حشوها ليف».
[روضة الواعظين، ص 146.]
و عن الباقر: «كان فراش عليّ و فاطمة حين دخلت عليه إهاب كبش إذا أراداً أن يناما عليه قلباه فناما على صوفه. قال: و كانت و سادتهما أدماً حشوها ليف...».
[بحارالأنوار، ج 43، ص 104 و 117 و 143 و 144.]
و كانت تلبس أبسط الثياب و أخلقها بل و أخشنها؛ تأسّياً بالنبيّ الكريم صلى اللَّه عليه و آله كما عن جابر الأنصاري أنّه رأى النبيّ فاطمة و عليها كساء من أجلة الإبل و هي تطحن بيديها و ترضع ولدها، فدمعت عينا رسول الله صلى اللَّه عليه و آله فقال: «يا بنتاه تعجّلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة...».
[بحارالأنوار، ج 43، ص 85.]
و لما نزلت هذه الآية (و إنّ جَهَنّمَ لموعدهم أجمعين...) الآية، بكى النبيّ بكاءاً شديداً، و بكت صحابته لبكائه، و لم يدروا ما نزل به جبرئيل، و لم يستطع أحد من صحابته أن يكلّمه، و كان النبيّ صلى اللَّه عليه و آله إذا رأى فاطمة عليهاالسلام فرح بها فانطلق بعض أصحابه إلى باب بيتها، فوجد بين يديها شعيراً و هي تطحن فيه و تقول: «و ما عندالله خير و أبقى، فسلّم عليها و أخبرها بخبر النبي صلى اللَّه عليه و آله و بكائه، فنهضت و التفّت بشملة لها خلقة قد خيطت في اثني عشر مكاناً بسعف النخل، فلمّا خرجت نظر سلمان الفارسي إلى الشملة و بكى و قال: و احزناه إنّ بنات قيصر و كسرى لفي السندس و الحرير و ابنة محمد صلى اللَّه عليه و آله عليها شملة صوف خلقة قد خيطت في اثني عشر مكاناً.
فلما دخلت فاطمة على النبيّ قالت: «يا رسول الله أنّ سلمان تعجب من لباسي، فوالذي بعثك بالحقّ ما لي و لعليّ منذ خمس سنين إلّا مَسك كبش نعلف عليها بالنهار بعيرنا، فإذا كان الليل افترشناه، و إنّ مرفقتنا لمن أدم حشوها ليف فقال النبيّ: يا سلمان إنّ ابنتي لفي الخيل السوابق. ثمّ قالت يا أبت فديتك ما الذي أبكاك؟! فذكر لها ما نزل به جبرئيل من الآيتين المتقدّمتين...».
[نفس المصدر، ص 88.]
و من دلائل زهدها صلوات الله عليها أنّها أهدت قلادتها التي أهدتها لها فاطمة بنت عمّها حمزة بن عبدالمطلب إلى أعرابي جائع أرسله النبيّ إلى باب بيتها، و لمّا لم يكن عندها في البيت شي ء أعطته القلادة.
روى الطبري بسنده عن جابر بن عبدالله قال: صلّى بنا رسول الله صلى اللَّه عليه و آله صلاة العصر، فلمّا انفتل جلس في قبلته و الناس حوله فبينا هم كذلك إذ أقبل إليه شيخ من مهاجرة العرب عليه سمل قد تهلّل و أخلق، و هو لا يكاد يتمالك كبراً و ضعفاً، فأقبل عليه رسول الله صلى اللَّه عليه و آله يستحثّه الخبر فقال الشيخ: يا نبيّ الله أنا جائع الكبد فأطعمني و عاري الجسد فاكسنى و فقير فأرشدني، فقال: «ما أجد لك شيئاً، و لكن الدالّ على الخير كفاعله انطلق إلى منزل من يحبّ الله و رسوله و يحبّه الله و رسوله يؤثر على نفسه، انطلق إلى حجرة فاطمة»، و كان بيتها ملاصَق بيت رسول الله صلى اللَّه عليه و آله الذي ينفرد به لنفسه من أزواجه و قال: «يا بلال قم فقف به على منزل فاطمة»، فانطلق الأعرابي مع بلال فلما وقف على باب فاطمة نادى بأعلى صوته: السلام عليكم يا أهل بيت النبوّة و مختلف الملائكة و مهبط جبرئيل الروح الأمين بالتنزيل من عند ربّ العالمين، فقالت فاطمة عليهاالسلام: «و عليك السلام فمن أنت يا هذا»؟
