أعلام الهدایة

السید منذر حکیم

نسخه متنی -صفحه : 31/ 18
نمايش فراداده

6 ـ استنكار الموقف المتخاذل :

وهكذا وقف أهل الكوفة هذا الموقف المتخاذل من قائدهم وإمامهم ، إذ سكتوا حيث طلب منهم الإجابة على ندائه بالخروج إلى معسكرهم في النخيلة، فتحوّلت أعينهم وهلعت قلوبهم ، فلمّا رأى ذلك عدي بن حاتم الطائي قام فقال :

« أنا ابن حاتم ، سبحان الله ! ما أقبح هذا المقام! ألا تجيبون إمامكم وابن بنت نبيّكم؟ أين خطباء المصر الذين ألسنتهم كالمخاريق في الدعة، فإذا جَدّ الجدّ فروّاغون كالثعالب؟ أما تخافون مقت الله ، ولا عيبها وعارها ».

ثم استقبل الإمام الحسن بوجهه ، فقال :

« أصاب الله بك المراشد وجنّبك المكاره ووفّقك لما تحمد ورده وصدره، قد سمعنا مقالتك وانتهينا إلى أمرك وسمعنا لك وأطعنا فيما قلت ورأيت وهذا وجهي إلى معسكري ، فمن أحبّ أن يوافيني فليواف » ثمّ مضى لوجهه ، فخرج من المسجد ودابته بالباب فركبها ومضى إلى النخيلة وأمر غلامه أن يلحقه بما يصلحه ، وكان عدي بن حاتم أول الناس عسكراً[1].

وقام قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري ومعقل بن قيس الرياحي وزياد ابن صعصعة التيمي فأنّبوا الناس ولاموهم وحرّضوهم وكلّموا الإمام الحسن بمثل كلام عدي بن حاتم في الإجابة والقبول ، فقال لهم الإمام الحسن (عليه السلام) : « صدقتم رحمكم الله ما زلت أعرفكم بصدق النيّة والوفاء والقبول والمودّة الصحيحة فجزاكم الله خيراً »[2] ، ثم نزل وخرج الناس فعسكروا ونشطوا للخروج ، وخرج الإمام الحسن (عليه السلام) إلى المعسكر واستخلف على الكوفة المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وأمره باستحثاث الناس وإشخاصهم اليه ، فجعل يستحثّهم ويخرجهم حتى يلتئم العسكر وسار الإمام (عليه السلام) في عسكر عظيم وعدّة حسنة حتى انتهى إلى النخيلة .

وهكذا بدأت المسيرة ، ولكن دون أن يكون دافع الحركة اختيارياً بتثاقل وإكراه تفرضه طبيعة الموقف المتخاذل ، ولولا الصفوة الخيّرة والثلّة المؤمنة; لانقلب ميزان الموقف وانتصرت عوامل الضعف عاجلاً ، ولكن موقف هؤلاء المتصلّب المنطلق من إيمانهم الجاد بحكمة القائد ولزوم اتباعه وأحقّيته بالخلافة ، كان من أقوى الأسباب التي حفظت للجيش تماسكه وانقياده وبعث النشاط والحماس فيه .

7 ـ الاتجاهات المتضادة في جيش الإمام (عليه السلام) :

كان جيش الإمام (عليه السلام) يتكوّن من خليط غريب ، فقد تجمّعت فيه عدّة اتجاهات مختلفة وعناصر متضادة ، ويمكن بالنظرة الاُولى تصنيفه إلى فئات :

أ ـ الخوارج : وهم الذين خرجوا عن طاعة الإمام عليّ (عليه السلام) وحاربوه وناوؤه ونصبوا له العداوة ، فكانوا قد وجدوا من الإمام الحسن (عليه السلام) حلاًّ وسطاً ، فانضموا اليه لمحاربة معاوية ، وهؤلاء اُناس تستثيرهم أدنى شبهة عارضة فيتعجّلون الحكم عليها ، وسنرى أنّهم كيف وثبوا على الإمام الحسن (عليه السلام) فيما بعد .

ب ـ الفئة الممالئة للحكم الاُموي ، وهي على قسمين :

1 ـ وهم الذين لم يجدوا في حكومة الكوفة ما يشبع نهمهم ويروي من ظمئهم فيما يحلمون به من مطامع يطمحون اليها ، فأضمروا ولاءهم للشام مترقّبين سنوح الفرصة للوثوب على الحكم وتسليم الأمر لمعاوية .

2 ـ وهم الذين حقدوا على حكومة الكوفة لضغائن في نفوسهم أورثتها العهود السالفة أو حسابات شخصية .

وسنرى فيما بعد خيانة هؤلاء وكتابتهم لمعاوية تزلّفاً وطمعاً في الحظوة عنده .

ج ـ الفئة المتأرجحة ، التي ليس لها مسلك معيّن أو جهة خاصة مستقلّة ، وإنّما هدفها ضمان السلامة وبعض المطامع عند الجهة التي ينعقد لها النصر ، فهي تترقّب عن كثب إلى أيّ جهة تنقلب الاُمور ليميلوا معها .

