فصول منتزعة

ابی نصر محمد بن احمد بن طرخان الفارابی‏

نسخه متنی -صفحه : 29/ 2
نمايش فراداده

بِسمِ الله الرَّحمن الرَّحِيم

من أقاويل القدماء

فصول منتزعة تشتمل على أصول كثيرة منأقاويل القدماء فيما ينبغي أن تُدبّر بهالمدن وتعمر به وتصلح به سيرة أهلهاويُسدّدواْ به نحو السعادة.

فصل:

لنفس صّحة ومرض. كما للبدن صحّة ومرض.فصحّة النفس أن تكون هيئاتها وهيئاتأجزائها هيئاتٍ تفعل بها أبداً الخيراتوالحسنات والأفعال الجميلة. ومرضها أنتكون هيئاتها وهيئات أجزائها هيئاتٍ تفعلبها أبداً الشرور والسيّئات والأفعالالقبيحة. وصحّة البدن أن تكون هيئاتهوهيئات أجزائه هيئاتٍ تفعل بها النفسأفعالها على أتم ّ ما يكون وأكمله، كانتتلك الأفعال التي تكون بالبدن أو بأجزائهخيراتٍ أو شروراً. ومرضه أن تكون هيئاتهوهيئات أجزائه هيئاتٍ لا تفعل بها النفسأفعالها التي تكون بالبدن أو بأجزائه، أوتفعلها أنقص ممّا ينبغي أوّلاً على ما منشأنها أن تفعلها.

فصل:

الهيئات النفسانيّة التي بها يفعلالإنسان الخيرات والأفعال الجميلة هيالفضائل، والتي بها يفعل الشرور والأفعالالقبيحة هي الرذائل والنقائص والخسائس.

فصل:

كما أنّ صحّةَ البدن هي اعتدال مزاجه،ومرضَه الانحرافُ عن الاعتدال، كذلك صحّةالمدينة واستقامتها هي اعتدال أخلاقأهلها ومرضُها التفاوت الذي يوجد فيأخلاقهم. ومتى انحرف البدن عن الاعتدال منمزاجه فالذي يردّه إلى الاعتدال ويحفظهعليه هو الطبيب. كذلك إذا انحرفت المدينةفي أخلاق أهلها عن الاعتدال، فالذي يردّهاإلى الاستقامة ويحفظها عليها هو المدنيّ.فالمدنيّ والطبيب يشتركان في فعليهماويختلفان في موضوعَيْ صناعتهما. فإنّموضوع ذلك هو الأنفس، وموضوعَ هذا هوالأبدان. وكما أنّ النفس أشرف من البدن،كذلك المدنيّ أشرف من الطبيب.

فصل:

المعالج للأبدان هو الطبيب، والمعالجللأنفس هو الإنسان المدنيّ ويُسمّى أيضاًالملِك. غير أنّ الطبيب ليس قصده بعلاجهللأبدان أن يجعل هيئاتها هيئاتٍ تفعل بهاالنفس خيراتٍ أو سيّئاتٍ بل إنّما يقصد أنيجعل هيئاتِها هيئاتٍ تكون بها النفسالكائنة بالبدن وأجزائه أكمل، كانت تلكالأفعال سيّئاتٍ أو حسناتٍ. وأنّ الطبيبالذي يعالج البدن إنّما يعالجه ليجوّد بطشالإنسان به، سواءً استعمل ذلك البطشالجيّد في الحسنات أو في السيّئات. والذييعالج العين إنّما قصده أن يجوّد بهاالإبصار، سواءً استعمل ذلك فيما ينبغيويُحسّن أو فيما لا ينبغي و يُقبّح. فلذلكليس للطبيب بما هو طبيب أن ينظر في صحّةالبدن وفي مرضه على هذا الوجه بل للمدنيّوللملِك. فإنّ المدنيّ بالصناعةالمدنيّة، والملِك بصناعة الملْك، يقدّرأين ينبغي أن يُستعمل و فيمن ينبغي أنيُستعمل و فيمن لا يُستعمل، وأيّ صنف منالصحّة ينبغي أن يفيدها الأبدان وأيّ صنفمنها ينبغي أن لا يفيدها. فلذلك صارت صناعةالمُلك والمدينة حالها من سائر الصناعاتالتي في المدن حال رئيس البنّائين منالبنّائين، لأنّ سائر الصناعات التي فيالمدن إنّما تُفعل وتُستعمل ليتمّ بهاالغرض بالصناعة المدنيّة وبصناعةالمُلْك، كما أنّ الصناعة الرئيسيّة منصناعات البنّائين تستعمل سائرَها فيتمّبها مقصودها.

فصل:

كما أنّ الطبيب الذي يعالج الأبدان يحتاجإلى أن يعرف البدن بأسره و أجزاء البدن، وما يعرض لجملة البدن و لكل واحد من أجزائهمن الأمراض، و ممّا يعرض، ومن كم شيء، و ماالوجه في إزالتها، و ما الهيئات التي إذاحصلت في البدن و في أجزائه كانت الأفعالالكائنة في البدن كاملة ًتامّة ً. كذلكالمدنيّ و الملِك الذي يعالج الأنفس يحتاجإلى أن يعرف النفس بأسرها و أجزائها، و مايعرض لها و لكل واحد من أجزائها من النقائصوالرذائل، وممّا يعرض، و من كم شيء، و ماالهيئات النفسانيّة التي يفعل بهاالإنسان الخيرات و كم هي، و كيف الوجه فيإزالة الرذائل عن أهل المدن، والحيلة فيتمكينها في نفوس المدنييّن ووجه التّدبيرفي حفظها عليهم حتى لا تزول. وإنّما ينبغيأن يعرف من أمر النفس مقدار ما يحتاج إليهفي صناعته، كما أنّ الطبيب إنّما يحتاج أنيعرف من أمر البدن مقدار ما يحتاج إليه فيصناعته، والنّجار من أمر الخشب والحدّادمن أمر الحديد مقدار ما يحتاج إليه فيصناعته فقط.