ما وراء الفقه

السید عباس موسویان

نسخه متنی
نمايش فراداده

بحوث علمية في تنقيح موضوعات الأحكامربوية الفائدة البنكية

في العالم المعاصر ، ضاعفت عوامل ـ من قبيل تطوّر وسائل الانتاج ، وتخصصية الانشطة الاقتصادية ، وتعاظم حجم المراكز الانتاجية والتجارية ـ من الحاجة إلي رؤوس الأموال المادية والنقدية ، فيما وضعت فكرة تحريم الربا وتطبيقها علي الفائدة البنكية الاستفادةَ من رؤوس الأموال الشعبية وتبديلها إلي استثمارات منتجة وفقا لمناهج العمل الاقتصادي السائدة في الاقتصاد الرأسمالي أمام إشكالية أساسية ، وقد أدّي هذا الأمر إلي بروز ثلاثة أنماط من التفكير في الوسط الاسلامي إزاء هذا الموضوع ، تبنّي كل واحدٍ منها فريقا خاصّا .

الفريق الأوّل :

وهو الفريق الذي اتجه لابتداع طرق جديدة بغية حل مشكلة رأس المال ، وذلك نتيجة قبوله بممنوعية الربا وتطبيق مفهومه علي النظام الرأسمالي لا سيما الفائدة البنكية ، وقد شكّل التوجه لسوق الأسهم ، والتأكيد علي الشركات الاستثمارية ، وتقديم انموذج للبنك اللاربوي ، ونشر سندات المساهمة الاستثمارية وتوسعة نطاق المؤسسات الانتاجية والتجارية مظاهر عينية لهذا النمط من التفكير .

الفريق الثاني :

وهو الفريق الذي رأي ـ مع القبول بربوية الفائدة البنكية ـ إمكانية العثور علي طريق لحلّ القضية انطلاقا من عنصر الضرورة والحاجة ( كما جري تسميتها فترة معينة ) والمصلحة ( كما أطلق عليها أخيرا ) مع التمسك بقواعد « الاضطرار » و « حاجة المسلمين » و « المصلحة الراجحة » الفقهية ، والنموذج العيني لهذا النوع من التفكير ما نشاهده في بعض البلدان الاسلامية والعربية .

أمّا الفريق الثالث :

فينحو بالمسألة ناحية تشخيص الموضوع ، وقد سعي أنصاره من خلال تقديم بيانات مختلفة لاثبات الفارق ما بين الربا والفائدة البنكية ، من قبيل الفارق ما بين الفائدة المجعولة علي تمديد مهلة القرض وتلك الابتدائية علي القروض ، الفائدة الفاحشة والفائدة العادلة ، الفائدة علي القروض الاستهلاكية والقروض الاستثمارية ، الفائدة الواقعية والفائدة المسمّاة ، الفائدة الثابتة والفائدة المتغيّرة ، الفائدة علي القروض الخاصّة والفائدة علي القروض الحكومية ، الفائدة علي القروض العادية والفائدة علي القروض البنكية ، والدخل القطعي وغير القطعي كل ذلك يدلل علي مباني النظريات التي طرحت من جانب هذا الفريق .

وقد انضم منذ مدة جناب الدكتور موسي غني نجاد ، أحد أساتذة الاقتصاد ، إلي الفريق الثالث وذلك بكتابته عدة مقالات والقائه مجموعة من المحاضرات ، وقد ركّز اهتمامه علي شرح الفارق ما بين الربا والفائدة البنكية ، وقد كانت مقالته المنشورة « الربا والفائدة البنكية » آخر أعماله علي هذا الصعيد .

وقد ركّز الدكتور نجاد في هذه المقالة ، كما في مقالاته ومحاضراته السابقة ( 1 ) ، علي نظريتين منسجمتين نسبيا ، كما أشار إلي موارد اُخري للفرق بينهما عندما كانت تقتضي المناسبة ذلك .

وقد اعتقد في النظرية الاُولي ـ والتي يعبر عنها أحيانا بـ « الاطروحة الأساسية » ( 2 ) واُخري بـ « النظرية المؤكد عليها » ( 3 ) ، أنّ الربا عبارة عن الدخل القطعي المعين من قبل فيما الفائدة تمثل دخلاً متغيرا غير قطعي .

امّا النظرية الثانية فرأي فيها انّ « الربا ناتج خارجي للنقد الذي يمثل الواسطة في المبادلات ، أمّا الفائدة فناتج داخلي له بما هو رأس مال نقدي » .

وسوف نطرح ابتداء في هذه المقالة التي تمثل في الحقيقة نقدا لكلتا النظريتين ( 4 ) خلاصةً للنظرية نفسها ، ومن ثمّ نوضح ذلك بالاستعانة بكلمات وعبارات الدكتور نجاد نفسه ، امّا المرحلة الثالثة فنعمد إلي استخراج المحاور الأساسية للنظرية ، فيما نقيّم هذه المحاور في المرحلة الرابعة والأخيرة .

نظرية « قطعية الربا وعدم قطعية الفائدة البنكية » :

خلاصة النظرية :

يتحقق الربا أوّلاً ـ الذي يمثل ناتجا ثابتا معينا من قبل ـ فيما لو كان معدل التضخم ولمدة طويلة عبارة عن الصفر . ولم تخضع القيم النسبية حتي في المدة الطويلة لتحولات انخفاض وارتفاع ثانيا ، وهذان الأمران غير متصوّرين إلاّ في الاقتصاديات المعيشية القديمة ، وبناءً عليه فالفائدة في الأنظمة الاقتصادية الجديدة التي تعبر ـ أي الفائدة ـ عن ظاهرة غير قطعية بل متغيرة بسبب التضخم والتغيرات الدائمة للقيم النسبية . . هذه الفائدة لن تكون ربا حينئذٍ .

توضيح النظرية :

« وفي الواقع فما جري منعه في الإسلام إنّما هو الناتج الثابت أو المعين سلفا في المعاملات المالية ، لا قيمة الناتج غير المحدّدة والمشخّصة والتي تُطرح في الأرباح لكننا إذا لاحظنا استحالة الناتج الثابت والمعين سلفا لرأس المال ـ نظرا وعملاً ـ في نظام اقتصادي مبتنٍ علي سوق المنافسة فسوف نجد أنفسنا متورّطين في خطاًء كبيرٍ في الفهم فرض علينا توحيد موقفنا إزاء الربا والفائدة .

يمكن في النظام الاقتصادي الجديد التمييز بين نوعين من قيمة الفائدة هما قيمة الفائدة الواقعية والثاني قيمة الفائدة المسمّاة ، فقيمة الفائدة الواقعية من الناحية النظرية تبيّن من جهة الميل النهائي للادخار ومن جهة اُخري الناتج النهائي لرأس المال ، أي انّ قيمة الفائدة في اقتصاد السوق ذات وضعيّةٍ معينة ترجع إلي انّ الحجم النهائي للامساك عن الاستهلاك ـ الميل النهائي للادخار ـ مساوٍ للنفع النهائي الناشئ عن الاستثمار ، فقيمة الفائدة كباقي القيم في النظام السوقي ليست قابلةً للتنبؤ سلفا بأيّ وجهٍ من الوجوه ، وهي تتغير تبعا للعوامل المؤثرة في السوق والتي لا يمكن تعيينها من قبل ، امّا قيمة الفائدة المسمّاة [ النقدية ] فهي متغيرة تتعين كنقد مسمّي من خلال ميزان العرض والطلب ولأجل المزيد من ايضاح المطلب يمكن القول بأنّ القيمة الواقعية للفائدة عبارة ـ تقريبا ـ عن القيمة النقدية المسمّاة لها بعد تعديلها بمعدّل التضخّم ، وبالرغم من أنّ أداء فائدة الودائع في اقتصاد السوق يتمّ التعهّد به ضمن قيمة معينة ، لكن مع الأخذ بعين الاعتبار عدم التعيّن المسبق لمعدل التضخم فإنّ تعيين ميزان الفائدة الواقعية من قبل يعدّ أمرا غير ممكن من الناحية العملية ، وعليه فـ ( الناتج الثابت أو المعين من قبل ) [ = الربا ] يمكن تصوره فقط في المجتمعات ذات الاقتصاد المعيشي التقليدي ، ذلك أنّ التغييرات في القيم النسبية وكذلك في مستوي القيم ـ حتي في مدة طويلة ـ أمر لا وجود له أساسا في هذه المجتمعات ، وذلك بسبب وقوع العلاقات التبادلية النقدية علي هامش الأنشطة الإنتاجية الرئيسية وبط‏ء التحرّك الاجتماعي والاقتصادي .

وكذلك البط‏ء الشديد جدا في التحولات الفنية والتكنولوجية ، وفي هذه الظروف فقط يتحد كلّ من الناتج المسمّي والواقعي للنقد ، ويتخذ تعريف الربا لنفسه معني ، امّا في النظام الاقتصادي المبني علي السوق والذي تكون فيه القيم نسبية فإنّ الميل النهائي للادخار والناتج النهائي لرأس المال يقعان دائما عرضة للتغيّرات ؛ وذلك بسبب تبدّل ميول وطبائع المستهلكين والحركة الشديدة لعوامل الإنتاج والتحولات الفنية والتكنولوجية السريعة ، وهو ما يؤدي إلي عدم إمكانية تحقق معاملة ماليّة ذات ناتج ثابت أو معين من قبل إنّ المودِع الذي يقبض الفائدة المسمّاة المعينة من قبل في ظل ظروف يكون التضخم فيها عموما أكبر من معدل الفائدة يتورّط في الضرر قطعا ، ذلك أنّ قيمة الفائدة الواقعية ستكون سلبيةً ، ومن البديهي انّه في ظل الظروف التي يمكن أن يكون فيها معدّل قيمة الفائدة الواقعية سلبيا فإنّ المودِع يساهم حينئذٍ في الربح والخسارة ، لكن عدم قطعية الدخل المسمّي المعين من قبل ليس منحصرا بمثل هذه الشروط الخاصة أي تضخّم الاقتصاد ؛ إذ القيم النسبية في الاقتصاد المبني علي السوق هي ـ وكما تمّت الإشارة إليه من قبل ـ في حال تغيرٍ دائمٍ ، وحيث إنّ جهة وأبعاد هذه التغيرات ليست قابلةً للتنبؤ بها من قبل ، فمن هنا تكون القدرة الشرائية للنقد بالنسبة للأنواع المختلفة للبضائع والسلع في معرض التغيير دائما ، ونفس هذا التغيير الذي لا قابلية فيه للتنبؤ بالقدرة الشرائية يرفع أيّة إمكانية لأيّ نوعٍ من القطعية في الدخل المسمّي المعين من قبل » ( 5 ) .

