجل صحيح[816] متعمّداً ، فقال : (يا أبا عبيدة ، إنّ عمد الأعمى مثل الخطأ ، هذا فيه الدية من ماله ، فإن لم يكن له مال فإنّ دية ذلك على الإمام ، ولا يبطل حقّ مسلم)[817] .

وهاتان الروايتان مشتركتان في الدلالة على أنّ عمد الأعمى خطأ ، وفي ضعف السند ، ومختلفان للحكم ، ومخالفتان للاُصول ; لاشتمال الاُولى على كون الدية تجب ابتداءً على العاقلة ، ومع عدمها تجب على الجاني ، وهذا مخالف لحكم الخطأ . وفي الثانية مع جعله الجناية كالخطأ أوجب الدية على الجاني ، ومع عدم ماله على الإمام ، ولم يوجبها على العاقلة . وظاهر اختلاف الحكمين ومخالفتهما لحكم الخطأ .

وذهب ابن إدريس[818] وجملة المتأخّرين إلى أنّ الأعمى كالمبصر في وجوب القصاص عليه بعمده ، ولوجود المقتضي له ، وهو قصده إلى القتل وانتفاء المانع ; لأنّ العمى لا يصلح مانعاً مع اجتماع شروط القصاص من التكليف والقصد ونحوهما ، ولعموم الأدلّة من الآيات والروايات المتناولة له ، وانتفاء المخصّص ، لما ذكرناه من الموجب لاطراحه ، مع أنّ الرواية الاُولى ليست صريحة في مطلوبهم ، لجواز كون قوله : (خطأ) حالاً ، والجملة الفعليّة بعده الخبر ، وإنّما يتمّ استدلالهم بها على تقدير جعله مرفوعاً على الخبريّة ، وأ مّا نصب (خطأ) على التمييز ـ كما فعله بعضهم ـ فهو خطأ واضح»[819] .

والظاهر أنّ وضوح الخطأ مـن جهـة اعتبار الجمود فـي التمييز والخطأ مشتقّ ، هذا كلّه في نقل عبارة «المسالك» التي وعدنا نقلها بالوعد الأوّل .

وفي «الجواهر» : «وعن «المختلف» : الجواب عن الرواية الاُولى بالحمل على قصد الدفع ، وفيه : ـ مع أ نّه مناف لظاهر الترتيب ـ أ نّه مخالف لما فيه من إلزام العاقلة الدية ، بل لا شيء فيه حينئذ ، كما أنّ في احتمال النصب منافاة لقوله (عليه السلام) : (هذان متعدّيان) وللاستدلال ، بل ولقوله : (فوثب المضروب) .

بل لعلّ المناقشة في السند ضعيفة ; لأنّ الاُولى رواها في «الفقيه» عن العلاء بن رزين عن الحلبي ، وطريقه إليه صحيح ، والثانية موثّقة بعمّار ، واختلافهما في الخارج عن موضوع المسألة غير ضائر ، خصوصاً بعد اتّفاق القائلين على أ نّه على العاقلة ، عدا الصدوق في ظاهره ; لأ نّه روى رواية الحلبي ، ومقتضاه ـ إن كان باقياً على ما قدّمه في كتابه من العمل بما يرويه فيه ـ العمل به ، وعلى تقديره فهو شاذٌّ ; لأنّ المعروف بين القائلين كونه على العاقلة ، كعمد الصبي والمجنون ، وعلى كلّ حال لا قدح في الرواية من هذه الجهة .

ودعوى عدم صلاحية أخبار الآحاد ـ وإن صحّت لتخصيص الكتاب ـ قد ذكرنا فسادها في الاُصول ، ولكن الإنصاف مع ذلك كلّه عدم الجرأة بها على تخصيص العمومات ، بعد مخالفة المتأخّرين ، واحتمال إرادة أنّ الأعمى غالباً لا يعلم تعمّده إلاّ بإقراره منها ، والله العالم»[820] .

وفي دفعه (عليه السلام) إشكال «المسالك» باختلافهما في الحكم ، بأنّ الاختلاف في الخارج عن موضوع المسألة ، وهو غير ضائر كما ترى ، حيث إنّ الكلام في الخارج إن كان بدلالة مستقلّة فالاختلاف فيه غير ضائر بحجيّتها بالنسبة إلى غيره ، كالموضوع في المسألة ، فإنّ التبعيض في حجيّة المتن ممّا لا بأس به ، وعليه بناء العقلاء في موارد ، مثل التبعيض في قوله : غسل الجنابة واجب ، وغسل الجمعة واجب ، بحجّيّته في وجوب الجنابة دون الجمعة .

وأ مّا التبعيض فيما تكون الجملات مترابطة ارتباطاً دلالياً ، كارتباط المطابقة مع الالتزام ، واسم الإشارة مع المشار إليه فغير ثابت ، بل خلافه ثابت من العقلاء ، فإنّهم لا يتعبّدون بحجّيّة الجملة والحديث مثلاً في دلالتها الالتزاميّة دون المطابقة أو في الإشارة دون المشار إليه .

ففي مثل قوله في الخمر : (الفقّاع خمر ، فلا يكون نجساً) ، لايصحّ القول بحجيّة الخبر بالنسبة إلى نجاسة الفقاع دون الخمريّة أو العكس ، كما لاشكّ في عدم بناء العقلاء على التبعّض في إعمال الترجيح في مورد التعارض في العامّين من وجه ، كما لا يخفى .

