لقد أوضح فقهاء المذاهب الإسلاميّة في رسائلهم العملية وكُتب المناسك ، الاستطاعة بما مؤدّاه : أن يكون للإنسان مالٌ يزيد على مؤونة عياله ، بحيث يكفيه للذهاب الى مكّة والإياب ، وأن تكون له ولعياله فضلّة عند رجوعه من الحجّ .
مع مثل هذه الشروط السهلة ، رأى الكثير من المسلمين أنفسهم قادرين على القيام بهذه الفريضة ، والإتيان بهذا الواجب ; ولهذا السبب بالذات ربّما يعود سبب كثافة المسلمين الذين يقصدون بيت الله الحرام ، حيث كانَ عددهم فيما مضى يبلغ مئات الآلاف سنوياً ، أمّا اليوم فهو يزيد على المليون ، يتوجهون من أرجاء الدنيا الى أحد مواقيت الحج .
ومن جهة ثانية قد تبدو أعمال الحجّ نفسها أيسر من شروط الاستطاعة ; إذ هي لا تعدو ـ في الظاهر ـ أن يحرم المسلم من أحد المواقيت ، ثم يقصد مكّة ، وحين يصلها يطوفُ بالبيت سَبعاً ، ثم يصلّي ركعتين خلف مقام إبراهيم (عليه السلام) ، فيمضي بعدهما نحو جَبَلَي «الصفا» و «المروة» ليسعى سبعة أشواط ، ويقصّ بعدها شيئاً من شعره ، أو من أظفاره ; ليخرج من إحرامه ، بعد أن يكون قد أنهى أعمال عمرة التمتع ، انتظاراً لأداء مناسك الحج .
وحين يقترب من نهاية العشرة الأولى من ذي الحجّة الحرام ، يُحرم من المسجد الحرام ، أو من مكّة ـ عموماً ـ في اليوم الثامن ، أو التاسع من شهر ذي الحجّة ; ويذهب الى عرفات ليقف فيها من الزوال حتى غروب الشمس من اليوم التاسع ، ثم يفيضُ ليلا نحو المشعر الحرام ; ليمكث فيه حتى طلوع الشمس من اليوم العاشر ، حيث يتحرك صبيحة اليوم العاشر نحو منى ; فيرمي جمرة العقبة سبع حصيات ، ثم ينحر ويحلق « أو يأخذ شيئاً من شعر رأسه بحسب الرأي الفقهي » ، فيتحرك نحو البيت الحرام ليطوف طواف الزيارة ، ويؤدي صلاة الطواف ، ثم يسعى بين الصفا والمروة ، ثم يطوف طواف النساء ، ويؤدي صلاته ، وبعد أن ينتهي من ذلك يعود الى منى ; ليبيت فيها ليلة الحادي عشر ، ويمضي نهارهُ فيها ، ثم يبيب ليلة الثاني عشر ويمكث حتى منتصف النهار ، على أن يرمي الجمرات الثلاث كلّ واحدة سبع حصيات ، فيُتم بذلك فريضة الحج المباركة .
الذي يبدو من هذا الاستعراض الوجيز أنّ شروط الاستطاعة تتسم بالكثير من اليسر والسهولة ; وأيسر منها وأسهل أداءً نفس مناسك الحج . بيد أنّا نسأل : إذا كانت الاستطاعة ، وأعمال الحجّ بهذا المستوى من البساطة واليسر ; فلماذا عُدّ الحجُّ كما في رواية ابن عباس نوعاً من الجهاد ؟6
في الجواب يجب علينا أن ننتبه الى أنَّ ما تتحدَّث عنه كُتب الفقه ، ومناسك الحجِّ ، يقتصر على بيان الأحكام الظاهرية للمكلّف ; مما يجب أن يقوم به من خلال الحركات والسكنات والألفاظ . أمّا حقيقة الحجِّ ، وأبعاده المتكاملة فهو ما يجدر بنا أن نتقصّاه في الكتب الأخلاقيّة ، وفي التعاليم العملية لأئمة أهل البيت(عليهم السلام) .
ونقطة البداية هي أنّ المكلّف قبل أن يتعلق به تكليف فريضة الحجّ ، هو مسلم ; وأنّ للمسلم في السُنّة تعريفاً محدّداً واضحاً .
أما لماذا توكيد السّنّة بالذات فيما تَرسمهُ من حدود واضحة للمسلم ؟
فذاك يعود الى أنَّ تعريف المسلم في كتاب الله ، وسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)وأخبار أهل البيت (عليهم السلام) يكشف عن علاقة تلازم بين الإجمال والتفصيل .
فالمسلم في كتاب الله يحمل صفة المسلم لجهة مشاركته في الحقوق السياسية ، والاجتماعية الثابتة لمجتمع المسلمين .
أما في السّنّة فهو عنوانٌ يحمِله لجهةِ ما يضطلع به من أهلية ، وجدارة للارتقاء الى مستوى هذه الصفة السامية ، بحيث يكون إنساناً مؤمناً ، تتسق شخصيته مع المواصفات التي يتحدّث بها الإمام الصادق (عليه السلام) للإنسان المسلم .
فمثل هذا المسلم إذا أراد أن يؤدي فريضة الحج ، فإنّ عليه أن يؤديها كما تتحدّث عنها ، وعن فلسفتها كُتبُ الأخلاق الإسلاميّة ، وهو حينئذ يُمارس عملا جهادياً ، يستلزم بذل الجهد وتقديم التضحية والفداء في كلّ لحظة وآن .
وحين يتمخَّض الحجُّ عن بذل وعطاء ، وعن ممارسة جهادية واعية ، يكون حجّاً واقعياً متطابقاً في معالمه مع ما ورد في سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وفي أخبار أهل البيت ، فعن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) : « إذا أردتَ الحجَّ فجرّد قلبك لله ـ عزّ وجلّ ـ من قَبل عزمك ، من كلّ شاغل وحجاب حاجب ، وفوّض أمورَك كُلَّها الى خالقك ، وتوكّل عليه في جميع ما يظهر من حركاتك وسكناتك ، وسلّم لقضائه وحكمه وقدره ، ودَعِ الدُنيا والراحة والخلق »7 .
وفي الموسوعة الحديثية (مستدرك الوسائل)8 حديثٌ على شكل سؤال وجواب بين الإمام علي بن الحسين السّجاد (عليه السلام) والشبلي ، تصب دلالاته في ضرورة احراز الشروط المعنوية للمناسك ، ورعايتها الى جوار أداء الظواهر .
وقد يكون هناك كلام حول شخصية الشلبي وفيما إذا كان الشخصية الصوفية المعروفة التي عاشت في الفترة بين 247 هـ.ق ـ 334 هـ.ق ، وبالتالي لا يمكن أن يكون هذا الشخص هو المعني ; لتقدّم وفاة الإمام السّجاد عليه ، أو أنَّ هناك شخصية أخرى عاشت في المدينة ، وعاصرت الإمام زين العابدين (عليه السلام)دون أن تحفل بها كتب التراجم والتأريخ ... ; قد يكون ثمة كلام في كلّ ذلك ، بيد أنَّ ما يعنينا من الخبر هو مضمونه ، الذي يؤكد حقيقة الحجّ من خلال رعاية شروطهِ المعنوية في مُوازاة الالتزام بظواهر المناسك .