وقد ذكر الدكتور نجاد ـ مواصلاً بيانه للنظرية ـ مثالاً ( 6 ) حين قال : « والنتيجة التي يمكن الحصول عليها من هذا المثال الفرضي هي انّه في الظروف التي تكون القيم النسبية فيها في حال تغيير ـ أي في الاقتصادات المتحركة المبنية علي السوق ـ فإنّ القدرة الشرائية للنقد حتي في زمان بلوغ المستوي المتوسّط للقيم درجة الصفر تتغير بالنسبة لكل مستهلك لوحده قياسا للسلع المتنوّعة ، وفي الزمان الذي تتغير فيه القدرة الشرائية للنقد لن يعود بالإمكان الحديث عن ( الناتج الثابت أو المعيّن من قبل ) [ = الربا ] ، فالربا يصبح ذا معني في ظل الظروف التي علاوة علي ثبات المعدّل العام للقيم فيها لابد أن تكون القيم النسبية هي الاُخري فيها غير متغيرة ، أي فقط في الاقتصاد المعيشي الراكد » ( 7 ) .

المحاور الرئيسية في النظرية :

تبتني هذه النظرية علي محاور ثلاثة أساسية ، يمكن تلخيصها علي الشكل التالي :

1 ـ تعريف الربا بـ « الناتج الثابت المعيّن من قبل » ، وتفسيره أيضا بـ « الدخل القطعي الواقعي المحدّد سلفا » .

2 ـ يمكن تحقق الناتج الثابت المعين سلفا فيما لو :

أوّلاً ـ كان التضخم ولمدة طويلة بمعدل الصفر .

ثانيـا ـ عدم تعرّض القيم النسبية حتي لمدد طويلة لتغيرات انخفاض وارتفاع ، وإلاّ فإنّنا سنواجه فقط دخلاً مسمي تمّ تعيينه سلفا .

3 ـ تبقي القيم النسبية ثابتةً ولمدد طويلة في المجتمعات المعيشية القديمة فقط ، وذلك بسبب عدم تطوّر التكنولوجيا وعدم تبدّل السلائق والطبائع ، كما وعدم وجود تضخم وهو ما يؤمّن أرضية تحقق الربا ، امّا في الاقتصاديات الجديدة فإنّ تحقق الربا غير ممكن ، وذلك بسبب التضخم والتغيرات الدائمة في القيم النسبية إثر التطوّر التكنولوجي وتبدّل السلائق والطبائع .

تقييم النظرية :

وقبل البحث في المحاور الأساسية للنظرية ، وقبل الحكم فيما يخص صحتها أو عدم صحتها لابد من إيضاح أنّ هدفنا هو معرفة الربا من وجهة نظر الإسلام ، ووفقا لذلك فإنّ أسهل المناهج وأكثرها طمأنينة لتقييم النظرية المتقدمة آنفا هو التوجه ناحية تاريخ صدر الإسلام بدلاً من مراجعة آراء وأفكار أمثال ارسطو وآخرين ، والتعرّض للجوّ الحاكم علي مكة والمدينة ، كما والنظر في النصوص الدينية المتبقية والمحفوظة من تلك الحقبة الزمنية وذاك المكان الخاص ، لنري ما هو ذاك الشيء الذي منعه الإسلام باسم الربا ؟ ونهي عنه بشدّة بالغة وجعل مرتكبيه في صفّ المحاربين للّه‏ ورسوله صلي‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ، وهل تنطبق تلك الظاهرة علي الفائدة البنكية في الاقتصاد الحديث أو لا ؟

تعريف الربا في الإسلام :

خلافا لتصوّر الدكتور موسي غني نجاد فإنّ الربا في الإسلام لا ينحصر بالدخل القطعي الواقعي المعيّن من قبل ، كل ما في الأمر انّ هذا نوع من أنواع الربا ، امّا التعريف الدقيق للربا والمعتمد علي الآيات والروايات القادمة فهو عبارة عن اشتراط شيء زائد علي أصل المال الذي تمّ إقراضه ، أي لو فرض انّ المقرض شرط شيئا ( أي شيء له قيمة مالية ) زائدا علي إرجاع أصل المال الذي أقرضه فإنّه يكون مرتكبا للربا ، سواء كان ذلك الشيء دخلاً قطعيا أو غير قطعي .

ولأجل توضيح هذا الأمر أدعو القارئ للالتفات للنصوص التالية :

1 ـ يقول اللّه‏ تعالي في كتابه الكريم : « وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم »( 8 ) ، ففي هذه الآية جعل سبحانه شرط التوبة من الربا الاكتفاء بأصل المال الذي جري إقراضه .

2 ـ صحيحة محمّد بن قيس عن الامام الباقر عليه‏السلام : « من أقرض رجلاً ورقا فلا يشترط إلاّ مثلها » ( 9 ) .

3 ـ وفي رواية اُخري مشابهة للمتقدمة عن الامام علي عليه‏السلام جاء : « من أقرض قرضا ورقا لا يشترط إلاّ ردّ مثلها » ( 10 ) .

4 ـ وجاء في رواية معتبرة عن الامام الصادق عليه‏السلام في تعريف الربا المحرّم : « وأمّا الربا الحرام فهو الرجل يقرض قرضا ويشترط أن يردّ أكثر مما أخذه فهذا هو الحرام » ( 11 ) .

5 ـ والأوضح من الجميع تلك الرواية المنقولة عن الامام موسي بن جعفر عليه‏السلام والدالّة علي ربوية أخذ الدخل المتغيّر صوريا أيضا ، وهي رواية إسحاق بن عمار عن الامام عليه‏السلام قال : سألته عن الرجل يكون له مع رجل مال قرضا فيعطيه الشيء من ربحه مخافة أن يقطع ذلك عنه ، فيأخذ ماله من غير أن يكون شرط عليه ؟ قال : « لا بأس بذلك ما لم يكن شرطا » ( 12 ) . فطبقا لهذه الرواية يقوم المقترض بإعطاء مقدار من الربح ـ والذي هو متغير عادةً ـ للمقرِض ، والامام يجيب بأنّه إذا لم يكن هناك اشتراط فلا اشكال ، ووفقا لمفهوم الشرط تدل هذه الرواية علي أنّ الدفع لو كان علي أساس الشرط والتعهد لكان ربا حينئذٍ .

وبناءً عليه ، فملاك ومعيار الربا في الإسلام أخذ أي نوع من الزيادة علي أصل القرض ، أعم من أن يكون ميزان ومقدار الزائد قطعيا وثابتا أو متغيرا غير قطعي ، فإذا الربا المحرم في الإسلام يشمل المداخيل القطعية للمجتمعات التقليدية ، وكذلك المداخيل المتغيّرة للمجتمعات الحديثة والمتقدّمة ، لكن ـ وكما سيأتي ـ لا نوافق علي قطعية مداخيل المجتمعات التقليدية ، وعلي فرض وجود هذا الفرق ما بين المجتمعات التقليدية والحديثة فإنّ تعريف الربا في الإسلام عام وشامل لكلا النوعين من الدخل .

تصحيح استنتاج خاطئ :

انّ السبب الأساسي في اشتباه الدكتور غني نجاد في اختياره هذا التعريف للربا وطرحه لهذه النظرية ، هو الاستنتاج والفهم الخاطئ الذي خرج به الدكتور من كلمات أشخاص من قبيل محسن خان ومير آخور ( 13 ) ، فلم يقصد هؤلاء من « الدخل القطعي المعين سلفا » الدخل الواقعي الثابت المعين من قبل ، بل إن كلامهم غير ناظر أساسا لموضوع الدخل الواقعي أو المسمّي ، وإنّما المقصود هو انّه عندما يؤمّن المالك رأس مالٍ نقدي لمؤسّسةٍ تجاريةٍ فانّه يمكنه قبض سهمه من الناتج علي شكلين :

الأوّل : أن يتوافق مالك رأس المال مع مدير العمل الاقتصادي علي تقسيم الربح الحاصل بين الطرفين بعد تمام العملية الاقتصادية أو في نهاية كل مرحلة مالية متناسبة والنشاط الواقعي للمسؤول عن العمل ، وهذا هو نظام المشاركة الذي اعترف به الإسلام .

الثاني : أن يعيّن المالك قبل الشروع في العمل وبقطع النظر عن الأداء الواقعي للمؤسسة أو المركز التجاري دخلاً معينا ومشخصا يضعه في عهدة المسؤول عن العمل ، وهذا هو الربا الذي منعه الإسلام .

وخلاصة مقصود أمثال الدكتور مير آخور من عبارة « الدخل الثابت المعين من قبل » هو التعيين والتثبيت الحاصلين قبل الشروع في العمل ، لا الدخل القطعي الواقعي المعين الذي استنتجه الدكتور غني نجاد .

تحليل القيم والمداخيل في صدر الإسلام :

يبدو انّ الدكتور غني نجاد قد أسقط في تحليله الاقتصادي بعض العوامل المؤثرة في تغيير القيم النسبية ، والمستوي العام للقيم ( التضخم ) ، والحال انّ هذه العوامل ذات دور هام ـ سيما في المجتمعات التقليدية ـ في تغيير المستوي العام للقيم وخصوصا القيم النسبية ، فإنّ عوامل من قبيل الجفاف ، الحروب الطويلة الأمد ، الحوادث الطبيعية كالسيول والزلازل ، مختلف أنواع الأمراض العامة ، الآفات الزراعية والحيوانية ، عدم أمن طرق التجارة ، وعشرات العوامل الطبيعية وغير الطبيعية الاُخري كلها عوامل كان بمقدورها التأثير في القيم النسبية ، وفي حالة الاستمرار التأثير حتي في المعدل العام للقيم .

وبالرغم من انّ الكثير من هذه العوامل أصبح اليوم بفضل العلم والمعرفة قابلاً للتنبؤ به ومن ثمّ الحيلولة دونه بيد أنّ إمكانية مواجهته في الماضي لم تكن موجودة ، وفي النهاية فإنّ هذا النوع من العوامل كان له دور هام في الوضعية الاقتصادية للمجتمعات ، وفي استقرار وعدم استقرار القيم .

