إنّ السابر زُبُر التأريخ وحوادثه يجد هذا الحديث ـ والكلام للشيخ ـ من أثبت ما تعرّض له مؤلّفوها ، وقد أثبتوه مخبتين به ، مذعنين بحقيقته ، ومنهم من نصّ بصحّته عندهم جميعاً .
وقد اختار الشيخ من هؤلاء المؤرِّخين جمعاً وصفهم بالبراعة في فنّهم وقدرتهم على الوقوف على المختلف فيه والمتّفق عليه . وإن تعرّضت بحوث هذا الكتاب لمثل أقوال هؤلاء المؤرِّخين أو بما يربو عليها أو يقاربها ، ومع هذا نقرأ لبعضهم
* المؤرخ محمد خاوندشاه في (روضة الصفا) ، قال : «كانت ولادته(عليه السلام) في رواية يوم الجمعة في الثالث عشر من رجب سنة ثلاثين من عام الفيل . . . وكان ميلاده(عليه السلام) في جوف الكعبة ، فإنّ اُمّه كانت تطوف بالبيت ، أو أنّ المشيئة الإلهية أجاءتها إلى فنائه ، وكانت في أوّل الطلق ، فكانت ولادته فيها ، ولم تتح هذه السعادة لأيّ أحد منذ بدء الخليقة إلى الغاية . وإن لصحّة هذا الخبر بين المؤرِّخين المتحفّظين على الفضائل صيتاً لا تشوبه شبهة ، وتجاوز عن أن يصحبه الشكّ والترديد»62 .
والرجل مع ذلك ـ كما يقول الشيخ ـ يصافق مَن تقدّمه على أنّها ممّا اختصّ بها أمير المؤمنين(عليه السلام) ولا يشاركه فيها أيّ أحد .
ولا ريب في ذلك غير أنّ أعداء آل البيت النبوي افتعلوا حديث حكيم بن حِزام فتّاً في عَضُد هذه الفضيلة ، لكن المنقّبين من الفريقين لم يأبهوا به ، وبذلك تعرف قيمة ما هملج به القاضي روزبهان من أنّ ذلك مشهور بين الشيعة ولم يصحّحه علماء التاريخ ، بل عند أهل التواريخ أنّ حكيم بن حِزام ولد في الكعبة ولم يولد فيه غيره . . . إلى آخره .
وستجد نصوص التاريخ بذلك ، وعرفت ردّ الحاكم النيسابوريّ على مَن حصر ولادة البيت بحكيم ، وذكر تواتر النقل بولادة أمير المؤمنين(عليه السلام) فيه .
ومرّ أيضاً رواية أساطين أهل السنّة ، ولذلك ما يتلوه
* المسعودي وهو الحجّة عند الفريقين يقول في (مروج الذهب) عند ذكر خلافة أمير المؤمنين(عليه السلام) مثبتاً هذه الحقيقة ، جازماً بها من غير ترديد ، قال : «وكان مولده في الكعبة»63 .
وقد احتجَّ بكتابه هذا الموافق والمخالف وهو من المصادر الموثوقة وقد راعى فيه ـ والقول للمؤلّف ـ جانب التقيّة بما يسعه ، بتأليفه على نسق كتب أهل السنّة وما يرتضونه من رواياتهم ، حتّى حسبه بعض من لم يرَ من كتبه غيره أنّه منهم .
فهل من السائغ إذن أن يذكر في كتاب هذا شأنه غير الثابت المتسالم عليه عند الأمّة جمعاء ، لا سيّما في مثل المقام الذي يكثر فيه بطبع الحال وَرَطات القالة؟
وذكر في كتابه الآخر (الوصية)
«وروي أنّ فاطمة بنت أسد كانت تطوف بالبيت ، فجاءها المخاض وهي في الطواف ، فلمّا اشتدّ بها دخلت الكعبة ، فولدته في جوف البيت . . . وما ولد في الكعبة قبله ولا بعده غيره»64 .