قال: شيخ من العرب أقبلت على أبيك سيّد البشر مهاجراً من شقة، و أنا يا بنت محمد عاري الجسد جائع الكبد، فواسيني يرحمك الله، و كان لفاطمة و عليّ في تلك الحال و رسول الله صلى اللَّه عليه و آله ثلاثاً ما طعموا فيها طعاماً و قد علم رسول الله صلى اللَّه عليه و آله ذلك من شأنهما، فعمدت فاطمة إلى جلد كبش مدبوغ بالقرظ كان ينام عليه الحسن و الحسين، فقالت: «خذ أيّها الطارق فعسى الله أن يرتاح لك ما هو خير منه». قال الأعرابي: يا بنت محمد شكوت إليك الجوع فناولتيني جلد كبش، ما أنا صانع به مع ما أجد من السغب؟ قال: فعمدت لمّا سمعت هذا من قوله إلى عقد كان في عنقها أهدته لها فاطمة بنت عمّها حمزة بن عبدالمطّلب من عنقها و نبذته إلى الأعرابي، فقالت: «خذه و بعه فعسى الله أن يعوّضك به ما هو خير منه»، فأخذ الأعرابي العقد وانطلق إلى مسجد رسول الله صلى اللَّه عليه و آله و النبيّ
جالس في أصحابه، فقال: يا رسول الله أعطتني فاطمة بنت محمد هذا العقد فقالت: بعه فعسى الله أن يصنع لك.
قال: فبكى النبيّ صلى اللَّه عليه و آله و قال: «و كيف لا ينصع الله لك و قد أعطتكه فاطمة بنت محمد سيّدة نبات آدم»، فقام عمّار بن ياسر رحمة الله عليه فقال: يا رسول الله أتأذن لي بشراء هذا العقد؟
قال: «اشتره يا عمّار، فلو اشترك فيه الثقلان ما عذّبهم الله بالنار»، فقال عمّار: بِكَم العُقد يا أعرابيّ. قال: بشبعة من الخبز و اللحم و بردة يمانية أستر بها عورتي و أُصلّي فيها لربّي و دينار يبلغني إلى أهلي، و كان عمّار قد باع سهمه الذي نفله رسول الله من خيبر و لم يبق منه شي ء فقال: لك عشرون ديناراً و مائتا درهم هجرية و بردة يمانية و راحلتي تبلغك أهلك و شبعتك من خبر البرّ و اللحم.
فقال الأعرابي: ما أسخاك بالمال أيّها الرجل، وانطلق به عمّار فوفّاه ما ضمن له و عاد الأعرابي إلى رسول الله صلى اللَّه عليه و آله فقال له صلى اللَّه عليه و آله: «أشبعت واكتسيت»؟ قال الأعرابي: نعم، و استغنيت بأبي أنت و أمّي. قال: «فاجز فاطمة بصنيعها»، فقال الأعرابي: اللهم إنّك إله ما استحدثناك، و لا إله لنا نعبده سواك، و أنت رازقنا على كلّ الجهات، اللهمّ أعط فاطمة ما لا عين رأت و لا أذن سمعت، فأمّن النبيّ صلى اللَّه عليه و آله عليّ دعائه و أقبل أصحابه فقال: «إنّ الله قد أعطى فاطمة في الدنيا ذلك، أنا أبوها و ما أحد من العالمين مثلي، و عليّ بعلها و لولا عليّ ما كان لفاطمة كفؤ أبداً، و أعطاها الحسن و الحسين و ما للعالمين مثلهما، سيّدا شباب أسباط الأنبياء و سيّدا شباب أهل الجنّة»، و كان بإزائه مقداد و عمار و سلمان فقال: «و أزيدكم»؟ قالوا: نعم يا رسول الله. قال: «أتاني الروح يعني جبرئيل إنها إذا هي قبضت و دفنت يسألها المكان في قبرها مَن ربّك؟ فتقول الله ربّي فيقولان: فمن نبيّك؟ فتقول: أبي فيقولان: فمن وليّك؟ فتقول: هذا القائم على شفير قبري عليّ بن أبي طالب.