وحتي لو غضضنا الطرف عن عمومية ما أشرنا إليه ، فإنّ الحالة الاقتصادية لشبه الجزيرة العربية ـ لا سيما مكة والمدينة ـ تضع البناء النظري للتحليلات الاقتصادية ـ الاجتماعية التي طرحها الدكتور غني نجاد موضع الشك والتساؤل ، فمدينة مكة كانت علي مرّ التاريخ أرضا خاليةً من الماء والعلف تفتقد أيّة أرضية مساعدة للنشاط الاقتصادي المحلّي ، ولهذا السبب كان العمل الأساسي للناس فيها هو التجارة ، فتجّار قريش كانوا يتوجهون ناحية إلي اليمن في فصل الشتاء مجهزين برؤوس أموالهم ، وكانوا يقومون عن طريق ذلك بشراء ما يحتاجون إليه في عيشهم ، وكذلك الأمتعة والسلع القابلة للبيع للروم في بلاد الشام ، فيشترونها لهم ليبيعوهم إيّاها عند سفرهم إلي الشام في فصل الصيف ، وهكذا العكس ففي طريق العودة كانوا يشترون بضائع لبيعها في اليمن ، ووفقا لذلك كانوا يلعبون دور الوسيط التجاري بين بلدين كبيرين هما إيران والامبراطورية الرومانية عن طريق أسفارهم التجارية في الشتاء والصيف ، وحسب التعبير القرآني « رحلة الشتاء والصيف »( 14 ) التي كانوا يقومون بها بين الشام واليمن ، وتبعا لذلك فإنّ البضائع التي كانت تعرض في أسواق مكة كانت ـ في الغالب ـ من محصولات بلدان الهند ، واليمن ، وإيران ، وروما والتي كانت تصل إلي شبه الجزيرة العربية عن طريق التجارة كما هو الحال اليوم أيضا ، ومن الواضح كم يمكن لقيم مثل هذه البضائع أن تحظي بالثبات وتقدر عليه .

ونحن من جهتنا لا نكتفي ـ خلافا للنهج المعرفي للدكتور غني نجاد ـ بالتحليل النظري فحسب ، بل ندلّل عن طريق مراجعة روايات وتاريخ صدر الإسلام علي مقدار التغيّر والتبدّل في المعدل العام للقيم وكذلك في القيم النسبية ، بحيث كان الناس أحيانا يأتون إلي رسول اللّه‏ صلي‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم يشكونه غلاء السلع والبضائع ، أو عدم ثباتها ارتفاعا وانخفاضا ، مطالبينه بتثبيت الأسعار .

ونذكر هنا ـ عرضا لنماذج ـ بعضا من الموارد التي تبلغ المئات من الروايات والمستندات التاريخية الواردة في هذا الإطار .

1 ـ ينقل أنس بن مالك الرواية التالية : « غلا السعر علي عهد رسول اللّه‏ صلي‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم فقالوا : يا رسول اللّه‏ سعِّر لنا ، فقال : إنّ اللّه‏ هو المسعّر » ( 15 ) .

ويفهم من مطالعة الروايات الواردة حول زمان رسول اللّه‏ صلي‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم أنّ منهجه كان قائما علي نسبة تغييرات القيم المربوطة بالعلل الطبيعية إلي اللّه‏ تعالي ، وانّه كان في مثل هذه الحالات يتجنّب الاقدام علي تحديد الأسعار كائنا ما كان ، أمّا لو حصل ذلك اثر الربح المفرط وأعمال من قبيل الاحتكار ، وتلقي الركبان فانّه كان يقوم بخطوات لازمة تهيئ الأرضية لانخفاض القيم .

2 ـ « قيل للنبي صلي‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم : لو أسعرت لنا سعرا ، فإنّ الأسعار تزيد وتنقص ؟ فقال صلي‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم : ما كنت لألقي اللّه‏ ببدعة لم يحدث فيها إلي شيئا ، فدعوا عباد اللّه‏ يأكل بعضهم من بعض » ( 16 ) .

ولم يكن ارتفاع القيم من مختصات زمن الرسول صلي‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ، فبعده أيضا كانت الأسعار ترتفع وبسرعة أكبر ، والأمر الملفت الذي تصرّح به الروايات ـ ومن بينها الروايات الآتية الذكر ـ هو انّ ارتفاع حجم النقد في المجتمع كان يشكّل واحدا من العوامل الهامة التي كانت تلعب دورا في ارتفاع القيم آنذاك .

3 ـ وينقل عمرو بن شعيب فيقول : « قضي أبو بكر علي أهل القري حين كثر المال وغَلَت الابل أقام مئةٍ من الابل بستمئة دينار إلي ثمان مئة دينار » ( 17 ) .

4 ـ وعن أبي داود انّه قال : انّ دية القتل كانت 800 دينار أو 8000 درهم ، وعندما صارت الخلافة لعمر بن الخطاب خطب قائلاً : إنّ قيمة الابل قد ارتفعت ، ووضع بعد ذلك لصاحب الدينار 1000 دينار ديةً ، ولأصحاب الدرهم 12000 درهما ( 18 ) .

والذي يستنتج من هذا النقل أنّ قيمة الابل قد ارتفعت في مدة قصيرة ( سنتين وبضعة أشهر كحدّ أكثر ) خمسة وعشرين في المئة بالقياس إلي النقد الذهبي ، وخمسين في المئة قياسا إلي النقد الفضي ، وقد كان هذا الارتفاع ملموسا إلي درجة تأثيره في المحاكم القضائية ، وفي تعيين دية القتل أيضـا .

5 ـ وعن ابن سعدي : « كثر المال في زمن عثمان حتي بيعت جارية بوزنها ، وفرس بمئة ألف درهم ، ونخلة بألف درهم » ( 19 ) .

ومن البديهي عدم قصد الرواة في هذه الروايات ارتفاع قيم الابل ، والأحصنة ، والجواري وشجر النخيل فحسب ، بل انّ كافة القيم كانت قد تعرّضت للارتفاع نتيجة الارتفاع التدريجي لحجم النقد علي اثر الفتوحات ، والغنائم والضرائب الشرعية ، وليست الموارد السالفة الذكر سوي أمثلة ، والشاهد الواضح علي هذا الرواية التالية :

6 ـ عن موسي بن طلحة : « رأيت عثمان بن عفان والمؤذن يؤذن ، وهو يحدّث الناس يسألهم ويستخبرهم عن الأسعار والأخبار » ( 20 ) .

وقد استمرت الحال علي هذه الشاكلة بعد الخلفاء ، وفي زمن الامام الصادق عليه‏السلام ، ولعل جاذبيةً خاصة تثير الدكتور نجاد وزملاءه الفكريين إذا ما عرفوا أنّ هناك رواية عن الامام الصادق عليه‏السلام تشير إلي الآثار الاجتماعية للتزايد والارتفاع المتواصل للقيم ( التضخم ) ، وهذه الرواية هي :

7 ـ عن الصادق عليه‏السلام : « غلاء السعر يسيء الخلق ويذهب بالأمانة ويضجر المرء المسلم » ( 21 ) .

ومن الواضح انّ مقصود الامام عليه‏السلام هو الغلاء المتواصل لعموم القيم ( التضخم ) ، ذلك انّ الغلاء المؤقت أو غلاء بعض السلع لا يترك هذه الآثار السيئة الطويلة الأمد .

وهنا أدعو جناب الدكتور غني نجاد وبقية المحققين الباحثين في هذا المضمار لمطالعة الكتاب الذي نشر أخيرا كتحقيقٍ يخصّ النظام النقدي في صدر الاسلام ( 22 ) ، فقد تمّ في هذا التحقيق إثبات انّ النظام النقدي الحاكم علي الجزيرة العربية في صدر الإسلام كان نظاما ثنائي النقد ، أي نقدي الذهب والفضة اللذين كانا رائجين ضمن علاقة غير محددة فيما بينهما وكانا شائعين علي صورة سكتي الدينار والدرهم ، وقد أكّد هذا التحقيق بصورةٍ مدللةٍ علي انّ العلاقة ما بين الدرهم والدينار كانت خاضعة لتغييرات تبدأ من عشرة دراهم لكل دينار إلي خمس وثلاثين درهما للدينار الواحد ، وقد كانت هذه التغيرات واضحة وجلية إلي درجة انّ الشعب ومسؤولي الدولة كان يرتبون آثارا عليها ، كما كانوا يسألون الأئمة عليهم‏السلام فيما يتعلق بأحكام هذه الظاهرة .

وننقل ـ كنموذج ـ رواية هنا من الضروري الالتفات اليها :

8 ـ عن ابراهيم بن عبد الحميد عن العبد الصالح ( الامام الكاظم عليه‏السلام ) قال : « سألته عن الرجل يكون له عند الرجل الدنانير أو خليط له يأخذ مكانها ورِقا في حوائجه ، وهي يوم قبضها سبعة وسبعة ونصف بدينار ، وقد يطلبها الصيرفي وليس الورِق حاضرا ، فيبتاعها له الصيرفي بهذا السعر سبعة وسبعة ونصف ، ثمّ يجيء يحاسبه وقد ارتفع سعر الدينار ، فصار باثني عشر كل دينار ، هل يصلح ذلك له ، وإنّما هي له بالسعر الأوّل يوم قبض منه الدراهم فلا يضرّه كيف كان السعر ؟ قال : يحسبها بالسعر الأوّل فلا بأس به » ( 23 ) .

وهذه الرواية تدل ـ بوضوح ـ علي انّ العلقة القيمية بين الدرهم والدينار قد بلغت في مدة قصيرة الاثني عشر بعد أن كانت سبعة دراهم قبال كل دينار ، أي إنّ قيمة النقد الفضّي قد انخفضت إلي ما يقرب النصف قبال النقد الذهبي .

ومن الواضح لأساتذة أمثال الدكتور غني نجاد انّ النقد الذي تضعف قيمته قبال النقد الآخر في الأنظمة الثنائية النقد تحدث بالنسبة إليه تغييرات قيمية قبال السلع والخدمات وتضعف قدرته الشرائية ، أي اننا لو فرضنا انّ قيمة النقد القوي ثابتةً بالنسبة للسلع والخدمات فإنّ قيمة النقد الضعيف تضعف ازاء هذه السلع وهذه الخدمات ، وبعبارة اُخري ستتضاعف وبصورة متواصلة قيم السلع والخدمات بالنسبة إلي ذلك النقد ، وهذا ما يسمي في الكتب الاقتصادية المعاصرة بالتضخّم أو ارتفاع المعدّل والمستوي العام للقيم .