و(إثبات الوصيّة) من أنفس كتب الإمامية ، وليس من الجائز أن يحتجّ ويتبجّح فيه بما لا يقرّ به الخصم ، ولا تذعن به اُمّته ، ثمّ يقول بكلّ صراحة : «وما ولد . . .» وبمشهد منه ومسمع ما تحذلقوا به من أمر حكيم بن حِزام ، غير أنّ المؤرّخ لا يُقيم له وزناً .
* وذكر حمد الله المستوفى (ت 750هـ ) في (تاريخ گُزيده) : «أنّ مولده(عليه السلام) كان سنة ثلاثين من عام الفيل ، وكان في الكعبة حيث كانت أُمّه في الطواف فبان عليها أثر الطَلَق ، فأشارت إلى البيت ووضعته في جوفه»65 .
* محمد بن طلحة الشافعي في (مطالب السؤول) وقيل : ولد في الكعبة ، البيت الحرام»66 .
ولا نكترث بإسناد ولادة البيت إلى القيل ، بعد قول الحاكم بتواترها ، وقول الآلوسي باشتهارها في الدنيا .
* المؤرخ نشانجيّ في (مرآة الكائنات) : «أنّه(عليه السلام) ولد ولرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)ثلاثون سنة ، كانت أُمّه فاطمة زائرة البيت فولدته فيه لحكمة لله سبحانه فيه ، ولم يرزق هذا غيره وغير حكيم بن حزام»67. حيث عدّ ولادته(عليه السلام) من حكم الله سبحانه.
* عبد الحميد خان الدهلوي في (سير الخلفاء) نقل عن غير واحد من المؤرّخين ، أنّه «ولد في مكّة المكرّمة . . . ، ولم يتولّد أحد قبله في حِصَار البيت» . . .68 .
* المؤرِّخ والمحدِّث القمي في (تاريخ قم) سنة 378 : «إنّ ولادة أمير المؤمنين في الكعبة . . .»69 .
* وقال السيّد عليّ الحسينيّ المؤرّخ المصريّ في كتابه (الحسين(عليه السلام)) : «أنّه [الإمام علي(عليه السلام)] ولد بمكّة في البيت الحرام ، يوم الجمعة الثالث عشر من رجب ، سنة ثلاثين من عام الفيل . . .70 .
* أحمد الغفاري القزويني من مؤرِّخي القرن العاشر ذكر في (تاريخ نگارستان) أنّه(عليه السلام) ولد في جوف الكعبة71 .
* المؤرخ الشروانيّ أنّه(عليه السلام) ولد في جوف الكعبة وأنّ غيره لم يولد هناك72 .
* الكاشفي ذكر حديث بن قعنب في (روضة الشهداء) عن (بشارة المصطفى) .
* الإمام البناكتي أنّه «لم يولد أحد قبله ولا بعده في البيت»73 .
* عبد المسيح الأنطاكي صاحب مجلّة (العمران) المصرية ، ونحن نقتبس طاقة من خمسة آلاف بيت نظمها في حياة أمير المؤمنين(عليه السلام)
ثمّ راح الأنطاكي يقول
«كانت ولادة سيّدنا ومولانا أمير المؤمنين في العام الثلاثين لولادة المصطفى ـ عليهما وعلى آلهما الصلاة والسلام ـ على ما حقّق المحقّقون ، فتكون ولادته الشريفة حول سنة ستّة مائة وواحد مسيحية ، ومن بشائر سعده ـ عليه صلوات الله ـ أنّه ولد في الكعبة كرّمها الله ، ولدته أُمّه فيها فاستبشر بذلك أبوه وعمومته .
وعند ولادته الشريفة ـ والكلام ما زال للناظم الأنطاكي ـ دعته أُمّه : حيدرة ، ومعنى هذه الكلمة : الأسد ، فكأنّها أرادت أن تسمّيه باسم أبيها ، فلمّا وقع نظر أبيه أبي طالب عليه توسَّم بملامحه العَلاء ، ودعاه عليّاً . وقد صدقت الأيّام فراسته ، فكان عليه صلوات الله عليّاً في الدنيا والآخرة .