ألا أزيدكم من فضلها؟ إنّ الله قد وكّل بها رعيلاً من الملائكة يحفظونها من بين يديها و من خلفها و عن يمينها و عن شمالها، و هم معها في حياتها و عند قبرها و عند موتها، يكثرون الصلاة عليها و على أبيها و بعلها و بنيها، فمن زارنى بعد وفاتى فكأنما زارني في
حياتي، و من زار فاطمة فكأنّما زارني، و من زار علي بن أبي طالب، فكأنّما زار فاطمة، و من زار الحسن و الحسين فكأنّما زار علياً، و من زار ذريّتهما فكأنما زارهما».
فعمد عمار إلى العقد فطيّبه بالمسك و لفّه في بردة يمانية، و كان له عبد اسمه سهم ابتاعه من ذلك السهم الذي أصابه بخيبر، فدفع العقد إلى المملوك و قال له: خذ هذا العقد فادفعه إلى رسول الله صلى اللَّه عليه و آله و أنت له، فأخذ المملوك العقد فأتى به رسول الله و أخبره بقول عمّار، فقال النبيّ: «انطلق إلى فاطمة فادفع إليها العقد و أنت لها»، فجاء المملوك بالعقد و أخبرها بقول رسول الله، فأخذت فاطمة العقد و أعتقت المملوك، فضحك الغلام فقالت: «مايضحكك يا غلام»؟ فقال: أضحكني عظم بركة هذا العقد، أشبع جائعاً و كسى عرياناً و أغنى فقيراً و أعتق عبداً و رجع إلى ربّه.
[بشارة المصطفى، ص 137؛ بحارالأنوار، ج 43، ص 56.]
لقد مدح الله جلّت عظمته الصدّيقة الكبرى صلوات الله عليلها بأعلى الصفات و المثل الإنسانية و هو الإيثار، رغم شدّة الاحتياج إلى ذلك الطعام. فكانت تؤثر الضيف و السائل على نفسها، و تنام أحياناً هي و زوجها و أولادها جياعاً بلا طعام و عشاء، بل تؤثر زوجها على نفسها.
و قد سجّل المؤرّخون هذه المنقبة العالية بصور مختلفة بحيث يفهم ممّا نقلوه تكرار هذا العمل منها.
و عن أبي هريرة أنّه جاء رجل إلى رسول الله صلى اللَّه عليه و آله فشكى إليه الجوع، فبعث رسول الله إلى أزواجه فقلن: ما عندنا إلّا الماء فقال صلى اللَّه عليه و آله: «من لهذا الرجل الليلة؟ فقال أميرالمؤمنين عليه السلام: أنا يا رسول الله: و أتى فاطمة و سألها: ما عندك يا بنت رسول الله؟
فقالت: ما عندنا إلّا قوت الصبية لكنّا نؤثر به ضيفنا، فقال عليّ: يا بنت محمد نوّمي الصبية و أطفئي المصباح، و جعلا يمضغان بألسنتهما، و لما فرغ من الأكل أتت فاطمة بسراج فوجدت الجفنة مملوءة من فضل الله، فلمّا أصبح صلّى مع النبيّ فلمّا سلم النبيّ
من صلاته نظر إلى أميرالمؤمنين و بكى بكاءاً شديداً و قال:
يا أميرالمؤمنينن لقد عجب الربّ من فعلكم البارحة اقرأ: (و يؤثرون على أنفسهم و لو كان بهم خصاصة) أي مجاعة (و من يُوقَ شحّ نفسه) يعنى علياً و فاطمة و الحسن الحسين (فاولئك هم المفلحون)».
[مناقب آل أبي طالب، ج 2، ص 74.]
و رواه الطوسي في أماليه إلّا أنه روى: فلّما أصبح عليّ عليه السلام غدا على رسول الله فأخبره الخبر، فلم يبرح حتّى أنزل الله عزّ و جلّ (و يؤثرون...) «الآية».
[أمالي الطوسي، ص 185.]