ونتيجة ما تقدم ، انّ الاقتصاد في صدر الإسلام لم تكن القيم النسبية فيه في حال تحوّل وتغيير فحسب بل حتي المعدّل العام للقيم كان هو الآخر متحوّلاً ومتغيرا ، ومن هذه الناحية ليس ثمّة فرق ما بين المجتمعات الحديثة المتقدّمة وتلك التقليدية القديمة ، لا أقل انّ الأمر ليس كذلك فيما يتعلق بالجزيرة العربية ، وأقصي ما يمكن وضعه من تفاوت هو انّ ذلك الزمان كان يحتوي مجموعة من العوامل التي كانت تؤدي إلي تغير القيم النسبية وحدوث التضخّم ، أمّا اليوم فقد تبدلت العوامل وأصبحت هناك عوامل اُخري ، لكن أساس القضية كان موجودا في كلا المجتمعين ، وبناءً عليه فكما هو الحال في المجتمعات الحديثة المتقدمة لو اقترض شخص وسمّي طبقا للتعاهد مقدارا اضافيا علي رأس المال فلا مجال للحديث فيه عن دخل قطعي واقعي معين من قبل ، كذلك الحال في المجتمعات التقليدية نظرا لوجود نفس السبب ألا وهو تغيّر القيم النسبية ووجود التضخم ، لاسيما منها تلك المجتمعات التي خضعت لنظام نقدي ثنائي تحكم العلاقة بين النقدين فيه حالةٌ من التغير والتبدّل .

وعليه ، فما جري تحريمه في صدر الإسلام بعنوان « الربا » ليس سوي الدخل المسمّي المتفق عليه بين الطرفين ، أي نفس الظاهرة المعاصرة التي تسمّي في النظام الرأسمالي السائد بالفائدة البنكية .

نظرية عائد النقد كواسطة وحاصله كرأسمال :

خلاصة النظرية :

اعتمدت النشاطات الاقتصادية في المجتمعات التقليدية القديمة علي الطاقة البشرية ، فلم يكن لرأس المال دور مهم في الانتاج ، فيما النقد مجرّد واسطة في المبادلة ما بين السلع والخدمات ، ولذلك كانت المدخرات النقدية الموجودة بيد مجموعة قليلة من الأفراد تُقرض بقيمة مرتفعة بغية سدّ الاحتياجات الاستهلاكية ، وهذا هو عين الربا الذي جري منعه في الإسلام ، لكن وبمرور الزمن وتوسع وتخصص الأنشطة الاقتصادية أصبح لعنصر رأس المال دور مهم ، واتخذ النقد لنفسه حاجة جديدة ، فلم يعد النقد ـ في النظام الجديد ـ مجرّد واسطة في التبادل ، بل اكتسب دورا أكثر أهمية كمدخرات لرأس المال يعتمد عليها ، وتعهدت قيمة الفائدة بلعب دور تنظيميٍّ ما بين المدخرات والاستثمارات ، وبناءً عليه تحوّلت الفائدة في النظام الجديد إلي حقٍّ ناشيًء من مشاركة رأس المال في رفع الطاقة الانتاجية في المجتمع .

توضيح النظرية :

« وبناءً عليه فالطلب بهدف الحصول علي رأس المال ـ وبطريق أولي السوق الرأسمالي ـ في اقتصاد معيشي مغلق أمرٌ لا وجود له من الناحية العملية ، من قبيل اقتصاد المجتمعات القروية والعشائرية ذات الاكتفاء الذاتي والذي يقوم فيها المنتجون ـ بالاضافة إلي إنتاج السلع الاستهلاكية المحتاج اليها من قبلهم ـ بإنتاج الوسائل الابتدائية للإنتاج ، ففي مثل هذه المجتمعات التي يقف فيها المحصول الإنتاجي في مستوي متدنٍّ جدا تكون إمكانية ادخار الأموال ضئيلة جدا أيضا ، وفي النهاية فإن إمكان تشكيل رأس مال سيكون أمرا محدودا بدرجة عالية جدا ، وبالرغم من وجود علاقات نقدية واقتصادية ـ بدرجات مختلفة ـ في المجتمعات التي سبقت مرحلة الرأسمالية بيد أنّ هذه العلاقات تقع في الغالب علي هامش النشاطات الإنتاجية الأساسية ، ومن هنا فإنّ النقد المدّخر الناشئ عن التجارة في مثل هذه المجتمعات ـ مع الأخذ بعين الاعتبار الدور المهم له في الأنظمة الاقتصادية الجديدة ـ ليس شبيها بادخار المال في المجتمعات المتمدّنة ، فأصحاب الأموال المدّخرة في المجتمعات المذكورة [ = القديمة ] يتمتّعون بموقعية حصرية بل يمكن القول استثنائية ، ومن هذه الجهة كان بإمكانهم المطالبة بسعر مرتفع جدا من الربا قبال القروض التي يقدمونها ، ومع إمكانية اعتبار هذه الأسعار المرتفعة للربا علامة علي نقص المختزنات النقدية لكن لا يمكن أخذ ذلك كمؤشر علي الناتج النهائي المرتفع لرأس المال ، ذلك انّه ـ وكما اشير من قبل ـ لم يكن للطلب وسوق رأس المال بالمفهوم الاقتصادي أي وجود أصلاً .

وبعبارة اُخري :

انّ هذا المسار العملي الاقتصادي والاجتماعي الهام الذي يملكه رأس المال في الأنظمة الاقتصادية الحديثة لم تكن تملكه عمليات ادخار الأموال في العالم القديم من الناحية العملية لقد كان الدور الرئيس للنقد في المرحلة القديمة قائما علي كونه واسطة في التبادل بحيث فصل مفكرون من أمثال أرسطو النقد عن مقولة الثروة وتبعا لهذا الحكم فيما يخص دور النقد يحكم أرسطو بأنّ مضاعفة رأس المال في حالة الإقراض [ = الربا ] يمثل أمرا غير طبيعي وغير عادل لكنه وبمرور الأيّام وتوسع العلاقات الاقتصادية للسوق وتقسيم العمل والتخصصية قدر الإمكان في الإنتاج وظهور النظام الاعتباري والبنكي الجديد أصبح للذخائر دورٌ هام علي الصعيد الاقتصادي كرأسٍ للمال ، فتوسعة نُظُم السوق أوجبت نفوذ العلاقات النقدية في كل زوايا الحياة الاقتصادية ، ففي النظام الاقتصادي الجديد لم يعد النقد مجرد وسيلة للتبادل بل اكتسب دورا مهما وأساسيا آخر أيضا وهو كونه ذخيرة لرأس المال ومقياسا أيضا ، وفي هذا النظام تتبدل المدخرات بسهولة في إطار رفع الحاصل الإنتاجي عن طريق النقد إلي رأس مال ، فرؤوس الأموال الصغيرة والمتوسطة تظهر في ظل توسع نظم السوق وارتفاع المحصول الإنتاجي ، وهو ما لم يكن قابلاً للتصوّر من قبل ، وهذه المدخرات التي تتضاعف يوميا تؤمّن ـ عن طريق مؤسسات الإيداع والبنوك الجديدة ـ إمكانات الاستثمار الكبيرة في المجتمع ، ودورُ تنظيم العلاقة بين المدخرات والاستثمارات في اقتصاد السوق الواسع يقع علي عاتق قيمة فائدة رأس المال [ = الفائدة البنكية ] .

فالفائدة البنكية ظاهرة جديدة متمايزة تمايزا كاملاً عن الربا ، وخلافا للتصور السائد ليس للأوّل منهما أساس في الثاني كما انّه ليس نتيجة تحوليّةً له فقيمة الفائدة الواقعية المستقلّة عن الارادة الفردية وحتي عن الدولة تتعين من خلال ميكانيزما السوق ، وهي في الحقيقة تحكي عن قلة الخزينة من جهة والناتج النهائي لرأس المال من جهة اُخري ، فالدور الأساسي للفائدة في النظام البنكي عبارة عن توجيه المدخرات ـ لا سيما منها المتوسطة والصغيرة ـ نحو الاستثمار ، فالشخص الذي يدّخر أمواله بإمساكه عن الاستهلاك الآني يؤمّن إمكانية تشكيل رأس مال واستثمار ، وهو ما يعني ارتفاع معدلات الإنتاج في المستقبل ، أي انّ الإمساك عن الاستهلاك الآني يوجب زيادة المحصولات الإنتاجية في المستقبل ، والشخص المدخر ـ وبسبب حرمانه نفسه عن الاستهلاك فترة زمنية معينة وتحمله ما بين الإنتاج والاستهلاك ـ يقبض قسما من المحصول الإضافي للإنتاج في المستقبل علي صورة الفائدة ، وفي هذا الإطار تصبح الفائدة حقا ناشئا عن المشاركة في رفع القدرة الإنتاجية ، ومن البديهي عدم إمكانية تصوّر مثل هذا النظام إطلاقا في اقتصاد تقليدي معيشي لا يعرف غير رؤوس الأموال الصغيرة والمتوسطة ، بل انّ الانتاج فيه ليس مبنيا أساسا علي الاستثمار ، وبناءً عليه فمجرّد الشبه الظاهري الموجود لا يخوّلنا التوحيد بين الفائدة البنكية التي لا إمكانية لتحقّقها في المجتمعات التقليدية المعيشية وبين الربا في تلك المجتمعات » ( 24 ) .

المحاور الرئيسية للنظرية :

تبتني النظرية أعلاه علي مجموعةٍ من المقدّمات توجز فيما يلي :

1 ـ ليس لرأس المال في المجتمعات التقليدية المعيشية دور مهم في الانتاج ، أمّا النقد فقد كان يستخدم كوسيلة مبادلةٍ بين السلع والخدمات ليس إلاّ .

2 ـ لم يعتنَ في هذه المجتمعات بالمدخرات النقدية نظرا لانخفاض مستوي الانتاج والدخل ، ونتيجة عدم الحاجة إلي رأس المال لم تكن هناك عمليات اقتراض للنقد بغية القيام باستثمارات ، وبالتالي فلم يكن هناك وجود للسوق الرأسمالي .

3 ـ تنحصر المدخرات النقدية في هذه المجتمعات بيد عدة قليلة من الأفراد كانت تقرضها وباسعار مرتفعة لأهداف لا تمتّ للاستثمار بصلة ، وهذه القيم المرتفعة وإن كانت ترشد إلي وجود النقص في المدخرات النقدية ، لكنها غير قادرة علي فعل ذلك أبدا إزاء الناتج النهائي لرأس المال .

4 ـ لرأس المال دور إنتاجي فاعل في المجتمعات الحديثة المتقدّمة ، ولم يعدّ النقد فيها مجرّد وسيلة تبادلية ، وإنّما حاز علي دور هامّ آخر يتعلّق بادخار رأس المال .

