لقد ذكرت كتب السيرة أن الرسول (ص) كان يشجع المقاتلين المقتدرين على إجادة فن الشعر ونظمه، ليحرك فيهم الهمم نحو الثقة بالنفس، فكان الشعر السلاح الأقوى في تحطيم معنويات العدو وفي إحراز النصر في ميادين المعركة.
كان الشعر في المعركة قبل الإسلام كما يقول الثعالبي:
(إن الحرب إذا دارت رحاها، صمتت الألسنة ونطقت الأسنة وخطبت السيوف على منابر الرقاب، وأقدمت الرماح على الخطط الصعاب، وتلاصقت القنا والقنابل، وتعانقت الصوارم والمناصل، وبلغت القلوب الحناجر وأدركت السيوف المناصر، وضاق المجال وتحكمت الآجال، حتى ثملت الرماح من الدماء، فتعثرت في النحور، وتكسرت في الصدور، فرجموا الأعداء من جوانبهم، وتمكنوا من فض مواكبهم).
لكنه ونظراً لقيمة الشعر الرسالي وما له من أهمية ومكانة خاصة في أهمية ومكانة خاصة في الحب لذلك فقد دعا الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) أصحابه وأهل بيته للتدرع بنفس السلاح الذي كان يحمله أعداؤه المشركين في ساحة المعركة، فقد كان النبي يدفع الشخصيات التي تمتلك الطاقة الشعرية بأن تخوض المعارك بما أوتيت من قوة، فكان وقع الكلمة - كلمة الحق التي تلبس ثوب الشعر وتمتطي صهوة القافية - وقعاً عظيماً، لعله لا يقابل بوقع سل السف أو رشقة النبل، حتى قال الرسول (صلى الله عليه وآله) لكعب بن مالك ـ عندما كان مقتدراً على الرد المناسب على من هجا الرسول والرسالة وأوقع في المسلمين ـ : (اهجم، فو الذي نفسي بيده، لهو أشد عليهم من النبل).
وقد ذكر للحرب أوصافاً كثيرة لسنا بحاجة إلى سردها، وهذا الجانب لا ينكره أحد، لأن الحرب لا تدور رحاها إلا على أدوات القتال التي تمتلكها القوات المسلحة ولا تكون الحرب حرباً دون بريق السيوف وقعقعة القنابل وأزيز الرصاص.
ومن الواضح بأن معنوية المقاتل كلما كانت كبيرة كانت النتائج المتوقعة لكسب المعركة أكبر، وإن هذه المعنوية من جملة الأسباب المقومة لها هو الصوت الصادح والصادع بالحق، لاسيما إذا كان عن طريق الأساليب المتعارفة بإنشاد الأناشيد الحماسية والأهازيج والأراجيز التي كانت تجلجل بها أفواه شعراء الإسلام في المعارك. ولقد باتت هذه القضية من المسلمات التي لا يختلف فيها اثنان، وبالخصوص إذا كانت الأشعار في سبيل الحق، وأنها ذات بيان يصقل العقول ويجلي الشبهات، ويوجب الحجج، ويحكم عند تخاصم الظنون.
نعم كان للشاعر قبل الإسلام الحظ الأوفر، والنصاب الأكبر من رصيد الجاه القبلي والاعتبار الاجتماعي، حتى كان يقدم على الخطيب، وذلك لفرط حاجتهم إلى الشعر الذي كان يسجل عليهم مآثرهم، ويفخم شأنهم، ويهوّل على عدوهم ومن غزاهم، ويهيب من فرسانهم، ويخوف من كثرة عددهم، ويهابهم شاعر غيرهم فيراقب شاعرهم.
ولكنه وبعد تقلب الأيام وتصرّم الأعوام، وثمة كثر الشعر والشعراء واتخذوا الشعر مكسبة، وتسرعوا إلى أعراض الناس صار الخطيب عندهم فوق الشاعر في بعض المواطن والأحوال، ومع كل هذا فقد بقيت أهمية الشاعر هي الأولى، لأنه كان بمثالة الصحيفة السياسية الإعلامية في هذا اليوم، باعتباره المؤسسة الإعلامية في ذلك العصر، وامتد هذا الحال بالشعر حتى إلى ما بعد صدر الإسلام...
