استقبل الرسول جمعاً من أصحابه وقد عادوامن مهمة قتالية قائلاً: "مرحباً بقوم قضواالجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر"فظنوا أن الرسول يريد أن يرسلهم في مهمةأكبر، فسألوه والسيوف في أغمادها عن ذلك،فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: الجهادالأكبر جهاد النفس؛ وقال صلّى الله عليهوآله وسلّم في حديث آخر: أفضل الجهاد منجاهد نفسه التي بين جنبيه. وهذا الحديث مثلسابقه يتحدث عن حرب داخلية، عن إحكامالجبهة الداخلية في الوجود الإنساني،وهذا يدل على وجود صراع محتدم في أعماقالإنسان كما عبر الرسول عن ذلك.
وهذه حقيقة يؤكدها علماء النفس إذ إنالإنسان يتعرض إلى حالة من التمزق النفسيفي أفكاره وعواطفه ومن ثم ينشأ صراع بينجبهتين، ولهذا نجد أفراداً يقومون بأعمالمتناقضة تماماً فهو في لحظة هادئ وديع وفيأخرى سيء الخلق، مرة يكون رحيماً عطوفاًومرة يكون عديم الإحساس قاسي القلب، يجبنمرة ويتهور أخرى، ومرة يتجه إلى اللهوأخرى ينصرف وراء الفسق والفجور، في يدهمصحف وفي الأخرى الكأس، يوم في حلال ويومفي حرام، لا هو كافر ولا هو مسلم.
ماذا يعني هذا التقلب في العمل والسلوك.من أين نشأ هذا التناقض؟ لماذا يسير البعضمتغنجاً مثل طائر الحجلة ثم يتقلع في مشيهمثل الغراب؟ إن هذا النشاز في العملوالتناقض في السلوك إنما ينشأ عن خلل فيالأفكار وتمزق في العواطف.
وإذن يتوجب إنهاء هذا الصراع وإطفاء نارهذه الحروف وإرساء أسس السلام والاستقرارفي أعماق النفس لينشأ نوع من السلامالحقيقي الدائم لا الموقت بين الفكروالعاطفة؛ وإلى أن يتم التصالح بينالأفكار والعواطف في ذات الإنسان لايمكننا إرساء قواعد السلام في المجتمع،وعلى حد تعبير أحد الفلاسفة المعاصرين:"كيف يمكن للمرء الذي يعيش حالة الحرب فيذاته أن يعيش حالة السلام مع الآخرين"؟
وهنا نشعر مرة أخرى بحاجتنا إلى الدين،ذلك أن أية قوة لا يمكنها ترويض النفس، إذإن قوى المال أو العلم أو المنصب هي مجردوسائل تستخدمها النفس وآلات طيعة للهوىوالرغبة البشرية، بل إنها تتحول إلى وسائلدمار إذا ما أصبحت في كف من به مس منالجنون؛ وإذن يجب أن نبحث عن وسيلة أخرى.
إن مواجهة النفس التي تحاول اجتياح العقلوالتغلب على الأخلاق ليست من مهمات العقل.
إن القوة الوحيدة القادرة على تحقيق هذهالمعجزة وكبح جماح ذلك الوحش الكاسروتحويل ذلك العفريت إلى ملاك للسلام ورأبالتصدع والاختلال في الضمير وتنظيم عملوسلوك الإنسان وإرشاده إلى الطريق القويمإن هذه القوة هي الدين.
إن الدين يزخر بعبارات (الصراط المستقيم)و(الطريق الحق) وفي مقابل ذلك توجد الطرقالملتوية والمعوجة، فالناس الذين يسيرونفي طريق الحق المستقيم هم أولئك الذينيعيشون حالة التناغم والانسجام بينأفكارهم ومشاعرهم، أي بين قوة الخيال وقوةالعقل، حيث استسلم شيطان الخيال والوهمإلى ملاك العقل، وحل الانسجام بين أحطالغرائز والرغبات وأسمى العواطف والمشاعرالإنسانية النبيلة، وانقادت الشهوات إلىالفطرة الطاهرة.
أسأل الله أن يوفقنا جميعاً إلى السير فيصراطه المستقيم، وأن يجنبنا الانحراف عنهيميناً أو شمالاً.