5 ـ تلعب الفائدة البنكية دور المنظّم للعلاقة ما بين المدخرات النقدية والاستثمارات ، وتتعين وفقا لميكانيزما السوق بعيدا عن الإرادات الفردية وحتي الحكومية ، وتعبّر ـ في الحقيقة ـ عن نقص المدخرات النقدية من جهة والناتج النهائي لرأس المال من جهة اُخري .

6 ـ في المجتمعات المعاصرة ، يساهم أصحاب رؤوس الأموال ـ نتيجة إمساكهم عن الاستهلاك الفعلي ـ في مضاعفة المحصول الانتاجي في المستقبل ، وتنشأ الفائدة البنكية ـ نتيجة ذلك ـ كحقٍّ قبال المساهمة في رفع مستوي الانتاج ، ومن هنا لا يمكن المساواة ما بين ربا المجتمعات التقليدية الذي يعبر عن نوع من الأرباح التي يحققها النقد كواسطة مبادلة بين السلع والخدمات وبين فائدة النظام الرأسمالي المعاصر الناشئة من حاصل رأس المال في عملية الانتاج .

تقييم النظرية :

الجدير ذكره ـ بداية ـ انّ هذه النظرية كسابقتها قد اعتمدت إجراء مقايسة ما بين الاقتصاد الجديد والاقتصادات المعيشية التقليدية ، ومن الطبيعي هنا ظهور تساؤل في الذهن وهو : إلي أيّ حدّ لابدّ لنا أن نرجع إلي الوراء في هذه المقايسة ؟ بمعني بأيّ اقتصاد نقايس الاقتصاد المعاصر والرأسمالي من حيث الزمان والمكان ؟ هل يمكن بمقايسة الاقتصاد المتطور للبلدان المتقدمة مع اقتصاد ألفين وأربعمئة سنة سابقة لدي اليونان القديمة ـ أي تلك الفترة التي أبدي أرسطو فيها وجهة نظره حول الربا ـ الحكم فيما يتعلّق باقتصاد الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي ( قرن ظهور الإسلام ) ، ومن ثمّ تحديد المقصود اسلاميا من الربا ؟ وعن أي نوع من عوائد النقد منع الإسلام بتحريمه الربا ؟

وكما تقدم في النظرية السابقة ، فإنّ هدفنا دراسة الربا الذي كان شائعا في صدر الإسلام ، والذي منع المولي سبحانه عنه بنفسه في آيات تحريم الربا ، وبناءً عليه فمن اللازم لدي بيان أو تقييم النظريات المتعلقة بالمفاهيم الدينية دراسة الظروف التي كانت حاكمة علي ذلك الزمان والمكان ، والذي يبدو أنّ الدكتور غني نجاد أبدي مقدارا من الافراط في البحث التاريخي ، وقام بالرجوع إلي الوراء مرحلة كاملة ، وكمثال علي ذلك علي الصعيد الزراعي في تلك المرحلة القديمة التي عاد إليها الدكتور غني نجاد هو أنّه لم تكن هناك حاجة إلي شراء أو استيجار الأرض نظرا لكثرة الأراضي ، وهكذا فقد كان المطر غزيرا إلي درجة عدم وجود حاجة إلي حفر الآبار والعيون والقنوات ، فكل مزارع يملك مقدارا لازما من البذور ، ولم تكن المرحلة قد وصلت إلي الاستفادة من المحراث وأدوات الحراثة ، وبناءً عليه فإنّ رأس المال ـ الأرض ، الماء ، البذر ، البقر وأدوات الحراثة ـ لم يكن ذا دور هام في الانتاج ، كما لم يكن مطروحا موضوع النقص فيه حتي تكون هناك مبادلات بواسطة النقد ، وفي النهاية تشكّل سوق لرأس المال ، أو أن يعمد المزارع إلي الاقتراض لتهيئة ذلك حتي يتخذ النقد ـ علاوة علي خصوصية الواسطة في التبادل ـ دورا أساسيا في تشكيل رأس المال .

الأوضاع الاقتصادية في الجزيرة العربية صدرَ الإسلام :

لا نقصد من صدر الإسلام هنا خصوص السنوات الاُولي من البعثة أو عصر النبوّة ، وإنّما تلك المرحلة الزمنية التي بدأت منذ ما يسبق البعثة بسنوات وامتدت حتي عصر حضور الأئمة المعصومين عليهم‏السلام والتي تشمل حوالي ثلاثة قرون ، أي تلك المرحلة التي نزلت فيها الآيات القرآنية وصدرت فيها الروايات عن المعصومين عليهم‏السلام ، وكما تقدم ، فمن الشروط اللازمة للوصول إلي فهم صحيح لمعاني المفردات المستعملة في الآيات والروايات ، الاطلاعُ علي الأوضاع الاقتصادية والعلاقات المالية التي كانت موجودة في ذلك الزمان بين الناس .

لقد انهارت تجارة الشرق والغرب قبل الإسلام والتي كانت تتم ـ عمليا ـ عبر تجار الامبراطوريتين الرومانية والفارسية عن طريق البحر ؛ وذلك نتيجة الحروب الطويلة الأمد التي كانت تقع بين هاتين الدولتين العظميين ، أمّا الجزيرة العربية فلم تحظَ بالاهتمام أو التسابق بين الدولتين العظميين آنذاك نتيجة الأوضاع المائية والطقس الحار ، والطبيعة الصحراوية فيها ، امّا سكانها ـ وخصوصا أهل مكة ـ فلم يتمكنوا من القيام بنشاط زراعي نتيجة المناخ غير الملائم ، وإنّما اتجهوا بدلاً عن ذلك إلي التجارة ، انّ العزة والاحترام اللذين كان يحوزهما المكيّون أمام الأقوام والقبائل الاُخري ، والنشاطات الواسعة لزعماء قريش في عقد الاتفاقات التجارية مع دول ايران وروما والحبشة والحيرة كل ذلك جعل تجارتهم ذات طابع دولي ، فقد كانوا ـ بإرسالهم القوافل التجارية الكبيرة ـ يشترون بضائع الشرق من مرافئ اليمن وعمان ومن مدينة الحيرة ليقوموا ببيعها في بلاد الشام والحبشة ، وفي طريق العودة كانوا يهيئون البضائع من الغرب ويحملونها إلي بلاد الجنوب .

وقد حازت التجارة لدي المكيين أهمية فائقة إلي درجة أنّ بعض المؤرخين كان يري التجارة السبب الرئيسي لحرب المشركين في مكة مع النبي صلي‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم بعد الهجرة إلي المدينة ، فالمسلمون المهاجرون الذين صودرت أموالهم من قبل مشركي مكة قاموا بحملة علي القوافل التجارية لقريش هدّدت أمنها بالخطر ، وطبقا لنقل المؤرخين فقد كان صفوان بن اُمية يحثّ زعماء قريش علي قتال النبي صلي‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم قائلاً : « إنّ محمّدا وأصحابه قد عوّروا علينا متجرنا ، فما ندري كيف نصنع بأصحابه وهم لا يبرحون الساحل ، وأهل الساحل قد وادعوه ودخل عامتهم معه ، فما ندري أين نسكن ، وإن أقمنا في دارنا هذه أكلنا رؤوس أموالنا فلم يكن لها من بقاء ، وإنّما حياتنا بمكة علي التجارة إلي الشام في الصيف وإلي الحبشة في الشتاء » ( 25 ) .

بل لقد بلغت سعة تجارة قريش حدّا كانت تبلغ فيه القافلة حِمل ألف بعير ، وعلي سبيل المثال جاء في التاريخ أنّ قافلة ذهبت إلي الشام بقيادة أبي سفيان ، وقد كانت علي مقربة من شنّ حملة عليها من قبل المسلمين في معركة بدر ، وكانت مكوّنة من حِمل ألف بعير من البضائع التي قيمتها خمسون ألف دينار ـ حوالي مليار تومان ايراني بالقيمة المعاصرة ـ ، وقد شارك في هذه القافلة كافة أبناء مكة ، وكتب المؤرخون أنّه لم يبق رجل أو امرأة لم يستثمر في هذه القافلة لا أقل بدينار واحد ( 26 ) .

وعقب هجرة المسلمين إلي المدينة عمل عدّة من المهاجرين في مزارع وبساتين الأنصار فيما قضي قسم كبير منهم حياته في الفقر والحاجة ، ذلك انّ هؤلاء المهاجرين كانوا بالأساس تجّارا تركوا رؤوس أموالهم في مكة بعد خروجهم منها ، ورويدا رويدا أخذت أوضاع المسلمين المالية بالتحسّن ولا سيما بعد الحرب مع مشركي مكة والحصول علي غنائم كثيرة ، وقد أقام النبي صلي‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم للمسلمين سوقا ، وشكّل قوافل لتجارتهم إلي بلاد الشام والعراق كي يعملوا في التجارة ( 27 ) .

وبالرغم من أنّ تجارة قريش سقطت عن موقعيتها عقيب فتح مكّة إلاّ انّ تجارة العرب أخذت بالتوسّع إلي حدّ غير عادي ، إلي درجة انّ بعضهم قلّ حضوره بين يدي الرسول صلي‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم بسبب مشاغل التجارة ، وللمثال ، ينقل عمر ويقول : « أخفي علي [ هذا ] من أمر رسول اللّه‏ صلي‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ؟ ! ألهاني الصفق بالأسواق » ( 28 ) .

دور رأس المال في الأنشطة الاقتصادية صدر الإسلام :

لو قبلنا ـ فرضا ـ بتحليل الدكتور غني نجاد فيما يتعلق بالمجتمعات التقليدية القروية وعدم وجود دور لرأس المال فيها علي صعيد النشاط الزراعي والحيواني ، لكن من الواضح انّ المحور الأساسي في النشاطات التجارية لاسيما الدولية منها كان رأس المال ، وبهذا اللحاظ لعب رأس المال دورا أوليا ورئيسا في النشاطات الاقتصادية لأهل مكة ، فبعض تجّار قريش كان يمارس التجارة بنفسه وبرأس ماله فيما كان البعض الآخر يحصل علي المال عن طريق المضاربة أو القرض الربوي ، والبعض من الأثرياء من أمثال أبي سفيان وعثمان بن عفّان كان ـ علاوة علي التجارة المباشرة ـ يشارك برأس ماله مع القوافل الاُخري عن طريق الربا ، وقسم آخر كان يسعي لتوزيع رأس ماله بغية توزيع الخطر واحتمال الخسارة ، وكنموذجٍ علي هؤلاء العباس عم النبي صلي‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ، فعلاوة علي امتلاكه متجرا في مدينة مكة كان يشارك بنفسه في القوافل التجارية ، وإلي جانب ذلك كلّه كان يضع قسما من أمواله تحت تصرّف التجّار عن طريق الربا ، وقسما آخر منها يودعه ـ مضاربةً ـ عند تجار آخرين ، وكان يضع عليهم الشروط ويأخذ منهم التعهّدات والمواثيق بحيث لو تجاوزوا الشروط المذكورة فسيتحملون حينئذٍ الخسارات المحتملة ( 29 ) .