و روى الراوندي عن جابر بن عبدالله قال: إنّ رسول الله صلى اللَّه عليه و آله أقام أياماً و لم يطعم طعاماً حتّى شقّ ذلك عليه، فطاف في ديار أزواجه فلم يصب عند إحداهن شيئاً، فأتى فاطمة فقال: «يا بنيّة هل عندك شي ء آكله فإنّي جائع؟ قالت: لا والله بنفسي و أخي، فلمّا خرج عنها بعثت جارية لها رغيفين و بضعة لحم، فأخذته و وضعته تحت جفنة و غطّت عليها و قالت: والله لأؤثرنّ بها رسول الله صلى اللَّه عليه و آله على نفسي و غيري، و كانوا محتاجين إلى شبعة طعام، فبعث حسناً أو حسيناً إلى رسول الله صلى اللَّه عليه و آله فرجع إليها فقالت: قد أتانا الله بشي ء فخبّأته لك فقال: هلمّي عليّ يا بنيّة، فكشفت الجفنة فإذا هي مملوءة خبزاً و لحماً، فلمّا نظرت إليه بهتت و عرفت أنّه من عندالله، فحمدت الله وصلّت على نبيّه أبيها، و قدّمته إليه فلمّا رآه حمد الله و قال: من أين لك هذا؟ قالت: هو من عندالله، إنّ الله يرزق من يشاء بغير حساب، فبعث رسول الله صلى اللَّه عليه و آله إلى عليّ فدعاه و أحضره و أكل رسول الله صلى اللَّه عليه و آله و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين و جميع أزواج النبيّ حتّى شبعوا، قالت فاطمة: و بقيت الجفنة كما هي فأوسعت منها على جميع جيراني، جعل الله بركة فيها و خيراً كثيراً».
[الخرائج و الجرائح، ج 2، ص 528؛ بحارالأنوار، ج 43، ص 27.]
(أبي هريرة) و عنه أيضاً أنّ علياً أصبح ساغباً، فسأل فاطمة طعاماً فقالت: «ما كانت إلّا ما أطعمتك منذ يومين آثرت به على نفسي و على الحسن و الحسين فقال: ألا أعلمتني فآتيكم بشي ء؟ فقالت: يا أباالحسن إنّي لا ستحيي من إلهي أن أكلّفك ما لا تقدر عليه، فخرج و استقرض من النبيّ ديناراً، فخرج يشتري به شيئاً فاستقبله المقداد قائلاً:
ماشاءالله، فناوله عليّ الدينار ثمّ دخل المسجد، فوضع رأسه فنام فخرج النبيّ فإذا هو به فحرّكه و قال: ما صنعت؟ فأخبره فقام و صلّى معه، فما قضى النبيّ صلاته قال: يا أباالحسن هل عندك شي ء نفطر عليه فنميل معك؟ فأطرق لا يجيب جواباً حياءً منه، و كان الله أوحى إليه أن يتعشّى تلك الليلة عند عليّ، فانطلقا حتّى دخلا على فاطمة و هي في مصلّاها و خلفها جفنة تفور دخاناً، فأخرجت فاطمة الجفنة فوضعتها بين أيديهما، فسأل عليّ عليه السلام أنّى لك هذا؟ قالت : هو من فضل الله و رزقه، إنّ الله يرزق من يشاء بغير حساب، قال: فوضع النبيّ كفّه المبارك بين كتفي عليّ ثمّ قال: يا عليّ هذا بدل دينارك، ثمّ استعبر النبيّ باكياً و قال: الحمد الله الذي لم يمتني حتّى رأيت في ابنتي ما رأى زكريا لمريم».
[مناقب آل أبي طالب، ج 2، ص 77.]
و عن ابن عبّاس قال في قوله تعالى: (يوفون بالنذر...) الآية، قال: مرض الحسن و الحسين عليهماالسلام فعادهما رسول الله صلى اللَّه عليه و آله و معه أبوبكر و عمر و عادهما عامّة العرب، فقالوا: يا أباالحسن لو نذرت على ولديك نذراً، فكلّ نذر لا يكون له وفاء فليس بشي ء، فقال عليّ عليه السلام: «للّه إن برأ ولداي ممّا بهما صمت لله ثلاثة أيّام شكراً، و قالت فاطمة كذلك و قالت الجارية يقال لها: فضة كذلك.