لقد ذكرت كتب سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله) الكثير من الآثار المدونة التي تكشف عن أن الرسول كان يشجع المقاتلين المقتدرين على إجادة فن الشعر ونظمه، وفي سائر الميادين، ليحرك الهمم نحو الثقة بالنفس، وعدم احتقار العدو، واستخدم الشعر لهذا الغرض.
وقيل قديماً: من الحزم أن لا يحتقر الرجل عدوه وإن كان ذليلاً، ولا يغفل عنه وإن كان حقيراً حتى قال الشاعر:
لقد كان الرسول يهيب بالجندي المسلم إذا تقدم للقتال وهو يرتجز، حتى أضحت هذه الحالة من الأعراف الحربية السائدة، فإنك تسمع الأشعار التي تأخذ بمجامع القلوب تندلع في رهج الهيجاء أثناء المناجزات التي كان يتصدرها الأبطال الشجعان قبل وعند احتدام القتال، وعند ذلك تنبسط المعنويات العالية في تلك المعارك.
ومن تلك المشاهد تتصدر مواقف أبطال بدر الكبرى، هذه المعركة التي كانت أول المعارك لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأشدها نكاية بالمشركين وبها أذل الله جبابرة قريش، وبها تمهدت قواعد الدين، وثبت أساس الإسلام.
والمشهور أن أول من برز من المشركين عتبة بن ربيعة وكان رئيس القوم، وأخوه شيبة وابنه الوليد بن عتبة، فدعوا إلى المبارزة فخرج إليهم ثلاثة من الأنصار فقالوا لهم: ارجعوا فما لنا بكم من حاجة.
ثم نادوا: يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا.
فقال النبي (صلى الله عليه وآله): (يا بني هاشم قوموا فقاتلوا بحقكم الذي بعث الله به نبيكم).
فقام حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، فبرزوا وهم مقنعون في الحديد، فلم يعرفهم عتبة فسألهم من أنتم؟
فانتسبوا له فقال: أكفاء كرام.
فبارز حمزة عتبة فقتله وبارز علي (عليه السلام) ـ وكان أصغر القوم سناً ـ الوليد بن عتبة فقتله، وبارز عبيدة ـ وكان أسن القوم ـ شيبة فجرحه، وضربه شيبة على ساقه فقطعها، وكر حمزة وعلي على شيبة فقتلاه واحتملا عبيده.
ولما جيء بعبيدة وأن مخ ساقه ليسيل.
قال: يا رسول الله ألست شهيداً؟
قال (صلى الله عليه وآله): بلى
فقال عبيدة: أما والله لو كان أبو طالب حياً لعلم أني أحق بقوله:
وفي غزوة السويق لما رجع رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والمسلمون قالوا:
يا رسول الله أتطمع أن تكون لنا غزوة؟
قال (صلى الله عليه وآله): نعم.
وعندها قال: أبو سفيان بمكة، وهو يرتجز:
فأجابه أحد جنود الإسلام البواسل، وهو كعب بن مالك بقول:
وفي غزوة أحد، وعندما انتهت الهزيمة بجماعة المسلمين فأقاموا بالأعوص ثلاثاً ثم أتوا النبي (صلى الله عليه وآله)، فقال لهم: (لقد ذهبتم فيها عريضة).
يقول المؤرخ الكبير ابن الأثير في الكامل: (والتقى حنظلة بن أبي عامر، غسيل الملائكة، وأبو سفيان بن حرب، فلما استعلاه حنظلة رآه شداد بن الأسود وهو ابن شعوب، فدعاه أبو سفيان) فأتاه، فضرب حنظلة فقتله، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
(إنه لتغسله الملائكة، فسلوا أهله). فسألت صاحبته فقالت: خرج وهو جنب، سمع الهائعة، فقال رسول الله لذلك: (غسلته الملائكة).