وعام مولد سيّدنا أمير المؤمنين ـ عليه صلوات الله ـ هو العام المبارك الذي بُدئ فيه برسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فأخذ يسمع الهُتاف من الأحجار والأشجار ومن السماء ، وكشف عن بصره فشاهد أنواراً وأشخاصاً . وفي هذا العام ابتدأ بالتبتّل والانقطاع والعزلة في جبل حِراء ، وكان رسول الله(صلى الله عليه وآله) يتيمن بذلك العام وبولادة سيّدنا عليّ ـ عليهما وعلى آلهما الصلاة والسلام ـ وكان يسمّيه : سنة الخير ، وسنة البركة . وقال المصطفى(صلى الله عليه وآله) لأهله عندما بلغته بشرى ولادة المرتضى : «لقد ولد لنا الليلة مولود ، يفتح الله علينا به أبواباً كثيرة من النعمة والرحمة» . وكان قوله هذا أوّل نبوءته ، فإنّ المرتضى ـ عليه صلوات الله ـ كان ناصره ، والحامي عنه ، وكاشف الغماء عن وجهه ، وبسيفه ثبت الإسلام ، ورسخت دعائمه وتمهّدت قواعده»75 . وقد ضمّن قصيدته كلّ ذلك وغيره من حياة الإمام(عليه السلام) .
* العلاّمة السيّد محمّد الطباطبائي في الرسالة الموضوعة لتأريخ مواليد أئمّة الدين(عليهم السلام) ووفياتهم : أنّه(عليه السلام) «ولد بمكّة في جوف الكعبة ، ولم يولد قبله ولا بعده أحد فيه سواه ، إكراماً له من الله جلّ اسمه بذلك . . .» .
* السيّد أبو جعفر الحسينيّ في شرح قصيدة أبي فراس الحمداني ، تعيين يوم ولادته بالجمعة . . . ومحلّها بالكعبة76 .
* قال الكفعميّ في (المصباح) : « . . . ولد عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) في الكعبة ، . . .»77 .
* شيخ الإسلام الزنوزيّ في (بحر العلوم) : «أنّ محلّ ولادته(عليه السلام) الكعبة» .
* النخجوانيّ في (تجارب السلف في تواريخ الخلفاء ووزرائهم) ، فرغ منه سنة 724 : «أنّ عليّاً(عليه السلام) ولد في الكعبة . . . وسمّاه النبيّ(صلى الله عليه وآله) عليّاً ، وكنّاه بأبي تراب»78 .
* قال الحلبيّ في سيرته (إنسان العيون) : «إنّه(عليه السلام) ولد في الكعبة . . .» .
ثمّ قال : «وقيل : الذي ولد في الكعبة حكيم بن حِزام ، قال بعضهم : لا مانع من ولادة كليهما في الكعبة ، لكن في (النور) حكيم بن حِزام ولد في الكعبة ، ولا يعرف ذلك لغيره ، وأمّا ما روي أنّ عليّاً (عليه السلام) ولد فيها ، فضعيف عند العلماء»79 .
وأنت تجد من سياق العبارة ـ وهذا القول للشيخ ـ أنّ المعتمد عند الرجل هو ولادة الإمام(عليه السلام) في الكعبة ، ولذلك ذكرها أوّلا مُرسِلا إيّاها إرسال المسلّم ، ثمّ عزا ولادة حكيم بن حزام فيها إلى القيل إيعازاً إلى وهنه ، ولذلك أردفه بجواب البعض عنه ، لكنّه وجد لصاحب (النور) كلمة لم يرقه الإغضاء عنها بما هو مؤرّخ ، أخذ على عاتقه إثبات المقول في كلّ باب ، وإذ لم يجد جواباً عنها لغيره لم يشفعها به ، واكتفى هو بما ذكرناه من اعتماده على حديث الولادة عن أن يردّ كلمة الرجل ، لأنّه مؤرّخ لا مُنِقّب .