الشعر من أروع ما أبدعه الفكر الجمالي لدى الإنسان. وهو من الوسائل المهمّة لتخليد الأفكار، والأحداث، والقيم، ويعدّ أهمّ عامل لبثّ الأفكار والتعاليم.
الشعر يهيّج العواطف، ويثير دفائن العقول. وقد تولّد القصائد المطوّلة والمقطوعات الشعريّة حماسةً و هياجاً و جلبةً في المجتمع الإنساني.
وكان الشعراء- على مرّ التاريخ- أهمّ المنادين بالقيم، والموسّعين لنطاق الأفكار، و الموجّهين للعواطف سواءً فيما يُحمد أم فيما يذمّ... وبهذه الرؤية نظر أئمّة الدين إلى الشعر، وجدّوا في دعوة الشعراء إلى الهدفيّة، والالتزام، والرويّة الرفيعة، والصمود والصلابة، والاستقامة وإلى مقارعة الرذائل والقبائح و ضروب الظلم وكلّ ما يشين، والثبات على طريق بثّ القيم الإنسانيّة والدفاع عن الحقّ.
ومن المؤسف أن شهد التاريخ على تواتر الأيّام استغلال المتسلّطين من أعداء
الفضيلة لهذا المظهر الجميل للروح الإنسانيّة استغلالاً سيّئاً، فألجؤوا الشعراء إلى إنشاءالمدائح الذليلة المذلّة الجارحة للعزّ والشمم، وسجّلوا بهذا إحدى الصفحات السوداء للأدب والثقافة البشريّة.
وقد قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله- وهو نبيّ الحرّية والكرامة الإنسانيّة-: 'احثوا في وجوه المدّاحين الترابٍّ'
[ الأمالي الصدوق: 707:512، بحارالأنوار: 1:294:73 و ج 331:76.]
وقال أيضاً مبيّناً ما في مدح الجبّارين و الأقوياء من شديد القبح والوضاعة والحقارة: 'إذا مُدح الفاجر اهتزّ العرش و غضب الربّ'
[ تحف العقول: 46، بحارالأنوار: 84:152:77.]
بيد أنّه صلى الله عليه و آله كان من جهة اُخرى يثني على الشاعر الذي ينشد في الحقّ، و يرفع صوته بمكرمة إنسانيّة؛ و يدعو له، و يثمّن عمله، كما أثر عنه صلى الله عليه و آله لمّا سمع أبياتاً من رائيّة النابغة الجعدي أنّه دعا له قائلاً: 'لا يفضض اللَّه فاك...'
[ الغيبة للطوسي: 119.]
وكان هناك شعراء منذ قديم الأيّام لم يطيقوا مدح الظلم والولاء له، ولم يَرُقْهم الثناء على الظالمين، بل كانوا ينشدون ملاحم المجد والعظمة و البهاء، و يشيدون بالجمال والنور وصانعيه، وكان دأبهم التواضع لوهج شمس الحقيقة المتألّقة. و هكذا كان منهم من وقف أمام القمّة الشاهقة لشخصيّة مولى الموحّدين و أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، ومدحوا ذلك الطود الأشمّ، الفيّاض بالمكارم، الذي تستمدّ منه وجودها جميع القيم الإنسانيّة الربّانيّة الرفيعة، وسطّروا في كلماتهم معالي ذلك الإنسان العظيم، وشجاعته، وشهامته، واستبساله، وعشقه، وولهه في اللَّه تعالى، وقدّموها لجميع الأجيال و الأعصار.
إنّ ما تطرّق إليه الشعراء من أوصاف إمام المحقّين و دليل الأبرار؛ من ضروب تعظيمه، و بيان أبعاد شخصيّته، ممّا يثير الحماسة و الهياج.
و من مظاهر هذا التعظيم والتبجيل ذكر واقعة 'غديرخمّ' العظيمة منذ لحظاتها الاُولى، إذ قام حسّان بن ثابت، و أنشد يقول:
و إلى يومنا هذا خلّد الشعراء ذلك 'الإبلاغ' العظيم في مئات القصائد و المقطوعات. ونذكر في هذا الفصل غيضاً من فيض، و قطرةً من بحر ذلك الثناء و التعظيم، و المظاهر الرفيعة للإبداعات الفنّية للاُدباء و الشعراء؛ الطافح شعرهم بالمشاعر الفيّاضة في مدح مولى الموحّدين أميرالمؤمنين عليه السلام. وتمتدّ هذه المدائح الثمينة من القرن الأوّل حتى قرننا هذا، مع تأكيدنا المتكرّر أنّ هذه المدائح مختارات على قدر ما يفسح به المجال، و إلّا فمن الواضح أنّها لو جمعت لبلغت مجلّدات من الكتب.