فألبس الغلامان العافية و ليس عند آل محمد قليل و لا كثير، فانطلق عليّ عليه السلام إلى شمعون بن حانا اليهودي فاستقرض منه ثلاثة أصواع من شعير، فجاء به إلى فاطمة فقامت إلى صاع فطحنته و خبزته خمسة أقراص لكلّ واحد منهم قرص، و صلّى عليّ عليه السلام المغرب مع النبيّ صلى اللَّه عليه و آله ثمّ أتى المنزل فوضع الطعام بين أيديهم، فجاء سائل مسكين فوقف على الباب و قال: السلام عليكم يا أهل بيت محمد، مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني أطعكم الله من موائد الجنّة، فسمعه عليّ عليه السلام فقال:
فاطم ذات المجد و اليقين | يا بنت خير الناس أجمعين |
أما ترين البائس المسكين | قد قام بالباب له حنين |
يشكو إلى الله و يستكين | يكشو إلينا جائع حزين |
كلّ امرئ بكسبه رهين | و فاعل الخيرات يستبين |
موعده جنّة علّيين | حرّمها الله على الضنين |
و للبخيل موقف مهين | تهوى به النار إلى سجين |
شرابه الحميم و الغسلين |
فقالت فاطمة عليهاالسلام:
أطعمه و لا أبالي الساعة | أرجو إذا أشبعت ذا مجاعة |
أن ألْحق الأخيار و الجماعة | و أسكن الخلد ولي شفاعة |
قال: فأعطوه الطعام و مكثوا يومهم و ليلتهم لم يذوقوا إلّا الماء القراح، و لمّا كان اليوم الثاني طحنت فاطمة من الشعير و صنعت منه خمسة أقراص، و صلّى عليّ عليه السلام المغرب و جاء إلى المنزل، فجاء يتيم فوقف على الباب فقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمد، يتيم من أولاد المهاجرين استشهد والدي أطعمونى ممّا رزقكم الله، أطعمكم الله من موائد الجنّة فقال علّى:
فاطم بنت السيّد الكريم | بنت نبيّ ليس بالذميم |
قد جاءنا الله بذا اليتيم | قد حرم الخلد على اللئيم |
يحمل في الحشر إلى الجحيم | شرابه الصديد و الحميم |
و مَن يجود اليوم في النعيم | شرابه الرحيق و التسنيم |
فقالت فاطمة:
إنّى أطعمه و لا أُبالي | و أؤثر الله على عيالي |
أمسوا جياعاً و هم أشبالي |
فرفعوا الطعام و ناولوه إياه، ثمّ أصبحوا و أمسوا في اليوم الثاني كذلك كما كانوا في الأوّل، فلمّا كان في اليوم الثالث طحنت فاطمة باقي الشعير و وضعته، فجاء عليّ بعد المغرب فجاء أسير فوقف على الباب و قال: السلام عليكم يا أهل بيت محمد أسير محتاج، تأسرونا و لا تطعمونا، أطعمونا من فضل ما رزقكم الله، فسمعه علي عليه السلام فقال:
فاطمة يا بنت النبيّ أحمد | بنت النبيّ سيّد مسوّد |
مُنّي على أسيرنا المقيّد | مَن يطعم اليوم يجده في الغد |
عند العليّ الماجد الممجّد | من يزرع الخيرات سوف يحصد |
فقالت فاطمة:
لم يبق عند اليوم غير صاع | قد مجلت كفّي مع الذارع |
ابناى والله من الجياع | أبوهما للخير ذو اصطناع |
ثمّ رفعوا الطعام و أعطوه للأسير، فلمّا كان اليوم الرابع دخل عليّ عليه السلام على النبيّ يحمل ابنيه كالفرخين، فلمّا رآهما رسول الله صلى اللَّه عليه و آله قال: و أين ابنتي؟ قال: في محرابها، فقام رسول الله فدخل عليها و لقد لصق بطنها بظهرها، و غارت عيناها من شدّة الجوع، فقال النبيّ صلى اللَّه عليه و آله: و اغوثاه بالله آل محمد يموتون جوعاً، فهبط جبرئيل و هو يقرأ (يوفون بالنذر...) الآية».
[تذكرة الخواصّ، ص 281، شواهد التنزيل، ص 394- 410؛ نورالثقلين، ج 5، ص 470 و 477؛ مناقب الخوارزمي، ص 189. .