دور النقد في الأنشطة الاقتصادية صدر الإسلام :

كما تقدّم ، شكّلت التجارة العمل الأساسي لأهل مكة ، وقد كانت رؤوس الأموال التجارية تؤمّن عن طريق أشكال ثلاثة :

أ ـ إمّا أن يكون التاجر نفسه من الأثرياء ، ويقوم بوضع رأس ماله الخاص معرض الشراء والبيع .

ب ـ أو أن يقوم بالمضاربة من خلال أخذ مبلغ من الدراهم كرأس مال من صاحب النقد ويتفق معه علي تقسيم الربح الحاصل من التجارة في نهاية المدّة وفقا للنسبة المتفق عليها في العقد .

ج ـ أمّا الشكل الثالث فكان هو الربا ، ويقوم فيه مالك النقد بإقراض رأس المال اللازم قبال تعهّد المقترض ( التاجر ) بأن يعيد ـ علاوة علي رأس المال ـ فائدة المبلغ المقرَض في الوقت المحدد . وهذه الطريقة في تأمين رأس المال كانت شائعة بين العرب إلي حدّ انّ الإسلام حينما حرّم الربا اعترض عليه أصحاب رؤوس الأموال وتجّار قريش متعجّبين قائلين : « إنّما البيع مثل الربا »( 30 ) ، فلماذا أحلّ اللّه‏ الأوّل وحرّم الثاني ؟ فكما يجوز شراء بضاعةٍ ما بعشرة دراهم ومن ثمّ بيعها باثني عشر درهما والحصول علي الربح نتيجة ذلك ، لابدّ أن يكون إقراض عشرة دراهم وأخذها اثني عشر والربح وفقا لذلك هو الآخر جائزا .

ربما يكون من المثير لأصحاب هذه النظرية معرفة انّ تجّار مكة كانوا يرون الربا اُجرة لرأس المال وقبال الفرصة التي أضاعوها فيه ، ويبيّن الفخر الرازي ـ أحد كبار المفسرين الذين كانوا يعيشون قبل مئات السنين من انعقاد نطفة النظام الرأسمالي الغربي ـ اعتراض قريش علي تحريم الربا فيقول : « فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون لبقاء رأس المال في يده مدّة مديدة عوضا عن الدرهم الزائد ، وذلك لأنّ رأس المال لو بقي في يده هذه المدة لكان يمكن المالك أن يتجر فيه ويستفيد بسبب تلك التجارة ربحا ، فلمّا تركه في يد المديون وانتفع به المديون لم يبعد أن يدفع إلي ربّ المال ذلك الدرهم الزائد عوضا عن انتفاعه بماله » ( 31 ) .

والأكثر لطافةً هو أنّ الفخر الرازي يجيب نفسه عن هذا الاستدلال بجواب أستبعد أن تكون لعشاق النظام الرأسمالي قدرة تحليله ، وفقط يمكن إدراك هذا المطلب لأساتذة أمثال مين اسكي ، ومارتن وايتزمن ، وليندل برغر ، وكاري كن ، وغولمب ومينجو ، ويمكن لهؤلاء فهم هذه الحقيقة فقط بعد عجز نظام الفائدة عن تحليل الديون وعجز الدائنين عن تسديدها ، وفي نهاية المطاف سراية المشكلة إلي المؤسسات النقدية ، وإفلاس البنوك الربوية ، وكذلك بعد اجتماع الفدرالية الأميركية للبحث عن بديل لنظام الفائدة ( 32 ) .

ولعل القضية تصبح مثار تعجّب لأمثال الدكتور غني نجاد إذا ما اطلعوا علي أنّ فريقا في زمن الجاهلية قبل الإسلام كان يعمل تماما كالبنوك المعاصرة اليوم ، فقد كانوا يقترضون بالفائدة من جهة فيما كانوا ـ من جهة اُخري ـ يقرضون بفائدة أكبر ، وقد كان ذلك المصدر الوحيد لدخلهم ، وينقل المفسرون انّ هذه الآية نزلت في بني عمرو بن عمير بن عوف الثقفي ، ومسعود بن عمرو بن عبد ياليل بن عمرو ، وربيعة بن عمرو ، وحبيب بن عمير ، وكلهم اُخوة وهم الطالبون ، والمطلوبون بنو المغيرة من بني مخزوم ، وكانوا يداينون بني المغيرة في الجاهلية بالربا ، وكان النبي صلي‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم صالح ثقيفا ، فطلبوا رباهم إلي بني المغيرة ، وكان مالاً عظيما ، فقال بنو المغيرة : واللّه‏ لا نعطي الربا في الإسلام وقد وضعه اللّه‏ ورسوله عن المسلمين ، فعرّفوا شأنهم معاذ بن جبل ـ ويقال عتاب بن اسيد ـ فكتب إلي رسول اللّه‏ صلي‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم : انّ بني بن عمرو وعمير يطلبون رباهم عند بني المغيرة ، فأنزل اللّه‏ « يا أيّها الذين آمنوا اتقوا اللّه‏ وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين » ، فكتب رسول اللّه‏ صلي‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم إلي معاذ بن جبل : أن أعرض عليهم هذه الآية ، فإن فعلوا فلهم رؤوس أموالهم ، وإن أبوا فآذنهم بحرب من اللّه‏ ورسوله ( 33 ) .

وبناء عليه ، يمكن استنتاج أنّ العرب التجّار من قريش كانوا يعتبرون ـ أوّلاً ـ أنّ النقد يمثل رأس مال نقدي ويمكن تحصيل الربح عن طريق بيعه وشرائه والمضاربة والترابي به ، ومن هنا عبر القرآن عند تحريمه الربا عن المال المقرَض برأس المال : « وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم »( 34 ) .

كما انّ مقتضي تناسب العمل ووفق تصريح الكثير من المؤرخين ـ ثانيـا ـ كون أغلب القروض الربوية كان بهدف تأمين رأس مال تجاري وبغية تحصيل المداخيل واكتسابها ، ومن هنا ينقل الطبري والنخعي أنّ أصحاب الثروة في أيّام الجاهلية كانوا يقرضون الأفراد وذلك حتي يتمكن المقرِض عن طريق توظيف الأموال من تحصيل الربح ومن ثمّ مضاعفة أمواله وتكثيرها .

أمّا ثالثا فقد كانوا يعتبرون الربا ناتجا لرأس المال وكانوا ينظرون إليه كربح البيع والمضاربة ، ومن هنا وعندما جري تحريم الربا سجّلوا اعتراضهم بتشبيههم الربا بالبيع ، وجري الحديث عن مقابلٍ لتقديم رأس المال .

ووفقا لما تقدم يمكن استنتاج أنّ رأس المال ـ لاسيما منه النقدي ـ كان ذا دور مؤثّر في الأنشطة الاقتصادية ( التجارية ) قبل الإسلام ، وقد كانت له قيمة انطلاقا من النقص الحاصل فيه ، وكان الربا تعبيرا آخر عن هذه القيمة ، أمّا ميزان الربا فكان مرهونا بشكل تام لربح رأس المال في النطاق التجاري ، ذلك انّه لم يكن هناك تاجر حاضرٌ للتعهد بدفع مقدار أزيد من الربح المتوقع ، وهذا الأمر ليس سوي ذاك الاتحاد الماهوي الموجود ما بين الربا والفائدة .

دور النقد ورأس المال بعد الإسلام :

خلافا لتصور جماعةٍ تري انّ الطريق الوحيد لتحويل رؤوس الأموال النقدية إلي استثمارات إنّما هو نظام الفائدة ، وانّ تحريم الربا ومن ثمّ تطبيقه علي الفائدة البنكية يؤدي إلي ركود رؤوس الأموال النقدية خلافا لهؤلاء فإنّ طرقا كثيرة كانت موجودة بعد الإسلام وبعد تحريمه الربا وتأمين رؤوس الأموال عن طريق الأنشطة الاقتصادية الناشئة من الاستقراض الربوي ، وذلك من أمثال المشاركة والمضاربة والمزارعة والمساقاة ، وكانت تمثل تشكيلاً لرأس المال وتركيبا ملفقا ما بينه وبين العمل ، وأصبحت هناك ـ نتيجة ذلك ـ سيطرة لادارة جديدة تتحكم بوضع القيم وتنظيم سوق رأس المال .

انّ اُولئك الذين يلقون بأبصارهم إلي الإسلام عن بُعد يرونه صغيرا ، لكنهم إذا ما أزالوا الحجب والأستار من الطريق ومن ثمّ اقتربوا من الإسلام أكثر فانهم سيجدون حينئذٍ جواهر ثمينة وقيّمة ، وإذا ما كان علماء الاقتصاد بعد قرون من البحث والتفكير قد ركّزوا نظراتهم علي أهمية رأس المال ووسائل تطويره ، فإنّ الامام الصادق عليه‏السلام وقبل ألف وعدة مئات من السنين كان يري أنّ قوام الإسلام والمسلمين إنّما يكون في الادارة الصحيحة للأموال ووضعها في يد أشخاص أخصائيين ، ولعل أفضل طريقة لبيان عرض واضح عن موقعية النقد ورأس المال بعد الإسلام ونحو تعاطٍ وتفهم الناس لهذين الأمرين وللعلاقة بينهما ، كما والعلاقة بين الربا والربح هو نقل عدة أحاديث في هذا الخصوص هي :

1 ـ عن الصادق عليه‏السلام : « انّ بقاء المسلمين وبقاء الإسلام أن تصير الأموال عند من يعرف فيها الحق ، ويضع المعروف ، وانّ من فناء الإسلام والمسلمين أن تصير الأموال في أيدي من لا يعرف فيها الحق ولا يصنع فيها المعروف » ( 35 ) .

2 ـ وعنه عليه‏السلام : « ما يخلف الرجل بعده شيئا أشدّ عليه من المال الصامت ، قال : قلت له : كيف يصنع به ؟ قال : يجعله في الحائط والبستان والدار » ( 36 ) .