[ كان شاعراً فحلاً مُجيداً، وكان النبيّ صلى الله عليه و آله قد أهدر دمه لأبيات قالها لمّا هاجر أخوه بجير بن زهير إلى النبيّ صلى الله عليه و آله، فهرب ثمّ أقبل إلى النبيّ صلى الله عليه و آله مسلماً، فأنشده في المسجد قصيدته التي أوّلها 'بانت سعاد فقلبي اليوم متبول'. وأورد ابن شهر آشوب أبياتاً له في أمير المؤمنين عليه السلام. توفّي سنة "45 ه" "راجع أعيان الشيعة: 29:9".]
3991- من شعراء القرن الأوّل، يقول:
[ الديوان المنسوب إلى الإمام عليّ عليه السلام "تحقيق الدكتور عمر فاروق": 12.]
[ أبومنقذ بشر بن منقذ المعروف بالأعور الشنّي العبدي: كان مع عليّ عليه السلام في الجمل وصفّين، وكان من شعراء أهل العراق في صفّين. وفي الطليعة: كان فارساً شجاعاً شاعراً، له في صفّين وغيرها مآثر وإخلاص لأمير المؤمنين عليه السلام. توفّي في زمن معاوية وولاية زياد على الكوفة، وقيل: قتله زياد فيمن قتل من شيعة عليّ عليه السلام وذلك حدود سنة "50 ه" "راجع أعيان الشيعة: 576:3". ]
3992- من شعراء القرن الأوّل، ومن أصحاب أميرالمؤمنين عليه السلام، يقول- في
الإمام عليّ وولديه الحسن والحسين عليهم السلام-:
[ الصَّعَر: التكبُّر "لسان العرب: 456:4.]
[ أعيان الشيعة: 577:3.]
[ أبوالوليد حسّان بن ثابت بن المنذر: ولد حسّان قبل مولد النبيّ صلى الله عليه و آله بثمان سنين، وعاش مائة وعشرين سنة وتوفّي سنة "54 ه" على قول، وبيت حسّان أحد بيوتات الشعر عريق في الأدب ونظم القريض. وعن أبي عبيدة: إنّ العرب اجتمعت على أنّ حسّان أشعر أهل المدن وأنّه فضل الشعراء بثلاث: كان شاعر الأنصار، وشاعر النبيّ صلى الله عليه و آله في أيّامه، وشاعر اليمن كلّها في الإسلام "راجع الغدير: 107:2". ]
3993- من جهابذة شعراء القرن الأوّل، يقول:
وأنت من الإسلام في كلّ منزلٍ++
|...|
[ هكذا بياض في المصدر، ولكن في نسخة: 'بمنزلة الطرف البطين من الرسن'، وفي شرح نهج البلاغة: 'بمنزلة الدلو...'.] البطين من الرسنْ
[ تاريخ اليعقوبي: 128:2؛ شرح نهج البلاغة: 35:6 نحوه.]
3994- ويقول أيضاً:
[ المناقب لابن شهر آشوب: 6:3، بشارة المصطفى: 266؛ المناقب للخوارزمي: 246:265 كلاهما نحوه.]
راجع: القسم الثالث/حديث الغدير/أبيات حسّان بن ثابت.
[ محمّد بن عبد اللَّه الحميري: زميل عمرو بن العاص، أحسبه ابن القاضي عبد اللَّه بن محمّد الحميري الذي قلَّدهُ معاوية بن أبي سفيان ديوان الخاتم. عدّه صاحب الغدير من شعراء القرن الأوّل الهجري، ولقصيدته 'بحقّ محمّد قولوا بحقّ...' قصّة مشهورة؛ فقد اجتمع الطرمّاح الطائي، وهشام المرادي، ومحمّد بن عبد اللَّه الحميري عند معاوية بن أبي سفيان، فأخرج بدرة فوضعها بين يديه، وقال: يا معشر شعراء العرب! قولوا قولكم في عليّ بن أبي طالب، ولا تقولوا إلّا الحقّ، وأنا نفيٌّ من صخر بن حرب إن أعطيت هذه البدرة إلّا من قال الحقّ في عليّ. فقام الطرمّاح وتكلّم في عليّ ووقع فيه، فقال له معاوية: اجلس فقد عرف اللَّه نيّتك ورأى مكانك! ثمّ قام هشام المرادي فقال أيضاً ووقع فيه، فقال له معاوية: اجلس مع صاحبك فقد عرف اللَّه مكانكما! فقال عمرو بن العاص لمحمّد بن عبد اللَّه الحميري- وكان خاصّاً به-: تكلّم ولا تقل إلّا الحقّ. فقام محمّد بن عبد اللَّه فتكلّم ثمّ قال: 'بحقّ محمّد...' القصيدة، فقال معاوية: أنت أصدقهم قولاً، فخذ هذه البدرة "راجع الغدير: 178:2". ]
3995- يقول:
[ طما البحر فهو طامٍ: ارتفع موجه "لسان العرب: 15:15".]
وأبرأ من اُناس أخّروهُ++
وكان هو المقدّم بالمقامِ
عليّ هزّم الأبطال لمّا++
رأوا في كفّه ذات الحُسامِ
على آل الرسول صلاةُ ربّي++
صلاةً بالكمال وبالتمامِ
[ بشارة المصطفى: 11، بحارالأنوار: 531:259:33؛ فرائد السمطين: 375:1 نحوه إلى 'برئت'.]