وقال أبو سفيان يذكر صبره ومعاونة ابن شعوب إياه على قتل حنظلة:
فأجابه شاعر الرسول حسان بن ثابت بقول:
وفي الغزوات كلها كان للشعر مقام الريادة والتقدم في بعث المعنويات للمقاتلين، وإذا أردنا استقصاء ذلك، فإنه يعني الخروج عن الغرض الموجز، وقد يمكن الاستشهاد ببعض النصوص التي قيلت ولو بعد القتال، لنرى الجو المؤثر للشعر، والمعبر عن مدى لذة الطاعة لله تعالى ولرسوله، من خلال المعنوية العالية التي يتمتع بها الجندي المسلم.
لما رجع رسول الله من غزوة أحد إلى المدينة استقبلته ابنته فاطمة (عليها السلام) ومعها إناء فيه ماء، فغسل الرسول وجهه الشريف، ولحقه أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد خضب الدم يده إلى كتفه، ومعه ذو الفقار، فناوله فاطمة وقال لها: خذي هذا السيف فقد صدقني اليوم وانشأ يقول:
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) :
(خذيه يا فاطمة فقد أدى بعلك ما عليه، وقد قتل الله بسيفه صناديد قريش)...
أجل..
ومن المواقف الشجاعة، والتي كان للشعر النضالي مكانه الرفيع فيها، هو الموقف الذي نقله التاريخ عن وقعة الخندق التي تسمى وقعة الأحزاب أيضاً، لتحزب القبائل فيها على حرب الرسول الله (صلى الله عليه وآله)، إذ أقبلت قريش وقائدها أبو سفيان، وأقبلت كنانة وأهل تمامة وغطفان، واتفق المشركون مع اليهود وجاءوا، ثم أتوا إلى مكان ضيق من الخندق واقتحموه، فتقدم عمرو بن عبد ود العامري ذلك الفارس الشهير.
فقال الرسول (صلى الله عليه وآله): من لعمرو؟ وأضمن له على الله الجنة؟
فقام علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال له: أنا له يا رسول الله.
قال النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): اجلس.. حتى قالها ثلاثاً. وفي كل مرة يقوم علي والقوم ناكسوا رؤوسهم كأن على رؤوسهم الطير من شدة الهول الذي أصابهم.
وبقي عمرو في تغطرسه وشموخه وكبريائه ينادي:
أيها الناس - إنكم تزعمون أن قتلاكم في الجنة وقتلانا في النار أفما يحب أحدكم أن يقدم على الجنة أو يقدم عدواً له إلى النار!
فلم يقم إليه أحد إلا علي (عليه السلام).
فقال له النبي: يا علي هذا عمرو بن عبد ود فارس يليل.
فقال: وأنا علي بن أبي طالب.
فجعل عمرو يجول بفرسه مقبلاً ومدبراً، وجاءت عظماء الأحزاب فوقفت من وراء الخندق، ومدت أعناقها تنظر..
فلما رأى عمرو أن أحداً لا يجيبه قال:
فتقدم إليه علي بن أبي طالب يهرول في مشيه، وهو يقول في جواب عمر:
فتجاولا وثارت لهما غبرة وارتهما عن العيون إلى أن سمع الناس التكبير عالياً من تحت الغبرة، فعلموا أن علياً قتله، وما انجلت الغبرة إلا وأمير المؤمنين (عليه السلام) قد قتله وهو ينشد أيضاً:
قال (عليه السلام) هذا البيت ليزرع الثبات ورباطة الجأش في نفوس الجنود المسلمين، حتى انتصروا في هذه الواقعة الكبيرة...
وبعد ذلك فر المشركون فعبروا الخندق إلا رجلاً منهم يسمى نوفلاً، لحقه علي فقتله في الخندق، وبعدها تحقق أروع نصر عرفه الإسلام نتيجة موقف هذا البطل العملاق الذي جمع الشجاعة الروحية والشجاعة الأدبية في آن واحد...
وفي وقعة مؤتة من أرض البلقاء، أرسل رسول الله (صلى الله عليه وآله) جيشاً بقيادة جعفر بن أبي طالب، والتقوا بجموع الروم بقيادة هرقل، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فأخذ الراية جعفر بن أبي طالب فقاتل قتال المشتاقين إلى الجنة وهو يقول:
واستطاع أن يحرك النفوس، ويبعث العزائم ويشدها فلما اشتد القتال نزل عن فرس له شقراء فعقرها، وكان أول فرس عقر في الإسلام، ثم قاتل حتى استشهد، فوجدوا به بضعاً وثمانين ما بين رمية وضربة وطعنة.