3 ـ وعن ابن العذافر قال : أعطي أبو عبد اللّه‏ أبي ألفا وسبعمئة دينار فقال له : اتّجر بها لي ، ثمّ قال : امّا انّه ليس لي رغبة في ربحها ، وإن كان الربح مرغوبا فيه ، ولكنني أحببت أن يراني اللّه‏ عزوجل متعرّضا لفوائده ، قال : فربحت له فيه ( منها ) مئة دينار ثمّ لقيته فقلت له : قد ربحت لك فيه مئة دينار ، قال : ففرح أبو عبد اللّه‏ بذلك فرحا شديدا ، ثمّ قال : أثبتها « لي » في رأس مالي » ( 37 ) .

4 ـ وعن علي بن جعفر في كتابه عن أخيه موسي بن جعفر عليه‏السلام قال : « سألته عن رجل أعطي رجلاً مئة درهم يعمل بها علي أن يعطيه خمسة دراهم أو أقلّ أو أكثر ، هل يحل ذلك ؟ قال : هذا الربا محضا » ( 38 ) .

5 ـ وعن إسحاق بن عمار عن أبي الحسن عليه‏السلام قال : « سألته عن الرجل يكون له علي رجل مال قرضا ، فيعطيه الشيء من ربحه مخافة أن يقطع ذلك عنه فيأخذ ماله ، من غير أن يكون شرط عليه ، قال : لا بأس بذلك ما لم يكن شرطا » ( 39 ) .

والروايات في هذا المجال كثيرة جدا ، وقد اكتفينا بنقل خبر واحد من كل طائفة منها ، وهذه النصوص تدل بوضوح علي انّ النقد ورأس المال كان لهما بعد الإسلام دور هام وأساسي في الأنشطة الاقتصادية ، كما لم يكن يخفي علي أحد إنتاجه الربحي ، وبالرغم من أنّ الناس كانت علي علم بأنّ صاحب النقد يقدم بإقراضه للغير فرصة للمقترض منه وأنّه كان يمكنه لولا القرض الاستفادة منها بالربح وتحقيق الدخل والفائدة ، لكنهم في الوقت نفسه كانوا يعتبرون ـ وتحت ظلال التعاليم القرآنية ـ أن وضع العلاقة ما بين صاحب النقد والمستثمر علي أساس الربا ممنوع وحرام لما فيه من الظلم .

هدف الإسلام من تحريم الربا :

من المناسب ـ بدايةً ـ هنا توضيح أحد الاشتباهات التي وقع فيها بعض المحققين في الاقتصاد الاسلامي مما أثار أحاسيس البعض .

لقد حاول بعض المحققين وبهدف تبرير قضية تحريم الربا عرض نظرية تقوم علي التفكيك الماهوي ما بين النقد ورأس المال ، أي انّه أخرج النقد عن دائرة رأس المال ومنحه ماهية منفصلة ومستقلة ، ومن ثمّ اعتبره محتاطا رأس مال بالقوّة ، ويقول هؤلاء انّ الإسلام يوافق علي دور رأس المال في النشاطات الاقتصادية ، ويعترف بمساهمته في الربح ، أمّا النقد فحيث لا يملك دورا في عملية الانتاج فإنّ تخصيصه بناتج يعد ربا محرّما ، ولم يوافق البعض علي هذا المقدار فأنكر أيضا أي امتياز للحالتين في الاقتصاد الاسلامي .

لكن هذه النظرية تعاني من عدة إشكاليات هي :

أوّلاً : انّ هذا التفكيك مخالف للتعبير القرآني وللسنة والفقه والاقتصاد وعرف السوق والمحاسبات ، ذلك انّ النقد الذي يقع في إطار تحصيل الدخل هو « رأس المال » وفقا لكافة هذه الاطلاقات ، ولذلك فإنّ رأس المال المتداول والذي يحفظ ـ نوعا ـ علي صورة نقد في الصندوق أو الحساب البنكي يعدّ جزءا من رأس مال المؤسسات والمراكز المالية .

ثانيـا : علي فرض اننا وافقنا علي هذه المقولة ، وهي انّ النقد ليس عاملاً من عوامل الانتاج ( ليس له دور مباشر في عملية الانتاج ) وبناءً عليه فليس لنا الحق في وضع اسم رأس المال عليه ولو بعنوان رأس مال نقدي ، بيد أنّه لا يمكن إنكار قابلية النقد ـ لاسيما في المجتمعات الحديثة المعاصرة ـ قابلية عالية للتبدل إلي رأس مال مادي وعيني ، فالمؤسسة أو المركز التجاري الذي يملك نقدا في الحساب البنكي أعم من كون هذا النقد منه أو استقرضه من غيره يمكنه في أسرع وقت وبإمضاء شيك واحد تأمين أفضل رأس مال مادي للانتاج ، وبالتالي رفع أرباحه ومداخيله ، اذن فنحن نعطي بتحويلنا المال إلي القابض حتي ولو بشكل غير مباشر فرصة استثمارية ، انتاجية ، ربحية . وهذا الأمر لا فرق بينه وبين العطاء المباشر لرأس المال في الاقتصاد الواقعي .

وفي الحقيقة ، انّ سؤالنا الذي نوجهه إلي القائلين بنظرية التفكيك هذه هو : هل انّ هذا المقدار من المائز ما بين التقديم المباشر وغير المباشر لرأس المال يفرض علينا القول بأنّ المقرِض المباشر يملك سهما من الربح ، امّا المقرض غير المباشر لرأس المال ( مالك النقد ) فليس له أي سهم ، ولابدّ له من أخذ أصل ماله فقط ؟

وهذا المطلب الذي يبدو غير منطقي إطلاقا دفع أفرادا من أمثال الدكتور غني نجاد إلي التأمل حتي يثبتوا وبأي طريق ممكن ومتوفر انّ النقد اليوم مغاير له بالأمس ، فالنقد اليوم علي هذه الشاكلة امّا بالأمس فقد كان علي وضعية اُخري .

ثالثـا : انّ هذا التفكيك مخالف للفقه الاسلامي ، فمنذ بداية الإسلام وحتي اليوم لم يقل أي فقيه لا من الشيعة ولا من السنة بوجود فرق ما بين النقد وغيره ، وكما هو الحال في حرمة إعطاء النقد وأخذه إذا كان مع زيادة حيث انّه ربا ، كذلك الحال في إعطاء أي مال غير نقدي ، فاذا أقرض شخصٌ ما طنّا من القمح لمزارع من المزارعين وقام المزارع باستهلاكه أو ببذره في الأرض فإنّ أخذ أي نوع من الزيادة علي المقدار الأصلي يعدّ ربا محرما ، وكذلك إذا أقرض عشر جرارات زراعية ( الأمر الذي يعد كونه من رأس المال أمرا مسلّما ) لمركز زراعي وكان يريد ـ بعد مدة ـ أخذ أحد عشر جرارا زراعيا أو عشرة جرارات زراعية مرفقة بمقدار من النقد فإنّ ذلك ـ هو الآخر ـ ربا وحرام ، وبناء عليه فمن وجهة نظر الفقه الاسلامي لا فرق أبدا بين أن يقرض المقرِض نقدا أو سلعة استهلاكية أو سلعة يمكن جعلها رأس مال فإنّ أخذ الزيادة في الصور كلها يعد من الربا ويكون محرّما حينئذٍ .

وما تقدّم لا يسقط فقط نظرية التفكيك ما بين النقد ورأس المال عن الاعتبار ، بل يدلل أيضا علي أنّ نظرية « رأس مالية النقد » التي طرحها الدكتور غني نجاد لا تحل المشكلة هي الاُخري ، ذلك انّه حتي لو افترضنا الموافقة علي كافة مقولاته وهي انّ النقد في المجتمعات التقليدية وحتي في صدر الإسلام كان يمثل مجرد وسيلة لتبادل السلع والخدمات الاستهلاكية ولم يكن له أي دور في عمليات الانتاج والاستثمار وان الربا كان أمرا متغيرا يجري تعيينه عن طريق ميول أصحاب الثروات ، امّا اليوم فقد أصبح النقد رأس مال نقدي يمكنه وبسرعة التحوّل إلي رأس مال عيني كما يحوز علي دور أساسي في عمليات الانتاج ، امّا الفائدة فقد أصبحت ناتجا داخليا حاكيا عن محصول داخلي لرأس المال إذا وافقنا علي هذا كله فلا فائدة أيضا منه ، ذلك انّ الربا المحرم في الإسلام لا يختص بالنقد بل يشمل ـ إضافة إلي ذلك ـ رؤوس الأموال العينية أيضا فضلاً عن رؤوس الأموال النقدية .

وفي الحقيقة ، فإنّ التوجه والتمركز الأساسي للاسلام في مسألة الربا يستقر علي موضوع نوع التعاقد ، ولا علاقة له بماهية وجنس موضوع التعاقد ، وهذه هي النقطة التي بقيت خافية علي القائلين بنظرية التفكيك وكذلك علي أمثال الدكتور غني نجاد ، فوفقا للفقه الاسلامي إذا وضع شخصٌ ما نقدا أو رأس مال أو أي مالٍ آخر تحت تصرف شخص ثانٍ نتيجة عقد قرض ، وشرط عليه مع ذلك الزيادة كان ذلك ربا محرما ، سواء كان استقرض ذلك المال للاستهلاك أو للاستثمار ، وسواء كان له دور في الانتاج أو لا ، لكن أيّا من هذه الأموال لو وضع تحت تصرف آخر علي أساس عقد شركة أو مضاربة أو مزارعة أو مساقاة أو وحصل نتيجة النشاط الاقتصادي ربحٌ ما فإنّ صاحب النقد ورأس المال سيحصل علي مقدار من هذا الربح كما سيحصل علي ذلك مسؤول العمل ، وبعبارة اُخري اعتبر الإسلام وضع قيمة رأس المال ( أعم من كونه نقديا أو غيره ) علي أساس نظام الفائدة ( القرض مع الفائدة ) ظالما مقترِحا بدلاً عنه طريقة واسلوبا آخرين .

