ما هی الإستطاعة، ومن هو المستطیع؟

السید جعفر الشهیدی

نسخه متنی -صفحه : 5/ 5
نمايش فراداده

مرّةً أخرى : ما معنى الاستطاعة ؟

تحدّثنا في مطلع البحث عن الاستطاعة ، وذكرنا أنّ معاييرها في البحث الفقهي ترتكز على إحراز القدرة المالية والبدنية اللازمتين ، وضمن ما هو محدَّد في الكتب الفقهية . بيد أنَّ ما نحتاج الى تحصيله قبل ذلك هو استطاعة من نوع آخر لا تختصّ بزائري بيت الله ، وإنما يتوجب على كلّ مسلم أن يحرزها في شخصيته ووجوده .

هذه الاستطاعة التي نعنيها تتفرع الى :

1 ـ استطاعة علمية : ويمكن تلخيص مؤدّاها بالسؤال التالي : ماذا عليّ أن أعمل ؟

2 ـ استطاعة أخلاقية : ويمكن تلخيص محتواها بالقول : ما هو السبيل لتطبيق ما أعرفه ؟

إنَّ شريعةً ينطوي تُراثُها المعرفي في الأخلاق العملية على كُتب من قبيل : المحجة البيضاء ، وإحياء علوم الدين ، ومعراج السعادة ، وكيمياء السعادة ، والمقامات العلية ، وعشرات الكتب الأخلاقية الأخرى ; وإنَّ ديناً أوجب على المسلمين كافة طلب العلم ; حريٌّ أن يدفع كلّ مسلم إلى التوافر على الاستطاعة في بُعدَيْها العلمي والأخلاقي ، في فترة تسبق مرحلة البلوغ والتكليف الشرعي ، أو أن يُحرز على الأقل مقدمات تحصيلهما تدريجياً في فترة زمنية لا تطول كثيراً . بيدَ أنَّ الذي يبعث على الأسف هو أنَّ الكثير من المسلمين لم يهتم بهذين البعدين .

فالإنسان المسلم الاعتيادي يبلغ في العادة مرحلة الاستطاعة المالية حين يتجاوز أكثر من نصف عمره ، أي في عمر يتعدى في الأغلب الأربعين . وحينئذ يبدأ بالتفكير في تعلّم أحكام الحجّ ، ثم لا يقدم لذلك أكثر من ساعات معينة في أيام معدودة !

إننا نعرف جميعاً أنَّ التعلّم في هذه السنّ المتأخرة يتّسم بصعوبة كبيرة ، ومهما بذل السادة العلماء الذين يُرافقون قوافل الحجيج من جهد ، فانَّ المسألة تبقى أقرب إلى المستحيل خصوصاً إذا أضفنا الى ذلك ، أنَّ المهمة لا تقتصر على تعلّم مناسك الحجّ وحدها ، وإنّما يتبعها ـ أيضاً ـ تعلّم القراءة والأجزاء الأخرى في الصلاة الواجبة ، وكأنَّ الصلاة أصبحت ـ الآن ـ واجبةً على أمثال هؤلاء ، ولم تكن كذلك قبل إحراز الاستطاعة المالية للحج .

يجب أن نعي جيداً ; أنَّ التجربة العملية ، أثبتت صعوبة أن يتعلّم غيرِ العربي النطق بحروف العربية من مخارجها الصحيحة ، حين تتصلب بشكل نهائي أوتارُ حنجرته الصوتية في السنة الخامسة عشرة فما بعد ; لذلك تذهب هباءً جهود العلماء الأفاضل ، في أن يتعلّم هذا المسلم ـ غير العربي ـ الذي مرَّ من عمره سبعون عاماً ، على أداء معيّن للّغة ، أداء الحروف بشكلها العربي الصحيح ، بحيث ينطق ـ مثلا ـ « أنَّ الحمد والنعمة » بصورة سليمة لا تستبدل الحاء بالهاء ولا تستبدل الضاد في « ولا الضالين » بالزاء مثلا .

أما لو كانت مهمة تعلّم القراءة الصحيحة ، والأحكام الشرعية ، قد بدأت مع مرحلة البلوغ الشرعي ، وترافقت وإيّاها ، فمن المستبعد أن تظهر نظائر هذه المصاعب في المستقبل .