ومـن المعلوم أنّ مسألة ديـة الخطأ ، وأ نّها على العاقلـة مـن اللوازم الواضحـة لها ، وأنّ الخطـأ يُعرف بذلك اللازم قبل أن يُعـرف بعدم القـود ، بل عـدم القود فيه واضح عقلاً وشرعاً ، وغير محتاج إلى البيان ، فالاختلاف فيـه فـي الروايتين مضرٌّ كما ذكره «المسالك» ، فتدبّر جيّداً ، وهذا كلّه في الوفاء بالوعـد الثاني .

والحقّ في المسألة كون الأعمى كالمبصر في توجّه القصاص عليه بعمده ، وفاقاً لمن عرفت من المتأخّرين ، وعدم المانع ، والمخصّص لها .

وفي الخبرين ـ مع قطع النظر عمّا ذكره «الجواهر» في آخر كلامه من الإنصاف ـ احتمال كون الألف واللام للعهد ، ففي خبر الحلبي إشارة إلى الأعمى الذي صار أعمى بضربة المقتول ، وفي الثاني إلى الأعمى الذي فقأ عين رجل صحيحة متعمّداً . وعليه ، فليس في شيء منهما تخصيص لعمومات القصاص مطلقاً ; لعدم العمد ولا القتل بما يقتل به غالباً ممّا هو شرط في القصاص في الأوّل ، وعدم المحلّ للقصاص في الثاني ، بل ليس فيهما مخالفة لقواعد اُخرى أيضاً إلاّ في مورد خاصّ في الأوّل فقط .

بيان ذلك : أنّ تحقّق قصد القتل والعمد فيه لمن ضرب رأسه بمعوّل فسالت عيناه على خدّيه فوثب على ضاربه بعيدٌ جدّاً ثبوتاً ، والعمد منه إحرازه إثباتاً ، حيث إنّه لغضبه وسخطه بصيرورته بالضرب أعمى كأ نّه ليس له قدرة الاختيار والتعمّد في القتل ، بل يكون تمام هدفه المقابلة بالمثل والاعتداء عليه ، بل كأ نّه غافل عن العمد في القتل ، ومتحيّر في الانتخاب ، كما أ نّه لما لا يعلم ولا يبصر محلّ ما يقتل به بالضرب فالأعمى في الحديث ليس عامداً ولا قاصداً إلى ما يقتل به غالباً آلةً ومحـلاًّ ; لعدم القود عليه ، وليس تخصيصاً لعمومات القصاص بل تخصّصاً وخروجاً موضوعيّاً .

نعم ، ما فيه من كون ديته على العاقلة مع أنّ قتله على ذلك شبه العمد ، للقصد إلى الفعل لا خطأ محض ، مخالف لقاعدة ضمان المتلف .

هذا كلّه في صحيح الحلبي ، وأ مّا خبر أبي عبيدة ، فعدم القصاص فيه على القاعدة ، كما هو واضح ; لعدم البصر والعين للأعمى حتّى يقتصّ منه ، فإنّ الألف واللام للعهد على المفروض .

نعم ، على كونـه للجنس فـي الخبريـن ، وأنّ عمـد الأعمى خطـأ مطلقاً ، فلابـدّ من التخصيص في أدلّة العمد والقصاص به ، لكن الاستدلال بهما مع ما ذكر من الاحتمال وإن لم نقل بترجيحه على الجنس لإخراج الحديثين عن المخالفة

الشرط السادس : أن يكون المقتول محقون الدم ، فلو قتل من كان مهدور الدم ـ كالسابّ للنبيّ ـ فليس عليه القود (62) .

للقواعد ، وإعمال التعبّد في الأعمى مشكل ، بل ممنوع ، فإنّ الاحتمال مضرٌّ بالاستدلال ، وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال .

(62) عدم القود في قتل مهدور الدم ضروري ولا كلام ولا إشكال فيه من رأس ، بل يكون شبيهاً بالقضايا التي قياساتها معها ، حيث إنّ الضمان والقصاص لحقن الدم واحترامه ، فمع هدره لا ضمان ولا قصاص قطعاً ، فقتل مهدور الدم كقتل الحيّة والسبع في عدم القصاص وعدم المؤاخذة عليه .

نعم لابدّ على ذلك في عدم القصاص على قاتله من كونه مهدوراً لكلّ أحد أو للقاتل على الأقلّ ، وإلاّ فعلى القاتل القصاص لمحقونيّة المقتول بالنسبة إليه ، فتشمله أدلّة القصاص وعمومه ، فالكلام والبحث لابدّ وأن يكون في الصغريات ، كما يظهر من التأ مّل في المتن وإشكاله فيها .

نعم على القول بكفاية الهدر في الجملة ـ كما يظهر من بعض العبائر والفتاوى ـ فالأمر بالعكس ، بمعنى أ نّه لابدّ من البحث في الكبرى دون الصغرى . وقد مرّ البحث والكلام فيها بالنقض والإبرام ، وعدم تمامية الكبرى في الفرع الأخير من لواحق الشرط الأوّل والثاني ، وهو قوله : «ومنها : لو وجب على مسلم قصاص . . . إلى آخره» فلا نعيده ، ولنمحّض الكلام في الصغريات على ما في المتن فنقول :