المنهج الاسلامي في تنظيم سوق رأس المال :

ونذكر ـ بداية ـ توضيحا حول ظلم نظام الفائدة ، ومن ثمّ نبين الطريقة المتبعة اسلاميا لتنظيم سوق رأس المال ، وإذا صرفنا النظر أيضا عن الكينزيين والكينزيين الجدد والذين يعتبرون قيمة الفائدة بالنسبة إلي ناتج رأس المال حصيلة خارجية ناشئة عن العرض والطلب في السوق ، فإنّ النموذج الذي يراه الكلاسيكيون الجدد سواء في جانب العرض أو في جانب الطلب ثمة عوامل غير نقص رأس المال والناتج النهائي له تترك آثارا علي قيمة الفائدة فيه ، فمن ناحية الطلب يؤثر طلب القروض والاعتبارات المصرفية وكذلك قروض الدولة الهادفة إلي سد العجز في الميزانية تأثيرا بالغا في ارتفاع سعر الفائدة ( بالرغم من انّه ليس لها أي تأثير في الانتاج وفي ناتج رأس المال ) ، وكذلك الحال من ناحية العرض إذ لا يخفي علي أحد ما لنقصان أو زيادة حجم النقد علي أثر السياسات النقدية من تأثير علي قيمة الفائدة .

وحتي لو غضضنا الطرف عن كافة هذه النظريات وعدنا بأنفسنا إلي عصر الكلاسيكيين لا سيما أفكار جان باتيسته ( 1767 م ) ، وقلنا معه ومع الدكتور نجاد انّ قيمة النقد تتعين مستقلة عن الارادة الفردية والحكومية ، وتخضع لميكانيزما السوق ولتأثير النقص الحاصل في رؤوس الأموال من جهة والناتج النهائي لرأس المال من جهة اُخري إذا قلنا ذلك فانّ نظام الفائدة سيبقي ظالما فيما يخصّ تقييم النقد ورأس المال ، ذلك أنّه حتي علي أجمل وأفضل الفروض تكون قيمة فائدة السوق حاكية عن متوسط الناتج النهائي لرأس المال في الاقتصاد كله ، فعندما استقرض صاحب العمل الاقتصادي علي أساس هذه القيمة للفائدة لتأمين رأس ماله فانّه تعهد بدفع أصل القرض وقيمة الفائدة المعينة ، والحال انّ هناك احتمالاً من جهة في نقصان ناتج رأس المال في الاقتصاد كلّه مدة السنين الآتية ، أو انّه لن يتمكن من الحصول علي ربح معادل لمقدار متوسط ناتج رأس المال ، أو انّه ـ ونظرا للمخاطرات المختلفة والتي تقع في طريق الانتاج والبيع وليست قابلة للتنبؤ ـ لن يقدر علي تحصيل ربح أصلاً ، وهكذا الحال من ناحية ثانية ثمة احتمال في أن يحصل ربح أكبر بدرجات من متوسط الناتج النهائي لرأس المال في كل الاقتصاد ، وكلما كانت مدة النشاط المعينة للوصول إلي الربح أطول كلما كانت درجة الخطورة أكبر ، وانطلاقا من ذلك يصبح تأمين رأس المال وفقا لنظام الفائدة نوعا من المقامرة .

إنّ المراكز الاقتصادية التي تُقدم في ظروف اقتصادية جيدة أو في ظروف التضخم علي الاستقراض تحت تأثير الجو العام تقوم باستثمار الأموال بفائدة عالية ، وبعد دخول الاقتصاد في مرحلة الركود سيجدون أنفسهم فرادي لا معين لهم ، فمن جهة ملزمون بدفع الفائدة دون ربط بالناتج الواقعي لرأس المال في الظروف الحالية ، ومن جهة اُخري يفكرون في العثور علي سوق لبيع بضائعهم وسلعهم المودعة وهو ما يجعلهم مضطرّين للافلاس ، ليعودوا إلي نفس المؤسسات التي تضع في يدها قرار الاقراض والاعتبار حتي يستقرضوا منها مجدّدا ، وفي نهاية المطاف يدخل الاقتصاد بأجمعه مرحلة من الأزمة المالية .

من جهة اُخري ، عندما تضع البنوك في مرحلة الركود المصادر المالية للمودعين كقروض واعتبارات طويلة الأمد في أيدي قوي المال وبفوائد منخفضة فانّها بعد مضي مرحلة الركود هذه ستحس بأنّها باعت ما عندها بثمن بخس ، وهو نموذجٌ آخر لما مارس نظام الفائدة فيه الظلم أيضا ، وهو نفس تلك الاشارة التي ذكرها الفخر الرازي قبل مئات السنين ( 40 ) .

انّ الإسلام وبتحريمه نظام الفائدة يقدم منهجا جديدا في وضع قيم رأس المال ، بحيث يكون دخله ليس متناسبا مع الدور المبدع له في الكل الاقتصادي فحسب ، بل انّه متناسق أيضا مع العمل الذي يكون لرأس المال دورا فيه ، بمعني انّ أصحاب المال والعمل الاقتصادي بالرغم من أنّ استثمارهم قائم علي أساس معيار الربح المتوقع لكنهم يتعهدون بتقسيم الربح والخسارة الحاصلين نتيجة عملهم ونشاطهم . وهذه الطريقة من التوزيع الحاصل ما بين العامل والمالك علاوة علي تقسيمها الدخل ما بين هذين العنصرين الرئيسيين في الانتاج بشكل يتناسب والأداء والدور الفاعل لكلٍّ منهما في النشاط الاقتصادي ، تمنح حركة وضع القيم لرأس المال وتبعا له الانتاج والعمل والتنمية الاقتصادية نموّا ونضجا ثابتين وملحوظين أيضا ؛ وذلك نتيجة الترافق الحاصل ما بين مالك رأس المال ومسؤول العمل .

نعم ، إنّ مفاسد نظام الفائدة غير منحصرة بهذا المقدار المتقدم ، ولا مزايا نظام المشاركة الاسلامي محدودة بما أسلفناه مما طرحناه بصورة مدّعي . انّ بحث واجراء المقايسة ما بين هذين النظامين يحتاج لمجال أوسع الأمر الذي أنجزناه في مكان آخر ( 41 ) .

( 1 ) لقد صرّح السيد غني نجاد بهذه النظرية في موارد متعددة ، ويمكن لتقييمها مراجعة النسخة الموجودة في مركز تحقيقات مؤسسة الميزانية والتخطيط ، مجلة « اطلاعات سياسي ـ اقتصادي » ، العدد 67 ـ 68 ، ص 64 وما بعد ، وكذلك مجموعة مقالات الملتقي السادس للسياسات النقدية والعملة الصعبة ، عام 1996 م ، جمعية علماء الاقتصاد الايرانيين ، تاريخ 25/2/1376 ه . ش ، صحيفة سلام ، تاريخ 1/4/76 ه·· . ش ، ومجلة نقد ونظر ، العدد 12 ، خريف 1997 م .

( 2 ) صحيفة سلام 1/4/76 ه·· ش .

( 3 ) مجلة نقد ونظر، العدد 12: 315.

( 4 ) لكنه لم يفرق ـ رسميا ـ ما بين هاتين النظريتين ، وقد طرح النظرية الثانية بشكل رئيسي في سياق تقوية النظرية الاُولي ، لكننا فصلناهما عن بعضهما بغية تبيين المطالب وجعلها أكثر وضوحا .

( 5 ) انظر : مجلة فقه أهل البيت عليهم‏السلام العدد 24 : 85 ـ 89 .

( 6 ) لم ننقل المثال بسبب طوله مع وضوح المطلب ، ويمكن ـ مع الحاجة ـ مراجعة الصفحة 91 من المصدر السابق .

( 7 ) انظر : المصدر السابق : 91 .

( 8 ) البقرة : 279 .

( 9 ) وسائل الشيعة 13 : 106 ، ب 18 من الدين والقرض ، ح 11 .

( 10 ) مستدرك الوسائل 13 : 351 ، ح 2 .

( 11 ) وسائل الشيعة 12 : 454 ، ب 18 من أبواب الربا ، ح 1 .

( 12 ) المصدر السابق 13 : 103 ، ب 18 من الدين والقرض ، ح 3 .

( 13 ) محسن خان ـ مير آخور ، قراءات نظرية في البنك الاسلامي : 51 ، ترجمة ضيائي بكدلي ، مؤسسة بانكداري اسلامي ايران ، 1991 م .

( 14 ) قريش : 2 .

( 15 ) سنن أبي داود 3 : 272 .

( 16 ) من لا يحضره الفقيه 3 : 196 ، باب الحكرة والأسعار ، ح 16 .

( 17 ) كنز العمال 6 : 553 .

( 18 ) يوسف القرضاوي ، فقه الزكاة 1 : 264 .

( 19 ) تاريخ المدينة المنوّرة 3 : 1021 ، بيروت ، دار الفكر .

( 20 ) طبقات ابن سعد 3 : 43 .

( 21 ) الكافي 5 : 166 ، ح 6 .

( 22 ) النقد والأنظمة النقدية ، وتاريخ النقد منذ بداية الإسلام وحتي زمان الغيبة : 145 وما بعدها ، القسم الثقافي في مؤسسة جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم ، 1996 م .

( 23 ) وسائل الشيعة 12 : 471 ، ب 9 من أبواب الصرف ، ح 4 .

( 24 ) انظر : مجلة فقه أهل البيت عليهم‏السلام ، العدد 24 : 80 ـ 85 .

( 25 ) سعيد الأفغاني ، أسواق العرب في الجاهلية والإسلام : 128 ـ 135 . بيروت ، دار الفكر .

( 26 ) جواد علي ، المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام 7 : 290 و 300 . بيروت ، دار الفكر .

( 27 ) المصدر السابق : 313 ـ 314 .

( 28 ) أسواق العرب : 131 .

( 29 ) أحمد إبراهيم الشريف ، مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول : 212 و 214 . القاهرة ـ دار الفكر . المفصل : 404 و 421 .

( 30 ) البقرة : 275 .

( 31 ) التفسير الكبير 7 : 87 .

( 32 ) الادخار والاستثمار في الاقتصاد الاسلامي ، السيد عباس موسويان : 82 ـ 89 .

( 33 ) السيوطي ، الدرّ المنثور 3 : 108 . وانظر : الرازي في التفسير الكبير 7 : 99 . والطبري 3 : 71 .

( 34 ) البقرة : 279 .

( 35 ) وسائل الشيعة 11 : 521 ، ب 1 من أبواب فعل المعروف ، ح 1 .

( 36 ) المصدر السابق 12 : 44 ، ب 24 من مقدمات التجارة ، ح 1 .

( 37 ) المصدر السابق : 26 ، ب 11 من مقدمات التجارة ، ح 1 .

( 38 ) المصدر السابق : 437 ، ب 7 من أبواب الربا ، ح 7 .

( 39 ) المصدر السابق 13 : 103 ، ب 18 من الدين والقرض ، ح 3 .

( 40 ) تفسير الرازي 7 : 87 .

( 41 ) السيد عباس موسويان ، المصدر السابق : 82 ـ 90 ، و 106 ـ 121 .