وقد خلف جعفر الطيار تمام الأثر الذي حفر بقلوب المجاهدين ذكريات البطل المجاهد القمة...
ولما هادن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قريشاً في عام الحديبية، ودخلت خزاعة معه، وكان بين خزاعة وعبد المطلب حلف قبل الإسلام، وجعلت قريش بني بكر داخلة معها.
وكانت بين خزاعة وبني بكر أحقاد في الجاهلية، فعدت بنو بكر على خزاعة بموضع يقال له الوتير، وقتلوا منهم وعاونتهم قريش سراً بالمال والرجال، فجاءت خزاعة تستصرخ النبي (صلى الله عليه وآله) وأنشد قائلهم:
فقام النبي (صلى الله عليه وآله) مغضباً يجر رداءه وقال:
(لا نصرت إن لم أنصر خزاعة مما أنصر به نفسي).
وندمت قريش على ما صنعت، فأرسلت أبا سفيان ليجدد الحلف مع النبي (صلى الله عليه وآله)...
وعند دخول المسلمين مكة في عام الفتح قال أبو سفيان للعباس بن عبد المطلب: من هؤلاء؟
فقال العباس: هذا رسول الله في المهاجرين والأنصار.
فقال : لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً.
فقال العباس: ويحك إنها النبوة.
وأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) سعد بن عبادة أن يدخل مكة بالراية فدخلها وهو يقول شعراً كاد أن يكون شعار الفاتحين بالجور:
فلما سمع الرسول (صلى الله عليه وآله) هذا الشعار، أمر بتغييره في الحال، فنادى منادي الرسول وهو علي (عليه السلام):
(اليوم يوم المرحمة)
وعندها أكرم الرسول ألد أعداء الإسلام أبا سفيان مع عداوته له ومحاربته إياه، أكرمه بكرامة لم يجعلها لغيره فقال:
(من دخل دار أبي سفيان فهو آمن).
وهذا هو شأن الرسول الأعظم في المواطن كلها، ولنعم ما يطابق هذه الشأنية الكريمة، والروحية الفريدة هو قول ابن الصيفي:
والله تعالى أعلم حيث يجعل رسالته، ولو لم يكن الرسول أهلاً لهذه الأخلاق الكريمة لما كان المصداق التام لقوله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).
إن موقف الرسول (صلى الله عليه وآله) من الشعر هو عينه موقف القرآن الكريم الذي يميز بين الشعر الهادف وبين الشعر الذي لا يتعدى دائرة الخيال والولوج في لجج الضلال، ولهذا جاء في القرآن الكريم وفي سورة الشعراء قوله تعالى:
(والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون).
فقد يتجلى من هذا النص القرآني بأن الشعر من الوسائل العظيمة الموجبة للنصر الإلهي إذا كان منبعه من صميم العقيدة، ومتصفاً صاحبه بالذاكرين الله كثيراً والمنتصرين لله على ظلم الظالمين وكيد الكافرين...
وجاء عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) الكثير من الآثار الشريفة التي تصرح ألسنتها في تكريم الشعر الرسالي الهادف فضلاً عن الشعر القتالي وهناك نماذج عطرة من هذه الآثار لازالت تتناقلها الرواة ويستهدي بها المتتبعون، ومنها قوله (صلى الله عليه وآله):
(إن من الشعر لحكمة وإن من البيان لسحراً).
وقوله (صلى الله عليه وآله): لكعب بن مالك الأنصاري.
(اهجم، فو الذي نفسي بيده، لهو أشد عليهم من النبل).
وقوله (صلى الله عليه وآله) لحسان بن ثابت:
(لا تزال يا حسان مؤيداً بروح القدس، ما نصرتنا بلسانك).
وقوله (صلى الله عليه وآله) لفتيلة بنت الحارث، بعد أن خاطبته في أبيات عتاب مشجية، تعاتبه فيها على قتل أخيها النضر بن الحارث بأمره (صلى الله عليه وآله)، وبعد أن خاطبته بأبياتها الحزينة ومنها:
وبعد أن سعد رسول الرحمة (صلى الله عليه وآله) منها الأبيات أقسم قائلاً:
(والله لو بلغني شعرها قبل قتله لما قتلته).