د ـ الفئة التي تثيرها بعض العصبيات القبلية أو الإقليمية .

هـ ـ الغوغاء ، وهي الفئة التي لا تستند في موقفها إلى أساس متين .

و ـ الفئة المؤمنة المخلصة ، وهي القلّة الخيّرة التي يذوب صوتها في زحام الأصوات الاُخرى المعاكسة لها والمتناحرة فيما بينها .

فجيش الإمام (عليه السلام) خليط لا يربط بين فئاته هدف واحد ، وهو معرض للانقسام والتفكّك لدى أيّ بادرة للانقسام من شأنها أن تفسد أيّ خطة مهما كانت حنكة القائد الذي وضع تلك الخطة ، وقد شعر الإمام (عليه السلام) بخطورة هذا الموقف بين هذا الخليط الذي يحمل عوامل الانقسام على نفسه .

وذكر السيد ابن طاووس ـ رضوان الله تعالى عليه ـ في « الملاحم والفتن» كلاماً يؤثر عنه (عليه السلام) يعبّر عن ضعف ثقته بجيشه ، وكان من أبلغ ما أفضى به في هذا الصدد ، وذلك في خطابه الذي خاطب به جيشه في المدائن قائلاً :

« .. وكنتم في مسيركم إلى صفّين ، ودينكم أمام دنياكم ، وأصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم ، وأنتم بين قتيلين: قتيل بصفّين تبكون عليه ، وقتيل بالنهروان تطلبون منّا بثأره ، وأمّا الباقي فخاذل ، وأمّا الباكي فثائر »[3] .

وكان معاوية قد عرف نقاط الضعف التي ابتلي بها جيش الإمام (عليه السلام) ، فرسم للموقف خطة حاسمة ابتكرتها له الظروف الموضوعية من شأنها أن تحسم الأمر بينه وبين الإمام ، وذلك بدعوته للصلح والتظاهر بإعطائه الشروط التي يريد ، فإن يقبل بذلك فإنّ أَحبولته التي حاكها حول قادة الإمام ورؤساء جيشه كافية لأن تمنع الالتحام بين المعسكرين ، وتدفع بالإمام الحسن (عليه السلام) إلى الرضا بالأمر الواقع .

8 ـ طلائع جيش الإمام الحسن (عليه السلام) :

انتهى الإمام الحسن (عليه السلام) بجيشه إلى النخيلة ، فأقام فيها ونظّم الجيش ، ثمّ ارتحل عنها وسار حتى انتهى إلى « دير عبد الرحمن » فأقام به ثلاثة أيام ليلتحق به المتخلّفون من جنده ، وأرسل مقدمة جيشه للاستطلاع على حال العدو وإيقافه في محلّه ، واختار إلى مقدّمته خلّص أصحابه وخيرة عناصر جيشه ، وكان عددهم اثني عشر ألفاً ، وأعطى القيادة العامة إلى ابن عمّه عبيد الله بن العباس ، وقد زوّده قبل تحرّكه بهذه الوصية القيّمة وهي :

« يابن العمّ! إنّي باعث معك اثني عشر ألفاً من فرسان العرب وقرّاء المصر ، الرجل منهم يزيد الكتيبة ، فسر بهم ، وألِن لَهُم جانبك ، وابسط لهم وجهك ، وافرش لهم جناحك ، وأدنهم من مجلسك ، فإنّهم بقية ثقات أمير المؤمنين ، وسر بهم على شطّ الفرات ، ثمّ امضِ حتى تستقبل بهم معاوية ، فإن أنت لقيته فاحتبسه حتى آتيك ، فإنّي على أثرك وشيكاً ، وليكن خبرك عندي كلّ يوم ، وشاور هذين ـ قيس بن سعد وسعيد بن قيس ـ إذا لقيت معاوية فلا تقاتله حتى يقاتلك فإن فعل فقاتله ، وإن اُصبت فقيس بن سعد على الناس ، فإن أُصيب فسعيد بن قيس على الناس »[4] .

9 ـ خيانة قائد الجيش :

وصل عبيد الله بن العباس إلى « مسكن »[5] فعسكر فيها ، وقابل العدوّ وجهاً لوجه ، وعندها بدأت تظهر بوادر الفتنة بوضوح ، وانطلقت دسائس معاوية تشقّ طريقها إلى المعسكر حيث تجد المجال الخصب بوجود المنافقين ومن يؤثرون العافية ، وكانت الشائعة الكاذبة « أنّ الحسن يكاتب معاوية على الصلح فلِمَ تقتلون أنفسكم ؟ »[6] .

وارتبك الموقف أمام قائد الجيش وسرت همهمة في الجيش عن صدق الشائعة أو كذبها ، فبين مصدّق لها وبين مكذّب ، وبين من يحاول إثباتها على أيّ حال ، ولم يحاول القائد عبيد الله أن يتأكّد من كذب هذه الشائعة وبُعدها عن الواقع ، لأنّ الإمام الحسن (عليه السلام) كان مشغولاً في تلك الأثناء ببعث الرسل إلى الأطراف وتهيئة الكتائب اللاحقة بالطلائع ومكاتبة معاوية بالحرب وبعث الحماس بخطبه اللاهبة المحرضة على القتال ، ولم يكتب في صلح ولم يكن من رأيه آنذاك أبداً .