[ اُمّ الهيثم بنت الأسود- ويقال: بنت العريان- النخعيّة: تابعيّة من أصحاب أميرالمؤمنين عليه السلام، شاعرة. ولم نجد من ذكرها باسم غير اُمّ الهيثم، ولعلّ اسمها كنيتها، أو أنّها اشتهرت بالكنية. وقد اختلف الرواة في رواية هذه القصيدة اختلافاً كثيراً، ويظهر أنّه وقع خلط من المؤرّخين بين القصيدة وقصيدة أبي الأسود الدؤلي التي هي على وزنها وقافيتها، حتى أنّ القصيدة المنسوبة إلى اُمّ الهيثم نسبها بعضهم بتمامها إلى أبي الأسود، والظاهر أنّه لاتّحاد الوزن والقافية بين القصيدتين اُدخل شي ء من قصيدتها في قصيدة أبي الأسود وبالعكس اشتباهاً "راجع أعيان الشيعة: 488:3". ]
3996- من صحابيّات أميرالمؤمنين عليه السلام، تقول في رثائه:
ألا يا عين ويحك فاسعدينا++
ألا تبكي أمير المؤمنينا!
رزينا خير من ركب المطايا++
وخيّسها
[ خيّسه: راضه وذلّله بالركوب "النهاية: 92:2".] ومن ركب السفينا
ومن لبس النعال ومن حذاها++
ومن قرأ المثاني والمئينا
وكنّا قبل مقتله بخيرٍ++
نرى مولى رسول اللَّه فينا
يقيم الدين لا يرتاب فيه++
ويقضي بالفرائض مستبينا
ويدعو للجماعة مَن عصاه++
ويَنْهَكُ
[ النَّهْك: المبالغة في كلّ شي ء "لسان العرب: 500:10" أي يبالغ في العقوبة.] قطع أيدي السارقينا
وليس بكاتم علماً لديه++
ولم يخلق من المتجبّرينا
لعمر أبي لقد أصحابُ مصرٍ++
على طول الصحابة أوجعونا
وغرّونا بأنّهمُ عكوفٌ++
وليس كذاك فعل العاكفينا
أفي شهر الصيام فجعتمونا++
بخير الناس طرّاً أجمعينا
ومن بعد النبيّ فخير نفسٍ++
أبوحسن وخير الصالحينا
كأنّ الناس إذ فقدوا عليّاً++
نعامٌ جالَ في بلد سنينا
ولو أنّا سئلنا المال فيه++
بذلنا المال فيه والبنينا
أشاب ذؤابتي وأطال حزني++
اُمامةُ حين فارقْتِ القرينا
تطوف به لحاجتها إليه++
فلمّا استيأست رفعت رنينا
وعبرة اُمّ كلثوم إليها++
تجاوبها وقد رأت اليقينا
فلا تشمت معاوية بن صخرٍ++
فإن بقيّة الخلفاء فينا
وأجمعنا الإمارة عن تراضٍ++
إلى ابن نبيّنا وإلى أخينا
ولا نعطي زمام الأمر فينا++
سواه الدهر آخر ما بقينا
وإنّ سَراتنا
[ سَراتنا: أي أشرافنا "النهاية: 363:2".] وذوي حجانا++ تواصوا أن نجيب إذا دعينا
بكلّ مهنّد عضب وجردٍ++
عليهنّ الكماة مسوّمينا
[ مقاتل الطالبيّين: 55؛ المناقب لابن شهر آشوب: 315:3 عن أبي الأسود الدؤلي وفيه بعض الأبيات.]
[ راجع: عليّ عن لسان أصحابه:اُمّ سنان. ]
3997- من شواعر القرن الأوّل، تقول:
عَزُب
[ عَزُب: بَعُد عهده "النهاية: 227:3".] الرقاد فمقلتي ما ترقُد++
والليل يصدر بالهموم ويوردُ
يا آل مذحج لا مقام فشمّروا++
إنّ العدوّ لآل أحمد يقصدُ
هذا عليّ كالهلال يحفّهُ++
وسط السماء من الكواكب أسعدُ
خيرُ الخلائق وابن عمّ محمّدٍ++
وكفى بذاك لمن شناه
[ شناه: أبغضه "لسان العرب: 101:1".] تهدّدُ
ما زال مذ عرف الحروب مظفّراً++
والنصر فوق لوائه ما يفقدُ
[ بلاغات النساء: 92.]
3998- ولها أيضاً:
إمّا هلكت أبا الحسين فلم تزلْ++
بالحقّ تُعرف هادياً مهديّا
فاذهب عليك صلاة ربّك ما دعت++
فوق الغصون حمامةٌ قمريّا
قد كنت بعد محمّد خلفاً لنا++
أوصى إليك بنا فكنت وفيّا
فاليوم لا خَلَفٌ نؤمّلُ بعدهُ++
هيهاتَ نمدح بعده إنسيّا
[ بلاغات النساء: 93.]