و لنا وقفة مع السبط ابن الجوزي و جدّه حول هذا الحديث، فإنّه بعد روايته هذا الحديث اُشكل عليه بعضف الحديث و أنّ جدّه أخرجه في الموضوعات؛ بحجّة أنّه أراد أن ينزّهما عن منع الطفلين عن أكل الطعام، فلماذا ذكر الحديث مع أنّه موضوع على رأي جدّه؟
فأجاب السبط قائلاً و متعجّباً من إنكار جدّه في الموضوعات و إقراره في كتاب آخر له قال: «والعجب من قول جدي و إنكاره و قد قال في كتاب المنتخب: يا علماء الشرع أعلمتم لم آثرا و تركا الطفلين عليهما أثر الجوع آثراهما خفي عنهما سرّ إبداء بمن تعول، ما ذاك إلّا لأنّهما علما قوّة صبر الطفلين و أنّهما غصنان من شجرة أظلّ عند ربّي و بعض جملة فاطمة بضعة منّي و فرخ البطّ سابح».
[تذكرة الخواصّ، ص 284.]
و نزيد عليّ بيان السبط أنّه: ياليت ابن الجوزي دقّق النظر فيما ضعّفه بحجّة تنزيه عليّ و فاطمة عن منع الطفلين عن أكل الطعام، فإنّ في ما نقله السبط هو: فرفعوا الطعام و ناولوه إيّاه و لم يقل: فرفع على الطعام و ناوله المسكين و اليتيم و الأسير. و هذا يدلّ على أنّ كلّهم دفعوا إليه إفطارهم بعد أن رأوا الإمام رفع يده عن الطعام و أراد اعطاءه للفقير.
و أمّا فيما نقله ابن المغازلي فصريح في أنّ الإمام عليّ قام فأعطاه رغيفه قال: فلما كان
عند الإفطار و كان عندهم ثلاثة أرغفة قال: فجلسوا ليأكلوا فأتاهم سائل فقال: أطعموني فإنّي مسكين، فقام عليّ فأعطاه رغيفه، ثمّ جاء سائل فقال: أطعموا اليتيم فأعطته فاطمة الرغيف، ثم جاء سائل فقال: أطعموا الأسير، فقالت الخادمة فأعطته الرغيف و باتوا ليلتهم طاوين.
[مناقب ابن المغازلي، ص 273.]
و يفهم أيضاً ممّا نقله فرات الكوفي من أنّ الإمام لمّا ألقى ما في يده ألقوا الآخرين الطعام من أيديهم فأعطوه طعامهم و باتوا على صومهم لم يذوقوا إلّا الماء.
[تفسير فرات الكوفي، ص 196.]
و ثالثاً: روى بعض المحدّثين لمناقب أهل البيت و منهم الخوارزمي الحنفي في مناقبه:
[مناقب الخوارزمي، ص 192.]] أنّ هذه القضية اتّفقت في ليلة واحدة، فكلٌّ من المسكين و اليتيم و الأسير دلّ الآخر على بيت مَن أطعمه، و هم أهل البيت عليهم السلام.
و لا إشكال أنّه كثيراً ما ينوّم الإنسان أطفاله لليلة واحدة بدون طعام و عشاء، فما ظنّك بالحسن و الحسين اللذين هما قدّما الطعام إلى الفقير من دون أن يُرفع العطام من بين أيديهما.
تلخّص أنّ تشكيك ابن الجوزي في غير محلّه بعد استظهاره في كتاب آخر له و بعد وجود قرائن و محامل على صدق القضيّة.
و رابعاً: أنّه ليست هذه أوّل قضية شكّ فيها، بل و هذا دأبه في الأحاديث الصحاح، والظاهر أنّه كان غير مستقيم الفكر و المنطق و لا ورعاً في دينه و تقواه؛ فإنّنا نرى أنّه ضعّف الأحاديث الصحيحة أيضاً.
و إليك ما جاء عنه في سير أعلام النبلاء: قال الموفّق عبداللطيف: «و كان كثير الغلط فيما يصنفه».
[سير أعلام النبلاء، ج 21، ص 378.]
و قال الحافظ سيف الدين ابن المجد: «هو كثير الوهم جدّاً... إلى أن قال: ما رأيت أحداً يعتمد عليه في دينه و علمه و عقله راضياً عنه».
[نفس المصدر، ص 383.]
و عن جدّ سيف الدين: «كان أبوالمظفّر ابن أحمدي ينكر على أبي الفرج كثيراً كلمات
يخالف فيها السنّة».
[نفس المصدر.]
«و كان أبوإسحاق العلفي يكاتبه و ينكر عليه».
[نفس المصدر.]