هذا وإن الرجل كان مشركاً، وقد نال جزاءه العادل، إلا أن الأبيات التي ألقتها أخت القتيل على رسول الله كانت بمثابة الدية دون قتله، ولكنه حال القضاء دون الرجاء...
وهناك مواقف بطولية ترجمتها أبيات منشديها، وكشفت عن أدوارها الإيجابية الخالدة بالنسبة لهم، ومنها الأبيات التي كانت تثلج قلب الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) والتي كانت تلقى من عمّه الحنون أبي طالب وفي أحرج الظروف، وأشد المواقف التي كان الرسول بحاجة ماسة إليها، لاستنجاده آنئذ بأدنى ناصر ومعين، وهناك كان يقف البطل أبو طالب ليجلجل بصوت الحق، ذباً منه عن رسالة السماء، وإيذاناً لتحصين القلة المؤمنة، وترسيخاً للعزائم وتثبيتاً فتراه يبارك لمن يعلن إسلامه ويناصر ابن أخيه النبي الجديد، ويخاطب أخاه الحمزة بعد إعلان إسلامه:
ومرة أخرى يقف أبو طالب مخاطباً أخاه. ربيعة بن الحارث يحثه في نصرة الرسول (صلى الله عليه وآله) قائلاً:
وبعدئذ امتدت مسافة الشعر النضالي بالنسبة لأبي طالب، تبعاً للظروف الرسالية الصعبة، فكان من اللازم أن تثب الأبطال، وتلقي شرر حماسها، بأسلوب التحدي للسلطات الجائرة والمتمثلة بالمشركين من رجالات قريش، وفي تلك الآنات العصيبة التي تخرس فيها الألسن، ينطلق صوت الحق كأنه شواظ من نار ألقاه العم المحامي على رؤوس المشركين والكفار.
وبقي أفق الشعر النضالي يمتد ويمتد، وما وقف على حدود جبهات معارك الرسول (صلى الله عليه وآله) وما تمثل به المقاتلون من الصحابة الكرام بل تعدى ذلك إلى المعارك التي خاضها الامتداد الرسالي في معارك الجمل والنهروان وصفين، وانتقلت هذه الحالة إلى ثورة سبط الرسول الأعظم في كربلاء، وسبب ذلك، لأن هذه الفروع ترجع إلى أصولها المحمدية، ولأن ثورة الحسين استجابة لدعوة الإسلام المحمدي، والذي كاد أعداء الإسلام أن يقوضوا أركانه من الأساس، وكادت شجرة النبوة أن تنخرها أرضة الطابور الخامس، وتفتّتها معاول الحكام الخونة وباسم الإسلام ولكن الدماء الزكية للإمام الحسين كانت العلاج الناجع والدواء المنقذ لهذه الشجرة التي ثبت أصلها وارتفع فرعها إلى السماء.
وفي هذه الثورة لم تجد أحداً من أهل البيت (عليهم السلام) وإلى أصغر جندي مقاتل لم تجد أحداً منهم تقدم إلى القتال إلا وهو يرتجز في شعره الجهادي الملتهب.
ولنكتفي بنص من النصوص البارزة لأحد أبطال الثورة الحسينية، ألا وهو علي الأكبر نجل الإمام الحسين، وفيه يوضح الارتباط المتين بين معركة الحسين ومعركة الرسول، وفيه يرجع هذا البطل جذور الحق الملتفة بالإيمان إلى الأصل النبوي الكريم، وفيها يكشف أيضاً زيف الأدعياء البعيدين عن الإسلام، فصدحت الأبيات من إنسان كان أشبه الناس جميعاً بالنبي المصطفى خلقاً وخلقاً ومنطقاً، قالها مرتجزاً في وسط المعركة:
وهكذا استمر الشعر الرسالي من صدر الإسلام وإلى يومنا هذا، وإلى أن تقوم الساعة، وكما تبرز موقعه الريادي في معركة بدر وأحد والأحزاب وغيرها، فسوف يبقى يتبوّأ المكانة الرفيعة، طالما يبقى ضياء الحق يلاحق ظلام الباطل...