علينا أن نذعن أنَّ مدى اهتمامنا بأحكام وآداب ديننا الحنيف ، هو دليل يكشف بوضوح مقدار ارتباطنا بهذا الدين ، وصلتنا الحقيقية به . فما نراه من أعمال بعض الحجّاج وسلوكهم في مكّة والمدينة ، يكشف بوضوح ضآلة وعيهم الديني ، وسطحية ما يعرفونه من معارف دينهم ، وأحكامه وآدابه . وهذه الحالة بدورها دالة على عدم اعتناء المجتمع الإسلامي بالإسلام ، فيما ينطوي عليه نظامُه التشريعي من فقه وأحكام ، بالإضافة إلى الجهل بنظامه الأخلاقي .

إنّ ما يبعث على الأسف أكثر ، هو جهل الكثير من الحجاج بوضع البلد (الحجاز) وما تكتنف مجتمعه من تقاليد وآداب ، وما تسوده من معايير وضوابط. بالإضافة إلى الجهل بالمواقع التي يجب أن تزار ، والآداب الخاصة بهذه الأماكن .

أمّا أن يرتقي الوعي الى مستوى الإحاطة بالوضع الاقتصادي ، والموقع الجغرافي للحجاز ، والحرمين الشريفين ، مقارنة بالبلدان الإسلاميّة الأخرى ، فهذه لا تعدو أن تكون ـ بالنسبة لعامة الحجيج ـ سوى أمنية بعيدة المنال !

إنَّ ما يفضي اليه الجهل بالآداب السائدة في المجتمع الحجازي ; لا يقل في آثاره السلبية ، عن النتائج المترتبة على الجهل بأحكام الحجّ ومناسكه نفسها .

فلو افترضنا أن تاجراً أراد أن يبيع سلعاً لا يتجاوز ثمنها الكلّي قيمةَ ما يصرفه حاج واحد في الحجاز ، لقام أولا باستطلاع السوق ، والتعرف على حاجاته وأحاط بوضع السلعة وبسبيل انتاجها ، وكيفية استهلاكها وهكذا ! فلماذا لا يكون حال الحجّاج حال هذا التاجر ؟

إنَّ سلوك الحجاج في السنوات الأخيرة ، الذي ينبغي أن يعكس مستوى وعيهم الديني ، ودرجة معرفتهم بأحكام الإسلام ، ومدى التزامهم باخلاقياته ، كشف للأسف عن اهتمام مميَّز بالسلع والبضائع ، وبهذا افترق سلوكهم ـ الى حد كبير ـ عن منهج أئمتنا وسلوكهم ، وما يتوقعونه منّا خصوصاً في سفر الحجّ !

لقد دأبت الصحف على أن تنشر أحياناً بعض مصاديق السلوكيات الخاطئة للحجاج ، وتوجّه اللوم اليهم ، بيد أنّي شخصياً لا أميل الى لومِ هؤلاء الحجاج ، بقدر ما أميل الى تحميل نفسي وأمثالي مسؤوليّة التقصير عن تعليم هؤلاء .

وبعد ، فإنَّ الصورة تبدو واسعة متعدّدة الجوانب والأبعاد ، فبعض الحجّاج ذهب إلى الحجّ ، وعاد دون أن يدرك شيئاً ، بل إنَّ بعضهم يجهل ـ حقاً ـ الأماكن التي ذهب اليها ، وبعضهم لا يستطيع أن يشير لك على مواقع مكّة والمدينة على الخريطة الجغرافية ، فضلا عن أن يحيط بأوضاع هاتين المدينتين قبل الإسلام ، وما أصابهما من تغيرات بظهور الإسلام .

إن مقتضى كون الحجّ ركناً من أركان الإسلام ، هو أن نبني ممارستنا للفريضة على قواعد رؤية ثابتة مستقرة .. وكونه عبادة ، علينا في ممارستها أن نحذر الوقوع في المحظور ، فمع المحظور يصعب التكليف . وما نلاحظه في واقع الممارسة العملية هو أنّه لا تكاد تخلو سنة من السنين من ظهور صعوبات أمام الحجاج ، وقد تتجاوز المسألة حدود الصعوبات الى ما هو أفدح من ذلك ، كما حصل بالنسبة لبعض الفجائع المرعبة التي عاصرناها !