روى ابن المغازلي بسنده عن الحسين بن عليّ عن أمّه فاطمة بنت رسول الله قال: لمّا نزلت على النبيّ صلى اللَّه عليه و آله (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً) قالت فاطمة: «فتهيّبت النبيّ صلى اللَّه عليه و آله أن أقول له: يا أبة، فجعلت أقول له: يا رسول الله، فأقبل عَلَيّ فقال لي: يا بنيّة لم تنزل فيك و لا في أهلك من قبل، أنت منّي و أنا منك، و إنّما نزلت في أهل الجفاء و البذخ و الكبر، قولى: يا أبة فإنّه أحبّ للقلب و أرضى للربّ، ثمّ قبّل النبيّ صلى اللَّه عليه و آله جبهتي و مسحني بريقه، فما احتجت إلى طيب بعده».
[مناقب الإمام عليّ بن أبي طالب، ص 365.]
و قال أبوثعلبة الخشني قال: كان رسول الله صلى اللَّه عليه و آله إذا قدم من سفره يدخل على فاطمة، فدخل عليها فقامت إليه و اعتنقته و قبلت بين عينيه.
[بحارالأنوار، ج 43، ص 40؛ فضائل الخمسة، ج 3، ص 131، حلية الأولياء، ج 2، ص 30: و فيه وجعلت تقبّل وجهه و عينه و تبكي.]
و رووا عن عائشة أنّ فاطمة كانت إذا دخلت على رسول الله صلى اللَّه عليه و آله قام لها من مجلسه و قبّل رأسها و أجلسها مجلسه، و إذا جاء إليها لقيته و قبّل كلّ واحد منهما صاحبه و جلسا معاً.
[بحارالأنوار، ج 43، ص 40؛ فضائل الخمسة، ج 3، ص 131، حلية الأولياء، ج 2، ص 30: و فيه وجعلت تقبّل وجهه و عينه و تبكي.]
و من دلائل شدّة تعظيمها لرسول الله صلى اللَّه عليه و آله أنّه دخل عليها يوماً ليذكّرها أنّ عليّاً خطبها كما رواه المفيد في أماليه قال: «فدخل عليها، فقامت فأخذت رداءه و نزعت نعليه و أتته بالوضوء فوضّأته بيدها و غسلت رجليه ثمّ قعدت...».
[نفس المصدر، ص 93.]
و حينما وهب النبيّ لها خادمة من أسرى ساحل البحر و أوصاها بالرفق معها، فلمّا رأت
فاطمة عليهاالسلام ما يوصيها بها التفت إلى أبيها و قالت: يا رسول الله عليّ يوم و عليها يوم، فكانت متقيّدة بهذا العهد الذي تعهّدت به أمام رسول الله من أنّ لها يوماً لخدمة البيت و للخادمة يوماً.
و في الخرائج روى أنّ سلمان قال: كانت فاطمة عليهاالسلام جالسة قدّامها رحى تطحن بها الشعير، و على عمود الرحى دم سائل، و الحسين في ناحية الدار يتضوّر من الجوع، فقلت: يا بنت رسول الله دبرت كفّاك و هذه فضّة؟ فقالت: «أوصاني رسول الله صلى اللَّه عليه و آله أن تكون الخدمة لها يوماً، فكن أمس يوم خدمتها، قال سلمان: قلت: إنّي مولى عتاقة إمّا أنا أُطحن الشعير أو أُسكت الحسين لك؟ فقالت: أنا بتسكينه أرفق و أنت تطحن الشعير، فطحنت شيئاً من الشعير، فإذا أنا بالإقامة، فمضيت وصلّيت مع رسول الله صلى اللَّه عليه و آله فلمّا فرغت قلت لعليّ: ما رأيت، فبكى و خرج ثمّ عاد فتبسّم فسأله عن ذلك رسول الله صلى اللَّه عليه و آله قال: دخلت على فاطمة و هي مستلقية لقفاها و السحين نائم على صدرها و قدّامها رحى تدور من غير يد، فتبسّم رسول الله صلى اللَّه عليه و آله و قال: يا عليّ أما علمت أنّ للّه ملائكة سيّارة في الأرض يخدمون محمداً و آل محمد إلى أن تقوم الساعة».
[الخرائج و الجرائح، ج 2، ص 530؛ بحارالأنوار، ج 43، ص 28.]