فَسَرَتْ الحيرة في نفس قائد الجيش ممّا دفعه للانطواء ، فأخذ يفكّر في مصيره ، وكان قد بلغه تخاذل الكوفيين عن التحرّك نحو المعركة وتباطؤهم عن تلبية نداء الجهاد ، فبدت في نفسه بعض التصورات من أنّه في موقف لا يغبط عليه ، وأنّ هذه الطلائع من جيش الكوفة والتي تقف في مواجهة جيش الشام المكتظ لا يمكن أن تقاوم تلك الجموع الحاشدة أو تلتحم معها في معركة مع فقدان توازن القوى بينها .

وبينا هو يعيش هذه الحيرة وتلك الأوهام وصلته رسائل معاوية وهي تحمل في طيّاتها عوامل الإغراء التي تمسّ الوتر الحسّاس في نفس ابن عباس من حبّه للتعاظم وتطلّعه للسبق ، وكان معاوية قد خبر نقاط الضعف التي يحملها عبيد الله هذا .

وكانت رسالة معاوية تحمل : « أنّ الحسن قد راسلني في الصلح ، وهو مسلِّم الأمر إليّ ، فإن دخلت في طاعتي كنت متبوعاً ، وإلاّ دخلت وأنت تابع » وجعل له فيها ألف ألف درهم[7] .

وكان أسلوب معاوية في حربه مع أعدائه هو استغلال نقاط الضعف في خصومه ، واستغلال كلّ ما من شأنه أن يوهن العزيمة ويشلّ القوى فيهم .

وهكذا انكفأ عبيد الله بن عباس على نفسه واستجاب لداعي الخيانة ، ملتمساً لعدوّه الذي وتره بابنيه ، مخلّفاً وراءه لعنة التاريخ ، وقد شاء لنفسه أن ينحدر إلى هذا المستوى الساقط فيدخل حمى معاوية ليلاً دخول المهزوم المخذول ، الذي يأباه كلّ حرٍّ ينبض عنده الضمير .

وينبلج الصبح عن افتقاد المعسكر قائده ، فترقص قلوب المنافقين والمسالمين ، وتدمى عيون المخلصين ، هذا والحسن (عليه السلام) لا يزال في موقفه الصلب بضرورة مقاتلة معاوية .

ويكاد الأمر ينتقض على الإمام (عليه السلام) في مسكن ، ولكنّ القائد الشرعي ـ وهو الرجل المؤمن الصامد قيس بن سعد بن عبادة الذي جعله الإمام (عليه السلام) خلفاً لعبيد الله بن العباس إذا غاب عن القيادة ـ حاول جاداً في أن يحافظ على البقية الباقية من معنويات الجيش المنهارة بانهزام القائد وإقرار التماسك بين فرقِهِ وأفراده ، فقام فيهم خطيباً وقال :

« أيّها الناس! لا يهولنّكم ولا يعظمنّ عليكم ما صنع هذا الرجل المولَّه ، إنّ هذا وأباه وأخاه لم يأتوا بيوم خير قطّ ، إنّ أباه عمّ رسول الله خرج يقاتله ببدر ، فأسره أبو اليسر كعب بن عمرو الأنصاري ، فأتى به رسول الله فأخذ فداءه فقسّمه بين المسلمين ، وإنّ أخاه ولاّه على البصرة فسرق ماله ومال المسلمين ، فاشترى به الجواري وزعم أنّ ذلك له حلال ، وإنّ هذا ولاّه على اليمن فهرب من بسر بن أرطاة ، وترك ولده حتى قتلوا ، وصنع الآن هذا الذي صنع »[8] .

وهكذا اندفع قيس الصامد في موقفه ، المؤمن بهدفه ، يودّع سلفه بهذه الكلمات الساخرة اللاذعة التي تكشف عن الماضي الهزيل له ، وعن نفسيته الساقطة التي دفعته للتردّي في هذا المنحدر السحيق .

وقد فعل قيس في نفوس سامعيه ما أراد ، فانطلقت الحناجر بحماس وتوثّب تنادي : « الحمد لله الذي أخرجه من بيننا »[9] فصنع قيس حالة من الشدّ والعزيمة في ذلك الموقف الذي كان للانهيار المؤلم الوشيك عرضة ، وعاد النظام يسيطر على عناصر الجيش ، واطمأنّ الناس لقائدهم الجديد .

[1] أعيان الشيعة : 4 / 19 ـ 20 .

[2] المصدر السابق .

[3] صلح الإمام الحسن : 70 .

[4] حياة الإمام الحسن : 2 / 76 .

[5] موضع قريب من « أوانا » على نهر الدجيل ، وبها كانت الواقعة بين عبد الملك بن مروان ومصعب بن الزبير سنة / 72 هـ .

[6] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 16 / 42 .

[7] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 16 / 42 .

[8] مقاتل الطالبيين : 35 .

[9] مقاتل الطالبيين : 35 .