تاریخ ابن خلدون

عبدالرحمان بن محمد ابن خلدون

نسخه متنی -صفحه : 1648/ 272
نمايش فراداده

على شواهد العرب وأمثالهم والتفقه في الكثير من التراكيب في مجالس تعليمهم فيسبق إلى المبتدئ كثير
من الملكة أثناء التعليم فتنقطع النفس لها وتستعد إلى تحصيلها وقبولها وأما من سواهم من أهل المغرب
وأفريقية وغيرهم فأجرواصناعة العربية مجرى العلوم بحثا وقطعوا النظر عن التفقه في تراكيب كلام
العرب إلا إن أعربوا شاهدا أو رجحوا مذهبا من جهة الاقتضاء الذهني لا من جهة محامل اللسان وتراكيبه
فاصبحت صناعة العربية كأنها من جملة قوانين المنطق العقلية أو الجدل وبعدت عن مناحي اللسان وملكته
وما ذلك إلا لعدولهم عن البحث في شواهد اللسان وتراكيبه وتمييز أساليبه وغفلتهم عن المران في ذلك
للمتعلم فهو أحسن ما تفيده الملكة في اللسان وتلك القوانين إنما هي وسائل للتعليم لكنهم أجروها على
غير ما قصد بها وأصاروها علما بحتا وبعدوا عن ثمرتها وتعلم مما قررناه في هذا الباب أن حصول ملكة
اللسان العربي إنما هو بكثرة الحفظ من كلام العرب حتى يرتسم في خياله المنوال الذي نسجوا عليه
تراكيبهم فينسج هو عليه ويتنزل بذلك منزلة من نشأ معهم وخالط عباراتهم في كلامهم حتى حصلت له الملكة
المستقرة في العبارة عن المقاصد على نحو كلامهم والله مقدر الامور كلها والله اعلم بالغيب
|562|
الفصل الثاني والاربعون في تفسير الذوق في مصطلح اهل البيان وتحقيق معناه وبيان انه لا يحصل
للمستعر بين من العجم إعلم أن لفظة الذوق يتداولها المعتنون بفنون البيان ومعناها حصول ملكة
البلاغة للسان وقد مر تفسير البلاغة وأنها مطابقة الكلام للمعنى من جميع وجوهه بخواص تقع للتراكيب
في إفادة ذلك فالمتكلم بلسان العرب والبليغ فيه يتحرى الهيئة المفيدة لذلك على أساليب العرب وأنحاء
مخاطباتهم وينظم الكلام على ذلك الوجه جهده فإذا اتصلت مقاماته بمخالطة كلام العرب حصلت له الملكة
في نظم الكلام على ذلك الوجه وسهل عليه أمر التركيب حتى لا يكاد ينحو فيه غير منحىالبلاغة التي
للعرب وإن سمع تركيبا غير جار على ذلك المنحى مجه ونبا عنه سمعه بادنى فكر بل وبغير فكر إلا بما
استفاد من حصول هذه الملكة فان الملكات إذا استقرت ورسخت في محالها ظهرت كأنها طبيعة وجبلة لذلك
المحل ولذلك يظن كثير من المغفلين ممن لم يعرف شان الملكات أن الصواب للعرب في لغتهم إعرابا وبلاغة
أمر طبيعي ويقول كانت العرب تنطق بالطبع وليس كذلك وإنما هي ملكة لسانية في نظم الكلام تمكنت ورسخت
فظهرت في بادئ الرأي أنها جبلة وطبع وهذه الملكة كما تقدم إنما تحصل بممارسة كلام العرب وتكرره على
السمع والتفطن لخواص تراكيبه وليست تحصل بمعرفة القوانين العلمية في ذلك التي استنبطها أهل صناعة
اللسان فان هذه القوانين إنما تفيد علما بذلك اللسان ولا تفيد حصول الملكة بالفعل في محلها وقد مر
ذلك وإذا تقرر ذلك فملكة البلاغة في اللسان تهدي البليغ إلى وجود النظم وحسن التركيب الموافق
لتراكيب العرب في لغتهم ونظم كلامهم ولو رام صاحب هذه الملكة حيدا عن هذه السبل المعينة والتراكيب
المخصوصة لما قدر عليه ولا وافقه عليه لسانه لانه لا يعتاده ولا تهديه إليه ملكته الراسخة عنده وإذا
عرض عليه الكلام حائدا عن أسلوب العرب وبلاغتهم في نظم كلامهم أعرض عنه ومجه وعلم أنه ليس من كلام
العرب الذين مارس كلامهم وربما يعجز عن الاحتجاج لذلك كما تصنع أهل القوانين النحوية
|563|
والبيانية فان ذلك استدلال بما حصل من القوانين المفادة بالاستقراء وهذا أمر وجداني حاصل بممارسة
كلام العرب حتى يصير كواحد منهم ومثاله لو فرضنا صبيا من صبيانهم نشأ وربي في جيلهم فانه يتعلم
لغتهم ويحكم شان الاعراب والبلاغة فيها حتى يستولي على غايتها وليس من العلم القانوني في شئ وإنما
هو بحصول هذه الملكة في لسانه ونطقه وكذلك تحصل هذه الملكة لمن بعد ذلكالجيل بحفظ كلامهم وأشعارهم
وخطبهم والمداومة على ذلك بحيث يحصل الملكة ويصير كواحد ممن نشأ في جيلهم وربي بين أجيالهم
والقوانين بمعزل عن هذا واستعير لهذه الملكة عندما ترسخ وتستقر اسم الذوق الذي اصطلح عليه أهل
صناعة البيان وإنما هو موضوع لا دراك الطعوم لكن لما كان محل هذه الملكة في اللسان من حيث النطق
بالكلام كما هو محل لادراك الطعوم استعير لها اسمه وأيضا فهو وجداني اللسان كما أن الطعوم محسوسة له
فقيل له ذوق وإذا تبين لك ذلك علمت منه أن الاعاجم الداخلين في اللسان العربي الطارئين عليه
المضطرين إلى النطق به لمخالطة أهله كالفرس والروم والترك بالمشرق وكالبربر بالمغرب فانه لا يحصل
لهم هذا الذوق لقصور حظهم في هذه الملكة التي قررنا أمرها لان قصاراهم بعد طائفة من العمر وسبق ملكة