عاش المسلمون بداية الهجرة في مدينة الرسول أياماً صعبة و ضاق بهم من كلّ ناحية؛ لأنّهم تركوا ما عندهم و هاجروا إلى الله و رسوله، فكان من الذين ضاق بهم العيش أربعمائة رجل قد أقاموا في المسجد و ما لهم طعام و لا ثياب، و منهم آل الرسول و عترته، فعاشوا أصعب العيش و أخشنه من بداية أمرهم إلى أن توفّي الرسول صلى اللَّه عليه و آله.
و فاطمة عاشت في بيت عليّ عليه السلام سنين و ما كان فراشها إلّا جلد كبش تنام عليه، و ما كانت عليها إلّا عباءة إذا سترت ساقها انكشف رأسها و إذا سترت رأسها انكشف ساقها، و مع ذلك تحمّلت مشاقّ العيش، فصبرت هي و صبّرها النبيّ على ذلك؛ للوصول إلى حياة باقية و عيشة راضية، فعلينا أن نوقف القارئ الكريم على ما ورد ليعرف فاطمة، و يعرف كيف كانت تعيش و كيف كانت تصبر على مرارة الدنيا و صعوبتها؟
1. عن أنس قال: جاءت فاطمة إلى النبيّ صلى اللَّه عليه و آله فقالت: «يا رسول الله إنّي و ابن عمّي ما لنا فراش إلّا جلد كبش ننام عليه و نعلف عليه ناضحنا بالنهار، فقال: يا بنيّ اصبري، فإنّ موسى بن عمران أقام مع امرأته عشر سنين ما لهما فراش إلّا عباءة قطوانية».
[إحقاق الحقّ، ج 10، ص 400.]
2. و روى الطبراني و ابن حبان في صحيحة أنّ النبيّ صلى اللَّه عليه و آله خرج و أبوبكر و عمر إلى دار أبي أيوب الأنصارى- فذكر الحديث بطوله إلى أن قال-: فأخذ رسول الله صلى اللَّه عليه و آله شيئاً من لحم الجدي فوضعه في رغيف و قال: «يا أباأيّوب أبلغ هذا فاطمة فإنّها لم تصب مثل هذا منذ ايّام».
[نفس المصدر، ص 263.]
3. و عن أسماء بنت عميس، عن فاطمة بنت رسول الله صلى اللَّه عليه و آله: «أنّ رسول الله صلى اللَّه عليه و آله أتاها يوماً فقال: أين ابناي يعني حسناً و حسيناً؟ قالت: قلت: أصبحنا و ليس في بيتنا شي ء يذوقه ذائق، فقال عليّ: أذهب بهما فإنّي أتخوّف أن يبكيا عليك و ليس عندك شي ء، فذهب بهما إلى فلان اليهودي فوجّه إليه رسول الله صلى اللَّه عليه و آله فوجدهما يلعبان في مشربة بين أيديهما فضل من تمر، فقال: يا عليّ ألا تقلب ابنيَّ قبل أن يشتّد الحرّ عليهما، قال: فقال عليّ: أصبحنا و ليس في بيتنا شي ء فلو جلست يا رسول الله حتّى أجمع لفاطمة تمرات، فجلس رسول الله صلى اللَّه عليه و آله و هو ينزع للهيودي كلّ دلو بتمرة حتّى اجتمع له شي ء من تمر، فجعله في حجزته ثمّ أقبل، فحمل رسول الله صلى اللَّه عليه و آله أحدهما و حمل عليّ الآخر عليهم السلام».
[ذخائر العقبى، ص 49.]
فكما قلنا سابقاً أنّهم كانوا يعيشون في عسر و ضيق، و الأعجب من ذلك أنّها كانت تؤثر زوجها عليّ نفسها كما أشرنا إلى ذلك في إيثارها، فراجع فلا نعيد.
لم تستنكف فاطمة صلوات الله عليها من العمل و خدمة البيت طول حياتها، رغم عدم وجوب ذلك عليها، فكانت تستقي بالقربة حتّى أثّر في صدرها، و طحنت بالرحى حتّى مجلت يداها كما أخبر بذلك الإمام عليّ عليه السلام قائلاً لرجل من بني سعد: «ألا اُحدّثك عنّي و عن فاطمة؟ أنّها كانت عندى و كانت من أحبّ أهله إليه، و أنّها استقت بالقربة حتّى